رحلة ابن بطوطة ط دار الشرق العربي

ابن بطوطة

المجلد الاول

المجلد الاول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة قال الشيخ الفقيه العالم الثقة الناسك الأبر وفد الله المعتمر شرف الدين لمعتمد في سياحة على رب العالمين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطبخى المعروف بابن بطوطة رحمه الله ورضي عنه وكرمه آمين. الحمد لله1 الذي ذلل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلا فجاجاً، وجعل منها وإليها تاراتهم الثلاث نباتا وإعادة وإخراجاً. دحاها بقدرته فكانت مهاداً للعباد، وأرساها بالأعلام الراسيات والأطواد، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد وأطلع الكواكب هداية في ظلمات البر والبحر. وجعل القمر نورا والشمس سراجا ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد الممات. وأنبت فيها من كل الثمرات. وفطر أقطارها بصنوف النبات، وفجر البحرين عذبا فراتا وملحاً أجاجاً، وأكمل على خلقه الأنعام، بتذليل مطايا الأنعام، وتسخير المنشآت كالأعلام لتمتطوا من صهوة القفر ومتن البحر أثباجاً. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أوضح منهاجاً. وطلع نور هدايته وهّاجا. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين واختاره للنبيين وأمكن صوارمه من رقاب المشركين حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأيده بالمعجزات الباهرات، وأنطق بتصديقه الجمادات، وأحيا بدعوته الرمم الباليات، وفجر ومن بين أنامله ماء ثجاجاً، ورضي الله تعالى عن المتشرفين بالإنتماء إليه أصحابا وآلا وأزواجاً،

_ 1 هذه المقدمة من إملاء أبي عبد الله ابن بطوطة، وصياغة محمد بن محمد بن جزي إلى قوله: "وأوليائها الأبرار"، وبهذه العبارة كلام ابن بطوطة ليبدأ كلام ابن جزي بقوله: "فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر" إلى نهاية المقدمة.

المقيمين تقاة الدين فلا تخشى بعدهم اعوجاجاً، فهم الذين آزروه على جهاد الأعداء، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء، وقاموا بحقوقها الكريمة من الهجرة والنصرة والإيواء، واقتحموا دونه نار اليأس حامية، وخاضوا بحر الموت عجاجا، ونستوهب الله تعالى لمولانا الإمام الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين المجاهد في سبيل الله المؤيد بنصر الله - أبي عنان فارس ابن موالينا الأئمة المهتدين الخلفاء الراشدين نصرا يوسع الدنيا وأهلها ابتهاجاً، وسعادًا يكون لزمانه لزمان علاجاً، كما وهبه الله بأسا وجودا لم يدع طاغيا ولا محتاجاً، وجعل بسيفه وسيبه لكل ضيق انفراجاً. وبعد، فقد قضت العقول، وحكم المعقول والمنقول، بأن هذه الخلافة العلية، المجاهدة المتوكلة الفاسية. هي ظل الله الممدود على الأنام، وحبله الذي به الاعتصام، وفي سلك طاعته يجب الانتظام، فهي التي أبرأت الدين عند اعتلاله، وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله، وأصلحت الأيام بعد فسادها، ونفقت سوق العلم بعد كسادها، وأوضحت طرق البر عند انتهاجها، وسكنت أقطار الأرض عند ارتجاجها وأحيت سنن المكارم بعد مماتها وأماتت رسوم المظالم بعد حياتها وأخمدت نار الفتنة عند اشتعالها، وأنقضت حكام البغي عند استقلالها وشادت مباني الحق على عماد التقوى، واستمسكت من التوكل على الله بالسبب الأقوى فلها العز الذي عقد تاجه على مفرق الجوزاء، والمجد الذي جر أذياله على مجرة السماء، والسعد الذي رد على الزمان غض شبابه والعدل الذي أهل الإيمان مديد أطنانه والجود الذي قطر سحابه اللجين والنضار والبأس الذي فيه غمامة الدار الموار، والنصر الذي تفض كتائبه الأجل، والتأييد الذي بعض غنائمه الدول والبطش الذي سبق سيفه العذل والأناة التي لا يمل عندها الأمل والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب والعزم الذي يفل جموعها قبل قراع الكتائب والحلم الذي يجني من ثمر الذنوب، والرفق الذي جمع على محبته بنات القلوب والعلم الذي يجلو نوره دياجي المشكلات والعمل المفيد بالإخلاص والاعمال بالنيات. ولما كانت حضرته العلية: مطمح الآمال ومسرح هم الرجال، ومحط رحال الفضائل، ومثابة أمن الخائف ومنية السائل توخى الزمان خدمتهما ببدائع تحفه وروائع طرفه فانثال عليها العلماء انثيال جودها على الصفات وتسابق

إليها الأدباء تسابق عزماتها إلى العداة، وحج العارفون حرمها الشريف، وقصد السائحون استطلاع معناها المنيف ولجأ الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها واستجارت الملوك بخدمة أبوابها فهي القطب الذي عليه مدار العالم وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل الجاهل والعالم وعن مآثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كل مسلم وبإكمال محاسنها الرائعة يفصح كل معلم وكان ممن وفد على بابها السامي وتعدى أوشال البلاد إلى بحرها الطامي الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق جوال الأرض ومخترق الأقاليم بالطول والعرض أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطوطة المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين وهو الذي طاف الأرض معتبرا وطوى الأمصار مختبرا وباحث فرق الأمم وسبر سير العرب والعجم ثم ألقى عصا التسيار بهذه الحضرة العليا لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولاثنيا وطوى المشارق إلى مطلع بدرها بالغرب وآثرها على الأقطار إيثار التبر على الترب اختيارا بعد طول اختيار البلاد والخلق ورغبة اللحاق بالطائفة المثلى التي على الحق فغمره من إحسانه الجزيل وامتنانه الحفي الحفيل ما أنساه الماضي بالحال وأغناه عن طول الترحال وحقر عنده ما كان من سواه يستعظمه وحقق لديه ما كان من فصله يتوهمه فنسي ما كان ألفه من جولان البلاد وظفر بالمرعى الخصب بعد طول الارتياد ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شاهده في رحلته من الأمطار وما علق بحفظه من نوادر الأخبار ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار وعلمائها الأخيار وأوليائها الأبرار فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر من كل غريبة أفاد باجتلائها وعجيبة أطرف بانتحائها وصدر الأمر العالي لعقد مقامهم الكريم المنقطع إلى بابهم المتشرف بخدمة جنابهم محمد بن محمد بن جزي الكلبي أعانه الله على خدمتهم وأوزعه شكر نعمتهم أن يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله من ذلك مشتملا في تصنيف يكون على فوائده مشتملا ولنيل مقاصده مكملا متوخيا تنقيح الكلام وتهذيبه معتمدا إيضاحه وتقريبه ليقع الاستمتاع بتلك الطرف ويعظم الانتفاع بدرها عند تجريده من الصدف فامتثل ما أمر به مبادرا وشرع بمنهله ليكون بمعونة الله عن توفية الغرض منه صادرا ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها موضحة للمناحي التي اعتمدها وربما اوردت لفظه على وضعه فلم

أخل بأصله ولا فرعه وأوردت جميع ما أورد من الحكايات والأخبار ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار على أنه سلك في إسناد صحاحا أقوم المسالك وخرج عهده سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك وقيد المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط ليكون أنفع في التصحيح والضبط وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء العجمية لأنها تلتبس بعجميتها على الناس ويخطيء في فك معماها معهود القياس وإنا لنرجو أنما قصدته من المقام العلي أيده الله بمحل القبول وأبلغ من الأعضاء عن تقصيره المأمول فعوائدهم في السماح جميلة ومكارمهم بالصفح عن الهفوات كفيلة والله تعالى يديم لهم عادة النصر والتمكين ويعرفهم عوارف التأييد والفتح المبين.

نقطة البداية

نقطة البداية قال الشيخ أبو عبد الله: كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة معتمدا حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام منفردا عن رفيق آنس بصحبته وراكب أكون في جملته لباعث على النفس شديد العزائم وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم فحزمت امري على هجر الأحباب من الإناث والذكور وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور وكان والدي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصب ولقيت كما لقيا من الفراق نصيبا وسني يومئذ ثنتان وعشرون سنة. قال ابن جزي: أخبرني أبو عبد الله بمدينة غرناطة أن مولده بطنجة في يوم الاثنين السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة. وكان ارتحالي في أيام أمير المؤمنين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين الذي رويت أخبار جوده وصولة الاسناد بالاسناد وشهرت آثار كرمه شهرة واضحة الاشهاد وتحلت الأيام بحلي فضله ورتع الأنام في ظل رفقه وعدله الإمام المقدس أبو سعيد بن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين الذي فل حد الشرك صدق رعزائمه وأطفأت نار الكفر جداول صارمه وفتكت بعباد الصليب كتائبه وكرمت في إخلاص الجهاد مذاهبه الإمام المقدس أبو يوسف بن عبد الحق جدد الله عليهم رضوانه وسقى ضرائحهم المقدسة من صوب الحيا طله وتهتانه وجزاهم أفضل الجزاء عن الإسلام والمسلمين وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين، فوصلت مدينة تلمسان وسلطانها يومئذ أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمر أسن بن زيان ووافقت بها رسولي ملك افريقية السلطان أبي يحيى رحمه الله وهما قاضي الأنكحة بمدينة تونس أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي بن إبراهيم النفزاوي والشيخ الصالح أبو عبد

الله محمد بن الحسين بن عبد الله القرشي الزبيدي – بضم الزاي نسبة إلى قرية بساحل المهدية وهو أحد الفضلاء وفاته عام أربعين وفي يوم وصولي إلى تلسمان خرج عنها الرسولان المذكوران فأشار علي بعض الإخوان بمرافقتهما فاستخرت الله عز وجل في ذلك وأقمت بتلسمان ثلاثا في قضاء مآربي وخرجت أجد السير في آثارهما، فوصلت مدينة مليانة وأدركتهما بها وذلك في إبان القيظ فلحق الفقيهين مرض أقمنا بسببه عشرا ثم ارتحلنا وقد اشتد المرض بالقاضي منهما فأقمنا ببعض المياه على مسافة أميال من مليانة ثلاثا، وقضى القاضي نحبه ضحى اليوم الرابع فعاد ابنه أبو الطيب ورفيقه أبو عبد الله الزبيدي إلى مليانة فقبروه بها وتركتهم هنالك وارتحلت مع رفقة من تجار تونس منهم الحاج مسعود بن المنتصر والحاج العدولي ومحمد بن الحجر فوصلنا مدينة الجزائر وأقمنا بخارجها أياما إلى أن أقدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي فتوجهنا جميعا على منجبة جبل الزان ثم وصلنا إلى مدينة بجاية فنزل الشيخ أبو عبد الله بدار قاضيها أبي عبد اللعه الزواوي ونزل أبو الطيب ابن القاضي بدار الفقيه أبي عبد الله المفسر وكان أمير بجاية إذ ذاك أبا عبد الله محمد بن سيد الناس الحاجب وكان قد توفي من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر الذي تقدم ذكره وترك ثلاثة آلآف دينار من الذهب وأوصى بها لرجل من أهل الجزائر يعرف بابن حديدة ليوصلها إلى ورثته بتونس فانتهى خبره لابن سيد الناس المذكور فانتزعها من يده وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته أصابتني الحمى فأشار علي أبو عبد الله الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرد مني فأبيت وقلت أن قضى الله عز وجل بالموت فتكون وفاتي بالطريق وأنا قاصد أرض الحجاز فقال لي أما أن عزمت فبع دابتك وثقل المتاع وأنا أعيرك دابة وخباء وتصحبنا خفيفا فإننا نجد السير خوف غارة العرب في الطريق ففعلت هذا وأعارني ما وعد به جزاه الله خيرا وكان ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الإلهية في تلك الوجهة الحجازية وسرنا إلى أن وصلنا إلى مدينة قسنطينة1 فنزلنا خارجها وأصابنا مطر جود اضطررنا إلى الخروج عن الأخبية ليلا إلى دور هنالك فلما

_ 1 تعرف الآن باسم: قسنطينة، بحذف الياء الأخيرة منها.

كان من الغد تلقانا حاكم المدينة وهو من الشرفاء الفضلاء يسمى بأبي الحسن فنظر إلى ثيابي وقد لوثها المطر فأمر بغسلها في داره وكان الإحرام منها خلقا فبعث مكانه إحراما بعلبكيا وصر في أحد طرفيه دينارين من الذهب فكان ذلك أول ما فتح به علي وجهتي ورحلنا إلى أن وصلنا مدينة بونة ونزلنا بداخلها وأقمنا بها أياما ثم تركنا بها ما كان في صحبتنا من التجار لأجل التخوف في الطريق وتجردنا للسير وواصلنا الجهد، وأصابتني الحمى فكنت أشسد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف ولا يمكنني النزول من الخوف إلى أن وصلنا إلى مدينة تونس فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد الله الزبيدي ولقاء أبي الطيب ابن القاضي أبي عبد الله النفزاوي فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال ولم يسلم علي أحد لعدم معرفي بهم فوجدت من ذلك في النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي فشعر بحالي بعض الحجاج فأقبل علي بالسلام والإيناس وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين. قال ابن الجزي: أخبرني شيخي قاضي الحماعة أخطب الخطباء أبو البركات محمد بن محمد إبراهيم السلمي هو ابن الحاج البلفيقي أنه جرى له مثل هذه الحكاية. قال قصدت مدينة بلش من بلاد الأندلس في ليلة عيد، برسم رواية الحديث المسلسل بالعيد عن أبي عبد الله ابن الكماد، وحضرت المصلى مع الناس، فلما فرغت الصلاة والخطبة، أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام، وأنا في ناحية لا يسلم عليّ أحد، فقصد إليّ شيخ من أهل المدينة المذكورة، وأقبل عليّ بالسلام والإيناس، وقال: نظرت إليك، فرأيتك منتبذا من الناس، لا يسلم عليك أحد فعرفت أنك غريب فأحببت إيناسك جزاه الله خير الجزاء.

خبر حاكم تونس

خبر حاكم تونس وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء منهم قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل ثم

التونسي هو ابن الغماز ومنهم الخطيب أبو إسحاق ابراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع وولي أيضا قضاء الجماعة في خمس دول ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري وولي أيضا قضاءها وكان من أعلام العلماء ومن عوائده أنه يستند كل يوم جمعة بعد صلاته إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة ويستفتيه الناس في المسائل فإذا افتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه لذلك وأظلني بتونس عيد الفطر فحضرت المصلى وقد احتفل الناس لشهود عيدهم وبرزوا في أجمل هيئة وأكمل شارة ووافى المسجد السلطان أبو يحيى المذكور راكبا وجمع أقاربه وخواصه وخدم مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب وصليت الصلاة وانقضت الخطبة وانصرف الناس إلى منازلهم وبعد مدة تعين لركب الحجاز الشريف شيخه ويعرف بأبي يعقوب السومي من أهل إقليبية من بلاد أفريقية وأكثره المصامدة فقدموني قاضيا بينهم وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل فوصلنا إلى بلدة سوسة وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطيء البحر بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلا ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبو الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه قال ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول علي بن حبيب التنوخي: سقيا لأرض صفاقس ... ذات المصانع والمصلى محمى القصر إلى الخليج ... فقصرها السامي المعلى بلد يكاد يقول حين ... تزوره أهلا وسهلا وكأنه والبحر يحـ ... سر تارة عنه ويملأ صب يريد زيادة ... فإذا رأى الرقباء ولى وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم وكان من المجيدين المكثرين: صفاقس لا صفا عيش لساكنها ... ولا سقى أرضها غيث إذا انسكبا ناهيك من بلدة من حل ساحتها ... عانى بها العادين الروم والعربا كم في البر مسلوبا بضاعته ... وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا قد عاين البحر من لؤم لقاطنها ... فكلما هم أن يدنو لها هربا

ثم وصلنا إلى مدينة قابس ونزلنا بداخلها وأقمنا بها عشر لتوالي نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذكر قابس: يقول بعضهم: لهفي على طيب ليال خلت ... بجانب البطحاء من قابس كأن قلبي عند تذكارها ... جذوة نار بيد القابس ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس وصحبنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيد وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب وتحامت مكانهم وعصمنا الله منهم وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس فأقمنا بها مدة وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس فبنيت بها بطرابلس ثم خرجت من طرابلس أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين ومعي أهلي وفي صحبتي جماعة من المصامدة وقد رفعت العلم وتقدمت عليهم وأقام الركب في طرابلس خوفا من البرد والمطر وتجاوزنا مسلاة ومسراته وقصور سرت وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة وحالت دون ما راموه من إذايتنا ثم توسطنا الغابة وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابر إلى قبة سلام وأدركنا هنالك الذين تخلفوا بطرابلس ووقع بينى وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتا لبعض طلبة فارس وبنيت بها بقصر الزعافية وأولمت وليمة حبست لها الركب يوما وأطعمتهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الاسكندرية حرسها الله وهي الثغر المحروس والقطر المأنوس العجيبة الشأن الأصيلة البنيان بها ما شئت من تحسين وتحصين ومآثر دنيا ودين كرمت مغانيها ولطفت معانيها وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها فهي الفريدة في تجلي سناها والغريدة تجلى في جلاها الزاهية بجمالها المغرب والجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرب فكل بديعة بها اختلاؤها وكل طريفة فإليها انتهاؤها وقد وصفها الناس فأطنبوا وصنفوا في عجائبها فأغربوا وحسب المشوق1 إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: وحسب المشوق إلى ذلك.

مدينة الإسكندرية - ابوابها- مرساها

مدينة الإسكندرية- أبوابها- مرساها: ولمدينة الإسكندرية أربعة أبواب باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب وباب رشيد وباب البحر والباب الأخضر وليس يفتح إلا يوم الجمعة فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور ولها المرسى العظيم الشأن ولم أر في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم وقاليقوط ببلاد الهند ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك ومرسى الزيتون ببلاد الصين وسيقع ذكرها. منار الإسكندرية: قصدت المنار في هذه الوجهة فرأيت أحد جوانبه متهدما وصفته أنه بناء مربع ذاهب في الهواء وبابه مرتفع على الأرض وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه وضعت بينهما ألواح خشب يعبر عليها إلى بابه فإذا أزيلت لم يكن له سبيل وداخل الباب موضع لجلوس حارس المنار وداخل المنار بيوت كثيرة وعرض الممر بداخله تسعة أشبار وعرض الحائط عشرة أشبار وعرض المنار من كل جهة من جهاته الأربع مائة وأربعون شبرا وهو على تل مرتفع ومسافة ما بينه وبين المدينة فرسخ واحد في بر مستطيل يحيط به البحر من ثلاث جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من المدينة وفي هذا البر المتصل بالمنار مقبرة الاسكندرية وقصدت المنار عند عودي إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة فوجدته قد استولى عليه الخراب بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه وكان الملك الناصر رحمه الله قد شرع في بناء منار مثله بإزائه فعاقه الموت من إتمامه. عمود السواري الهائل: ومن غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها المسمى عندهم بعمود السواري وهو متوسط في غابة نخل وقد امتاز عن شجراتها سموا وارتفاعا وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة ولا تعرف كيفية وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد الرماة بالإسكندرية صعد

إلى أعلى ذلك العمود ومعه قوسه وكنانته واستقر هنالك وشاع خبره، فاجتمع الغفير لمشاهدته، وطال العجب منه، وخفي على الناس وجه واحتياله وأظنه كان خائفاً، أو طالب حاجة، فانتج له فعله الوصول إلى قصده لغرابة ما أتى به. وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى بنشابة قد عقد بفوقها1 خيطاً طويلاً، وعقد بطرف الخيط حبلاً وثيقاً، فتجاوزت النشابة أعلى العمود معترضة عليه، ووقعت من الجهة الموازية للرامي، فصار خيطاً معترضاً على أعلى العمود، فجذبه حتى توسط الحبل أعلى العمود مكان الخيط، فأوثقه من إحدى الجهتين في الأرض، وعلق به صاعداً من الجهة الأخرى، واستقر بأعلاه وجذب الحبل، واستصحب من احتمله، فلم يهتد الناس لحيلته، وعجبوا من شأنه. وكان أمير الإسكندرية في عهد وصلولي إليها يسمى بصلاح الدين وكان فيها أيضا في ذلك العهد سلطان أفريقية المخلوع وهو زكريا أبو يحيى بن محمد ابن أبي حفص المعروف باللحياني وأمر الملك الناصر بإنزاله بدار السلطنة من إسكندرية وأجرى له مائة درهم كل يوم وكان معه أولاده عبد الواحد ومصري وإسكندري وحاجبه أبو زكريا بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن ياسين وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور وولده الإسكندري وبقي المصري بها. قال ابن جزي: من الغريب ما اتفق من صدق الزجر في اسمي ولدي اللحياني الإسكندراني والمصري فمات الاسكندري بها، وعاش المصري دهراً طويلاً بها وهي من بلاد مصر. وتحول عبد الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وأفريقية وتوفي هنالك بجزيرة جربة. خبر بعض علماء الإسكندرية: وعلى رأسهم عماد الدين الكندي، إمام من أئمة علم اللسان وكان يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أر في مشارق الأرض ومغاربها أعظم منها رأيته يوما قاعدا في صدر محراب وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب ومنهم فخر الدين بن الريغي وهو أيضا من القضاة بالإسكندرية فاضل من أهل العلم.

_ 1 الفُوقٌ: موضع الوتر من السهم ا. هـ من القاموس المحيط.

يذكر أن جده كان من أهل ريغة واشتغل بطلب العلم ثم رحل إلى الحجاز فوصل الاسكندرية بالعشى. وهو قليل ذات اليد فأحب أن لا يدخلها حتى يسمع فألاً حسناً فقعد قريبا من بابها إلى أن دخل جميع الناس وجاء وقت سد الباب ولم يبق هنالك سواه فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه وقال متهكما ادخل يا قاضي فقال: قاض أن شاء الله ودخل إلى بعض المدارس ولازم القراءة وسلك طريق الفضلاء فعظم صيته وشهر اسمه وعرف بالزهد والورع واتصلت أخباره بملك مصر واتفق أن توفي قاضي الإسكندرية وبها إذا ذاك الجم الغفير من الفقهاء والعلماء وكلهم متشوف للولاية وهو من بينهم لا يتشوف لذلك فبعث إليه السلطان بالتقليد وهو ظهير القضاء وأتاه البريد بذلك فأمر خديمه أن ينادي في الناس من كانت له خصومه فليحضر لها وقعد للفصل بين الناس فاجتمع الفقهاء وسواهم إلى رجل منهم كانوا يظنون أن القضاء لا يتعداه وتفاوضوا في مراجعة السلطان في أمره ومخاطبته بأن الناس لا يرضونه وحضر لذلك أحد الحذاق من المنجمين فقال لهم لا تفعلوا ذلك فإني عدلت طالع ولايته وحققته فظهر لي أنه يحكم أربعين سنة فأضربوا عما هموا به من المراجعة في شأنه وكان أمره على ما ظهر للمنجم وعرف في ولايته بالعدل والنزاهة. ومنهم وجيه الدين الصنهاجي من قضاتها مشتهر بالعلم والفضل. ومنهم شمس الدين ابن بنت التنيسي فاضل شهير الذكر. ومن الصالحين بها الشيخ أبو عبد الله الفاسي من كبار أولياء الله تعالى يذكر أنه كان يسمع رد السلام عليه إذا سلم من صلاته. ومنهم الإمام العالم الزاهد الخاشع الورع خليفة صاحب المكاشفات. وأخبرني بعض الثقات من أصحابه قال رأى الشيخ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا خليفة زرنا فرحل إلى المدينة الشريفة وأتى المسجد الكريم فدخل من باب السلام وحيا المسجد وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعد مستندا إلى بعض سواري المسجد ووضع رأسه على ركبتيه وذلك يسمى عند المتصوفة الترفيق فلما رفع رأسه وجد أربعة أرغفة وآنية فيها لبن وطبقا فيه تمر فأكل هو وأصحابه وانصرف عائدا إلى الاسكندرية ولم يحج تلك السنة. ومنهم الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج من كبار الزهاد وأفراد العباد لقيته أيام مقامي بالإسكندرية وأقمت في ضيافته ثلاثاً.

ودخلت عليه يوماً فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد فقلت له نعم إني أحب ذلك ولم يكن حينئذ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين فقال لا بد لك أن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند وأخي ركن الدين زكرياء بالسند وأخي برهان الدين بالصين فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام فعجبت من قوله وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم وأبلغتهم سلامه ولما ودعته زودني دراهم لم تزل عندي محوطة لم أحتج بعد إلى إنفاقها إلى أن سلبها مني كفار الهنود فيم سلبوه لي في البحر. ومنهم الشيخ ياقوت الحبشي من أفراد الرجال وهو تلميذ أبو العباس المرسي وأبو العباس المرسي تلميذ ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة والمقامات العالية. أما أبو الحسن الشاذلي أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن كان يحج في كل سنة ويجعل طريقه على صعيد مصر ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج ويزور القبر الشريف ويعود على الدرب الكبير إلى بلده فلما كان في بعض السنين وهي آخر سنة خرج فيها قال لخديمه استصحب فأسا وقفه وحنوطا وما يجهز به الميت فقال له الخديم ولم ذا يا سيدي فقال له في حميثرا سوف ترى وحميثرا في صعيد مصر في صحراء عيذاب وبها عين ماء زعاق وهي كثيرة الضباع فلما بلغا حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن وصلى ركعتين وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من صلاته ودفن هناك وقد زرت قبره وعليه تربة مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلا بالحسن بن علي رضي الله عنه. كان يسافر في كل عام كما ذكرناه على صعيد مصر وبحر جدة فكان إذا ركب السفينة يقرأ حزباً، وتلامذته إلى الآن يقرؤنه في كل يوم، وهو هذا: يا الله يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم، أنت ربي وعليك حسبي، فنعم الرب ربّي، ونعم الحسب حسبي، تنصر من تشاء، وأنت العزيز الرحيم. نسألك العصمة في الحركات والسكنات والكلمات والإرادات والخطرات من الشكوك والظنون والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب فقد ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، ليقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً، فثبّتنا وانصرنا وسخر لنا هذا البحر، كما سخرت البحر لموسى عليه

السلام، وسخرت النار لإبراهيم عليه السلام، وسخرت الجبال والحديد لداود عليه السلام وسخرت الريح والشياطين والجن لسليمان عليه السلام، وسخر لنا كلّ بحر هو لك في الأرض والسماء، والملك والملكوت، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، وسخر لنا شيئاً يا من بيده ملكوت كلّ شيء. كهيعص حم عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين، وافتح لنا فإنك خير الفاتحين، واغفر لنا فإنك خي الغافرين، وارحمنا فإنك خير الراحمين، وارزقنا فإنك خير الرازقين، واهدنا ونجنا من القوم الظالمين، وهب لنا ريحاً طيبة كما هي في علمك، انشرها علينا من خزائن رحمتك، واحملنا بنا حمل الكرامة مع السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، إنك على كلّ شيء قدير. اللهم يسر لنا أمورنا مع الراحة لقلوبنا وأبداننا، والسلامة والعافية في ديننا ودنيانا، وكن لنا صاحباً في سفرنا، وخليفة في أهلنا، واطمس على وجوه أعدائنا، وامسخهم على مكانتهم، فلا يستطيعون المضي ولا المجيء إلينا، {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ , وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ} 1. {يس} . إلى {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 2. شاهت الوجوه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} 3. طس طسم حم عسق {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ , بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 4. حم حم حم حم حم حم حم حم الأمر، وجاء النصر فعلينا لا ينصرون {حم , تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ , غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 5. باسم الله بابنا، تبارك حيطاننا يس سقفنا. كهيعص كفايتنا. حم عسق حمايتنا: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 6. ستر العرش مسبول علينا، وعين الله ناظرة إلينا، بحول الله لا يقدر علينا {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ , بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ , فِي لَوْحٍ

_ 1 يس: 66، 67. 2 يس: 1- 9. 3 طه:111. 4 الرحمن: 19 – 20, 5 غافر: 1 – 3. 6 البقرة: 137.

مَحْفُوظ} 1. {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2. {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 3. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 4. بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم. ومما جرى بمدينة الإسكندرية سنة سبع وعشرين. وبلغنا خبر ذلك بمكة شرفها الله أنه وقع بين المسلمين وتجار النصارى مشاجرة وكان والي الإسكندرية رجلا يعرف بالكركي فذهب إلى حماية الروم وأمر المسلمين فحضروا بين فصيلي باب المدينة وأغلق دونهم الأبواب نكالا لهم فأنكر الناس ذلك وأعظموه وكسروا الباب وثاروا إلى منزل الوالي فتحصن منهم وقاتلهم من أعلاه وطير الحمام بالخبر إلى الملك الناصر فبعث أمير ايعرف بالجمالي ثم أتبعه أمير ايعرف بطوغان جبار قاسي القلب متهم في دينه يقال أنه يعبد الشمس فدخلا الإسكندرية وقبضا على كبار أهلها وأعيان التجار بها كأولاد الكوبك وسواهم وأخذ منهم الأموال الطائلة وجعلت في عنق عماد الدين القاضي جامعة حديد ثم أن الأمير ين قتلا من أهل المدينة ستة وثلاثين رجلا وجعلوا كل رجل قطعتين وصلبوهم صفين وذلك في يوم جمعة وخرج الناس على عادتهم بعد الصلاة لزيارة القبور وشاهدوا مصارع القوم فعظمت حسرتهم وتضاعفت أحزانهم وكان في جملة أولئك المصلوبين تاجر كبير القدر يعرف بابن رواحة وكان له قاعة معدة للسلاح فمتى كان خوف أو قتال جهز منها المائة والمائتين من الرجال بما يكفيهم من الأسحلة وبالمدينة قاعات على هذه الصورة لكثير من أهلها فزل لسانه وقال للأمير ين أنا أضمن هذه المدينة وكل ما يحدث فيها أطلب به وأحوط على السلطان مرتبات العساكر والرجال فأنكر الأمير ان قوله وقالا إنما تريد الثورة على السلطان وقتلاه. وإنما كان قصده رحمه الله إظهار النصح والخدمة للسلطان فكان فيه

_ 1 البروج: 20 – 22. 2 يوسف: 64. 3 الأعراف: 196. 4 التوبة: 129.

حتفه وكنت سمعت أيام إقامتي بالإسكندرية بالشيخ الصالح العابد المنقطع المنفق من الكون أبي عبد الله المرشدي وهو من كبار الأولياء المكاشفين أنه منقطع بمنية بني مرشد له هنالك زاوية هو منفرد فيها لا خديم له ولا صاحب ويقصد الأمراء والوزراء وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم فيطعمهم الطعام وكل واحد منهم ينوي أن يأكل عنده طعاما أو فاكهة أو حلوى فيأتي لكل واحد بما نواه وربما كان ذلك في غير إبانه ويأتيه الفقهاء لطلب الخطبة فيولي ويعزل وذلك كله من أمر مستفيض متواتر وقد قصده الملك الناصر مرات بموضعه. فخرجت من مدينة الإسكندرية قاصدا هذا الشيخ نفعنا الله به ووصلت قرية تروجة "وضبطها بفتح التاء الفوقية وواو وجيم مفتوحة"1 وهي على مسيرة نصف يوم من مدينة الإسكندرية قرية كبيرة بها قاض ووال وناظر ولأهلها مكارم أخلاق ومروءة صحبت قاضيها صفي الدين وخطيبها فخر الدين وفاضلا من أهلها يسمى بمبارك وينعت بزين الدين ونزلت بها على رجل من العباد الفضلاء كبير القدر يسمى عبد الوهاب وأضافني ناظرها زين الدين بن الواعظ وسألني عن بلدي وعن مجباه فأخبرته أن مجباه نحو اثني عشر ألفا من دينار الذهب فعجب وقال لي رأيت هذه القرية فإن مجباها اثنان وسبعون ألف دينار ذهبا وإنما عظمت مجابي ديار مصر لأن جميع أملاكها لبيت المال. ثم خرجت من هذه القرية فوصلت مدينة دمنهور وهي مدينة كبيرة جبايتها كثيرة ومحاسنها أثيرة أم مدن البحيرة بأسرها وقطبها الذي عليه مدار أمرها، "وضبطها بدال مهملة وميم وميم مفتوحتين ونون ساكنة وهاء مضمومة وواو وراء". وكان قاضيها في ذلك العهد فخر الدين بن مسكين من فقهاء الشافعية وتولى قضاء الإسكندرية لما عزل عنها عماد الدين الكندي بسبب الواقعة التي قصصناها2 وأخبرني الثقة أن ابن مسكين أعطي خمسة وعشرين ألف درهم وصرفها من دنانير الذهب ألف دينار على ولاية القضاء بالإسكندرية. ثم رحلنا إلى مدينة فوا وهذه المدينة عجيبة المنظر حسنة المخبر بها

_ 1 صحة طبط "تروجه أنها بفتح التاء، وضم الراء، وواو ساكنة، بعدها جيم مفتوحة وهاء". وهي إحدى قرى محافظة البحيرة، وبها آثار رومانية. 2 لم يسبق لابن بطوطة أن قص علينا الواقعة التي كانت سبباً في عزل قاضي الإسكندرية عماد الدين بن مسكين، وذلك سهو من ابن جزي، وجل من لا يسهو.

البساتين الكثيرة والفوائد الخطيرة الأثيرة، "وضبطها بالفاء والواو المفتوحين مع تشديد الواو"1. بها قبر الشيخ الولي أبي النجاة الشهير الاسم خبير تلك البلاد، وزاوية الشيخ أبي عبد الله المرشدي الذي قصدته بمقربة من المدينة يفصل بينها خليج هنالك فلما وصلت تعديتها ووصلت إلى زاوية الشيخ المذكور قبل صلاة العصر وسلمت عليه ووجدت عنده الأمير سيف الدين يلملك وهو من الخاصكية والعامة تقول فيه الملك فيخطئون ونزل هذا الأمير بعسكره خارج الزاوية ولما دخلت على الشيخ رحمه الله قام إلي وعانقني وأحضر طعاما فواكلني وكانت عليه جبة صوف سوداء فلما حضرت صلاة العصر قدمني للصلاة إماما وكذلك لكل ما حضرني عنده حين إقامتي معه من الصلاة ولما أردت النوم قال لي اصعد إلى سطح الزاوية فنم هنالك وذلك أوان القيظ فقلت للأمير بسم الله فقال لي وما منا إلا له مقام معلوم فصعدت السطح فوجدت به حصيرا ونطعا2 وآنية للوضوء وجرة ماء وقدحا للشرب فنمت هنالك. وكانت لهذا الشيخ كرامة فقد رأيت ليلتي تلك وأنا نائم بسطح الزاوية كأني على جناح طائر عظيم يطير بي في سمت القبلة يتيامن ثم يشرق ثم يذهب في ناحية الجنوب ثم يبعد الطيران في ناحية الشرق وينزل في أرض مظلمة خضراء ويتركني بها فعجبت من هذه الرؤيا وقلت في نفسي أن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى عنه فما غدوت لصلاة الصبح قدمني إماما لها ثم أتاه الأمير يلملك فوادعه وانصرف ووادعه من كان هناك من الزوار وانصرفوا أجمعين من بعد أن زودهم كعيكات صغارا ثم سبحت الضحى ودعاني وكاشفني برؤياي فقصصتها عليه فقال سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه وسلم وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك وتبقى بها مدة طويلة وستلقى بها دلشاد الهندي ويخلصك من شدة تقع فيها ثم زودني كعيكات ودراهم

_ 1وتعرف الآن بفُوّة "بضم الفاء وواو مفتوحة مشدودة، وتاء مربوطة" وهي من مدن محافظة كفر الشيخ. 2 النطع: بفتح النون، وسكون الطاء، وفتحها: بساط من الجلد.

وأودعته وانصرفت ومنذ فارقته لم ألق في أسفاري إلا خيرا وظهرت علي بركاته ثم لم ألق فيمن لقيته مثله إلا الولي سيدي محمدا الموله بأرض الهند. ثم رحلنا إلى مدينة النحرارية وهي رحبة الفناء حديثة البناء أسواقها حسنة الرؤية، "وضبطها بفتح النون وحاء مهمل مسكن وراءين"، وأمير ها كبير القدر يعرف بالسعدي وولده في خدمة ملك الهند وسنذكره وقاضيها صدر الدين سليمان المالكي من كبار المالكية سفر عن الملك الناصر إلى العراق وولي قضاء البلاد الغربية وله هيئة جميلة وصورة حسنة وخطيبها شرف الدين السخاوي من الصالحين. ورحلت منها إلى مدينة أبيار وهي قديمة البناء أرجة الأرجاء كثيرة المساجد ذات حسن زائد وهي بمقربة من النحرارية ويفصل بينها النيل وتصنع بأبيار ثياب حسان تعلو قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها ومن الغريب قرب النحرارية منها والثياب التي تصنع بها غير معتبرة ولا مستحسنة عند أهلها ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي وهو كريم الشمائل كبير القدر حضرت عنده مرة يوم الركبة وهم يسمون ذلك يوم ارتقاب هلال رمضان وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي ويقف على الباب نقيب المتعممين وهو ذو شارة وهيئة حسنة فإذا أتى أحد الوجوه تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلا بسم الله سيدنا فلان الدين1 فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب من معه أجمعين وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة وهو مرتقب الهلال عندهم وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع ويصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة ثم توجهت

_ 1 هذه العبارة غير واضع معناها، ويبدو أن المراد منها: سيدنا فلان، ويضيف إليه النقيب لقباً مضافاً إلى الدين مثل: عز الدين، وفخر الدين، وهكذا، والله أعلم.

إلى مدينة المحلة الكبيرة وهي جليلة المقدار حسنة الآثار كثير أهلها جامع بالمحاسن شملها واسمها بين ولهذه المدينة قاضي القضاة ووالي الولاة وكان قاضي قضاتها أيام وصولي إليها في فراش المرض ببستان له على مسافة فرسخين من البلد وهو عز الدين بن الأشمرين فقصدت زيارته صحبة نائبه الفقيه أبي القاسم بن بنون المالكي التونسي وشرف الدين الدميري قاضي محلة منوف وأقمنا عنده يوما وسمعت منه وقد جرى ذكر الصالحين أن على مسيرة يوم من المحلة الكبيرة بلاد البرلس ونسترو وهي بلاد الصالحين وبها قبر الشيخ مرزوق صاحب المكاشفات من المحلة الكبرى إلى القاهرة فقصدت تلك البلاد ونزلت بزاوية الشيخ المذكور وتلك البلاد كثيرة النخل والثمار والطير البحري والحوت المعروف بالبوري ومدينتهم تسمى ملطين1 وهي على ساحل البحيرة المجتمعة من ماء النيل وماء البحر المعروفة ببحيرة تنيس2. ونسترو بمقربة منها نزلت هنالك بزاوية الشيخ شمس الدين القلوي من الصالحين وكانت تنيس بلدا عظيما شهيرا وهي الآن خراب. قال ابن جزي: "تنيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء وسين مهمل"، وإليه ينسب الشاعر المجيد أبو الفتح ابن وكيع، وهو القائل في خليجها: قم فاسقني والخليج مضطرب ... والريح تثني ذوائب القصب كأنها والرياح تعطفها ... صب قنا سندسية العذب والجو في حلة ممسّكة ... قد طرّزتها البروق بالذهب. "ونسترو بفتح النون وإسكان السين وراء مفتوحة وواو مسكن" والبرلس بياء موحدة وراء وآخره سين مهملة، وقيده بعضهم بضم حروفه الأول الثلاثة وتشديد اللام3. وقيده أبو بكر بن نقطة بفتح الأولين – وهو على البحر ومن غريب ما اتفق به ما حكاه أبو عبد الله الرازي عن أبيه أن قاضي البرلس، وكان رجلاً صالحاً خرج ليلة إلى النيل. فبينما أسبغ الوضوء، وصلى ما شاء الله أن يصلي، إذ سمع قائلاً يقول:

_ 1 وتعرف هذه المدينة الآن باسم: بلطيم. 2 تعرف بحيرة تنيس الآن باسم: بحيرة البرلس. 3 وهكذا ينطقها الناس اليوم.

لولا رجال لهم سرد يصومونا ... وآخرون لهم ورد يقومونا لزلزلت أرضكم من تحتكم سَحراً ... لأنكم قوم سوء لا تبالونا قال: فتجوزت في صلاتي، وأدرت طرفي، فما رأيت أحداً، ولا سمعت حساً، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى. ثم سافرت في أرض رملة إلى مدينة دمياط وهي مدينة فسيحة الأقطار متنوعة الثمار عجيبة الترتيب آخذة من كل حسن بنصيب والناس يضبطون اسمها باعجام الذال وكذلك ضبطه الإمام أبو محمد عبد الله بن علي الرشاطي وكان شرف الدين الإمام العلامة أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام المحدثين يضبطها بإهمال الدال ويتبع ذلك بأن يقول خلاف الرشاطي وغيره وهو أعرف بضبط اسم بلده ومدينة دمياط على شاطيء النيل وأهل الدور الموالية يستقون منه الماء بالدلاء وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل وشجر الموز بها كثير يحمل ثمره إلى مصر في المراكب وغنمها سائحة هملا بالليل والنهار ولهذا يقال في دمياط سورها حلوى وكلابها غنم وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي فمن كان من الناس معتبرا طبع له في قطعة كاغد يتظهر به لحراس بابها وغيرهم يطبع على ذراعه فيستظهر به والطير البحري بهذه المدينة كثير متناهي السمن وبها الألبان الجاموسية التي لا مثل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق وبها الحوت البوري يحمل منها إلى الشام وبلاد الروم ومصر وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل يسمى البرزخ بها مسجد وزاوية لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل وحضرت عنده ليلة جمعة ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتعبدين الأخيار فقطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكرا ودمياط هذه حديثة البناء والمدينة القديمة هي التي خربها الإفرنج على عهد الملك الصالح وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي قدوة الطائفة المعروفة بالقلندرية1 وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح التكروري.

_ 1 القلندرية: طريقة صوفية أسسها قلندر يوسف ببلاد الأندلس، وجاء بها إلى دمياط الشيخ جمال الدين الساوي.

وقد روي أن السبب كان يدعو الشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه فعلقت به امرأة من أهل ساوة وكانت تراسله وتعارضه في الطرق وتدعوه لنفسها وهو يمتنع ويتهاون فلما أعياها أمره دست له عجوزا تصدت له إزاء دار على طريقه إلى المسجد وبيدها كتاب مختوم فلما مر بها قالت له يا سيدي أتحسن القراءة؟ قال نعم قالت له الكتاب وجهه إليّ ولدي وأحب أن تقرأه علي فقال لها نعم فلما فتح الكتاب قالت له يا سيدي أن لولدي زوجة وهي بأسطوان الدار فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها فأجابها لذلك فلما توسط بين البابين غلقت العجوز الباب وأخرجت المرأة جواريها فتعلقن به وأدخلنه إلى الدار وراودته المرأة عن نفسه فلما رأى أن لا خلاص له قال لها إني حيث تريدين فأريني بيت الخلاء فأرته إياه فأدخل معه الماء وكانت عنده موسى جديدة فحلق لحيته وحاجبيه وخرج عليها فاستقبحت هيئته واستنكرت فعله وأمرت بإخراجه وعصمه الله بذلك فبقي على هيئته فيما بعد وصار كل من يسلك طريقته أن يحلق رأسه ولحيته وحاجبيه. وذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها وكان بها قاض يعرف بابن العميد فخرج يوما إلى جنازة بعض الأعيان فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة فقال له أنت الشيخ المبتدع فقال له وأنت القاضي الجاهل تمر بدابتك بين القبور وتعلم أن حرمة الإنسان ميتا كحرمته حيا فقال له القاضي وأعظم من ذلك حلقك للحيتك فقال له إياي تعني وزعق الشيخ ثم رفع رأسه فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة فعجب القاضي ومن معه ونزل إليه عن بغلته ثم زعق ثانيا فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة ثم زعق ثالثاً ورفع رأسه فإذا هو بلا لحية كهيئة الأولى فقبل القاضي يده وتتلمذ له وبنى له زاوية حسنة وصحبه أيام حياته حتى مات الشيخ فدفن بزاويته ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يدفن بباب الزاوية حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره وبخارج دمياط المزار المعروف بشطا، "بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة"، وهو ظاهر البركة يقصده أهل الديار المصرية وله أيام في السنة معلومة لذلك.

وبخارجها أيضا بين بساتينها موضع يعرف بالمنية فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان قصدت زاويته وبت عنده وكان بدمياط أيام إقامتي بها وال يعرف بالمحسني من ذوي الإحسان والفضل بنى مدرسة على شاطيء النيل وبها كان نزولي في تلك الأيام وتأكدت بيني وبينه مودة. ثم سافرت إلى مينة فارسكور وهي مدينة على ساحل النيل، "والكاف الذي في اسمها مضموم". ونزلت بخارجها ولحقني هنالك فارس وجهه إلي الأمير المحسني فقال لي أن الأمير سأل عنك وعرف بسيرتك فبعث إليك بهذه النفقة ودفع إلي بجملة دراهم جزاه الله خيرا. ثم سافرت إلى مدينة أشمون الرمان، "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الشين المعجم". ونسبت إلى الرمان لكثرته بها ومنها يحمل إلى مصر وهي مدينة عتيقة كبيرة على خلج النيل ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب وجازت المراكب صاعدة ومنحدرة وبهده البلدة قاضي القضاة ووالي الولاة. ثم سافرت عنها إلى مدينة سمنود وهي على شاطيء النيل كثيرة المراكب حسنة الأسواق وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ، "وضبط اسمها بفتح السين المهملة والميم وتشديد النون وضمها وواو ودال مهمل". ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعدا إلى مصر ما بين مدائن وقرى منتظمة متصل بعضها ببعض ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد لأنه مهما أراد النزول بالشاطيء نزل للوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك والأسواق متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مصر ومن مصر إلى مدينة أسوان من الصعيد. ثم وصلت إلى مدينة مصر وهي أم البلاد وقرارة فرعون1 ذي الأوتاد ذات الإقاليم العريضة والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة المتناهية بالحسن والنضارة ومجمع الوارد والصادر ومحط رحل الضعيف والقادر وبها ما شئت من عالم وجاهل وجاد وهازل،

_ 1مدينة مصر في زمن ابن بطوطة وهي مدينة القاهرة، وتتكون من أربع مدن أنشئت في العصر الإسلامي هي الفسطاط التي أنشأها عمرو بن العاص رضي الله عنه فاتح مصر، والعسكر، وأنشأها صالح بن علي من بني العباس، والقطائع التي أنشأها أحمد بن طولون، والقاهرة التي أنشأها جوهر الصقلي قائد المعتز لدين الله الفاطمي، وعلى هذا فلم يسكنها فرعون من فراعنة مصر الأقدمين، ويظهر أنه أراد بفرعون: حاكم مصر. وكلمة فرعون كانت تطلق على حكام مصر، ومعناها في اللغة المصرية القديمة: ملك.

وحليم وسفيه ووضيع ونبيه وشريف ومشروف ومنكر ومعروف تموج موج البحر بسكانها وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها شبابها يجد على طول العهد وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد قهرت قاهرتها الأمم وتمكنت ملوكها نواصي العرب والعجم ولها خصوصية النيل الذي أجل خطرها وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها وأرضها مسيرة شهر لمجد السير كريمة التربة مؤنسة لذي الغربة. قال ابن جزي: وفيها يقول الشاعر: لَعمرُك ما مصر بمصرٍ وإنما هي الجنة الدنيا لمن يتبصّر فأولادها الولدان والحور عينُها وروضتها الفردوس والنيل كوثر وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض: شاطئ مصر جنة ... ما مثلها من بلد لا سيّما مذ زُخرفَت ... بنيلها المطّرد وللرياح فوقه ... سوابغٌ من زَرَد مسرودةٌ ما مسّها ... داوُدُها بمبرد سائلة هواؤها ... يرعد عاري الجسد والفلك كالأفلاك بي ... ن حادر ومصعد ويقال أن بمصر من السائقين على الجمال اثني عشر ألف سقاء وأن بها ثلاثين ألف مكار وأن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفا للسلطان والرعية تمر صاعدة إلى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق وعلى ضفة النيل مما يواجه مصر الموضع المعروف بالروضة وهو مكان النزهة والتفرج وبه البساتين الكثيرة الحسنة وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده فزين كل أهل سوق سوقهم وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير وبقوا على ذلك أياما. مسجد عمرو بن العاص والمدارس والمارستانات والزوايا: ومسجد عمرو بن العاص مسجد شريف كبير القدر شهير الذكر، تقام فيه الجمعة. والطريق يعترضه من شرق إلى غرب وبشرقه الزاوية حيث كان يدرس

الإمام أبو عبد الله الشافعي وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها وأما المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك المنصور قلاوون فيعجز الواصف عن محاسنه وقد أعد فيه من المرافق والأدوية مالا يحصر يذكر أن مجباه ألف دينار كل يوم. وأما الزوايا فكثيرة وهو يسمونها الخوانق واحدتها خانقة1 والأمراء بمصر يتنافسون في بناء الزوايا وكل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء وأكثرهم الأعاجم وهم أهل أدب ومعرفة بطريقة التصوف ولكل زاوية شيخ وحارس وترتيب أمورهم عجيب ومن عوائدهم في الطعام أنه يأتي خديم الزاوية إلى الفقراء صباحا فيعين له كل واحد ما يشتهيه من الطعام فإذا اجتمعوا للأكل جعلوا لكل إنسان خبزه ومرقة في إناء على حدة لا يشاركه فيه أحد وطعامهم مرتان في اليوم ولهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف ومرتب شهري من ثلاثين درهما للواحد في الشهر إلى عشرين ولهم الحلاوة من السكر كل ليلة جمعة والصابون لغسل أثوابهم والأجرة لدخول الحمام والزيت للإستصباح وهم أعزاب وللمتزوجين زوايا على حدة ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس والمبيت بالزاوية واجتماعهم بقبة داخل الزاوية ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد منهم على سجادة مختصة به وإذا صلوا الصبح قرأوا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم ثم يؤتى بنسخ من القرآن العظيم مجزأة فيأخذ كل فقير جزءا ويختمون القرآن ويذكرون ثم يقرأ القراء على عادة أهل المشرق ومثل ذلك يفعلون بعد صلاة العصر ومن عوائدهم مع القادم أنه يأتي باب الزاوية فيقف به مشدود الوسط وعلى كاهله سجادة وبيمناه العكاز وبيسراه الإبريق فيعلم البواب خديم الزاوية بمكانه فيخرج إليه ويسأله من أي البلاد أتى وبأي الزوايا نزل في طريقه ومن شيخه فإذا عرف صحة قوله أدخله الزاوية وفرش له سجادته في موضع يليق به وأراه موضع الطهارة فيجدد الوضوء ويأتي إلى سجادته فيحل وسطه ويصل ركعتين ويصافح الشيخ ومن حضر ويقعد معهم ومن عوائدهم أنهم إذا كان يوم الجمعة أخذ الخادم جميع سجاجيدهم فيذهب بها إلى المسجد ويفرشها لهم هنالك ويخرجون مجتمعين ومعهم

_ 1 صحة هذا المفرد: خانقاه، وهو كلمة تركية الأصل.

شيخهم فيأتون المسجد ويصلي كل واحد على سجادته فإذا فرغوا من الصلاة قرءوا القرآن على عادتهم ثم ينصرفون مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم.

قرافة مصر ومزاراتها

قرافة مصر ومزاراتها: ولمصر القرافة العظيمة الشأن في التبرك بها وقد جاء في فضلها أثر أخرجه القرطبي وغيره لأنها من جملة الجبل المقطم الذي وعد الله أن يكون روضة من رياض الجنة وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور ويبنون بها البيوت ويرتبون القراء ويقرءون ليلا ونهارا بالأصوات الحسان ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة ويخرجون كل ليلة جمعة إلى البيت بأولادهم ونسائهم ويطوفون على الأسواق بصنوف المأكل ومن المزارات الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليهما السلام وعليه رباط ضخم عجيب البناء على أبوابه وحلق الفضة وصفائحها أيضا كذلك وهو موفى الحق من الإجلال والتعظيم ومنها تربة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة وهذه التربة أنيقة البناء مشرقة الضياء عليها رباط مقصود ومنها تربة الإمام أبي عبد الله بن محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وعليها رباط كبير ولها جراية ضخمة وبها القبة الشهيرة البديعة الإتقان العجيبة البنيان المتناهية الأحكام المفرطة السمو وسعتها أزيد من ثلاثين ذراعا وبقرافة مصر من قبور العلماء والصالحين ما لا يضبطه الحصر وبها عدد جم من الصحابة وصدور السلف والخلف رضي الله تعالى عنهم مثل عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز وأصبغ بن الفرج وابني عبد الحكيم وأبي القاسم بن شعبان وأبي محمد عبد الوهاب ولكن ليس لهم بها اشتهار ولا يعرفهم إلا من له بهم عناية والشافعي رضي الله عنه ساعده الجد في نفسه وأتباعه وأصحابه في حياته ومماته فظهر من أمره مصداق قوله: الجد يدفي كل أمر شائع ... والجد يفتح كل باب مغلق

نيل مصر: ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق واتساع قطر وعظم منفعة والمدن والقرى بضفتيه منتظمة ليس في المعمور مثلها ولا يعلم نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل وليس في الأرض نهر يسمى بحرا غيره قال الله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} 1. فسماه يما وهو البحر وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى فإذا في أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسأل عنها جبريل عليه السلام فقال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات وفي الحديث أيضا النيل والفرات وسيحون وجيحون كل من أنهار الجنة ومجرى النيل من الجنوب إلى الشمال خلافا لجميع الأنهار ومن عجائبه أن ابتداء زيادته في شدة الحر عند نقص الأنهار وجفوفها وابتداء نقصه حين زيادة الأنهر وفيضها ونهر السند مثله في ذلك وسيأتي ذكره وأول ابتداء زيادته في حزيران وهو يونيه فإذا بلغت زيادته ستة عشر ذراعا تم خراج السلطان فإذا زاد ذراعا كان الخصب في العام والصلاح التام فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا أضر بالضياع وأعقب الوباء وإن نقص ذراعا عن ستة عشر نقص خراج السلطان وإن نقص ذراعين استسقى الناس وكان الضرر شديد والنيل أحد أنهار الدنيا الخمسة الكبار وهي النيل والفرات والدجلة وسيحون وجيحون وتماثلها أنهار خمسة أيضا نهر السند ويسمى بنج أب ونهر الهند ويسمى الكنك وإليه تحج الهنود وإذا أحرقوا أمواتهم رموا برمادهم فيه ويقولون هو من الجنة ونهر الجون بالهند أيضا ونهر اتل بصحراء قفجق وعلى ساحله مدينة السرا ونهر السرو بأرض الخطا وعلى ضفته مدينة خان بالق ومنها ينحدر إلى مدينة الخنسا ثم إلى مدينة الزيتون بأرض الصين وسيذكر ذلك كله في مواضعه أن شاء الله والنيل يفترق بعد مسافة من مصر على ثلاثة أقسام ولا يعبر نهر منها إلا في السفن شتاء وصيفا وأهل كل بلد لهم خلجان تخرج من النيل فإذا مد أترعها وفاضت على المزارع.

_ 1 القصص: 7.

الأهرام والبرابي: وهي من العجائب المذكورة على مر الدهور وللناس فيها كلام كثير وخوض في شأنها وأولية بنائها ويزعمون أن العلوم التي ظهرت قبل الطوفان أخذت من هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى ويسمى الخنوج وهو إدريس عليه السلام وأنه أول من تكلم في الحركات الفلكية والجواهر العلوية وأول من بنى الهياكل ومجد الله تعالى وفيها أنه أنذر الناس بالطوفان وخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع فبنى الأهرام والبرابي وصور فيها جميع الصنائع والآلات ورسم العلوم فيها لتبقى مخلدة ويقال أن دار العلم والملك بمصر مدينة منف1 وهي على بريد من الفسطاط فلما بنيت الاسكندرية انتقل الناس إليها وصارت دار العلم والملك إلى أن أتى الإسلام فاختطّ عمرو بن العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط فهي قاعدة مصر إلى هذا العهد والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو مستدير متسع الأسفل ضيق الأعلى كالشكل المخروط ولا أبواب لها ولا تعلم كيفية بنائها ومما يذكر في شأنها أن ملكا من ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالته وأوجبت عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب الغربي من النيل لتكون مستودعا للعلوم ولجثث الملوك وأنه سأل المنجمين هل يفتح منها موضع فأخبروه أنه تفتح من الجانب الشمالي وعينوا له الموضع الذي تفتح منه ومبلغ الإنفاق في فتحه فأمر أن يجعل بذلك الموضع من المال قدر ما أخبروه أنه ينفق في فتحه واشتد في البناء فأتمه في ستين سنة وكتب عليها بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة فإن الهدم أيسر من البقاء فلما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المأمون أراد هدمها فأشار عليه بعض مشايخ مصر أن لا يفعل فلج في ذلك وأمر أن تفتح من الجانب الشمالي فكانوا يوقدون عليها النار ثم يرشونها بالخل ويرمونها بالمنجنيق حتى فتحت الثلمة التي بها إلى اليوم ووجدوا بإزاء النقب مالا أمر أمير المؤمنين بوزنه فحصر ما أنفق في النقب فوجدهما سواء فطال عجبه من ذلك ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعاً.

_ 1 كانت منف مدينة العلم والمالك بمصر في عهد الدولة القديمة، ثم خلفتها في هذه المكانة مدن أخرى مثل طيبة "الأقصر حالياً" وبعد هذه المدن بُنيت الإسكندرية.

خبر الملك الناصر سلطان مصر: وكان سلطان مصر على عهد دخولي إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي وكان قلاوون يعرف بالألفي لأن الملك الصالح اشتراه بألف دينار ذهبا وأصله من قفجق وللملك الناصر رحمه الله السيرة الكريمة والفضائل العظيمة وكفاه شرفا انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين وما يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج من الجمال التي تحمل الزاد والماء للمنقطعين والضعفاء وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي وبنى زاوية بسر ياقص1 خارج القاهرة لكن الزاوية التي بناها مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين وكهف الفقراء والمساكين خليفة الله في أرضه القائم من الجهاد بنفله وفرضه أبو عنان أيد الله أمره وأظهره وسنى له الفتح المبين ويسر بخارج حضرته العلية المدينة البيضاء حرسها الله لا نظير لها في المعمورة في اتقان الوضع وحسن البناء والنقش في الجص بحيث لا يقدر أهل المشرق على مثله وسيأتي ذكر ما عمره أيده الله من المدارس والمرستانات والزوايا ببلاده حرسها الله وحفظها بدوام ملكه. أمراء مصر: منهم الأمير بكتمور "وضبط اسمها بضم الباء الموحدة، وكاف مسكن وتاء معلوة مضمومة وآخره راء"، وكان ساقي الملك الناصر وقد قتله الناصر بالسم وسيذكر ذلك ومنهم نائب الملك الناصر أرغون الدودار وهو الذي يلي بكتمور في المنزلة، "وضط اسمه بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الغين المعجمية" ومنهم طشط المعروف بحمص أخضر، "واسمه بطاءين مهملين مضمومين وبينهما شين معجم". وكان من خيار الأمراء وله الصدقات الكثيرة على الأيتام من كسوة ونفقة وأجرة لمن يعلمهم القرآن وله الإحسان العظيم للحرافيش وهم طائفة كبيرة أهل صلابة وجاه

_ 1 تعرف حالياً بسرياقوس.

ودعارة1 وسجنه الملك الناصر مرة فاجتمع من الحرافيش آلاف ووقفوا بأسفل القلعة ونادوا بلسان واحد يا أعرج النحس يعنون الملك الناصر أخرجه فأخرجه من محبسه وسجنه مرة أخرى ففعل الأيتام مثل ذلك فأطلقه ومنهم وزير الملك الناصر يعرف بالجمالي بفتح الجيم. ومنهم بدر الدين بن البابه ومنهم جمال الدين نائب الكرك ومنهم تُقُزْ دُمور "واسمه بضم التاء المعلوة وضم القاف وزاء مسكن ثم دال مضمومة وميم مثله وآخره راء" ودمور بالتركية الحديد ومنهم بهادر الحجازي "واسمه بفتح الباء الموحدة وضم الدال المهملة وآخر راء". ومنهم قوصون2 "واسمه بفتح القاف وصاد مهمل مضموم". ومنهم بشتك "واسمه بفتح الباء الموحدة وإسكان الشين المعجم وتاء معلوة مفتوحة". وكل هؤلاء يتنافسون في أفعال الخيرات وبناء المساجد والزوايا ومنهم ناظر الجيش الملك الناصر وكاتبه فخر الدين القبطي وكان نصرانيا من القبط فأسلم وحسن إسلامه وله المكارم العظيمة والفضائل التامة ودرجته من أعلى الدرجات عند الملك الناصر وله الصدقات الكثيرة والإحسان الجزيل ومن عادته أن يجلس عشى النهار في مجلس له بأسطوان داره على النيل ويليه المسجد فإذا حضر المغرب صلى في المسجد وعاد إلى مجلسه وأوتي بالطعام ولا يمنع حينئذ أحد من الدخول كائنا من كان فمن كان ذا حاجة تكلم فيها فقضاها له ومن كان طالب صدقة أمر مملوكا له يدعى بدر الدين واسمه لؤلؤ أن يصحبه إلى خارج الدار وهنالك خازنه معه صرر الدراهم فيعطيه ما قدر له ويحضر عنده في ذلك الوقت الفقهاء ويقرأ بين يديه كتب البخاري فإذا صلى العشاء الأخيرة انصرف الناس عنه. قضاة مصر عند دخولي إليها: فمن قاضي قضاة الشافعية وهو أعلاهم منزلة وأكبرهم قدراً، وهو القاضي الإمام العالم بدر الدين ابن جماعة، كان أعلاهم منزلة وأكبرهم قدراً، وإليه ولاية القضاة بمصر وعزلهم، وابنه عز الدين هو الآن متولي

_ 1 الدعارة: الفجور وسوء الخلق والخبث والفسق والفساد، وإنّما وصف الحرافيش بها لشدّة جرأتهم وجسارتهم وتجاوزهم الحدّ في التعامل مع الحاكمين وغيرهم. 2 يجري اسمه على ألسنة الناس: قيسون بالياء بدلاً عن الواو.

ذلك ومنهم قاضي قضاة المالكية الإمام الصالح تقي الدين الاخنائي ومنهم قاضي قضاة الحنفية الإمام العالم شمس الدين الحريري وكان شديد السطوة لا تأخذه في الله لومة لائم وكانت الأمراء تخافه ولقد ذكر لي أن الملك الناصر قال يوما لجلسائه إني لا أخاف من أحد إلا من شمس الدين الحريري ومنهم قاضي قضاة الحنبلية ولا أعرفه الآن إلا أنه كان يدعى بعز الدين. وكان الملك الناصر رحمه الله يقعد للنظر في المظالم ورفع قصص المتشكين كل يوم اثنين وخميس ويقعد القضاة الأربعة عن يساره وتقرأ القصص بين يديه ويعين من يسأل صاحب القصة عنها وقد سلك مولانا أمير المؤمنين ناصر الدين1 أيده الله في ذلك مسلكا لم يسبق إليه ولا مزيد في العدل والتواضع عليه وهو سؤاله بذاته الكريمة المتظلم وعرضه بين يديه المستقيمة أبى الله أن يحضرها سواه أدام الله أيامه وكان رسم القضاة المذكورين أن يكون أعلاهم منزلة في الجلوس قاضي الشافعية ثم قاضي الحنفية ثم قاضي المالكية ثم قاضي الحنبلية فلما توفي شمس الدين الحريري وولي مكانه برهان الدين عبد الحق الحنفي أشار الأمراء على الملك الناصر بأن يكون مجلس المالكي فوقه وذكروا أن العادة جرت بذلك قديما إذ كان قاضي المالكية زين بن مخلوف يلي قاضي الشافعية تقي الدين بن دقيق العيد فأمر الناصر بذلك فلما علم به قاضي الحنفية غاب شهود المجلس أنفة من ذلك فأنكر الملك الناصر مغيبه وعلم ما قصده فأمر بإحضاره فلما مثل بين يديه أخذ الحاجب بيده وأقعده حيث نفذ أمر السلطان مما يلي قاضي المالكية واستمر حاله على ذلك. نبذة عن بعض علماء مصر وأعيانها: فمنهم شمس الدين الأصبهاني إمام الدنيا في المعقولات ومنهم شرف الدين الزواوي المالكي ومنهم برهان الدين ابن بنت الشاذلي نائب قاضي القضاة بجامع الصالح ومنهم ركن الدين بن القوبع التونسي منن الأئمة في المعقولات

_ 1يقصد به أبا عنان فارس، وهكذا يفعل ابن بطوطة وابن جزي في كلّ مناسبة يقارنان فيها بينه وبين غيره من الملوك والأمراء، تزلّفاً إليه.

ومنهم شمس الدين بن عدلان كبير الشافعية ومنهم بهاء الدين بن عقيل فقيه كبير ومنهم أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان الغرناطي وهو أعلمهم بالنحو ومنهم الشيخ الصالح بدر الدين عبد الله المنوفي ومنهم برهان الدين الصفاقسي ومنهم قوام الدين الكرماني وكان سكناه على سطح الجامع الأزهر وله جماعة من الفقهاء والقراء يلازمونه ويدرسون فنون العلم ويفتي في المذاهب ولباسه عبادة صوف خشنة وعمامة صوف سوداء ومن عاداته أن يذهب بعد صلاة العصر إلى موضع الفرج والنزاهات منفردا عن أصحابه ومنهم السيد الشريف شمس الدين ابن بنت صاحب تاج الدين ابن حناء ومنهم شيخ شيوخ القراء بديار مصر مجد الدين الاقصرائي نسبة إلى أقصرا من بلاد الروم ومكنسه سرياقص ومنهم الشيخ جمال الدين الحويزائي والحويزا على مسيرة ثلاث أيام من البصرة ومنهم نقيب الأشراف بديار مصر السيد الشريف المعظم بدر الدين الحسيني من كبار الصالحين ومنهم وكيل بيت المال المدرس بقبة الإمام الشافعي مجد الدين بن حرمي ومنهم المحتسب بمصر نجم الدين السهرتي من كبار الفقهاء وله بمصر رئاسة عظيمة وجاه.

يوم المحمل

يوم المحمل: وهو يوم دوران الجمل يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب وقد ذكرنا جميعهم ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة ويقصدون جميعا باب القلعة دار الملك الناصر فيخرج إليهم المحمل على جمل وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك السنة ومعه عسكره والسقاؤون على جمالهم ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء ثم يطوفون بالمحمل وجميع من ذكرنا معه بمدينة القاهرة ومصر والحداة يحدون أمامهم ويكون ذلك في رجب فعند ذلك تهيج العزمات وتنبعث الأشواق وتتحرك البواعث ويلقي الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد. ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف فبت ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين وهو رباط عظيم بني على مفاخر عظيمة وآثار كريمة أودعها فيه وهي قطعة

من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والميل الذي كان يكتحل به والدرفش وهو الأشفا الذي كان يخصف به نعله ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده رضي الله عنه ويقال أن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة ألف درهم وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة نفعه الله تعالى بقصده المبارك. ثم خرجت من الرباط المذكور ومررت بمنية القائد وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل. ثم سرت منها إلى مدينة بوش "وضبطها بضم الباء الموحدة واحدة شين معجم" وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتانا ومنها يجلب إلى سائر الديار المصرية وإلى إفريقية. ثم سافرت منها فوصلت إلى مدينة دلاص "وضبط اسمها بفتح الدال المهملة وآخره صاد مهملة"، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضا كمثل التي ذكرناها قبلها ويحمل أيضا منها إلى ديار مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا "وضبط اسما بباءين موحدتين أولاهما مكسورة". ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا، وهي مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة "وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الهاء وفتح النون والسين". وتصنع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة. وممن لقيته بها قاضيها العالم شرف الدين وهو كريم النفس فاضل ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي ونزلت عنده وأضافني. ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب1 وهي مدينة كبيرة الساحة متسعة المساحة مبنية على شاطئ النيل وحق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل بها المدارس والمشاهد والزوايا والمساجد وكانت في القدم منية عامل مصر الخصيب.

_ 1 تعرف الآن بمدينة المِنْيَا، وهي عاصمة محافظة المنيا في صعيد مصر.

قصة خصيب

قصة خصيب: يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده وأصغرهم شأنا قصدا لإذلالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمام فخلع عليه وأمره على مصر وظنه أنه يسير فيهم سيرة سوء ويقصدهم بالأذية حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عهد بالعز فلما استقر خصيب بمصر سار في أهلها

أحسن سيرة وشهر بالكرم والإيثار فكان أقارب الخلفاء وسواهم يقصدونه فيجزل العطاء لهم ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم وأن الخليفة افتقد بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه فسأله عن مغيبة فأخبره أنه قصد خصيبا وذكر له ما أعطاه خصيب وكان جزيلاً فغضب الخليفة وأمر بسمل عيني خصيب وأخرجه من مصر إلى بغداد وأن يطرح في أسواقها فلما ورد الأمر بالقبض عليه حيل بينه وبين دخوله منزله وكانت بيده ياقوتة عظيمة الشأن فخباها عنده وخاطها في ثوب لها ليلاً وسملت عيناه وطرح في أسواق بغداد فمر به بعض الشعراء فقال يا خصيب أني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها وأحب أن تسمعها فقال كيف بسماعها وأنا على ما تراه فقال إنما قصدي سماعك لها وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا قال فافعل فأنشد: أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر فلما أتى على اخرها قال له: افتق هذه الخياطة ففعل ذلك فقال له خذ الياقوتة فأبى فأقسم عليه أن يأخذها فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين فلما عرضها عليهم قالوا له أن هذه لا تصلح إلا للخليفة فرفعوا أمرها إلى الخليفة فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة فأخبره بخبرها فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه وأجزل له العطاء وحكمه فيما يريد فرغب أن يعطيه المنية ففعل ذلك وسكنها خصيب إلى أن توفي وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري المالكي وواليها شمس الدين أمير خير كريم. دخلت يوما الحمام بهذه البلدة فرأيت الناس بها لا يستترون فعظم ذلك علي وأتيته فأعلمته بذلك فأمرني ألا أبرح وأمر بإحضار المكترين للحمامات وكتبت عليهم العقود أنه متى دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك واشتد عليهم أعظم الاشتداد ثم انصرفت عنه. وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي1 وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل "وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح اللام وكسر الواو". وقاضيها

_ 1 تعرف الآن باسم: ملوى بإدغام اللاّم، وهي إحدى مدن محافظة المنيا بصعيد مصر.

الفقية شرف الدين الدميري "بفتح الدال المهمل وكسر الميم" الشافعي وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعا أنفق فيه صميم ماله وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر- ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرا من دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة الحارة فيطرحها في القدر التي يطبخ السكر فيها ثم يخرجها وقد امتلاءت سكرا فينصرف بها. وسافرت من منلوى المذكورة إلى مدينة منفلوط وهي مدينة حسن هواؤها مؤنق بناؤها على ضفة النيل شهيرة البركة "وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم اللام وآخرها طاء مهمل". وقد أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمه الله أمر بعمل منبر عظيم محكم الصنعة بديع الإنشاء برسم المسجد الحرام زاده الله شرفا وتعظيما فلما تم عمله أمر أن يصعد به في النيل ليجتاز إلى بحر جدة ثم إلى مكة شرفها الله فلما وصل المركب الذي احتمله إلى منفلوط وحاذى مسجدها الجامع وقف وامتنع من الجري مع مساعدة الريح فعجب الناس من شأنه أشد العجب وأقاموا أياما لا ينهض بهم المركب فكتبوا بخبر إلى الملك الناصر رحمه الله فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط ففعل ذلك وقد عاينته بها ويصنع في هذه المدينة شبه العسل يستخرج من القمح ويسمونه النيدا. يباع بأسواق مصر. وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط وهي مدينة رفيعة أسواقها بديعة "وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء آخر الحروف واو وطاء مهملة" وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب "بحاصل ما ثم" لقب اشتهر به وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها فيعطيه ما قدر له فكان القاضي إذا أتاه الفقير يقول له حاصل ما ثم1 أي لم يبق من المال الحاصل شيء فلقب بذلك ولزمه وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين ابن الصباغ أضافني بزاويته. وسافرت منها إلى مدينة أخميم وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجمية الشأن بها البربي المعروف باسمه وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل، لا تفهم في هذا

_ 1 ثَمَّ هنا ظرف مكان بمعنى هنا. والمراد ما هنا من الحاصل شيءٌ حتى أعطيكه.

العهد، وصور الأفلاك والكواكب ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج العقرب وبها صور الحيوانات وسواها وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج عليها وكان بأخميم رجُلٌ يعرف بالخطيب أمر على هدم بعض هذه البرابي وابتنى بحجارتها مدرسة وهو رجل موسر معروف باليسار ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البرابي ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس ومجد الدين وواحد الدين. ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعا بعد صلاة الجمعة ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده وقاضي المدينة الفقيه مخلص وسائر أهلها فيجتمعون للقرآن ويذكرون الله إلى صلاة العصر فإذا صلوها قرأوا سورة الكهف ثم انصرفوا. وسافرت من أخميم إلى مدينة "هُو": مدينة كبيرة بساحل النيل "وضبها بضم الهاء" ونزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج ورأيتهم يقرأون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزبا من القرآن ثم يقرأون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسني من كبار الصالحين دخلت إلى هذا الشريف متبركا برؤيته والسلام عليه فسألني عن قصدي فأخبرته إني أريد البيت الحرام على طريق جدة فقال لي ولا يحصل لك هذا في هذا الوقت فارجع وإنما تحج أول حجة على الدرب الشامي فانصرفت عنه، ولم أعمل على كلامه ومشيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب فلم يتمكن لي السفر فعدت راجعا إلى مصر ثم إلى الشام وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي حسبما أخبرني الشريف نفع الله به. ثم سافرت إلى مدينة قنا، وهي صغيرة حسنة الأسواق، "وضبط اسمها بقاف مكسورة ونون". وبها قبر الشريف الصالح الولي صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة الله عليه. ورأيت بالمدرسة السيفية حفيدة شهاب الدين أحمد. وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص "وهي بضم القاف" مدينة عظيمة لها خيرات عميمة بساتينها مورقة وأسواقها مونقة ولها المساجد الكثيرة والمدارس الأثيرة وهي منزل ولاة الصعيد وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار وزاوية الأفرام1 وبها اجتماع الفقراء

_ 1 في إحدى طبعات رحلة ابن بطوطة: زاوية الأفرام.

المتجردين في شهر رمضان من كل سنة ومن علمائها القاضي جمال الدين بن السديد والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي وسيقع ذكرهما ومنهم الفقيه برهان الدين إبراهيم الأندلسي له زاوية عالية. ثم سافرت إلى مدينة الأقصر1 "وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل". وهي صغيرة حسنة وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري وعليه زاوية. وسافرت منها إلى مدينة آرمنت. "وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء فوقية"، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل أضافني قاضيها ونسيت اسمه. ثم سافرت منها إلى مدينة أسنا "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل ونون" مدينة عظيمة متسعة الشوارع ضخمة المنافع كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع لها أسواق حسان وبساتين ذات أفنان قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين بن مسكين أضافني وأكرمني، وكتب إلى نوابه بإكرامي وبها من الفضلاء الشيخ الصالح نور الدين علي والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص. ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو2 "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الدال المهمل وضم الفاء"، وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء لا عمارة بها، إلاّ أنها آمنة السبل. وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي، وقد ذكرنا كرامته في إخباره أنه يموت بها وأرضها وكثيرة الضباع ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلا كان به واجتزت منه جراب تمر وذهبت به فوجدناه لما أصبحنا ممزقا مأكولا معظم ما كان فيه. ثم لما سرنا خمسة عشر يوما وصلنا إلى مدينة عيذاب وهي مدينة كبيرة

_ 1 تعرف الآن بالأُقْصُر الهمزة والصاد وسكون القاف. 2 يضبط اسم مدينتي: اسنا وإدفو بكسر الهمزة الآن كما هو متداول بين الناس.

كثيرة الحوت واللبن ويحمل إليها الزوع والثمر من صعيد مصر وأهلها البجاة1 وهم سود الألوان يلتحفون بملاحف صفراء ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة إصبعا وهم لا يورثون البنات طعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري ويسمونها الصهب وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاه لملك البجاة وهو يعرف بالحدربي "بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء" وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني شهير البركة رأيته وتبركت به وبها الشيخ الصالح موسى والشيخ المسن محمد المراكشي زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش وأن سنه خمسة وتسعون سنة ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك وقد خرق المراكب وهرب الترك أمامه فتعذر سفرنا في البحر فبعنا ما كنا أعددناه من الزاد وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها وانحدرنا منها في النيل وكان أوان مده فوصلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر فبت بمصر ليلة واحدة وقصدت بلاد الشام وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين فوصلت إلى مدينة بلبيس2 "وضبط اسمها بفتح الموحدة الأولى وفتح الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهملة"، وهي مدينة كبيرة ذات بساتين كثيرة ولم ألق بها من يجب ذكره. ثم وصلت إلى الصالحية ومنها دخلنا الرمال3 ونزلنا منازلها مثل السوادة والواردة والمطيلب والعريش والخروبة. بكل منزل منها فندق. وهم يسمونه الخان ينزله المسافرون بدوابهم وبخارج كل خان ساقية للسبيل وحانوت يشتري منه المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته. من منازلها قَطْيا المشهورة وهي "بفتح القاف وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة وألف. والناس يبدلون ألفها هاء تأثنث". وبها تؤخذ الزكاة من التجار، وتفتش أمتعتهم ويبحث عما

_ 1 ويقال لهم أيضاً: البُجّة، وهم قبائل تعيش بين النيل والبحر الأحمر وبين القاهرة وحدود السودا، يعيش بعضهم في جمهورية مصر العربية، وبعضهم في جمهورية السودان، ومعظمهم لا يتكلّمون العربية. 2 المتداول بين الناس في نطقها الآن: بِلْبيس بكسر الباءين الأولى والثانية، وبينهما لام ساكنة، وهي مدينة تابعة لمحافظة الشرقيّة. 3 يقصد بالرمال: شبه جزيرة سيناء.

لديهم أشد البحث. وفيها الدواوين والعمال والكتاب والشهود ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذهب ولا يجوز عليها أحد إلى الشام إلا ببراءة من مصر ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام إحتياطا على أموال الناس وتوقيا من الجواسيس العراقيين وطريقها في ضمان العرب قد وكلوا بحفظه فإذا كان الليل مسحوا على الرمل حتى لا يبقى به أثر ثم يأتي الأمير صباحا فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثرا طالب العرب بإحضار مؤثره فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم فيأتون به الأمير فيعاقبه بما شاء وكان بها في عهد وصولى إليها عز الدين أستاذ الدار قماري من خيار الأمراء أضافني وأكرمني وأباح الجواز لمن كان معي وبين يديه عبد الجليل المغربي الوقاف وهو يعرف المغاربة وبلادهم فيسأل من ورد منهم من أي البلاد هو لئلا يلبس عليهم فإن المغاربة لا يعترضون جوازهم على قطيا. ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسقة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة والأسوار عليها وكان بها جامع حسن والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني ومدرسها علم الدين بن سالم وبنو سالم كبراء هذه المدينة ومنهم شمس الدين قاضي القدس. ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما وهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار مشرقة الأنوار حسنة المنظر عجيبة المخبر في بطن واد ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع مبني بالصخر المنحوت في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرا ويقال أن سليمان عليه السلام أمر الجن ببنائه وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم ويقابلهم قبور ثلاثة هي قبور أزواجهم وعن يمين المنبر يلصق جدار القبلة موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام فيها صور القبور الثلاثة ويقال أنها محاذية لها وكان هناك مسلك إلى الغار المبارك وهو الآن مسدود وقد نزلت بهذا الموضع مرات ومما ذكره أهل العلم دليلا على صحة كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ما نقله من كتاب علي بن جعفر الرازي الذي سماه المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب أسند فيه إلى أبي

هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أسرى بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل على قبر إبراهيم، فقال: أنزل فصل ركعتين فإن هنا قبر أبيك إبراهيم ثم مر بيت على بيت لحم، وقال: انزل فصل ركعتين فإن هنا ولد أخوك عيسى عليه السلام، ثم أتى بي الصخرة". وذكر بقية الحديث ولما لقيت بهذه المدينة المدرس الصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبري أحد الصلحاء المرضيين والأئمة المشهورين سألته عن صحة كون قبر الخليل عليه السلام هنالك فقال لي كل من لقيته من أهل العلم يصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم السلام وقبور زوجاتهم ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه ويذكر أن بعض الأئمة دخل إلى الغار ووقف عند قبر سارة فدخل شيخ فقال له أي هذه القبور هو قبر إبراهيم فأشار له إلى قبره المعروف ثم دخل شاب فسأله كذلك فأشار له إليه ثم دخل صبي فسأله أيضا فأشار له إليه فقال الفقيه أشهد أن هذا قبر إبراهيم عليه السلام لا شك ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد وبداخل هذا المسجد أيضا قبر يوسف عليه السلام، وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام وهي تل مرتفع منه على غور الشام وعلى قبره أبنية حسنة وهو في بيت منها حسن البناء مبيض ولا ستور عليه وهنالك بحيرة لوط1 وهي أجاج يقال أنها موضع ديار قوم لوط وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقين وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه وفي المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض في حجر صلد قد هيئ فيه صورة محراب لا يسع إلا مصليا واحدا ويقال أن إبراهيم سجد في ذلك الموضع شكرا لله تعالى عند هلاك قوم لوط فتحرك موضع سجوده وساخ في الأرض قليلا وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع بسم الله الرحمن الرحيم له العزة والبقاء وله ما ذرا وبرا وعلى خلقه كتب الفناء وفي رسول الله أسوة حسنة هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه وفي اللوح الآخر منقوش صنعه محمد بن أبي

_ 1 وتعرف الآن باسم: البحر الميت، لعدم وجود حياة فيه، لشدّة مائه.

سهل النقاش بمصر وتحت ذلك في هذه الأبيات: أسكنت من كان الأحشاء مسكنه ... بالرغم مني بين الترب والحجر يا قبر فاطمة بنت ابن فاطمة ... بنت الأئمة بنت الأنجم الزهر يا قبر ما فيك من دين ومن ورع ... ومن عفاف ومن صون ومن خفر ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس. فزرت في طريقي إليه تربة يونس عليه السلام وعليها أبنية كبيرة ومسجد. وزرت أيضا بيت لحم موضع ميلاد عيسى عليه السلام وبه أثر جذع النخلة وعليه عمارة كثيرة والنصارى يعظمونه أشد التعظيم ويضيفون من نزل به. ثم وصلنا إلى بيت المقدس شرفه الله ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ومصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما ومعرجه إلى السماء والبلدة كبيرة منيفة بالصخر المنحوت وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين ابن أيوب جزاه الله عن الإسلام خيرا لما فتح هذه المدينة هدم بعض سورها ثم استنقض الملك الظاهر1 هدمه خوفاً أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم وجلب لها الماء في هذا العهد الأمير سيف الدين تنكيز أمير دمشق.

_ 1 يبدو – والله أعلم – أن المراد: وأتمّ الملك الظاهر هدمه خوفاً من أن يقصدها الروم فيمنعوا بها، والملك الظاهر هو: ركن الدين بيبرس البندقداري رابع سلاطين دولة المماليك البحرية بِمصر.

خبر المسجد المقدس

خبر المسجد المقدس ... خبر المسجدس المقدس: وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن، يقال: إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه وأن طوله من شرق إلى غرب سبعمائة وثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية وعرض من القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعا وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابا واحدا وهو الذي يدخل منه الإمام والمسجد كله فضاء وغير مسقف إلا المسجد الأقصى فهو مسقف في النهاية من إحكام الفعل وإتقان الصنعة مموه بالذهب والأصباغ الرائقة وفي المسجد مواضع سواه مسقفة.

قبة الصخرة: من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا قد توفر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف وهي قائمة على نشز في وسط السجد يصعد إليها في درج رخام ولها أربعة أبواب والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة وكذلك داخلها وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة1 ورائق الصنعة ما يعجز الواصف وأكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ نورا وتلمع لمعان البرق يحار بصر متأملها في محاسنها ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها وفي الوسط القبة الصخرية الكريمة التي جاء ذكرها في الآثار فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرج منها إلى السماء وهي صخرة صماء ارتفاعها نحو قامة وتحتها مغارة مقدار بيت صغير ارتفاعها نحو قامة أيضا ينزل إليها على درج وهنالك شكل محراب وعلى الصخرة شباكان اثنان محكما العمل يغلقان عليها أحدهما وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة والثاني من خشب وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. المشاهد المباركة بالقدس الشريف: فمنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم في شرقي البلد على تل مرتفع وهنالك بنية يقال إنها مصعد عيسى عليه السلام إلى السماء ومنها أيضا قبر رابعة البدوية منسوبة إلى البادية وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى ويقولون أن قبر مريم عليها السلام بها وهنالك أيضا كنيسة أخرى معظمة يحجها النصارى وهي التي يكذبون عليها ويعتقدون أن قبر عيسى عليه السلام بها. وعلى كل من يحجها ضريبة معلومة للمسلمين وضروب من الإهانة يتحملها على رغم أنفه. وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يتبرك به.

_ 1 الزواقة مقصود بها: التزويق والتجميل والتزيين.

فضلاء القدس المشهورين: ومن بعض فضلاء القدس قاضيه العالم شمس الدين محمد بن سالم الغزي "بفتح الغين"، وهو من أهل غزة وكبرائها. ومنهم خطيبه الصالح الفاضل عماد الدين النابلسي ومنهم المحدث المفتي شهاب الدين الطبري ومنهم مدرس المالكية وشيخ الخانقا الكريمة أبو عبد الله بن مثبت الغرناطي نزيل القدس ومنهم الشيخ الزاهد أبو علي حسن المعروف بالحجوب من كبار الصالحين ومنهم الشيخ الصالح العابد كمال الدين المراغي ومنهم الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى من أهل أرز الروم وهو من تلامة تاج الدين الرفاعي صحبته ولبست منه خرقة التصوف. ثم سافرت من القدس الشريف برسم زيارة ثغر عسقلان وهو خراب قد عاد رسوما طامسة وأطلالا دارسة وقل بلد من المحاسن ما جمعته عسقلان اتقانا وحسن وضع وأصالة مكان وجمعا بين مرافق البر والبحر وبها المشهد حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام قبل أن ينقل إلى القاهرة وهو مسجد عظيم سامي العلو فيه جب للماء أمر ببنائه بعض العبيد وكتب ذلك على بابه وفي قبلة هذا المزار مسجد كبير يعرف بمسجد عمر لم يبق منه إلا حيطانه وفيه أساطين رخام لا مثيل لها في الحسن وهي ما بين قائم وحصيد ومن جملتها أسطوانة حمراء عجيبة يزعم الناس أن النصارى احتملوها إلى بلادهم ثم فقدوها فوجدت في موضعها بعسقلان وفي القبلة من هذا المسجد بئر تعرف ببئر إبراهيم عليه السلام ينزل إليها في درج متسعة ويدخل منها إلى بيوت وفي كل ناحية من جهاتها الأربع تخرج من أسراب مطوية بالحجارة وماؤها عذب وليس بالغزير ويذكر الناس من فضائلها كثيراً وبظاهر عسقلان وادي النمل ويقال أنه المذكور في الكتاب العزير وبجبانة عسقلان من قبور الشهداء والأولياء مالا يحصر لكثرته أوقفنا عليهم المزار المذكور وله جراية يجريها له ملك مصر مع ما يصل إليه من صدقات الزوار. ثم سافرت منها إلى مدينة الرملة وهي فلسطين مدينة كبيرة كثيرة الخيرات حسنة الأسواق وبها الجامع الأبيض ويقال أن في قبلته ثلاثمائة من الأنبياء مدفونين عليهم السلام وفيها من كبار الفقهاء مجد الدين النابلسي. ثم خرجت منها إلى مدينة نابلس وهي مدينة

عظيمة كثيرة الأشجار مطردة الأنهار من أكثر بلاد الشام زيتونا ومنها يحمل الزيت إلى مصر ودمشق وبها تصنع حلواء الخروب وتجلب إلى دمشق وغيرها وكيفية عملها أن يطبخ الخروب ثم يعصر ويؤخذ ما يخرج منه من الرب فتصنع منه الحلواء ويجلب ذلك الرب أيضا إلى مصر والشام وبها البطيخ المنسوب إليها وهو طيب عجيب والمسجد الجامع في نهاية من الإتقان والحسن وفي وسطه بركة ماء عذب. ثم سافرت منها إلى مدينة عجلون "وهي بفتح العين المهملة" وهي مدينة حسنة لها أسواق كثيرة وقلعة خطيرة ويشقها نهر ماؤه عذب. ثم سافرت منها بقصد اللاذقية فمررت بالغور وهو واد بين تلال به قبر أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأرض رضي الله عنه زرناه وعليه زاوية فيها الطعام لأبناء السبيل وبتنا هنالك ليلة. ثم وصلنا إلى القصير وبه قبر معاذ بن جبل رضي الله عنه وتبركت أيضا بزيارته. ثم سافرت على الساحل فوصلت إلى مدينة عكة1 وهي خراب وكانت عكة قاعدة بلاد الإفرنج بالشام ومرسى سفنهم وتشبه قسطنطينية العظمى، وبشرقيها عين ماء تعرف بعين البقر يقال أن الله تعالى أخرج منها البقر لآدم عليه السلام وينزل إليه في درج وكان عليها مسجد بقي منه محرابه وبهذ المدينة قبر صالح عليه السلام. ثم سافرت منها إلى مدينة صور وهي خراب وبخارجها قرية معمورة وأكثر أهلها أرفاض ولقد نزلت بها مرة على بعض المياه أريد الوضوء فأتى بعض أهل تلك القرية ليتوضأ فبدأ بغسل رجليه ثم غسل وجهه ولم يتمضمض ولا استنشق ثم مسح بعض رأسه فأخذت عليه في فعله فقال لي أن البناء إنما يكون ابتداؤه من الأساس. ومدينة صور هي التي يضرب بها المثل في الحصانة والمنعة لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها ولها بابان أحدهما للبر والثاني للبحر ولبابها الذي يشرع للبر أربعة فصلات كلها في ستائر محيطة بالباب وأما الباب الذي للبحر فهو بين برجين عظيمين وبناؤها ليس في بلاد الدنيا أعجب ولا أغرب شأنا منه لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها وعلى الجهة الرابعة سور تدخل السفن تحت السور وترسو هنالك وكان فيما تقدم بين البرجين سلسلة حديد معترضة لا سبيل إلى الداخل هنالك ولا إلى الخارج إلا بعد

_ 1 وتعرف الآن بِعكا بالألف بدلاً عن التاء المربوطة، وهي إحدى مرافئ فلسطين المحتلة – حرهها الله وأعادها إلى الإسلام -.

حطها وكان عليها الحراس والأمناء فلا يدخل داخل ولا يخرج خارج إلاعلى علم منهم. وكان لعكة أيضا ميناء مثلها ولكنها لم تكن تحمل إلا السفن الصغار. ثم سافرت منها إلى مدينة صيدا وهي على ساحل البحر حسنة كثيرة الفواكه يحمل منها التين والزبيب والزيت إلى بلاد مصر نزلت عند قاضيها كما الدين الأشموني المصري وهو حسن الأخلاق كريم النفس. ثم سافرت منها إلى مدينة طبرية وكانت فيما مضى مدينة كبيرة ضخمة. ولم يبق منها إلا رسوم تنبيء عن ضخامتها وعظم شأنها. وبها الحمامات العجيبة لها بيتان أحدهما للرجال والثاني للنساء وماؤها شديد الحرارة ولهاالبحيرة الشهيرة طولها نحو ستة فراسخ وعرضها أزيد من ثلاثة فراسخ وبطبرية مسجد يعرف بمسجد الأنبياء فيه قبر شعيب عليه السلام وبنته زوج موسى الكليم عليه السلام وقبر سليمان عليه السلام وقبر يهودا وقبر روبيل صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم. وقصدنا منها زيارة الجب الذي ألقي فيه يوسف عليه السلام وهو في صحن مسجد صغير وعليه زاوية والجب كبير عميق شربنا من مائه المجتمع من ماء المطر وأخبرنا قيمه أن الماء ينبع منه أيضا. ثم سرنا إلى مدينة بيروت وهي صغيرة حسنة الأسواق وجامعها بديع الحسن ويجلب منها إلى ديار مصر الفواكه. وقصدنا منها زيارة أبي يعقوب يوسف الذي يزعمون أنه من ملوك المغرب وهو بموضع يعرف بكرك نوح من بقاع العزيز، وعليه زاوية يطعم بها الوارد ويقال أن السلطان صلاح الدين وقف عليها الأوقاف وقيل السلطان نور الدين وكانوا من الصالحين ويذكر أنه كان ينسج الحصر ويقتات بثمنها.

حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور يحكى أنه دخل مدينة دمشق فمرض بها مرضا شديدا وأقام مطروحا بالأسواق فلما برئ من مرضه خرج إلى ظاهر دمشق ليلتمس بستانا يكون حارسا له فاستؤجر لحراسة بستان للملك نور الدين وأقام في حراسته ستة أشهر فلما كان في أوان الفاكهة أتى السلطان إلى ذلك البستان وأمر وكيل البستان أبا يعقوب أن يأتي برمان يأكل منه السلطان فأتاه برمان فوجده حامضا فأمره أن يأتي بغيره ففعل ذلك فوجده حامضا فأمره أن يأتي بغيره ففعل ذلك فوجده أيضا حامضا فقال له الوكيل أتكون في حراسة هذا البستان منذ ستة أشهر ولا تعرف الحلو من الحامض فقال إنما استأجرتني على الحراسة لا على الأكل فأتى الوكيل إلى الملك فأعلمه بذلك فبعث إليه الملك وكان قد رأى في المنام أنه يجتمع مع أبي يعقوب وتحصل له منه فائدة فتفرس أنه هو فقال له أنت أبو يعقوب قال نعم فقام إليه وعانقه ثم أجلسه إلى جانبه ثم احتمله إلى مجلسه فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكد يمينه وأقام عنده أياما ثم خرج من دمشق فارا بنفسه في أوان البرد الشديد فأتى قرية من قراها وكان بها رجل من الضعفاء فعرض عليه النزول عنده ففعل وصنع له مرقة وذبح دجاجة فأتاه بها وبخبز شعير فأكل من ذلك ودعا للرجل وكان عنده جملة أولاد منهم بنت قد أن بناء زوجها عليها ومن عوائدهم في تلك البلاد أن البنت يجهزها أبوها ويكون معظم الجهاز أواني النحاس وبه يتفاخرون وبه يتبايعون فقال أبو يعقوب للرجل هل عندك شيء من النحاس قال نعم قد اشتريت منه لتجهيز هذه البنت قال ائتني به فأتاه به فقال له استعر من جيرانك ما أمكنك منه ففعل وأحضر ذلك بين يديه فأوقد عليه النيران وأخرج صرة كانت عنده فيها الأكسير1 فطرح منه على النحاس فعاد كله ذهبا وتركه في بيت مقفل وكتب

_ 1 وهو مادة كيميائية كانوا يتوهمون أنها تحول المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وذلك محض وهم لاضل له في الحقيقة.

كتابا إلى نور الدين ملك دمشق يعلمه بذلك وينبه على بناء مارستان للمرضى من الغرباء ويوقف عليه الأوقاف ويبني الزوايا بالطرق ويرضى أصحاب النحاس ويعطي صاحب البيت كفايته وقال له في آخر الكتاب: وإن كان إبراهيم بن أدهم قد خرج عن ملك خراسان فأنا قد خرجت عن ملك المغرب وعن هذه الصنعة والسلام، وفر من حينه وذهب صاحب البيت بالكتاب إلى الملك نور الدين فوصل الملك إلى تلك القرية واحتمل الذهب بعد أن أرضى أصحاب النحاس وصاحب البيت وطلب أبا يعقوب فلم يجد له أثرا ولا وقع له على خبر فعاد إلى دمشق وبنى المارستان المعروف باسمه الذي ليس في المعمور مثله. ثم وصلت إلى مدينة طرابلس وهي إحدى قواعد الشام وبلدانها الضخام تخترقها الأنهار وتحفها البساتين والأشجار ويكنفها البحر بمرافقه العميقة والبر بخيراته المقيمة ولها الأسواق العجيبة والمسارح الخصيبة والبحر على ميلين منها وهي حديثة البناء وأما طرابلس القديمة فكانت على ضفة البحر وتملكها الروم زمانا فلما استرجعها الملك الظاهر خربت واتخذ هذه الحديثة وبهذه المدينة نحو أربعين من أمراء الأتراك وأمير ها طيلان الحاجب المعروف بملك المراء ومسكنه منه بالدار المعروفة بدار السعادة ومن عوائده أن يركب في كل يوم اثنين وخمسين ويركب معه الأمراء والعساكر ويخرج إلى ظاهر المدينة فإذا عاد إليها وقارب الوصول إلى منزله ترجل الأمراء ونزلوا عن دوابهم ومشوا بين يديه حتى يدخل منزله وينصرفون وتضرب الطبلخانة عند دار كل أمير منهم بعد صلاة المغرب من كل يوم وتوقد المشاعل وممن كان بها من الأعلام كاتب السر بهاء الدين بن غانم أحد الفضلاء الحسباء معروف بالسخاء والكرم وأخوه حسام الدين وهو شيخ القدس الشريف وقد ذكرناه وأخوهما علاء الدين كاتب السر بدمشق ومنهم وكيل بيت المال قوام الدين بن مكين من أكابر الرجال ومنهم قاضي قضاتها شمس الدين بن النقيب من أعلام علماء الشام وبهذه المدينة حمامات حسان منها حمام القاضي القرمي وحمام سندمور وكان سندمور أمير هذه المدينة ويذكر عنه أخبار كثيرة في الشدة على أهل الجنايات منها أن امرأة

شكت إليه بأن أحد مماليكه الخواص تعدى عليها في لبن كانت تبيعه فشربه ولم تكن لها بينة فأمر به فوسط فخرج اللبن من مصرانه وقد اتفق مثل هذه الحكاية للعتريس أحد أمراء الملك الناصر أيام إمارته على عيذاب واتفق مثل للملك كبك سلطان تركستان. ثم سافرت من طرابلس إلى حصن الأكراد وهو بلد صغير كثير الأشجار والأنهار بأعلى تل، وبه زاوية تعرف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء الأمراء ونزلت عند قاضيها ولا أحقق الآن اسمه. ثم سافرت إلى مدينة حمص وهي مدينة مليحة أرجاؤها مونقة وأشجارها مورقة وأنهارها متدفقة وأسواقها فسيحة الشوارع وجامعها متميز بالحسن الجامع وفي وسطه ماء وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم سيرة. ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام الرفيعة ومدائنها البديعة ذات الحسن الرائق والجمال الفائق تحفها البساتين والجنات عليها النواعير كالأفلاك الدائرات يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي ولها ربض سمي بالمنصورية أعظم من المدينة فيه الأسواق الحافلة والحمامات الحسان وبحماة الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي إذا كسرت نواته وجدت في داخلها لوزة حلوة. قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها وبساتينها يقول الأديب الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العبسي العماري الغرناطي نسبة لعمار بن ياسر رضي الله عنه. حمى الله من حماةَ مناظراً ... وقفتُ عليها السمعَ والفكر والطرْفا تغَنّى حمام أو تميل خمائل ... وتزهى مباني تمنع الواصف الوصفا يلومنني أن أعصيَ الصَّونَ والنُّهَى ... بها وأطيع الكأسَ واللهوَ والقصفا إذا كان فيها النهر عاصٍ فكيف لا ... أُحاكيه عصياناً وأشربُها صِرفاً وأشدو لدى تلك النواعر شدوها ... وأغلبها رقصاً وأشبهها غرْفا تئنّ وتذري دمعَها فكأنّها ... تهيمُ بمرآها وتسألها العَطْفا ولبعضهم في نواعيرها ذاهباً مذهب التورية: وناعورةٍ رقّت لَعَظم خطيئتي ... وقد عاينت قصدي من المنزل القاضي بكَتْ رحمةً ثم باحَت بِشجْوِها ... وحَسْبُكَ أن الخُشبَ تبكي على العاصي

ولبعض المتأخرين فيها أيضاً من التورية: يا سادةً سكنوا حماةً وحقّكم ... ما حِلتُ عن تقوى وعن إخلاص والطرف بعدكم إذا اذكر اللقا ... يجري المدامع طائعاً كالعاصي. ثم سافرت إلى مدينة المعرة التي ينسب إليها الشاعر أبو العلاء المعري وكثير سواه من الشعراء. قال ابن جزي: وإنما سميت بمعرة النعمان لأن النعمان بن بشير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي له ولد أيام إمارته على حمص، فدفنه بالمعرة، فعرف به. وكانت قبل ذلك تسمى ذات القصور. وقيل: أن النعمان جبل مطل عليها سميت به. والمعرة مدينة كبيرة حسنة أكثر شجرها التين والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام وبخارجها على فرسخ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولا زاوية عليه ولا خديم له وسبب ذلك أنه وقع في بلاد صنف من الرافضة أرجاس يبغضون العشرة من الصحابة رضي لله عنهم ولعن مبغضهم ويبغضون كل من اسمه عمر وخصوصا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان من فعله في تعظيم علي رضي الله عنه. ثم سرنا منها إلى مدينة سرمين وهي حسنة كثيرة البساتين وأكثر شجرها الزيتون وبها يصنعون الصابون الأجري ويجلب إلى مصر والشام ويصنع أيضا الصابون المطيب لغسل الأيدي ويصبغونه بالحمرة والصفرة ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب إليها وأهلها سبابون يبغضون العشرة ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة وينادي سماسرتهم بالأسواق على السلع فإذا بلغوا إلى العشرة قالوا وواحد وحضر بها بعض التراك يوما فسمع سمسارا ينادي تسعة وواحد فضربه بالدبوس على رأسه وقال قل عشرة بالدبوس. وبها مسجد جامع فيه تسع قباب ولم يجعلوها عشرة قياما بمذهبهم القبيح. ثم سرنا إلى مدينة حلب المدينة الكبرى والقاعدة العظمى قال أبو الحسين بن جبير في وصفها قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير خطابها من الملوك كثير ومحلها من النفوس أثير فكم هاجت من كفاح وسُلّ عليها من بيض الصفاح لها قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع تنزهت حصانة من أن ترام أو تستطاع منحوتة الأجزاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء قد طاولت الأيام والأعوام ووسعت الخواص والعوام أين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ فني جميعهم ولم يبق إلا بناؤها فيا عجبا لبلاد تبقى ويذهب

ملاكها ويهلكون ولا يقضى هلاكها وتخطب بعدهم فلا يتعذر أملاكها وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها هذه حلب كم أدخلت ملوكها في خبر كان ونسخت صرف الزمان بالمكان أنث اسمها فتحلت بحلية الغوان وأتت بالعذر فيمن دان وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان هيهات سيهزم شبابها ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها. وقلعة حلب تسمى الشهباء وبداخلها جبلان ينبع منهما الماء فلا تخاف الظما ويطيف بها سوران وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء وسورها متداني الأبراج وقد انتظمت بها العلالي العجيبة المفتحة الطيقان وكل برج منها مسكون والطعام لا يتغير بهذه القلعة على طول العهد وبها مشهد يقصده بعض الناس يقال أن الخليل عليه السلام كان يتعبد به وهذه القلعة تشبه قلعة رحبة مالك بن طوق التي على الفرات بين الشام والعراق ولما قصد قازان طاغية التتر مدينة حلب حاصر هذه القلعة أياما ونكص عنها خائباً. قال ابن جزي: وفي هذه القلعة يقول الخالدي شاعر سيف الدولة: وخرقاءَ قد قامت على مَن يَرُومُها ... بِمِرقَبها العالي وجانبها الصّعبِ يجرّ عليها الجوّ جيب غمامة ... ويُلبِسها عقداً بأنجمه الشُهبِ إذا ما سَرَى برقٌ بَدَت مِن خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل السُحُب فكم من جنودٍ قد أماتتْ بِغصّةٍ ... وذي سطواتٍ قد أبانَت على عقبِ وفيها يقول أيضاً وهو من بديع النظم: وقلعة عانق العنقاء سافلها ... وجازَ منطقة الجوزاء عاليها لا تعرف القَطر إذا كان الغمام لها ... أرضاً تُوطَّأ قطريهِ مواشيها إذا الغمامةُ راحَت غضَ ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عواليها يُعَدّ من أنجم الأفلاك مِرْقَبها ... لو أنه كان يجري في مجاريها ردّت مكايدَ أقوامس مكايدُها ... ونصرَت لِدواهيهم دواهيها وفيها يقول جمال الدين علي بن أبي المنصور: كادت لِبَونِ سموّها وعلوّها ... تستوقف الفللك المحيط الدائرا وَرَدت قواطِنُها المجرّة مَنهَلاً ... ورعَتْ سوابقُها النجومَ زواهرا ويظلّ صرف الدهر منها خائفاً ... وجِلاً فما يُمسي لديها حاضراً ويقال: في مدينة حلب ويقال: في مدينة حلب حلب إبراهيم لأن الخليل صلوات الله وسلامه على نبينا

وعليه كان يسكنها وكانت له الغنم الكثيرة فكان يسقي الفقراء والمساكين والوارد والصادر من ألبانها فكانوا يجتمعون ويسألون حلب إبراهيم فسميت بذلك وهي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض وأسواقها مسقفة بالخشب فأهلها دائما في عمل ممدود وقيساريتها لا تماثل حسنا وكبرا وهي تحيط بمسجدها وكل سماط منها محاذ لباب من أبواب المسجد ومسجدها الجامع من أجمل المساجد في صحنه بركة ماء ويطيف به بلاط عظيم الاتساع ومنبرها بديع العمل مرصع بالعاج والآبنوس وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له في حسن الوضع وإتقان الصنعة ينسب لأمراء بني حمدان وبالبلد سواها ثلاث مدارس وبها مارستان وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض به المزارع العظيمة وشجرات الأعناب منتظمة به والبساتين على شاطيء نهرها وهو النهر الذي يمر بحماة ويسمى العاصي1 وقيل أنه سمي بذلك لأنه يخيل لناظره أن جريانه من أسفل إلى علو والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحا وسرورا ونشاطها لا يكون في سواها وهي من المدن التي تصلح للخلافة. قال ابن جزي: أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب وذكر داخلها وخارجها. وفيها يقول أبو عبادة البحتري: يا برق اسفر عن قُوَيْقَ فطُرتَي ... حلب فأعلى القصر من بطياس عن منبت الورد المُعَصْفر صبغة ... في كل ضاحية ومَجْنَى الآسَ أرض إذا استوحشتكم بتذكرٍ ... حشدَت علي فاكثرت إيناسي وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري: سقى حلب المزن مَغْنَى حلب ... فكم وصَلَت طربا بالطرب وكم مستطاب من العيش لذ ... بها إذ بهاه العيش لم يُستَطب إذا نشر الزهر أعلامَه ... بها ومطارفُه والعِذب غدَا وحواشِيهِ من فِضَّةٍ ... تروقُ وأوساطُه من ذهبْ وقال فيها أبو العلاء المعري:

_ 1 هذا وهم من ابن بطوطة، إذ أن نهر العاصي لا يمر بِحلب، وإنّما النهر الموجود فيها هو نهر قويق يمد في الشتاء وينضف في الصيف.

حلب للوارد جنةُ عدن ... وهي للغادرين نارُ سعير والعظيمُ العظيمُ يكبُرُ في عَيْنَيهِ ... فيه منها قدرُ الصغير الصغير فَقُويقٌ في أنفس القوم بحرٌ ... وحَصَاةٌ منه مكانَ ثبير وقال فيها أبو الفتيان بن جبوس: يا صاحبي إذا أعياكُما سَقَمي حلب ... فلَقياني نسيمَ الريح من من البلاد التي كان الصِبا سكنا ... فيها وكان الهوى العَذري من أرَبى وقال فيها أبو الفتح كشاجم: وما أمتعت جارَها بلدةٌ ... كما أمتعت حلبٌ جارَها بها قد تجمع ما تشتهي ... فزرها فطوبى لمن زراها وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي العنسي: حادي العيس كم تنيخ المطايا ... سُق بروحي من بُعدهم في سياق حلب إنها مقر غرامي ... ومرامي وقِبلة الأشواق لك خلا جوْشَن بطياس والعبد ... من كل وابل غيداق كم بها مرتع لطرف وقلب ... فيه سقيُ المنى بكأس دهاق وتغنَّى طيوره لارتياح ... وتثنّى غصونه للعناق وعلوُ الشهباء حيث استدارت ... أنجم الأفق حولها كالنطاق وبحلب ملك الأمراء أرغون الدوادار أكبر أمراء الملك الناصر. وهو من الفقهاء موصوف بالعدل لكنه بخيل والقضاة بحلب أربعة للمذاهب الأربعة فمنهم القاضي كمال الدين بن الزملكاني شافعي المذهب وعالي الهمة كبير القدر كريم النفس حسن الأخلاق متفنن بالعلوم وكان الناصر قد بعث إليه ليوليه قضاء القضاة بحضرة ملكه فلم يقض له ذلك وتوفي ببلبيس وهو متوجه إليها ولما ولي قضاء حلب قصدته الشعراء من دمشق وسواها وكان فيمن قصده شاعر الشام شهاب الدين أبو بكر محمد بن الشيخ المحدث شمس الدين أبي عبد الله محمد بن نباتة القرشي الأموي الفارقي فامتدحه بقصيدة طويلة حافلة أولها: أسفت لفقدك جِلَّق الفيحاءُ ... وتباشرت لقدومك الشهباء وعلى دمشق وقد رحلت كآبةٌ ... وعلا رُبا حَلَب سَناً وسناءُ

قد أشرقت دار سكنت فناءها ... حتى غدت ولنورها لألاء يا سائراً سقي المكارم والعلى ... ممن يبخل عنده الكرماء هذا كمال الدين لُذ بجنابه ... تنعم فثم الفضل والنعماء قاضي القضاة أجل من أيامه ... تعني بها الأيتام والفقراء قاض زكا أصلا وفرعا فاعتلى ... شرفت به الأدباء والأبناء مَنَّ الإله على بني حلب به ... لله وضع الفضل حيث يشاء كشف المُعمّى فهمه وبيانه ... فكأنما ذاك الذكاء ذُكَاء1 ياحاكم الحكام قدرُك سابق ... عن أن تسُرك رتبة شماء إن المناصب دون همتك التي ... في الفضل دون محلها الجوزاء لك في العلوم فضائل مشهورة ... كالصبح شق له الظلام ضياء ومناقب شهد العدو بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء وهي أزيد من خمسين بيتاً، وأجازه عليها بكسوةٍ ودراهم وانتقد عليه الشعراء ابتداءه بلفظ أسفت. قال ابن جزي: وليس كلامه في هذه القصيدة بذاك وهو في المقطعات أجود منه في القصائد وإليه انتهت الرياسة في الشعر على هذا العهد، في جميع بلاد المشرق. وهو من ذريّة الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباته، منشئ الخطب الشهيرة، ومن بديع في التورية قوله: عُلّقتها غيداء حالية العلى ... تجني على عقلِ المحبِّ وقلبه بخلّتْ بلؤلؤِ ثغرِها عن لاثِمٍ ... فغدت مطوقةً بما بخلت به. ومن قضاة حلب قاضي قضاة الحنفية الإمام المدرس ناصر الدين بن العديم حسن الصورة والسيرة أصيل مدينة حلب: تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ومنهم قاضي قضاة المالكية لا أذكره كان من الموثفين بمصر وأخذ الخطة عن غير استحقاق. ومنهم قاضي قضاة الحنابلة لا أذكر اسمه وهو من أهل صالحية دمشق، ونقيب الأشراف بحلب بدر الدين بن الزهراء. ومن فقهائها

_ 1 ذُكاء هي: الشمس، شبه ذكاءه الذي يكشف المعميات بالشمس التي تذهب الظلام، وتكشف ما أخفاه وعمّاه على الرائين.

شرف الدين بن العجمي، وأقاربه هم كبراء مدينة حلب، ثم سافرت منها إلى مدينة تيزين1 وهي على طريق قنسرين "وضبط اسمها بتاء معلوة مكسورة وياء مد وزاي مكسورة وياء مد ثانية ونون". وهي حديثة اتخذها التركمان وأسواقها حسان ومساجدها في نهاية من الإتقان وقاضيها بدر الدين العسقلاني. وكانت مدينة قنسرين قديمة كبيرة ثم خرجت ولم يبق إلا رسومها. ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية وهي مدينة عظيمة أصيلة وكان عليها سور محكم لا نظير له في أسوار بلاد الشام فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها وأنطاكيا كثيرة العمارة ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه وبخارجها نهر العاصي وبها قبر حبيب النجار رضي الله عنه وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر شيخها الصالح المعمر محمد بن علي سنّه ينيف على المائة وهو ممتع بقوته دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطبا ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدا والولد والداً. ثم سافرت إلى حصن بُغْراس "وضبط اسمه بباء موحدة مضمومة وغين معجمة مسكنة وراء وآخره سين مهمل"، وهو حصن منيع لا يرام عليه البساتين والمزارع ومنه يدخل إلى بلاد سيس وهي بلاد كفار الأرمن وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالا ودراهم فضة خالصة تعرف بالبغلية وبها تصنع الثياب الدبيلية2 وأمير هذا الحصن صارم الدين ابن الشيباني. وله ولد فاضل اسمه علاء الدين وابن أخ اسمه حسام الدين كريم يسكن الموضع المعروف بالرُّصُص "بضم الراء والصاد المهمل الأول"، ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن. وقد شكا الأرمن مرة إلى الملك ناصر من الأمير حسام الدين، وزوّروا

_ 1 وهي قرية من نواحي حلب، كانت من أعمال قنسرين، ثم صارت في عهد الرشيد من العواصم مثل منبج، ورغم أنها تقع في جهة قنسيرين تماماً، فليس هناك ما يمنع أن يسافر إليها ابن بطوطة عن طريق قنسرين، وهي طريقة غير مباشرة، وقد لوحظ ذلك في أسفاره. 2 نسبة إلى دبيل بفتح أوله وكسر ثانيه، وهي مدينة بأرمينية تتاخم أرّان فتحها حبيب بن مسلمة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وغلب عليها وعلى قراها، وصالح أهلها وكتب لهم كتاباً.

عليه أمورا لا تليق. فأنفذ أمره لأمير الأمراء بحلب أن يخنقه فلما توجه الأمير بلغ ذلك صديقا له من كبار المراء فدخل على الملك الناصر وقال يا خوند أن الأمير حسام الدين هو من خيار الأمراء ينصح للمسلمين ويحفظ الطريق وهو من الشجعان والأرمن يريدون الفساد في بلاد المسلمين فيمنعهم ويقهرهم وإنما أرادوا إضعاف شوكة المسلمين بقتله ولم يزل به حتى أنفذ أمراً ثانيا بسراحه والخلع عليه ورده لموضعه ودعا الملك الناصر بريديا يعرف بالأفوش وكان لا يبعث إلا في مهم أمره بالإسراع والجد في السير فسار من مصر إلى حلب في خمس وهي مسيرة شهر فوجد أمير حلب قد أحضر حسام الدين وأخرجه إلى الموضع الذي يخنق به الناس فخلصه الله وعاد إلى موضعه ولقيت هذا الأمير ومعه قاضي بُغْراس شرف الدين الحموي بموضع يقال له العمق متوسط بين أنطاكية وتيزين وبغراس ينزله التركمان بمواشيهم لخصبه وسعته. ثم سافرت إلى حصن القُصير: تصغير قصر، وهو حصن حسن، أمير علاء الدين الكردي، وقاضيه شهاب الدين الأرمنتي من أهل الديار المصريّة، ثم سافرت إلى حصن الشُغْرُبُكَاس، "وضبط اسمه بضم الشين المعجم وإسكان الغين المعجم وضم الراء والباء الموحدة وآخره سين مهملة"، وهو منيع في رأس شاهق، أمير هـ سيف الدين الطنطاش فاضل، وقاضيه جمال الدين بن شجرة، من أصحاب ابن تيمية. ثم سافرت إلى مدينة صهيون، وهي مدينة حسنة بها الأنهار المطردة، والأشجار المورقة، ولها قلعة جيّدة، وأمير ها يعرف بالإبراهيمي، وقاضيها محيي الدين الحمصي وبخارجها زاوية في وسط بستان فيها الطعام للوارد والصادر وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه الله وقد زرت قبره. ثم سافرت منها فمررت بحصن القدموس "وضبط اسمه بفتح القاف وإسكان الدال المهمل وضم الميم وآخره سين مهمل"، ثم بحصن المَنْيَقة " وضبط اسمه بفتح الميم وإسكان الياء وفتح النون والقاف"، ثم بحصن العليقة واسمه على لفظ واحدة العليق ثم بحصن مصياف "وصاده مهملة"، ثم بحص الكهف وهذه الحصون لطائفة يقال لهم الإسماعيلية ويقال لهم الفداوية ولا يدخل عليهم أحد من غيرهم. وهم سهام الملك الناصر وبهم يصيب من يعدو عنه من أعدائه بالعراق وغيرها ولهم المرتبات. وإذا أراد السلطان أن يبعث أحدهم إلى اغتيال عدو له أعطاه ديته فإن سلم بعد تأتي ما يراد منه فهي له، وإن أصيب فهي لولده. ولهم سكاكين مسمومة يضربون بها من

بعثوا إلى قتله وربما لم تصح حيلهم فقتلوا. كما جرى لهم مع الأمير قراسنقور فإنه لما هرب إلى العراق بعث إليه الملك الناصر جملة منهم فقتلوا ولم يقدروا عليه لأخذه بالحزم. وكان قراسنقور من كبار الأمراء وممن حضر قتل الملك الأشرف أخي الملك الناصر وشارك فيه ولما تمهد الملك للملك الناصر وقر به القرار واشتدت أواخي سلطانه جعل يتتبع قتلة أخيه فيقتلهم واحداً واحداً إظهاراً للأخذ بثأر أخيه وخوفاً أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه وكان قراسنقور أمير الأمراء بحلب فكتب الملك الناصر إلى جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم وجعل لهم ميعاداً يكون فيه اجتماعهم بحلب ونزولهم عليها حتى يقبضوا عليه فلما فعلوا ذلك خاف قراسنقور على نفسه وكان له ثمانمائة مملوك فركب فيهم وخرج على العساكر صباحاً فاخترقهم وأعجزهم سبقا وكانوا في عشرين ألفا وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى وهو على مسيرة يومين من حلب وكان مهنا في قنص له فقصد بيته ونزل عن فرسه وألقى العمامة في عنق نفسه ونادى الجوار يا أمير العرب وكانت هنالك أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه فقالت له قد أجرناك وأجرنا من معك فقال إنما أطلب أولادي ومالي فقالت له لك ما تحب فانزل في جوارنا. ففعل ذلك وأتى مهنا فأحسن نزله وحكمه في ماله فقال إنما أحب أهلي ومالي الذي تركته بحلب فدعا مهنا بإخوته وبني عمه فشاورهم في أمره فمنهم من أجابه إلى ما أراد ومنهم من قال كيف نحارب الملك الناصر ونحن بلاده بالشام؟ فقال لهم مهنا أما أنا فأفعل لهذا الرجل ما يريده وأذهب معه إلى سلطان العراق وفي أثناء ذلك ورد عليهم الخبر بأن أولاد قراسنقور سيروا على البريد إلى مصر فقال مهنا لقراسنقور أما أولادك فلا حيلة فيهم وأما مالك فنجتهد في خلاصه فركب فيمن أطاعه من أهله واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفا وقصدوا حلب فأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقور ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك وقصدوا ملك العراق وصحبهم أمير حمص الأفرم ووصلوا إلى الملك محمد خدابنده سلطان العراق وهو بموضع مصيفه المسمى قراباغ "بفتح القاف والراء والباء الموحدة والغين المعجمة". وهو ما بين السلطانية وتبريز فأكرم نزلهم وأعطى مهنا

عراق العرب وأعطى قراسنقور مدينة مراغة من عراق العجم وتسمى دمشق الصغيرة وأعطى الأفرم همدان وأقاموا عنده مدة مات فيها الأفرم وعاد مهنا إلى الملك الناصر بعد مواثيق وعهود أخذها منه وبقي قراسنقور على حاله وكان الملك الناصر يبعث له الفداوية مرة بعد مرة فمنهم من يدخل عليه داره فيقتل دونه ومنهم من يرمي بنفسه عليه وهو راكب فيضربه وقتل بسببه من الفداوية جماعة وكان لا يفارق الدرع أبدا ولا ينام إلا في بيت العود والحديد فلما مات السلطان محمد وولى ابنه أبو سعيد وقع ما سنذكره من أمر الجوبان كبير أمرائه وفرار ولده الدمرطاش إلى الملك الناصر ووقعت المراسلة بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واتفقا على أن يبعث أبو سعيد إلى الملك الناصر برأس قراسنقور ويبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش فبعث الملك الناصر برأس الدمرطاش إلى أبي سعيد فلما وصله أمر بحمل قراسنقور إليه فلما عرف قراسنقور بذلك أخذ خاتما كان له مجوفا في داخله سم ناقع فنزع فصه وامتص ذلك السم فمات لحينه فعرف أبو سعيد بذلك الملك الناصر ولم يبعث له برأسه. ثم سافرت من حصون الفداوية إلى مدينة جبلة وهي ذات أنهار مطردة وأشجار البحر على نحو ميل منها وبها قبر الولي الصالح الشهير إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وهو الذي نبذ الملك وانقطع إلى الله تعالى حسبما شهر ذلك ولم يكن إبراهيم من بيت ملك كما يظنه الناس إنما ورث الملك عن جده أبي أمه وأما أبوه أدهم فكان من الفقراء الصالحين السائحين المتعبدين الورعين المنقطعين. وحكي أن أدهم مر ذات يوم ببساتين مدينة بخارى وتوضأ من بعض الأنهار التي يتحللها فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر فقال هذه لا خطر لها فأكلها ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس فعزم على أن يستحل من صاحب البستان فقرع باب البستان فخرجت إليه جارية فقال ادعي لي صاحب المنزل فقالت إنه لامرأة فقال استأذني لي عليها ففعلت فأخبر المرأة بخبر التفاحة فقالت له أن هذا البستان نصفه لي ونصفه للسلطان والسلطان يومئذ ببلخ وهي على مسيرة عشرة من بخارى وأحلته المرأة من نصفها وذهب إلى بلخ فاعترض السلطان في موكبه فأخبره الخبر واستحله فأمره أن يعود إليه من الغد وكان للسلطان بنت بارعة الجمال قد خطبها أبناء الملوك فتمنعت وحببت

إليها العبادة وحب الصالحين وهي تحب أن تتزوج من ورع زاهد في الدنيا فلما عاد السلطان إلى منزله أخبر ابنته بخبر أدهم وقال ما رأيت أورع من هذا يأتي من بخارى إلى بلخ لأجل نصف تفاحة فرغبت في تزوجه فلما أتاه من الغد قال لا أحلك إلا أن تتزوج ببنتي فانقاد لذلك بعد استعصاء وتمنع فتزوج منها فلما دخل عليها وجدها متزينة والبيت مزينة بالفرش وسواها فعمد إلى ناحية من البيت وأقبل على صلاته حتى أصبح ولم يزل كذلك سبع ليال وكان السلطان ما أحله قبل فبعث إليه أن يحله فقال لا أحلك حتى يقع اجتماعك بزوجتك فلما كان الليل واقعها ثم اغتسل وقام إلى الصلاة فصاح صيحة وسجد في مصلاه فوجد ميتا رحمه الله وحملت منه فولدت إبراهيم ولم يكن لجده ولد فأسند الملك إليه وكان من تخليه عن الملك ما اشتهر وعلى قبر إبراهيم بن أدهم زاوية حسنة فيها بركة ماء وبها الطعام للصادر والوارد وخادمها إبراهيم الجمحي من كبار الصالحين والناس يقصدون هذه الزاوية ليلة النصف من شعبان من سائر أقطار الشام ويقيمون بها ثلاثا ويقوم بها خارج المدينة سوق عظيم فيه من كل شيء ويقدم الفقراء المتجردون من الآفاق لحضور هذا الموسم وكل من يأتي من الزوار لهذه التربة يعطي لخادمها شمعة فيجتمع من ذلك قناطير كثيرة. وأكثر أهل هذه السواحل هم الطائفة النصيرية الذين يعتقدون أن علي بن أبي طالب إله وهم لا يصلون ولا يتطهرون ولا يصومون وكان الملك الظاهر ألزمهم ببناء المساجد بقراهم فبنوا بكل قرية مسجدا بعيدا عن العمارة ولا يدخلونه ولا يعمرونه وربما أوت اليه مواشيهم ودوابهم وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد ويؤذن إلى الصلاة فيقولون لا تنهق علفك يأتيك وعددهم كثير. وبلغني أن رجلاً مجهولاً وقع ببلاد هذه الطائفة فادعى الهداية وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك البلاد وقسم بينهم بلاد الشام وكان يعين لهم البلاد ويأمرهم بالخروج إليها ويعطيهم من ورق الزيتون ويقول لهم استظهروا بها فإنها كالأوامر لكم فإذا خرج أحدهم إلى بلد أحضره أمير ها فيقول له أن الإمام المهدي أعطاني هذا البلد فيقول له أين الأمر فيخرج ورق الزيتون فيضرب ويحبس ثم إنه أمرهم بالتجهيز لقتال المسلمين وأن يبدأوا بمدينة جبلة وأمرهم أن يأخذوا عوض السيوف قضبان آلاس ووعدهم أنها تصير في أيديهم سيوفاً

عند القتال فغدروا مدينة جبلة وأهلها في صلاة الجمعة فدخلوا الدور وهتكوا الحريم وثار المسلمون من مسجدهم فأخذوا السلاح وقتلوا كيف شاءوا واتصل الخبر باللاذقية فأقبل أمير ها بهادر عبد الله بعساكره وطيرت الحمام إلى طرابلس فأتى أمير الأمراء بعساكره وتبعوهم حتى قتلوا منهم نحو عشرين ألفا وتحصن الباقون بالجبال وراسلوا ملك الأمراء والتزموا أن يعطوه دينارا عن كل رأس أن هو حاول إبقاءهم وكان الخبر قد طير به الحمام إلى الملك الناصر وصدر جوابه أن يحمل عليهم السيف فراجعه ملك الأمراء وألقى له أنهم عمال المسلمين في حراثة الأرض وأنهم أن قتلوا ضعف المسلمون لذلك فأمر بالإبقاء عليهم من اللاذقية إلى دمشق. ثم سافرت إلى مدينة اللاذقية وهي مدينة عتيقة على ساحل البحر يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا وكنت إنما قصدتها لزيارة الولي الصالح عبد المحسن الإسكندري فلما وصلتها وجدته غائبا بالحجاز الشريف فلقيت من أصحابه الشيخين الصالحين سعيد البجائي ويحيى السلاوي وهما بمسجد علاء الدين البهاء أحد فضلاء الشام وكبرائها وصاحب الصدقات والمكارم وكان قد عمر لهما زاوية بقرب المسجد وجعل بها الطعام للوارد والصادر وقاضيها الفقيه الفاضل جلال الدين عبد الحق المصري المالكي فاضل كريم تعلق بطيلان ملك الأمراء فولاه قضاءها. وكان باللاذقية وجعل يعرف بابن المؤيد هجّاء لا يسلم أحد من لسانه متهم في دينه مستخف يتكلم بالقبائح من الإلحاد فعرضت له حاجة عند طيلان ملك الأمراء فلم يقضها له فقصد مصر وتقول أمورا شنيعة وعاد إلى اللاذقية فكتب طيلان إلى القاضي جلال الدين أن يتحيل في قتله بوجه شرعي فدعاه القاضي إلى منزله وباحثه واستخرج كامن إلحاده فتكلم بعظائم أيسرها يوجب القتل وقد أعد القاضي الشهود خلف الحجاب ليكتبوا عقداً بمقاله وثبت عند القاضي وسجن وأعلم ملك الأمراء بقضيته ثم أخرج من السجن وخنق على بابه ثم لم يلبث ملك الأمراء طيلان أن عزل عن طرابلس ووليها الحاج قرطية من كبار الأمراء وممن تقدمت له فيها الولاية وبينه وبين طيلان عداوة فجعل يتتبع سقطاته وقام لديه أخوة ابن المؤيد شاكين جلال الدين القاضي فأمر به وبالشهود الذين شهدوا على ابن المؤيد فأحضروا وأمر بخنقهم،

وأخرجوا إلى ظاهر المدينة حيث يخنق الناس وأجلس كل واحد تحت مخنقة ونزعت عمائمهم ومن عادة أمراء تلك البلاد أنه متى أمر أحدهم بقتل أحد الناس يمر الحاكم من مجلس الأمير سابقا على فرس إلى حيث المأمور بقتله ثم يعود إلى الأمير فيكرر استئذانه يفعل ذلك ثلاثا فإذا كان بعد الثلاث أنفذ الأمر فلما فعل الحاكم ذلك قامت الأمراء في المرة الثالثة وكشفوا رؤوسهم وقالوا أيها الأمير هذه سبة في الإسلام يقتل القاضي والشهود فقبل الأمير شفاعتهم وخلى سبيلهم وبخارج اللاذقية الدير المعروف بدير الفاروص وهو أعظم دير بالشام ومصر يسكنه الرهبان ويقصده النصارى من الآفاق وكل من نزل به من المسلمين فالنصارى يضيفونه وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل البكر وميناء هذه المدينة عليها سلسلة بين برجين يدخلها أحد ولا يخرج منها حتى تحط له السلسلة وهي من أحسن المراسي بالشام. ثم سافرت إلى حصن المرقب وهو من الحصون العظيمة يماثل حصن الكرك وبناؤه على جبل شامخ وخارجه ربض ينزله الغرباء ولا يدخلون قلعته وافتتحه من يد الروم الملك المنصور قلاوون وعليه ولد ابنه الملك الناصر وكان قاضيه برهان الدين المصري من أفاضل القضاة وكرمائهم ثم سافرت إلى الجبل الأقرع وهو أعلى جبل بالشام وأول مايظهر منها من البحر وسكانه التركمان وفيه العيون والأنهار، وسافرت منه إلى جبل لبنان وهو من أخصب جبال الدنيا فيه أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال الوافرة ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصلحين وهو شهير بذلك ورأيت به جماعة من والصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر اسمه. وأخبرني بعض الصالحين الذين لتقيتهم به قال: كنا بهذا الجبل مع جماعة من الفقراء أيام البرد الشديد فأوقدنا نارا عظيمة وأحدقنا بها وبعض الحاضرين يصلح لهذه النار ما يشوي فيها فقال أحد الفقراء ممن تزدريه الأعين ولا يعبأ به أني كنت عند صلاة العصر بمتعبد إبراهيم بن أدهم فرأيت منه حمار وحش قد أحدق الثلج به من كل جانب وأظنه لا يقدر على الحرك فلو ذهبتم إليه لقدرتم عليه وشويتم لحمه في هذه النار قال فقمنا إليه في خمسة رجال فلقيناه كما وصف لنا فقبضناه وأتينا به أصحابنا وذبحناه وشوينا لحمه في تلك النار وطلبنا الفقير الذي نبه عليه فلم نجده ولا

وقعنا له على أثر، فطال عجبنا منه. ثم وصلنا من جبل لبنان إلى مدينة بعلبك وهي حسنة قديمة من أطيب مدن الشام تحدق بها البساتين الشريفة والجنات المنيفة وتخترق أرضها الأنهار الجارية وتضاهي دمشق في خيراتها المتناهية وبها من حب الملوك1 ما ليس في سواها وبها يصنع الدبس المنسوب إليها وهو نوع من المربى يصنعونه من العنب ولهم تربة يضعونها فيه فيجمد وتكسرالقلة التي يكون بها فيبقى قطعة واحدة وتصنع منه الحلواء ويجعل فيها الفستق واللوز ويسمونها حلواء بالملبن ويسمونها أيضا بجلد الفرس وهي كثيرة الألبان وتجلب منها إلى دمشق وبينهما مسيرة يوم للمجد وأما الرفاق فيخرجون من بعلبك فيبيتون ببلدة صغيرة تعرف بالزبداني كثيرة الفواكه ويغدون منها إلى دمشق ويصنع ببعلبك الثياب المنسوبة إليها من الإحرام وغيره ويصنع بها أواني الخشب وملاعقه التي لا نظير لها في البلاد وهم يسمون الصحاف بالدسوت وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صفحة أخرى توضع في جوفها وأخرى في جوفها إلى أن يبلغون العشرة يخيل لرائيها أنها صحفة واحدة وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرة واحدة في جوف واحدة ويصنعون لها غشاء من جلد ويمسكها الرجل في حزامه وإذا حضر طعاما مع أصحابه أخرج ذلك فيظن رائيه أنها ملعقة واحدة ثم يخرج من جوفها تسعة وكان دخولي لبعلبك عشية النهار وخرجت منها بالغد لفرط اشتياقي إلى دمشق. وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة الشام فنزلت منها بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسنا وتقدمها جمالا وكل وصف وإن طال فهو قاصر عن محاسنها ولا أبدع مما قاله أبو الحسن ابن جبير رحمه الله تعالى في ذكرها قال: وأما دمشق فهي جنة المشرق ومطلع نورها المشرق وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها2، وعروس المدن التي اجتلبناها قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين وحلت موضع الحسن بالمكان المكين وتزينت في منصتها أجمل تزيين وتشرفت بأن آوى المسيح عليه السلام وأمه إلى ربوة منها ذات قرار

_ 1 ثمار الكرز. 2 تتبعناها لمعرفة خواصها ومزاياها.

ومعين1 وظل ظليل وماء سلسبيل: تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل تتبرج لناظرها بمجتلى صقيل وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل وقد سئمت أرضها كثر الماء حتى اشتاقت إلى الظمأ فتكاد تناديك بها الصم والصلاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر والأكمام بالثمر وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر وكل موضع لحظت بجوانبها الأربع نضرته اليانعة قيد البصر ولله صدق القائلين عنها أن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها وإن كانت في السماء تساميها وتحاذيه. قال ابن جزي: وقد نظم بعض شعرائها في هذا المعنى فقال: إن تكن جنة الخلود بأرض ... فدمشق ولا تكون سواها أو تكن في السماء فهي عليها ... قد أبت هواءها وهواها بلد طيب ورب غفور ... فاغتنمها عشية وضحاها وذكر شيخنا المحدث الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي آشي نزيل تونس ونص كلام ابن جبير ثم قال ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد وتتوق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد هذا وإن تكن له بها إقامة فيعرب عنها بحقيبة وعلامة ولا وصف ذهبيات أصيلها وقد حان من الشمس غروبها ولا أزمان جفولها المنوعات ولا أوقات شرورها المنبهات وقد اختص من قال: ألقيتها كما تصف الألسن. وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. قال ابن جزي: والذي قالته الشعراء في وصف محاسن دمشق لا يحصر كثرة. وكان والدي رحمه الله كثيراً ما ينشد في وصفها هذه الأبيات، وهي لشرف الدين بن محسن رحمه الله تعالى: دمشق بنا شوق إليها مبرح ... وإن لجّ واشٍ أو ألحّ عَذولُ بلادٌ بها الحصباء دُرٌّ وتربها ... عبيرٌ وأنفاس الشمال شمولُ تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصحّ نسيم الروض وهو عليل

_ 1 القول بأن دمشق هي الربوة ذات القرار والمعين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة "المؤمنون" في الآية رقم 50 هو أحد أقوال أربعة بقيتها أنها مصر أو الرملة أو بيت المقدس، وأظهر الأقوال وأرجحها هو الأخير.

وهذا من النمط العالي من الشعر. وقال فيها عرقلة الدمشقي الكلبي: الشام شامة وجنة الدنيا كما ... إنسان مقلتها الغضيضة جلّقُ من آسها لك جنة لا تنقضي ... ومن الشقيق جهنّم لا تحرق وقال أيضا فيها: أما دمشق فجنات مُعجَّلة ... للطالبين بها الوِلدان والحورُ ما صاح فيها على أوتاره قمرٌ ... إلا يغنّيه قُمريّ وشحرورُ يا حبّذا ودروع الماء تنسجها ... أناملُ الريح إلا أنها زُورُ وله فيها أشعار كثيرة سوى ذلك. وقال فيها أبو الوحش سبع بن خلق الأسدي: سقى دمشقَ الله غيثاً مُحسَناً ... من مستهلّ ديمة دهاقها مدينة ليس يُضاهي حُسنها ... في سائر الدنيا ولا آفاقها توَدُّ زَوراء العراق أنها ... منها ولا تُعزى إلى عراقها فأرضُها مثلُ السماء بهجة ... وزهرُها كالزُّهر في إشراقِها نسيمُ روضها متَى ما قَدْ سَرَى ... فَكَّ أخا الهموم من وَثاقها قد رتع الرَّبيع في ربوعها ... وسيقت الدنيا إلى أسواقها لا تسأم العيون والأنوف من ... رؤيتها يوماً ولا استنشاقها ومما يناسب هذا للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني فيها من قصيدة، وقد نسبت أيضاً لابن المنير: يا برقُ هل لك في احتمال تحيةٍ ... عَذُبَتْ فصارَتْ مثل مائك سَلسَلا باكِرْ دمشق بِمَشْق الحَيَا ... زهرَ الرياضِ مرصعاً ومكلَّلاً واجرر بجيرون ذيولَك واختصص ... مَغْنى تأزّر بالعلا وتسربلا حيث الحيا الربعي محلول الحيا ... والوابل الربعي مفري الكلا وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي الغرناطي المدعو نور الدين: دمشق منزلنا حيث النعيم بدا ... مكملاً وهو في الآفاق مختصرُ القصب راقصة والطير صادحة ... والزهر مرتفع والماء منحدر وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوج تستتر

وكل واد به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر وقال أيضا فيها: خَيّم بجلق بين الكأس والوترِ ... في جنة هي ملء السمع والبصرِ ومتّع الطرْفَ في مرأى محاسِنه ... وروّض الفكرَ بين الروض والنهر وانظرْ إلى ذهبيّات الأصيل بها ... واسمعْ إلى نغماتِ الطير في الشجرِ وقل لمن لام في لذاته بشراً ... دعني فإنك عندي سُوقة البشرِ وقال أيضا فيها: أما دمشق فجنّةٌ ... ينسى بها الوطنَ الغريبْ لله أيام السبوتِ ... بها ومنظرها العجيبْ انظر بعينك هل ترى ... إلا محباً أو حبيبْ في موطن غنّى الحمام ... به على رقص القضيب وغدَتْ أزاهرُ روضهِ ... تختالُ في فرح وطِيبْ وأهل دمشق لا يعلمون في يوم السبت عملاً، إنما يخرجون إلى المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار، بين البساتين النضيرة والمياة الجارية فيكونون بها يومهم إلى الليل، وقال طال بنا الكلام في محاسن دمشق فلنرجع إلى كلام الشيخ أبي عبد الله.

خبر جامع بني أمية الكبير

خبر جامع بني أمية الكبير: وهو أعظم مساجد الدنيا احتفالا وأتقنها صناعة وأبدعها حسنا وبهجة وكمالا ولا يعلم له نظير ولا يوجد له شبيه وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان ووجه إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يبعث إليه الصناع فبعث إليه اثني عشر ألف صانع وكان موضع المسجد كنيسة فلما افتتح المسلمون دمشق دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه من إحدى جهاتها بالسيف فانتهى إلى نصف الكنيسة ودخل أبو عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه من الجهة الغربية صلحاً فانتهى إلى نصف الكنيسة فصنع المسلمون من نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجدا وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد طلب من الروم أن يبيعوا له كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض فأبوا عليه فانتزعها من أيديهم وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يجن فذكروا ذلك للوليد فقال أنا أول من يجن في سبيل الله وأخذ الفأس وجعل يهدم بنفسه فلما رأى المسلمون ذلك تتابعوا على الهدم وأكذب الله زعم الروم وزين هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن وذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة وهي ثلاثمائة ذراع وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع وعدة شمسات الزجاج الملونة التي فيه أربع وسبعون وبلاطاته ثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة. وقد قامت على أربع وخمسين سارية وثماني أرجل حصية تتخللها وست أرجل مرخمة مرصعة بالرخام الملون قد صور فيها أشكال محاريب وسواها وهي تقل قبة الرصاص التي أمام المحراب المسماة بقبة النسر كأنهم شبهوا المسجد نسرا طائرا والقبة رأسه وهي من أعجب مباني الدنيا. ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد وتستدير بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية سعة كل بلاط منها عشر خطى وبها من السواري ثلاث

وثلاثون ومن الأرجل أربع عشرة وسعة الصحن مائة ذراع وهو من أجمل المناظر وأتمها حسنا وبها يجتمع أهل المدينة بالعشايا فمن قاريء ومحدث وذاهب ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة وإذا لقي أحد كبرائهم من الفقهاء وسواهم صاحبا له أسرع كل منهما نحو صاحبه وقبل رأسه. وفي هذا الصحن ثلاث من القباب إحداها في غربية وهي أكبرها وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين وهي قائمة على ثمان سوار من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقفة بالرصاص. ويقال أن مال الجامع كان يختزن بها وذكر لي أن فوائد مستغلات الجامع وجبايته نحو خمسة وعشرين ألف دينار ذهبا في كل سنة والقبة الثانية من شرقي الصحن على هيئة الأخرى إلا أنها أصغر منها قائمة على ثمان من سواري الرخام وتسمى قبة زين العابدين والقبة الثالثة في وسط الصحن وهي صغيرة مثمنة من رخام عجيب محكم الإلصاق قائمة على أربع سواري من الرخام الناصع وتحتها حديد في وسطه أنبوب نحاس يمج إلى علو فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين وهم يسمونه قفص الماء ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد بديع الوضع يسمى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويقابله من الجهة الغربية حيث يلتقي البلاطان الغربي والجوفي موضع يقال أن عائشة رضي الله عنها سمعت الحديث هنالك. وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الشام وتفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف الكريم وهنالك يحلف الناس غرماءهم ومن ادعوا عليه شيئا وعن يسار المقصورة محراب الصحابة ويذكر أهل التاريخ أنه أول محراب وضع في الإسلام وفيه يؤم المالكية وعن يمين المقصورة محراب الحنفية وفيه يؤم إمامهم ويليه محراب الحنابلة وفيه يؤم إمامهم. ولهذا المسجد ثلاث صوامع إحداها بشرقيه وهي من بناء الروم وبابها داخل المسجد وبأسفلها مطهرة وبيوت للوضوء يغتسل فيه المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضئون

والصومعة الثانية بغربية وهي من بناء الروم. والصومعة الثالثة بشماله وهي من بناء المسلمين وعدد المؤذنين به سبعون مؤذنا وفي شرقي المسجد صومعة كبيرة فيها صهريج ماء وهي لطائفة زيالعة السودان. وفي وسط المسجد قبر زكريا عليه السلام وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلم فيه مكتوب بالأبيض: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} 1. وهذا المسجد شهير الفضل وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قال يعبد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة". ويقال أن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود عليه السلام وأن قبره به وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار باليمن بموضع يقال له الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم. ومن فضائل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراء القرآن والصلاة إلا قليلا من الزمان كما سنذكر. والناس يجتمعون به إثر كل صلاة الصبح فيقرأون سبعا من القرآن ويجتمعون بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية يقرأون فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تجري لها وهم نحو ستمائة إنسان ويدور عليهم كاتب الغيبة فمن غاب منهم قطع له عند دفع المرتب بقدر غيبته وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه مقبلون على الصلاة والقراءة والذكر لا يفترون عن ذلك ويتوضئون من المطاهر التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم والملابس من غير أن يسألوهم شيئا من ذلك، وفي هذا المسجد أربعة أبواب باب قبلي يعرف بباب الزيادة وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد رضي الله عنه ولهذا الباب دهليز كبير متسع فيه حوانيت السقاطين وغيرهم ومنه يذهب إلى دار الخليل وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي من أحسن أسواق دمشق وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ودور قومه وكانت هذه السوق تسمى الخضراء فهدمها بنو العباس رضي الله عنهم وصار مكانها سوقا وباب شرقي

_ 1 مريم: 7.

وهو أعظم أبواب المسجد ويسمى بباب جيرون وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه وبإزائه مسجد صغير ينسب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وبه ماء جار وقد انتظمت أمام البلاط درج ينحدر فيها إلى الدهليز وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم. وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة. وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكان للشافعية وسائرها لأصحاب المذاهب يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول والعاقد للأنكحة من قبل القاضي وسائر الشهود مفترقون في المدينة وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين الذين يبيعون الكاغد والأقلام والمداد وفي الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير عليه قبة لا سقف لها تقلها أعمدة رخام وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يمج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان يسمونه الفوارة منظره عجيب وعن يمين الخارج من باب جيرون وهو باب الساعات غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طيقان صغار مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرا والظاهر الأصفر باطنا ويقال أن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مضي الساعات والباب الغربي يعرف بباب البريد وعن يمين الخارج منه مدرسة الشافعية وله دهليز فيه حوانيت للشماعين وسماط لبيع الفواكه وبأعلاه باب يصعد إليه في درج له أعمدة سامية في الهواء وتحت الدرج سقايتان عن يمين وشمال مستديرتان والباب الجوفي يعرف بباب النطفانيين وله دهليز عظيم وعن يمين الخارج منه خانقاه تعرف بالشميعانية في وسطها صهريج ماء ولها مظاهر يجري فيها الماء ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وعلى باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة بيت تجري فيها المياه الكثيرة.

أئمة المسجد الكبير: وأئمته ثلاثة عشر إماما أولهم الشافعية وكان في عهد دخولي إليها إمامهم قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني من كبار الفقهاء وهو الخطيب بالمسجد وسكناه بدار الخطابة ويخرج من باب الحديد إزاء المقصورة وهو الباب الذي كان يخرج منه معاوية وقد تولى جلال الدين بعد ذلك قضاء القضاة بالديار المصرية بعد أن أدى عنه الملك الناصر نحو مائة ألف درهم كانت دينا عليه بدمشق وإذا سلم إمام الشافعية من صلاته أقام الصلاة إمام مشهد علي ثم إمام مشهد الحسين ثم إمام مشهد الكلاسة ثم إمام مشهد أبي بكر ثم إمام مشهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين ثم إمام المالكية وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه أبو عمر بن الوليد بن الحاج التجيبي القرطبي الأصل الغرناطي المولد نزيل دمشق وهو يتناوب الإمامة مع أخيه رحمهما الله ثم إمام الحنفية وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه عماد الدين الحنفي المعروف بابن الرومي وهو من كبار الصوفية وله شياخة الخانقاه الخانوتية وله أيضا خانقاه بالشرف الأعلى ثم إمام الحنابلة وكان في ذلك العهد الشيخ عبد الله الكفيف أحد شيوخ القراء بدمشق ثم بعد هؤلاء خمسة أئمة لقضاء الفوائت فلا تزال الصلاة في هذا المسجد من أول النهار إلى ثلث الليل وكذلك قراءة القرآن وهذا من مفاخر الجامع المبارك.

حلقات الدرس والمشرفون عليها

حلقات الدرس والمشرفون عليها ... حلقات الدروس والمشرفون عليها ولهذا المسجد حلقات للتدريس في فنون العلم والمحدثون يقرؤون كتب الحديث على كراسي مرتفعة وقراء القرآن يقرؤون بالأصوات الحسنة صباحا ومساءا وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقن الصبيان ويقرئهم وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيها لكتاب الله تعالى وإنما يقرؤون القرآن تلقينا ومعلم الخط غير معلم القرآن يعلمهم بكتب الأشعار وسواها فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب وبذلك جاد خطه لأن المعلم للخط لا يعلم غيره ومن المدرسين بالمسجد المذكور العالم الصالح برهان الدين بن الفركاح الشافعي ومنهم العالم الصالح نور الدين أبو اليسر بن الصانع من المشتهرين بالفضل والصلاح ولما ولي القضاء بمصر جلال الدين القزويني وجه إلى أبي اليسر الخلعة والأمر بقضاء دمشق فامتنع من ذلك ومنهم الإمام العالم شهاب الدين ابن جهيل من كبار العلماء هرب من دمشق لما امتنع أبو اليسر من قضائها خوفا من أن يقلد القضاء فاتصل ذلك بالملك الناصر فولي قضاء دمشق شيخ الشيوخ بالديار المصرية قطب العارفين لسان المتكلمين علاء الدين القونوي وهو من كبار الفقهاء ومنهم الإمام الفاضل بدر الدين علي السخاوي رحمة الله عليهم أجمعين. مشاهير قضاة دمشق وفقهائها: قد ذكرنا قاضي القضاة الشافعي بها جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني وأما قاضي المالكية فهو شرف الدين خطيب الفيوم حسن الصورة والهيئة من كبار الرؤساء وهو شيخ شيوخ الصوفية والنائب عنه في القضاء شمس الدين بن القفصي ومجلس حكمه بالمدرسة الصمصامية وأما قاضي قضاة الحنفية فهو عماد الدين الحوراني وكان شديد السطوة وإليه تحاكم النساء وأزواجهن. وكان الرجل إذا سمع اسم القاضي الحنفي أنصف من نفسه قبل

الوصول إليه وأما قاضي الحنابلة فهو الإمام الصالح عز الدين بن مسلم من خيار القضاة ينصرف على حمار له ومات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توجه للحجاز الشريف. وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم ويعظهم على المنبر وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال أن هذا الرجل قال كذا وكذا وعدد ما أنكر على ابن تيمية وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة وقال قاضي القضاة لابن تيمية ما تقول؟ قال لا إله إلا الله فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواما. وصنف في السجن كتاب في تفسير القرآن سماه البحر المحيط في نحو أربعين مجلداً ثم أن أمه تعرضت للملك الناصر وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه ذلك ثانية وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة1 وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال أن الله ينزل من سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزاهراء وأنكر ما تكلم به فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيرا حتى سقطت عمامته وظهر على رأسه شاشية حرير فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز وكان من خيار الأمراء وصلحائهم فكتب إلى الملك

_ 1 يظهر من خلال كلام ابن بطوطة تحامله الشديد على شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وتضاربه في كلامه، فبينما يصفه بأنّه من كبار فقهاء الحنابلة يقول: إلاّ أن في عقله شيئاً، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، فكيف يتفق أن يكون من كبار الفقهاء الحنابلة وموضع تعظيم أهل دمشق مع أن في عقله شيئاً؟ ثم إنّه برغم أنه حضره يوم الجمعة يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم وأن من جملة كلامه: أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، يزعم هذا رغم أنّه لم يصل إلى دمشق إلاّ في يوم الخميس تاسع رمضان، وابن تيمية اعتقل وسجن بقلعة دمشق – باتفاق المؤرّخين – في يوم الاثنين سادس عشر شعبان. جنبنا الله الزلل.

الناصر بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبا لا يقصر الصلاة وسوى ذلك ما يشبهه وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة فسجن بها حتى مات في السجن. مدارس دمشق: اعلم أن للشافعية بدمشق جملة من المدارس أعظمها العادلية وبها يحكم قاضي القضاة وتقابلها المدرسة الظاهرية وبها قبر الملك الظاهر وبها جلوس نواب القاضي ومن نوابه فخر الدين القبطي وكان والده من كتاب القبط وأسلم ومنهم جمال الدين بن جملة وقد تولى قضاء قضاة الشافعية بعد ذلك وعزل لأمر أوجب عزله. وكان بدمشق الشيخ الصالح ظهير الدين العجمي وكان سيف الدين تنكيز ملك المراء يتلمذ له ويعظمه فحضر يوما بدار العدل عند ملك الأمراء وحضر القضاة الأربعة فحكى قاضي القضاة جمال الدين بن جملة حكاية فقال له ظهير الدين كذبت فأنف القاضي من ذلك وامتعض له فقال للأمير كيف يكذبني بحضرتك؟ فقال له الأمير احكم عليه وسلمه إليه وظنه أنه يرضى بذلك فلا يناله بسوء فأحضره القاضي بالمدرسة العادلية وضربه مائتي سوط وطيف به على حمار في مدينة دمشق ومناد ينادي عليه فمتى فرغ من ندائه ضربه على ظهره ضربة وهكذا العادة عندهم فبلغ ذلك ملك الأمراء فأنكره أشد الإنكار وأحضر القضاة والفقهاء فأجمعوا على خطأ القاضي وحكمه بغير مذهبه فإن التعزير عند الشافعي لا يبلغ به الحد وقال قاضي المالكية شرف الدين قد حكمت بتفسيقه فكتب إلى الملك الناصر بذلك فعزله. وللحنفية مدارس كثيرة وأكبرها مدرسة السلطان نور الدين وبها يحكم قاضي الحنفية. وللمالكية بدمشق ثلاث مدارس إحداها الصمصامية وبها سكن قاضي قضاة المالكية وقعوده للأحكام والمدرسة النورية عمرها السلطان نور الدين محمود بن زنكي والمدرسة الشرابشي التاجر، وللحنابلة مدارس كثيرة أعظمها النجمية.

أبواب دمشق: ولمدينة دمشق ثمانية أبواب منها باب الفراديس ومنها باب الجابية ومنها الباب الصغير، وفيما بين هذين البابين مقبرة فيها العدد الجم من الصحابة والشهداء، فمن بعدهم. قال محمد بن جزي: لقد أحسن بعض المتأخرين من أهل دمشق في قوله: دمشق في أوصافها ... جنة خلد راضيه أما ترى أبوابها ... قد جعلت ثمانية. بعض المشاهد والمزارات في دمشق: فمنها بالمقبرة التي بين باب الجابية والباب الصغير قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين وقبر أخيها أمير المؤمنين معاوية وقبر بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين وقبر أويس القرني وقبر كعب الأحبار وضي الله عنهما ووجدت في كتاب المعلم في شرح صحيح مسلم للقرطبي أن جماعة من الصحابة صحبهم أويس القرني من المدينة إلى الشام فتوفي في أثناء الطريق في برية لا عمارة فيها ولا ماء فتحيروا في أمره فنزلوا فوجدوا حنوطا وكفنا وماء فعجبوا من ذلك وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه ثم ركبوا فقال بعضم كيف نترك قبره بغير علامة فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أثر. قال ابن جزي: ويقال: أن أويساً قتل بصفّين مع علي عليه السلام، وهو الأصح أن شاء الله ويلي باب الجابية باب شرقي عنده جباية فيها قبر أبي كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها قبر العابد الصالح أرسلان المعروف بالباز الأشهب. ويحكى أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة ويقال أن كل واحد منهما كان يسلم على صحبه صباحا ومساء فيرد عليه الآخر وكانت للشيخ أحمد نخيلات عند زاويته فلما كان في إحدى السنين جذها على عادته وترك عذقا منها وقال هذا برسم أخي شعيب فحج الشيخ أبو مدين تلك السنة واجتمعا بالموقف الكريم بعرفة ومع الشيخ أحمد خديمه أرسلان فتفاوضا الكلام. وحكى الشيخ حكاية العذق فقال له

أرسلان عن أمرك يا سيدي آتيه به. فأذن له. فذهب من حينه وأتاه به ووضعه بين أيديهما فأخبر أهل الزاوية أنهم رأوا عشية يوم عرفة بازا أشهب قد انقض على النخلة فقطع ذلك العذق وذهب به في الهواء. وبغربي دمشق جبانة تعرف بقبور الشهداء فيها قبر أبي الدرداء وزوجه أم الدرداء وقبر فضالة بن عبيد وقبر واثلة بن الأسقع وقبر سهل بن حنظلة من الذين بايعوا تحت الشجرة رضي الله عنهم أجمعين. وبقرية تعرف بالمنيحة شرقي دمشق وعلى أربعة أميال منها قبر سعد بن عبادة رضي الله عنه وعليه مسجد صغير حسن البناء وعلى رأسه حجر مكتوب هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً. وبقرية قبلي البلد وعلى فرسخ منها مشهد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة عليهم السلام ويقال أن اسمها زينب وكناها النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم لشبهها بخالتها أم كلثوم بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه مسجد كبير وحوله مساكن وله أوقاف ويسميه أهل دمشق قبر الست أم كلثوم وقبر آخر يقال أنه قبر سكينة بنت الحسين بن علي عليه السلام. وبجامع النيرب من قرى دمشق في بيت بشرقية قبر يقال أنه قبر أم مريم عليها السلام، وبقرية تعرف بداريا غرب البلد وعلى أربعة أميال منها قبر أبي مسلم الخولاني وقبر أبي سليمان الداراني رضي الله عنهما، ومن مشاهد دمشق الشهيرة البركة مسجد الأقدام وهو في قبلي دمشق على ميلين منها على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى الحجاز الشريف وبيت المقدس وديار مصر وهو مسجد عظيم كثير البركة وله أوقاف كثيرة ويعظمه أهل دمشق تعظيما شديدا والأقدام التي ينسب إليها هي أقدام مصورة في حجر هناك يقال إنها أثر قدم موسى عليه السلام وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه كان بعض الصالحين يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم فيقول له ها هنا قبر أخي موسى عليه السلام وبمقربة من هذا المسجد موضع يعرف بالكثيب الأخضر وبمقربة من بيت المقدس وأريحا موضع يعرف بالكثيب الأحمر تعظمه اليهود. وحين نزل الطاعون الأعظم بدمشق في أواخر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين شاهدت من تعظيم أهل دمشق لهذا المسجد ما يعجب منه وهو أن ملك الأمراء نائب السلطان أرغون شاه أمر مناديا ينادي بدمشق أن يصوم الناس ثلاثة أيام ويطبخون بالسوق فصام الناس ثلاثة أيام متوالية كان آخرها يوم الخميس ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في

الجامع حتى غص بهم وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصل وذاكر وداع ثم صلوا الصبح وخرجوا جميعا على أقدامهم وبأيديهم المصاحف والأمراء حفاة وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا صغارا وكبارا وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم ومعهم النساء والولدان وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه وقصدوا مسجد الإقدام وأقاموا به في تضرعهم إلى قرب الزوال وعادوا إلى البلد وصلوا الجمعة وخفف الله تعالى عنهم بعد ما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد وقد انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى أربعة وعشرين ألفا في يوم واحد. وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما ورد في صحيح مسلم. أرباض دمشق: وتدور بدمشق من جهاتها ما عدا الشرقية أرباض فسيحة الساحات دواخلها أملح من داخل دمشق لأجل الضيق الذي في سككها وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية وهي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه وفيها مسجد جامع ومارستان وبها مدرسة تعرف بمدرسة ابن عمر موقوفة على من أراد أن يتعلم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول وتجري لهم ولمن يعلمهم كفايتهم من المآكل والملابس. وبداخل البلد أيضا مدرسة مثل هذه تعرف بمدرسة ابن منجا وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. جبل قاسيون ومشاهده المباركة: وقاسيون: جبل في شمال دمشق والصالحية في سفحه وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام ومن مشاهده الكريمة الغار الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام وهو غار مستطيل ضيق عليه مسجد كبير وله صومعة عالية ومن ذلك الغار رأى الكواكب والقمر والشمس حسبما ورد في الكتاب العزيز وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه وقد رأيت ببلاد العراق قرية تعرف بِبُرْص "بضم الباء الموحدة وآخرها صاد مهمل"، ما بين الحلة وبغداد يقال: أن إبراهيم عليه السلام كان بها وهي بمقربة من بلد ذي الكفل عليه

السلام وبها قبره ومن مشاهده بالغرب منه مغارة الدم وفوقها بالجبل دم هابيل بن آدم عليه السلام وقد أبقى الله منه في الحجارة أثراً محمراً وهو الموضع الذي قتله أخوه به وأجتره إلى المغارة ويذكر أن تلك المغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ولوط صلى الله عليهم أجمعين وعليها مسجد متقن البناء يصعد إليه على درج وفيه بيوت ومرافق للسكنى ويفتح في كل يوم اثنين وخميس والشمع والسرج توقد بالمغارة ومنها كهف بأعلى الجبل ينسب لآدم عليه السلام وعليه بناء وأسفل منه مغارة تعرف بمغارة الجوع يذكر أنه أوى إليها سبعون من الأنبياء عليهم السلام وكان عندهم رغيف فلم يزل يدور عليهم وكل منهم يؤثر صاحبه به حتى ماتوا جميعا صلى الله عليهم وعلى هذه المغارة مسجد مبني والسرج توجد فيه ليلاً ونهاراً ولكل مسجد من هذه المساجد أوقاف كثيرة معينة ويذكر أن فيما بين باب الفراديس وجامع قاسيون مدفن سبعمائة نبي وبعضهم يقول سبعين ألفا وخارج المدينة المقبرة العتيقة وهي مدفن الأنبياء والصالحين وفي طرفها مما يلي البساتين أرض منخفضة غلب عليها الماء يقال أنها مدفن سبعين نبيا وقد عادت قرارا للماء ونزهت من أن يدفن فيها أحد1. وفي آخر جبل قاسيون الربوة المباركة في كتاب الله ذات القرار المعين ومأوى المسيح عيسى وأمه عليهما السلام وهي من أجمل مناظر الدنيا ومنتزهاتها وبها القصور المشيدة والمباني الشريفة والبساتين البديعة والمأوى المبارك مغارة صغيرة في وسطها كالبيت الصغير وإزاءها بيت يقال أنه مصلى الخضر عليه السلام يبادر الناس إلى الصلاة فيها وللمأوى باب حديد صغير والمسجد يدور به وله شوارع دائرة وساقيه حسنة ينزل لها الماء من علو

_ 1 لا أدري كيف انساق ابن بطوطة وراء الخرفات والأكاذيب التي تتناقلها العوام عن دمشق، وذكر ما يزعمون من ولادة إبراهيم الخليل عليه السلام فيها ومولده بالعراق لا في دمشق وذكر كذلك ما يزعمون من كهف آدم، ومغارة الدم وصلاة عدد من الأنبياء فيها: ومدفن الآلاف الكثيرة من الأنبياء في جامع قاسيون، أن مكة أحب بلاد الله إلى الله ورسوله ليس لها من المناقب وليس بها من المشاهد ما زعموه في دمشق، وكان عليه ألاّ يكون حاطب ليلٍ يجمع ويسجل كل ما يصل إلى سمعه، كان عليه أن يمحص وينقد، ويستخدم فكره قبل إيراد ما أورده.

وينصب في شاذروان في الجدار يتصل بحوض من رخام ويقع فيه الماء ولا نظير له في الحسن وغرابة الشكل وبقرب ذلك مطاهر للوضوء يجري فيها الماء وهذه الربوة المباركة هي رأس بساتين دمشق وبها منابع مياهها وينقسم الماء الخارج منها على سبعة أنهار كل نهر أخذ في جهة ويعرف ذلك الموضع بالمقاسم وأكبر هذه الأنهار النهر المسمى بتورة وهو يشق تحت الربوة وقد نحت له مجرى في الحجر الصلد كالغار الكبير وربما انغمس ذو الجسارة من العوامين في النهر من أعلى الربوة واندفع في الماء حتى يشق مجراه ويخرج من أسفل الربوة وهي مخاطرة عظيمة وهذه الربوة تشرف على البساتين الدائرة بالبلد ولها من الحسن واتساع مسرح الأبصار ما ليس لسواها وتلك الأنهار السبعة تذهب في طرق شتى فتحار الأعين في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاعها وانصبابها وجمال الربوة وحسنها التام أعظم من أن يحيط به الوصف ولها الأوقاف الكثيرة من المزارع والبساتين والرباع تقام منها وظائفها للإمام والمؤذن والصادر والوارد وبأسفل الربوة قرية النيرب وقد تكاثرت بساتينها وتكاثفت ظلالها وتدانت أشجارها فلا يظهر من بنائها إلا ما سما ارتفاعه ولها حمام مليح ولها جامع بديع مفروش صحنه بفصوص الرخام وفيه سقاية رائعة الحسن ومطهرة فيها بيوت عدة يجري فيها الماء وفي القبلي من هذه القرية قرية المزة وتعرف بمزة كلب نسبة إلى قبيلة كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكانت إقطاعاً لهم وإليها ينسب الإمام حافظ الدنيا جمال الدين يوسف بن الزّي الكلبي المزي وكثير سواه من العلماء وهي من أعظم قرى دمشق بها جامع كبير عجيب وسقاية معينة وأكثر قرى دمشق فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق وسكانها كأهل الحاضرة في مناحيهم وفي شرقي البلد قرية تعرف ببيت الأحبة وكانت فيها كنيسة يقال أن آزر كان يجلب فيها الأصنام فيكسرها الخليل عليه السلام وهي الآن مسجد جامع بديع مزين بفصوص الرخام الملونة بأعجب نظام وأزين التئام أخبار الأوقاف بدمشق وبعض فضائل أهلها وعوائدهم: والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها فمنها أوقاف على العاجزين على الحج يعطي لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على

تجهيز البنات إلى أزواجهن وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن ومنها أوقاف لفكاك الأسارى ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ويمر الركبان بين ذلك ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير. مررت يوما ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكا صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني وهم يسمونها الصحن فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم اجمع شققها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بد له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره وهو أيضا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرا للقلوب جزى الله خيرا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا. وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد وهم يحسنون الظن بالمغاربة ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة أو ملازمة مسجد يجبيء إليه فيه رزقه أو قراءة القرآن أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق تجري له النفقة والكسوة فمن كان بها غريبا على خير لم يزل مصونا عن بذل وجهه ومحفوظا عما يزري بالمروءة ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر من حراسة بستان أو أمانة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الإعانة التامة على ذلك. ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة فمن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده ومن كان من التجار وكبار السوقة1 صنع مثل ذلك ومن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل واحد بما عنده فيفطرون جميعاً. ولما وردت دمشق وقعت بيني وبين نور الدين السخاوي مدرس المالكية صحبة

_ 1 المراد بالسوقة هنا: العاملون في الأسواق: وليس الرعاع كما يتبادر إلى الذهن.

فرغب أن أفطر عنده في ليالي رمضان فحضرت عنده أربع ليالي ثم أصابتني الحمى فغبت عنه فبعث في طلبي فاعتذرت بالمرض فلم يسعني عذرا1 فرجعت إليه وبت عنده فلما أردت الإنصراف بالغد منعني من ذلك وقال لي احسب داري كأنها دارك أو دار أبيك أو أخيك وأمر بإحضار طبيب وأن يصنع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء أو غذاء وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد وحضرت المصلى وشفاني الله مما أصابني. وقد كان ما عندي من النفقة نفد فعلم بذلك فاكترى لي جمالا وأعطاني الزاد وسواه وزادني دراهم وقال لي تكون لما عسى أن يعتريك من أمر مهم جزاه الله خيرا، وكان بدمشق فاضل من كتاب الملك الناصر يسمى عماد الدين القيصراني من عاداته أنه متى سمع أن مغربيا وصل إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه فإن عرف منه الدين والفضل أمره بملازمته وكان يلازمه منهم جماعة وعلى هذه الطريقة أيضا كاتب السر الفاضل علاء الدين بن غانم وجماعة غيره. وكان بها فاضل من كبرائها وهو الصاحب عز الدين القلانسي له مآثر ومكارم وفضائل وإيثار وهو ذو مال عريض وذكروا أن الملك الناصر لما قدم دمشق أضافه وجميع أهل دولته ومماليكه وخواصه ثلاثة أيام فسماه إذ ذاك بالصاحب ومما يؤثر من فضائلهم أن أحد ملوكهم السالفين لما نزل به الموت أوصى أن يدفن بقبلة الجامع المكرم ويخفى قبره وعين أوقافا عظيمة لقراء يقرأون سبعا من القرآن الكريم في كل يوم إثر صلاة الصبح بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم حيث قبره فصارت قراءة القرآن على قبره لا تنقطع أبدا ًوبقي ذلك الرسم الجميل بعده مخلداً، ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة فيقفون بصحون المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها ويقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم داعين خاضعين خاشعين متلمسين البركة ويتوخون الساعة التي يقف فيها وفد الله تعالى وحجاج بيته بعرفات ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسل إلى الله تعالى لحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس فينفرون كما ينفر الحاج باكين على ما حرموه من ذلك الموقف الشريف بعرفات داعين إلى الله تعالى أن

_ 1 أي: لم يقبل اعتذاري.

يوصلهم إليها ولا يخيبهم من بركة القبول فيما فعلوه. ولهم أيضا في اتباع الجنائز رتبة عجيبة وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة والقراء يقرؤون القرآن بالأصوات الحسنة والتلاحين المبكية التي تكاد النفوس تطير لها رقة وهم يصلون على الجنائز بالمسجد الجامع قبالة المقصورة فإن كان الميت من أئمة الجامع أو مؤذنيه أو خدامه أدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه وإن كان من سواهم قطعوا القراءة عند باب المسجد وأدخلوا الجنازة وبعضهم يجتمع له بالبلاط الغربي من الصحن بمقربة من باب البريد فيجلسون وأمامهم ربعات القرآن يقرؤون فيها ويرفعون أصواتهم بالنداء لكل من يصل للعزاء من كبار البلدة وأعيانها ويقولون بسم الله فلان الدين من كمال وجمال وشمس وبدر وغير ذلك فإذا أتموا القراءة قام المؤذنون فيقولون افتكروا واعتبروا صلاتكم على فلان الرجل الصالح العالم ويصفونه بصفات من الخير ثم يصلون عليه ويذهبون به إلى مدفنه. ولأهل الهند رتبة عجيبة في الجنائز أيضا زائدة على ذلك وهي أنهم يجتمعون بروضة الميت صبيحة الثالث من دفنه وتفرش الروضة بالثياب الرفيعة ويكسى القبر بالأكسية الفاخرة وتوضع حوله الرياحين من الورد والنسرين والياسمين وذلك النوار لا ينقطع عندهم ويأتون بأشجار الليمون والأترج ويجعلون فيها حبوبها أن لم تكن فيها ويجعلون صيوان يظلل الناس نحوه ويأتي القضاة والأمراء ومن يماثلهم فيقعدون ويقابلهم القراء ويؤتى بالربعات الكرام فيأخذ كل واحد منهم جزءا فإذا تمت القراءة من القراء بالأصوات الحسان يدعو القاضي ويقوم قائمه ويخطب معدة لذلك ويذكر فيها الميت ويرثيه بأبيات شعر ويذكر أقاربه ويعزيهم ويذكر السلطان داعيا له وعند ذكر السلطان يقوم الناس ويحطون رؤوسهم إلى سمت الجهة التي بها السلطان ثم يقعد القاضي ويأتون بماء الورد فيصب على الناس صبا يبدأ بالقاضي ثم من يليه كذلك إلى أن يعم الناس أجمعين ثم يؤتى بأواني السكر وهو الجلاب محلولا بالماء فيسقون الناس منه ويبدؤون بالقاضي ومن يليه ثم يؤتى بالتنبول وهم يعظمونه مكرمون من يأتي لهم به فإذا أعطى السلطان أحداً منه فهو أعظم من إعطاء الذهب والخلع وإذا مات الميت لم يأكل أهله التنبول إلا في ذلك اليوم فيأخذ القاضي أو من يقوم مقامه أوراق منه فيعطيها لولي الميت فيأكلها وينصرفون حينئذ وسيأتي ذكر التنبول أن شاء الله تعالى.

خبر سماعي بدمشق ومن أجازني من أهلها: سمعت بجامع بني أمية عمره الله بذكره جميع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري رضي الله عنه على الشيخ المعمر رحالة الآفاق ملحق الأصاغر بالأكابر شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم بن حسن بن علي بن بيان الدين، مقريء الصالحي، المعروف بابن الشحنة الحجار في أربعة عشر مجلسا أو لها يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان المعظم سنة ست وعشرين وسبعمائة وآخرها يوم الإثنين الثامن والعشرين منه بقراءة الإمام الحافظ مؤرخ الشام علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي، الإشبيلي الأصل، الدمشقي، في جماعة كبيرة كتب أسماءهم محمد بن طغريل بن عبد الله بن غزال الصيرفي في سماع الشيخ أبي العباس الحجازي لجميع الكتاب من الشيخ الإمام سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمد بن يحيى بن علي بن المسيح بن عمران الربيعي البغدادي الزبيدي الحنبلي في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من سنة ثلاثين وستمائة بالجامع المظفري بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق وبإجازته في جميع الكتاب من الشيخين أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن الخلف القطيعي المؤرخ وعلي بن أبي بكر بن عبد الله بن رؤبة القلانسي العطار البغدادي ومن باب غيرة النساء ووجدهن، إلى آخر الكتاب من أبي المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن زيد الليثي الخزاعي البغدادي بسماع أربعتهم من الشيخ شديد الدين أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب بن إبراهيمم السجزي الهروي الصوفي في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ببغداد قال أخبرنا الإمام جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الدوادي قراءة عليه وأنا أسمع ببوشنج سنة خمس وستين وأربعمائة قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حوبة ابن يوسف بن أيمن السرخسي قراءة عليه وانا أسمع في صفر سنة إحدى وثمانين ثلاثمائه قال أخبرنا عبد الله بن يوسف بن مطر بن صالح بشر بن إبراهيم الفربري قراءة عليه وأنا أسمع سنة ست عشرة وثلاثمائة بفربر قال أخبرنا الإمام أبو عبد الله بن محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه سنة ثمان وأربعين ومائتين بفربر ومرة ثانية بعدها سنة ثلاث وخمسين. ومن

إجازتي من أهل دمشق إجازة الشيخ أبو العباس الحجار المذكور، سبق إلى ذلك وتلفظ - به ومنهم الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ومولده في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام الصالح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن النجدي. ومنهم إمام الأئمة جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزني الكلبي حافظ الحفاظ. ومنهم الإمام علاء الدين علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله الشافعي. والشيخ الإمام الشريف محيي الدين بن يحيى بن علي العلوي. ومنهم الشيخ الإمام المحدث مجد الدين القاسم بن عبد الله بن أبي عبد الله بن المعلي الدمشقي ومولده سنة أربع وخمسون وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندري. ومنهم الشيخ الإمام ولي الله تعالى شمس الدين بن عبد الله بن تمام. والشيخان الأخوان شمس الدين محمد وكمال الدين عبد الله ابنا إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي. والشيخ العابد شمس الدين محمد بن أبي الزهراء بن سالم الهكاري. والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم بن سلامة الحراني. والشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي. كل هؤلاء أجازني إجازة عامة في سنة ستة وعشرين بدمشق. ولما استهل شوال من السنة المذكورة خرج الركب الحجازي إلى خارج دمشق ونزلوا القرية المعروفة بالكسوة، فأخذت في الحركة معهم وكان أمير الركب سيف الدين الجوبان من كبار الأمراء وقاضيه شرف الدين الأذرعي الحوراني، وحج في تلك السنة مدرس المالكية صدر الدين العماري وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى العجارمة أمير هم محمد بن رافع كبير القدر في الأمراء وارتحلنا من الكسوة إلى قرية تعرف بالصنمين عظيمة ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة1 وهي صغيرة من بلاد حوران نزلنا بالقرب منها ثم ارتحلنا إلى مدينة بُصرى وهي صغيرة ومن عادة الركب أن يقيم بها أربعا ليلحق بهم من تخلف بدمشق لقضاء مآربه - وإلى بُصرى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث في تجارة خديجة، وبها مبرك ناقته قد بنى عليه مسجد عظيم،

_ 1 ذكر ياقوت في معجم البلدان أن اسمها: الزراعة، وأن موقعها بين حرّان وقلعة جعبر، وتعرف اليوم باسم أزرع، وهي جنوبي الصنمين تبعد عنها 15 ميلاً.

ويجتمع أهل حوران لهذه المدينة ويتزود الحاج منها ثم يرحلون إلى بركة زيرة "زيرا"1ويقيمون عليها يوماً، ثم يرحلون إلى اللجون وبها الماء الجاري، ثم يرحلون إلى حصن الكرك وهو من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى بحصن الغراب والوادي يطيف به من جميع جهاته وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في الحجر الصلد ومدخل دهليزه كذلك، وبهذا الحصن يتحصن الملوك وإليه يلجئون في النوائب وإليه لجأ الملك الناصر لأنه ولي الملك وهو صغير السن فاسولى على التدبير مملوكه سلار النائب عنه، فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج، ووافقه الأمراء على ذلك فتوجه إلى الحج فلما وصل عقبة إيلة لجأ إلى الحصن وأقام به أعواما إلى أن قصده أمراء الشام واجتمعت عليه المماليك وكان الملك في تلك المدة بيبرس الششنكير2 وهو أمير الطعام ويسمى بالملك المظفر وهو الذي بنى الخانقة البيبرسية بمقربة من خانقاه سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين بن أيوب فقصده الملك الناصر بالعساكر ففر بيبرس إلى الصحراء فتبعته العساكر وقبض عليه وأتى به إلى الملك الناصر فأمر بقتله فقتل وقبض على سلار وحبس في جب حتى مات جوعاً ويقال أنه أكل جيفة من الجوع نعوذ بالله من ذلك. وأقام الركب بخارج الكرك أربعة أيام بموضع يقال له الثنية وتجهزوا لدخول البرية. ثم ارتحلنا إلى معان وهو آخر بلاد الشام ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال فيها داخلها مفقود وخارجها مولود وبعد مسيرة يومين نزلنا ذات حج وعلى حسيان ذا عمارة بها إلى وادي بلدح ولا ماء به ثم إلى تبوك هو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها عين ماء كانت تنبض بشيء من الماء فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها جادت بالماء المعين ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك أخذوا أسلحتهم وجردوا سيوفهم وحملوا على المنزل وضربوا النخل بسيوفهم ويقولون هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروى منها جميعهم ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك. ومن عادة السقائين أنهم ينزلون على

_ 1 ذكر ياقوت في معجم البلدان أن اسمها: زيزاء، وهي من قرى البلقاء. 2 يعرف في كتب التاريخ بالجاشنكيز.

جوانب هذه العين ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال ويملئون الروايا والقرب ولكل أمير أو كبير حوض يسقي منه جماله وجمال أصحابه ويملأ رواياهم وسواهم من الناس متفق مع السقائين على سقي جمله وملأ قربته بشيء معلوم من الدراهم. ثم يرحل الركب من تبوك ويجدون السير ليلا ونهارا خوفاً من هذه البرية وفي وسطها الوادي الأخيضر كأنه وادي جهنم أعاذنا الله منها وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب فانتشفت المياه وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها وكتب ذلك في بعض صخور الوادي، ومن هنالك ينزلون بركة المعظم وهي ضخمة نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب ويجتمع بها ماء المطر في بعض السنين وربما جف في بعضها وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر حجر ثمود وهي كثيرة الماء ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته وأمر أن لا يستقي منها أحد ومن عجن به أطعمه الجمال وهناك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت أن في ذلك لعبرة ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك وبينهما أثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه، والعلا قرية كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة يقيم بها الحجاج أربعا يتزودن ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من فضل زاد ويستصحبون قدر الكفاية وأهل هذه القرية أصحاب أمانة وإليها ينتهي تجار نصارى الشام لا يتعدونها ويبايعون الحجاج الزاد وسواه. ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غد رحيلهم الوادي المعروف بالعطاس وهو شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة هبت في أحد السنين على الركب فلم يخلص منها إلا اليسير وتعرف تلك السنة سنة الأمير الحالقي، ومنه ينزلون هدية وهي حسيان ماء بواد يحفرون به فيخرج الماء وهو زُعاق. وفي اليوم الثالث ينزلون بظاهر البلد المقدس الكريم الشريف.

طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرم وشرف وعظم

طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَرَّم وشَرَّف وعَظَّم: وفي عشي ذلك اليوم دخلنا الحرم الشريف وانتهينا إلى المسجد الكريم فوقفنا بباب السلام مسلمين وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة وأدينا حق السلام على سيد الأولين والآخرين وشفيع العصاة والمذنبين الرسول النبي الهاشمي الأبطحي محمد صلى الله عليه وسلم تسليما وشرّف وكرّم وحق السلام على ضجيعيه وصاحبيه أبي بكر الصديق وأبي حفص عمر الفاروق رضي الله عنهما وانصرفنا إلى رحالنا مسرورين بهذه النعمة العظمى مستبشرين بنبل المنة الكبرى حامدين الله تعالى على البلوغ إلى معاهد رسوله الشريفة ومشاهده العظيمة المنيفة داعين أن لا يجعل ذلك آخر عهدنا بها وأن يجعلنا ممن قبلت زيارته وكُتِبت في سبيل الله سفرته. مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وروضته الشريفة: المسجد المعظم مستطيل، تحفه من جهاته الأربع بلاطات دائرة به ووسطه صحن مفروش بالحصى والرمل ويدور بالمسجد الشريف شارع مبلط بالحجر المنحوت والروضة المقدسة صلوات الله وسلامه على ساكنها في الجهة القبلية مما يلي الشرق من المسجد الكريم وشكلها عجيب لا يتأتى تمثيله. وهي منورة بالرخام البديع النحت الرائق النعت قد علاها تضميخ المسك والطيب مع طول الأزمان. وفي الصفة القبلية منها مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم وهنالك يقف الناس مستقبلين الوجه الكريم مستديرين القبلة فيسلمون وينصرفون يمينا إلى وجه أبي بكر الصديق ورأس أبي بكر رضي الله عنه عند قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون إلى عمر بن الخطاب ورأس عمر عند كتفي أبي بكر رضي الله عنهما وفي الجوفي من الروضة المقدسة زادها الله طيبا حوض صغير مرخم في قبلته شكل محراب يقال أنه كان بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما ويقال أيضا هو قبرها والله أعلم. وفي وسط المسجد الكريم دفة مطبقة على وجه الأرض مقفلة على سرداب له مدرج يفضي إلى دار أبي بكر رضي الله عنه خارج المسجد وعلى ذلك السرداب كان طريق عائشة أم

المؤمنين رضي الله عنهما إلى داره ولا شك أنه هو الخوخة التي ورد ذكرها في الحديث وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبقائها وسد ما سواها وبازاء دار أبي بكر رضي الله عنه دار عمر ودار ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وبشرقي المسجد الكريم دار إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه وبمقربة من باب السلام سقاية ينزل إليها على درج ماؤها معين وتعرف بالعين الزرقاء. وقت ابتداء بناء المسجد الكريم: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً المدينة الشريفة دار الهجرة يوم الاثنين ليلة الثالث عشر من شهر ربيع الأول فنزل على بني عمرو بن عوف وأقام عندهم ثنتين وعشرين ليلة وقيل أربع عشرة ليلة وقيل أربع ليال ثم توجه إلى المدينة فنزل على بني النجار بدار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأقام عنده سبعة أشهر حتى بنى مساكنه ومسجده وكان موضع المسجد مربداً لسهل وسهيل ابني رافع بن أبي عمر بن عاند بن ثعلبة بن غانم بن مالك بن النجار وهما يتيمان في حجر أسعد بن زرارة رضي الله عنهم أجمعين وقيل كانا في حجر أبي أيوب رضي الله عنه فابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المربد وقيل بل أرضاهما أبو أيوب عنه وقيل أنهما وهباه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وعمل فيه مع أصحابه وجعل عليه حائطا ولم يجعل له سقفا ولا أساطين، وجعله مربعا طوله مائة ذراع وعرضه مثل ذلك وقيل أن عرضه كان دون ذلك وجعل ارتفاع حائطه قدر القامة فلما اشتد الحر تكلم أصحابه في تسقيفه فأقام له أساطين من جذوع النخل وجعل سقفه من جريدها فلما أمطرت السماء وكف المسجد، وكلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمله بالطين فقال: كلا عريش كعريش موسى أو ظلة كظلة موسى والأمر أقرب من ذلك. قيل: وما ظلة موسى؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان إذا قام أصاب السقف رأسه. وجعل للمسجد ثلاثة أبواب. ثم سد باب الجنوب منها حين حولت القبلة، وبقي المسجد على حاله حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما وحياة أبي بكر رضي الله عنه، فلما كانت أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه زاد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ينبغي أن نزيد في المسجد ما زدت فيه. فأنزل أساطين الخشب، وجعل مكانها أساطين

اللبن وجعل الأساس حجارة إلى القامة وجعل الأبواب ستة منها في كل جهة ما عدا القبلة بابان وقال في باب منها ينبغي أن يترك هذا للنساء فما رؤي فيه حتى لقي الله عز وجل وقال لو زدنا في هذا المسجد حتى يبلغ الجبانة لم يزل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد عمر أن يدخل في المسجد موضعا للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما فمنعه منه وكان فيه ميزاب يصب في المسجد فنزعه عمر وقال إنه يؤذي الناس فنازعه العباس وحكما بينهما أبي بن كعب رضي الله عنهما فأتيا داره فلم يأذن لهما إلا بعد ساعة ثم دخلا إليه فقال كانت جاريتي تغسل رأسي فذهب عمر ليتكلم فقال له أبي دع أبا الفضل يتكلم لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس خطة خطها لي رسول الله صلى الله عليه وسم وبنيتها معه وما وضعت الميزاب إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عمر فطرحه وأراد إدخالها في المسجد فقال أبي أن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أراد داود عليه السلام أن يبني بيت الله المقدس كان فيه بيت ليتيمين فراودهما على البيع فأبيا ثم راودهما فباعاه ثم قاما بالغين فردا البيع واشتراه منهما ثم رداه كذلك فاستعظم داود الثمن فأوحى الله إليه أن كنت تعطي من شيء هو لك فأنت أعلم وإن كنت تعطيهما من رزقنا فاعطهما حتى يرضيا وإن أغنى البيوت عن مظلمة بيت هو لي وقد حرمت عليك بناءه. قال: يارب فأعطه سليمان فأعطاه سليمان عليه السلام فقال عمر: من لي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله؟ فخرج أبي إلى قوم من الأنصار فأثبتوا له ذلك فقال عمر رضي الله عنه أما إني لو لم أجد غيرك أخذت قولك ولكني أحببت أن أثبت ثم قال للعباس رضي الله عنه والله لا ترد الميزاب إلا وقدماك على عاتقي ففعل العباس ذلك ثم قال أما إذا أثبتت لي فهي صدقة لله فهدمها عمر وأدخلها في المسجد. ثم زاد فيه عثمان رضي الله عنه وبناه بقوة وباشره بنفسه فكان يظل فيه نهاره، وبيضه وأتقن محله بالحجارة المنقوشة ووسعه من جهاته إلا جهة الشرق منها وجعل له سواري حجارة مثبتة بأعمدة الحديد والرصاص وسقفه بالساج وصنع له محراباً. وقيل: أن مروان هو أول من بنى المحراب. وقيل: عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد، ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك تولى ذلك عمر بن عبد العزيز،

فوسعه وحسنه وبالغ في إتقانه وعمله بالرخام والساج المذهب وكان الوليد بعث إلى ملك الروم أريد أن أبني مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم فأعني فيه فبعث إليه العملة وثمانين ألف مثقال من الذهب وأمر الوليد بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه فاشترى عمر من الدور ما زاد في ثلاث جهات من المسجد فلما صار إلى القبلة امتنع عبيد الله بن عبد الله بن عمر من بيع دار حفصة ودار بينهما الكلام حتى ابتاعها عمر على أن له ما بقي منها وعلى أن يخرجوا من باقيها طريقا إلى المسجد وهي الخوخة التي في المسجد وجعل عمر للمسجد أربع صوامع في أربعة أركانه وكانت إحداها مطلة على دار مروان فلما حج سليمان بن عبد الملك نزل بها فأطل عليه المؤذن حين الأذان فأمر بهدمها وجعل عمر للمسجد محراباً. ويقال هو أول من أحدث المحراب. ثم زاد فيه المهدي بن أبي جعفر المنصور وكان أمرهم بذلك ولم يقض له وكتب إليه الحسن بن زيد يرغبه في الزيادة فيه من جهة الشرق ويقول إنه أن زيد في شرقيه توسطت الروضة الكريمة المسجد الكريم فاتهمه أبو جعفر بأنه إنما أراد هدم دار عثمان رضي الله عنه فكتب إليه إني قد عرفت الذي أردت فاكفف عن دار عثمان وأمر أبو جعفر أن يظلل الصحن أيام القيظ بستور تنشر على حبال ممدودة على خشب تكون في الصحن لتقي المصلين من الحر وكان طول المسجد في بناء الوليد مائتي ذراع فبلغه المهدي إلى ثلاثمائة ذراع وسوى المقصورة بالأرض وكانت مرتفعة عنها بمقدار ذراعين وكتب اسمه على مواضع من المسجد. ثم أمر الملك المنصور قلاوون ببناء دار للوضوء عند باب السلام فتولى بناءها الأمير الصالح علاء الدين المعروف بالأقمر وأقامها متسعة الفناء تستدير بها البيوت وأجرى إليها الماء وأراد أن يبني بمكة شرفها الله تعالى مثل ذلك فلم يتم له فبناه ابنه الملك الناصر بين الصفا والمروة وسيذكر أن شاء الله. وقبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة قطع لأنه صلى الله عليه وسلم أقامها، وقيل: جبريل عليه السلام، وقيل: كان يشير جبريل له إلى سمتها وهو يقيمها وروي أن جبريل عليه السلام أشار إلى الجبال فتواضعت فتنحت حتى بدت الكعبة فكان صلى الله عليه وسلم يبني وهو ينظر إليها عيانا وبكل اعتبار فهي قبلة قطع وكانت القبلة أول ورود النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إلى بيت المقدس ثم تحولت إلى الكعبة بعد ستة عشر شهراً وقيل بعد سبعة عشر شهراً.

قصة حنين المنبر الكريم: وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كان يخطب إلى جذع نخلة بالمسجد فلما صنع له المنبر وتحول إليه حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما نزل إليه فالتزمه فسكن وقال لو لم ألتزمه لحن إلى يوم القيامة واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم، فروي أن تميما الداري رضي الله عنه هو الذي صنعه، وقيل: أن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه، وقيل: غلاما لامرأة من الأنصار، وورد ذلك في الحديث الصحيح وصنع من طُرْفاءِ الغابة وقيل الأثل وكان له ثلاث درجات فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد على علياهن ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن وجعل رجليه على أولاهن فلما ولي عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن وجعل رجليه على الأرض وفعل ذلك عثمان رضي الله عنه صدراً من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة ولما أصدر الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام فضج المسلمون وعصفت ريح شديدة وخسفت الشمس وبدت النجوم نهاراً، وأظلمت الأرض، فكان الرجل يصادم الرجل ولا يتبيّن مسلكه، فلما رأى ذلك معاوية تركه وزاد فيه ست درجات من أسفله فبلغ تسع درجات. خطيب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمامه: وكان الإمام بالمسجد الشريف في عهد دخولي إلى المدينة بهاء الدين بن سلامة من كبار أهل مصر وينوب عنه العالم الصالح الزاهد بغية المشايخ عز الدين الواسطي نفع الله به وكان يخطب قبله ويقضي بالمدينة الشريفة سراج الدين عمر المصري. ويذكر أن سراج الدين هذا أقام في خطة القضاء بالمدينة والخطابة بها نحو

أربعين سنة ثم أنه أراد الخروج بعد ذلك إلى مصر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ثلاث مرات في كل مرة ينهاه عن الخروج منها وأخبره باقتراب أجله فلم ينته عن ذلك وخرج فمات بموضع يقال له سويس1 على مسيرة ثلاث من مصر قبل أن يصل إليها نعوذ بالله من سوء الخاتمة. وكان ينوب عنه الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرحون رحمه الله وأبناؤه الآن بالمدينة الشريفة أبو محمد عبد الله مدرس المالكية ونائب الحكم وأبو عبد الله محمد وأصلهم من مدينة تونس ولهم بها حسب وأصالة. وتولى الخطابة والقضاء بالمدينة الشريفة بعد ذلك جمال الدين الأسيوطي من أهل مصر وكان قبل ذلك قاضيا بحصن الكرك خدام المسجد الشريف وسدنته والمؤذنون به: وخدام هذا المسجد الشريف وسدنته فتيان من الأحابيش وسواهم وهم على هيئات حسان وصور نظاف وملابس ظراف وكبيرهم يعرف بشيخ الخدام وهو في هيئة الأمراء الكبار ولهم المرتبات بديار مصر والشام ويؤتي إليها بها في كل سنة ورئيس المؤذنين بالحرم الشريف الإمام المحدث الفاضل جمال الدين المطري من مطرية2 قرية بمصر وولده الفاضل عفيف الدين عبد الله والشيخ المجاور الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد الغرناطي المعروف بالتراس قديم المجاورة وهو الذي جب نفسه خوفا من الفتنة. وكان أبو عبد الله الغرناطي خديماً لشيخ يسمى عبد الحميد العجمي وكان الشيخ حسن الظن به يطمئن إليه بأهله ويتركه متى سافر بداره فسافر مرة وتركه على عادته بمنزله فعلقت به زوجة الشيخ عبد الحميد وراودته عن نفسه فقال إني أخاف الله ولا أخون من ائتمنني على أهله وماله فلم تزل تراوده وتعارضه حتى خاف على نفسه الفتنة فجب نفسه وغشي عليه ووجده الناس على تلك الحالة فعالجوه حتى بريء، وصار من خدام المسجد الكرام ومؤذنا به،

_ 1 هي الآن مدينة السويس إحدى محافظات مصر. 2 هي الآن مدينة المطرية بمحافظة الدقهلية بمصر.

ورأس الطائفين وهو باق بقيد الحياة إلى هذا العهد. ومن المجاورين بالمدينة المنورة الشيخ الصالح الفاضل أبو العباس أحمد بن محمد مرزوق كثير العبادة والصوم والصلاة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما صابرا محتسبا وكان ربما جاور بمكة المعظمة رأيته بها في سنة ثمان وعشرين وهو أكثر الناس طوافا وكنت أعجب من ملازمته الطواف مع شدة الحر بالمطاف والمطاف مفروش الحجارة السود وتصير بحر الشمس كأنها الصفائح المحماة ولقد رأيت السقائين يصبون الماء عليها فما يجاوز الموضع الذي يصب فيه إلا ويلتهب الموضع من حينه أكثر الطائفين في ذلك الوقت يلبسون الجوارب وكان أبو العباس بن مرزوق يطوف حافي القدمين ورأيته يوما يطوف فأحببت أن أطوف معه فوصلت المطاف وأردت استلام الحجر الأسود فلحقني لهب تلك الحجارة وأردت الرجوع بعد تقبيل الحجر فما وصلته إلا بعد جهد عظيم ورجعت فلم أطف ورجعت أجعل بجادي على الأرض وأمشي عليه حتى بلغت الرواق وكان في ذلك العهد بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبو القاسم محمد بن محمد بن الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك الأزدي وكان يطوف كل أسبوع سبعين طوافاً ولم يكن يطوف في وقت القائلة لشدة الحر وكان ابن مرزوق يطوف في شدة القائلة زيادة عليه. ومن المجاورين بالمدينة كرمها الله الشيخ الصالح العابد سعيد المراكشي الكفيف. ومنهم أبو مهدي بمكة عيسى بن حزرون المكناسي. وجاور الشيخ أبو مهدي بمكة سنة ثمان وعشرين وخرج إلى جبل حراء مع جماعة من المجاورين فلما صعدوا الجبل ووصلوا لمتعبد النبي صلى الله عليه وسلم تسليما ونزلوا عنه تأخر أبو مهدي عن الجماعة ورأى طريقا في الجبل فظنه قاصراً فسلك عليه ووصل أصحابه إلى أسفل الجبل فانتظروه فلم يأت فتطلعوا فيما حولهم فلم يروا له أثرا فظنوا أنه سبقهم فمضوا إلى مكة شرفها الله تعالى ومر عيسى على طريقه فأفضى به إلى جبل آخر وتاه عن الطريق وأخذه العطش والحر وتمزقت نعله فكان يقطع من ثيابه ويلف رجليه إلى أن ضعف عن المشي استظل بشجرة أم غيلان1 فبعث الله أعرابياً

_ 1 أم غيلان: شجرة السمر، من القاموس المحيط.

على جمل حتى وقف عليه فأعلمه بحاله فأركبه وأوصله إلى مكة وكان على وسطه هميان فيه ذهب فسلمه إليه وأقام نحو شهر لا يستطيع القيام على قدميه وذهبت جلدتهما ونبتت لهما جلدة أخرى وقد جرى مثل ذلك لصاحب لي أذكره أن شاء الله. ومن المجاورين بالمدينة الشريفة أبو محمد الشروي من المحسنين وجاور بمكة في السنة المذكورة وكان يقرأ بها كتاب الشفاء للقاضي عياض بعد الظهر وأم في التراويح. وبها من المجاورين الفقيه أبو العباس الفاسي مدرس المالكية بها وتزوج ببنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزرندي. ويذكر أن أبا العباس الفاسي تكلم يوماً مع بعض الناس فانتهى به الكلام إلى أن تكلم بعظيمة ارتكب فيها بسبب جهله بعلم النسب، وعدم حفظه للسانه مركبا صعبا عفا الله عنه، فقال الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام لم يعقب فرفع كلامه إلى أمير المدينة طفيل بن منصور بن جماز الحسني1 فأنكر كلامه وبحق إنكاره. وأراد قتله فكلم فيه فنفاه عن المدينة. ويذكر أنه بعث من اغتاله وإلى الآن لم يظهر له أثر نعوذ بالله من عثرات اللسان وزلَلِهِ. أما أمير المدينة فكان كبيش بن منصور بن جماز وكان قد قتل عمه مقبلاً، ويقال إنه توضأ بدمه. ثم أن كبيشا خرج سنة سبع وعشرين إلى الفلاة في شدة الحر ومعه أصحابه فأدركتهم القائلة في بعض الأيام فتفرقوا تحت ظلال الأشجار، فما راعهم إلا وأبناء مقبل في جماعة من عبيدهم ينادون يا لثارات مقبل فقتلوا كبيش بن منصور صبراً ولعقوا دمه. وتولى بعده أخوه طفيل بن منصور الذي ذكرنا أنه نفى أبا العباس الفاسي. بعض المشاهد الكريمة خارج المدينة المنورة: يقع بقيع الغرقد شرقي المدينة المنورة ويخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع فأول ما يلقى الخارج إليه على يساره عند خروجه من الباب قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهما وهي عمة رسول الله صلى الله عليه

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: الحسيني.

وسلم تسليما وأم الزبير بن العوام رضي الله عنه وأمامها قبر إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء وأمامه قبر السلالة الطاهرة المقدسة النبوية الكريمة إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قبة بيضاء وعن يمينها تربة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو المعروف بأبي شحمة وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وقبر عبد الله بن ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبازائهم روضة قبور أمهات المؤمنين بها رضي الله عنهن ويليها روضة فيها قبر العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهي قبة ذاهبة في الهواء بديعة الأحكام عن يمين الخارج من باب البقيع ورأس الحسن إلى رجلي العباس عليهما السلام وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح بديعة الالتصاق مرصعة بصفائح الصفر البديعة العمل وبالبقيع قبور المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة رضي الله عنهم إلا أنها لا يعرف أكثرها وفي آخر البقيع قبر أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفان رضي الله عنه وعليه قبة كبيرة وعلى مقربة منه قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنها وعن ابنها. ومن المشاهد الكريمة قباء وهو قبلي المدينة على نحو ميلين منها والطريق بينهما في حدائق النخل وبه المسجد الذي أسس على التقوى والرضوان وهو مسجد مربع فيه صومعة بيضاء طويلة تظهر على البعد وفي وسطه مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يتبرك الناس بالصلاة فيه وفي الجهة القبلية من صحنه محراب على مصطبة هو أول موضع ركع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وفي قبلي المسجد دار كانت لأبي أيوب الأنصاري ويليها دور تنسب لأبي بكر وعمر وفاطمة وعائشة رضي الله عنهم وبإزائه بئر أريس وهي التي عاد ماؤها عذباً لما تفل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أجاجا وفيها وقع الخاتم الكريم من عثمان رضي الله عنه. ومن المشاهد فيه حجر الزيوت بخارج المدينة الشريفة يقال أن الزيت رشح هنالك للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى جهة الشمال منه بئر بضاعة وبإزائها جبل الشيطان حيث صرخ يوم أحد وقال قتلت نبيكم وعلى شفير الخندق

الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تحزب الأحزاب حصن خرب يعرف بحصن العزاب. يقال أن عمر بناه لعزاب المدينة. وأمامه إلى جهة الغرب بئر رومة التي اشترى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه نصفها بعشرين ألفا1. ومن المشاهد الكريمة أحد وهو الجبل المبارك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما: "إن أحدا جبل يحبنا ونحبه". وهو بجوار المدينة الشريفة على نحو فرسخ منها وبإزائه الشهداء المكرمون رضي الله عنهم وهنالك قبر حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه وحوله الشهداء المستشهدون في أحد رضي الله عنهم وقبورهم لقبلي أحد وفي طريق أحد مسجد ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومسجد ينسب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه ومسجد الفتح حيث أنزلت سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت إقامتنا بالمدينة الشريفة في هذه الوجهة أربعة أيام وفي كل ليلة نبيت بالمسجد الكريم والناس قد حلقوا في صحنه حلقا وأوقدوا الشمع الكبير وبينهم ربعات القرآن الكريم يتلونه وبعضهم يذكرون الله وبعضهم في مشاهدة التربة الطاهرة زادها الله طيبا والحداة بكل جانب يترنمون بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا دأب الناس في تلك الليالي المباركة ويجودون بالصدقات الكثيرة على المجاورين والمحتاجين. وكان في صحبتي في هذه الوجهة من الشام إلى المدينة الشريفة رجل من أهلها فاضل يعرف بمنصور بن شكل وأضافني بها اجتمعنا بعد ذلك بحلب وبخارى. وكان في صحبتي أيضا قاضي الزيدية شرف الدين قاسم بن شنان. وصحبني أيضا أحد الصلحاء الفقراء من أهل غرناطة يسمى بعلي بن حجر الأموي. ولما وصلنا إلى المدينة كرمها الله على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ذكر لي علي بن حجر المذكور أنه رأى تلك الليلة في النوم قائلا يقول له اسمع مني واحفظ عني:

_ 1 اشترى عثمان رضي الله عنه نصف بئر رومة أولاً لما غالى مالكها اليهودي في ثمنها، ودعا عثمان رضي الله عنه المسلمين أن يستقوا من البئر في الأيام الخاصة به، فأخذ المسلمون حاجتهم من الماء في الأيام الخاصة بعثمان، ولم يعودوا بحاجة إلى شراء الماء من اليهودي، فاضطر إلى بيع نصفها الآخر لعثمان رضي الله عنه بثمنٍ معقول فاشتراه، ووهبها جميعاً للمسلمين.

هنيئا لكم يا زائرين ضريحة ... أمنتم به يوم المعاد من الرجس وصلم إلى قبر الحبيب بطيبة ... فطوبى لمن يضحي بطيبة أو يمسي وجاور هذا الرجل بعد صحبه بالمدينة ثم رحل إلى مدينة دلهي قاعدة بلاد الهند في سنة ثلاث وأربعين فنزل في جواري وذكرت حكاية رؤياه بين يدي ملك الهند فأمر بإحضاره فحضر بين يديه وحكى له ذلك فأعجبه واستحسنه وقال له كلاما جميلا بالفارسية وأمر بإنزاله وأعطاه ثلاثمائة تنكة من ذهب ووزن التنكة من دنانير المغرب دينار ونصف دينار وأعطاه فرساً محلى السرج واللجام وخلعه وعيّن له مرتّباً في كل يوم. وكان هنالك فقيه طيب من أهل غرناطة ومولده ببجاية يعرف هنالك بجمال الدين المغربي فصحبه علي بن حجر المذكور وواعده على أن يزوجه بنته وأنزل بدويرة خارج داره واشترى جارية وغلاماً وكان يترك الدنانير في مفرش ثيابه ولا يطمئن بها لأحد فاتفق الغلام والجارية على أخذ ذلك الذهب وأخذاه وهربا فلما أتى الدار لم يجد لهما أثراً ولا للذهب فامتنع من الطعام والشراب واشتد به المرض أسفاً على ما جرى عليه فعرضت قضيته بين يدي الملك فأمر أن يخلف له ذلك وبعث إليه من يعلمه بذلك فوجدوه قد مات رحمه الله تعالى. وكان رحيلنا من المدينة نريد مكة شرفها الله تعالى فنزلنا بقرب مسجد ذي الحليفة الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدينة منه على خمسة أميال وهو منتهى حرم المدينة وبالقرب منه وادي العقيق وهناك تجردت من مخيط الثياب واغتسلت ولبست ثوب إحرامي وصليت ركعتين وأحرمت بالحج مفرداً، ولم أزل ملبياً في كل سهل وجبل وصعود وحدور إلى أن أتيت شعب علي عليه السلام وبه نزلت تلك الليلة. ثم رحلنا منه ونزلنا بالروحاء وبها بئر تعرف ببئر ذات العلم. ويقال: أن عليّاً عليه السلام قاتل بها الجن. ثم رحلنا ونزلنا بالصفراء وهو واد معمور فيه ماء ونخل وبنيان وقصر يسكنه الشرفاء الحسنيون وسواهم وفيها حصن كبير وتواليه حصون كثيرة وقرى متصلة.

ثم رحلنا منه، ونزلنا ببدر حيث نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأنجز وعده الكريم واستأصل صناديد المشركين وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة وبها حصن منيع يدخل إليه من بطن واد بين جبال ووهاد وببدر عين فوارة يجري ماؤها وموضع القليب الذي سحب به أعداء الله المشركون هو اليوم بستان وموضع الشهداء رضي الله عنهم خلفه وجبل الرحمة الذي نزلت به الملائكة على يسار الداخل منه إلى الصفراء وبإزائه جبل الطبول وهو شبه كثيب الرمل ممتد ويزعم أهل تلك البلدة أنهم يسمعون هنالك مثل أصوات الطبول في كل ليلة جمعة وموضع عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان به يوم بدر يناشد ربه جل وتعالى متصل بسفح جبل الطبول وموضع الواقعة أمامه وعند نخل القليب مسجد يقال له مبرك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بدر الصفراء نحو بريد في واد بين جبل تطرد فيه العيون وتتصل حدائق النخل. ورحلنا من بدر إلى الصحراء المعروفة ببقاع البزواء وهي برية يضل بها الدليل ويذهل عن خليله الخليل. مسيرة ثلاث وفي منتهاها وادي رابغ يتكون فيه المطر غدران يبقى بها الماء زماناً طويلاً، ومنه يحرم1 حجاج مصر والمغرب وهو دون الجحفة وسرنا من رابغ ثلاثا إلى خليص ومررنا بعقبة السويق وهي على مسافة نصف يوم من خليص كثيرة الرمل والحجاج يقصدون شرب السويق بها ويستصحبونه من مصر والشام برسم ذلك ويسقونه الناس مخلط بالسكر والأمراء يملؤن منه الأحواض ويسقونها الناس ويذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بها ولم يكن مع أصحابه طعام فأخذ من رملها فأعطاهم إياه فشربوه سويقا. ثم نزلنا بركة خليص وهي في بسيط من الأرض كثيرة حدائق النخل لها حصن مشيد في قنة جبل. وفي البسيط حصن خرب بها عين فوارة صنعت لها أخاديد في الأرض سربت إلى الضياع. وصاحب خليص شريف حسني النسب. وعرب تلك الناحية يقيمون هنالك سوقا عظيمة ويجلبون إليها الغنم والتمر والأدام. ثم رحلنا إلى عسفان هي في بسيط من الأرض،

_ 1 كان الميقات الأصلي الذي يحرم منه حجاج مصر والمغرب والشام الذي يأتون عن طريق مصر هو الجحفة، وحين خربت بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقل الله حمى المدينة إليها انتقل الميقات إلى رابغ.

بين جبال، وبها آبار ماء معين تنسب إحداها إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه. والمدرج المنسوب إلى عثمان أيضا على مسافة نصف يوم من خليص هو مضيق بين جبلين وفي موضع منه بلاط على صورة درج أثر عمارة قديمة هنالك بئر تنسب إلى النبي عليه السلام ويقال أنه أحدثها بعسفان حصن عتيق وبرج مشيد قد أوهنه الخراب وبه من شجر المقل كثير. ثم رحلنا من عسفان ونزلنا بطن مر ويسمى أيضا مر الظهران1 وهو واد مخصب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة تسقى تلك الناحية ومن هذا الوادي تجلب الفواكه والخضر إلى مكة شرفها الله تعالى ثم أدلجنا من هذا الوادي المبارك والنفوس مستبشرة ببلوغ آمالها مسرورة بحالها ومآلها فوصلنا عند الصباح إلى البلد الأمين مكة شرفها الله تعالى فوردنا منها على حرم الله تعالى ومبوأ خليله إبراهيم ومبعث صفيه محمد صلى الله عليه وسلم ودخلنا البيت الحرام الشريف الذي من دخله كان آمنا من باب بني شيبة وشاهدنا الكعبة الشريفة زادها الله تعظيما وهي كالعروس تجلي على منصبه الجلال وترفل في برود الجمال محفوفة بوفود الرحمن موصلة إلى جنة الرضوان وطفنا بها طواف القدوم واستلمنا الحجر الكريم وصلينا ركعتين بمقام إبراهيم وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم بين الباب والحجر الأسود حيث يستجاب الدعاء وشربنا من ماء زمزم وهو لما شرب له حسبما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليما ثم سعينا بين الصفا والمروة ونزلنا هنالك بدار بمقربة من باب إبراهيم والحمد لله الذي شرفنا بالوفادة على هذا البيت الكريم وجعلنا ممن بلغنا دعوة الخليل عليه الصلاة والتسليم ومتع أعيننا بمشاهدة الكعبة الشريفة والمسجد العظيم والحجر الكريم وزمزم والحطيم. ومن عجائب صنع الله تعالى أنه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة وجعل حبها متمكنا في القلوب فلا يحلها أحد إلا أخذت بمجاميع قلبه ولا يفارقها إلا أسفاً لفراقها متولها لبعاده عنها شديد الحنين إليها ناوياً لتكرار الوفادة عليها فأرضها

_ 1 مر الظهران – بفتح الميم – ويقال له: مر ظهران: موضع على مرحلة من مكة بينه وبينها خمسة أميال. وقيل: المر: اسم القرية، والظهران: اسم الوادي.

المباركة نصب الأعين ومحبتها حشو القلوب حكمة من الله بالغة وتصديقا لدعوة خليليه عليه السلام والشوق يحضرها وهي نائية ويمثلها وهي غائبة ويهون على قاصدها ما يلقى من المشاق ويعانيه من العناء وكم ضعيف يرى الموت عياناً دونها ويشاهد التلف في طريقها فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسرورا مستبشرا كأنه لم يذق لها مرارة ولا كابد محنة ولا نصبا إنه لأمر إلهي وصنع رباني ودلالة لا يشوبها لبس ولا تغشاها شبهة ولا يطرقها تمويه وتعز في بصيرة المستبصرين وتبدو في كفرة المتفكرين. ومن رزقه الله تعالى الحلول بتلك الأرجاء والمثول بذلك الفناء فقد أنعم الله عليه النعمة الكبرى وخوله خير الدارين الدنيا والأخرى فحق عليه أن يكثر الشكر على ما خوله ويديم الحمد على ما أولاه جعلنا الله تعالى ممن قبلت زيارته وربحت في قصدها تجارته وكتبت في سبيل الله آثاره ومحيت بالقبول أوزاره بمنه وكرمه.

مدينة مكة المكرمة

مدينة مكة المكرّمة: وهي مدينة كبيرة متصلة البنيان مستطيلة في بطن واد تحف به الجبال فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها وتلك الجبال المطلة عليها ليست بمفرطة الشموخ، والأخشبان من جبالها جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب منها وجبل قعيقعان وهو في الجهة الغربية منها وفي الشمال منها الجبل الأحمر ومن جهة أبي قبيس أجياد الأكبر وأجياد الأصغر وهما شعبان والخندمة هي جبل وسيذكر: "والمناسك كلها منى وعرفة والمزدلفة" بشرقي مكة شرفها الله ولمكة من الأبواب ثلاثة باب المعلى بأعلاها وباب الشبيكة من أسفلها ويعرف أيضا بباب العمرة وهو إلى جهة المغرب وعليه طريق المدينة الشريفة ومصر والشام وجدة ومنه يتوجه إلى التنعيم وسيذكر ذلك وباب المسفل وهو من جهة الجنوب ومنه دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم الفتح ومكة شرفها الله كما أخبر الله في كتابه العزيز حاكيا عن نبيه الخليل بواد غير ذي زرع ولكن سبقت لها الدعوة المباركة فكل طرفة تجلب إليها وثمرات كل شيء تجبى لها ولقد أكلت بها من الفواكه العنب والتين والخوخ والرطب ما لا نظير له في الدنيا وكذلك البطيخ المجلوب إليها لا

يماثله سواه طيبا وحلاوة واللحوم بها سمان لذيذات الطعوم وكل ما يفترق في البلاد من السلع فيها اجتماعه وتجلب لها الفواكه والخضر من الطائف ووادي نخلة وبطن مر، لطفا من الله بسكان حرمه الأمين وجاوري بيته العتيق. المسجد الحرام شرفه الله وكرمه: والمسجد الحرام في وسط البلد. وهو متسع الساحة طوله من شرق إلى غرب أزيد من أربعمائة ذراع حكى ذلك الأزرقي وعرضه يقرب من ذلك والكعبة العظمى في وسطه ومنظره بديع ومرآه جميل لا يتعاطى اللسان وصف بدائعه ولا يحيط الواصف كماله وارتفاع حيطانه نحو عشرين ذراع وسقفه على أعمدة طوال مصطفة ثلاثة صفوف بأتقن صناعة وأجملها وقد انتظمت بلاطاته الثلاث انتظاما عجيبا كأنها بلاط واحد وعدد سواريه الرخامية أربعمائة وإحدى وتسعون سارية ما عدا الجصية التي في دار الندوة المزيدة في الحرم وهي داخلة في البلاط الآخذ في الشمال ويقابلها المقام مع الركن العراقي وفضاؤها متصل يدخل من هذا البلاط إليه ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب تحت قسي1 "حنايا" يجلس بها المقرئون والنساجون والخياطون وفي جدار البلاط الذي يقابله مساطب تماثلها وسائر البلاطات تحت جدرانها مساطب بدون حنايا وعند باب إبراهيم مدخل من البلاط الغربي فيه سواري جصية وللخليفة المهدي بن الخليفة أبي جعفر المنصور رضي الله عنهما آثار كريمة في توسيع المسجد الحرام وإحكام بنائه وفي أعلى جدار البلاط الغربي مكتوب أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعة المسجد الحرام لحاج بيت الله وعمارته في سنة سبع وستين ومائة. الكعبة المعظمة الشريفة زادها الله تعظيماً وتشريفاً: والكعبة ماثلة في وسط المسجد وهي بنية مربعة ارتفاعها في الهواء من الجهات الثلاث ثمان وعشرون ذراعا ومن الجهة الرابعة التي بين الحجر الأسود

_ 1 جمع قوس، وفسيرها ابن جزي بالحنايا.

والركن اليماني تسع وعشرون ذراعاً وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الحجر الأسود أربعة وخمسون شبرا وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن اليماني إلى الركن الشامي وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الركن الشامي من داخل الحجر ثمانية وأربعون شبراً وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن اليماني إلى الحجر الأسود ومثل ذلك من الركن الشامي إلى الركن العراقي وأما خارج الحجر وبناؤها بالحجارة الصم السمر قد ألصقت بأبدع الألصاق وأحكمه وأشده فلا تغيرها الأيام ولا تؤثر فيها الأزمان وباب الكعبة المعظمة في الصفح الذي بين الحجر الأسود والركن العراقي وبينه وبين الحجر الأسود عشرة أشبار وذلك الموضع هو المسمى بالملتزم حيث يستجاب الدعاء وارتفاع الباب عن الأرض أحد عشر شبرا ونصف شبر وسعته ثمانية أشبار وطوله ثلاثة عشر شبرا وعرض الحائط الذي ينطوي عليه خمسة أشبار وهو مصفح بصفائح الفضة بديع الصنعة وعضادتاه1 وعتبته العليا مصفحات بالفضة وله نقارتان كبيرتان من فضة عليهما قفل ويفتح الباب الكريم في كل يوم جمعة بعد الصلاة ويفتح في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ورسمهم في فتحه أن يضعوا كرسيا شبه المنبر له درج وقوائم خشب لها أربع بكرات يجري الكرسي عليها ويلصقونه إلى جدار الكعبة الشريفة فيكون درجه الأعلى متصلا بالعتبة الكريمة ثم يصعد كبير الشيبيين وبيده المفتاح الكريم ومعه السدنة فيمسكون الستر المسبل على باب الكعبة المسمى بالبرقع خلال ما يفتح رئيسهم الباب فإذا فتحه قبل العتبة الشريفة ودخل البيت وحده وسد الباب وأقام قدر ما يركع ركعتين ثم يدخل سائر الشيبيين ويسدون الباب أيضا ويركعون ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول وفي أثناء ذلك يقفون مستقبلين الباب الكريم بأبصار خاشعة وقلوب ضارعة وأيد مبسوطة إلى الله فإذا فتح كبروا ونادوا اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين وداخل الكعبة الشريفة مفروش بالرخام المجزع وحيطانه كذلك وله أعمدة ثلاثة طوال مفرطة الطول من خشب الساج بين كل عمود منها وبين الآخر أربع خطا وهي متوسطة في الفضاء داخل الكعبة الشريفة يقابل الأوسط منها نصف عرض

_ 1 عضادتا الباب: خشبتاه من جانبيه.

الصفح الذي بين الركنين اليماني والشامي وستور الكعبة الشريفة من الحرير الأسود مكتوب فيها بالأبيض وهي تتلألأ عليها نورا وإشراقا وتكسو جميها من الأعلى إلى الأرض ومن عجائب الآيات في الكعبة الشريفة أن بابها يفتح والحرم غاص بأمة لا يحصيها إلا الله الذي خلقهم ورزقهم فيدخلونها أجمعين ولا تضيق عنهم ومن عجائبها أنها لا تخلو عن طائف أبداً ليلاً ولا نهاراً ولم يذكر أحد أنه رآها قط دون طائف ومن عجائبها أن حمام مكة وسواه من الطير لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطيران وتجد الحمام يطير على أعلى الحرم كله فإذا حاذى الكعبة الشريفة عرج عنها إلى إحدى الجهات ولم يعلوها ويقال لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان به مرض فأما أن يموت لحينه أو يبرأ من مرضه فسبحان الذي خصها بالتشريف والتكريم وجعل لها المهابة والتعظيم. خبر الميزاب المبارك: والميزاب في أعلى الصفح الذي يلي الحجر وهو من الذهب وسعته شبر واحد وهو بارز بمقدار ذراعين. والموضع الذي تحت الميزاب مظنة استجابة الدعاء وتحت الميزاب في الحجر هو قبر إسماعيل عليه السلام وعليه رخامة خضراء مستطيلة على شكل محراب متصلة برخامة خضراء مستديرة وكلتاهما سعتها مقدار شبر وكلتاهما غريبة الشكل رائقة المنظر وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر عليها السلام وعلامته رخامة خضراء مستديرة سعتها مقدار شبر ونصف وبين القبرين سبعة أشبار. خبر الحجر الأسود: وأما الحجر الأسود فارتفاعه عن الأرض ستة أشبار فالطويل من الناس يتطامن لتقبيله والصغير يتطاول إليه وهو ملصق في الركن الذي في جهة المشرق وسعته ثلثا شبر وطوله شبر وعقدة ولا يعلم قدر ما دخل منه في الركن وفيه أربع قطع ملصقة ويقال أن القرمطي لعنه الله كسره وقيل أن الذي كسره سواه ضربه بدبوس فكسره وتبادر الناس إلى قتله وقتل بسببه جماعة من المغاربة وجوانب الحجر مشدودة بصحيفة من فضة يلوح بياضها على سواد

الحجر الكريم فتنجلي منه العيون حسناً باهراً ولتقبيله لذة يتنعم بها الفم ويود لاثمه أن لا يفارق لثمه خاصية مودعة فيه وعناية به وكفى قول النبي صلى الله عله وسلم أنه يمين الله في أرضه1 نفعنا الله باستلامه ومصافحته وأوفد عليه كل شيق2 إليه وفي القطعة الصحيحة من الحجر الأسود مما يلي جانبه ليمين مستلمه نقطة بيضاء صغيرة مشرقة كأنها خال في تلك الصحيفة البهية وترى الناس إذا طافوا بها يتساقط بعضهم على بعض ازدحاماً على تقبيله فقلما يتمكن أحد من ذلك إلا بعد المزاحمة الشديدة وكذلك يصنعون عند دخول الحرم ومن عند الحجر الأسود ابتداء الطواف وهو أول الأركان التي يلقاها الطائف فإذا استلمه تقهقر عنه قليلاً وجعل الكعبة الشريفة عن يساره ومضى في طوفه ثم يلقى بعده الركن العراقي وهو إلى جهة الشمال ثم يلقى الركن الشامي وهو إلى جهة الغرب ثم يلقى الركن اليماني وهو إلى جهة الجنوب ثم يعود إلى الحجر الأسود وهو إلى جهة الشرق. خبر المقام الكريم: اعلم أن بين باب الكعبة شرفها الله وبين الركن العراقي موضعاً طوله اثنا عشر شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك وارتفاعه نحو شبرين وهو موضع المقام في مدة إبراهيم عليه السلام ثم صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى وبقي ذلك الموضع شبه الحوض وإليه ينصب ماء البيت الحرام إذا غسل وهو موضع مبارك يزدحم الناس للصلاة فيه وموضع المقام الشريف يقابل ما بين الركن العراقي والباب الشريف وهو إلى الباب أميل وعليه قبة تحتها شباك حديد متجاف عن المقام الشريف قدر ما تصل أصابع الإنسان إذا ما أدخل يده من ذلك الشباك إلى الصندوق والشباك مقفل ومن ورائه موضع محوز قد جعل مصلى لركعتي الطواف وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل

_ 1 قال الصنعاني في سبل السلام: وروى الأزرقي بإسنادٍ صحيحٍ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن هذا الركن يمين الله عز وجل في الأرض يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه". وأخرج عنه: "الركن يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه والذي نفس ابن عباس بيده ما من امرئ مسلم يسأل عنده شيئاً إلاّ أعطاه إيّاه". 2 أي: مشتاق متشوف إليه.

المسجد أتى البيت فطاف بها سبعا ثم أتى المقام فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} 1. وركع خلفه ركعتين وخلف المقام مصلى إمام الشافعية في الحطيم الذي هنالك. خبر الحِجْر والمطاف: ودور جدار الحِجْر تسع وعشرون خطوة وهي أربعة وتسعون شبراً من داخل الدائرة وهو بالرخام البديع المجزع المحكم الإلصاق وارتفاعه خمسة أشبار ونصف شبر وسعته أربعة أشبار ونصف شبر وداخل الحجر بلاط واسع مفروش بالرخام المنظم المعجز الصنعة البديع الاتقان وبين جدار الكعبة الشريفة الذي تحت الميزاب وبين ما يقابله من جدار الحجر على خط استواء أربعون شبراً وللحجر مدخلان أحدهما بينه وبين الركن العراقي وسعته ستة أذرع وهذا الموضع هو الذي تركته قريش من البيت حين بنته كما جاءت الآثار الصحاح والمدخل الآخر عند الركن الشامي وسعته أيضا ستة أذرع وبين المدخلين ثمانية وأربعون شبرا وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق وقد اتسعت عن البيت بمقدار تسع خطا إلا في الجهة التي تقابل المقام الشريف فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به وسائر الحرم مع البلاطات مفروش برمل أبيض وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة. بئر زمزم: وقبة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود وبينهما أربع وعشرون خطوة والمقام الشريف عن يمين القبة. ومن ركنها إليه عشر خطىً. وداخل القبة مفروش بالرخام الأبيض وتنور البئر المباركة في وسط القبة مائلا إلى الجدار المقابل للكعبة الشريفة. وهو من الرخام البديع الإلصاق مفروغ بالرصاص. ودوره أربعون شبرا وارتفاعه أربعة أشبار ونصف شبر وعمق البئر إحدى عشرة قامة وهم يذكرون أن ماءها يتزايد في كل ليلة جمعة وباب القبة إلى جهة الشرق وقد

_ 1 البقرة: 125.

استدارت بداخله سقاية سعتها شبر وعمقها مثل ذلك وارتفاعها عن الأرض نحو خمسة أشبار تملأ ماء للوضوء وحولها مسطبة يقعد الناس عليها للوضوء ويلي قبة زمزم قبة الشراب المنسوبة إلى العباس رضي الله عنه وبابها جهة الشمال وهي الآن يجعل بها ماء زمزم في قلال يسمونها الدوارق وكل دورق له مقبض واحد وتترك بها ليبرد فيها الماء فيشربه الناس وبها اختزان المصاحف الشريفة والكتب التي للحرم الشريف وبها خزانة تحتوي على تابوت مبسوط متسع فيه مصحف كريم بخط زيد بن ثابت رضي الله عنه منتسخ سنة ثمان عشرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما وأهل مكة إذا أصابهم قحط أو شدة أخرجوا هذا المصحف الشريف وفتحوا باب الكعبة ووضعوه على العتبة الشريفة ووضعوه في مقام إبراهيم عليه السلام واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم داعين متضرعين متوسلين بالمصحف العزيز والمقام الشريف فلا ينفصلون إلا وقد تداركهم الله برحمته وتغمدهم بلطفه. ويلي قبة العباس رضي الله تعالى عنه على انحراف منها القبة المعروفة بقبة اليهودية. أبواب المسجد الحرام وما يحيط به من المشاهد الشريفة: وأبواب المسجد الحرام شرفه الله تعالى تسعة عشر بابا وأكثرها مفتحة على أبواب كثيرة فمنها باب الصفا وهو مفتح على خمسة أبواب وكان قديما يعرف بباب بني مخزوم وهو أكبر أبواب المسجد ومنه يخرج إلى المسعى ويستحب للوافد على مكة أن يدخل المسجد الحرام شرفه الله من باب بني شيبة ويخرج بعد طوافه من باب الصفا جاعلاً طريقه بين الأسطوانتين اللتين أقامهما أمير المؤمنين المهدي رحمه الله عَلماً على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا ومنها باب أجياد الأصغر مفتح على بابين ومنها باب الخياطين مفتح على بابين ومنها باب العباس رضي الله عنه مفتح على ثلاثة أبواب ومنها باب النبي صلى الله عليه وسلم مفتح على بابين ومنها باب بني شيبة وهو ركن الجدار الشرقي من جهة الشمال أمام باب الكعبة الشريفة متياسراً وهو مفتح على ثلاثة أبواب وهو باب بني عبد شمس ومنه كان دخول الخلفاء ومنها باب صغير إزاء باب بني شيبة لا اسم له وقيل يسمى باب الرباط لأنه يدخل منه لرباط السدرة ومنها باب الندوة ويسمى بذلك ثلاثة أبواب اثنان منتظمان والثالث

في الركن الغربي من دار الندوة ودار الندوة قد جعلت مسجدا شارعا في الحرام مضافا إليه وهي تقابل الميزاب ومنها باب صغير لدار العجلة محدث ومنها باب السدرة واحد وباب العمرة واحد وهو من أجمل أبواب الحرم وباب إبراهيم واحد والناس مختلفون في نسبته فبعضهم ينسبه إلى إبراهيم الخليل عليه السلام والصحيح أنه منسوب إلى إبراهيم الخوزي من الأعاجم وباب الحزوة مفتح على بابين وباب ثالث ينسب إليه مفتح على بابين ويتصل لباب الصفا ومن الناس من ينسب البابين من هذه الأربعة المنسوبة لأجياد إلى الدقاقين. وصوامع المسجد الحرام خمس إحداهن على ركن أبي قبيس عند باب الصفا والأخرى على ركن باب بني شيبة والثالثة على باب دار الندوة والرابعة على ركن باب السدرة والخامسة على ركن أجياد، وبمقربة من باب العمرة مدرسة السلطان المعظم يوسف بن رسول ملك اليمن المعروف بالملك المظفر الذي تنسب إليه الدراهم المظفرية باليمن وهو كان يكسو الكعبة إلى أن غلبه على ذلك الملك المنصور قلاوون وبخارج باب إبراهيم زاوية كبيرة فيها دار إمام المالكية الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل وعلى باب إبراهيم قبة عظيمة مفرطة السمو قد صنع في داخلها غرائب صنع الجص ما يعجز عنه الوصف وبإزاء هذا الباب عن يمين الداخل إليه كان يقعد الشيخ العابد جلال الدين محمد بن أحمد الأفشهري وخارج باب إبراهيم بئر تنسب كنسبته وعنده أيضا دار الشيخ الصالح دانيال العجمي الذي كانت صدقات العراق في أيام السلطان أبي سعيد تأتي على يديه وبمقربة منه رباط الموفق وهو من أحسن الرباطات سكنته أيام مجاورتي بمكة المعظمة وكان به في ذلك العهد الشيخ الصالح الطيار سعادة الجراني ودخل يوما إلى بيته بعد صلاة العصر فوجد ساجدا مستقبل الكعبة الشريفة ميتا من غير مرض كان به رضي الله عنه وسكن به الشيخ الصالح شمس الدين محمد الشامي نحو من أربعين سنة وسكن به الشيخ الصالح شعيب المغربي من كبار الصالحين دخلت عليه يوما فلم يقع بصري في بيته على شيء سوى حصير فقلت له في ذلك فقال لي استر على ما رأيت. وحول الحرم الشريف دور كثيرة لها مناظر وسطوح يخرج منها إلى سطح

الحرم وأهلها في مشاهدة البيت الشريف على الدوام ودور لها أبواب تفضي إلى الحرم منها دار زبيدة زوجة الرشيد أمير المؤمنين ومنها دار العجلة ودار الشرابي وسواها ومن المشاهد المقدسة بمقربة من المسجد الحرام قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بمقربة من باب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البيت قبة صغيرة حيث ولدت فاطمة عليها السلام وبمقربة منها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقابلها جدار مبارك فيه حجر مبارك بارز طرفه من الحائط يستلمه الناس ويقال أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فنطق ذلك الحجر وقال يا رسول الله إنه ليس بحاضر. المسعى بين الصفا والمروة: ومن باب الصفا الذي هو من أبواب المسجد الحرام إلى الصفا ست وسبعون خطوة وسعة الصفا سبع عشرة خطوة وله أربع عشرة درجة علياهن كأنها مسطبة وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاث وتسعون خطوة منها الصفا إلى الميل الأخضر ثلاث وتسعون خطوة ومن الميل الأخضر إلى الميلين الأخضرين خمس وسبعون خطوة ومن الميلين الأخضرين إلى المروة ثلاثمائة وخمس وعشرون خطوة وللمروة خمس درجات وهي ذات قوس واحد كبير وسعة المروة سبع عشرة خطوة والميل الأخضر هو سرية خضراء مثبتة مع ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم عن يسار الساعي إلى المروة والميلان الأخضران هما ساريتان خضراوان إزاء باب علي من أبواب الحرم أحدهما في جدار الحرم عن يسار الخارج من الباب والأخرى تقابلها وبين الميل الأخضر والميلين الأخضرين يكون الرمل1 ذاهبا وعائدا وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا البزازون والعطارون عند باب شيبة وبين الصفا والمروة دار العباس رضي الله عنه وهي الآن رباط يقطنه المجاورون عمره الملك الناصر رحمه الله وبني أيضا داراً

_ 1 الرمل: الهرولة.

وضوء فيما بين الصفا والمروة سنة ثمان وعشرين وجعل لها بابين أحدهما في السوق المذكور والآخر في العطارين وعليها ربع يسكنه خدامها وتولى بناء ذلك الأمير علاء الدين بن هلال وعن يمين المروة دار أمير مكة سيف الدين عطيفة بن أبي نمي وسنذكره. الجبانة المباركة: وجبانة مكة خارجة باب المعلّى، ويعرف ذلك الموضع بالحجون وإياه عني الحارث بن مضاض الجرهمي بقوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كما أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وبهذه الجبانة مدفن الجم الغفير من الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين والأولياء إلا أن مشاهدهم دثر وذهب عن أهل مكة علمها فلا يعرف منها إلا القليل فمن المعروف منها قبر أم المؤمنين ووزير سيد المرسلين خديجة بنت خويلد أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ما عدا إبراهيم وجدة السبطين الكريمين صلوات الله وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وبمقربة منه قبر الخليفة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم أجمعين وفيه الموضع الذي صلب فيه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وكان به بنية هدمها أهل الطائف غيرة منهم لما كان يلحق حجاجهم المبير1 من اللعن وعن يمين مستقبل الجبانة مسجد خراب يقال إنه المسجد الذي بايعت الجن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الجبانة طريق الصاعد إلى عرفات وطريق الذاهب إلى الطائف وإلى العراق. المشاهد الواقعة خارج مكة: فمنها الحجون وقد ذكرناه، ويقال أيضاً: أن الحجون هو الجبل المطل

_ 1 المبير، أي: المهلك، وإنما كان اللعن يلحق حجاج الطائف استنكاراً لما صنعه الحجاج بن يوسف الثقفي – وهو من أهل الطائف – من رمي الكعبة بالمنجنيق، وصلب عبد الله بن الزبير.

على الجبانة. ومنها المحصب وهو أيضا الأبطح وهو يلي الجبانة المذكورة، وفيه خيف بني كنانة الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ذو طوى وهو واد يهبط على قبور المهاجرين التي بالحصحاص دون ثنية كداء ويخرج منه إلى الأعلام الموضوعة حجزاً بين الحل والحرم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا قدم إلى مكة شرفها الله تعالى يبيت ثم يغتسل منه ويغدو إلى مكة ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ومنها ثنية كُدى "بضم الكاف" وهي بأعلى مكة ومنها دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى مكة ومنها ثنية كداء "بفتح الكاف"، ويقال لها الثنية البيضاء، وهي بأسفل مكة ومنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الوداع وهي بين جبلين وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق وكل من يمر يرجمه بين جبلين. وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق وكل من يمر يرجمه بحجر ويقال إنه قبر أبي لهب وزوجه حمالة الحطب وبين هذه الثنية وبين مكة بسيط سهل ينزل الركب إذا حدروا عن منى وبمقربة من هذا الموضع على نحو ميل من مكة شرفها الله مسجد بإزائه حجر موضوع على الطريق كأنه مسطبة يعلوه حجر آخر كان فيه نقش فدثر رسمه يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد بذلك الموضع مستريحا عند مجيئه من عمرته فيتبرك الناس بتقبيله ويستندون إليه، ومنها التنعيم وهو على فرسخ من مكة ومنه يعتبر أهل مكة وهو أدنى الحل إلى الحرم ومنه اعتمرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأمره أن يعمرها من التنعيم وبنيت هنالك مساجد ثلاثة على الطريق تنسب كلها إلى عائشة رضي الله عنها وطريق التنعيم طريق فسيح والناس يتحرون كنسه في كل يوم رغبة في الأجر والثواب لأن من المعتمرين من يمشي فيه حافياً وفي هذا الطريق الآبار العذبة التي تسمى الشبيكة، ومنها الزاهر وهو على نحو ميلين من مكة على طريق التنعيم وهو موضع على جانبي الطريق فيه أثر دور وبساتين وأسواق. وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيسان الشرب وأواني الوضوء يملؤها خديم ذلك الموضع من آبار الزاهر وهي بعيدة القعر جدا والخديم من الفقراء المجاورين وأهل الخير يعينونه على ذلك لما فيه من المرفقة للمعتمرين من الغسل والشرب والوضوء وذو طوى يتصل بالزاهر.

جبال مكة: منها جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب والشرق من مكة حرسها الله وهو أحد الأخشبين وأدنى الجبال من مكة شرفها الله ويقابل ركن الحجر الأسود وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة وكان الملك الظاهر رحمه الله أراد أن يعمره وهو مطل على الحرم الشريف وعلى جميع البلد ومنه يظهر حسن مكة شرفها الله وجمال الحرم واتساعه والكعبة المعظمة وذكر أن جبل أبي قبيس هو أول جبل خلقه الله تعالى وقد استودع فيه الحجر زمان الطوفان وكانت قريش تسميه الأمين لأنه أدى الحجر الذي استودعه فيه الخليل إبراهيم عليه السلام ويقال أن قبر آدم عليه السلام به وفي جبل أبي قبيس موضع موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انشق له القمر. ومنها قعيقعان وهو أحد الأخشبين. ومنها الجبل الأحمر وهو في جهة الشمال من مكة شرفها الله. ومنها الخندمة وهو جبل عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر ومنها جبل الطير وهو على أربعة عن جهتي طريق التنعيم يقال إنها الجبال التي وضع عليها الخليل عليه السلام أجزاء الطير ثم دعاها حسبما نص الله في كتابه العزيز عليه أعلام من حجارة، ومنها جبل حراء وهو في الشمال من مكة شرفها الله تعالى على نحو فرسخ منها وهو مشرف على منى ذاهب في الهواء عالي القمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه كثيرا قبل المبعث وفيه أتاه الحق من ربه وبدأ الوحي وهو الذي اهتز تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم اثبت فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد1، واختلف فيمن كان معه يومئذ، وروي أن العشرة كانوا معه. وقد روي أيضا أن جبل ثبير اهتز تحته أيضاً، ومنها جبل ثور وهو على قدر فرسخ من مكة شرفها الله تعالى على طريق اليمن وفيه الغار الذي أوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خروجه مهاجراً من مكة شرفها الله ومعه الصديق رضي الله عنه حسبما ورد في الكتاب العزيز. ذكر الأرزقي في كتابه: أن الجبل المذكور نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إليّ يا محمد إليّ إليّ فقد آويت قبلك

_ 1 روى البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: أثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيدان.

سبعين نبياً فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار واطمأن به وصاحبه الصديق معه نسجت العنكبوت من حينها على باب الغار وصنعت الحمامة عشاً وفرخت فيه بإذن الله تعالى فانتهى المشركون ومعهم قصاص الأثر إلى الغار فقالوا ها هنا انقطع الأثر ورأوا العنكبوت قد نسج على فم الغار والحمام مفرخة فقالوا ما دخل أحد هنا وانصرفوا فقال الصديق يا رسول الله لو ولجوا علينا منه قال كنا تخرج من هنا وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه باب فانفتح فيه باب بمقدرة الملك الوهاب1. والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك فيرومون دخوله من الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بذلك فمنهم من يتأتي له. ومنهم من لا يتأتى وينشب فيه حتى يتناول بالجذب العنيف ومن الناس من يصل أمامه ولا يدخله وأهل تلك البلاد يقولون إنه من كان لرشده دخله ومن كان لزنية لم يقدر على دخوله ولهذا يتحاشاه كثير من الناس لأنه مخجل فاضح. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحجاج الأكياس أن سبب صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي الشق الذي يدخل منه حجراً كبيراً معترضاً. فمن دخل من ذلك الشق منبطحاً على وجهه وصل رأسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج، ولا يمكنه أن ينطوي إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض. فذلك هو الذي

_ 1 ذكر الإمام أبو الفداء ابن كثير في السيرة النبوية أن الصديق رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، وذكر أن هذا مخرج في الصحيحين، وقال بعد ذلك: وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو جاؤونا من ها هنا لذهبنا من هنا"، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه. وقد ورد هذا كذلك في السيرة النبوية لأحمد زيني وحلان منسوباً إلى بعض أهل السير، ولم يحدد الإمام ابن كثير، أو زيني وحلان من هم أهل السير الذين قالوا ذلك، وقال ابن كثير بعد ذلك: "وهذا ليس بِمُنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسنادٍ قويّ ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئاً من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صحّ أو حسن سنده قلنا به". وقال أحمد زيني وحلان: "وهذا ليس بِمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولا بِمُستبعدٍ بالنسبة لمعجزته العميمة صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذي ذكره ما ذكر له إسناداً متصلاً لكن حسن الظن بالأئمة يقتضي أنهم لا يذكرون مثل ذلك إلاّ بتوقيف".

ينشب ولا يخلص إلا بعد الجهد والجذب إلى خارج ومن دخل منه مستلقياً على ظهره أمكنه، لأنّه إذا وصل رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه، واستوى قاعداً، فكان ظهره مستنداً إلى الحجر المعترض وأوسطه في الشق ورجلاه من خارج الغار ثم يقوم قائماً بداخل الغار. ومما اتفق بهذا الجبل لصاحبين من أصحابي أحدهما الفقيه المكرم أبو محمد عبد الله بن فرحان الأفريقي التوزري والآخر أبو العباس أحمد الأندلسي الوادي آشي أنهما قصدا الغار في حين مجاورتهما بمكة شرفها الله تعالى في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وذهبا منفردين لم يستصحبا دليلاً عارفاً بطريقه فتاها وضلا طريق الغار وسلكا طريقا سواها منقطعة وذلك في أوان اشتداد الحر وحمى القيظ فلما نفد ما كان عندهما من الماء وهما لم يصلا إلى الغار أخذا في الرجوع إلى مكة شرفها الله تعالى فوجدا طريقا فاتبعاه وكان يفضي إلى جبل آخر واشتد بهما الحر وأجهدهما العطش وعاينا الهلاك وعجز الفقيه أبو محمد عبد الله بن فرحان عن المشي جملة وألقى بنفسه إلى الأرض ونجا الأندلسي بنفسه وكان فيه فضل قوة ولم يزل يسلك تلك الجبال حتى أفضى به الطريق إلى أجياد فدخل إلى مكة شرفها الله تعالى وقصدني وأعلمني بهذه الحادثة وبما كان من أمر عبد الله التوزري وانقطاعه في الجبل وكان ذلك في آخر النهار ولعبد الله المذكور ابن عم اسمه حسن وهو من سكان وادي نخلة وكان إذ ذاك بمكة فأعلمته بما جرى على ابن عمه وقصدت الشيخ الصالح الإمام أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بخليل إمام المالكية نفع الله به فأعلمته بخبره فبعث جماعة من أهل مكة عارفين بتلك الجبال والشعاب في طلبه وكان من أمر عبد الله التوزري أنه لما فارقه رفيقه لجأ إلى حجر كبير فاستظل بظله وأقام على تلك الحالة من الجهد والعطش والغربان تطير فوق رأسه وتنتظر موته فلما انصرم النهار وأتى الليل وجد في نفسه قوة ونعشه برد الليل فقام عند الصباح على قدميه ونزل من الجبل إلى بطن واد حجبت الجبال عنه الشمس فلم يزل ماشيا إلى أن بدت له دابة فقصد قصدها فوجد خيمة للعرب فلما رآها وقع إلى الأرض ولم يستطع النهوض فرأته صاحبة الخيمة وكان زوجها قد ذهب إلى ورد الماء فسقته ما كان عندها من الماء فلم يرو وجاء زوجها فسقاه قربة ماء فلم يرو

وأركبه حماراً له وقدم به مكة فوصلها عند صلاة العصر من الثاني متغيراً كأنه قام من قبر. وكانت إمارة مكة في عهد دخولي إليها للشريفين الأجلين الأخوين أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة ابني الأمير أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسنيين ورميثة أكبرهما سنا ولكنه كان يقدم اسم عطيفة في الدعاء له بمكة لعدله ولرميثة من الأولاد أحمد وعجلان، وهو أمير مكة في هذا العهد، وتقية وسند وأم قاسم، ولعطيفة من الأولاد محمد ومبارك ومسعود. ودار عطيفة عن يمين المروة ودار أخيه رميثة برباط الشرابي عند باب بني شيبة وتضرب الطبول على باب كل واحد منهما عند صلاة المغرب من كل يوم. أخبار أهل مكة وفضائلهم: ويعرف أهل مكة بالأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بالطعام للفقراء المنقطعين والمجاورين ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق ثم يطعمهم وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران حيث يطبخ الناس أخبازهم فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له ولا يردهم خائبين ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر. ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق ومع كل واحد منهم قفتان كبرى وصغرى وهم يسمون القفة مكتلا فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق فيشتري الحبوب واللحم والخضر ويعطي ذلك الصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه واللحم والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيأ له طعامه منها ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته فلا يذكر أن أحداً من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط بل يؤدي ما حمل على أتم الوجوه ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس. وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبداً ناصعة ساطعة ويستعملون الطيب كثيرا ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الآراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن برعات الجمال وذوات صلاح وعفاف وهن يكثرن التطيب حتى

إن أحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيباً وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهنّ وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقاً. ولأهل مكة عوائد حسنة وغيرة سنذكرها أن شاء الله تعالى إذا فرغنا من ذكر فضائلها ومجاوريها. نبذة عن قاضي مكة وخطيبها وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها: قاضي مكة العالم الصالح العابد نجم الدين محمد الإمام العالم محيي الدين الطبري، وهو فاضل كثير الصدقات والمواساة للمجاورين حسن الأخلاق كثير الطواف والمشاهدة للكعبة الشريفة يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة وخصوصاً في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين، وكان سلطان مصر الملك الناصر رحمه الله يعظمه كثيراً وجميع صدقاته وصدقات أمرائه تجري على يديه وولده شهاب الدين فاضل وهو الآن قاضي مكة شرفها الله. وخطيب مكة الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام الفصيح المصقع وحيد عصره بهاء الدين الطبري وهو أحد الخطباء الذين ليس بالمعمورة مثلهم بلاغة وحسن بيان وذكر لي أنه ينشيء لكل جمعة خطبة ثم لا يكررها فيما بعد. وإمام الموسم وإمام المالكية بالحرم الشريف وهو الشيخ الفقيه العالم الصالح الخاشع الشهير أبو عبد الله محمد بن الفقيه الإمام الصالح الورع أبي زيد عبد الرحمن وهو المشتهر بخليل نفع الله به وأمتع ببقائه وأهله من بلاد الجريد من إفريقية ويعرفون بها ببني حيون من كبارها ومولده ومولد أبيه بمكة شرفها الله وهو أحد الكبار من أهل مكة بل واحدها وقطبها بإجماع الطوائف على ذلك مستغرق العبادة في جميع أوقاته حيي كريم النفس حسن الأخلاق كثير الشفقة لا يرد من سأله خائباً. ولقد رأيت أيام مجاورتي بمكة شرفها الله، وأنا إذا ذاك ساكن منها بالمدرسة المظفرية النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو قاعد بمجلس التدريس في المدرسة المذكورة بجانب الشباك الذي تشاهد منه الكعبة الشريفة والناس يبايعونه فكنت أرى الشيخ أبا عبد الله المدعو بخليل قد دخل وقعد القرفصاء بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبايعك على

كذا وكذا، وعدد أشياء منها وأن لا أرد من بيتي مسكينا خائبا وكان ذلك آخر كلامه فكنت أعجب من قوله، وأقول في نفسي كيف يقول هذا ويقدر عليه، مع كثرة فقراء مكة واليمن والزيالعة والعراق والعجم ومصر والشام. وكنت أراه حين ذلك لابساً جبة بيضاء قصيرة من ثياب القطن المدعوة بالقفطان كان يلبسها في بعض الأوقات فلما صليت الصبح غدوت عليه وأعلمته برؤياي فسر بها وبكى وقال لي تلك الجبة أهداها بعض الصالحين لجدي فأنا ألبسها تبركاً، وما رأيته بعد ذلك يرد سائلا خائبا، وكان يأمر خدامه يخبزون الخبز ويطبخون الطعام ويأتون به إليّ بعد صلاة العصر من كل يوم، وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر ولذلك صحت أبدانهم وقلت فيهم الأمراض والعاهات. وكان الشيخ خليل متزوجا بنت القاضي نجم الدين الطبري فشك في طلاقها وفارقها وتزوجها بعده الفقيه شهاب الدين النويري من كبار المجاورين وهو من صعيد مصر وأقامت عنده أعواما وسافر بها إلى المدينة الشريفة ومعها أخوها شهاب الدين فحنث في يمين بالطلاق ففارقها على ضنانته بها وراجعها الفقيه خليل بعد سنين عدة. ومن أعلام مكة إمام الشافعية شهاب الدين بن البرهان. ومنهم إمام الحنفية شهاب الدين أحمد بن علي من كبار أئمة مكة وفضلائها يطعم المجاورين وأبناء السبيل وهو أكرم فقهاء مكة ويدان في كل سنة أربعين ألف درهم وخمسين ألفا فيؤديها الله عنه وأمراء الأتراك يعظمونه ويحسنون الظن به لأنه إمامهم. ومنهم إمام الحنابلة المحدث الفاضل محمد بن عثمان البغدادي الأصل المكي المولد وهو نائب القاضي نجم الدين والمحتسب بعد قتل تقي الدين المصري والناس يهابونه لسطوته. كان تقي الدين المصري محتسبا بمكة وكان له دخول فيما يعنيه ولا يعينه فاتفق في بعض السنين أن أتى أمير الحاج بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سرق بعض الحجاج فأمر بقطع يده فقال له تقي الدين أن لم تقطعها بحضرتك وإلا غلب أهل مكة خدامك عليه فاستنقذوه منهم وخلصوه فأمر بقطع يده في حضرته فقطعت وحقدها لتقي الدين ولم يزل يتربص به الدوائر ولا قدرة له عليه لأن له حسبا من الأمير ين رميثة وعطيفة والحسب عندهم أن يعطي أحدهم هدية من عمامة أو شاشية بمحضر الناس تكون جوارا لمن أعطيته

ولا تزول حرمتها معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة فأقام تقي الدين بمكة أعواما ثم عزم على الرحلة وودع الأمير ين وطاف طواف الوداع وخرج من باب الصفا فلقيه صاحبه الأقطع وتشكى له ضعف حاله وطلب منه ما يستعين به على حاجته فانتهره تقي الدين وزجره فاستل خنجراً له يعرف عندهم بالجنبية وضربه ضربة واحدة كان فيها حتفه. ومنهم الفقيه الصالح زين الدين الطبري شقيق نجم الدين المذكور من أهل الفضل والإحسان للمجاورين. ومنهم الفقيه المبارك محمد بن فهد القرشي من فضلاء مكة وكان ينوب عن القاضي نجم الدين بعد وفاة الفقيه محمد بن عثمان الحنبلي. ومنهم العدل الصالح محمد بن البرهان زاهد ورع مبتلي بالوساس رأيته يوماً يتوضأ من بركة المدرسة المظفرية فيغسل ويكرر ولما مسح رأسه أعاد مسحه مرات ثم لم يقنعه ذلك فغطس رأسه في البركة وكان إذا أراد الصلاة ربما صلى الإمام الشافعي وهو يقول نويت نويت فيصلي من غيره وكان كثير الطواف والإعتمار والذكر. خبر المجاورين بمكة: فمنهم الإمام العالم الصالح الصوفي المحقق العابد عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليمني الشافعي الشهير باليافعي، كثير الطواف آناء الليل وأطراف النهار وكان إذا طاف من يصعد إلى سطح المدرسة المظفرية فيقعد مشاهدا للكعبة الشريفة إلى أن يغلبه النوم فيجعل تحت رأسه حجرا وينام يسيرا ثم يجدد الوضوء ويعود لحاله من الطواف حتى يصلي الصبح وكان متزوجا ببنت الفقيه العابد شهاب الدين بن البرهان وكانت صغيرة السن فلا تزال تشكو إلى أبيها حالها فيأمرها بالصبر فأقامت معه على ذلك سنين ثم فارقته. ومنهم الصالح العابد نجم الدين الأصفوني كان قاضيا ببلاد الصعيد فانقطع إلى الله تعالى وجاور بالحرم الشريف وكان يعتمر في كل يوم من التنعيم ويعتمر في رمضان: مرتين في اليوم اعتمادا على ما في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" 1. ومنهم الشيخ الصالح

_ 1 الحديث روى معناه بلفظ آخر أبو داود وابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه كذلك بلفظه البخاري والنسائي وابن ماجه، وليس فيه لفظ: معي. ورواه مسلم بالروايتين في إحداهما لفظ معي، والأخرى بدونها. كما رواه ابن حبان في صحيحه، وقد روي بروايات تختلف لفظاً وتتفق معنىً".

العابد شمس الدين محمد الحلبي كثير الطواف والتلاوة من قدماء المجاورين توفي بمكة. ومنهم الصالح أبو بكر الشيرازي المعروف بالصامت كثير الطواف أقام بمكة أعواما لا يتكلم فيها. ومنهم الصالح خضب العجمي كثير الصوم والتلاوة والطواف والشيخ الصالح برهان الدين العجمي الواعظ كان ينصب له كرسي اتجاه الكعبة الشريفة فيعظ الناس ويذكرهم بلسان فصيح وقلب خاشع يأخذ بمجامع القلوب. والصالح المجود برهان الدين إبراهيم المصري مقريء مجيد ساكن رباط السدرة ويقصده أهل مصر والشام بصدقاتهم ويعلم الأيتام كتاب الله تعالى ويقوم بمؤنهم ويكسوهم. والصالح العابد عز الدين الواسطي من أصحاب الأموال الطائلة يحمل إليه من بلده المال الكثير في كل سنة فيبتاع الحبوب والتمر ويفرقها على الضعفاء والمساكين ويتولى حملها إلى بيوتهم بنفسه ولم يزل ذلك دأبه إلى أن توفي. والفقيه الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن رزق الله الأنجري من أهل قطر طنجة من كبار الصالحين جاور بمكة سِنيناً وبها وفاته، كانت بينه وبين والدي صحبة قديمة، ومتى أتى إلى بلدنا طنجة نزل عندنا وكان له بيت بالمدرسة المظفرية يعلم العلم فيها نهارا ويأوى بالليل إلى مسكنه برباط ربيع وهو من أحسن الرباطات بمكة بداخله بئر لا يماثلها بئر بمكة وسكانه الصالحون وأهل ديار الحجاز يعظمون هذا الرباط تعظيما شديدا وينذرون له النذور وأهل الطائف يأتون بالفواكه ومن عاداتهم أو كل من له بستان من النخيل والعنب والفرسك وهو الخوخ والتين وهم يسمونه الخمط يخرج منه العشر لهذا الرباط ويوصلون ذلك إليه على جمالهم ومسيرة ما بين مكة والطائف يومان ومن لم يف بذلك نقصت فواكهه في السنة الآتية وأصابتها الجوائح. أتى يوما غلمان الأمير أبي نمي صاحب مكة إلى هذا الرباط ودخلوا بخيل الأمير وسقوها من تلك البئر فلما عادوا بالخيل إلى مرابطها أصابتها الأوجاع وضربت بأنفسها الأرض برؤوسها وأرجلها. واتصل الخبر بالأمير أبي نمي فأتى

باب الرباط بنفسه واعتذر إلى المساكين الساكنين به واستصحب واحدا منهم فمسح على بطون الدواب بيده فأراقت ما كان في أجوافها من ذلك الماء وبرئت مما أصابها ولم يعرضوا بعدها للرباط إلا بالخير. ومنهم الصالح المبارك أبو العباس الغماري من أصحاب أبي الحسن بن رزق الله وسكن رباط ربيع ووفاته بمكة. ومنهم الصالح أبو يعقوب يوسف من بادية سبتة كان خديما للشيخين المذكورين فلما توفيا صار شيخ الرباط بعدهما. ومنهم الصالح السابح السالك أبو الحسن علي بن فرعوس التلمساني, ومنهم الشيخ سعيد الهندي شيخ رباط كلالة. روي أن الشيخ سعيد كان قصد ملك الهند محمد شاه فأعطاه مالاً عظيما قدم به مكة فسجنه الأمير عطيفة وطلبه بأداء المال فامتنع فعذب بعصر رجليه فأعطى خمس وعشرين ألف درهما نقرة وعاد إلى بلاد الهند ورأيته بها ونزل بدار الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن عيسى بن مهنى أمير عرب الشام وكان غدا ساكنا ببلاد الهند متزوجا بأخت ملكها وسيذكر أمره. فأعطى ملك الهند للشيخ سعيد جملة مال وتوجه صحبه حاج يعرف بوشل من ناس الأمير غدا وجهه الأمير المذكور ليأتيه ببعض ناسه ووجه معه أموالا وتحفا منها الخلعة التي خلعها عليه ملك الهند ليلة زفافه بأخته وزهي من الحرير الأزرق مزركشة بالذهب ومرصعة بالجوهر بحيث لا يظهر لونها لغلبة الجوهر عليها وبعث معها خمسين ألف درهم ليشتري له الخيل العتاق فسافر الشيخ سعيد صحبة وشل واشتريا سلعا بما عندهما من الأموال فلما وصلا جزيرة سقطرة المنسوب إليها الصبر السقطري خرج عليهما لصوص الهند في مراكب كثيرة فقاتلوهم قتالاً شديداً مات فيه من الفريقين جملة وكان وشل راميا فقتل منهم جماعة، ثم تغلب السراق عليهم وطعنوا وشلا طعنه مات منها بعد ذلك وأخذوا ما كان عندهم وتركوا لهم مركبهم بآلة سفره وزاده فذهبوا إلى عدن ومات بها وشل وعادة هؤلاء السراق أنهم لا يقتلون أحداً إلا حين القتال ولا يغرقونه وإنما يأخذون ماله ويتركونه يذهب بمركبه حيث شاء ولا يأخذون المماليك لأنهم من جنسهم، وكان الحاج سعيد قد سمع من ملك الهند أنه يريد إظهار الدعوة العباسية ببلده كمثل ما فعله ملوك الهند ممن تقدمه مثل السلطان شمس الدين لَلْمِش "بفتح اللام الأولى، وإسكان الثانية وكسر الميم وشين

معجم" وولده ناصر الدين ومثل السلطان جلال الدين فيروز شاه والسلطان غياث الدين بلين وكانت الخلع تأتي إليهم من بغداد فلما توفي وشل قصد الشيخ سعيد إلى الخليفة أبي العباس بن الخليفة أبي الربيع سليمان العباسي بمصر وأعلمه بالأمر فكتب له كتابا بخطه بالنيابة عنه ببلاد الهند فاستصحب الشيخ سعيد الكتاب وذهب إلى اليمن واشترى بها ثلاث خلع سوداء وركب البحر إلى الهند فلما وصل كنبايت وهي على مسيرة أربعين يوما من دهلى حضرة ملك الهند كتب صاحب الخبر إلى الملك يعلمه بقدوم الشيخ سعيد وأن معه أمر الخليفة وكتابه فورد الأمر ببعثه إلى الحضرة مكرما فلما قرب من الحضرة بعث الأمراء والقضاة والفقهاء لتلقيه ثم خرج هو بنفسه لتلقيه فتلقاه وعانقه ودفع له الأمر فقبله ووضعه على رأسه ودفع له الصندوق الذي فيه الخلع فاحتمله الملك على كاهله خطوات ولبس إحدى الخلع وكسى الأخرى الأمير غياث الدين بن محمد بن عبد القادر بن يوسف بن عبد العزيز الخليفة المنتصر العباسي وكان مقيما عنده وسيذكر خبره وكسا الخلعة الثالثة الأمير قبوله الملقب بالملك الكبير وهو الذي يقوم على رأسه ويشرد عنه الذباب وأمر السلطان فخلع على الشيخ سعيد ومن معه وأركبه على الفيل ودخل المدينة كذلك والسلطان أمامه على فرسه وعن يمينه وشماله الأمير ان اللذان كساهما الخلعتين العباسيتين والمدينة قد زينت بأنواع الزينة صنع بها إحدى عشرة قبة من الخشب كل قبة منها أربع طبقات في كل طبقة طائفة من المغنيين رجالا ونساء والراقصات وكلهم مماليك السلطان. والقبة مزينة بثياب الحرير المذهب أعلاها وأسفلها داخلها وخارجها وفي وسطها ثلاثة أحواض من جلود الجواميس مملوءة ماء قد حل فيه الجلاب يشربه كل وارد وصادر لا يمنع منه أحد وكل من يشرب منه يعطى بعد ذلك خمس عشرة ورقة من التنبول والفوفل والنورة فيأكلها فتطيب نكهته وتزيد في حمرة وجهه ولثاته وتقمع عنه الصفراء وتهضم ما أكل من الطعام. ولما ركب الشيخ سعيد على الفيل فرشت له ثياب الحرير بين يدي الفيل يطأ عليها الفيل من باب المدينة إلى دار السلطان وأنزل بدار تقرب من دار الملك وبعث له أموالا طائلة وجميع الأثواب المعلقة والمفروشة بالقباب والموضوعة بين يدي الفيل لا تعود إلى السلطان بل يأخذها أهل الطرب وأهل الصناعات الذين يصنعون القباب وخدام الأحواض وغيرهم وهكذا فعلهم متى قدم السلطان من سفر وأمر الملك بكتاب

الخليفة أن يقرأ على المنبر بين الخطبتين في كل يوم جمعة وأقام الشيخ سعيد شهراً ثم بعث معه الملك هدايا إلى الخليفة فوصل كنبايت وأقام بها حتى تيسرت أسباب حركته في البحر وكان ملك الهند قد بعث أيضا من عنده رسولا إلى الخليفة وهو الشيخ رجب البرقعي أحد شيوخ الصوفية وأصله من مدينة القرم من صحراء قفجق وبعث معه هدايا للخليفة منها حجر ياقوت قيمته خمسون ألف دينار وكتب له يطلب منه أن يعقد له النيابة عنه ببلاد الهند والسند ويبعث له سواه من يظهر هكذا نص عليه كتابه اعتقادا منه في الخلافة وحسن نية وكان للشيخ رجب أخ بديار مصر يدعى بالأمير سيف الدين الكاشف فلما وصل رجب إلى الخليفة أبى أن يقرأ الكتاب ويقبل الهدية إلا بمحضر الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر فأشار سيف الدين على أخيه رجب ببيع الحجر فباعه واشترى بثمنه وهو ثلاثمائة ألف درهم أربعة أحجار وحضر بين يدي الملك الصالح ودفع له الكتاب وأحد الأحجار ودفع سائرها لأمرائه واتفقوا على أن يكتب لملك الهند بما طلب فوجهوا الشهود إلى الخليفة وأشهد على نفسه أنه قدمه نائبا عنه ببلاد الهند وما يليها وبعث الملك الصالح رسولا من قبله وهو شيخ الشيوخ بمصر ركن الدين العجمي ومعه الشيخ رجب وجماعة من الصوفية وركبوا بحر فارس من الأبلة إلى هرمز وسلطانها يومئذ قطب الدين تمهتن طوران شاه فأكرم ثواهم وجهز لهم مركبا إلى بلاد الهند فوصلوا مدينة كنبايت والشيخ سعيد بها وأمير ها يومئذ مقبول التلتكي أحد خواص ملك الهند فاجتمع الشيخ رجب بهذا الأمير وقال له أن الشيخ سعيد إنما جاءكم بالتزوير والخلع التي ساقها إنما اشتراها بعدن فينبغي أن تثقفوه وتبعثوه لخوند عالم وهو السلطان فقال له الأمير الشيخ سعيد معظم عند السلطان فما يفعل به هذه إلا بأمره ولكني أبعثه معك ليرى فيه السلطان رأيه وكتب الأمير بذلك كله إلى السلطان وكتب به أيضا صاحب الأخبار فوقع في نفس السلطان فتغير وانقبض عن الشيخ رجب لكونه تكلم بذلك على رؤوس الأشهاد بعد ما صدر من السلطان للشيخ سعيد من الإكرام ما صدر فمنع رجب من الدخول عليه وزاد إكرام الشيخ سعيد ولما دخل شيخ الشيوخ على السلطان قام إليه وعانقه وأكرمه وكان متى دخل عليه يقوم إليه وبقي الشيخ سعيد المذكور بأرض الهند معظما مكرما وبها تركته سنة ثمان وأربعين. وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون وأمره غريب وشأنه عجيب وكان

قبل ذلك صحيح العقل خديما لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته. وكان حسن المجنون كثير الطواف بالليل وكان يرى في طوافه بالليل فقيراً يكثر الطواف ولا يراه بالنهار فلقيه ذلك الفقير ليلة وسأله عن حاله وقال يا حسن أن أمك تبكي عليك وهي مشتاقة إلى رؤيتك وكانت من إماء الله الصالحات أفتحب أن تراها قال له نعم. ولكني لا قدرة لي على ذلك فقال له نجتمع ها هنا في الليلة المقبلة أن شاء الله تعالى فلما كانت الليلة المقبلة وهي ليلة الجمعة وجده حيث واعده فطافا بالبيت ما شاء الله ثم خرج وهو في أثره إلى باب المعلى فأمره أن يسد عينيه ويمسك بثوبه ففعل ذلك ثم قال بعد ساعة أتعرف بلدك قال نعم قال ها هو هذا ففتح عينيه فإذا به على دار أمه فدخل عليها ولم يعلمها بشيء مما جرى وأقام عندها نصف شهر وأظن أن بلده مدينة آسفي ثم خرج إلى الجبانة فوجد الفقير صاحبه فقال له كيف أنت فقال ياسيدي اني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين وكنت خرجت على عادتي وغبت عنه هذه الأيام وأحب أن تردني إليه فقال له نعم وواعده في الجبانة ليلا فلما وفاه بها أمره أي يفعل كفعله في مكة شرفها الله من تغميض عينيه والإمساك بذيله ففعل ذلك فإذا به في مكة شرفها الله وأوصاه أن لا يحدث نجم الدين بشيء مما جرى ولا يحدث به غيره فلما دخل على نجم الدين قال له أين كنت يا حسن في غيبتك فأبى أن يخبره فعزم عليه فأخبره بالحكاية فقال أرني الرجل فأتى معه ليلا وأتى الرجل على عادته فلما مر بهما قال له يا سيدي هو هذا فسمعه الرجل فضرب بيده على فمه وقال اسكت أسكتك الله فخرس لسانه وذهب عقله وبقي بالحرم مولها يطوف بالليل والنهار من غير وضوء ولا صلاة والناس يتبركون به ويكسونه وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة فيقصد حانوتاً من الحوانيت فيأكل منها ما أحب لا يصده أحد ولا يمنعه بل يسر كل من أكل له شيئا وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه ومتى أتى السوق تطاول أهلها بأعناقهم إليه كل منهم يحرص على أن يأكل من

_ 1 أسفي, بفتح الهمزة والسين وكسر الفاء مدينة على شاطئ البحر المحيط بأقصى المغرب.

عنده لما جرّبوه من بركته وكذلك فعله مع السقائين متى أحب أن يشرب ولم يزل دأبه كذلك إلى سنة ثمان وعشرين فحج فيها الأمير سيف الدين يلملك فاستصحبه معه إلى ديار مصر فانقطع خبره نفعنا الله تعالى به. عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم: فمن عادتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من قبل أولي الأمر. وصلاته خلف المقام الكريم مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع وجمهور الناس بمكة على مذهبه. والحطيم خشبتان موصول ما بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على صفتهما وقد عقدت على أرجل مجصصة وعرض على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل زجاج فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلاً ما بين الحجر الأسود والركن اليماني ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك ويوضع بين أيدي الأئمة في محاربهم الشمع وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد كل إمام يصلي بطائفته ويدخل الناس من ذلك سهو وتخليط فربما ركع المالكي بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي وتراهم مصيخين كل واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو. ومن عادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي ويكون الخطيب مستقبلا المقام الكريم فإذا خرج الخطيب أقبل لابسا ثوب سواد معتما بعمامة سوداء وعليه طيلسان أسود كل ذلك من كسوة الملك الناصر وعليه الوقار والسكينة وهو يتهادى بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من المؤذنين وبين يديه أحد القومة في يده الفرقعة وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه فيكون إعلاما بخروج الخطيب ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده ثم يقصد المنبر والمؤذن الزمزمي وهو رئيس المؤذنين بين يديه لابسا السواد وعلى عاتقه السيف ممسكا بيده وتركز الرايتان عن

جانبي المنبر فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يسمع بها الحاضرين ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة ثم في الثالث أخرى فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة وهتف داعيا بدعاء خفي مستقبل الكعبة ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله ويرد عليه الناس ثم يقعد ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد فإذا فرغ الأذان خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول في أثنائها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف ويشير بإصبعه إلى البيت الكريم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما وقف بعرفة واقف، ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما على جميعهم السلام، ثم يدعو للملك الناصر ثم للسلطان المجاهد نور الدين علي بن الملك المؤيد داود بن الملك المظفر يوسف بن علي بن رسول، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أمير ي مكة سيف الدين عطيفة وهو أصغر الأخوين ويقدم اسمه لعدله وأسد الدين رميثة ابني أبي نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة، وقد دعا لسلطان العراق مرة ثم قطع ذلك، فلما فرغ من خطبته انصرف والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعارا بانقضاء الصلاة ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم. ومن عادتهم في استهلال الشهور أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر وقواده يحفون به وهو لابس البياض معتما متقلدا سيفا وعليه السكينة والوقار فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر ويشرع في طواف أسبوع ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقصد الحجر لتقبيله يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر رافعاً بذلك صوته ثم يذكر شعر في مدحه ومدح سلفه الكريم ويفعل به هكذا في السبعة أشواط فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين ثم ركع خلف المقام أيضا ركعتين ثم انصرف ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفرا وإذا قدم من سفر أيضا. وإذا هل هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات إشعاراً

_ 1 يظهر- والله أعلم - أن المراد بهذه العبارة, انه يشرع في الطواف سبعة أشواط.

بدخول الشهر ثم يخرج في أول يوم منه راكبا ومعه أهل مكة فرسانا ورجالا على ترتيب عجيب وكلهم بالأسلحة يلعبون بين يديه والفرسان يجولون ويجرون والرجال يتواثبون ويرمون بحربهم إلى الهواء ويلقفونها والأمير رميثة والأمير عطيفة معهما أولادهما وقوادهما مثل محمد بن إبراهيم وعلي وأحمد ابني صبيح وعلي بن يوسف وشداد بن عمر وعامر الشرق ومنصور بن عمر وموسى المزرق وغيرهم من كبار أولاد الحسن ووجوه القوار وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب وعليهم السكينة والوقار ويصيرون حتى يتنهوا إلى الميقات ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام فيطوف الأمير بالبيت والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط على ما ذكرناه من عادته فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم وصلى عند المقام وتمسح به وخرج إلى المسعى راكبا والقواد يحفون به والحرابة بين يديه ثم يسيروا إلى منزله وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد يلبسوا فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك. عمرة رجب: وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله، وهي متصلة ليلاً ونهاراً. وأوقات الشهر كله معمورة بالعبادة، وخصوصا أول يوم منه، ويوم خمسة عشر والسابع والعشرين فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام وشاهدهتهم في ليلة السابع والعشرين منه وشوارع مكة قد غصت بالهوادج عليها كساء الحرير والكتان الرفيع. وكل واحد يفعل بقدر استطاعته والجمال مزينة مقلدة بقلائد الحرير وأستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض فهي كالقباب المضروبة ويخرجون إلى ميقات التنعيم فتسيل أباطح مكة بتلك الهوادج، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق، والشمع والمشاعل أمام الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال المهللين فترق النفوس وتنهمل الدموع فإذا قضوا العمرة وطافوا بالبيت خرجوا إلى السعي بين الصفا المروة بعد مضي شيء من الليل والمسعى متقد السرج غاص بالناس والساعيات على هوادجهن والمسجد الحرام يتلألأ نورا وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية لأنهم يحرمون بها من أكمة مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة عن مقربة من المسجد

المنسوب إلى علي رضي الله عنه والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشياً حافياً معتمراً ومعه أهل مكة وذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها وجعل طريقه على ثنية الحجون إلى المعلى من حيث دخل المسلمون يوم الفتح فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد وكان عهد عبد الله مذكوراً أهدى فيه بدناً كبيرة وأهدى أشراف مكة وأهل الاستطاعة منهم وأقاموا أياما يطعمون شكرا لله على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم على الصفة التي كانت عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه ثم لما قتل بن الزبير نقض الحجاج الكعبة وردها إلى بنائها في عهد قريش وكانوا قد اقتصروا في بنائها وأبقاها رسول الله صلى لله عليه وسلم على ذلك لحدثان عهدهم بالكفر ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير فنهاه مالك رحمه الله عن ذلك وقال يا أمير المؤمنين لا تجعل البيت ملعبة للملوك متى أراد أحدهم أن يغير فعل فتركه على حاله سدّاً للذريعة. وأهل البلاد الموالية لمكة مثل بجيلة وزهران وغامد يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعم المرافق ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم ولم يأتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم ووقع الموت في مواشيهم ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم وظهرت فيها البركة ونمت أموالهم فهم إذا حان وقت ميرتهم وأدركهم كسل عنها اجتمعت نساؤهم فأخرجتهم وهذا من لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين وبلاد السرو التي يسكنها بجيلة وزهران وغامد وسواهم من القبائل مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات وأهلها فصحاء بالألسن لهم صدق نية وحسن اعتقاد وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها لائذين بجوارها متعلقين بأستارها داعين بأدعية تتصدع لرقتها القلوب وتدمع العيون الجامدة فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم ولا استلام الحجر لتزاحمهم على ذلك وهم شجعان أنجاد ولباسهم الجلود وإذا وردوا مكة هابت أعراب الطريق مقدمهم وتجنبوا اعتراضهم ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم وأثنى عليهم خيراً وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء وكفاهم شرفاً دخولهم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمان والحكمة

يمانية" 1. وذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتحرى وقت طوافهم ويدخل في جملتهم تبركا بدعائهم وشأنهم عجيب كله وقد جاء في أثر زاحموهم في الطواف فإن الرحمة تنصب عليهم صبّاً. وليلة النصف من شعبان من الليالي المعظمة عند أهل مكة يبادرون فيها إلى أعمال البر من الطواف والصلاة جماعات وأفرادا والاعتمار ويجتمعون في المسجد الحرام جماعات لكل جماعة إمام ويوقدون السرج والمصابيح والمشاعل ويقابل ذلك ضوء القمر فتتلألأ الأرض والسماء نورا ويصلون مائة ركعة يقرؤون في كل ركعة بأم القرآن وسورة الإخلاص يكررونها عشراً وبعض الناس يصلون في الحجر منفردين وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف وبعضهم قد خرجوا للإعتمار. وإذا أهل هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نوراً ويسطع بهجة وإشراقا وتتفرق الأئمة وهم الشافعية والحنبلية والحنفية والزيدية وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قاريء يصلي بجماعة فيرتج المسجد لأصوات القراء وترق النفوس وتحصر القلوب وتهمل الأعين ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفرداً والشافعية أكثر الأئمة اجتهادا وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة وهي عشرون ركعة يطوف إمامهم وجماعته فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة كان ذلك إعلاما بالعودة إلى الصلاة ثم يصلي ركعتين ثم يطوف أسبوعا وهكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم فيقوم داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور وكذلك يفعل المؤذنين في سائر الصوامع فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه وقد نصبت في أعلى كل صومعة

_ 1 هذا جزءٌ من حديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

خشبة على رأسها عود معترض قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يوقدان فإذا قرب الفجر وقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة وحط القنديلان وابتدأ المؤذنون بالآذان وأجاب بعضهم بعضاً ولديار مكة شرفها الله سطوح فمن بعدت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر حتى إذا لم يبصرهما أقلع عن الأكل وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة فإذا نصب له منبر بالحرير وأوقد الشمع وخطب فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر وأعظم تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرون واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام توصل بالحطيم وتعرض بينها ألواح طوال ويجعل ثلاث طبقات وعليها الشمع وقنديل الزجاج فيكاد يغشي الأبصار شعاع الأنوار ويتقدم الإمام فيصلي فريضة العشاء الآخرة ثم يبتدي قراءة سورة القدر وإليها يكون انتهاء قراء الأئمة في الليلة التي قبلها وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيما لختمة المقام ويحضرونها متبركين فيختم الإمام في تسليمتين ثم يقوم خطيباً مستقبل المقام فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم وانفض الجمع ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر وعن المباهاة منزه موقر فيختم ويخطب. ومن عادتهم في شوال وهو مفتتح أشهر الحج المعلومات أن يوقدوا المشاعل ليلة استهلاله ويسرجون المصابيح والشمع على نحو فعلهم في ليلة سبع وعشرين من رمضان وتوقد السرج في الصوامع من جميع جهاتها ويوقد سطح الحرم كله وسطح المسجد الذي بأعلى أبي قبيس ويقيم المؤذنون ليلتهم تلك في تهليل وتكبير وتسبيح والناس ما بين طواف وصلاة وذكر ودعاء فإذا صلوا صلاة الصبح أخذوا في أهبة العيد ولبسوا أحسن ثيابهم وبادروا لأخذ مجالسهم بالحرم الشريف به يصلون صلاة العيد لأنه لا يوجد موضع أفضل منه ويكون أول من يبكر إلى المسجد الشيبيون فيفتحون باب الكعبة المقدسة ويقعد كبيرهم في عتبتها وسائرهم بين يديه إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه ويطوف

بالبيت أسبوعاً والمؤذن الزمزمي فوق سطح قبة زمزم على العادة رافعا صوته بالثناء عليه والدعاء له ولأخيه كما ذكر ثم يأتي الخطيب بين الرايتين السوداوين والفرقعة أمامه وهو لابس السواد فيصلي خلف المقام الكريم ثم يصعد ويخطب خطبة بليغة ثم إذا فرغ منها أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام والمصافحة والاستغفار ويقصدون الكعبة الشريفة فيدخلونها أفواجا ثم يخرجون إلى مقبرة باب المعلى تبركاً بمن فيها من الصحابة وصدور السلف ثم ينصرفون. خبر إحرام الكعبة: وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار الكعبة زادها الله تعظيما إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من جهاتها الأربع صونا لها من الأيدي أن تنتهبها ويسمون ذلك إحرام الكعبة وهو يوم مشهود بالحرم الشريف ولا تفتح الكعبة المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة. شعائر الحج وأعماله: وإذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة تضرب الطبول والدبادب في أوقات الصلوات بكرة وعشية إشعاراً بالموسم المبارك ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب أثر صلاة الظهر خطبة بليغة يعلم الناس فيها مناسكهم ويعلمهم بيوم الوقفة فإذا كان اليوم الثامن بكر الناس بالصعود إلى منى وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبيتون تلك الليلة بمنى وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة فيمرون في طريقهم بوادي محسر ويهرولون وذلك سنة ووادي محسر هو الحد ما بين مزدلفة ومنى ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحولها مصانع وصهاريج للماء مما بنته زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد وبين منى وعرفة خمسة أميال وكذلك بين منى ومكة أيضا

خمسة أميال. ولعرفة ثلاثة أسماء وهي عرفة1 وجمع والمشعر الحرام وعرفات بسيط من الأرض فسيح أفيح تحدق به جبال كثيرة وفي آخر بسيط عرفات جبل الرحمة وفيه الموقف وفيما حوله والعلمان قبله بنحو ميل وهما الحد ما بين الحل والحرم وبمقربة منهما مما يلي عرفة بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه ويجب التحفظ منه ويجب أيضا الإمساك عن النفور حتى يتمكن سقوط الشمس فإن الجمالين ربما استحثوا كثيراً من الناس وحذروهم الزحام في النفر واستدرجوهم إلى أن يصلوا بهم بطن عرفة فيبطل حجهم وجبل الرحمة الذي ذكرناه قائم وسط بسيط جمع منقطع عن الجبال وهو من حجارة منقطع بعضها عن بعض وفي أعلاه قبة تنسب إلى أم سلمة رضي الله عنهما وفي وسطها مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه وحوله سطح فسيح يشرف على بسيط عرفات وفي قبليه جدار فيه محاريب منصوبة يصلي فيها الناس وفي أسفل هذا الجبل عن يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تنسب إلى آدم عليه السلام وعن يسارها الصخرات التي كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم عندها وحول ذلك صهاريج وجباب للماء وبمقربة منه الموضع الذي يقف فيه الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر وعن يسار العلمين للمستقبل أيضا وادي الأراك وبه أراك أخضر يمتد في الأرض امتداداً طويلاً. وإذا حان وقت النفر أشار الإمام المالكي بيده ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعة ترتج لها الأرض وترجف الجبال فيا له موقفا كريما ومشهدا عظيما ترجو النفوس حسن عقباه وتطمح الآمال إلى نفحات رحماه جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه. وكانت وقفتي الأولى يوم الخميس سنة ست وعشرين وأمير الركب المصري يومئذ أرغون الدوادار نائب الملك الناصر وحجت في تلك السنة ابنة الملك الناصر وهي زوجة أبي بكر بن أرغون المذكور وحجت فيها زوجة الملك الناصر المسماة بالخوندة، وهي بنت السلطان المعظم محمد أوزبك ملك السرا2

_ 1 جمع: تطلق على المزدلفة والمشعر الحرام، ولا تطلق على عرفة. من: معجم البلدان لياقوت الحموي. 2 السرا: تعرف بسرا بركة، وهي حضرة السلطان أوزبك، وتقع على مقربة من المدينة المعروفة الآن باسم: تساريف، وهي شمالي مدينة الحاج ترخان على بعد 225 ميلاً، وتعرف الآن بالمسرا الجديدة.

وخوارزم وأمير الركب الشامي سيف الدين الجوبان ولما وقع النفر بعد غروب الشمس وصلنا مزدلفة عند العشاء الآخرة فصلينا بها المغرب والعشاء جمعاً بينهما حسبما جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما صلينا الصبح بمزدلفة غدونا منها إلى منى بعد الوقوف والدعاء بالمشعر الحرام ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ففيه تقع الهرولة حتى يخرج عنه ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار وذلك مستحب ومنهم من يلقطها حول مسجد الخيف والأمر في ذلك واسع ولما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة ثم نحروا وذبحوا ثم حلقوا وحلو من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر لما رموها توجه أكثر الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس بالجمرة الأولى سبع حصيات وبالوسطى كذلك ووقفوا للدعاء بهاتين الجمرتين اقتداء لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان اليوم الثالث تعجل الناس الانحدار إلى مكة شرفها الله بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين حصاة وكثير منهم أقام اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمى سبعين حصاة. خبر كسوة الكعبة: وفي يوم النحر بعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم فوضعت في سطحه فلما كان اليوم الثالث بعد يوم النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة وهي كسوة سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان وفي أعلاه طراز مكتوب فيه بالبياض {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً} 1. الآية وفي سائر جهاتها طراز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن وعليها نور لائح مشرق من سوادها ولما كسيت شمرت أذيالها صوناً من أيدي الناس والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين والقومة وما يحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كل سنة وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم

_ 1 المائدة: 97.

للعراقيين والخراسانيين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلاً فمن لقوة في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة والثياب وكذلك يعطون للمشاهدين للكعبة الشريفة وربما وجدوا إنسانا نائما فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق ولما قدمت معهم من العراق سنة ثمان وعشرين فعلوا من ذلك كثيرا وأكثروا الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة وانتهى صرف المثقال إلى ثمانية عشر درهما نقرة لكثرة ما تصدقوا به من الذهب وفي السنة هذه ذكروا اسم السلطان أبي السعيد ملك العراق على المنبر وقبة زمزم. الخروج من مكة شرفها الله: وفي العشرين من ذي الحجة خرجت من مكة صحبة أمير ركب العراق البهلوان محمد الحويح بحاءين مهملين، وهو من أهل الموصل، وكان يلي إمارة الحاج بعد موت الشيخ شهاب الدين قلندر وكان شهاب الدين شيخا فاضلا عظيم الحرمة عند سلطانه يحلق لحيته وحاجبيه على طريقة القلندرية ولما خرجت من مكة شرفها الله تعالى في صحبة الأمير البهلوان المذكور اكترى لي شقة محارة1 إلى بغداد ودفع إجارتها من ماله وأنزلني في جواره. وخرجنا بعد طواف الوداع إلى بطن مر2 في جمع من العراقيين والخراسانيين والفارسيين والأعاجم لا يحصى عددهم تموج بهم الأرض موجا ويسيرون سير السحاب المتراكم فمن خرج عن الركب لحاجة ولم تكن له علامة يستدل بها على موضعه ضل عنه لكثرة الناس وفي هذا الركب نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها الماء وجمال لرافع الماء للصدقة ورفع الأدوية والأشربة والسكر لمن يصيبه مرض وإذا نزل الركب طبخ الطعام في قدور نحاس عظيمة تسمى الدسوت وأطعم منها أبناء السبيل ومن لا زاد معه وفي الركب جملة من الجمال يحمل عليها من لا قدرة له على المشي كل ذلك من صدقات

_ 1 المحارة: شبه الهودج – القاموس المحيط. 2 مر الظهران، وقد سبق ذكره.

السلطان أبي سعيد ومكارمه. قال ابن جزي: كرم الله هذه الكنية الشريفة، فما أعجب أمرها في الكرم، وحسبك بمولانا بحر المكارم ورافع رايات الجود الذي هو آية الندى والفضل أمير المسلمين أبي سعيد ابن مولانا قامع الكفار والآخذ للإسلام بالثار أمير المسلمين يوسف قدّس الله أرواحهم الكريمة وأبقى الملك في عقبهم الطاهر إلى يوم الدين. وفي هذا الركب الأسواق الحافلة والمرافق العظيمة وأنواع الأطعمة والفواكه وهم يسيرون بالليل ويوقدون المشاعل أمام القطار والمحارات فترى الأرض تتلألأ نوراً في الليل وقد عاد نهاراً ساطعاً. ثم رحلنا من بطن مر إلى عسفان ثم إلى خليص، ثم رحلنا أربع مراحل ونزلنا وادي السمك، ثم رحلنا خمساً ونزلنا في بدر وهذه المراحل ثنتان في اليوم إحداهما بعد الصبح والأخرى بالعشى ثم رحلنا من بدر فنزلنا الصفراء وأقمنا بها يوما مستريحين ومنها إلى المدينة الشريفة مسيرة ثلاث ثم رحلنا فوصلنا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصلت لنا زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً وأقمنا بالمدينة كرمها الله تعالى ستة أيام واستصحبنا منها الماء لمسيرة ثلاث ورحلنا عنها فنزلنا في الثالثة بوادي العروس فتزودنا منه الماء من حسيات يحفرون عليها في الأرض فينبطون ماء عذبا معيناً، ثم رحلنا من وادي العروس ودخلنا أرض نجد وهو بسيط من الأرض على مد البصر فتنسمنا الطيب الأرج ونزلنا بعد أربع مراحل على ماء يعرف بالعسيلة، ثم رحلنا عنه ونزلنا ماء يعرف بالنقرة فيه آثار مصانع كالصهاريج العظيمة، ثم رحلنا إلى ماء يعرف بالقارورة وهي مصانع مملوءة بماء المطر مما صنعته زبيدة ابنة جعفر رحمها الله ونفعها وهذا الموضع هو وسط أرض نجد بسيط طيب النسيم صحيح الهواء نقي التربة معتدل في كل فصل، ثم رحلنا من القارورة ونزلنا بالحاجر وفيه مصانع للماء وربما جفت فحفر عن الماء في الجفار، ثم رحلنا ونزلنا سميرة وهي أرض غائرة في بسيط فيه شبه حصن مسكون وماؤها كثير في الآبار إلا أنه زعاق1 ويأتي عرب تلك الأرض بالغنم والسمن واللبن فيبيعون ذلك من الحجاج بالثياب الخام ولا يبيعون بسوى ذلك، ثم رحلنا ونزلنا بالجبل المخروق وهو في بيداء من الأرض وفي

_ 1 الزعاق: الماء المر الغليظ لا يطاق شربه – القاموس المحيط.

أعلاه ثقب نافذة تخرقه الريح، ثم رحلنا منه إلى وادي الكروش ولا ماء به، ثم أسرينا ليلاً وصحبنا بحصن فيد وهو حصن كبير في بسيط من الأرض يدور به سور وعليه ربض وساكنوه عرب يتعيشون مع الحاج في البيع والتجارة. وهنالك يترك الحجاج بعض أزوادهم عند وصولهم من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى فإذا عادوا وجدوه وهو نصف الطريق من مكة إلى بغداد ومنه إلى الكوفة مسيرة اثني عشر يوما في طريق سهل به المياه في المصناع ومن عادة الركب أن يدخلوا هذا الموضع على تعبئة وأهبة للحرب إرهاباً للعرب المجتمعين هنالك وقطعاً لأطماعهم عن الركب وهنالك لقينا أمير ي العرب وهما فياض وجيار واسمه "بكسر الحاء وإهماله وياء آخر الحروف" وهما ابنا الأمير مهنا بن عيسى ومعهما من خيل العرب ورجالهم من لا يحصون كثرة فظهر منهما المحافظة على الحاج والرحال والحوطة لهم وأتى العرب بالجمال والغنم فاشترى منهم الناس ما قدروا عليه، ثم رحلنا ونزلنا الموضع الأجفر ويشتهر باسم العاشقين جميل وبثينة، ثم رحلنا ونزلنا بالبيداء، ثم نزلنا زرود وهي بسيط من الأرض فيه رمال منهالة وبه دور صغر قد أداروها شبه الحصن وهنالك آبار ماء ليست بالعذبة، ثم رحلنا ونزلنا الثعلبية ولها حصن خرب بإزائه مصنع هائل ينزل إليه في درج وبه من ماء المطر ما يعم الركب ويجتمع من العرب بهذ الموضع جمع عظيم فيبيعون الجمال والغنم والسمن واللبن ومن هذا الموضع إلى الكوفة ثلاث مراحل، ثم رحلنا فنزلنا ببركة المرجوم وهو مشهد على الطريق عليه كوم عظيم من حجارة وكل من مر به رجمه ويذكر أن هذا المرجوم كان رافضياً فسافر مع الركب يريد الحج فوقعت بينه وبين أهل السنة من الأتراك مشاجرة فسب بعض الصحابة فقتلوه بالحجارة وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب ويقصدون الركب بالسمن واللبن وسوى ذلك وبه مصنع كبير يعم جميع الركب مما بنته زبيدة رحمة الله عليها وكل مصنع أو بركة أو بئر بهذه الطريق التي بين مكة وبغداد فهي من كريم آثارها جزاها الله خيراً ووفى لها أجرها. ولولا عنايتها بهذا الطريق ما سلكها أحد، ثم نزلنا ورحلنا موضعا يعرف بالمشقوق فيه مصنعان بهما الماء العذب الصافي وأراق الناس ما كان عندهم من الماء وتزودوا منهما، ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالتنانير وفيه مصانع تمتلئ بالماء، ثم

أسرينا1 منه واجتزنا ضحوة2 بزمالة وهي قرية معمورة بها قصر للعرب ومصنعان للماء وآبار كثيرة وهي من مناهل الطريق، ثم رحلنا فنزلنا الهيثمين وفيه مصنعان للماء، ثم رحلنا فنزلنا دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان وصعدنا العقبة في اليوم الثاني وليس بهذا الطريق وعراً سواها على أنها ليست بصعبة ولا طائلة، ثم نزلنا موضعا يسمى واقصة فيه قصر كبير ومصانع للماء معمور بالعرب وهو آخر مناهل هذا الطريق وليس فيما بعدة إلى الكوفة منهل مشهور إلا مشارع ماء الفرات وبه يتلقى كثير من أهل الكوفة الحاج ويأتون بالدقيق والخبز والتمر والفواكه ويهنيء الناس بعضهم بعضا بالسلامة، ثم نزلنا موضعا يعرف بلورة فيه مصنع كبير للماء، ثم نزلنا موضعا يعرف بالمساجد فيه ثلاثة مصانع، ثم نزلنا موضعا يعرف بمنارة القرون وهي منارة في بيداء من الأرض بائنة الارتفاع مجللة بقرون الغزلان ولا عمارة حولها، ثم نزلنا موضعاً يعرف بالعُذيب وهو واد مخصب عليه عمارة وحوله فلاة خصبة فيها مسرح للبصر، ثم نزلنا القادسية حيث كانت الوقعة الشهيرة على الفرس التي أظهر الله فيها دين الإسلام وأزل المجوس عبدة النار فلم تقم لهم بعدها قائمة واستأصل الله شأفتهم وكان أمير المسلمين يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكانت القادسية مدينة عظيمة افتتحها سعد رضي الله عنه وخربت فلم يبق منها الآن إلا مقدار قرية كبيرة فيها حدائق النخل وبها مشارع من ماء الفرات، ثم رحلنا من القادسية فنزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناسا وأتقنها بناء ولها أسواق حسنة نظيفة دخلناها من باب الحضرة فاستقبلنا سوق البقالين والطباخين والخبازين ثم سوق الفاكهة ثم سوق الخياطين والقيسارية ثم سوق العطارين ثم الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي عليه السلام وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه أحسن.

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: ثم رحلنا منه. 2 أي: في وقت الضحى.

خبر الروضة والقبور التي فيها:

خبر الروضة والقبور التي فيها: ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم ومن تلك المدرسة يدخل باب القبة وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية فعندما يصل الزائر يقوم إليه أحدهم أو جميعهم وذلك على قدر الزائر فيقفون معه العتبة ويستأذنون له ويقولون عن أمركم يا أمير المؤمنين هذا العبد الضعيف يستأذن على دخوله الروضة العلية فإن أذنتم وإلا رجع وإن لم يكن أهلاً لذلك فأنتم أهل المكارم والستر ثم يأمرونه بتقبيل العتبة وهي من فضة وكذلك العضادتان ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسأمير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء وارتفاعها دون القامة وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدها قبر آدم عليه الصلاة والسلام والثاني قبر نوح عليه الصلاة والسلام والثالث قبر علي رضي الله تعالى عنه وبين القبور طسوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن به وجهه تبركاً، وللقبة باب آخر عتبته أيضا من الفضة وعليه ستور الحرير الملون يفضي إلى المسجد مفروش بالبسط الحسان مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير وله أربعة أبواب عتابها فضة وعليها ستور الحرير وأهل هذه المدينة كلهم رافضية وهذه الروضة ظهرت بها كرامات لأن بها قبر علي رضي الله عنه فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب وتسمى عندهم ليلة المحيا يؤتى إلى تلك الروضة بكل مقعد من العراقين وخراسان وبلاد فارس والروم فيجتمع منهم الثلاثون والأربعون نحو ذلك فإذا كان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضريح المقدس والناس ينتظرون قيامهم وهم ما بين مصل وذاكر وتال ومشاهد للروضة فإذا مضى من الليل نصفه أو ثلثاه أو نحو ذلك قام الجميع أصحاء من غير سوء وهم يقولون لا إله إلا الله محمدا رسول الله علي ولي الله وهذا أمر يستفيض عندهم سمعته من الثقات ولم أحضر تلك الليلة لكني رأيت بمدرسة الضياف ثلاثة من الرجال أحدهم من أرض الروم والثاني من أصبهان والثالث من خراسان وهم مقعدون فاستخبرتهم عن

شأنهم فأخبروني أنهم لم يدركوا ليلة المحيا وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر وهذه الليلة يجتمع لها الناس من البلاد ويقيمون سوقا عظيمة مدة عشرة أيام، وليس بهذه المدينة مغرم ولا مكاس ولا وال إنما يحكم عليهم نقيب الأشراف وأهلها تجار يسافرون في الأقطار وهو أهل شجاعة وكرم ولا يضام جارهم صحبتهم في الأسفار فحمدت صحبتهم لكنهم غلوا في علي رضي الله عنه ومن الناس في بلاد العراق وغيرها من يصيبه المرض فينذر للروضة نذراً إذا بريء، ومنهم من يمرض رأسه فيصنع رأسا من ذهب أو فضة ويأتي به إلى الروضة فيجعله النقيب في الخزانة وكذلك اليد والرجل وغيرهما من الأعضاء وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط لكثرته.

خبر نقيب الأشراف

خبر نقيب الأشراف: ونقيب الأشراف مقدم من ملك العراق ومكانه عنده مكين ومنزلته رفيعة وله ترتيب الأمراء الكبار في سفره وله الأعلام والأطبال وتضرب الطبلخانة عند بابه مساء وصباحا وإليه حكم هذه المدينة ولا والي بها سواه ولا مغرم فيها للسلطان ولا لغيره وكان النقيب في عهد دخولي إليها نظام الدين حسين بن تاج الدين الآوي نسبة إلى بلدة آوة من عراق العجم أهلها رافضة وكان قبله جماعة يلي كل واحد منهم بعد صاحبه منهم جلال الدين بن الفقيه ومنهم قوام الدين بن طاووس ومنهم ناصر الدين مطهر بن الشريف الصالح شمس الدين محمد الأوهري من عراقى العجم وهو الآن بأرض الهند من ندماء ملكها ومنهم أبو غرة بن سالم بن مهنا بن جماز بن شيحة الحسيني المدني. كان الشريف أبو غرة قد غلب عليه في أول أمره العبادة وتعلم العلم واشتهر بذلك وكان بالمدينة الشريفة كرمها الله في جوار ابن عمه منصور بن جماز أمير المدينة ثم أنه خرج عن المدينة واستوطن العراق وسكن منها بالحلة فمات النقيب قوام الدين بن طاووس فاتفق أهل العراق على تولية أبي غرة نقابة الأشراف وكتبوا بذلك إلى السلطان أبو سعيد فأمضاه ونفذ له اليرليغ وهو الظهير بذلك وبعث له الخلعة والأعلام والطبول على عادة النقباء ببلاد العراق فغلبت عليه الدنيا وترك العبادة والزهد وتصرف في الأموال تصرفا قبيحاً فرفع أمره إلى السلطان فلما علم بذلك أعمل السفر مظهرا أنه يريد خراسان قاصداً

زيارة قبر علي بن موسى الرضا بِطُوس وكان قصده الفرار فلما زار علي بن موسى قدم هراة وهي آخر بلاد خراسان وأعلم أصحابه أنه يريد بلاد الهند فرجع أكثرهم عنه وتجاوز هو أرض خراسان إلى السند فلما جاوز وادي السند المعروف ببنج آب ضرب طبوله وأنفاره فراع ذلك أهل القرى وظنوا أن التتر أتوا للإغارة عليهم وأجفلوا إلى المدينة المسماة باوجا وأعلموا أمير ها بما سمعوه فركب في عساكره واستعد للحرب وبعث الطلايع فرأوا نحو عشرة من الفرسان وجماعة من التجار والرجال ممن صحب الشريف في طريقه معهم الأطبال والأعلام فسألوهم عن شأنهم فأخبروهم أن الشريف نقيب العراق أتى وافداً على ملك الهند فرجع الطلايع إلى الأمير وأخبروه بكيفية الحال فاستضعف عقل الشريف لرفعه العلامات وضربه الطبول في غير بلاده. ودخل الشريف مدينة أوجا وأقام بها مدة تضرب الأطبال على باب داره غدوة وعشية وكان مولعاً بذلك ويُذكر أنه كان أيام نقابته بالعراق تضرب الأطبال على رأسه فإذا أمسك النقار عن الضرب يقول له زد نقرة يا نقار حتى لُقّب بذلك وكتب صاحب مدينة أوجا إلى ملك الهند بخبر الشريف وضربه الأطبال بالطريق وعلى باب داره غدوة وعشيا ورفعه الأعلام وعادة أهل الهند أن لا يرفع علماً ولا يضرب طبلاً إلا من أعطاه الملك ذلك ولا يفعله إلا في السفر وأما في حال الإقامة فلا يضرب الطبل إلا على باب الملك خاصة بخلاف مصر والشام والعراق فإن الطبول تضرب على أبواب الأمراء فلما بلغ خبره ملك الهند كره فعله وأنكره وفعل في نفسه وخرج الأمير إلى حضرة الملك وكان الأمير كشلي خان والخان عندهم أعظم الأمراء وهو الساكن بملتان كرسي بلاد السند وهو عظيم القدر عند ملك الهند يدعوه بالعم لأنه كان ممن أعان أباه السلطان غياث الدين تغلق شاه على قتال السلطان ناصر الدين خسروه شاه قد قدم على حضرة ملك الهند فخرج الملك إلى لقائه فاتفق أن كان وصول الشريف في ذلك اليوم وكان الشريف قد سبق الأمير بأميال وهو على حاله من ضرب الأطبال فلم يرعه إلا والسلطان في موكبه فتقدم الشريف إلى السلطان فسلم عليه وسأله السلطان عن حاله وما الذي جاء به فأخبره ومضى السلطان حتى لقي الأمير كشلي خان وعاد إلى حضرته ولم يلتفت إلى الشريف ولا أمر له بإنزال ولا غيره.

وكان الملك عازما على السفر إلى مدينة دولة أباد وتسمى أيضاً بالكتكة "بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما" وتسمى أيضا بالدونجر "دوكير"، وهي على مسيرة أربعين يوماً من مدينة دهلي حاضرة الملك. فلما شرع الملك في السفر بعث إلى الشريف بخمسمائة دينار دراهم وصرفها من ذهب المغرب مائة وخمسة وعشرون ديناراً وقال لرسوله إليه قل له أن أراد الرجوع إلى بلاده فهذا زاد وإن أراد السفر معها فهي نفقته في الطريق وإن أراد الإقامة بالحضرة فهي نفقته حتى نرجع فاغتم الشريف لذلك وكان قصده أن يجزل له العطاء كما هي عادته مع أمثاله واختار السفر صحبة السلطان وتتعلق بالوزير أحمد بن إياس المدعو بخواجة جهان وبذلك سماه الملك وبه يدعوه هو وبه يدعوه سائر الناس فإن من عادتهم أنه متى سمى الملك أحداً باسم مضاف إلى الملك من عماد أو ثقة أو قطب أو باسم مضاف إلى الجهان من صدر وغيره فبذلك يخاطبه الملك وجميع الناس ومن خاطبه بسوى ذلك لزمته العقوبة فأكدت المودة بين الوزير والشريف فأحسن إليه ورفع قدره ولاطف الملك حتى حسن فيه رأيه وأمر له بقريتين من قرى دولة أباد وأمره أن تكون إقامته بها وكان هذا الوزير من أهل الفضل والمروءة ومكارم الأخلاق والمحبة في الغرباء والإحسان إليهم وفعل الخير وإطعام الطعام وعمارة الزاويا فأقام الشريف يستغل القريتين ثمانية أعوام وحصل من ذلك مالاً عظيماً ثم أراد الخروج فلم يمكنه فإنه من خدم السلطان لا يمكنه الخروج إلا بإذنه وهو محب في الغرباء فقليلاً ما يأذن لأحدهم في السراح فأراد الفرار في طريق الساحل فرد منه وقدم الحضرة ورغب من الوزير أن يحاول قضية انصرافه فتلطف الوزير في ذلك حتى أذن له السلطان في الخروج عن بلاد الهند وأعطاه عشرة آلاف دينار من دراهمهم وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار فأتى بها في بدرة فجعلها تحت فراشه ونام عليها لمحبته في الدنانير وفرحه بها وخوفه أن يتصل لأحد من أصحابه شيء منها فإنه كان بخيلا فأصابه وجع في جنبه بسبب رقاده عليها ولم يزل يتزايد به وهو آخذ في حركة سفره إلى أن توفي بعد عشرين يوماً من وصول البدرة إليه وأوصى بذلك المال للشريف حسن الجراني فتصدق بجملته على جماعة من الشيعة المقيمين بدلهي من أهل الحجاز والعراق، وأهل الهند لا يورثون بيت المال ولا يتعرضون

لمال الغرباء ولا يسألون عنه ولو بلغ ما عسى أن يبلغ وكذلك السودان لا يتعرضون لمال الأبيض ولا يأخذونه إنما يكون عند الكبار من أصحابه حتى يأتي مستحقه وهذا الشريف أبو غرة له أخ اسمه قاسم سكن غرناطة مدة وبها تزوج بنت الشريف أبي عبد الله بن إبراهيم الشهير بالمكي ثم انتقل إلى جبل طارق فسكنه إلى أن استشهد بوادي كرة من نظر الجزيرة الخضراء وكان بهمة من البهم لا يصطلي بناره خرق المعتاد في الشجاعة وله فيها أخبار شهيرة عند الناس وترك ولدين هما في كفالة الشريف الفاضل أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن نفيس الحسيني الكربلائي الشهير ببلاد المغرب وبالعراق، وكان تزوج أمهما بعد موت أبيهما، وهو محسن لها جزاه الله خيراً. ولما تحصلت لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سافر الركب إلى بغداد وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة وهم أهل تلك البلاد ولهم شوكة عظيمة وبأس شديد ولا سبيل للسفر في تلك الأقطار إلا في صحبتهم فاكتريت جملاً على يد أمير تلك القافلة شامر بن دراج الخفاجي وخرجنا من مشهد علي عليه السلام فنزلنا الخورنق موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات، ثم رحلنا عنه فنزلنا موضع يعرف بقائم الواثق وبه أثر قرية خربة ومسجد خرب لم يبق منه إلا صومعته، ثم رحلنا عنه آخذين مع جانب الفرات بالموضع المعروف بالعذار وهو غابة قصب في وسط الماء يسكنها أعراب يعرفون بالمعادي، وهم قطاع الطريق رافضية المذهب خرجوا على جماعة من الفقراء تأخروا عن رفقتنا فسلبوهم حتى النعال والكشاكل وهم يتحصنون بتلك الغابة ويمتنعون بها ممن يريدهم، والسباع بها كثيرة. ورحلنا مع هذا الغدار ثلاث مراحل، ثم وصلنا مدينة واسط. وهي حسنة الأقطار كثيرة البساتين والأشجار بها أعلام يُهدَي الخير شاهدهم، وتُهدي الاعتبار مشاهدهم، وأهلها من خيار أهل العراق بل هم خيرهم على الإطلاق أكثرهم يحفظون القرآن الكريم ويجيدون تجويده بالقراءة الصحيحة وإليهم يأتي أهل بلاد العراق برسم تعلم ذلك. وكان في القافلة التي وصلنا فيها جماعة من الناس أتوا برسم تجويد القرآن على من بها من الشيوخ وبها مدرسة عظيمة حافلة فيها حوالي ثلاثمائة خلوة ينزلها الغرباء القادمون لتعلم

القرآن عمرها الشيخ تقي الدين عبد المحسن الواسطي وهو من كبار أهلها وفقهائها ويعطي لكل متعلم بها كسوة في السنة ويجري له نفقته كل يوم ويقعد هو وإخوانه وأصحابه لتعليم القرآن بالمدرسة وقد لقيته وأضافني وزودني تمراً ودراهماً، ولما نزلنا مدينة واسط أقامت القافلة ثلاثة بخارجها للمتاجرة فسنح لي زيارة قبر الولي أبي العباس أحمد الرفاعي وهو بقرية تعرف بأم عبيدة على مسيرة يوم من واسط فطلبت من الشيخ تقي الدين أن يبعث معي من يوصلني إليها فبعث معي ثلاثة من عرب بني أسد، وهم قطان تلك الجهة. وأركبني فرساً له، وخرجت ظهرا فبت تلك الليلة بحوش بني أسد، ووصلنا في ظهر اليوم الثاني إلى الرواق وهو رباط عظيم فيه آلاف من الفقراء. وصادفنا به قدوم الشيخ أحمد كوجك حفيد ولي الله أبو العباس الرفاعي الذي قصدنا زيارته وقدم من موضع سكناه من بلاد الروم برسم زيارته قبر جده وإليه انتهت الشياخة بالرواق ولما انقضت صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف وأخذ الفقراء في الرقص ثم صلّوا المغرب وقدموا السماط وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر فأكل الناس ثم صلوا العشاء الآخرة وأخذوا في الذكر والشيخ أحمد قاعد على سجادة جده المذكور ثم أخذوا في السماع وقد أعدوا أحمالاً من الحطب فأججوها ناراً ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يتمرّغ فيها، ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفؤوها جميعاً وهذا دأبهم. وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا، وفيهم من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه. كنت مررت بموضع يقال له أفقانبور، من عمالة هزار أمروها، وبينها وبين دهلي حضرة الهند مسيرة خمس. وقد نزلنا بها على نهر يعرف بنهر السرو وذلك في أوان الشكال، والشكال عندهم هو المطر وينزل في إبان القيظ وكان السيل ينحدر في هذا النهر من جبال قراجيل فكل من يشرب منه من إنسان أو بهيمة يموت لنزول المطر على الحشائش المسمومة فأقمنا على النهر أربعة أيام لا يقربه أحد، ووصل إلى هنالك جماعة من الفقراء في أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون وهم من الطائفة المعروفة بالحيدرية. فباتوا عندنا ليلة، وطلب مني كبيرهم أن آتيه بالحطب ليوقدوه عند رقصهم فكلفت والي تلك الجهة وهو عزيز المعروف بالخمار

"وسيأتي ذكره" أن يأتي بالحطب فوجه منه نحو عشرة أحمال، فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء الآخرة حتى صارت جمراً وأخذوا في السماع ثم دخلوا في تلك النار فما زالوا يرقصون ويتمرغون فيها وطلب مني كبيرهم قميصاً فأعطيته قميصاً في النهاية من الرقة فلبسه وجعل يتمرغ به في النار ويضربها بأكمامه حتى طفئت تلك النار وخمدت وجاء إلي القميص والنار لم تؤثر فيه شيئا البتة فطال عجبي منه. ولما حصلت لي زيارة الشيخ أبي العباس الرفاعي نفع الله به عدت إلى مدينة واسط فوجدت الرفقة التي كمنت فيها قد رحلت فلحقتها في الطريق ونزلنا ماء يعرف بالهضيب، ثم رحلنا بوادي الكراع وليس به ماء، ثم رحلنا ونزلنا موضعاً يعرف بالمشيرب، ثم رحلنا منه ونزلنا بالقرب من البصرة، ثم رحلنا ضحوة النهار إلى مدينة البصرة. فنزلنا بها رباط مالك بن دينار، وكنت رأيت عند قدومي عليها على نحو ميلين منها بناء عاليا مثل الحصن، فسألت عنه فقيل لي هو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت البصرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها. وبينه الآن وبينها ميلان1، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها نحو ذلك، فهو متوسط بينهما. ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب، لما كانت مجمع البحرين: الأجاج والعذب وليس في الدنيا أكثر نخلاً منها فيباع التمر في سوقها بحساب أربعة عشر رطلاً عراقية بدرهم ودرهمهم ثلث النقرة ولقد بعث إلى قاضيها حجة الدين بقوصرة تمر يحملها الرجل على تكلف فأردت بيعها فبيعت بتسعة دراهم أخذ الحمال منها ثلثها عن أجرة حملها من المنزل إلى السوق ويصنع بها من التمر عسلاً يسمى السيلان -، وهو طيب كأنه الجلاب.

_ 1 لكثرة ما تتابع على البصرة من الفتن والتقلّبات والحروب خرجت البصرة القديمة، وأنشئت مدينة جديدة إلى الشمال الشرقي منها تبعد عنها 28 ألف ذراع يد، وكان إنشاؤها في القرن الثامن الهجري "الرابع عشر الميلادي" انظر التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية – البصرة-.

والبصرة ثلاث محلات: إحداها محلة هذيل، وكبيرها الشيخ الفاضل علاء الدين بن الأثير من الكرماء الفضلاء أضافني وبعث إلي بثياب ودراهم، والمحلة الثانية محلة بني حرام كبيرها السيد الشريف مجد الدين موسى الحسني، ذو مكارم وفواضل أضافني وبعث إلي التمر والسيلان والدراهم، والمحلة الثالثة محلة العجم كبيرها جمال الدين بن اللوكي وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه فلا يستوحش فيما بينهم غريب وهم يصلون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي ذكرته ثم يسد فلا يأتونه إلا في الجمعة التالية وهذا المسجد من أحسن المساجد وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل وأثر تغيير الدم في الورقة التي فيها قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1.

_ 1 البقرة: 137.

حكاية اعتبار

حكاية اعتبار: شهدت مرة بهذا المسجد صلاة الجمعة فلما قام الخطيب إلى الخطبة وسردها لحن فيها لحناً كثيراً جلياً فعجبت من أمره وذكرت ذلك للقاضي حجة الدين فقال لي أن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئاً من علم النحو وهذه عبرة لمن تفكر فيها. سبحان مغير الأشياء ومقلب الأمور وهذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو وفيها أصله وفرعه ومن أهلها إمامه1 الذي لا يُنكر سبقه لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دؤوبه عليها ولهذا الجامع سبع صوامع، إحداهما الصومعة التي تتحرك بزعمهم عند ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه صعدت عليها من أعلى سطح الجامع، ومعي بعض أهل البصرة،

_ 1يقصد بإمام النحو الذي لا يُنكر سبقه سيبويه، وقد قال صاحب التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية تعليقاً على ملاحظة ابن بطوطة للحن خطيب الجمعة، والتي ذكرها للاعتبار: وفي ذلك يقول الشيخ عثمان بن سند المالكي الشهير آخر فضلاء البصيرة: قد كانت البصرة الفيحاء مِن قِدم ... مجرًى لأبحُر نحو تقذِف الدُرَرَا فأصبحت وهي صفراء الوشاح فلا ... نحويّ فيها سوى نزرٍ وهم فُقرا.

فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمراً فيها كأنه مقبض مملسة البناء فجعل الرجل الذي كان معي يده في ذلك المقبض وقال بحق رأس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تحركي وهز المقبض فتحركت الصومعة فجعلت أنا يدي في المقبض وقلت له وأنا أقول بحق رأس أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركي وهززت المقبض فتحركت الصومعة فعجبوا من ذلك وأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة ولا يخاف من يفعل من مثل فعلي عندهم ولو جرى مثل هذا بمشهد الحسين أو بالحلة أو بالبحرين أو قم أو قاشان أو ساوة أو آوة أو طوس لهلك فاعله لأنهم رافضة غالية. قال ابن جزي: قد عاينت بمدينة برشانة من وادي المنصورة من بلاد الأندلس حاطها الله صومعة تهتز من غير أن يذكرها لها أحدٌ من الخلفاء أو سواهم، وفي صومعة الجامع الأعظم بها، وبناؤها ليس بالقديم. وهي كأحسن ما أنت راءٍ من مرّة حسن منظر واعتدالاً وارتفاعاً، لا ميل فيها ولا زيغ. صعدت إليها مرّة، ومعي جماعة من الناس، فأخذ بعض من كان معي بجوانب جامورها وهزوها فاهتزّت، حتى أشرت إليهم أن يكفوا فكفوا عن هزها.

خبر المشاهد المباركة بالبصرة

خبر المشاهد المباركة بالبصرة: فمنها مشهد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم وهو بداخل المدينة وعليه قبة وجامع وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر وأهل البصرة يعظمونه تعظيماً شديداً وحق له، ومنها مشهد الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته رضي الله عنهما وهو بخارج البصرة ولا قبة عليه وله مسجد وزاوية فيها الطعام لأبناء السبيل، وعلى ستة أميال منها بقرب وادي السباع قبر أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سبيل لزيارته إلا في جمع كثيف لكثرة السباع وعدم العمران، ومنها قبر الحسن بن أبي الحسن البصري سيد التابعين رضي الله عنه، وقبر عتبة الغلام رضي الله عنه، وقبر مالك بن دينار رضي الله عنه، وقبر حبيب العجمي رضي الله عنه، وقبر سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه. وعلى كل قبر منها قبة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته. وذلك كله داخل السور القديم. وهي اليوم بينها وبين البلد ثلاثة أميال وبها سوى ذلك قبور الجم الغفير من الصحابة والتابعين

والمستشهدين يوم الجمل. وكان أمير البصرة حين ورودي عليها يسمى بركن الدين العجمي التوريزي أضافني فأحسن إلي. والبصرة على ساحل الفرات والدجلة، وبها المد والجزر كمثل ما هو بوادي سلا من بلاد المغرب وسواه والخليج المالح الخارج من بحر فارس على عشرة أميال منها. فإذا كان المد غلب الماء المالح على العذب وإذا كان الجزر غلب الماء الحلو على الماء المالح، فيستسقي أهل البصرة ماء غير جيد لدورهم. ولذلك يقال أن ماءهم زعاق. قال ابن جزي: وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد، وألوان أهلها مصفرة كاسفة، حتى ضرب بهم المثل. وقال بعض الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترجة: لله أترج غدا بيننا ... معبراً عن حال ذي عبرَهْ لما كسا الله ثياب الضنا ... أهل الهوى وساكني البصرَهْ ثم ركبت من ساحل البصرة في صنبوق، وهو القارب الصغير إلى الأبُلّة. وبينها وبين البصرة عشرة أميال في بساتين متصلة ونخيل مظلة عن اليمين واليسار والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك والتمر واللبن والفواكه وفيما بين البصرة والأبلة متعبد سهل بن عبد الله التستري فإذا حاذاه الناس بالسفن تراهم يشربون الماء مما يحاذيه من الوادي ويدعون عند ذلك تبركاً بهذا الوالي رضي الله عنه. والنواتية يحرفون في هذه البلد، وهم قيام. وكانت الأبلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس فخربت وهي الآن قرية بها آثار قصور وغيرها دالة على عظمها، ثم ركبنا في الخارج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلة يسمى بمغامس، وذلك فيما بعد المغرب فصحبنا إلى عبادان وهي قرية كبيرة في سبخة لا عمارة بها وفيها مساجد كثيرة ومتعبدات ورباطات للصالحين وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال. قال ابن جزي: عبادان كانت بلداً فيما تقدم، وهي مجدبة لا زرع بها، وإنّما يجلب إليها، والماء أيضاً بها قليل. وقد قال فيها بعض الشعراء: من مبلغ أندلساً أنني ... حللت عبادان أَقصى الثرى أوحشَ ما أبصرتُ لكنني ... قصدتُ فيها ذكرَها في الورى الخبزُ فيها يتهادَونَه ... وشربةُ الماءِ بها تُشْتَرى وعلى ساحل البحر منها رابطة، تعرف بالنسبة إلى الخضر وإلياس عليهما

السلام. وبإزائها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية، ويتعيشون من فتوحات الناس وكل من يمر بهم يتصدّق عليهم وذكر لي أهل هذه الزاوية أن بعبادان عابداً كبير القدر ولا أنيس له يأتي هذا البحر مرة في الشهر فيصطاد فيه ما يقوته شهراً ثم لا يرى إلا بعد تمام شهر وهو على ذلك منذ أعوام فلمّا وصلنا عبادان لم يكن لي شأن إلا طلبه فاشتغل من معي بالصلاة في المساجد والمتعبدات وانطلقت طالباً له فجئت مسجداً خرباً فوجدته يصلي فيه فجلست في جانبه فأوجز في صلاته ولما سلم أخذ بيدي وقال لي بلغك الله مرادك في الدنيا والآخرة فقد بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السياحة في الأرض وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه وبقيت الأخرى والرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه وبلوغ المراد من دخول الجنة ولما أتيت أصحابي أخبرتهم خبر الرجل وأعلمتهم بموضعه فذهبوا إليه فلم يجدوه ولا وقعُوا له على خبر فعجبوا من شأنه وعُدْنا بالعشي إلى الزاوية فَبِتْنا بها ودخل علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة ومن عادة ذلك الفقير أن يأتي عبادان كل ليلة فيسرج السرج بمساجدها ثم يعود إلى زاويته فلما وصل إلى عبادان وجد الرجل العابد فأعطاه سمكة طرية وقال له أوصل هذه إلى الضيف الذي قدم اليوم فقال لنا الفقير عند دخوله علينا من رأى منكم الشيخ اليوم؟ فقلت له: أنا رأيته فقال لي هذه ضيافتك فشكرت الله على ذلك وطبخ لنا الفقير تلك السمكة فأكلنا منها جميعاً، وما أكلت قط سمكاً أطيب منها وهجس في خاطري الإقامة بقية العمر في خدمة ذلك الشيخ ثم صرفتي النفس اللجوج عن ذلك، ثم ركبنا البحر عند الصبح بقصد بلده ماجول ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك وكنت أحب قصد بغداد العراق فأشار علي بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللور ثم إلى عراق العجم ثم إلى عراق العرب فعملت بمقتضى إشارته ووصلنا بعد أربعة أيام إلى بلدة ماجول على وزن فاعول وجميمُها معقودة، وهي صغيرة على ساحل الخليج الذي ذكرنا أنه يخرج من بحر فارس وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات ولها سوق عظيمة من أكبر الأسواق وأقمت بها يوماً واحداً، ثم اكتريت دابة لوكوبي من الذين يجلبون الحبوب من رامز إلى ماجول وسرنا ثلاثاً في صحراء يسكنها الأكراد في بيوت الشعر. ويقال: إان أصلهم من العرب، ثم وصلنا إلى مدينة رامز، وأول

حروفها "راء وآخرها زاي وميمها مكسورة"، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار ونزلنا بها عند القاضي حسام الدين محمود، ولقيت عنده رجلاً من أهل العلم والدين والورع، هندي الأصل، يدعى بهاء الدين، ويسمى إسماعيل، وهو من أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكريا الملتاني، وقرأ على مشايخ توريز وغيرها. وأقمت بمدينة رامز ليلة واحدة، ثم رحلنا منها ثلاثاً في بسيط فيه قرى يسكنها الأكراد. وفي كل مرحلة منها زاوية فيها للوارد الخبز واللحم والحلواء، وحلواؤهم من رب العنب مخلوط بالدقيق والسمن. وفي كل زاوية الشيخ والإمام والمؤذنون والخادم للفقراء والعبيد يطبخون الطعام. ثمّ وصلت مدينة تستر، وهي آخر البسيط من بلاد أتابك، وأول الجبال، مدينة كبيرة رائقة نضرة، وبها البساتين الشريفة والرياض المنيفة، ولها المحاسن البارعة والأسواق الجامعة وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد وإلى هذه المدينة ينسب سهل بن عبد الله ويحيط بها النهر المعروف بالأزرق وهو عجيب في نهاية من الصفاء شديد البرودة في أيام الحر ولم أر كزرقته إلا نهر بلخشان ولها باب واحد للمسافرين يسمى دروازة دسبول والدروازة عندهم الباب ولها أبواب غير شارعة إلى النهر وعلى جانبي النهر البساتين والدواليب والنهر عميق وعلى باب المسافرين منه جسر على القوارب كجسر بغداد والحلة. قال ابن جزي: وفي هذا النهر يقول بعضهم: انظر لشاذروان تستر وَاعجبِ ... مِن جمعِه ماءً لري بلادِهِ ككميِّ قومٍ جُمّعتْ أموالُهُ ... فغدا يفرّقه على أجنادِهِ. والفواكه بتستر كثيرة والخيرات متيسرة ولا مثل لأسواقها في الحسن وبخارجها تربة معظمة يقصدها أهل تلك الأقطار للزيارة وينذرون لها النذور ولها زاوية بها جماعة من الفقراء وهم يزعمون أنها تربة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان نزولي من مدينة تستر في مدرسة الشيخ الإمام الصالح المتفنن شرف الدين موسى بن الشيخ الصالح الإمام العالم صدر الدين سليمان وهو من ذرية سهل بن عبد الله وهذا الشيخ ذو مكارم وفضائل جامع بين العلم والدين والصلاح والإيثار وله مدرسة وزاوية وخدامها فتيان له أربعة سنبل وكافور وجوهر وسرور أحدهم موكل بأوقاف الزاوية والثاني متصرف فيما يحتاج إليه من النفقات في كل يوم والثالث خديم السماط

بين أيدي الواردين ومرتب الطعام لهم والرابع موكل بالطباخين والسقائين والفراشين فأقمت عنده ستة عشر يوماً فلم أر أعجب من ترتيبه ولا أرغد من طعامه يقدم بين يدي الرجل ما يكفي الأربعة من الأرز المفلفل المطبوخ في السمن والدجاج المقلي والخبز واللحم والحلواء وهذا الشيخ من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع ولما شاهدت مجالسه في الوعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر ولم ألق فيمن لقيته مثله. حضرت يوماً عنده ببستان له على شاطيء النهر وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها وأتى الفقهاء من كل ناحية فأطعم الجميع ثم صلى بهم صلاة الظهر وقام خطيباً وواعظاً بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية والنغمات المحركة المهيجة وخطب خطبة بسكينة ووقار وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه ثم ترامت عليه الرقاع من كل ناحية ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع ويرموا بها إلى الواعظ فيجيب عنها فلما رمى إليه بتلك الرقاع جمعها في يده وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا وكان مجلسه مجلس علم ووعظ وبركة وتبادر التائبون فأخذ عليهم العهد وجز نواصيهم وكانوا خمسة عشر رجلاً من الطلبة قدموا من البصرة برسم ذلك وعشرة رجال من عوام تستر. ولما دخلت هذه المدينة أصابني مرض الحمى، وهذه البلاد يحمّ داخلها في زمان الحر كما يعرض في دمشق وسواها من البلاد الكثيرة المياه والفواكه. وأصابت الحمى أصحابي أيضاً. فمات منهم شيخ اسمه يحيى الخراساني وقام الشيخ بتجهيزه من كل ما يحتاج إليه الميت وصلى عليه وتركت بها صاحب يدعى بهاء الدين الخشني فمات بعد سفري وكنت حين مرضي لا أشتهي الأطعمة التي تصنع لي بمدرسته فذكر لي الفقيه شمس الدين السندي من طلبتها طعاماً فاشتهيته ودفعت له دراهم وطبخ لي ذلك الطعام بالسوق وأتى به إلي فأكلت منه فبلغ ذلك الشيخ فشق عليه وأتى إلي وقال لي كيف تفعل هذا وتطبخ الطعام في السوق؟ وهلاّ أمرت الخدم أن يصنعوا لك ما تشتهيه ثم أحضر جمعهم وقال لهم جميع ما يطلب منكم من أنواع الطعام والسكر وغيره

فأتوه به واطبخوا له ما يشاء وأكد عليهم ذلك أشد التأكيد جزاه الله خيراً. ثم سافرنا من مدينة تستر ثلاثاً في جبال شامخة وبكل منزل زاوية كما تقدم ذكر ذلك ووصلنا إلى مدينة إِيذَجْ "وضبط اسمها بكسر الهمزة وياء مد وذال معجم مفتوح وجيم"، وتسمى أيضا مال الأمير، وهي حضرة السلطان أتابك وعند وصولي إليها اجتمعت بشيخ شيوخها العالم الورع نورالدين الكرماني وله النظر في كل الزوايا وهم يسمونها المدارس والسلطان يعظمه ويقصد زيارته وكذلك أرباب الدولة وكبراء الحضرة يزورونه غدواً وعشياً فأكرمني وأضافني وأنزلني زاوية تعرف باسم الدينوري، وأقمت بها أياماً وكان وصولي في أيام القيظ وكنا نصلي صلاة الليل ثم ننام بأعلى سطحها ثم ننزل إلى الزاوية ضحوة وكان في صحبتي اثنا عشر فقيراً، منهم إمام وقارئان مجيدان وخادم ونحن على أحسن ترتيب.

خبر ملك إيذج وتستر

خبر ملك إيذج وتستر: وملك إيذج في عهد دخولي إليها السلطان أتابك أفراسياب بن السلطان أتابك أحمد وأتابك عندهم سمة لجميع من يلي تلك البلاد من ملك وهي تسمى بلاد اللور. وولي هذا السلطان بعد أخيه أتابك يوسف وولي يوسف بعد أبيه أحمد وكان أحمد المذكور ملكاً صالحاً، سمعت من الثقات ببلاده أنه عمر أربعمائة وستين زاوية ببلاده، منها بحضرة إيذج أربع وأربعون، وقسم الخراج أثلاثاً ثلث لنفقة الزوايا والمدارس وثلث لمرتب العساكر وثلث لنفقته ونفقة عياله وعبيده وخدامه، ويبعث منه هدية لملك العراق في كل سنة وربما وفد عليه بنفسه، وشاهدت من آثاره الصالحة ببلاده أن أكثرها في جبال شامخة وقد نحتت الطرق في الصخور وسويت ووسعت بحيث تصعدها الدواب بأحمالها وطول هذه الجبال مسيرة سبعة عشر في عرض عشرة وهي شاهقة متصل بعضها ببعض تشقها الأنهار وشجرها البلوط وهم يصنعون من دقيقه الخبز، وفي كل منزل من منازلها زاوية يسمونها المدرسة فإذا وصل المسافر إلى مدرسة منها أتى بما يكفيه من الطعام والعلف لدابته سواء طلب ذلك أو لم يطلبه فإن عادتهم أن يأتي خادم المدرسة فيعد من نزل بها من الناس ويعطي

كل واحد منهم قرصين من الخبز ولحما وحلواء وجميعه من أوقاف السلطان عليها وكان السلطان أتابك أحمد زاهداً صالحاً كما ذكرناه يلبس تحت ثيابه مما يلي جسده ثوب شعر. وحين قدم السلطان أتابك أحمد مرة على ملك العراق أبي سعيد قال له بعض خواصه أن أتابك أحمد يدخل عليك وعليه الدرع وظن ثوب الشعر الذي تحت ثيابه درعاً فأمر باختبار ذلك على جهة من الانبساط ليعرف حقيقته فدخل عليه يوماً فقام إليه الأمير الجوبان عظيم أمراء العراق والأمير سويته أمير ديار بكر والشيخ حسن الذي هو الآن سلطان العراق، وأمسكوا بثيابه كأنهم يمازحونه فوجدوا تحت ثيابه ثوب الشعر ورآه السلطان أبو سعيد وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جواره وقال له سن أطا بالتركية ومعناه أنت أبي وعوضه عن هديته أضعافاً وكتب له اليرليغ وهو الظهير أن لا يطالبه بهدية بعدها هو ولا أولاده وفي تلك السنة توفي وولى ابنه أتابك يوسف عشرة أعوام ثم ولى أخوه افراسياب ولما دخلت مدينة إيذج أردت رؤية افراسياب المذكور فلم يتأت لي ذلك بسبب أنه لا يخرج إلا يوم الجمعة لإدمانه على الخمر وكان له ابن وهو ولي عهده وليس له سواه فمرض في تلك الأيام وفي إحدى الليالي أتاني أحد خدامه وسألني عن حالي فعرفته وذهب ثم جاء بعد صلاة المغرب ومعه طيفوران كبيران أحدهما بالطعام والآخر بالفاكهة وخريطة دراهم ومعه أهل السماع بآلاتهم وقال اعملوا السماع حتى يهزج الفقراء ويدعون لابن السلطان فقلت له أن أصحابي لا يدرون بالسماع ولا بالرقص ودعونا للسلطان ولولده وقسمت الدراهم على الفقراء ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ وقد مات المريض المذكور وفي الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا أن كبراء البلد من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطنة للعزاء فينبغي لك أن تذهب في جملتهم فأبيت فعزموا علي فلم يكن لي بد من السير وسرت معهم فوجدت مشور دار السلطنة ممتلئا رجالا وصبيانا من المماليك وأبناء الملوك والوزراء والأجناد قد لبسوا التلابيس وجلال الدواب وجعلوا فوق رؤسهم التراب والتبن وبعضهم قد جز ناصيته وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور وفرقة بأسفله وتزحف كل فرقة إلى الأخرى وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلين خوند كارما، ومعناه

مولاي أنا، فرأيت من ذلك أمراً هائلاً ومنظراً فظيعاً لم أعهد مثله. ومن غريب ما اتفق لي يومئذ أني دخلت فرأيت القضاة والخطباء والشرفاء قد استندوا إلى حيطان المشور وهو غاص بهم من جميع جهاته وهم بين باك ومتباك ومطرق وقد لبسوا فوق ثيابهم خامة من غليظ القطن غير محكمة الخياطة بطائنها إلى أعلى ووجوهها مما يلي أجسادهم وعلى رأس كل واحد منهم خرقة أو مئزر أسود هكذا يكون فعلهم إلى تمام أربعين يوماً وهي نهاية الحزن عندهم وبعدها يبعث السلطان لكل من فعل ذلك كسوة كاملة فلما رأيت جهات المشور غاصة بالناس نظرت يمينا وشمالا أرتاد موضعا لجلوسي فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة عن الأرض بمقدار شبر وفي إحدى زواياهارجل منفرد عن الناس قاعد عليه ثوب صوف مثل اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج في الأسفار فتقدمت منه وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه وعجبوا مني وأنا لا علم لي بشيء من حاله فصعدت السقيفة وسلمت على الرجل فرد السلام وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام وهو يسمون ذلك نصف القيام وقعدت في الركن المقابل له ثم نظرت إلى الناس وقد رموني بأبصارهم جميعاً فعجبت منهم ورأيت الفقهاء والمشايخ والأشراف مستندين إلى الحائط تحت السقيفة وأشار إلي أحد القضاة أن أنحط إلى جانبه فلم أفعل وحينئذ استشعرت أنه السلطان فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور الدين الكرماني الذي ذكرناه قبل فصعد إلى السقيفة وسلم على الرجل فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه فحينئذ علمت أنه السلطان. ثم جيء بالجنازة وهي بين أشجار الأترج والليمون وقد ملأوا أغصانها بثمارها وهي بأيدي رجال فكأن الجنازة تمشي في بستان والمشاعل في رماح طوال بين يديها والشمع كذلك فصلى عليها وذهب الناس معها إلى مدفن الملوك وهو بموضع يقال له هلا فيجان على أربعة أميال من المدينة وهناك مدرسة عظيمة يشقها نهر وبداخلها مسجد تقام فيه الجمعة وبخارجها حمام ويحف بها بستان عظيم وبها الطعام للوارد والصادر، ولم أستطع أن أذهب معهم إلى الدفن لبعد الموضع فعدت إلى المدرسة.

فلما كان بعد أيام بعث إلي السلطان رسوله الذي أتاني بالضيافة أولا يدعوني إليه فذهبت معه إلى باب يعرف بباب السر وصعدنا في درج كثيرة إلى أن انتهينا إلى موضع لا فرش به لأجل ما هم فيه من الحزن والسلطان جالس فوق مخدة وبين يديه آنيتان قد غطيتا أحدهما من الذهب والأخرى من الفضة وكانت بالمجلس سجادة خضراء ففرشت لي بالقرب منه وقعدت عليها وليس بالمجلس إلا حاجبه الفقيه محمود ونديم له لا أعرف اسمه فسألني عن حالي وبلادي وسألني عن الملك الناصر وبلاد الحجاز فأجبته عن ذلك ثم جاء فقيه كبير وهو رئيس فقهاء تلك البلاد فقال لي السلطان هذا مولانا فضيل والفقيه ببلاد الأعاجم كلها إنما يخاطب بمولانا وبذلك يدعوه السلطان وسواه ثم أخذ في الثناء على الفقيه المذكور وظهر لي أن السكر غالب عليه وكنت قد عرفت إدمانه على الخمر ثم قال لي باللسان العربي وكان يحسنه تكلم فقلت له: أن كنت تسمع مني أقول لك: أنت من أولادالسلطان أتابك أحمد المشهور بالزهد والصلاح وليس فيك ما يقدح في سلطنتك غير هذا وأشرت إلى الآنيتين فخجل من كلامي، وسكت وأردت الانصراف فأمرني بالجلوس وقال لي الاجتماع مع أمثالك رحمة ثم رأيته يتمايل ويريد النوم فانصرفت وكنت تركت نعلي بالباب فلم أجده، فنزل الفقيه محمود في طلبه وصعد الفقيه فضل يطلبه في داخل المجلس فوجده في طاق هنالك فأتى به فأخجلني بره واعتذرت إليه فقبل نعلي ووضعه على رأسه وقال لي بارك الله فيك هذا الذي قلته لسلطاننا لا يقدر أن يقوله أحد غيرك والله إني لأرجو أن يؤثر ذلك فيه. ثم كان رحيلي من حضرة ايذج بعد أيام فنزلت بمدرسة السلاطين التي بها قبورهم وأقمت بها أياما وبعث إلي السلطان بجملة دنانير وبعث بمثلها لأصحابي وسافرنا في بلاد هذا السلطان عشرة أيام في جبال شامخة وفي كل ليلة ننزل بمدرسة فيها الطعام فمنها ما هو العمار ومنها ما لا عمارة حوله ولكن يجلب إليها جميع ما تحتاج إليه وفي اليوم العاشر نزلنا بمدرسة كريو الرخ، وهي آخر بلاد الملك وسافرنا منها في بسيط من الأرض كثير المياه من عمالة مدينة أصفهان. ثم وصلنا إلى بلدة أَشْتُرْكان "وضبط اسمها بضم الهمزة وإسكان الشين

المعجم وضم التاء المعلوة وإسكان الراء وآخره نون". وهي بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين ولها مسجد بديع يشقه النهر. ثم رحلنا منها إلى مدينة فيروزان، واسمها كأنه تثنية فيروز وهي مدينة صغيرة ذات أنهار وأشجار وبساتين وصلناها بعد صلاة العصر فرأينا أهلها قد خرجوا لتشييع جنازة وقد أوقدوا خلفها وأمامها المشاعل وأتبعوها بالمزأمير والمغنيين بأنواع الأغاني المطربة فعجبنا من شأنهم وبتنا بها ليلة ومررنا بالغد بقرية يقال لها نبلان وهي كبيرة على نهر عظيم وإلى جانبه مسجد على النهاية من الحسن تصعد إليه في درج وتحفه البساتين، وسرنا يومنا فيما بين البساتين والمياه والقرى الحسان وأبراج الحمام. ووصلنا بعد العصر إلى مدينة أصفهان من عراق العجم "واسمها يقال بالفاء الخالصة ويقال بالفاء المعقودة المفخمة"، ومدينة أصفهان من كبار المدن وحسانها إلا أنها الآن قد خرب أكثرها بسبب الفتنة التي بين أهل السنة والروافض، وهي متصلة بينهم حتى الآن فلا يزالون في قتال، وبها الفواكه الكثيرة ومنها المشمش الذي لا نظير له ويسمونه بقمر الدين وهم ييبسونه ويدخرونه ونواه ينكسر عن لوز حلو ومنها السفرجل الذي لا مثيل له في طيب المطعم وعظم الجرم، والعناب الطيبة والبطيخ العجيب الشأن الذي لا مثيل له في الدنيا إلا ما كان من بطيخ بخارى وخوارزم وقشره أخضر وداخله أحمر ويدخر كما تدخر الشريحة بالمغرب وله حلاوة شديدة ومن لم يكن ألف أكله فإنه في أول مرة يُسهله وكذلك اتفق لي لما أكلته بأصفهان، وأهل أصفهان حسان الصور وألوانهم بيض زاهرة مشوبة بالحمرة والغالب عليهم الشجاعة والنجدة وفيهم كرم وتنافس عظيم فيما بينهم في الأطعمة تؤثر عنهم فيه أخبار غريبة وربما دعا أحدهم صاحبه فيقول له اذهب معي لتأكل نان وماس والنان بلسانهم الخبز والماس اللبن فإذا ذهب معه أطعمه أنواع الطعام العجيب مباهياً له بذلك وأهل كل صناعة يقدمون على أنفسهم كبيراً منهم يسمونه الكلو وكذلك كبار المدينة من غير أهل الصناعات وتكون الجماعة من الشبان والأعزاب وتفاخر تلك الجماعات بعضها بعضاً مظهرين لما قدروا عليه من الإمكان محتفلين في الأطعمة وسواها الاحتفال العظيم ولقد ذكر لي أن طائفة منهم أضافت أخرى فطبخوا طعامهم بنار الشمع ثم أضافتها أخرى فطبخوا طعامهم بالحرير. وكان نزولي بأصفهان في زاوية تنسب للشيخ علي بن سهل تلميذ الجنيد وهي معظمة يقصدها أهل تلك الآفاق ويتبركون بزيارتها وفيها

الطعام للوارد والصادر وبها حَمّام عجيب مفروش بالرخام وحيطانه بالقاشاني وهو موقوف بالسبيل لا يلزم أحد في دخوله شيء وشيخ هذه الزاوية الصالح العابد الورع قطب الدين حسين بن الشيخ الصالح ولي الله شمس الدين محمد بن محمود بن علي المعروف بالرجاء وأخوه العالم المفتي شهاب الدين أحمد أقمت عند الشيخ قطب الدين بهذه الزاوية أربعة عشر يوماً، فرأيت من اجتهاده في العبادة وحبه في الفقراء والمساكين وتواضعه لهم ما قضيتُ منه العجب وبالغ في إكرامي وأحسن ضيافتي وكساني كسوة حسنة وساعة وصولي الزاوية بعث إليّ الطعام وبثلاث بطيخات من البطيخ الذي وصفناه آنفاً، ولم أكن رأيته قبل ولا أكلته.

كرامات الشيخ قطب الدين

كرامات الشيخ قطب الدين: أنّه دخل علي يوما بموضع نزولي من الزاوية وكان ذلك الموضع يشرف على بستان للشيخ وكانت ثيابه قد غسلت في ذلك اليوم ونشرت في البستان ورأيت في جملتها جبة بيضاء مبطنة تدعى عندهم هزرميخي فأعجبتني وقلت في نفسي مثل هذه كنت أريد فلما دخل علي الشيخ نظر في ناحية البستان وقال لبعض خدامه ائتني بذلك الثوب الهزرميخي فأتوه به فكساني إياه فأهويت إلى قدميه أقبلهما وطلبت منه أن يلبسني طاقية من رأسه ويجيزني في ذلك بما أجازه والده عن شيوخه فألبسني إياهافي الرابع عشر لجمادى الأخير سنة سبع وعشرين وسبعمائة بزاويته المذكورة كما لبس من والده شمس الدين الذي لبس من والده أبيه تاج الدين محمود ولبس محمود من أبيه شهاب الدين علي الرجاء ولبس علي من الإمام شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي ولبس عمر من الشيخ الكبير ضياء الدين أبي النجيب السهروردي ولبس أبو النجيب من عمه الإمام وحيد الدين عمر ولبس عمر من والده علي بن عبد الله المعروف بعمويه ولبس محمد من الشيخ أخي فرج الزنجاني ولبس أخو فرج من الشيخ أحمد الدينوري، ولبس أحمد من الإمام ممشاد الدينوري ولبس ممشاد من الشيخ المحقق علي بن سهيل الصوفي ولبس علي من أبي القاسم الجنيد، ولبس الجنيد من سري السقطي، ولبس سري السقطي من داود الطائي، ولبس داود من الحسن بن أبي الحسن البصري،

ولبس الحسن بن أبي الحسن البصري من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قال ابن جزي: مكذا أورد الشيخ أبو عبد الله هذا السند، والمعروف فيه أن سريا السقطي صحب معروفاً الكرخي، وصحب معروف داود الطائي، وكذلك داود الطائي بينه وبين الحسن حبيب العجمي، وأخوه فرج الزنجاني إنما المعروف أنذه صحب أبا العباس النهاوندي، وصحب النهاوندي أبا عبد الله بن خفيف، وصحب ابن خفيف أبا محمد وربما صحب روبم أبا القاسم الجنيد وأما محمد بن عبد الله عميه فهو الذي صحب الشيخ أحمد الدينوري الأسود، وليس بينهما أحدٌ والله أعلم والذي صحب أخا فرج الزنجاني هو عبد الله بن محمد بن عبد الله والدي أبي النجيب. ثم سافرنا من أصفهان بقصد زيارة الشيخ مجد الدين بشيراز وبينهما مسيرة عشرة أيام فوصلنا إلى بلدة كليل، "وضبطها بفتح الكاف وكسر اللام وياء مد" وبينها وبين أصفهان مسيرة ثلاثة وهي بلدة صغيرة ذات أنهار وبساتين وفواكه رأيت التفاح يباع في سوقها خمسة عشر رطلاً عراقية بدرهم ودرهمهم ثلث النقرة، ونزلنا بزاوية عمرها كبير هذه البلدة المعروف بخواجه كافي وله مال عريض قد أعانه على إنفاقه في سبيل الخيرات من الصدقة وعمارة الزوايا وإطعام الطعام لأبناء السبيل، ثم سرنا من كليل يومين ووصلنا إلى قرية كبيرة تعرف بصوماء وبها زاوية فيها الطعام للوارد والصادر عمرها خواجه كافي المذكور، ثم سرنا منه إلى يزْدخاص "وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وضم الدال المهمل وخاء معجم وألف وصاد مهمل" بلدة صغيرة متقنة العمارة حسنة السوق والمسجد الجامع بها عجيب مبني بالحجارة مسقف بها والبلد على صفة خندق فيه بساتينها ومياهها وبخارجها رباط ينزل به المسافرون عليه باب حديد وهو في النهاية من الحصنة والمنعة وبداخله حوانيت يباع فيها كل ما يحتاجه المسافرون وهذا الرباط عمره الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان أبي إسحاق ملك شيراز وفي يزد خاص يصنع الجبن اليزدخاصي ولا نظير له في طيبه وزن الجبنة منه من أوقتين إلى أربع، ثم سرنا منها على طريق دشت الروم وهي صحراء يسكنها الأتراك. ثم سافرنا إلى مايين "واسمها بياءين مسفولتين أولهما مكسورة" وهي بلدة صغيرة كثيرة الأنهار والبساتين حسنة الأسواق، وأكثر أشجارها الجوز. ثم سافرنا منها إلى مدينة

شيراز، وهي مدينة أصلية البناء فسيحة الأرجاء شهيرة الذكر منيفة القدر لها البساتين المونقة والأنهار المتدفقة والأسواق البديعة والشوارع الرفيعة وهي كثيرة العمارة متقنة المباني عجيبة الترتيب وأهل كل صناعة في سوقها لا يخالطهم غيرهم حسان الصور نظاف الملابس وليس في المشرق بلدة تداني مدينة دمشق في حسن أسواقها وبساتينها وأنهارها وحسن صور ساكنيها إلا شيراز وهي في بسيط من الأرض تحف بها البساتين من جميع الجهات وتشقها خمسة أنهار أحدها النهر المعروف بركن آباد وهو عذب الماء شديد البرودة في الصيف سخن في الشتاء فينبعث من عين في سفح الجبل هنالك يسمى القليعة ومسجدها الأعظم يسمى بالمسجد العتيق وهو أكبر المساجد مساحة وأحسنها بناء وصحنه متسع مفروش بالمرمر ويغسل في أوان الحر في كل ليلة ويجتمع فيه كبار أهل المدينة كل عشية يصلون به المغرب والعشاء وبشماله باب يعرف بباب حسن يفضي إلى سوق الفاكهة وهي من أبدع الأسواق وأنا أقول بتفضيلها على باب البريد من دمشق وأهل شيراز أهل صلاح ودين وعفاف وخصوصاً نساؤها وهن يلبسن الخفاف، ويخرجن ملتحفات متبرقعات فلا يظهر منهن شيء، ولهن الصدقات والإيثار ومن غريب حالهن أنهن يجتمعن لسماع الواعظ في كل يوم اثنين وخميس وجمعة بالجامع الأعظم فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأيديهن المراوح يروحن بها على أنفسهن من شدة الحر ولم أر اجتماع النساء في مثل عددهن في بلدة من البلاد. وعند دخولي إلى مدينة شيراز لم يكن لي هم إلا قصد الشيخ القاضي الإمام قطب الأولياء فريد الدهر ذي الكرامات الظاهرة مجد الدين إسماعيل بن محمد بن خداد ومعنى خداد عطية الله فوصلت إلى المدرسة المجدية المنسوبة إليه وبها سكناه وهي من عمارته فدخلت إليه رابع أربعة من أصحابي ووجدت الفقهاء وكبار اهل المدينة في انتظاره فخرج إلى صلاة العصر ومعه محب الدين وعلاء الدين ابنا أخيه وشقيقه روح الدين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهما نائباه في القضاء لضعف بصره وكبر سنه فسلمت عليه وعانقني وأخذ بيدي إلى أن وصل إلى مصلاه فأرسل يدي وأومأ إلى أن أصلي إلى جانبه ففعلت وصلى العصر ثم قرئ بين يديه من كتاب المصابيح وشوارق الأنوار للصاغاني، وطالعاه نائباه بما جرى لديهما من القضايا وتقدم كبار المدينة للسلام عليه وكذلك عادتهم معه صباحاً ومساءً ثم سألني عن حالي وكيفية قدومي وسألني عن المغرب ومصر والشام والحجاز

فأخبرته بذلك وأمر خدامه فأنزلوني بدويرة صغيرة بالمدرسة وفي غد ذلك اليوم وصل إليه رسول ملك العراق السلطان أبي سعيد وهو ناصر الدين الدرقندي من كبار الأمراء خراساني الأصل فعند وصوله إليه نزع شاشيته عن رأسه وهم يسمونها الكلا وقبل رجل القاضي وقعد بين يدين ممسكا أذن نفسه بيده وهكذا فعل أمراء التتر عند ملوكهم وكان هذا الأمير قد قدم في نحو خمسمائة فارس من مماليكه وخدامه وأصحابه ونزل خارج المدينة ودخل إلى القاضي في خمسة نفر ودخل مجلسه وحده منفردا تأدباً. كان ملك العراق السلطان محمد خذابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر فلما أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه فزين له مذهب الروافض وفضله عن غيره وشرح له حال الصحابة والخلافة وقرر لديه أن أبا بكر وعمر كانا وزيرين لرسول الله وأنّ عليا ابن عمه وصهره فهو وارث الخلافة ومثل له ذلك بما هو مألوف عنده من أن الملك الذي بيده إنما هو إرث عن أجداده وأقاربه مع حدثان عهد السلطان بالكفر وعدم معرفته بقواعد الدين فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض وكتب بذلك إلى العراقيين وفارس وأذربيجان وأصفهان وكرمان وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد فكان أول بلد وصل إليها بغداد وشيراز وأصفهان فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم وهم أهل السنة وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وقالوا لا سمع ولا طاعة وأتوا المسجد الجامع في يوم الجمعة ومعهم السلاح وبه رسول السلطان فلما صعد الخطيب المنبر قاموا إليه وهم اثني عشر ألفا في سلاحهم وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها فحلفوا له أنه أن غير الخطبة المعتادة أو زاد فيها أو نقص فإنهم قاتلوه وقاتلوا رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاء الله وكان السلطان أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي الله عنهم فخاف الخطيب من القتل وخطب الخطبة المعتادة وفعل أهل شيراز وأصفهان كفعل أهل بغداد فرجعت الرسل إلى الملك فأخبروه بما جرى في ذلك فأمر أن يؤتي بقضاة المدن الثلاث فكان أول من أتى به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز والسلطان إذ ذاك في موضع يعرف بقراباغ وهو موضع مصيفه فلما

وصل القاضي أمر أن يرمي به إلى الكلاب التي عنده وهي كلاب ضخام في أعناقها السلاسل معدة لأكل بني آدم فإذا أوتي بمن يسلط عليه الكلاب جعل في رحبة كبيرة مطلقا غير مقيد ثم بعثت تلك الكلاب عليه فيفر أمامها ولا مفر له فتدركه فتمزقه وتأكل لحمه فلما أرسلت الكلاب على القاضي مجد الدين ووصلت إليه بصبصت إليه وحركت أذنيها بين يديه ولم تهجم عليه بشيء فبلغ ذلك السلطان فخرج من داره حافي القدمين فأكب على رجلي القاضي يقبلها وأخذ بيده وخلع عليه جميع ما كان عليه من ثياب وهي أعظم كرامات السلطان عندهم وإذا خلع ثيابه كذلك على أحد كانت شرفاً له ولبنيه وأعقابه يتوارثونه ما دامت تلك الثياب أو منها وأعظمها في ذلك السراويل ولما خلع السلطان ثيابه على القاضي مجد الدين أخذ بيده وأدخله إلى داره وأمر نساءه بتعظيمه والتبرك به ورجع السلطان عن مذهب الرفض وكتب إلى بلاده أن يقر الناس على مذهب أهل السنة والجماعة وأجزل العطاء للقاضي وصرفه إلى بلاده مكرماً معظماً وأعطاه في جملة عطاياه مائة قرية من قرى جمكان وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخاً يشقه نهر عظيم والقرى منتظمة بجانبيه وهو أحسن موضع بشيراز ومن قراه العظيمة التي تضاهي المدن قرية ميمن1، وهي للقاضي المذكور ومن عجائب هذا الموضع المعروف بجمكان أن نصفه مما يلي شيراز وذلك مسافة اثني عشر فرسخاً شديد البرد وينزل فيه الشيخ وأكثر شجره الجوز والجزء الآخر مما يلي بلاد هنج وبال وبلاد اللار في طيريق هرمز شديد الحر وفيه شجر النخيل. وقد تكرر لي لقاء القاضي مجد الدين ثانية حين خروجي من الهند قصدته من هرمز متبركاً بلقائه وذلك سنة ثمان وأربعون. وبين هرمز وشيراز مسيرة خمسة وثلاثين يوماً فدخلت عليه وهو قد ضعف عن الحركة فسلمت عليه فعرفني وقام إلي فعانقني ووقعت يدي على مرفقه وجلده لاصق بالعظم لا لحم بينهما وأنزلني بالمدرسة حيث أنزلني أول مرة وزرته يوماً فوجدت ملك شيراز السلطان أبا إسحاق وسيقع ذكره قاعداً بين يديه ممسكاً بأذن نفسه وذلك هو غاية الأدب عندهم ويفعله الناس إذا قعدوا بين يدي الملك. وأتيت

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: هيمن.

مرة أخرى إلى المدرسة، فوجدت بابها مسدودًا. فسألت عن سبب ذلك فأخبرت أن أم السلطان وأخته نشأت بينهما خصومة في ميراث فصرفهما إلى القاضي مجد الدين فوصلتا إليه إلى المدرسة وتحاكمتا عنده وفصل بينهما بواجب الشرع وأهل شيراز لا يدعونه بالقاضي وإنما يقولون له مولانا أعظم وكذلك يكتبون في التسجيلات والعقود التي تفتقر إلى ذكر اسمه فيها وكان آخر عهدي به شهر ربيع الثاني من عام ثمانية وأربعين وسبعمائة ولاحت علي أنواره وظهرت لي بركاته نفع الله به وبأمثاله.

خبر سلطان شيراز

خبر سلطان شيراز: وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو سماه أبوه باسم الشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به وهو من خيار السلاطين حسن الصورة والسيرة والهيئة كريم النفس جميل الأخلاق متواضع صاحب قوة وملك كبير وعسكره ينيف على خمسين ألفاً من الترك والأعاجم وبطانته الأدنون إليه أهل أصفهان وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه ولا يستخدمهم ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرأة على الملوك ومن وجده بيده السلاح منهم عوقب ولقد شاهدت رجلا مرة تجره الجنادرة وهم الشرط إلى الحاكم وقد ربطوه في عنقه فسألت عن شأنه فأخبرت أنه وجدت في يده قوس بالليل فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيين عليهم لأنه يخافهم على نفسه وكان أبوه محمد شاه ينجو والياً على شيراز من قبل ملك العراق وكان حسن لسيرة محبباً إلى أهلها فلما توفي ولّى السلطان أبو سعيد مكانه الشيخ حسيناً، وهو ابن الجويان أمير الأمراء، وسيأتي ذكره، وبعث معه العساكر الكثيرة فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها وهي من أعظم بلاد الله مجبى. ذكر لي الحاج قوام الدين الطمغجي وهو والي المجبى بها أنه ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم كل يوم وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار ذهباً وأقام بها الأمير حسين مدة ثم أراد القدوم على ملك العراق فقبض على أبي إسحاق بن محمد شاه ينجو وعلى أخيه ركن الدين

ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون وأراد حملهم إلى العراق ليطالبوا بأموال أبيهم فلما توسطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء أن ترى في تلك الحال فإن عادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن واستغاثت بأهل شيراز وقالت أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال لا نتركها تخرج من بلدنا ولا نرضى بذلك فتابعه الناس على قوله وثارت عامتهم ودخلوا في السلاح وقتلُوا كثيراً من العسكر وأخذوا الأموال وخلصوا المرأة وأولادها وفر الأمير حسين ومن معه وقدم السلطان أبي سعيد مهزوماً فأعطاه العساكر الكثيفة وأمره بالعودة إلى شيراز والتحكم في أهلها بما شاء فلما بلغ أهلها ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم فقصدوا القاضي مجد الدين وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين ويوقع الصلح فخرج إلى الأمير حسين فترجل له الأمير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح ونزل الأمير حسين ذلك اليوم خارج المدينة فلما كان من الغد برز أهلها للقائمين في أجمل ترتيب وزينوا البلد وأوقدوا الشمع الكثير ودخل الأمير حسين في أبهة وحفل عظيم وسار فيهم بأحسن سيرة فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه وتغلب كل أمير على ما بيده خافهم الأمير حسين على نفسه وخرج وتغلب السلطان أبو إسحق عليها وعلى أصفهان وبلاد فارس وذلك مسيرة شهر ونصف شهر واشتدت شوكته وطمعت همته إلى تملك ما يليه من البلاد فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة بزد مدينة حسنة نظيفة عجيبة الأسواق ذات أنهار مطردة وأشجار نضيرة وأهلها تجار شافعية المذهب فحاصرها وتغلب عليها وتحصن الأمير مظفر شاه بن الأمير علي شاه بن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة تحدق بها الرمال فحاصره بها فظهر من الأمير مظفر من الشجاعة ما خرق المعتاد ولم يسمع بمثله فكان يضرب على عسكر السلطان أبي إسحاق ليلاً ويقتل ما شاء ويخرق المضارب والفساطيط ويعود إلى قلعته فلا يقدر على النيل منه وضرب ليلة على دوار السلطان وقتل هنالك جماعة وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته فأمر السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له الكمائن وتلاحقت العساكر فقاتلهم وخلص إلى قلعته ولم يصب من أصحابه إلا واحداً أتى به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه وأطلقه وبعث معه أماناً لمظفر لينزل إليه فأبى ذلك، ثم

وقعت بينهما المراسلة ووقعت له محبة في قلب السلطان أبي إسحاق لما رأى من شجاعته، فقال: أريد أن أراه فإذا رأيته انصرفت عنه فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها وسلم عليه فقال له السلطان انزل على الأمان فقال له مظفر إني عاهدت الله أن لا أنزل إليك حتى تدخل أنت قلعتي وحينئذ أنزل إليك فقال له أفعل ذلك فدخل إليه السلطان في عشرة من أصحابه الخواص. فلما وصل باب القلعة ترجل مظفّر وقبل ركابه ومشى بين يديه مترجلاً، فأدخله داره وأكل من طعامه ونزل معه إلى المحلة راكبا فأجلسه السلطان إلى جانبه وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالاً عظيماً ووقع الاتفاق بينهما أن تكون الخطبة باسم السلطان أبو إسحاق وتكون البلاد لمظفر وأبيه وعاد السلطان إلى بلاده. وكان السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرة إلى بناء إيوان كإيوان كسرى وأمر أهل شيراز أن يتولوا حفر أساسه فأخذوا في ذلك وكان أهل كل صناعة يباهون من عداهم فانتهوا إلى المباهاة إلى أن صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد وكسوها ثياب الحرير المزركش وفعلوا ذلك في براذع الدواب وإخراجها وصنع بعضهم الفؤوس من الفضة وأوقدوا الشمع الكثير وكانوا حين الحفر يلبسون أجمل ملابسهم ويربطون فوط الحرير على أوساطهم والسلطان يشاهد أفعالهم في منظرة له وقد شاهدت هذا المبنى وقد ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع ولما بنى أساسه رفع عن أهل المدينة التخديم فيه وصارت الفعلة تخدم فيه بالأجرة ويحشر لذلك آلاف منهم وسمعت والي المدينة يقول أن معظم مجباها ينفق في ذلك البناء وقد كان الموكل به الأمير جلال الدين الفلكي التوريزي وهو من الكبار كان أبوه نائبا عن وزير السلطان أبي سعيد المسمى علي شاه جيلان ولهذا الأمير جلال الدين الفلكي أخ فاضل اسمه هبة الله ويلقب بهاء الملك وفد على ملك الهند حين وفودي عليه ووفد معنا شرف الملك أمير يخت فخلع ملك الهند علينا جميعاً وقدم كل واحد في شغل يليق به وعين لنا المرتب والإحسان وسنذكر ذلك. وهذا السلطان أبو إسحاق يريد التشبه بملك الهند المذكور في الإيثار وإجزال العطايا. ولكن أين الثريا من الثرى. وأعظم ما تعارفنا من أعطيات أبي إسحاق أنه أعطى الشيخ زاده الخراساني الذي أتاه رسولا عن ملك هراة سبعين ألف دينار. وأما

ملك الهند فلم يزل يعطي أضعاف ذلك لمن لا يحصى كثرة من أهل خراسان وغيرهم. ومن عجيب فعل ملك الهند مع الخراسانيين أنه قدم عليه رجل من فقهاء خراسان هروي المولد من سكان خوارزم يسمى بالأمير عبد الله بعثه الخاتون ترابك زوج الأمير قطلود مور صاحب خوارزم بهدية إلى ملك الهند المذكور فقبلها وكافأ عنها بأضعافها وبعث ذلك إليها واختار رسولها المذكور الإقامة عنده فصيره في ندمائه فلما كان ذات يوم قال له ادخل إلى الخزانة فارفع منها قدر ما تستطيع أن تحمله من الذهب فرجع إلى داره فأتى بثلاث عشرة خريطة وجعل في كل خريطة قدر ما وسعته وربط كل خريطة بعضو من أعضائه وكان صاحب قوة وقام بها فلما خرج من الخزانة وقع ولم يستطع النهوض فأمر السلطان بوزن ما خرج به فكان جملته ثلاثة عشر منا بمنان دهلي والمن الواحد منها خمسة وعشرون رطلا مصرية فأمره أن يأخذ جميع ذلك فأخذه. وقد اشتكى مرة أمير يخت الملقب بشرف الدين الخراساني وهو الذي تقدم ذكره آنفا بحضرة ملك الهند فأتاه الملك عائداً ولما دخل عليه أراد القيام فحلف له الملك أن لا ينزل عن كته والكت السرير ووضع للسلطان متكأة يسمونها المورة فقعد عليها ثم دعا بالذهب والميزان فأحضرا وأمر المريض أن يقعد في إحدى كفتي الميزان فقال يا خوند عالم لو علمت أنه تفعل هذا للبست علي ثياباً كثيرة فقال له البس الآن جميع ما عندك من الثياب فلبس الثياب المعدة للبرد المحشوة بالقطن وقعد في كفة الميزان ووضع الذهب في الكفة الأخرى حتى رجحه الذهب وقال له خذ هذا فتصدق به على رأسك وخرج عنه. وفد عليه الفقير عبد العزيز الأردويلي وكان قد قرأ علم الحديث بدمشق فتفقه فيه فجعل مرتبه مائة دينار دراهم في اليوم وصرف ذلك خمسة وعشرون دينارا ذهبا وحضر مجلسه يوماً السلطان عن حديث فسأله فسرد له أحاديث كثيرة في ذلك المعنى فأعجبه حفظه وحلف له برأسه أنه لا يزول من مجلسه حتى يفعل معه ما يراه ثم نزل الملك عن مجلسه فقبل قدميه وأمر بإحضار صينية من ذهب وهي مثل الطيفور الصغير وأمر أن يأتي فيها ألف دينار من الذهب وأخذها السلطان بيده فصبّها عليه وقال: هي لك مع

الصينية. ووفد عليه مرة رجل خراساني يعرف بأبي الشيخ عبد الرحمن الأسفراييني وكان أبوه نزل بغداد فأعطاه خمسين ألف دينار دراهم وخيلاً وعبيداً وخلعاً وسنذكر كثيراً من أخبار هذا الملك عند ذكر بلاد الهند. وإنما ذكرنا هذا لما قدمناه من أن السلطان أبا إسحاق يريد التشبه به في العطايا وهو أن كان كريما فاضلا فلا يلحق بطبقة ملك الهند في الكرم والسخاء.

بعض المشاهد بشيراز

بعض المشاهد بشيراز: منها مشهد أحمد بن موسى أخي علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو مشهد معظم عند أهل شيراز يتبركون به ويتوسلون إلى الله تعالى بفضله وبنت عليه طاش خاتون أم السلطان أبي إسحق مدرسة كبيرة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر والقراء يقرأون القرآن على التربة دائما ومن عادة الخاتون أنها تأتي إلى هذا المشهد في كل ليلة اثنين ويجتمع في تلك الليلة القضاة والفقهاء والشرفاء وشيراز من أكثر بلاد الله شرفاء سمعت من الثقات أن الذين لهم بها المرتبات من الشرفاء ألف وأربعمائة ونيف بين صغير وكبير ونقيبهم عضد الدين الحسيني فإذا حضر القوم بالمشهد المذكور ختموا القرآن قراءة في المصاحف وقرأ القراء بالأصوات الحسنة وأتي بالطعام والفواكه والحلواء فإذا أكل القوم وعظ الواعظ ويكون ذلك كله بعد صلاة الظهر إلى العشي والخاتون في غرفة مطلة على المسجد لها شباك ثم تضرب الطبول والأنفار والبوقات على باب التربة كما يفعل عند أبواب الملوك. ومن المشاهد بها مشهد الإمام القطب الولي أبي عبد الله خفيف المعروف عندهم بالشيخ وهو قدوة بلاد فارس كلها ومشهده معظم عندهم يأتون إليهم بكرة وعشيا فيتمسحون به وقد رأيت القاضي مجد الدين أتاه زائراً واستلمه وتأتي الخاتون إلى هذا المسجد في كل ليلة جمعة وعليه زاوية ومدرسة ويجتمع به القضاة والفقهاء ويفعلون به كفعلهم في مشهد أحمد بن موسى وقد حضرت الموضعين جميعاً وتربة الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان أبي إسحاق متصلة بهذه التربة والشيخ أبو عبد الله بن خفيف كبير القدر في الأولياء شهير الذكر وهو أظهر طريق جبل سرنديب بجزيرة سيلان من أرض الهند.

ولهذا الشيخ كرامة عظيمة يحكى أنه قصد مرة جبل سرنديب ومعه نحو ثلاثين من الفقراء فأصابتهم مجاعة في طريق الجبل حيث لا عمارة وتاهوا عن الطريق وطلبوا من الشيخ أن يأذن لهم في القبض على بعض الفيلة الصغار وهي في ذلك المحل كثيرة جدا ومنه تحمل إلى حضرة ملك الهند فنهاهم الشيخ عن ذلك فغلب عليهم الجوع فتعدوا قول الشيخ وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا لحمه وامتنع الشيخ عن أكله فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كل ناحية وأتت إليهم فكانت تشم الرجل منهم وتقتله حتى أتت على جميعهم وشمت الشيخ ولم تتعرض له وأخذه فيل منها ولف عليه خرطومه ورمى به على ظهره وأتى به الموضع الذي فيه العمارة فلما رآه أهل تلك الناحية عجبوا منه واستقبلوه ليعرفوا أمره فلما قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن ظهره إلى الأرض بحيث يرونه فجاءوا إليه وتمسكوا به إلى ملكهم فعرفوه خبره وهم كفار وأقام عندهم أياماً وذلك الموضع على خور يسمى خور الخيزران والخور هو النهر. وبذلك الموضع مغاص الجوهر ويذكر أن الشيخ غاص في بعض الأيام بمحضر ملكهم وخرج وقد ضم يديه معاً وقال للملك اختر ما لك في إحداهما فاختار ما في اليمنى فرمى إليه بما فيها وكانت ثلاثة أحجار من الياقوت لا مثل لها وهي عند ملوكهم في التاج يتوارثونها وقد دخلت جزيرة سيلان هذه وهم مقيمون على الكفر إلا أنهم يعظمون فقراء المسلمين ويؤوونهم إلى دورهم ويطعمونهم الطعام ويكونون في بيوتهم وبين أهليهم وأولادهم خلافاً لسائر كفار الهند فإنهم لا يقربون المسلمين ولا يطعمونهم آنيتهم ولا يسقونهم فيها مع أنهم لا يؤذونهم ولا يهجونهم ولقد كنا نضطر إلى أن يطبخ لنا بعضهم اللحم فيأتون به في قدورهم ويقعدون على بعد منا ويأتون بأوراق الموز فيجعلون عليهم الأرز وهو طعامهم ويصبون عليه الكوشال وهو الإدام ويذهبون فنأكل منه وما فضل عليها تأكله الكلاب والطير وإن أكل منها الصغير الذي لا يعقل ضربوه وأطعموه روث البقر وهو الذي يطهر ذلك في زعمهم، ومن المشاهد بها مشهد الشيخ الصالح القطب روزجهان القبلي من كبار الأولياء، وقبره في مسجد جامع يخطب فيه وبذلك الجامع يصلي القاضي مجد الدين الذي تقدم ذكره رضي الله عنه. وبهذا الجامع سمعت عليه كتاب مسند الإمام أبي عبد الله

محمد بن إدريس الشافعي قال أخبرتنا به وزيرة بنت عمر بن المنجا قالت أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن المبارك الزبيدي قال أخبرنا زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي قال أخبرنا أبو الحسن المكي بن محمد بن منصور بن علان العرضي قال أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي عن أبي عباس بن يعقوب الأصم عن الربيع بن سليمان المرادي عن الإمام أبي عبد الله الشافعي. وسمعت أيضاً عن القاضي مجد الدين بهذا الجامع المذكور كتاب مشارق الأنوار للإمام رضي الدين أبي الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصاغاني بحق سماعه له من الشيخ جلال الدين أبي هاشم محمد بن أحمد الهاشمي الكوفي بروايته عن الإمام نظام الدين محمود بن عمر الهراوي عن المصنف، ومن المشاهد بها مشهد الصالح زركوب وعليه زاوية لإطعام الطعام. وهذه المشاهد كلها بداخل المدينة وكذلك معظم قبور أهلها فإن الرجل منهم يموت ولده أو زوجته فيتخذ له تربة من بعض بيوت داره ويدفنه هناك ويفرش البيت بالحصر والبسط ويجعل الشمع الكثير عند رأس الميت ورجليه ويصنع للبيت بابا إلى ناحية الزقاق وشباك حديد فيدخل منه القراء ويقرأون بالأصوات الحسان وليس في معمور الأرض أحسن أصواتاً بالقرآن من أهل شيراز ويقوم أهل الدار بالتربة ويفرشونها ويوقدون السرج بها فكأن الميت لم يبرح وذكر لي أنهم يطبخون في كل يوم نصيب الميت من الطعام ويتصدقون به عنه. وقد مررت يوماً ببعض أسواق مدينة شيراز فرأيت بها مسجد متقن البناء جميل الفرش وفيه مصاحف موضوعة في خرائط حرير موضوعة فوق كرسي وفي الجهة الشمالية من المسجد زاوية فيها شباك مفتوح إلى جهة السوق وهنالك شيخ جميل الهيئة واللباس وبين يديه مصحف يقرأ فيه القرآن فسلمت عليه وجلست إليه فسألني عن مقدمي فأخبرته وسألته عن شأن هذا المسجد فأخبرني أنه هو الذي عمره ووقف عليه أوقافا كثيرة للقراء وسواهم وأن تلك الزاوية التي جلست إليه فيها هي موضع قبره أن قضى الله موته بتلك المدينة ثم رفع بسطا كانت تحته والقبر مغطى عليه ألواح خشب وأراني صندوقا كان بإزائه فقال في هذا الصندوق كفني وحنوطي ودراهم كنت استأجرت بها نفسي في بئر

لرجل صالح فدفع لي هذه الدراهم فتركتها لتكون نفقة مواراتي وما فضل منها يتصدق بها فعجبت من شأنه وأردت الانصراف فحلف علي وأضافني بذلك الموضع. ومن المشاهد بخارج شيراز قبر الشيخ الصالح المعروف بالسعدي وكان أشعر أهل زمانه باللسان الفارسي وربما ألمع في كلامه بالعربي وله زاوية كان قد عمرها بذلك الموضع حسنة بداخلها بستان مليح وهي بقرب رأس النهر الكبير المعروف بركن أباد وقد صنع الشيخ هنالك أحواضاً صغاراً من المرمر لغسل الثياب فيخرج الناس من المدينة لزيارته ويأكلون من سماطه ويغسلون ثيابهم بذلك النهر وينصرفون وكذلك فعلت عنده رحمه الله. وبمقربة من هذه الزاوية زاوية أخرى تتصل بها مدرسة مبنية على قبر شمس الدين السماني وكان من الأمراء الفقهاء ودفن هنالك بوصية منه بذلك. وبمدينة شيراز من الفقهاء الشريف مجد الدين وأمره في الكرم عجيب وربما جاد بكل ما عنده وبالثياب التي كانت عليه ويلبس مرقعة فيدخل عليه كبراء المدينة فيجدونه على تلك الحال فيكسونه ومرتبه في كل يوم من السلطان خمسون ديناراً دراهم. ثم كان خروجي من شيراز برسم زيارة قبر للشيخ الصالح أبو إسحاق الكازروني بكازرون وهي على مسيرة يومين من شيراز فنزلنا أول يوم ببلاد الشول وهم طائفة من الأعاجم يسكنون البرية وفيهم الصالحون. وحين قعدت ببعض المساجد بشيراز، أتلو كتاب الله عز وجل إثر صلاة الظهر خطر بخاطري أنه لو كان لي مصحف كريم لتلوت فيه فدخل علي في أثناء ذلك شاب وقال لي بكلام قوي خذ فرفعت رأسي إليه فألقى في حجري مصحفاً كريماً وذهب عني فختمته ذلك اليوم قراءة وانتظرته لأرده له فلم يعد إلي فسألت عنه فقيل لي ذلك بهلول الشولي ولم أره بعد ذلك ووصلنا عشي اليوم الثاني إلى كازرون فقصدنا زاوية الشيخ أبي إسحاق نفع الله به وبتنا بها تلك الليلة ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائنا من كان من الهريسة المصنوعة من اللحم والسمن وتؤكل بالرقاق ولا يتركون الوارد عليهم للسفر حتى يقيم الضيافة ثلاثة ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه ويذكرها الشيخ للفقراء الملازمين للزاوية وهم يزيدون على مائة منهم المتزوجون ومنهم الأعزاب المتجردون فيختمون القرآن ويذكرون الذكر ويدعون له عند ضريح الشيخ أبي إسحاق فتقضى حاجته بإذن الله وهذا الشيخ أبو إسحاق معظم عند أهل

الهند والصين ومن عادة الركاب في بحر الصين أنهم إذا تغير عليهم الهواء وخافوا اللصوص نذروا لأبي إسحاق نذراً وكتب كل منهم على نفسه ما نذره فإذا وصلوا بر السلامة صعد خدام الزاوية إلى المركب وأخذوا الزمام وقبضوا من كل ناذر نذره وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك ومن الفقراء من يأتي طالباً صدقة الشيخ فيكتب له أمراً بها وفيه علامة الشيخ منقوشة في قالب في الفضة فيضعون القالب في صبغ أحمر ويلصقونه بالأمر فيبقى أثر الطابع ويكون مضمنه أن من عنده نذر للشيخ أبي إسحاق فليعطي منه لفلان كذا فيكون الأمر بالألف والمائة ما بين ذلك ودونه على قدر الفقير فإذا وجد ما عنده الشيء من النذر قبض منه وكتب له رسما في ظهر الأمر بما قبضه ولقد نذر ملك الهند مرة للشيخ أبي إسحاق بعشرة آلاف دينار فبلغ خبرها إلى فقراء الزاوية فأتى أحدهم إلى الهند فقبضها وانصرف بها إلى الزاوية، ثم سافرنا من كازرون إلى مدينة الزيدين وسميت بذلك لأن فيها قبر زيد بن ثابت وقبر زيد بن أرقم الأنصاريين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما ورضي الله عنهما وهي مدينة حسنة كثيرة البساتين والمياه مليحة الأسواق عجيبة المساجد ولأهلها صلاح وأمانة وديانة، ومن أهلها القاضي نور الدين الزيداني وكان ورد على أهل الهند فولي القضاء منها بذيبة المهل وهي جزائر كثيرة ملكها جلال الدين بن صلاح الدين صالح وتزوج بأخت هذا الملك وسيأتي ذكره وذكر بنته خديجة التي تولت الملك بعده بهذه الجزائر وبها توفي القاضي نور الدين المذكور، ثم سافرنا منها إلى الحويزاء بالزاي، وهي مدينة صغيرة يسكنها العجم بينها وبين البصرة مسيرة أربع وبينها وبين الكوفة مسيرة خمس، ومن أهلها الشيخ الصالح العابد جمال الدين الحويزائي شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة، ثم سافرنا منها قاصدين الكوفة في برية لا ماء بها إلا في موضع واحد يسمى الطرفاوي وردناه في اليوم الثالث من سفرنا، ثم وصلنا بعد اليوم الثاني بمرورنا عليه إلى مدينة الكوفة.

مدينة الكوفة

مدينة الكوفة: وهي إحدى أمهات البلاد العراقية المتميزة فيها بفضل المرية مثوى

الصحابة، والتابعين ومنزل العلماء والصالحين، وحضرة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلا أن الخراب قد استولى عليها بسبب أيدي العدوان التي امتدت إليها وفسادها من عرب خفاجة المجاورين لها فإنهم يقطعون طريقها ولا سور عليها وبناؤها بالآجر وأسواقها حسان وأكثر ما يباع فيها التمر والسمك وجامعها الأعظم جامع كبير شريف بلاطاته سبعة قائمة على سواري حجارة ضخمة منحوتة قد صنعت قطعاً ووضع بعضها على بعض وأفرغت بالرصاص وهي مفرطة الطول وبهذا المسجد آثار كريمة فمنها بيت إزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة يقال أن الخليل صلوات الله عليه كان له مصلى بذلك الموضع وعلى مقربة منه محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع وهو محراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهنالك ضربه الشقي ابن ملجم والناس يقصدون الصلاة به وفي الزاوية من هذا البلاط مسجداً صغير محلق عليه أيضاً بأعواد الساج يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور حين طوفان نوح عليه السلام وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه السلام وإزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس عليه السلام ويتصل بذلك فضاء يصل بالجدار القبلي للمسجد يقال أنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه السلام وفي آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه والبيت الذي غسل فيه ويتصل به بيت يقال أيضا أنه بيت نوح عليه السلام والله أعلم بصحة ذلك كله وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت مرتفع يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وبمقربة منه خارج المسجد قبر عاتكة وسكينة بنتا الحسين عليه السلام. وأما قصر الإمارة بالكوفة الذي بناه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فلم يبق إلا أساسه، والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ في الجانب الشرقي منها وهو منتظم بحدائق النخل الملتفة المتصل بعضها ببعض ورأيت بغربي جبانة للكوفة موضعاً مسوداً شديد السواد في بسيط أبيض فأخبرت أنه قبر الشقي ابن ملجم وأن أهل الكوفة يأتون في كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام وعلى قرب منه قبة أخبرت على أنها المختار بن أبي عبيد. ثم رحلنا ونزلنا بئر ملاحة، وهي بلدة حسنة بين حدائق نخل ونزلت بخارجها وكرهت دخولي لها لأن أهلها روافض ورحلنا منها الصبح فنزلنا مدينة

الحلة وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو بشرقيها ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات وهي كثيرة العمارة وحدائق النخل منتظمة بها داخلاً وخارجاً ودورها بين الحدائق ولها جسر عظيم معقود على مراكب متصلة منتظمة فيما بين الشطين تحف بها من جانبيها سلاسل من حديد مربوطة في كلا الشطين إلى خشبة عظيمة مثبتة بالساحل. وأهل هذه المدينة كلها أمامية اثنا عشرية وهم طائفتان إحداهما تعرف بالأكراد والأخرى تعرف بأهل الجامعين والفتنة بينهم متصلة والقتال قائم وبمقربة من السوق الأعظم بهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول وهم يسمونه مشهد صاحب الزمان ومن عاداتهم أن يخرج في كل ليلة مائة رجل من أهل المدينة عليهم السلاح وبأيديهم سيوف مشهورة فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر يأخذون منه فرساً مسرجاً ملجماً أو بغلة كذلك ويضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابة ويتقدمها خمسون منهم ويتبعها مثلهم ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها ويأتون مشهد صاحب الزمان فيقفون بالباب ويقولون باسم الله يا صاحب الزمان باسم الله أخرج قد ظهر الفساد وكثر الظلم وهذا أوان خروجك فيفرق الله بين الحق والباطل ولا يزالون كذلك وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب وهم يقولون أن محمد بن الحسن العسكري دخل المسجد وغاب فيه وأنه سيخرج وهو الإمام المنتظر عندهم وقد كان غلب على مدينة الحلة بعد موت السلطان أبي سعيد الأمير محمد بن رميثة ابن أبي نمي أمير مكة وحكمها أعواماً وكان حس السيرة يحمده أهل العراق إلى أن غلب عليه الشيخ حسن سلطان العراق فعذبه وقتله وأخذ الأموال والذخائر التي كانت عنده، ثم سافرنا منها إلى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام وهي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات والروضة المقدسة داخلها وعليها مدرسة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا يدخل أحد إلا عن إذنهم فيقبل العتبة الشريفة وهي من الفضة وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحرير وأهل هذه المدينة طائفتان أولاد رخيك وأولاد فئاز وبينهما القتال أبدا وهم جميعا إمامية يرجعون إلى أب واحد ولأجل فتنتهم تخربت هذه المدينة. ثم سافرنا منها إلى بغداد.

مدينة بغداد

مدينة بغداد: مدينة دار السلام وحضرة الإسلام ذات القدر الشريف والفضل المنيف مثوى الخلفاء ومقر العلماء وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية فقد ذهب رسمها ولم يبق إلا اسمها وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس أو تمثال الخيال الشاخص فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من مستوفر الغفلة النظر إلا دجلتها التي هي بين شرقها وغربها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين فهي تردها ولا تظمأ وتسطع منها في مرآة صقلية لا تصدأ والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ. قال ابن جزي: وكأن أبا تمام حبيب بن أوس اطلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها: لقد أقام على بغداد ناعيها ... فليبكها لخرابِ الدهر باكيها كانت على مائها والحربُ موقدةٌ ... والنارُ تطفأ حسناً في نواحيها تُرجى لها عودة في الدهر صالحةٌ ... فالآن أضمر منها اليأسَ راجيها مثل العجوز التي ولّت شبيبتُها ... وبان عنها جمالُ كان يُخطيها وقد نظم الناس في مدحها وذكر محاسنها فأطنبوا ووجدوا مكان القول ذا سعة فأطالوا وأطابوا، وفيها قال الإمام القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي، وأنشدنيه والدي رحمه الله مرات: طيبُ الهواءِ ببغدادٍ يشوقني ... قرباً إليها وان عاقت مقاديرُ وكيف أرحل عنها اليوم إذ جمعت ... طِيب الهواءين ممدودٌ ومقصورٌ وفيها يقول أيضاً رحمه الله تعالى ورضي عنه: سلام على بغداد في كل موطنٍ ... وحُق لها مني السلام المضاعفُ فواللهِ ما فارقتها عن قِلًى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارفُ ولكنها ضاقت على برحبها ... ولم تكن الأقدار فيها تساعفُ وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف وفيها يقول أيضاً مغاضباً لهان وأنشدنيه والدي رحمه الله غير ما مرة:

بغدادُ دارٌ لأهل المال واسعةٌ ... وللصعاليك دارُ الضنكِ والضيقِ ظللتُ أمشي مضافاً في أزقّتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق وفيها يقول القاضي أبو الحسن علي بن النبيه من قصيدة: آنستْ بالعراق بدراً منيراً ... فطوتْ غيهبا وخاضت هجيرا واستطابت ريا نسائم بغدا ... د فكادت لولا البرى أن تطيرا ذكرتُ من مسارح الكوخِ روْضاً ... لم يزل ناضراً وماء نميرا واجتنت من رُبى المحوَل نورا ... واجتلتْ من مطالعِ التاجِ نورا ولبعض نساء بغداد في ذكرها: آهاً على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها ومجالها عند الفرات بأوجهٍ ... تبدو أهلتها على أطواقها متبختراتٍ في النعيم كأنما ... خُلقَ الهوى العذري من أخلاقها نفسي الفداء لها فأي محاسنٍ ... في الدهر تشرق من سنا إشراقها ولبغداد جسران اثنان معقودان على نحو الصفة التي ذكرناها في جسر مدينة الحلة والناس يعبرونها ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساءً فهم في ذلك في نزهة متصلة وببغداد من المساجد التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجداً منها بالجانب الغربي ثمانية وبالجانب الشرقي ثلاثة والمساجد سواها كثيرة جداً وكذلك المدارس إلا أنها خربت وحمامات بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات وأكثرها مطلية بالقار ومسطحة به فيخيل لرائيه أنه رخام أسود وهذا القار يجلب من عين بين الكوفة والبصرة تنبع أبداً به ويصير في جوانبها كالصلصال فيجرف منها ويجلب إلى بغداد وفي كل حمام منها خلوات كثيرة كل خلوة منها مفروشة بالقار مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع فالضدان بها مجتمعان متقابل حسنهما وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد فيدخل الإنسان الخلوة منها منفرداً لا يشاركه أحد إلا أراد ذلك وفي زاوية كل خلوة أيضاً حوض آخر للاغتسال فيه أيضا أنبوبان يجريان بالحار والبارد وكل داخل يعطى ثلاث من الفوط إحداها ينزل بها عند دخوله والأخرى يتزر بها عند خروجه والأخرى ينشف بها الماء عن جسده ولم أرى هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد وبعض البلاد تقاربها في ذلك.

أما الجانب الغربي من بغداد هو الذي عمّر أولاً، وهو الآن خراب أكثره وعلى ذلك فقد بقي منه ثلاث عشرة محلة كأنها مدينة بها الحمامان والثلاثة وفي ثمان منها المساجد الجامعة ومن هذه المحلات محلة باب البصرة وبها جامع الخليفة أبي جعفر المنصور رحمه الله والمارستان فيما بين محلة البصرة ومحلة الشارع على الدجلة وهو قصر كبير خرب بقيت منه الآثار وفي هذا الجانب الغربي من المشاهد قبر معروف الكرخي رضي الله عنه وهو في محلة باب البصرة وبطريق باب البصرة مشهد حافل بالبناء في داخله قبر متسع السنام عليه مكتوب هذا قبر عون من أولاد علي بن أبي طالب وفي هذا الجانب قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق والد علي بن موسى الرضا وإلى جانبه قبر الجواد والقبران داخل الروضة عليهما دكانة ملبسة بالخشب عليه ألواح الفضة. وأما هذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يعرف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيه على حدة وفي وسط هذه السوق المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تضرب بحسنها وفي آخره المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر بن أمير المؤمنين الظاهر بن أمير المؤمنين الناصر وبها المذاهب الأربعة لكل مذهب إيوان فيه المسجد وموضع التدريس وجلوس المدرس في قبة من خشب صغيرة على كرسي عليه البسط ويقعد المدرس عليه وعليه السكينة والوقار لابساً السواد معتما وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يقوله وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة وفي داخل هذه المدرسة الحمام للطلبة ودار الوضوء وبهذه الجهة الشرقية من المساجد التي تقام فيها الجمعة ثلاثة أحدها جامع الخليفة وهو المتصل بقصور الخلفاء ودورهم وهو جامع كبير فيه ساقيات ومطاهر كثيرة للوضوء وللغسل لقيت بهذا المسجد الشيخ الإمام العالم الصالح مسند العراق سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن عمر القزويني وسمعت عليه في جميع مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، وذلك في شهر رجب الفرد عام سبعة وعشرين وسبعمائة قال: أخبرتنا به الشيخة الصالحة المسندة بنت الملوك فاطمة بنت العدل تاج الدين أبي الحسن علي بن علي بن أبي البدر قالت: أخبرنا الشيخ أبو

بكر محمد بن مسعود بن بهروز الطبيب المارستاني قال أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن شعيب الشنجري الصوفي قال: أخبرنا الإمام ابو الحسن عبد الرحمن بن المظفر الداودي قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي عن أبي عمران عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي عن ابي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي والجامع الثاني جامع السلطان وهو خارج البلد وتتصل به قصور تنسب للسلطان والجامع الثالث جامع الرصافة وبينه وبين جامع السلطان نحو الميل.

خبر قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين فيها

خبر قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين فيها: وقبور الخلفاء العباسيين رضي الله عنهم بالرصافة وعلى كل قبر منها اسم صاحبه: قبر المهدي وقبر الهادي وقبر الأمين وقبر المعتصم وقبر الواثق وقبر المتوكل وقبر المنتصر وقبر المستعين وقبر المعتز وقبر المهتدي وقبر المعتمد وقبر المعتضد وقبر المكتفي وقبر المقتدر وقبر القاهر وقبر الراضي وقبر المستكفي وقبر المطيع لله وقبر الطائع وقبر القائم وقبر القادر وقبر المستظهر وقبر المسترشد وقبر المقتفي وقبر المستنجد وقبر المستضيء وقبر الناصر وقبر الظاهر وقبر المستنصر وقبر المستعصم وهو آخرهم، وعليه دخل التتر بغداد بالسيف وذبحوه بعد أيام من دخولهم وانقطع من بغداد اسم الخلافة العباسية وذلك في سنة أربع وخمسين وستمائة وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ما عدا هذه الزاوية. فسبحان مبيد الأشياء ومغيرها، وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولا قبة عليه ويذكر أنها بنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة الله تعالى. وقبره عند أهل بغداد معظم وأكثرهم على مذهبه. وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبل من أئمة المتصوفة رحمه الله وقبر سري السقطي وقبر بشر الحافي وقبر داود الطائي وقبر أبو قاسم الجنيد رضي الله عنهم أجمعين. وأهل بغداد لهم يوم في كل جمعة لزيارة شيخ من هؤلاء المشايخ ويوم لشيخ آخر يليه هكذا إلى آخر الأسبوع ولبغداد كثير من قبور الصالحين والعلماء رضي الله عنهم وهذه الجهة الشرقية من بغداد ليس بها فواكه وإنما تجلب إليها من الجهة الغربية

لأن فيها البساتين والحدائق ووافق وصولي إلى بغداد كون ملك العراق بها. فلنذكره ههنا.

خبر سلطان العراقين وخراسان

خبر سلطان العراقين وخراسان: وهو السلطان الجليل أبو سعيد بَهَادُرْخان، وخان عندهم الملك "وبهادر بفتح الباء الموحدة وضم الدال المهمل وآخره راء" ابن السلطان الجليل محمد خذا بنده "بخاء معجمة مضمومة وذال معجم مفتوح" وبنده لم يختلف فيه "وهو بباء موحدة مفتوحة ونون مسكنة ودال مهمل مفتوح وهاء استراحة"، وتفسيره على هذا القول: عبد الله، لأنّ خذا بالفارسية اسم الله عز وجلّ وبنده غلام أو عبد أو ما في معناهما. وقيل: إنّما هو خربنده "بفتح الخاء المعجم وضم الراء المهمل" وتفسير خر بالفارسية الحمار فمعناه على هذا غلام الحمار. فشد ما بين القولين من الخلاف على أن هذا الأخير هو المشهور، وكأنّ الأول غيّره إليه من تعصب. وقيل: أن سبب تسميته بهذا الأخير هو أن التتر يسمون المولود باسم أول داخل على البيت عند ولادته. فلما ولد هذا السلطان كان أول داخل الزمال، وهم يسمونه خربندة فسمي به. وأخو خربندة هو قازغان الذي يقول فيه الناس: قازان، وقازغان هو القدر. وقيل: سمي بذلك لأنه ولد لما دخلت الجارية ومعها القدر. وخذابنده هو الذي أسلم، وقدمنا قصته وكيف أراد أن يحمل الناس لما أسلم على الرفض، وقصة القاضي مجد الدين معه، ولما مات ولي الملك ولده أبو سعيد بهادرخان وكان ملكاً فاضلاً كريماً ملك وهو صغير السن ورأيته ببغداد وهو شامل أجمل خلق الله صورة لا نبات بعارضه ووزيره إذ ذاك الأمير غياث الدين محمد بن خواجه رشيد، وكان أبوه من مهاجرة اليهود واستوزره السلطان محمد خذابنده والد أبي سعيد. رأيته يوماً بحراقة في الدجلة وتسمى عندهم الشبارة، وهي شبه سلورة، وبين يديه دمشق خواجة بن الأمير جوبان المتغلب على أبي سعيد وعن يمينه وشماله شبارتان فيهما أهل الطرب والغناء. ورأيت من مكارمه في ذلك اليوم أنه تعرض له جماعة من العميان فشكوا ضعف حالهم فأمر لكل واحد منهم بكسوة وغلام يقوده ونفقته تجري عليه. ولما ولي السلطان أبو سعيد صغير كما ذكرناه،

استولى على أمره أمير الأمراء الجوبان وحجر عليه التصرفات حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم ويذكر أنه احتاج في بعض الأعياد إلى نفقة ينفقها فلم يكن له سبيل إليها فبعث إلى أحد التجار فأعطاه من المال ما أحب ولم يزل كذلك إلى أن دخلت عليه يوما زوجة أبيه دنيا خاتون فقالت له: لو كنا نحن الرجال ما تركنا الجوبان وولده على ما هما عليه. فاستفهمها عن مرادها بهذا الكلام. فقالت له: لقد انتهى أمر دمشق خواجة بن الجوبان أن يفتك بحرم أبيك، وأنه بات البارحة عند طغي خاتون. وقد بعث إلي وقال لي الليلة أبيت عندك. وما الرأي إلا أن تجمع الأمراء والعساكر فإذا صعد إلى القلعة مختفياً برسم المبيت أمكنك القبض عليه وأبوه يكفي الله أمره. وكان الجوبان إذ ذاك غائبا بخراسان فغلبته الغيرة وبات يدبر أمره فلما علم أن دمشق خواجة بالقلعة أمر الأمراء والعساكر أن يطيفوا بها من كل ناحية فلما كان بالغد خرج دمشق خواجه ومعه جندي يعرف بالحاج المصري فوجد سلسلة معترضة على باب القلعة وعليها قفل لم يمكنه الخروج راكباً فضرب الحاج المصري السلسلة بسيفه فقطعها وخرجا معاً فأحاطت بهما العساكر ولحق أمير من الأمراء الخاصكية يعرف بمصر خواجة وفتى يعرف بلؤلؤ دمشق خواجة فقتلاه وأتيا الملك أبا سعيد برأسه فرموا به بين يدي فرسه وتلك عاداتهم أن يفعلوا برأس كبار أعدائهم وأمر السلطان بنهب داره وقتل من قاتل من خدامه ومماليكه واتصل الخبر بأبيه الجوبان وهو بخراسان ومعه أولاد مير حسن وهو الأكبر وطالش وجلوخان وهو أصغرهم وهو ابن أخت السلطان أبي سعيد من أمه ساطي بك بنت السلطان خذابنده ومعه عساكر التتر وحاميها فاتفقوا على قتال السلطان أبي سعيد وزحفوا إليه فلما التقى الجمعان هرب التتر إلى سلطانهم وأفردوا الجوبان فلما رأى ذلك نكص على عقبيه وفر إلى صحراء سجستان وأوغل فيها وأجمع على اللحاق بملك هراة غياث الدين مستجيراً به ومتحصناً بمدينته وكانت له عليه أياد سابقة فلم يوافقه ولداه حسن وطالش على ذلك وقالا له إنه لا يفي بالعهد وقد غدر فيروز شاه بعد أن لجأ إليه وقتله فأبى الجوبان إلا أن يلحق به ففارقه ولداه وتوجه معه ابنه الصغير جلوخان فخرج غياث الدين لاستقباله وترجل له وأدخله المدينة على الأمان ثم غدره بعد أيام وقتله وقتل ولده وبعث برأسيهما إلى السلطان أبي سعيد وأما الحسن وطالش فإنهما قصدا خوارزم وتوجها إلى السلطان محمد أوزبك، فأكرم مثواهما وأنزلهما، إلى

أن صدر منهما ما أوجب قتلهما فقتلهما. وكان للجوبان ولد رابع اسمه الدمرطاش فهرب إلى ديار مصر، فأكرمه الملك الناصر وأعطاه الإسكندرية، فأبى من قبولها وقال إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد وكان متى بعث إليه الملك الناصر بكسوة أعطى هو للذي يوصلها إليه أحسن منها إزراء على الملك الناصر وأظهر أموراً أوجبت قتله فقتله وبعث برأسه إلى أبي سعيد وقد ذكرنا قصته وقصة قراسنقور فيما تقدم ولما قتل الجوبان جيء به وبولده ميتين فوقف بهما على عرفات وحملا إلى المدينة ليدفنا في التربة التي اتخذها الجوبان بالقرب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنع من ذلك ودفن بالبقيع والجوبان هو الذي جلب الماء إلى مكة شرفها الله تعالى. ولما استقل السلطان أبو سعيد بالملك أراد أن يتزوج بنت الجوبان وكانت تسمى بغداد خاتون وهي من أجمل النساء وكانت تحت الشيخ حسن الذي تغلب بعد موت أبي سعيد على الملك وهو ابن عمته فأمره فنزل عنها وتزوجها أبو سعيد كانت أحظى النساء لديه والنساء لدى الأتراك والتتر لهن حظ عظيم وهم إذا كتبوا أمراً يقولون فيه عن أمر السلطان والخواتين ولكل خاتون الكثير من البلاد والولايات والمجابي العظيمة وإذا سافرت مع السلطان تكون في محلة على حدة وغلبت هذه الخاتون على أبي سعيد وفضلها على سواها وأقامت على هذه مدة أيام، ثم تزوج امرأة تسمى بِدلشاد فأحبها حباً شديداً وهجر بغداد خاتون فغارت لذلك وسمّته في منديل مسحته به بعد الجماع فمات وانقرض عقبه وغلبت أمراؤه على الجهات كما سنذكره. ولما عرف الأمراء أن بغداد خاتون هي التي سمته أجمعوا على قتلها وبدر لذلك الفتى الرومي خواجة لؤلؤ وهو من كبار الأمراء وقدمائهم فأتاها وهي في الحمام فضربها بدبوسه وقتلها وطرحت هنالك أياماً مستورة العورة بقطعة تليس واستقل الشيخ حسن بملك عراق العرب وتزوج دلشاد امرأة السلطان أبي سعيد كمثل ما كان أبو سعيد فعله من تزوج امرأته.

خبر المتغلبين على الملك بعد موت السلطان أبي سعيد

خبر المتغلبين على الملك بعد موت السلطان أبي سعيد: منهم الشيخ حسن ابن عمته الذي ذكرناه آنفاً، تغلب على عراق العرب جميعا ومنهم ابراهيم شاه ابن الأمير سنيته تغلب على الموصل وديار بكر ومنهم الأمير أرتنا تغلب على بلاد التركمان المعروفة أيضا ببلاد الروم ومنهم حسن خواجة بن الدمرطاش بن الجوبان تغلب على تبريز والسلطانية وهمدان وقم وقاشان والري ورامين وفرغان والكرج ومنهم الأمير طغيتمور تغلب على بعض بلاد خراسان ومنهم الأمير حسن بن الأمير غياث الدين تغلب على هراة ومعظم بلاد خراسان ومنهم ملك دينار تغلب على بلاد مكران وبلاد كبج ومنهم محمد شاه بن مظفر تغلب على يزد وكرمان وورقو ومنهم الملك قطب الدين تمهتن تغلب على هرمز وكيش والقطيف والبحرين وقلهات ومنهم السلطان أبو إسحاق الذي تقدم ذكره تغلب على شيراز وأصفهان وملك فارس وذلك مسيرة خمس وأربعين ومنهم السلطان أفراسياب أتابك تغلب على ايذج وغيرها من البلاد وقد تقدم ذكره. ولنعد إلى ما كنا بسبيله، ثم خرجت من بغداد في محلة السطان أبي سعيد وغرضي أن أشاهد ترتيب ملك العراق في رحيله ونزوله وكيفية تنقله وسفره وعادتهم أنهم يرحلون عند طلوع الفجر وينزلون عند الضحى وترتيبهم أنه يأتي كل أمير من الأمراء بعسكره وطبوله وأعلامه فيقف على موضع لا يتعداه قد عين له إما في الميمنة أو الميسرة فإذا توافوا جميعاً وتكاملت صفوفهم ركب الملك وضربت طبول الرحيل وبوقاته وأنفاره وأتى كل أمير منهم فسلم على الملك وعاد إلى موقفه ثم يتقدم أمام الملك الحجاب والنقباء ثم يليهم أهل الطرب وهم نحو المائة رجل عليهم الثياب الحسنة وتحتهم مراكب السلطان وأمام أهل الطرب عشرة من الفرسان قد تقلدوا عشرة من الطبول وخمسة من الفرسان لديهم خمس صرنايات وهي تسمى عندنا بالغيطات فيضربون تلك الأطبال والصرنايات ثم أمسكوا وغنى عشرة آخرون نوبتهم هكذا إلى أن تتم عشر نوبات فعند ذلك يكون النزول ويكون عن يمين السلطان وشماله حين سيره كبار الأمراء وهم نحو خمسين ومن ورائه أصحاب الأعلام والأطبال والأنفار والبوقات ثم مماليك السلطان ثم الأمراء على مراتبهم وكل أمير له أعلام وطبول وبوقات.

ويتولى ترتيب ذلك كله أمير جند وله جماعة كبيرة وعقوبه من تخلف عن التوجه وجماعته أن يؤخذ تماقه فيملأ رملاً ويعلق في عنقه ويمشي على قدميه حتى يبلغ المنزل فيؤتى به إلى الأمير فيبطح على الأرض ويضرب خمساً وعشرين مقرعة على ظهره سواء كان رفيعاً أو وضيعاً لا يحاشون من ذلك أحداً وإذا نزلوا ينزل السلطان ومماليكه في محلة على حدة، وتنزل كل خاتون من خواتينه في محلة على حدة، ولكل واحدة منهم الإمام والمؤذن والقراء والسوّاق وينزل الوزراء والكتاب وأهل الأشغال على حدة، وينزل كل أمير على حدة ويأتون جميعاً إلى الخدمة بعد العصر ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة والمشاعل بين أيديهم. فإذا كان الرحيل ضرب الطبل الكبير ثم يضرب طبل الخاتون الكبرى التي هي الملكة ثم أطبال سائر الخواتين ثم طبل الوزير ثم أطبال الوزراء دفعة واحدة ثم يركب أمير المقدمة في عسكره ثم يتبعه الخواتين ثم أثقال السلطان وزاملته وأثقال الخواتين ثم أمير ثان في عسكر له يمنع الناس من الدخول فيما بين الأثقال والخواتين ثم سائر الناس. وسافرت في هذه المحلة عشرة أيام ثم ذهبت صحبة الأمير علاء الدين محمد إلى بلدة تبريز وكان من الأمراء الكبار والفضلاء فوصلنا بعد عشرة أيام إلى مدينة تبريز ونزلنا بخارجها في موضع يعرف بالشام وهنالك قبر قازان ملك العراق وعليه مدرسة حسنة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر من الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء وأنزلني الأمير بتلك الزاوية وهي ما بين أنهار متدفقة وأشجار مورقة. وفي غد ذلك اليوم دخلت المدينة على باب يعرف بباب بغداد ووصلنا إلى سوق عظيمة تعرف بسوق قازان من أحسن أسواق بلاد الدنيا كل صناعة فيها على حدة لا تخالطها أخرى واجتزت بسوق الجوهريين، فحار بصري مما رأيته من أنواع الجواهر وهي بأيدي مماليك حسان الصور عليهم الثياب الفاخرة وأوساطهم مشدودة بمناديل الحرير وهم بين أيدي التجار يعرضون الجواهر على نساء الأتراك وهن يشرينه كثيراً ويتنافسن فيه فرأيت من ذلك كله فتنة يستعاذ الله منها. ودخلنا سوق العنبر والمسك فرأينا مثل ذلك وأعظم ثم وصلنا إلى المسجد الجامع الذي عمره الوزير علي شاه المعروف بجيلان وبخارجه عن يمين مستقبل القبلة مدرسة وعن يساره زاوية وصحنه مفروش

بالمرمر وحيطانه بالقشاني وهو شبه الزليخ ويشقه نهر ماء وبه أنواع الأشجار ودوالي العنب وشجر ياسمين ومن عاداتهم أنهم يقرأون به كل يوم سورة الفتح وسورة عم بعد صلاة العصر في صحن الجامع ويجتمع لذلك أهل المدينة وبتنا ليلة بتبريز ثم وصل بالغد أمر السلطان أبي سعيد إلى الأمير علاء الدين بأن يصل إليه فعدت معه ولم ألق بتبريز أحد من العلماء. ثم سافرنا إلى أن وصلنا محلة السلطان فأعلمه الأمير المذكور بمكاني وأدخلني عليه فسألني عن بلادي وكساني وأركبني وأعلمه السفير أني أريد السفر إلى الحجاز الشريف فأمر لي بالزاد والركوب في السبيل مع المحمل وكتب لي بذلك إلى أمير بغداد خواجة معروف فعدت إلى بغداد واستوفيت ما أمر لي به السلطان وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر لأشاهد تلك البلاد وأعود إلى بغداد في حين سفر الركب فأتوجه إلى الحجاز الشريف فخرجت من بغداد إلى منزل على نهر دجيل وهو متفرع عن دجلة فيسقي قرى كثيرة ثم نزلنا بعد يومين بقرية كبيرة تعرف بحربة مخصبة فسيحة ثم رحلنا فنزلنا موضعا على شط دجلة بالقرب من حصن يسمى المعشوق وهو مبني على الدجلة وفي الجهة الشرقة من هذا الحصن مدينة سُرَّ مَنْ رَأَى وتسمى أيضا سامرّا، ويقال لها سام راه، ومعناه بالفارسية طريق سام وراه هو الطريق، وقد استولى الخراب على هذه المدينة فلم يبق منها إلا القليل وهي معتدلة الهواء رائعة الحسن على بلائها ودروس معالمها وفيها أيضا مشهد صاحب الزمان كما بالحلة، ثم سرنا منها مرحلة ووصلنا إلى مدينة تكريت وهي مدينة كبيرة فسيحة الأرجاء مليحة الأسواق الجوامع وأهلها موصوفون بحسن الأخلاق والدجلة في الجهة الشمالية منها ولها قلعة حصينة على شط الدجلة والمدينة عتيقة البناء عليها سور يطيف بها، ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا قرية تعرف بالعقر على شط الدجلة وبأعلاها ربوة كان بها حصن وبأسلفها الخان المعروف بخان الحديد وله أبراج وبناؤه حافل والقرى والعمارة متصلة من هنالك إلى الموصل، ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالقيارة بمقربة من دجلة وهنالك أرض سوداء فيها عيون تنبع بالقار ويصنع له أحواض ويجتمع فيها فتراه شبه الصلصال على وجه الأرض حالك اللون صقيلاً رطباً وله رائحة

طيبة وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق فتقذفه إلى جوانبها فيصير أيضا قارا وبمقربة م هذا الموضع عين كبيرة فإذا أرادوا نقل القار منها أوقدوا عليها النار فتنشف النار ما هنالك من رطوبة مائية ثم يقطعونه قطعاً وينقلونه وقد تقدم لنا ذكر العين التي بين الكوفة والبصرة على هذا النحو. ثم سافرنا من هذه العيون مرحلتين ووصلنا بعدهما إلى الموصل.

مدينة الموصل

مدينة الموصل وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيد البروج وتتصل بها دور السلطان وقد فصل بينها وبين البلد شارع متسع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله وعلى البلد سوران اثنان وثيقان أبراجهما كثيرة متقاربة وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تمكن فتحها فيه لسعته ولم أر في أسوار البلاد مثله إلا السور الذي على مدينة دهلي حضرة ملك الهند. وللموصل ربض كبير فيه الجوامع والحمامات والفنادق والأسواق وبه جامع على شط الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتصل به مساطب تشرف على دجلة في النهاية من الحسن والإتقان وأمامه مارستان وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث وفي صحن الحديث منهما قبة في داخلها خصة رخام مثمنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوة وانزعاج فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن. وقيسارية الموصل مليحة لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين وبيوت بعضها فوق بعض متينة البناء. وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل إليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى وهنالك تل يونس عليه السلام وعلى نحو منه العين المنسوبة إليه يقال أنه أمر قومه بالتطهر فيها ثم صعدوا التل ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منه خراب يقال أنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه السلام وأثر السور المحيط بها ظاهر ومواضعا الأبواب التي هي فيه متبينة وفي التل بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مرصع يقال أنه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال أنه كان بيت متعبده عليه السلام. وأهل الموصل يخرجون في كل

ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبدون فيه. وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام وفضيلة ومحبة في الغريب وإقبال عليه وكان أمير ها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين بن شمس الدين محمد الملقب بحيدر وهو من الكرماء الفضلاء أنزلني بداره وأجرى علي الانفاق مدة مقامي عنده وله الصدقات والإيثار المعروف. وكان السلطان أبو سعيد يعظمه وفوض إليه أمر هذه المدينة وما يليها ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده ووجوه أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدوا وعشيا وله شجاعة ومهابة وولده في حين كتب هذا في حضرة فاس مستقر الغرباء ومأوى الفرق ومحط رحال الوفود زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المؤمنين1 بهجة وإشراقاً وحرس أرجاءها ونواحيها. ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين الرصد وهي على نهر عليه جسر مبني وبها خان كبير. ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة، ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي ولذلك سميت جزيرة وأكثرها خراب ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبني بالحجارة محكم العمل وسورها مبني بالحجارة أيضا وأهلها فضلاء لهم محبة في الغرباء ويوم نزلنا بها رأينا جبل الجودي المذكور في كتاب الله عز وجل2 الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام وهو جبل عال مستطيل. ثم رحلنا مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين وهي مدينة عظيمة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فيه المياه الجارية والبساتين الملتفة والأشجار المنتظمة والفواكه الكثيرة وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها وينقسم انقساما فيتخلل بساتينها ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجري في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصب في صهريجين أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي وبهذه المدينة

_ 1 يعني السلطان أبا عنان. 2 في قول الله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . "هود/44".

مارستان ومدرستان وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ولقد صدق أبو نواس في قوله: طابت نصيبين لي يوما وطبت لها ... يا ليت حظي من الدنيا نصيبين قال ابن جزي: والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة، وفيها يقول بعض الشعراء: لنصيبين قد عجبت وما في ... دارها لي داعٍ إلى العلاّت يعدم الورد أحمراً في ذُراها ... لسقام حتى من الوجنات ثم رحلنا إلى مدينة سنجار وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار والعيون المطردة والأنهار مبنية في سفح الجبل تشبه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها ومسجدها الجامع مشهور البركة يذكر أن الدعاء به مستجاب ويدور به نهر ماء يشقه. وأهل سنجار أكراد ولهم شجاعة وكرم وممن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكردي أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات يذكر عنه أنه لا يفطر إلا بعد أربعين يوماً ويكون إفطاره على نصف قرص من الشعير، لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار ودعا لي وزودني بدراهم لم تزل عندي إلى أن سلبني كفار الهنود. ثم سافرنا إلى مدينة دارا وهي عتيقة كبيرة المنظر لها قلعة مشرفة وهي الآن خراب لا عمارة بها وفي خارجها قرية معمورة بها كان نزولنا، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين وهي عظيمة في سطح جبل من أحسن مدن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقاً وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها من الصوف المعروف بالمرعز ولها قلعة شماء من مشاهير القلاع في قنة جبلها. قال ابن جزي: قلعة ماردين هذه تسمى الشهباء وإياها عنى شاعر العراق صفي الدين عبد العزيز ابن سراي الحليّ بقوله في مسمطته: فَدَع ربوع الحِلّة الفيحاءِ ... وازورّ بالعِيس عن الزَّوراء ولا تقف بالموصل الحدباء ... إن شهاب القلَعة الشهباء محرق شيطان صروف الدهر وقلعة حلب الشهباء أيضاً وهذه المسمطة بديعة مدح بها الملك المنصور

سلطان ماردين، وكان كريماً شهير الصيت ولي الملك بها نحو خمسين سنة، وأدرك أيّام قازان ملك التتر وصاهر السلطان خدابنده بابنته دنيا خاتون.

خبر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها

خبر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها: وهو الملك الصالح ابن الملك المنصور الذي ذكرناه آنفا ورث الملك عن أبيه والمكارم الشهيرة وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا جرياً على سنن أبيه قصده أبو عبيد الله محمد بن جابر الأندلسي المروي الكفيف مادحاً فأعطاه عشرين ألف درهم وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام. وله وزير كبير القدر وهو الإمام العالم وحيد الدهر وفريد العصر جمال الدين السنجاوي وقرأ بمدينة تبريز وأدرك العلماء الكبار وقاضي قضاته الإمام الكامل برهان الدين الموصلي وهو ينتسب إلى الشيخ الولي فتح الموصلي وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل يلبس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تبلغ قيمته عشرة دراهم ويعتم بنحو ذلك وكثيراً ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة كان يتعبد فيه فيه فإذا رآه من لا يعرفه ظنه بعض خدام القاضي وأعوانه. وقد ذكر لي: أن امرأة أتت هذا القاضي وهو خارج من المسجد ولم تكن تعرفه فقالت له: يا شيخ أين يجلس القاضي؟ فقال لها: وما تريدين منه؟ فقالت: أن زوجي ضربني وله زوجة ثانية وهو لا يعدل بيننا في القسم وقد دعوته إلى القاضي فأبى وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتى يحضروه بمجلسه. فقال لها: وأين منزل زوجك؟ فقالت: بقرية الملاحين خارج المدينة. فقال لها: أنا أذهب معك إليه. فقالت: والله ما عندي شيء أعطيك إياه. فقال لها: لا آخذ منك شيئاً، ثم قال لها: اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها فآتي على أثرك، فذهبت كما أمرها وانتظرته فوصل إليها وليس معه أحد وكانت عادته أن لا يدع أحداً يتبعه، فجاءت به إلى منزل زوجها فلما رآه قال: ما هذا الشيخ النحس الذي معك؟ فقال له: نعم والله وأنا كذلك ولكن أرض زوجتك، فلما طال الكلام جاء الناس فعرفوا القاضي وسلّموا عليه وخاف ذلك الرجل وخجل. فقال له القاضي: لا عليك أصلح ما بينك وبين زوجتك. فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقة ذلك اليوم وانصرف.

لقيت هذا القاضي وأضافني بداره. ثم رحلت عائداً إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التى ذكرناها، فوجدت ركبها بخارجها متوجهين إلى بغداد وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمى بالست زاهدة وهي من ذرية الحنفاء حجت مراراً وهي ملازمة الصوم سلّمتُ عليها وكنت في جوارها ومعها جملة من الفقراء يخدمونها، وفي هذه الوجهة توفيت رحمة الله عليها وكانت وفاتها بزرود ودفنت هنالك، ثم وصلنا إلى مدينة بغداد فوجدت الحاج في أهبة الرحيل فقصدت أمير ها معروف خواجة فطلبت منه ما أمر لي به السلطان فعين لي شقة محارة وزاد أربعة من الرجال وماءهم وكتب لي بذلك ووجه إلى أمير الركب البهلوان محمد الحويج فأوصاه بي وكانت المعرفة بيني وبينه متقدمة فزادها تأكيداً ولم أزل في جواره وهو يحسن إلي ويزيدني على ما أمر به، وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلوني من أعلى المحمل مرات كثيرة في اليوم والأمير يتفقد حالي ويوصي بي ولم أزل مريضاً حتى وصلت مكة حرم الله تعالى زادها الله شرفاً وتعظيماً، وطفت بالبيت الحرام كرّمه الله تعالى طواف القدوم وكنت ضعيفاً بحيث أؤدي المكتوبة قاعداً فطُفت وسعيت بين الصفا والمروة راكباً على فرس الأمير الحويح المذكور، ووقفنا تلك السنة يوم الإثنين فلما نزلنا منى أخذت في الراحة والاسقلال من مرضي، ولما انقضى الحاج أقمت مجاوراً بمكة تلك السنة وكان بها الأمير علاء الدين ابن هلال مشيد "مشد" الدواوين مقيما لعمارة دار الوضوء بظاهر العطارين من باب بني شيبة وجاور في تلك السنة من المصريين جماعة من كبرائهم منهم تاج الدين بن الكويك ونور الدين القاضي وزين الدين بن الأصيل وابن الخليلي وناصر الدين الأسيوطي، وسكنت تلك السنة بالمدرسة المظفرية وعافاني الله من مرضي فكنت في أنعم عيش وتفرغت للطواف والعبادة والاعتمار وأتى في أثناء تلك السنة حجاج الصعيد وقدم معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفوني1 وهي أول حجة حجها والإخوان علاء الدين علي وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسي قاضي مصر وجماعة غيرهم وفي منتصف ذي القعدة

_ 1 قد يكون في هذه الكلمة تحريف والصواب: الأصفوني نسبة إلى أصفون، إحدى قرى صعيد مصر، وتعرف اليوم بأصْفُون المطاعنة.

وصل الأمير سيف الدين يلملك وهو من الفضلاء ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله منهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن القاضي أبي العباس بن القاضي الخطيب أبي القاسم الجراوي والفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله والفقيه أبو عبد الله الحضري والفقيه أبو عبد الله المرسي وأبو العباس بن الفقيه أبي علي البلنسي وأبو محمد بن القابلة وأبو الحسن البياري وأبو العباس بن تافوت وأبو الصبر أيوب الفخار وأحمد بن حكامة ومن أهل قصر المجاز الفقيه أبو زيد عبد الرحمن بن القاضي أبي العباس بن خلوف ومن أهل القصر الكبير الفقيه أبو محمد بن مسلم وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى وولده ووصل في تلك السنة الأمير سيف الدين تقزدمور من الخاصكية والأمير موسى بن قرمان والقاضي فخر الدين ناظر الجيش وكاتب المماليك والتاج أبو إسحاق والست حدق مربية الملك الناصر وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف وأكثرهم صدقة القاضي فخر الدين وكانت وقفتنا في تلك السنة في يوم الجمعة من عام ثمان وعشرين، ولما انقضى الحج أقمت مجاورا بمكة حرسها الله سنة تسع وعشرين. وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة ومبارك بن الأمير عطيفة من العراق صحبه الأمير محمد الحويج والشيخ زاده الحرباوي والشيخ دانيال وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكة من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق. وفي تلك السنة ذكر اسمه في الخطبة بعد ذكر الملك الناصر ودعوا له بأعلى قبة زمزم وذكروا بعده سلطان اليمن المك المجاهد نور الدين ولم يوافق الأمير عطيفة على ذلك وبعث شقيقه منصوراً ليعلم الملك الناصر بذلك فأمر رميثة برده فرده فبعثه ثانية على طريق جدة حتى أعلم الملك الناصر بذلك، ووقفنا تلك السنة وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء، ولما انقضى الحج أقمت مجاوراً بمكة حرسها الله سنة ثلاثين وفي موسها وقعت الفتنة بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري وسبب ذلك أن تجاراً من أهل اليمن سرقوا فتشكوا إلي أيدمور بذلك فقال أيدمور لمبارك بن الأمير عطيفة ائت بهؤلاء السراق فقال لا أعرفهم فكيف نأتي بهم وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ولا حكم لك عليهم أن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به فشتمه أيدمور وقال له يا قواد تقول لي هكذا وضربه على صدره فسقط ووقعت عمامته عن رأسه وغضب له عبيده وركب أيدمور يريد عسكره فلحقه مبارك وعبيده فقتلوه وقتلوا ولده، ووقعت الفتنة بالحرم وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر ورمى الترك بالنشاب فقتلوا امرأة قيل إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال،

وركب من ركب من الأتراك وأمير هم خاص ترك فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورين وفوق رؤوسهم المصاحف وحاولوا الصلح ودخل الحجاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان ولولده فأمنوه وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير فخلع عليه وسلمت إليه مكة وعاد العسكر إلى مصر وكان الملك الناصر رحمه الله حليماً فاضلاً، فخرجت تلك الأيام من مكة قاصداً بلاد اليمن فوصلت إلى حده "بالحاء المهمل المفتوح" وهي نصف الطريق بين مكة وجدة "بالجيم المضمومة"، ثم وصلت إلى جدة وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال إنها من عمارة الفرس وبخارجها مصانع قديمة وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثيرة وكانت هذه السنة قليلة المطر وكان الماء يجلب إلى جدة على مسيرة يوم وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت. ومن غريب ما اتفق لي بجدة أنه وقف على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام فسلم علي وسماني باسمي ولم أكن عرفته قط ولا عرفني وعجبت من شأنه ثم أمسك أصبعي بيده وقال أين الفتحة وهي الخاتم وكنت حين خروجي من مكة لقيني بعض الفقراء وسألني ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء فدفعت له خاتمي فلما سألني عنه هذا الأعمى قلت له أعطيته لفقير فقال ارجع في طلبه فإن فيه أسماء مكتوبة فيها سر من الأسرار فطال تعجبي منه ومن معرفته ذلك والله أعلم بحاله. وبجدة جامع يعرف بجامع الأبنوس معروف البركة يستجاب به الدعاء، وكان الأمير بها أبا يعقوب بن عبد الرزاق وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكة شافعي المذهب وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذن وعد أهل جدة المقيمين بها فإن أكملوا أربعين خطب وصلى بهم الجمعة وإن لم يبلغ عددها أربعين صلى ظهراً أربعاً ولا يعتبر من ليس من أهلها وإن كانوا عدداً كثيراً. ثم ركبنا البحر من جدة في مركب يسمونه الجلبة وكان لرشيد الدين الألفي اليمني الحبشي الأصل، وركب الشريف منصور بن أبي نمي في جلبة أخرى ورغب

مني أن أكون معه فلم أفعل لكونه كان معه في جلبته الجمال فخفت من ذلك ولم أكن ركبت البحر قبلها وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا زوادهم وأمتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر. ولما ركبنا البحر أمر الشريف منصور أحد غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق وهي نصف حمل وبطة سمن يأخذهما من جلب أهل اليمن فأخذهما وأتى بهما إليه فأتى التجار باكين وذكروا لي أن في جوف تلك العديلة عشرة آلاف درهم نقرة ورغبوا مني أن أكلمه في ردها وأن يأخذ سواها فأتيته وكلمته في ذلك وقلت له أن للتجار في جوف هذه العديلة شيئاً فقال أن كان سكراً فلا أرده إليهم وإن كان سوى ذلك فهو لهم ففتحوها ووجدوا الدراهم فردها عليهم وقال لي: لو كان عجلانا ما ردها وعجلان هو ابن أخيه رميثة. وكان قد دخل في تلك الأيام دار تاجر من أهل دمشق قاصداً لليمن فذهب بمعظم ما كان فيها وعجلان هو أمير مكة على هذا العهد وقد صلح حاله وأظهر العدل والفضل، ثم سافرنا في هذا البحر بالريح الطيبة يومين وتغيرت الريح بعد ذلك وصدتنا عن السبيل التي قصدنا ودخلت أمواج البحر معنا في المركب واشتد الميد بالناس1 ولم نزل في أهوال حتى خرجنا في مرسى يعرف برأس دوائر فيما بين عيدان وسواكن فنزلنا به ووجدنا بساحله عريش قصب على هيئة مسجد وبه كثير من قشور بيض النعام مملوءة ماء فشربنا منه وطبخناه ورأيت في ذلك المرسى عجباً وهو خور مثل الوادي يخرج من البحر فكان الناس يأخذون الثوب ويمسكون بأطرافه ويخرجون به وقد امتلأ سمكاً كل سمكة منها قدر الذراع ويعرفونه بالبوري فطبخ منه الناس كثيراً واشتروا وقصدت إلينا طائفة من البجاة هم سكان تلك الأرض سود الألوان لباسهم الملاحف الصفر ويشدون على رؤوسهم عصائب حمراء عرض الإصبع وهم أهل نجدة وشجاعة وسلاحهم الرماح والسيوف ولهم جمال يسمونها الصهب يركبونها بالسروج فاكترينا منهم الجمال وسافرنا معهم في برية كثيرة الغزلان، والبجاة لا يأكلونها وهي تأنس بالآدمي ولاتنفر منه. وبعد يومين من مسيرنا وصلنا إلى حي من العرب يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجاة.

_ 1 يقال: ماد، أي أصابه غثيان ودوار من سكر أو ركوب بحر.

عارفين بلسانهم، وفي ذلك اليوم وصلنا إلى جزيرة سواكن وهي على نحو ستة أميال من البر ولا ماء بها ولا زرع ولا شجر والماء يجلب إليها في القوارب وفيها صهاريج يجتمع بها ماء المطر وهي جزيرة كبيرة وبها لحوم النعام والغزلان وحمر الوحش والمعزي عندهم كثير والألبان والسمن منها يجلب إلى مكة وحبوبهم الجرجور وهو نوع من الذرة كبير الحب يجلب منها أيضا إلى مكة. وكان سلطان جزيرة سواكن حين وصولي إليها الشريف أبي نمي وأبوه أمير مكة وأخوه أمير ها بعده وهما عطيفة ورميثة اللذان تقدم ذكرهما وصارت إليه من قبل البجاة فإنهم أخواله ومعه عسكر من البجاة وأولاد كاهل وعرب جهينة، وركبنا البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن وهذا البحر لا يسافر فيه بالليل لكثرة أحجاره وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون فينزلون إلى البر فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب وهم يسمون رئيس المركب الربان ولا يزال أبداً في مقدم المركب ينبه صاحب السكان على الأحجار1 وهم يسمونها النبات. وبعد ستة أيام من خروجنا عن جزيرة سواكن وصلنا إلى مدينة "حلي" "وضبط اسمها بفتح الحاء المهمل وكسر اللام وتخفيفها" وتعرف باسم ابن يعقوب وكان من سلاطين اليمن ساكنا بها قديما وهي كبيرة حسنة العمارة يسكنها طائفتان من العرب وهم بنو حرام وكنانة وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهندي من كبار الصالحين لباسه مرقعة وقلنسوة لبد وله خلوة متصلة بالمسجد فرشها الرمل لا حصير بها ولا بساط ولم أر بها حين لقائي له شيئاً إلا إبريق الوضوء وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة وصحيفة فيها ملح وسعتر فإذا جاءه أحد قدم بين يديه ذلك ويسمع به أصحابه فيأتي كل واحد منهم بما حضر من غير تكلف شيء وإذا صلوا العصر اجتمعوا للذكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب وإذا صلوا المغرب أخذ كل واحد منهم موقفه للتنفل فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذكر إلى ثلث الليل

_ 1 المقصود بالأحجار: الشعب المرجانية.

ثم انصرفوا ويعودون في أول الثلث الثالث إلى المسجد فيتهجدون إلى الصبح ثم يذكرون إلى أن تحين صلاة الإشراق فينصرفون بعد صلاتها ومنهم من يقيم إلى أن يصلي صلاة الضحى بالمسجد وهذا دأبهم أبداً ولقد أردت الإقامة معهم باقي عمري ولم أوفق لذلك والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوقيقه. أما سلطان حَلِي فكان عامر بن ذؤيب من بني كنانة وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء. سافرت في حجته من مكة إلى جدة وكان قد حج في سنة ثلاثين ولما قدمت مدينته أنزلني وأكرمني وأقمت في ضيافته أياماً، وركبت البحر في مركب له أوصلني إلى بلدة السرجة "وضبط اسمها بفتح السين المهمل وإسكان الراء وفتح الجيم" بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد الهلبي وهم طائفة من تجار اليمن أكثرهم ساكنون بصنعاء1 ولهم فضل وكرم وإطعام لأبناء السبيل يعينون الحجاج ويركبونهم في مراكبهم ويزودونهم من أموالهم وقد عرفوا بذلك واشتهروا به وكثر الله أموالهم وزادهم من فضله وأعانهم على فعل الخير وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلا الشيخ بدر الدين النقاش الساكن ببلدة القحمة فله مثل ذلك من المآثر والإيثار وأقمنا بالسرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين، ثم رحلنا إلى مرسي الحادث ولم ننزل به، ثم إلى مرسى الأبواب، ثم إلى مدينة زبيد مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره وهي برية لا شطية2 إحدى قواعد بلاد اليمن "وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة" مدينة كبيرة كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور ولنسائها الحسن الفائق الفائت، وهي وادي الخصيب الذي يذكر في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ في وصيته: "يا معاذ إذا جئت وادي الخصيب فهرول". ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة وذلك أنهم يخرجون في أيام البسر والرطب في كل سبت إلى حدائق

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: يسكنها جماعة من أولاد الهبي، وهم طائفة من تجار اليمن، أكثرهم ساكنون بصعداء. 2 أي ليست واقعة على شط البحر وساحله.

النخل، ولا يبقى بالمدينة أحد من أهلها ولا من الغرباء ويخرج أهل الطرب وأهل الأسواق لبيع الفواكه والحلاوات وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل ولهن مع ما ذكرناه من الجمال الفائت والأخلاق الحسنة والمكارم وللغريب عندهن مزية ولا يمتنعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا فإذا أراد السفر خرجت معه وودعته وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع أبوه ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها وإذا كان مقيماً فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبداً ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج من بلدها لم تفعل. وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق لقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمد الصنعاني والفقيه الصوفي المحقق أبا العباس الإبياني والفقيه المحدث أبا علي الزبيدي ونزلت في جوارهم فأكرموني وأضافوني ودخلت حدائقهم واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد فضلاء اليمن ووقع عنده ذكر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمني وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات. وذكروا أن فقهاء الزيدية وكبراؤهم أتوا مرة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل فجلس لهم خارج الزاوية واستقبلهم أصحابه ولم يبرح الشيخ عن موضعه فسلموا عليه وصافحهم ورحب بهم ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر وكانوا يقولون أن لا قدر وأن المكلف يخلق1 أفعاله فقال لهم الشيخ فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا فأرادوا القيام فلم يستطيعوا وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية وأقاموا كذلك واشتد بهم الحر ولحقهم وهج الشمس وضجوا مما نزل بهم فدخل أصحاب الشيخ إليه وقالوا له أن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله ورجعوا عن مذهبهم الفاسد فخرج

_ 1 وَهَم ابن بطوطة في نقله عن عقيدة الزيدية، فهم لا ينفون القدر، وهم على مذهب المعتزلة في أن العبد يخلق أفعاله بقدرة خلقها الله له. والذين ينفون القدر هم: القدرية أتباع معبد الجهني، وإنما كان الزيدية على مذهب المعتزلة، لأن الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم كان تلميذاً لواصل بن عطاء، رأس المعتزلة.

عليهم الشيخ فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحق وترك مذهبهم السيء وأدخلهم زاويته فأقاموا في ضيافته ثلاثا وانصرفوا إلى بلادهم. وخرجت لزيارة قبر هذا الرجل الصالح وهو بقرية يقال لها غسانة خارج زبيد ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل فأضافني وبت عنده وزرت ضريح الشيخ وأقمت معه ثلاثاً. وسافرت في صحبته إلى زيارة الفقيه أبي الحسن الزيلعي وهو من كبار الصالحين ويقدم حجاج اليمن إذا توجهوا للحج وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه ويحترمونه فوصلنا إلى جبلة وهي بلدة صغيرة حسنة ذات نخل وفواكه وأنهار فلما سمع الفقيه أبو الحسن الزيلعي بقدوم الشيخ أبي الوليد استقبله وأنزله بزاويته وسلمت عليه وأقمنا عنده ثلاثة أيام في خير مقام ثم انصرفنا وبعث معنا أحد الفقراء، فتوجهنا إلى مدينة تعز حضرة ملك اليمن وهي من أحسن مدن اليمن وأعظمها وأهلها ذوو تجبر وتكبر وفظاظة وكذلك الغالب على البلاد التي يسكنها الملوك وهي ثلاثة محلات إحداها يسكنها السلطان ومماليكه وحاشيته وأرباب دولته وتسمى باسم لا أذكره والثانية يسكنها الأمراء والأجناد وتسمى عدينة والثالثة يسكنها عامة الناس وبها السوق العظمى وتسمى المحالب.

خبر سلطان اليمن

خبر سلطان اليمن: فهو السلطان المجاهد نور الدين علي بن السلطان المؤيد هزبر الدين داود بن السلطان المظفر يوسف بن علي بن رسول، شهر جده برسول لأن أحد خلفاء بني العباس أرسله إلى اليمن ليكون بها أمير اً ثم استقل أولاده بالملك وله ترتيب عجيب في قعوده وركوبه وكنت لما وصلت هذه المدينة مع الفقير الذي بعثه الشيخ أبو الحسن الزيلعي في صحبتي قصد بي إلى قاضي القضاة الإمام المحدث صفي الدين الطبري المكي فسلمنا عليه ورحب بنا وأقمنا بداره في ضيافته ثلاثاً فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الخميس وفيه يجلس السلطان لعامة الناس دخل بي عليه فسلمت عليه وكيفية السلام عليه أن يمس الإنسان الأرض بسبابته ثم يرفعها إلى رأسه ويقول أدام الله عزك ففعلت كمثل ما فعله القاضي عن يمين الملك وأمرني فقعدت بين يديه.

فسألني عن بلادي وعن مولانا أمير المسلمين جواد الأجواد أبي سعيد1 رضي الله عنه وعن ملك مصر وملك العراق وملك اللور فأجبته عما سأل من أحوالهم وكان وزيره بين يديه فأمره بإكرامي وإنزالي وترتيب قعود هذا الملك أنه يجلس فوق دكانة مفروشة مزينة بثياب الحرير وعن يمينه ويساره أهل السلاح ويليه منهم أصحاب السيوف والدرق ويليهم أصحاب القسي وبين أيديهم في الميمنة والميسرة الحاجب وأرباب الدولة وكاتب السر وأمير جندار على رأسه والشاويشية هم من الجنادرة وقوف على بعد. فإذا قعد السلطان صاحوا صيحة واحدة: باسم الله. فإذا قام فعلوا مثل ذلك، فيعلم جميع من بالمشور وقت قيامه ووقت قعوده. فإذا استوى قاعداً دخل كل من عادته أن يسلم عليه فسلم ووقف حيث رسم له بالميمنة أو الميسرة لا يتعدى أحد موضعه ولا يقعد إلا من أمر بالقعود يقول السلطان للأمير جندار مر فلاناً يقعد فيتقدم ذلك المأمور بالقعود عن موقفه قليلاً ويقعد على بساط هناك بين أيد القائمين في الميمنة والميسرة. ثم يؤتى بالطعام وهو طعامان: طعام العامة وطعام الخاصة فأما الطعام الخاص فأكل منه السلطان وقاضي القضاة والكبار من الشرفاء ومن الفقهاء والضيوف، وأما الطعام العام فيأكل منه سائرالشرفاء والفقهاء والقضاة والقضائة والمشايخ والأمراء ووجوه الأجناد ومجلس كل إنسان للطعام معين لا يتعداه ولا يزاحم أحد منهم أحداً وعلى مثل هذا الترتيب سواء هو ترتيب ملك الهند في طعامه فلا أعلم أن سلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند وأقمت في ضيافة سلطان اليمن أياماً وأحسن إلي أركبني. وانصرفت إلى مدينة صنعاء وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى مدينة كبيرة حسنة العمارة بناؤها بالآجر والجص كثيرة الأشجار والفواكه والزرع معتدلة الهواء طيبة الماء ومن الغريب أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ، وأكثر ما يكون نزوله بعد الظهر من كل يوم في ذلك الأوان. فالمسافرون يسافرون عند الزوال لئلا يصيبهم المطر وأهل المدينة ينصرفون إلى منازلهم لأن أمطارها وابلة متدفقة والمدينة مفروشة كلها فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها وجامع

_ 1 يقصد السلطان أبا سعيد المريني سلطان فاس.

صنعاء من أحسن الجوامع وفيه قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام. ثم سافرت منها إلى مدينة عدن مرسى بلاد اليمن على ساحل البحر الأعظم والجبال تحف بها ولا مدخل إليها إلا من جانب واحد وهي مدينة كبيرة ولا زرع بها ولا شجر ولا ماء وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر والماء على بعد منها فربما منعته العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعونهم بالمال والثياب وهي شديدة الحر وهي مرسى أهل الهند تأتي إليها المراكب العظيمة من كنبايت وتانة وكولم وقالقوط وفندراينة والشاليات ومنجرور وفاكنور وهنور وسندابور وغيرها وتجار الهند ساكنون بها وتجار مصر أيضاً. وأهل عدن ما بين تجار وحمالين وصيادين للسمك وللتجار منهم أموال عريضة وربما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة. وذكر لي أن بعضهم بعث غلاماً له ليشتري له كبشاً، وبعث آخر منهم غلاما له برسم ذلك أيضا فاتفق أنه لم يكن بالسوق في ذلك اليوم إلا كبش واحد فوقعت المزايدة فيه بين الغلامين فأنهى ثمنه إلى أربعمائة دينار. فأخذه أحدهما وقال أن رأس مالي أربعمائة دينار فإن أعطاني مولاي ثمنه فحسن وإلا دفعت فيه رأس مالي ونصرت نفسي وغلبت صاحبي وذهب بالكبش إلى سيده فلما عرف سيده بالقضية أعطاه ألف دينار وعاد الآخر إلى سيده خائباً فضربه وأخذ ماله ونفاه عنه ونزلت في عدن عند تاجر يعرف بناصر الدين الفأري فكان يحضر طعامه كل ليلة نحو عشرين من التجار وله غلمان وخدام أكثر من ذلك ومع هذا كله فهم أهل دين وتواضع وصلاح ومكارم أخلاق يحسنون إلى الغريب ويؤثرون على الفقير ويعطون حق الله من الزكاة على ما يجب ولقيت بهذه المدينة قاضيها الصالح سالم بن عبد الله الهندي وكان والده من العبيد الحمالين واشتغل ابنه بالعلم فرأس وساد وهو من خيار القضاة وفضلائهم أقمت في ضيافته أياماً. وسافرت من مدينة عدن في البحر أربعة أيام ووصلت إلى مدينة زيلع وهي مدينة البرابرة وهم طائفة من السودان شافعية المذهب وبلادهم صحراء مسيرة شهرين. أولها زيلع وآخرها مقدشو. ومواشيهم الجمال ولهم أغنام مشهورة السمن وأهل زيلع سود الألوان وأكثرهم رافضة وهي مدينة كبيرة لها سوق عظيمة إلا أنها أقذر مدينة في

المعمور وأوحشها وأكثرها نتناً، وسبب نتنها كثرة سمكها ودماء الإبل التي ينحرونها في الأزقة ولما وصلنا إليها اخترنا المبيت بالبحر على شدة هوله ولم نبت بها لقذرها، ثم سافرنا منها في البحر خمس عشرة ليلة ووصلنا مَقَدَشُو1 "وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان القاف وفتح الدال المهمل والشين المعجم وإسكان الواو" وهي مدينة متناهية في الكبر وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون منها المئين في كل يوم ولهم أغنام كثيرة وأهلها تجار أقوياء وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لا نظير لها ومنها تحمل إلى ديار مصر وغيرها ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وصل مركب إلى المرسى تصعد الصنابيق وهي القوارب الصغار إليه ويكون في كل صنبوق جماعة من شبان أهلها فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام فيقدمه لتاجر من تجار المركب ويقول هذا نزيلي وكذلك يفعل كل واحد منهم ولا ينزل التاجر من المركب إلا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبان إلا من كان كثير التردد إلى البلد وحصلت له معرفة أهله فإنه ينزل حيث شاء فإذا أنزل عند نزيله باع له ما عنده واشترى له ومن اشترى منه ببخس أو باع منه بغير حضور نزيله فذلك البيع مردود عندهم ولهم منفعة في ذلك ولما صعد الشبان إلى المركب الذي كنت فيه جاء إلي بعضهم فقال له أصحابي: ليس هذا بتاجر وإنما هو فقيه، فصاح بأصحابه وقال لهم: هذا نزيل القاضي، وكان فيها أحد أصحاب القاضي فعرفه بذلك فأتى إلى ساحل البحر في جملة من الطلبة وبعث إلي أحدهم فنزلت أنا وأصحابي وسلمت على القاضي وأصحابه وقال لي بسم الله نتوجه للسلام على الشيخ فقلت ومن الشيخ فقال السلطان وعادتهم أن يقولوا للسلطان الشيخ فقلت له إذا نزلت توجهت إليه فقال لي أن العادة إذا جاء الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتى يرى السلطان فذهبت معهم إليه كما طلبوا. وكان سلطان مقدشو كما ذكرناه إنما يقولون له الشيخ واسمه أبو بكر بن الشيخ عمر وهو في الأصل من البرابرة وكلامه بالمقدشي ويعرف اللسان العربي ومن عوائده أنه متى وصل مركب يصعد إليه صنبوق السلطان فيسأل عن المركب من أين قدم ومن صاحبه ومن ربانه وهو الرئيس وما وسقه ومن قدم

_ 1 عاصمة جمهورية الصومال الآن وتعرف بمقديشو.

فيه من التجار وغيرهم، فيعرف بذلك كله ويعرض على السلطان فمن استحق أن ينزل عنده أنزله. ولما وصلت مع القاضي المذكور وهو يعرف بابن البرهان المصري الأصل إلى دار السلطان خرج بعض الفتيان فسلم على القاضي فقال له بلغ الأمانة وعرف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من أرض الحجاز فبلغ ثم عاد وأتى بطبق فيه أوراق التنبول والفوفل فأعطاني عشرة أوراق مع قليل من الفوفل وأعطى للقاضي كذلك وأعطى لأصحابي ولطلبة القاضي ما بقي في الطبق وجاء بقمم من ماء الورد الدمشقي فسكب علي وعلى القاضي وقال أن مولانا أمر أن ينزل بدار الطلبة وهي دار معدة لضيافة الطلبة فأخذ القاضي بيدي وجئنا إلى تلك الدار وهي بمقربة من دار الشيخ مفروشة مرتبة بما تحتاج إليه ثم أتى بالطعام من دار الشيخ ومعه أحد وزرائه وهو الموكل بالضيوف فقال مولانا يسلم عليكم ويقول لكم قدمتم خير مقدم ثم وضع الطعام فأكلنا وطعامهم الأرز المطبوخ بالسمن يجعلونه في صحفة خشب كبيرة ويجعلون فوقه صحاف الكوشان وهو الأدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول ويطبخون الموز قبل نضجه في اللبن والحليب ويجعلونه في صحفة ويجعلون اللبن المروّب في صحفة ويجعلون عليه الليمون المصبر وعناقيد الفلفل المصبر المخلل والمملوح والزنجبيل الأخضر والعنبا وهي مثل التفاح ولكن لها نواة وهي إذا نضجت شديدة الحلاوة وتؤكل كالفاكهة وقبل نضجها حامضة كالليمون يصبرونها في الخل وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أكلوا بعدها من هذه الموالح والمخللات. والواحد من أهل مقدشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة. وهم في نهاية من ضخامة الأجسام وسمنها. ثم لما أطعمنا انصرف عنا القاضي وأقمنا ثلاثة أيام يؤتى إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتلك عادتهم. فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة جاءني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ وأتوني بكسوة وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه عوض السراويل فإنهم لايعرفونها ودراعة من المقطع المصري معلمة وفرجية من المقدسي مبطنة وعمامة مصرية معلمة وأتو لأصحابي بكُسى تناسبهم وأتينا الجامع فصلينا خلف المقصورة فلما خرج الشيخ من باب المقصورة سلمت عليه مع القاضي فرحب وتكلم بلسانه مع القاضي ثم قال

باللسان العربي: قدمت خير مقدم وشرفت بلادنا وآنستنا وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده وهو مدفون هناك فقرأ ودعا ثم جاء الأمراء والوزراء ووجوه الأجناد فسلموا وعادتهم في السلام كعادة أهل اليمن يضع سبابته في الأرض ثم يجعلها على رأسه ويقول أدام الله عزك ثم خرج الشيخ من باب المسجد فلبس نعليه وأمر القاضي أن ينتعل وأمرني أن أنتعل وتوجه إلى منزله ماشياً وهو بالقرب من المسجد ومشى الناس كلهم حفاة ورفعت فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب وكان لباسه في ذلك اليوم فرجية قدسي أخضر وتحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان وهو متقلد بفوطة حرير معتم بعمامة كبيرة وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار وأمراء الأجناد أمامه وخلفه والقاضي والفقهاء والشرفاء معه ودخل إلى مشورة على تلك الهيئة وقعد الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد في سقيفة هنالك وفرش للقاضي بساط لا يجلس معه غيره عليه والفقهاء والشرفاء معه ولم يزالوا كذلك إلى صلاة العصر فلما صلوا العصر مع الشيخ أتى جميع الأجناد ووقفوا صفوفاً على قدر مراتبهم ثم ضربت الأطبال والأنفار والأبواق والصرنايات وعند ضربها لا يتحرك أحد ولا يتزحزح من مقامه ومن كان ماشيا وقف فلم يتحرك إلى خلف ولا إلى أمام فإذا فرغ من ضرب الطلبلخانة سلموا بأصابعهم كما ذكرناه وانصرفوا وتلك عادة لهم في كل يوم جمعة وإذا كان يوم السبت يأتي الناس إلى باب الشيخ فيقعدون في سقائف خارج الدار ويدخل القاضي والفقهاء والشرفاء والصالحون والمشايخ والحجاج إلى المشور الثاني فيقعدون على دكاكين خشب معدة لذلك ويكون القاضي على دكانة وحده وكل صنف على دكانة تخصهم لا يشاركهم فيها سواهم ثم يجلس الشيخ بمجلسه ويبعث إلى القاضي فيجلس عن يساره ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه ويسلم سائرهم وينصرفون وإن كانوا ضيوفاً جلسوا عن يمينه ثم يدخل المشايخ والحجاج فيجلس كبراؤهم ويسلم سائرهم وينصرفون ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد طائفة بعد طائفة أخرى فيسلمون وينصرفون ويؤتى بالطعام فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعدا بالمجلس ويأكل الشيخ معهم وإن أراد تشريف أحد من كبار أمرائه بعث إليه فأكل معهم.

ويأكل سائر الناس بدار الطعام وأكلهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ ثم يدخل الشيخ إلى داره ويقصد القاضي والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات فما كان متعلقاً بالأحكام الشرعية حكم فيه القاضي وما كان من سوى ذلك حكم فيه أهل الشورى وهم الوزراء والأمراء وما كان مفتقراً إلى مشاورة السلطان كتبوا إليه فيخرج لهم الجواب من حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عادتهم. ثم ركبت من مدينة مقدشو متوجها إلى بلاد السواحل قاصدا مدينة كُلْوَا1 من بلاد الزنوج فوصلنا إلى جزيرة مَنْبِسَى2 "وضبط اسمها ميم مفتوح ونون مسكن وباء موحدة مفتوحة وسين مهمل مفتوح، وياء". وهيَ كبيرة، بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر ولا برّ لها وأشجارها: الموز والليمون والأترج، ولهم فاكهة يسمونها الجمون وهي شبه الزيتون ولها نواة كنواه إلا انها شديدة الحلاوة. ولا زرع عند أهل هذه الجزيرة وإنما يجلب إليهم من السواحل وأكثر طعامهم الموز والسمك وهم شافعية المذهب أهل دين وعفاف وصلاح ومساجدهم من الخشب محكمة الإتقان وعلى كل باب من أبواب المساجد البئر والثنتان وعمق آبارهم ذراع أو ذراعان فيسقون منها الماء بقدح خشب قد غرز فيه عود رقيق في طول الذراع والأرض حول البئر والمسجد مسطحة فمن أراد دخول المسجد غسل رجليه ودخل ويكون على بابه قطعة حصير غليظ يمسح بها رجليه ومن أراد الوضوء أمسك القدح بين فخذيه وصب على يديه ويتوضأ وجميع الناس يمشون حفاة الأقدام. وبتنا بهذه الجزيرة ليلة، وركبنا البحر إلى مدينة كُلْوا "وضبط اسمها بضم الكاف وإسكان اللام وفتح الواو" وهي مدينة عظيمة ساحلية أكثر أهلها الزنوج المستحكمو السواد. ولهم شرطات في وجوههم كما هي في وجوه الليميين من جنادة. وذكر لي بعض التجار أن مدينة سفالة على مسيرة نصف شهر من مدينة كلوا، وأن بين سفالة ويوفي من بلاد الليميين مسيرة شهر، ومن يوفي يؤتى بالتبر إلى سفالة. ومدينة كلوا

_ 1 ذكرها ياقوت في معجم البلدان باسم: كِلْوَه بكسر الكاف وسكون اللام وفتح الواو وهاء. 2 وهي الآن: مدينة مُمْبسَّا ميناء كينيا.

من أحسن المدن وأتقنها عمارة، وكلها بالخشب. وسقف بيوتها الديس. والأمطار بها كثيرة، وهم أهل جهاد لأنهم في بر واحد مع كفار الزنوج. والغالب عليهم الدين والصلاح وهم شافعية المذهب. وكان سلطان كُلْوا في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن ويكنى أيضا أبو المواهب لكثرة مواهبه ومكارمه وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج يغير عليهم ويأخذ الغنائم فيخرج خمسها ويصرفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى ويجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة فإذا جاء الشرفاء دفعه إليهم وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها، ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة منهم محمد بن جماز ومنصور بن لبيد بن أبي نمي ومحمد بن شميلة بن أبي نمي، ولقيت بمقدشو أتيل بن كبش بن جماز وهو يريد القدوم عليه وهذا السلطان له تواضع شديد ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم ويعظم أهل الدين والشرف. ومن مكارمه أنه حضرته يوم جمعة وقد خرج من الصلاة قاصداً إلى داره فتعرض له أحد الفقراء اليمنيين فقال له أبا المواهب فقال له: لبيك يا فقير ما حاجتك؟ قال اعطني هذه الثياب التي عليك. فقال له: نعم أعطيكها. فقال: الساعة. قال. نعم الساعة. فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثياباً سواها، وخلع تلك الثياب وقال للفقير أدخل فخذها. فدخل الفقير وأخذها وربطها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف. فعظم شكر الناس للسلطان على ما ظهر من تواضعه وكرمه وأخذ ابنه ولي عهده تلك الكسوة من الفقير وعوضه عنا بعشرة من العبيد. وبلغ السلطان ما كان من شكر الناس له على ذلك فأمر للفقير أيضا بعشرة رؤوس من الرقيق وحملين من العاج. ومعظم عطاياهم من العاج، وقلما يعطون الذهب. ولما توفي هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه ولي أخوه داود فكان على الضد إذا أتاه سائل يقول له مات الذي كان يعطي ولم يترك من بعده ما يعطى ويقيم الوفود عنده الشهور الكثيرة وحينئذ يعطيهم القليل حتى انقطع الوافدون عن بابه.

وركبنا البحر من كُلْوَا إلى مدينة ظفار الحموض1 "وضبط اسمها بفتح الظاء المعجم والفاء وآخره راء مبنية على الكسر" وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي ومنها تحمل الخيل العتاق إلى الهند ويقطع البحر فيما بينها وبين الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل قد قطعته مرة من قالقوط في بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوماً بالريح ولم ينقطع لنا جري بالليل ولا بالنهار وبين ظفار وعدن في البر مسيرة شهر في صحراء، وبينها وبين حضرموت ستة وعشر يوماً، وبينها وبين عمان عشرون يوماً. ومدينة ظفار في صحراء لا قرية بها ولا عمالة لها والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحرجاء وهي من أقذر الأسواق وأشدها نتناً وأكثرها ذباباً لكثرة ما يباع بها من الثمرات وأكثر سمكها النوع المعروف بالسردين، وهو بها في النهاية من السمن. ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم ولم أر ذلك في سواها. وأكثر باعتها الخدم وهن يلبسن السواد. وزرع أهلها الذرة وهم يسقونها من آبار بعيدة الماء وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلواً كبيرة ويجعلون لها حبالاً كثيرة ويتحزم بكل حبل عبد أو خادم ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن البئر ويصبونها في صهريج يسقون منه، ولهم قمح يسمونه العلس وهو في الحقيقة نوع من السلت، والأرز يجلب إليهم من بلاد الهند وهو أكثر طعامهم، ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير ولا تنفق في سواها وهم أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها. ومن عاداتهم أنه إذا وصل مركب من الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل وصعدوا في صنبوق إلى المركب ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله وللربان وهو الرئيس وللكراني وهو كاتب المركب ويؤتى إليهم ثلاثة أفراس فيركبونها وتضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان فيسلمون على الوزير وأمير الجند وتبعث الضيافة لكل من بالمركب ثلاثاً وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان. وهم يفعلون ذلك استجلاباً لأصحاب المراكب. وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء، ولباسهم القطن وهو يجلب إليهم من بلاد

_ 1 في إحدى طبعات الكتاب: الحبوضي.

الهند ويشدون الفوط في أوساطهم عوضاً عن السروال وأكثرهم يشد فوطة في وسطه وتجعل فوق ظهره أخرى من شدة الحر ويغتسلون مرّات في اليوم. وهي كثيرة المساجد ولهم في كل مسجد مطاهر كثيرة معدة للإغتسال ويصنع بها ثياب من الحرير والقطن والكتان حسان جدّاً. والغالب على أهلها رجالاً ونساءً المرض المعروف بداء الفيل، وهو انتفاخ القدمين. وأكثر رجالهم مبتلون بالأدر1 والعياذ بالله. ومن عوائدهم الحسنة التصافح في المسجد أثر صلاة الصبح والعصر يستند أهل الصف الأول إلى القبلة ويصافحهم الذين يلونهم وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة يتصافحون أجمعون. ومن خواص هذه المدينة وعجائبها أنه لا يقصدها أحد بسوء إلا عاد عليه مكروه وحيل بينه وبينها. وذكر لي أن السلطان قطب الدين تمهتن بن طوران شاه صاحب هرمز نازلها مرة من البر والبحر فأرسل الله سبحانه ريحاً عاصفاً كسرت مراكبه ورجع عن حصارها وصالح ملكها وكذلك ذكر أن الملك المجاهد سلطان اليمن عيّن ابن عم له بعسكر كبير برسم انتزاعها من يد ملكها وهو أيضا ابن عمه فلما خرج ذلك الأمير من داره سقط عليه حائط وعلى جماعة من أصحابه فهلكوا جميعاً ورجع الملك عن رأيه وترك حصارها وطلبها. ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شئونهم نزلت بدار الخطيب بمسجدها الأعظم وهو عيسى بن علي كبير القدر كريم النفس فكان له جوار مسميات بأسماء خدام المغرب إحداهن اسمها بخيتة والأخرى زاد المال ولم أسمع هذه الأسماء في بلد سواها. وأكثر أهلها رؤوسهم مكشوفة لا يجعلون عليها العمائم وفي كل دار من دورهم سجادة الخوص معلقة في البيت يصلي عليها صاحب البيت كما يفعل أهل المغرب وأكلهم الذرة وهذا التشابه كله مما يقوي القول بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من حمير. وبقرب من هذه المدينة بين بساتينها زاوية الشيخ الصالح العابد أبي محمد بن أبي بكر بن عيسى من أهل ظفار. وهذه الزاوية معظمة عندهم

_ 1 الأدر: انتفاخ الخصيتين.

يأتون إليها غدواً وعشياً ويستجيرون بها. فإذا دخل المستجير لم يقدر السلطان عليه. رأيت بها شخصا ذكر لي أن له بها مدة سنين مستجيرا لم يتعرض له السلطان. وفي الأيام التي كنت بها استجار بها كاتب السلطان وأقام فيها حتى وقع بينهما الصلح أتيت هذه الزاوية فبت بها في ضيافة الشيخين أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد ابني الشيخ أبي بكر المذكور وشاهدت لهما فضلاً عظيماً ولما غسلنا أيدينا من الطعام أخذ أبو العباس منهما ذلك الماء الذي غسلنا به فشرب منه وبعث الخادم بباقيه إلى أهله وأولاده فشربوه وكذلك يفعلون بمن يتوسمون فيه الخير من الواردين عليهم، وكذلك أضافني قاضيها الصالح أبو هاشم عبد الملك الزبيدي وكان يتولى خدمتي وغسل يدي بنفسه ولا يكل ذلك إلى غيره، وبمقربة من هذه الزاوية تربة سلف السلطان الملك المغيث وهي معظم عندهم ويستجير بها من طلب حاجة فتقضى له ومن عادة الجند أنه إذا تم الشهر ولم يأخذوا أرزاقهم استجاروا بهذه التربة وأقاموا في جوارها إلى أن يعطوا أرزاقهم. وعلى مسيرة نصف يوم من هذه المدينة الأحقاف وهي منازل عاد وهنالك زاوية ومسجد على ساحل البحر وحوله قرية لصيادي السمك وفي الزاوية قبر مكتوب عليه هذا قبر هود بن عابر عليه أفضل الصلاة والسلام وقد ذكرت أن بمسجد دمشق موضعاً مكتوب عليه قبر هود بن عابر والأشبه أن يكون قبره بالأحقاف لأنها بلاده والله أعلم. ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجرم وزنت بمحضري حبة منه فكان وزنها ثنتي عشرة أوقية وهو طيب الطعم شديد الحلاوة وبها أيضا التنبول والنارجيل، المعروف بجوز الهند، ولا يكونان إلا ببلاد الهند وبمدينة ظفار هذه لشبهها بالهند وقربها منه، اللهم إلا أن في مدينة زبيد في بستان السلطان شجيرات من النارجيل. وإذ قد وقع ذكر التنبول والنارجيل فلنذكرهما ولنذكر خصائصهما.

خبر شجر التنبول

خبر شجر التنبول: والتنبول شجر يغرس كما تغرس دوالي العنب، ويصنع له معرشات من

القصب كما تصنع لدوالي العنب أو يغرس في مجاورة النارجيل فيصعد فيها كما تصعد الدوالي وكما يصعد الفلفل ولا ثمر للتنبول وإنما المقصود منه ورقه وهو يشبه ورق العليق وأطيبه الأصفر وتجنى أوراقه في كل يوم وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيماً شديداً وإذا أتى الرجل دار صاحبه فأعطاه خمس ورقات منه فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها ولا سيما أن كان أمير اً وكبيراً. وإعطاؤه عندهم أعظم شأناً وأدل على الكرامة من إعطاء الفضة والذهب. وكيفية استعماله أن يؤخذ قبله الفوفل وهو شبه جوز الطيب فيكسر حتى يصير أطرافاً صغاراً ويجعله الإنسان في فمه ويعلكه ثم يأخذ ورق التنبول فيجعل عليها شيئاً من النورة ويمضغها مع الفوفل وخاصيته أنه يطيب النكهة ويذهب بروائح الفم ويهضم الطعام ويقطع ضرر شرب الماء على الريق ويفرح آكله ويعين على الجماع. ويجعله الإنسان عند رأسه ليلاً فإذا استيقظ من نومه أو أيقظته زوجته أو جاريته أخذ منه فيذهب بما في فمه من رائحة كريهة. ولقد ذكر لي أن جواري السلطان والأمراء ببلاد الهند لا يأكلن غيره، وسنذكره عند ذكر بلاد الهند.

خبر شجر النارجيل

خبر شجر النارجيل: وهو جوز الهند وهذا الشجر أغرب الأشجار شأناً وأعجبها أمراً وشجره شبه شجر النخل لا فرق بينهما إلا أن هذه تثمر جوزاً وتلك تثمر تمراً وجوزها يشبه رأس ابن آدم لأن فيها شبه العينين والفم وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء وعليها ليف شبه الشعر وهم يصنعون به حبالا يخيطون به المراكب عوضا عن مسأمير الحديد، ويصنعون منه الحبال للمركب. والجوزة منها وخصوصا التي بجزائر ذيبة المهل تكون بمقدار رأس الآدمي. ويزعمون أن حكيماً من حكماء الهند في غابر الزمان كان متصلاً بملك من الملوك ومعظماً لديه وكان للملك وزير بينه وبين هذا الحكيم معاداة فقال الحكيم للملك: أن رأس هذا الوزير إذا قطع ودفن تخرج منه نخلة تثمر بثمر عظيم يعود نفعه على أهل الهند وسواهم من أهل الدنيا. فقال له الملك. فإن لم تظهر من رأس الوزير ما ذكرته قال أن لم يظهر فاصنع برأسي كما صنعت برأسه. فأمر الملك برأس الوزير فقطع. وأخذه الحكيم وغرس نواة تمر في

دماغه وعالجها، حتى صارت شجرة وأثمرت بهذا الجوز. وهذه الحكاية من الأكاذيب ولكن ذكرناها لشهرتها عندهم. ومن خواص هذا الجوز تقوية البدن وإسراع السمن والزيادة في حمرة الوجه، وإما الإعانة على الباءة ففعله فيها عجيب. ومن عجائبه أنه يكون في ابتداء أمره أخضر. فمن قطع بالسكين قطعة من قشرة وفتح رأس الجوزة شرب منها، ماء وجده في النهاية من الحلاوة والبرودة ومزاجه حار معين على الباءة. فإذا شرب ذلك الماء أخذ قطعة القشرة وجعلها شبه الملعقة وجرد بها ما في داخل الجوزة من الطعم فيكون طعمه كطعم البيضة إذا شربت ولم يتم نضجها كل التمام ويتغذى به. ومنه كان غذائي أيام إقامتي بجزائر ذيبة المهل مدة عام ونصف عام. وعجائبه أنه يصنع منه الزيت والحليب والعسل. فأما كيفية صناعة العسل منه فإن خدام النخل منه ويسمون الفازانية يصعدون إلى النخلة غدواً وعشياً إذا أراد أخذ مائها الذي يصنعون منه العسل وهم يسمونه الأطواق فيقطعون العذق الذي يخرج منه الثمر ويتركون منه مقدار أصبعين ويربطون عليه قدرا صغيرا فيها الماء الذي يسيل من العذق فإذا ربطها غدوة صعد إليها عشيا ومعه قدحان من قشر الجوز المذكور أحدهما مملوء ماء فيصب ما اجتمع من ماء العذق في أحد القدحين ويغسله بالماء الذي في القدح الآخر وينجر من العذق قليلاً ويربط عليه القدر ثانية ثم يفعل غدوة كفعله عشيا فإذا اجتمع له الكثير من ذلك الماء طبخه كما يطبخ ماء العنب إذا صنع منه الرب فيصير عسلاً عظيم النفع طيباً ويشتريه تجار الهند واليمن والصين ويحملونه إلى بلادهم ويصنعون منه الحلواء. وأما كيفية صنع الحليب منه فإن بكل دار شبه الكرسي تجلس فوقه المرأة ويكون بيدها عصى في أحد طرفيها حديدة مشرفة فيفتحون في الجوزة مقدار ما تدخل تلك الحديدة ويجرشون ما في باطن الجوزة وكل ما ينزل منها يجتمع في صحفة حتى لا يبقى في داخل الجوزة شيء ثم يمرس ذلك الجريش بالماء فيصير كلون الحليب بياضاً ويكون طعمه كطعم الحليب ويأتدم به الناس. وأما كيفية صنع الزيت فإنهم يأخذون الجوز بعد نضجه وسقوطه عن شجره فيزيلون قشره ويقطعونه قطعا ويجعل في الشمس فإذا ذبل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته وبه يستصبحون ويضعه الناس في شعورهم وهو عظيم النفع.

خبر سلطان ظفار

خبر سلطان ظفار: هو السلطان الملك المغيث بن الملك الفائز ابن عم ملك اليمن وكان أبوه أمير اً على ظفار من قبل صاحب اليمن وله عليه هدية يبعثها له في كل سنة ثم استبد الملك المغيث بملكها وامتنع عن إرسال الهدية وكان من عزم ملك اليمن على محاربته تعيين ابن عمه ووقوع الحائط عليه ما ذكرناه آنفاً. وللسلطان قصر بداخل المدينة يسمى الحصن عظيم فسيح والجامع بإزائه. ومن عاداته أن تضرب الطبول والباقات والأنفار والصرنايات على بابه كل يوم بعد صلاة العصر وفي كل يوم اثنين وخميس تأتي العساكر إلى بابه فيقفون خارج المشور ساعة وينصرفون والسلطان لا يخرج ولا يراه أحد إلا في يوم الجمعة فيخرج للصلاة ثم يعود إلى داره ولا يمنع أحد من دخول المشور وأمير جندار قاعد على بابه وإليه ينتهي كل صاحب حاجة أو شكاية وهو يطالع السلطان ويأتيه الجواب للحين. وإذا أراد السلطان الركوب خرجت مراكبه من القصر وسلاحه ومماليكه إلى خارج المدينة وأتى بجمل مستور بستر أبيض منقوش بالذهب فيركب السلطان ونديمه في المحمل بحيث لا يرى وإذا خرج إلى بستانه وأحب ركوب الفرس ركبه ونزل عن المحمل. وعادته أن لا يعارضه أحد في طريقه ولا يقف لرؤيته ولا لشكاية وغيرها ومن تعرض لذلك ضرب أشد الضرب فتجد الناس إذا سمعوا بخروج السلطان فروا عن الطريق وتحاموها. ووزير هذا السلطان الفقيه محمد العدني وكان معلم صبيان فعلم هذا السلطان القراءة والكتابة وعاهده على أن يستوزره أن ملك فلما ملك استوزره فلم يكن يحسنها فكان الإسم له والحكم لغيره. ومن هذه المدينة ركبنا البحر نريد عمان في مركب صغير لرجل يعرف بعلي بن إدريس المصيري من أهل جزيرة مصيرة. وفي الثاني لركوبنا نزلنا بمرسى حاسك وبه ناس من العرب صيادون للسمك ساكنون هنالك وعندهم شجر الكندر وهو رقيق الورق وإذا شرطت الورقة منه قطر منها ماء شبه اللبن ثم عاد صمغا وذلك الصمغ هو اللبان وهو كثير جدّاً هنالك ولا معيشة لأهل ذلك المرسى إلا من صيد السمك، وسمكهم يعرف باللخم "بخاء معجم مفتوح" وهو شبيه كلب البحر. يُشرّح ويقدّد ويقتات به، وبيوتهم من عظام السمك وسقفها من جلود الجمال. وسرنا من مرسى حاسك أربعة أيام ووصلنا إلى جبل لُمعان "بضم اللام"، وهو في وسط البحر، وبأعلاه رابطة مبنية بالحجارة وسقفها من عظام السمك، وبخارجها غدير ماء يجتمع من المطر.

خبر الولي لقيناه في الجبل

خبر الولي لقيناه في الجبل ... خبر الولي الذي لقيناه في الجبل: ولما أرسينا تحت هذا الجبل صعدنا إلى هذه الرابطة فوجدنا بها شيخا نائما فسلمنا عليه فاستيقظ وأشار برد السلام فكلمناه فلم يكلمنا وكان يحرك رأسه فأتاه أهل المركب بطعام فأبى أن يقبله فطلبنا منه الدعاء فكان يحرك شفتيه ولا نعلم ما يقول وعليه مرقعة وقلنسوة لبد وليس معه ركوة ولا إبريق ولا عكاز ولا نعل. وقال أهل المركب إنهم ما رأوه قط بهذا الجبل وأقمنا تلك الليلة بساحل الجبل وصلينا معه العصر والمغرب وجئناه بطعام فرده وأقام يصلي إلى العشاء الآخرة ثم أذن وصلينا معه. وكان حسن الصوت بالقراءة مجيداً لها ولما فرغ من صلاة العشاء الآخرة أومأ إلينا بالانصراف فودعناه وانصرفنا ونحن نعجب من أمره ثم إني أردت الرجوع إليه لما انصرفنا فلما دنوت منه غلب علي الخوف ورجعت إلى أصحابي وانصرفت معهم. وركبنا البحر ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة الطير وليست بها عمارة فأرسينا وصعدنا إليها فوجدناها ملآنة بطيور تشبه الشقاشق إلا أنها أعظم منها وجاءت الناس ببيض تلك الطيور فطبخوها وأكلوها واصطادوا جملة من تلك الطيور فطبخوها دون ذكاة وأكلوها. وكان يجالسني تاجر من أهل جزيرة مصيرة ساكن بظفار اسمه مسلم، ورأيته يأكل معهم تلك الطيور فأنكرت عليه ذلك فاشتد خجله. وقال لي: ظننت أنهم ذبحوها، وانقطع عني بعد ذلك من الخجل فكان لا يقربني حتى أدعوه. وكان طعامي في تلك الأيام بذلك المركب التمر والسمك. وكانوا يصطادون بالغدو والعشي سمكاً يسمى بالفارسية شير ماهي، ومعناه أسد السمك، لأن شير هو الأسد وماهي السمك، وهو يشبه الحوت المسمى عندنا بتارزت، وهم يقطعونه قطعاً ويشوونه ويعطون كل من في المركب قطعة لا يفضلون أحداً على أحد ولا صاحب المركب ولا سواه ويأكلونه بالتمر وكان عندي خبز وكعك استصحبتهما من ظفار، فلما نفدا كنت أقتات من ذلك السمك في جملتهم وعيدنا عيد الأضحى على ظهر البحر، وهبت علينا في يومه ريح عاصف بعد طلوع الفجر ودامت إلى طلوع الشمس وكادت تغرقنا. وكان معنا في المركب حاج من أهل الهند يسمى بخضر، ويدعى بمولانا،

لأنه يحفظ القرآن ويحسن الكتابة فلما رأى هول البحر لف رأسه بعباءة كانت له وتناوم فلما فرج الله ما نزل بنا قلت له يا مولانا خضر كيف رأيت قال كنت عند الهول أفتح عيني أنظر هل أرى الملائكة الذين يقبضون الأرواح جاءوا فلا أراهم فأقول الحمد لله لو كان الغرق لأتوا لقبض الأرواح ثم أغلق عيني ثم أفتحها فأنظر كذلك إلى أن فرّج الله عنا. وقد كان تقدمنا مركب لبعض التجار فغرق ولم ينج منه إلا رجل واحد خرج عوماً بعد جهد شديد وأكلت في ذلك المركب نوعاً من الطعام لم أذقه قبل ولا بعد صنعه بعض تجار عمان وهو من الذرة طبخها من غير طحن وصب عليها السيلان وهو عسل التمر وأكلناه. ثم وصلنا إلى جزيرة مصيرة التي منها صاحب المركب الذي كنا فيه وهي على لفظ مصير وزيادة تاء التأنيث جزيرة كبيرة لا عيش لأهلها إلا من السمك ولم ننزل إليها لبعد مرساها عن الساحل وكنت قد كرهتهم لما رأيتهم يأكلون من غير ذكاة وأقمنا بها يوماً وتوجه صاحب المركب إلى داره وعاد إلينا، ثم سرنا يوماً وليلة ووصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تعرف بصور ورأينا منها مدينة قلهات في سفح جبل فخيل إلينا أنها قريبة وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله فلما ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب وسألت عن طريقها فأخبرت أني أصل إليها العصر فاكتريت أحد البحريين ليدلني على طريقها وصحبني خضر الهندي الذي تقدم ذكره وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم وأخذت أثواباً كانت لي فدفعتها للدليل ليكفيني مؤنة حملها وحملت في يدي رمحا فإذا ذلك الدليل يحب أن يستولي على أثوابي فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المد والجزر فأراد عبوره بالثياب فقلت له إنما تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا فإن قدرنا على الجواز جزنا وإلا صعدنا نطلب المجاز فرجع ثم رأينا رجالاً جازوه عوماً فتحققنا أنه كان قصده أن يغرقنا ويذهب بالثياب فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم وشددت وسطي وكنت أهز الرمح فهابني ذلك الدليل وصعدنا حتى وجدنا مجازاً، ثم خرجنا إلى صحراء لا ماء بها واشتد بنا الأمر فبعث الله لنا فارساً في جماعة من أصحابه وبيد أحدهم ركوة ماء فسقاني وسقى صاحبي وذهبنا نحسب المدينة قريبة منا وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة فلما جاء العشى أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر وهو لا طريق له لأن

ساحله حجارة. فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب فقلت له إنما تمشي على هذه الطريق التي نحن عليها وبينها وبين البحر نحو ميل فلما أسلم الليل قال لنا أن المدينة قريبة فتعالوا نمشي حتى نبيت بخارجها إلى الصباح فخفت أن يتعرض لنا أحد في الطريق ولم أحقق مقدار ما بقي إليها فقلت له إنما الحق أن نخرج عن الطريق فننام فإذا أصبحنا أتينا المدينة أن شاء الله وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك فخفت أن يكونوا لصوصاً، وقلت التستر أولى وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك فخرجت عن الطريق وقصدت شجرة أم غيلان وقد أعييت وأدركني الجهد لكني أظهرت قوة وتجلداً خوف الدليل وأما صاحبي فمريض لا قوة له فجعلت الدليل بيني وبين صاحبي وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي وأمسكت الرمح بيدي ورقد صاحبي ورقد الدليل وبقيت ساهراً فكلما تحرك الدليل كلمته وأريته أني مستيقظ ولم نزل كذلك حتى الصبح. ثم خرجنا إلى الطريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة فبعثت الدليل ليأتينا بماء وأخذ صاحبي الثياب وكان بيننا وبين المدينة مهاو وخنادق فأتانا بالماء فشربنا وذلك أوان الحر، ثم وصلنا إلى مدينة قَلْهات "وضبط اسمها بفتح القاف وإسكان اللام وأخره تاء مثناة" فأتيناها ونحن في جهد عظيم وكنت قد ضاقت نعلي على رجلي حتى كاد الدم يخرج من تحت أظفارها فلما وصلنا باب المدينة كان ختام المشقة أن قال لنا الموكل بالباب لا بد أن تذهب معي إلى أمير ليعرف قضيتك ومن أين قدمت فذهبت معه فرأيته فاضلاً حسن الأخلاق وسألني عن حالي وأنزلني وأقمت عنده ستة أيام لا قدرة لي فيها على النهوض على قدمي لما لحقها من الآلام. ومدينة قَلْهات على الساحل وهي حسنة الأسواق ولها مسجد من أحسن المساجد حيطانه بالقاشاني وهو شبه الزليج وهو مرتفع ينظر منه إلى البحر والمرسى وهو من عمارة الصالحة بيبي مريم ومعنى بيبي عندهم الحرة. وأكلت بهذه المدينة سمكاً لم آكل مثله في إقليم من الأقاليم وكنت أفضله على جميع اللحوم فلا آكل سواه وهم يشوونه على ورق الشجر ويجعلونه على الأرز ويأكلونه. والأرز يجلب إليهم من أرض الهند وهم أهل

تجارة ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي. وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشد الفرح وكلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا، فيقولون تأكل لا، تمشي لا، تفعل كذا لا، وأكثرهم خوارج لكنهم لا يقدرون على إظهار مذهبهم لأنهم تحت طاعة السلطان قطب الدين تمهتن ملك هرمز وهو من أهل السنة. وبمقربة من قلهات قرية طيبي واسمها على نحو الطيب إذا أضافه المتكلم لنفسه وهي من أجمل القرى وأبدعها حسناً ذات أنهار جارية وأشجار ناضرة وبساتين كثيرة ومنها تجلب الفواكه إلى قلهات وبها الموز المعروف بالمرواري والمرواري بالفارسية هو الجوهري "المروار الجوهر"، وهو كثير وجلب منها إلى هرمز وسواها وبها أيضا التنبول لكن ورقته صغيرة والتمر يجلب إلى هذه الجهات من عمان. ثم قصدنا بلاد عمان فسرنا ستة أيام في صحراء ثم وصلنا عمان اليوم السابع وهي خصيبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق ونخل وفاكهة كثيرة مختلفة الأجناس ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة نَزْوَا "وضبط اسمها بنون مفتوح وزاي مسكن وواو مفتوح" مدينة في سفح جبل1 تحف بها البساتين والأنهار. يأتي كل إنسان بما عنده ويجتمعون للأكل في صحن المسجد ويأكل معهم الوارد والصادر. ولهم نجدة وشجاعة والحرب قائمة فيما بينهم أبداً وهم إباضية المذهب2 ويصلون ظهرا أربعاً فإذا فرغوا منها قرأ الإمام آيات من القرآن ونثر كلاماً شبه الخطبة يرضى فيه عن أبي بكر وعمر، ويسكت عن عثمان وعلي. وهم إذا أرادوا ذكر علي رضي الله عنه كنوا عنه، فقالوا ذكر عن الرجل أو قال. ويرضون عن الشقي اللعين ابن ملجم، ويقولون فيه العبد الصالح قامع الفتنة. ونساؤهم يكثرون الفساد، ولا غيرة عندهم ولا إنكار لذلك. وسنذكر حكاية إثر هذا مما يشهد بذلك.

_ 1 ذكر ياقوت اسم الجبل الذي بسفحه المدينة على أنه: نزوة بتاء مربوطة في آخره، ويرسم اسم المدينة الآن في كثير من المصادر: نزوى بألف مقصورة في آخرها. 2 الإباضية: إحدى فرق الخوارج، وهي أقربها إلى جماعة المسلمين، ولذلك بقيت فلم تستأصل كغيرها من فرق الخوارج، وتنتشر الآن في سلطنة عمان، وفي مناطق شرق الجزائر على الحدود بينها وبين ليبيا.

خبر سلطان عمان

خبر سلطان عمان: إنه عربي من قبيلة الأزد بن الغوث ويعرف بأبي محمد بن نبهان وأبو محمد عندهم سمة لكل سلطان يلي عمان كما هي أتابك عند ملوك اللور. وعادته أن يجلس خارج باب داره في مجلس هنالك ولا حاجب له ولا وزير ولا يمنع أحداً من الدخول إليه من غريب أو غيره ويكرم الضيف على عادة العرب ويعين له الضيافة ويعطيه على قدره. وله أخلاق حسنة ويؤكل على مائدته لحم الحمار الإنسي ويباع بالسوق لأنهم قائلون بتحليله ولكنهم يخفون ذلك عن الوارد عليهم ولا يظهرونه بمحضره. ومن مدن عمان مدينة زكي لم أدخلها وهي على ما ذكر لي مدينة عظيمة ومنها القريات وشبا وكلبا وخورفكان وصحار وكلها ذات أنهار وحدائق وأشجار ونخل، وأكثر هذه البلاد في عمالة هرمز. كنت يوما عند السلطان أبي محمد بن نبهان فأتته امرأة صغيرة السن حسنة الصورة بادية الوجه فوقفت بين يديه وقالت يا أبا محمد: طغى الشيطان في رأسي فقال لها اذهبي واطردي الشيطان، فقالت له: لا أستطيع وأنا في جوارك يا أبا محمد، فقال لها: اذهبي فافعلي ماشئت. فذكر لي لما انصرفت عنه أن هذه ومن فعل مثل فعلها تكون في جوار السلطان وتذهب للفساد ولا يقدر أبوها ولا ذوو قرابتها أن يغيروا عليها وإن قتلوها قتلوا بها لأنها في جوار السلطان. ثم سافرت من بلاد عمان إلى بلاد هرمز وهرمز مدينة على ساحل البحر وتسمى أيضا موغ استان وتقابلها في البحر هرمز الجديدة وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ. ووصلنا إلى هرمز الجديدة وهي جزيرة ومدينتها تسمى جَروَن "بفتح الجيم والراء وآخرها نون"، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة وهي مرسى الهند والسند ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقيين وفارس وخراسان وهذه المدينة سكنى السلطان والجزيرة التي فيها المدينة مسيرة يوم وأكثرها سباخ وجبال ملح وهو الملح الدرابي ومنه يصنعون الأواني المزينة والمنارات التي يضعون السرج عليها وطعامهم السمك والتمر المجلوب إليهم من البصرة وعمان. ويقولون بلسانهم: خرما وما هي لوت بادشاهي، معناها بالعربي التمر والسمك طعام الملوك. وللماء في الجزيرة قيمة

وبها عيون ماء وصهاريج مصنوعة، يجتمع فيها ماء المطر. وهي على بعد من المدينة ويأتون إليها بالقرب فيملؤونها ويرفعونها على ظهورهم إلى البحر ويسقونها في القوارب ويأتون بها إلى المدينة. ورأيت من العجائب عند باب الجامع فيما بينه وبين السوق رأس سمكة كأنه رابية وعيناه كأنهما بابان فترى الناس يدخلون من إحداهما ويخرجون من الأخرى ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح السائح أبا الحسن الأقطاراني وأصله من بلاد الروم فأضافني وزارني وألبسني ثوبا وأعطاني كمر الصحبة وهو يحتبي به فيعين الجالس فيكون كأنه مستند وأكثر فقراء العجم يتقلدونه. وعلى ستة أميال من هذه المدينة مزار ينسب إلى الخضر وإلياس عليهما السلام يذكر أنهما كانا يصليان فيه وظهرت له بركات وبراهين. وهنالك زاوية يسكنها أحد المشايخ يخدم بها الوارد والصادر وأقمنا عنده يوماً، وقصدنا من هنالك زيارة رجل صالح منقطع في آخر هذه الجزيرة قد نحت غاراً لسكناه. فيه زاوية ومجلس ودار صغيرة له. فيها جارية وله عبيد خارج الغار يرعون بقراً له وغنماً وكان هذا الرجل من كبار التجار فحج البيت وقطع العلائق وانقطع هنالك للعبادة ودفع ماله لرجل من إخوانه يتجر له به. وبتنا عنده ليلة فأحسن القرى وأجمل رضي الله تعالى عنه وسمة الخير والعبادة لائحة عليه

خبر سلطان هرمز

خبر سلطان هرمز: هو السلطان قطب الدين تَمَهْتَن بن طوران شاه "وضبط اسمه بفتح التاءين المعلوتين وبينهما ميم مفتوح وهاء مسكنة وآخره نون"، وهو من كرماء السلاطين كثير التواضع حسن الأخلاق وعادته أن يأتي لزيارة كل من يقدم عليه من فقيه أو صالح أو شريف ويقوم بحقه ولما دخلنا جزيرته وجدناه مهيأ للحرب مشغولاً بها مع ابني أخيه نظام الدين. فكان في كل ليلة يتسير للقتال. والغلاء مستول على الجزيرة فأتى إلينا وزيره شمس الدين محمد بن علي وقاضيه عماد الدين الشونكاري وجماعة من الفضلاء فاعتذروا بما هم عليه من مباشرة الحرب وأقمنا عندهم ستة عشر يوماً فلما أردنا الإنصراف قلت لبعض الأصحاب: كيف ننصرف ولا نرى هذا السلطان؟ فجئنا على الوزير وكان في جوار الزاوية التي نزلت بها فقلت له: إني أريد السلام على الملك. فقال:

بسم الله وأخذ بيدي فذهب بي إلى داره وهي على ساحل البحر والأجفان مجلسة عندها فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة داسة وعلى رأسه عمامة وهو مشدود الوسط بمنديل فسلم عليه الوزير وسلمت عليه ولم أعرف أنه الملك وكان إلى جانبه ابن أخته وهو علي شاه بن جلال الدين الكيجي وكانت بيني وبينه معرفة فأنشأت أحادثه وأنا لا أعرف الملك فعرفني الوزير بذلك فخجلت منه لإقبالي بالحديث على ابن أخته دونه واعتذرت ثم قام فدخل داره وتبعه الأمراء والوزراء وأرباب الدولة ودخلت مع الوزير فوجدناه قاعداً على سرير ملكه وثيابه عليه لم يبدلها وفي يده سبحة جوهر لم تر العيون مثلها لأن مغاصات الجوهر تحت حكمه فجلس أحد الأمراء إلى جانبه وجلست إلى جانب ذلك الأمير وسألني عن حالي ومقدمي وعمن لقيته من الملوك فأخبرته بذلك. وحضر الطعام فأكل الحاضرون ولم يأكل معهم ثم قام فوادعته وانصرفت. وسبب الحرب التي بينه وبين ابني أخيه أنه ركب البحر يوماً من مدينته الجديدة برسم النزهة في هرمز القديمة وبساتينها وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ كما قدمناه فخالف عليه أخوه نظام الدين ودعى لنفسه وبايعه أهل الجزيرة وبايعته العساكر فخاف قطب الدين على نفسه وركب البحر إلى مدينة قَلْهَات التي تقدم ذكرها وهي من جملة بلاده فأقام بها شهوراً وجهز المراكب وأتى الجزيرة فقاتله أهلها مع أخيه وهزموه وعاد إلى قَلْهَات وفعل ذلك مراراً فلم تكن له حيلة إلا أن يراسل بعض نساء أخيه فسمته ومات. وأتى هو إلى الجزيرة فدخلها وفر ابنا أخيه بالخزائن والأموال والعساكر إلى جزيرة قيس حيث مغاص الجوهر وصاروا يقطعون الطريق على من يقصد الجزيرة من أهل الهند والسند ويغيرون على بلاده البحرية حتى تخرب معظمها، ثم سافرنا من مدينة جرون برسم لقاء رجل صالح ببلد خنج بال. فلما عدينا البحر اكترينا دواب من التركمان وهم سكان تلك البلاد ولا يسافرون فيها إلا معهم لشجاعتهم ومعرفتهم بالطرق وفيها صحراء مسيرة أربع يقطع بها الطريق لصوص الأعراب وتهب فيها ريح السموم في شهر تموز وحزيران فمن صادفته فيها قتلته. ولقد ذكر لي أن الرجل إذا قتلته تلك الريح وأراد أصحابه غسله ينفصل كل عضو منه عن سائر الأعضاء. وبها قبور كثيرة للذين ماتوا فيها بهذه الريح. وكنا نسافر فيها بالليل فإذا طلعت الشمس نزلنا تحت ظلال الأشجار من أم غيلان، ونرحل بعد العصر إلى طلوع الشمس. وفي هذه الصحراء وما والاها

كان يقطع الطريق بها جمال اللُّك الشهير الاسم هنالك. وجمال اللُّك من أهل سجستان أعجمي الأصل "واللُّك بضم اللام" ومعناه الأقطع. وكانت يده قطعت في بعض حروبه. وكانت له جماعة كثيرة من فرسان الأعراب والأعاجم يقطع بهم الطريق وكان يبني الزوايا ويطعم الوارد والصادر من الأموال التي يسلبها من الناس. ويقال إنه كان يدعي أنه لا يسلط إلا على من لا يزكي ماله وأقام على ذلك دهراً وكان يغير هو وفرسانه ويسلكون براري لا يعرفها سواهم ويدفنون بها قرب الماء فإذا تبعهم عسكر السلطان دخلوا الصحراء واستخرجوا المياه ويرجع العسكر عنهم خوفاً من الهلاك وأقام على هذه الحالة مدة لا يقدر عليه ملك العراق ولا غيره ثم تاب وتعبد حتى مات وقبره يزار ببلده. وسلكنا هذه الصحراء إلى أن وصلنا إلى كَوْراستان "وضبط اسمه بفتح الكاف وإسكان الواو وراء"، وهو بلد صغير فيه الأنهار والبساتين وهو شديد الحر. ثم سرنا منه ثلاثة أيام في صحراء مثل التي تقدمت ووصلنا إلى مدينة لار "وآخر اسمها راء" مدينة كبيرة كثيرة العيون والمياه المطردة والبساتين ولها أسواق حسان ونزلنا بزاوية الشيخ العابد أبي دلف محمد وهو الذي قصدنا زيارته بخنج بال. وبهذه الزاوية ولد أبو زيد عبد الرحمن ومعه جماعة من الفقراء. ومن عادتهم أنهم يجتمعون بالزاوية بعد صلاة العصر من كل يوم ويطوفون على دور المدينة فيعطاهم من كل دار الرغيف والرغيفان فيطعمون منها الوارد والصادر. وأهل الدور قد ألفوا ذلك فهم يجعلوه في جملة قوتهم ويعدونه لهم إعانة على إطعام الطعام. وفي كل ليلة جمعة يجتمع في هذه الزاوية فقراء المدينة وصلحائها ويأتي كل منهم بما تيسر له من الدراهم فيجمعونها وينفقونها تلك الليلة ويبيتون في عبادة من الصلاة والتلاوة وينصرفون بعد صلاة الصبح.

خبر سلطان لار

خبر سلطان لار: وفي هذه المدينة سلطان يسمى بجلال الدين، تركماني الأصل، بعث إلينا بضيافه ولم نجتمع به ولا رأيناه، ثم سافرنا إلى مدينة خُنْجُ وبال "وضبط اسمها بضم الخاء المعجم وقد يعوض منها هاء وإسكان النون وضم الجيم وباء معقودة وألف ولام"، وبها سكنى الشيخ أبي دلف الذي قصدنا زيارته وبزاويته نزلنا.

ولما دخلت الزاوية، رأيت قاعدة بناحية منها على التراب وعليه جبة صوف خضراء بالية وعلى رأسه عمامة صوف سوداء فسلمت عليه فأحسن الرد فسألني عن مقدمي وبلادي وأنزلني وكان يبعث الي الطعام والفاكهة مع ولد له من الصالحين كثير الخشوع والتواضع صائم الدهر كثير الصلاة. ولهذا الشيخ أبي دلف شأن عجيب وأمر غريب فإن نفقته في هذه الزاوية عظيمة وهو يعطي العطاء الجزيل ويكسو الناس ويركبهم الخيل ويحسن لكل وارد وصادر ولم أر في تلك البلاد مثله ولا يعلم له جهة إلا يصله من الإخوان والأصحاب حتى زعم كثير من الناس أنه ينفق من الكون. وفي زاويته المذكورة قبر الشيخ الولي الصالح القطب دانيال وله اسم بتلك البلاد شهير وشأن في الولايه كبير وعلى قبره قبة عظيمة بناها السلطان قطب الدين تمهتن بن طوران شاه وأقمت عند الشيخ أبي دلف يوماً واحداً لاستعجال الرفقة التي كنت في صحبتها. وسمعت أن بمدينة خنج بال زاوية فيها جملة من الصالحين المتعبدين فرُحْت إليها بالعشي وسلمت على شيخهم وعليهم ورأيت جماعة مباركة قد أثرت فيهم العبادة فهم صفر الألوان نحاف الجسوم كثيرو البكاء غزيرو الدموع، وعند وصولي إليهم أتوا بالطعام فقال كبيرهم ادعوا إلي ولدي محمدا وكان معتزلا في بعض نواحي الزاوية. فجاء إلينا الولد وهو كأنما خرج من قبر مما نهكته العبادة فسلم وقعد. فقال له أبوه: يا بني شارك هؤلاء الواردين في الأكل تنل من بركاتهم وكان صائما فأفطر معنا وهم شافعية المذهب. فلما فرغنا من أكل الطعام دعوا لنا وانصرفنا. ثم سافرنا منها إلى مدينة قيس وتسمى أيضا بسيراف وهي على ساحل بحر الهند المتصل ببحر اليمن وفارس وعدادها في كوار فارس مدينة لها انفساح وسعة طيبة البقعة في دورها بساتين عجيبة فيها الرياحين والأشجار الناضرة وشرب أهلها من عيون منبعثة من جبالها وهم عجم من الفرس أشراف وفيهم طائفة من عرب بني سفاف وهم الذين يغوصون على الجوهر. مغاص الجوهر: يقع مغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم، فإذا كان شهر إبريل وشهر مايو تأتي إليها القوارب الكثيرة فيها

الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف ويجعل الغواص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيئا يكسوه من عظم الغليم، وهي السلحفاء ويصنع من هذا العظم أيضاً شكلاً شبه المقراض يشده على أنفه ثم يربط حبلا في وسطه ويغوص ويتفاوتون في الصبر في الماء فمنهم من يصبر الساعة والساعتين فما دون ذلك فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار مثبتا في الرمل فيقتلعه بيده أو يقطعه بحديدة عنده معدة لذلك ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه فإذا ضاق نفسه حرك الحبل فيحس به الرجل الممسك للحبل على الساحل فيرفعه إلى القارب فتؤخذ منه المخلاة ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع لحم تقطع بحديدة فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر1 فيجمع جميعها من صغير أو كبير فيأخذ السلطان خمسة والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب وأكثرهم يكون له الدين على الغواصين فيأخذ الجواهر في دينه، أو ما وجب له منه. ثم سافرنا من سيراف إلى مدينة البحرين وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار وماؤها قريب المؤنة يحفر عليه بالأيدي فيوجد وبها حدائق النخل والرمان والأترج والليمون ويزرع بها القطن وهي شديدة الحر كثيرة الرمال وربما غلب الرمل على بعض منازلها وكان فيما بينها وبين عمان طريق2 استولت عليه الرمال وانقطع فلا يوصل من عمان إليها إلا في البحر وبالقرب منها جبلان عظيمان يسمى أحدهما بكسير وهو في غربيها ويسمى الآخر بعوير وهو في شرقيها وبهما ضرب المثل فقيل كسير وعوير وكل غير خير، ثم سافرنا إلى مدينة القطيف "وضبط اسمها بضم القاف" كأنه تصغير قطف وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير تسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة يظهرون الرفض جهاراً لا يخافون أحداً ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين أشهد أن عليا ولي الله ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبيرة الأخير محمد

_ 1هكذا كان تصور الأقدمين لنشأة اللآليء في أصدافها، وليس ذلك بصحيح، فإن الحيوان يتخذ نواة من حبة رمل، ويفرز إفرازات تتراكم حول النواة فتتكون اللؤلؤة. 2 لم يكن هنالك طريق يربط البحرين بعمان كما ذكر ابن بطوطة، فالبحرين جزيرة تعرف بجزيرة أَوال، وربما يكون منشأن هذا الخطأ من أن الأقدمين كانوا يطلقون على الساحل العربي للخليج اسم: ساحل البحرين.

وعلي خير البشر، من خالفهما فقد كفر، ثم سافرنا منها إلى مدينة هجر وتسمى الآن بالحسا "بفتح الحاء والسين وإهمالها" وهي التي يضرب بها المثل، فيقال: كجالب التمر إلى هجر، وبها من النخل ما ليس ببلد سواها ومنه يعلفون دوابهم، وأهلها عرب وأكثرهم من قبيلة عبد القيس بن أفصى، ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتسمى أيضا بحجر "بفتح الحاء المهمل وإسكان الجيم" مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار يسكنها طوائف من العرب وأكثرهم من بني حنيفة وهي بلدهم قديماً وأمير هم طفيل بن غانم، ثم سافرت منها في صحبة هذا الأمير برسم الحج وذلك في سنة ثنتين وثلاثين، فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى. وحج في تلك السنة الملك الناصر سلطان مصر رحمه الله وجملة من أمرائه وهي آخر حجة حجها وأجزل الإحسان لأهل الحرمين الشريفين وللمجاورين، وفيها قتل الملك الناصر أمير أحمد الذي يذكر أنه ولده وقتل أيضاً كبير أمرائه بكتمور الساقي. ذكر أن الملك الناصر وهب لبكتمور الساقي جارية فلما أراد الدنو منها قالت إني حامل من الملك الناصر فاعتزلها وولدت ولداً سماه بالأمير أحمد ونشأ في حجره فظهرت نجابته واشتهر بابن الملك الناصر، فلما كان في هذه الحجة تعاهد على الفتك بالملك الناصر وأن يتولى أمير أحمد الملك وحمل بكتمور معه العلامات والطبول والكسوات والأموال فنمي الخبر إلى الملك الناصر، فبعث إلى الأمير أحمد في يوم شديد الحر فدخل عليه وبين يديه أقداح الشراب فشرب الملك الناصر قدحاً وناول إلى الأمير أحمد قدحاً ثانياً فيه السم فشربه وأمر بالرحيل في تلك الساعة ليشغل الوقت فرحل الناس ولم يبلغوا المنزل حتى مات الأمير أحمد فاكترث بكتمور لموته وقطع أثوابه وامتنع من الطعام والشراب وبلغ خبره إلى الملك الناصر فأتاه بنفسه ولاطفه وسلاّه وأخذ قدحاً فيه سم فناوله إياه وقال بحياتي عليك ألا شربت فبردت نار قلبك فشربه ومات من حينه ووجد عنده خلع السلطنة والأموال فتحقق مانسب إليه من الملك الناصر. ولما انقضى الحج توجهت إلى جدة برسم ركوب البحر إلى اليمن والهند فلم يقضى لي ذلك ولا تأتى لي رفيق وأقمت بجدة نحو أربعين يوماً وكان بها مركب لرجل يعرف بعبد الله التونسي يروم السفر إلى القصير من عمالة قوص فصعدت إليه لأنظر حاله فلم يرضني ولا طابت نفسي

بالسفر فيه وكان ذلك لطفا من الله تعالى فإنه سافر فلما توسط البحر غرق بموضع يقال له رأس أبي محمد فخرج صاحبه وبعض التجار في العشاوي بعد جهد عظيم، وأشرفوا على الهلاك وهلك بعضهم وغرق سائر الناس وكان فيه نحو سبعين من الحجاج، ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب فردتنا الريح إلى جبل يعرف برأس دواير، وسافرنا منه في البر مع البجاة فسلكنا صحراء كثيرة النعام والغزلان فيها عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجاة. ووردنا ماء يعرف بمفرور وماء يعرف بالجليد ولما نفد منا زادنا اشترينا من قوم البجاة وجدناهم بالفلاة أغناماً وتزودنا لحومها. ورأيت بهذه الفلاة صبياً من العرب كلمني باللسان العربي وأخبرني أن البجاة أسروه وزعم أنه منذ عام لم يأكل طعاماً إنما يقتات بلبن الإبل ونفذ منا بعد ذلك اللحم الذي اشترينها ولم يبق لنا زاد وكان عندي نحو حمل من التمر الصيحاني والبرني برسم الهدية لأصحابي ففرقته على الرفقة وتزودناه ثلاثاً، وبعد مسيرة تسعة أيام من رأس دواير وصلنا إلى عيذاب وكان قد تقدم إليها بعض الرفقة فتلقانا أهلها بالخبز والتمر والماء وأقمنا بها أياماً، واكترينا الجمال وخرجنا صحبة طائفة من عرب دغيم وردنا ماء يعرف بالجنيب ولعله "الخبيب"، وحللنا بحميثرا، حيث قبر ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي وحصلت لنا زيارته الثانية وبتنا في جواره، ثم وصنا إلى قرية العطواني وهي على ضفة النيل مقابلة لمدينة إدفو من الصعيد الأعلى وأجزنا النيل إلى مدينة أسنا ثم إلى مدينة أرمنت ثم إلى الأقصر وزرنا الشيخ أبي الحجاج الأقصري ثانية ثم إلى مدينة قوص ثم إلى مدينة قنا وزرنا الشيخ عبد الرحيم القناوي ثانية ثم إلى مدينة هو ثم إلى مدينة اخميم ثم إلى مدينة أسيوط ثم إلى منفلوط ثم إلى مدينة منلوي ثم إلى مدينة الأشمونين ثم إلى مدينة منية ابن الخصيب ثم إلى مدينة البهنسة ثم إلى مدينة بوش ثم إلى مدينة منية القائد، وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد ثم إلى مصر وأقمت بها أياماً. وسافرت على طريق بلبيس إلى الشام ورافقني الحاج عبد الله بن أبي بكر ابن الفرحان التوزري ولم يزل في صحبتي سنين إلى أن خرجنا من بلاد الهند فتوفي بسندابور وسنذكر ذلك. فوصلنا إلى مدينة غزة ثم إلى مدينة الخليل وتكررت لنا زيارته ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مدينة الرملة ثم إلى مدينة عكا ثم إلى مدينة طرابلس ثم إلى مدينة جبلة وزرنا إبراهيم بن أدهم

رضي الله عنه ثانية ثم إلى مدينة اللاذقية وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد كلها. ومن اللاذقية ركبنا البحر في قرقورة كبيرة للجنوبين يسمى صاحبها بِمَرْتَلْمين وقصدنا بر التركية المعروف ببلاد الروم وإنما نسبت إلى الروم لأنها كانت بلادهم في القديم، ومنها الروم الأقدمون واليونانية ثم استفتحها المسلمون وبها الآن كثير من النصارى تحت ذمة المسلمين من التركمان وسرنا في البحر عشراً بريح طيبة وأكرمنا النصراني ولم يأخذ منا نولاً. وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا وهي أول بلاد الروم وهذا الإقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صوراً وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم وأكثر خلق الله شفقة، ولذلك يقال البركة في الشام والشفقة في الروم وإنما عنى به أهل هذه البلاد وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو داراً يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء وهن لا يحتجبن فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا ترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات. ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة يعدون فيه ما يقوتهم سائرها فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه ومعه الأدام الطيب أطرافا لنا بذلك ويقولون لنا أن النساء بعثن هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء وجميع أهل هذه البلاد على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه مقيمين على السنة لا قدري فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع، وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك. ومدينة العلايا التي ذكرناها كبيرة على ساحل البحر يسكنها التركمان وينزلها تجار مصر والإسكندرية والشام، وهي كثيرة الخشب ومنها يحمل إلى إسكندرية ودمياط ويحمل منها إلى سائر بلاد مصر، ولها قلعة بأعلاها عجيبة منيعة بناها السلطان المعظم علاء الدين الرومي، ولقيت بهذه المدينة قاضيها جلاء الدين الأرزنجاني وصعد معي إلى القلعة يوم الجمعة فصلينا بها وأضافني وأكرمني. وأضافني أيضا شمس الدين بن الرجيحاني الذي توفي أبوه علاء الدين بمالي من بلاد السودان.

خبر سبت العلايا

خبر سبت العلايا ... خبر سلطان العلايا: وفي يوم السبت ركب معي القاضي جلال الدين وتوجهنا إلى لقاء ملك

العلايا وهو يوسف بك ومعنى بك الملك ابن قرمان "بفتح القاف والراء" ومسكنه على عشرة أميال من المدينة فوجدناه قاعداً على الساحل وحده فوق رابية هنالك والأمراء والوزراء أسفل منه والأجناد عن يمينه وعن يساره وهو مخضوب الشعر بالسواد فسلمت عليه وسألني عن مقدمي فأخبرته عما سأل وانصرفت عنه وبعث إلي إحساناً. وسافرت من هنالك إلى مدينة أنطاليا "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان النون وفتح الطاء المهمل وألف ولام مكسور وياء آخر الحروف" وأما التي بالشام فهي أنطاكية على وزنها إلا أن الكاف عوضا عن اللام وهي من أحسن المدن متناهية في اتساع الساحة والضخامة أجمل ما يرى من البلاد وأكثره عمارة وأحسنه ترتيباً وكل فرقة من سكانها منفردة بأنفسها عن الفرقة الأخرى فتجار النصارى ماكثون منها بالموضع المعروف بالميناء وعليهم سور تسد أبوابه عليهم ليلاً وعند صلاة الجمعة، والروم الذين كانوا أهلها قديماً ساكنون بموضع آخر منفردين به وعليهم أيضاً سور، واليهود في آخر وعليهم سور، والملك وأهل دولته ومماليكه يسكنون ببلدة عليها أيضاً سور يحيط بها ويفرق بينها وبين ما ذكرناه من الفرق، وسائر الناس من المسلمين يسكنون المدينة العظمى وبها مسجد جامع ومدرسة وحمامات كثيرة وأسواق ضخمة مرتبة بأبدع ترتيب وعليها سور عظيم يحيط بها وبجميع المواضع التي ذكرناها، وفيها البساتين الكثيرة والفواكه الطيبة والمشمش العجيب المسمى عندهم بقمر الدين وفي نواته لوز حلو وهو ييبس ويحمل إلى ديار مصر وهو بها مسظرف وفيها عيون الماء الطيب العذب الشديد البرودة في أيام الصيف نزلنا من هذه المدينة بمدرستها وشيخها شهاب الدين الحموي ومن عادتهم أن يقرأ جماعة من الصبيان بالأصوات الحسان بعد العصر من كل يوم في المسجد الجامع وفي المدرسة أيضا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم.

خبر الأخية الفتيان

خبر الأخية الفتيان: واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن ألحق بهم من أهل الشر. والأخي عندهم رجل يجتمع أهل الصناعة وغيرهم من الشبان الأعزاب

والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضاً ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافته لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعتهم بالغد وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل أفعالاً منهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر وأعظم إكراماً له وشفقة عليه. وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي ولم أكن يومئذ أفهمه، وكان عليه أثواب خلقة وعلى رأسه قلنسوة لبد فقال لي الشيخ: أتعلم ما يقول هذا الرجل؟ فقلت: لا أعلم ما قال. فقال لي: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك، فعجبت منه وقلت: نعم، فلما انصرف قلت للشيخ هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه. فضحك الشيخ وقال لي: هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية وهو من الخرازين1 وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قدموه على أنفسهم وبنوا زاوية للضيافة وما يجتمع لهم بالنهار أنفقوه بالليل، فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي وفي المجالس خمسة من البياسيس والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب وإلى جانبه آنية نحاس ملآنة بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل وأحدهم موكل بها ويسمى عندهم الجراجي "الجراغجي" وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم على وسطه سكين في طول ذراعين وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى

_ 1 الخرّازين: مفردها خراز وهو الإسكافي.

كل قلنسوة قطعة موصلة بها في طول ذراع، وعرض أصبعين فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوة ووضعها بين يديه. وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخاني وسواه حسنة المنظر، وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين ولما استقر بنا المجلس عندهم، أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم وطال عجبنا من سماحهم وكرم أنفسهم وانصرفنا عنهم آخر الليل وتركناهم بزاويتهم.

خبر سلطان انطالية

خبر سلطان انطالية: كان سلطانها خضر بك بن يونس بك، وجدناه عند وصولنا إليها عليلاً ودخلنا عليه بداره وهو في فراش المرض فكلمنا بألطف كلام وأحسنه وودعناه وبعث إلينا بإحسان، وسافرنا إلى بلد بُردُور "وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وواو وراء" وهي بلدة صغيرة كثيرة البساتين والأنهار ولها قلعة في رأس جبل شاهق نزلنا بدار خطيبها واجتمعت الأخية وأرادوا نزولنا عندهم فأبى عليهم الخطيب فصنعوا لنا ضيافة في بستان لأحدهم وذهبوا بنا إليها فكان من العجائب إظهارهم السرور بنا والاستبشار والفرح وهم لا يعرفون لساننا ونحن لا نعرف لسانهم ولا ترجمان فيما بيننا. وأقمنا عندهم يوماً وانصرفنا، ثم سافرنا من هذه البلدة إلى بلدة سَبَرْنا "وضبط اسمها بفتح السين المهمل والباء الموحدة وإسكان الراء وفتح التاء المعلوة وألف" وهي بلدة حسنة العمارة والأسواق كثيرة البساتين والأنهار، لها قلعة في جبل شامخ وصلنا إليها بالعشي، ونزلنا عند قاضيها، وسافرنا منها إلى مدينة أكْريدُور " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الكاف وكسر الراء وياء مد ودال مهمل مضموم وواو مد وراء" مدينة عظيمة كثيرة العمارة حسنة الأسواق ذات أنهار وبساتين، ولها بحيرة عذبة الماء يسافر المركب فيها يومين إلى أقشهر وبقشهر وغيرها من البلاد والقرى، ونزلنا منها بمدرسة تقابل الجامع الأعظم بها المدرس العام الحاج المجاور الفاضل مصلح الدين قرأ بالديار المصرية والشام وسكن بالعراق. وهو فصيح اللسان حسن البيان، أطروفة من طرف الزمان، أكرمنا غاية الإكرام، وقام بحقنا أحسن قيام.

خبر سلكان أكريدور

خبر سلكان أكريدور ... خبر سلطان أكريدور: كان سلطانها أبو اسحاق بك بن الداندار بك من كبار سلاطين تلك البلاد، سكن ديار مصر أيام أبيه وحج وله سيرة حسنة. ومن عاداته أنه يأتي كل يوم إلى صلاة العصر بالمسجد الجامع فإذا قضيت صلاة العصر استند إلى جدار القبلة وقعد القراء بين يديه على مصطبة خشب عالية فقرءوا سورة الفتح والملك وعم بأصوات حسان فعالة في النفوس تخشع لها القلوب وتقشعر الجلود وتدمع العيون، ثم ينصرف إلى داره. وأظلنا عنده شهر رمضان فكان يقعد في كل ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير ويستند إلى مخدة كبيرة، ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه وأجلس إلى جانب الفقيه، ويلينا أرباب دولته وأمراء حضرته، ثم يؤتى بالطعام فيكون أول ما يفطر عليه ثريد في صفحة صغيرة عليه العدس مسقى بالسمن والسكر ويقدمون الثريد تبركاً ويقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم فضله على سائر الطعام فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له ثم يأتي بسائر الأطعمة وهكذا فعلهم في جميع ليالي رمضان. وتوفي في بعض تلك الأيام ولد السلطان فلم يزيدوا على بكاء الرحمة كما يفعله أهل مصر والشام، خلافاً لما قدمناه من فعل أهل اللور حين مات ولد سلطانهم. فلما دفن أقام السلطان والطلبة ثلاثة أيام يخرجون إلى قبره بعد صلاة الصبح. وثاني يوم من دفنه خرجت مع الناس فرآني السلطان ماشياً على رجلي فبعث لي بفرس واعتذر فلما وصلت المدرسة بعثت الفرس فرده وقال إنما أعطيته لا عارية وبعث إلي بكسوة ودراهم، فانصرفنا إلى مدينة قُلْ حِصار "وضبط اسمها بضم القاف وإسكان اللام ثم جاء مهمل مكسور وصاد مهمل وآخره راء" مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب قد نبتت فيها القصب فلا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ بين القصب والمياه، لا يسع إلا فارساً واحداً، والمدينة على تل في وسط المياه منيعة لا يقدر عليها ونزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية بها.

خبر سلطان قل حصار

خبر سلطان قُلْ حِصار: كان سلطانها محمد جلبي وجلبي "بجيم معقود ولام مفتوحين وباء

موحدة وياء"، وتفسيره بلسان الروم سيدي، وهو أخو السلطان أبي إسحاق ملك أكريدور، ولما وصلنا بمدينته كان غائبا عنها فأقمنا بها أياماً ثم قدم فأكرمنا وأركبنا وزودنا، وانصرفا على طريق قرا "بفتح القاف" وتفسيره أسود، "وأغاج بفتح الهمزة والغين المعجم وآخره جيم" تفسيره الخشب. وهي صحراء خضراء يسكنها التركمان، وبعث معنا السلطان فرساناً يبلغوننا إلى مدينة لاذق بسبب أن هذه الصحراء يقطع فيها الطريق طائفة يقال لهم الجرميان يذكر أنهم من ذرية يزيد بن معاوية ولهم مدينة يقال لها كوتاهية فعصمنا الله منهم، ووصلنا إلى مدينة لاذق "وهي بكسر الذال المعجم وبعده قاف" وتسمى أيضاً دون غزله وتفسيره بلد الخنازير، وهي من أبدع المدن وأضخمها وفيها سبعة من المساجد لإقامة الجمعة ولها البساتين الرائقة والأنهار المطردة والعيون المنبعة وأسواقها حسان وتصنع بها ثياب قطن معلمة بالذهب لا مثيل لها تطول أعمارها لصحة قطنها وقوة غزلها وهذه الثياب معروفة بالنسبة إليها وأكثر الصناع بها نساء الروم وبها من الروم كثير تحت الذمة وعليهم وظائف للسلطان من الجزية وسواها، وعلامة الروم بها القلانس الطوال، منها الحمر والبيض، ونساء الروم لهن عمائم كبار وأهل هذه المدينة لا يغيرون المنكر، بل كذلك أهل هذا الإقليم كلهم وهم يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد، وكل واحدة عليها وظيف لمالكها توديه له. وسمعت هنالك أن الجواري يدخلن الحمام مع الرجال فمن أراد الفساد فعل ذلك بالحمام من غير منكر عليه. وذكر لي أن القاضي بها له جواري على هذه الصورة وعند دخولنا لهذه المدينة ومرورنا بإحدى أسواقها تقدم إلينا رجال من حوانيتهم وأخذوا بأعنة الخيل ونازعهم آخرون حتى سل بعضهم السكاكين على بعض ونحن لا نعلم ما يقولون فخفنا منهم وظننا أنهم الجرميان الذين يقطعون الطرق وأن تلك مدينتهم وحسبنا أنهم يريدون نهبنا. ثم بعث الله لنا رجلاً حاجاً يعرف اللسان العربي فسألته عن مرادهم منا. فقال: إنهم من الفتيان، وإنّ الذين سبقوا إلينا أولاً هم أصحاب الفتى أخي سنان، والآخرون أصحاب الفتى أخي طومان، وكل طائفة ترغب أن يكون نزولكم عندهم. فعجبنا من كرم نفوسهم. ثم وقع بينهم الصلح على المقارعة، فمن كانت قرعته نزلنا عنده أولاً، فوقعت قرعة أخي سنان وبلغه ذلك، فأتى إلينا في جماعة من أصحابه فسلموا علينا ونزلنا

بزاوية له. وأتى بأنواع الطعام، ثم ذهب بنا إلى الحمام ودخل معنا. وتولى خدمتى بنفسي، وتولى أصحابه خدمة أصحابي يخدم الثلاثة والأربعة الواحد منهم. ثم خرجنا من الحمام فأتوا بطعام عظيم وحلواء وفاكهة كثيرة. وبعد الفراغ من الأكل قرأ القراء آيات من القرآن العزيز، ثم أخذوا في السماع والرقص وأعلموا السلطان بخبرنا، فلما كان من الغد بعث في طلبنا بالعشي فتوجهنا إليه وإلى ولده كما نذكره، ثم عدنا إلى الزاوية فألفينا الأخي طومان وأصحابه في انتظارنا فذهبوا بنا إلى زاويتهم ففعلوا في الطعام والحمام مثل أصحابهم وزادوا عليه أن صبوا علينا ماء الورد صباً بعد خروجنا من الحمام، ثم مضوا بنا إلى الزاوية ففعلوا أيضا من الاحتفال في الأطعمة والحلواء والفاكهة وقراءة القرآن بعد الفراغ من الأكل ثم السماع والرقص كمثل ما فعله أصحابهم أو أحسن، وأقمنا عندهم بالزاوية أياماً.

خبر سلطان لاذق

خبر سلطان لاذق: هو سلطان لاذق يَنَنْج بك "واسمه بياء آخر الحروف مفتوحة ثم نونين أولادهما مفتوحة والثانية مسكنة وجيم"، وهو من كبار سلاطين بلاد الروم ولما نزلنا بزاوية أخي سنان كما قدمناه بعث إلينا الواعظ المذكور العالم علاء الدين القسطموني واصطحب معه خيلاً بعددنا وذلك في شهر رمضان فتوجهنا إليه وسلّمنا عليه. ومن عادة ملوك هذه البلاد التواضع للواردين ولين الكلام وقلة العطاء فصلينا معه المغرب وحضرنا طعامه فأفطرنا عنده وانصرفنا وبعث إلينا بدراهم، ثم بعث إلينا ولده مراد بك وكان ساكناً في بستان خارج المدينة وذلك في أبان الفاكهة وبعث أيضا خيلاً على عددنا كما فعل أبوه فأتينا بستانه وأقمنا عنده تلك الليلة وكان له فقيه يترجم بيننا وبينه، ثم انصرفنا غدوة، وأظلنا عيد الفطر بهذه البلدة فخرجنا إلى المصلّى وخرج السلطان في عساكره والفتيان الأخية كلهم بالأسلحة. ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار وبعضهم يفاخر بعضاً ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشكة، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها بالخبز ويكون خروجهم أولا إلى المقابر ومنها إلى المصلى.

ولما صلينا صلاة العيد دخلنا مع السلطان إلى منزله وحضر الطعام فجُعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماط على حدة، وجُعل للفقراء والمساكين سماط على حدة. ولا يرد على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني وأقمنا بهذه البلدة مدة بسبب مخاوف الطريق، ثم تهيأت رفقة فسافرنا معهم يوماً وبعض ليلة ووصلنا إلى حصن طَوَاس واسمه "بفتح الطاء وتخفيف الواو وآخره سين مهمل"، وهو حصن كبير ويذكر أن صهيباً صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه من أهل هذا الحصن وكان مبيتنا بخارجه، ووصلنا بالغد إلى بابه فسألنا أهله من أعلى السور عن مقدمنا فأخبرناهم. وحينئذ خرج أمير الحصن ميناس1 بك في عسكره ليختبر نواحي الحصن والطريق خوفاً من إغارة السراق على الماشية فلما طافوا بجهاته خرجت مواشيهم وهكذا فعلهم أبداً، ونزلنا من هذا الحصن بربضة في زاوية رجل فقير وبعث إلينا أمير الحصن بضيافة وزاد، وسافرنا منه إلى مُغْلَة "وضبط اسمها بضم الميم وإسكان الغين المعجم وفتح اللام" ونزلنا بزاوية أحد المشايخ بها وكان من الكرماء الفضلاء يكثر الدخول علينا بزاويته لا يدخل إلا بطعام أو فاكهة أو حلواء، ولقينا بهذه البلدة إبراهيم بك ولد سلطان مدينة مِيلاس وسنذكره، فأكرمنا وكسانا. ثم سافرنا إلى مدينة مِيلاَس "وضبط اسمها بكسر الميم وياء مد وآخره سين مهمل" وهي من أحسن بلاد الروم وأضخمها، كثيرة الفواكه والبساتين والمياه نزلنا بها بزاوية أحد الفتيان الأخية ففعل أضعاف ما فعله قبله من الكرماء منن الضيافة ودخول الحمام وغير ذلك من حميد الأفعال وجميل الأعمال، ولقينا بمدينة ميلاس رجلاً صالحاً معمراً يسمى بأبي الششتري ذكروا أن عمره يزيد على مائة وخمسين سنة وله قوة وحركة وعقله ثابت وذهنه جيّد دعا لنا وحصلت لنا بركته.

_ 1 في إحدى طبعات الكتاب: إلياس بك.

سلطان ميلاس

سلطان ميلاس: هو السلطان المكرم شجاع الدين أُرْخَان بك ابن المنتشا "وضبط اسمه بضم الهمزة وإسكان الراء وخاء معجم وآخره نون"، وهو من خيار الملوك، حسن

الصور والسيرة، جلساؤه الفقهاء وهم معظمون لديه، وببابه منهم جماعة منهم الفقيه الخوارزمي عارف بالفنون فاضل وكان السلطان في أيام لقائي له واجداً عليه بسبب رحلته إلى مدينة أيا سلوق ووصوله إلى سلطانها وقبوله ما أهداه. فسأل مني هذا الفقيه أن أتكلم عند الملك في شأنه بما يذهب ما في خاطره فأثنيت عليه عند السلطان وذكرت ما علمته من علمه وفضله ولم أزل به حتى ذهب ما كان يجده عليه، وأحسن إلينا هذا السلطان وأركبنا وزودنا. وسكناه في مدينة بَرْجِين وهي قرية من ميلاس بينهما ميلان "وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الراء وجيم وياء مد وآخره نون"، وهي جديدة على تل هنالك، بها العمارات الحسان والمساجد، وكان قد بنى بها مسجداً جامعاً لم يتم بناؤه بعد، وبهذه البلد لقيناه ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي علي، ثم انصرفنا بعد ما أحسن إلينا كما قدمناه إلى مدينة قُونِية "وضبط اسمها بضم القاف وواو مد ونون مسكن مكسور وياء آخر الحروف" مدينة حسنة العمارة كثيرة المياه والأنهار والبساتين والفواكه، وبها المشمش المسمى بقمر الدين وقد تقدّم ذكره ويحمل منه أيضا إلى ديار مصر والشام، وشوارعها متسعة جدًّا، وأسواقها بديعة الترتيب وأهل كل صناعة على حدة ويقال أن هذه المدينة من بناء الإسكندر وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان وسنذكره. وقد تغلّب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم. نزلنا بزاوية قاضيها ويعرف بابن قلم شاه وهو من الفتيان وزاويته من أعظم الزوايا وله طائفة كبيرة من التلاميذ ولهم للفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ولباسها عندهم السراويل كما تلبس الصوفية الخرقة وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم من صنيع من قبله وأجمل وبعث ولده عوضاً عنه لدخول الحمام معنا، وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وكان كبير القدر وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويعرفون باسمه فيقال لهم الجلالية كما تعرف الأحمدية بالعراق والحديرية بخراسان، وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد. وقيل إنه في ابتداء أمره فقيهاً مدرسًا يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونية فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلواء وعلى رأسه طبق منها وهي مقطعة قطعا يبيع القطعة منها بفلس فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ هات

طبقك فأخذ الحلواني قطعة منه وأعطاها الشيخ فأخذها الشيخ بيده وأكلها فخرج الحلواني ولم يطعم أحداً سوى الشيخ فخرج الشيخ في اتباعه وترك التدريس فأبطأ على الطلبة وطال انتظارهم إياه فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقراً، ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلق الذي لا يفهم. فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر وألفوا منه كتابا سموه المثنوي. وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه ويعلمونه ويقرءونه بزواياهم في ليالي الجمعات. وفي هذه المدينة أيضاً قبر الفقيه أحمد الذي يذكر أنه كان معلم جلال الدين المذكور. ثم سافرنا إلم مدينة اللارَنْدَة، وهي "بفتح الراء التي بعد الألف واللام وإسكان النون وفتح الدال المهمل" مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين.

خبر سلطان اللارندة

خبر سلطان اللاَّرَنْدَة: هو الملك بدر الدين بن قَرَمان "بفتح القاف والراء" وكانت قبله لشقيقه موسى، فنزل عنها للملك الناصر وعوّضه عنها بعوض، وبعث إليه أمير اً وعسكراً، ثم تغلب عليها السلطان بدر الدين وبنى بها دار مملكته واستقام أمره بها، ولقيت هذا السلطان خارج المدينة وهو عائد من تصيده، فنزلت عن دابتي فنزل هو عن دابته وسلمت عليه وأقبل علي، ومن عادة ملوك هذه البلاد أنه إذا نزل لهم الوارد عن دابته نزلوا له وأعجبهم فعله وزادوا في إكرامه وإن سلّم عليهم راكباً ساءهم ذلك ولم يرضهم ويكون سبباً لحرمان الوارد، وقد جرى لي ذلك مع بعضهم وسأذكره. ولما سلّمت عليه وركب وركبت سألني عن حالي وعن مقدمي ودخلت معه المدينة فأمر بإنزالي إلى أحسن نزل وكان يبعث الطعام الكثير والفاكهة والحلواء في طيافير الفضة والشمع، وكسا وأركب وأحسن، ولم يطل مقامنا عنده، وانصرفنا إلى مدينة أَقْصَرا "وضبطها بفتح الهمزة وسكون القاف وفتح الصاد المهمل والراء"، وهي من أحسن بلاد الروم وأتقنها تحف بها العيون الجارية والبساتين من كل ناحية ويشق المدينة ثلاثة أنهار ويجري الماء بدورها وفيها الأشجار ودوالي العنب وداخلها بساتين كثيرة وتصنع بها البسط المنسوبة إليها من صوف الغنم لا مثيل لها في بلد من البلاد ومنها تحمل إلى الشام ومصر والعراق والهند والصين وبلاد

الأتراك، وهذه المدينة في طاعة ملك العراق، ونزلنا منها بزاوية الشريف حسين النائب بها عن الأمير أرتنا، وأرتنا هوالنائب عن ملك العراق، فيما تغلب عليه من بلاد الروم. وهذا الشريف من الفتيان وله طائفة كثيرة وأكرمنا إكراما متناهيا وفعل أفعال من تقدمه. ثم رحلنا إلى مدينة نَكْدة "وضبط اسمها بفتح النون وإسكان الكاف ودال مهمل مفتوح"، وهي من بلاد ملك العراق مدينة كبيرة كثيرة العمارة قد تخرّب بعضها ويشقها النهر المعروف بالنهر الأسود وهو من كبار الأنهار عليه ثلاث قناطر: إحداها بداخل المدينة واثنتان بخارجها وعليه النواعير بالداخل والخارج منها تسقى البساتين والفواكه بها كثيرة. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي جاروق وهو الأمير بها فأكرمنا على عادة الفتيان وأقمنا ثلاثاً. وسرنا منها بعد ذلك إلى مدينة قيسارية وهي من بلاد صاحب العراق وهي إحدى المدن العظام بهذا الإقليم بها عساكر أهل العراق وإحدى خواتين الأمير علاء الدين أرتنا المذكور، وهي من أكرم الخواتين وأفضلهن ولها نسبة من ملك العراق وتدعى أغا "بفتح الهمزة والغين المعجم" ومعنى أغا الكبير وكل من بينه وبين السلطان نسبة يدعى بذلك واسمها طغى خاتون، ودخلنا عليها فقامت وأحسنت السلام والكلام، وأمرت بإحضار الطعام فأكلنا. ولما انصرفنا بعث إلينا بفرس مسرج ملجم وخلعة ودراهم مع أحد غلمانها واعتذرت. ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى الأخي أمير علي وهو أمير كبير من كبار الأخية بهذه البلاد وله طائفة تتبعه من وجوه المدينة وكبرائها، وزاويته من أحسن الزوايا فرشاً وقناديلاً وطعاماً كثيراً وإتقاناً، والكبراء من أصحابه وغيرهم يجتمعون كل ليلة ويفعلون في إكرام الوارد أضعاف ما يفعله سواهم. ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان فالأخي هو الحاكم به وهو يركب الوارد ويكسوه ويحسن إليه على قدره وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك. ثم سافرنا إلى مدينة سِيوَاس "وضبط اسمها بكسر السين المهمل وياء مد وآخره سين مهمل" وهي من بلاد ملك العراق وأعظم ماله بهذا الإقليم من البلاد وبها منزل أمرائه وعماله، وهي مدينة حسنة العمارة واسعة الشوارع أسواقها غاصة بالناس، وبها دار مثل المدرسة تسمى دار السيادة لا ينزلها إلا الشرفاء ونقيبهم ساكن بها وتجري لهم فيها مدة مقامهم الفرش والطعام والشمع وغيره فيزيدون

إذا انصرفوا. ولما قدمنا هذه المدينة خرج إلى لقائنا أصحاب الفتى بِجَقْجِي وبجق بالتركية السكين وهذا منسوب إليه، والجيمان منه معقودان بينهما قاف، وباؤه مكسورة، وكانوا جماعة منهم الركبان والمشاة. ثم لقينا بعدهم أصحاب الفتى جلبي وهو من كبار الأخية وطبقته أعلى من طبقة أخي بِجَقْجِي فطلبوا أن أنزل عندهم فلم يمكن لي ذلك لسبق الأولين، ودخلنا المدينة معهم جميعاً وهم يتفاخرون والذين سبقوا إلينا قد فرحوا أشد الفرح بنزولنا عندهم ثم كان من صنيعهم في الطعام والحمام والبيت مثل صنيع من تقدم وأقمنا عندهم ثلاثة أيام في أحسن ضيافة، ثم أتاني القاضي وجماعة من الطلبة ومعهم الأمير علاء الدين أرتنا نائب ملك العراق ببلاد الروم، فركبنا معه واستقبلنا الأمير إلى دهليز داره فسلم علينا ورحب، وكان فصيح اللسان بالعربية وسألني عن العراقيين وأصبهان وشيراز وكرمان وعن السلطان أتابك وبلاد الشام ومصر وسلاطين التركمان. وكان مراده أن أشكر الكريم منهم وأذم البخيل فلم أفعل ذلك بل شكرت الجميع. فسر بذلك مني وشكرني عليه. ثم أحضر الطعام وأكلنا وقال: تكونون في ضيافتي فقال له الفتى أخي جلبي إنهم لم ينزلوا بزاويتي فليكونوا عندي وضيافتك تصلهم، فقال: أفعل. فانتقلنا إلى زاويته وأقمنا بها ستا في ضيافته وفي ضيافة الأمير، ثم بعث الأمير بفرس وكسوة ودراهم وكتب لنوابه بالبلاد أن يضيفونا ويكرموننا ويزودونا. وسافرنا إلى مدينة أَمَاصية "وضبط اسمها بفتح الهمزة والميم وألف وصاد مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة"، مدينة كبيرة حسنة ذات أنهار وبساتين وأشجار وفواكه وعلى أنهارها النواعير تسقي جنانها ودورها وهي فسيحة الشوارع والأسواق وملكها صاحب العراق، وبقرب منها بلدة سُونَسَى "وضبط اسمها بضم السين المهمل وواو مد ونون مضموم وسين مهمل مفتوح"، وهي لصاحب العراق أيضا، وبها سكنى وأولاد ولي الله تعالى أبي العباس أحمد الرفاعي، منهم الشيخ عز الدين وهو الآن شيخ الرواق وصاحب سجادة الرفاعي وإخوته الشيخ علي والشيخ يحيى أولاد الشيخ أحمد كوجك ومعناه الصغير ابن تاج الدين الرفاعي، ونزلنا بزاويتهم ورأينا لهم الفضل على من سواهم.

ثم سافرنا إلى مدينة كُمِش "وضبط اسمها بضم الكاف وكسر الميم وشين معجم" وهي من بلاد ملك العراق مدينة كبيرة عامرة يأتيها التجار من العراق والشام وبها معادن الفضة وعلى مسيرة يومين منها جبال شامخة وعرة لم أصل إليها ونزلنا منها بزاوية الأخي مجد الدين وأقمنا بها ثلاثا في ضيافته وفعل أفعال من قبله، وجاء نائب الأمير أرتنا وبعث بضيافة وزاد، وانصرفنا عن تلك البلاد، فوصلنا إلى أرزنجان "وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي وسكون النون وجيم وألف ونون"، وهي من بلاد صاحب العراق، مدينة كبيرة عامرة وأكثر سكانها الأرمن. والمسلمون يتكلمون بها التركية ولها أسواق حسنة الترتيب ويصنع بها ثياب حسان تنسب إليها وفيها معادن النحاس ويصنعون منه الأواني والبياسيس التي ذكرناها وهي شبه المنار عندنا. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي نظام الدين وهي من أحسن الزوايا وهو أيضاً من خيار الفتيان وكبارهم أضافنا أحسن ضيافة، وانصرفنا إلى مدينة أرز الروم وهي من بلاد ملك العراق كبيرة الساحة خرب أكثرها بسبب فتنة وقعت بين طائفتين من التركمان بها ويشقها ثلاثة أنهار وفي أكثر دورها بساتين فيها الأشجار والدوالي. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي طومان وهو كبير السن يقال أنه أناف على مائة وثلاثين سنة ورأيته ينصرف على قدميه متوكئاً على عصا ثابت الذهن مواظباً للصلاة في أوقاتها لم ينكر من نفسه شيئا إلا أنه لا يستطيع الصوم وخدمنا بنفسه في الطعام وخدمنا أولاده في الحمام، وأردنا الانصراف عنه ثاني يوم نزولنا فشق عليه ذلك وأبى منه وقال أن فعلتم نقصتم حرمتي وإن أقل الضيافة ثلاث فأقمنا لديه ثلاثاً. ثم انصرفنا إلى مدينة بِركِي "وضبط اسمها بباء موحدة مكسورة وكاف معقود مكسور بينها راء مسكن"، ووصلنا إليها بعد العصر، فلقينا رجلاً من أهلها، فسألناه عن زاوية الأخي بها فقال أنا أدلكم عليها فاتبعناه فذهب بنا إلى منزله نفسه في بستان له فأنزلنا بأعلى سطح بيته والأشجار مظللة، وذلك أوان الحر الشديد وأتى إلينا بأنواع الفاكهة وأحسن في ضيافته وعلف دوابنا وبتنا عنده تلك الليلة. وكنا قد تعرفنا أن بهذه المدينة مدرساً فاضلاً يسمى بمحي الدين فأتى بنا ذلك الرجل الذي بتنا عنده، وكان من الطلبة إلى المدرسة وإذا بالمدرس قد أقبل راكباً على بغلة فارهة، ومماليكه وخدامه عن جانبيه والطلبة

بين يديه وعليه ثياب مفرجة حسان مطرزة بالذهب. فسلمنا عليه فرحب بنا وأحسن السلام والكلام وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه ثم جاء القاضي عز الدين فرشتي ومعنى فرشتي الملك لقب بذلك لدينه وعفافه وفضله فقعد عن يمين المدرس وأخذ في تدريس العلوم الأصلية والفرعية ثم لما فرغ من ذلك أتى دويرة بالمدرسة فأمر بفرشها وأنزلني فيها وبعث ضيافة حافلة ثم وجه إلينا بعد المغرب فمضيت إليه فوجدته في مجلس ببستان له وهنالك صهريج ماء ينحدر إليه الماء من خصة رخام أبيض يدور بها القاشاني وبين يديه جملة من الطلبة ومماليكه وخدامه وقوف على جانبيه وهو قاعد على مرتبة عليها أقطاع منقوشة حسنة فخلته لما شاهدته ملكاً من الملوك فقام إلي واستقبلني وأخذ بيدي وأجلسني إلى جانبه على مرتبته وأتى بالطعام فأكلنا وانصرفنا إلى المدرسة. وذكر لي بعض الطلبة أن جميع من حضر تلك الليلة من الطلبة عند المدرس فعادتهم الحضور لطعامه كل ليلة. وكتب هذا المدرس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه، والسلطان على جبل هنالك يصيف فيه لأجل شدة الحر، وذلك الجبل بارد. وعادته أن يصيف فيه.

خبر سلطان بركي

خبر سلطان بِرْكِي: كان السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بعث إليه المدرس يعلمه بخبري وجه نائبه إلي لآتيه فأشار إلي المدرس أن أقيم حتى يبعث إلي ثانية وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة لا يستطيع الركوب بسببها وانقطع عن المدرسة ثم أن السلطان بعث في طلبي ثانية فشق ذلك على المدرس فقال أنا لا أستطيع الركوب ومن غرضي التوجه معك لأقرر لدى السلطان ما يجب لك ثم إنه تحامل ولف على رجله خرقاً وركب ولم يضع رجله في الركاب وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل في طريق نحتت وسويت فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز وصادفنا السلطان في قلق وشغل بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا خضر بك وعمر بك فسلمّا على الفقيه وأمرهما بالسلام عليّ ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا. وبعث

إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة "خركاء" وهو عصي من الخشب تجمع شبه القبة وتجعل عليها اللبود ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح مثل البادهنج ويسد متى احتيج إلى سده وأتوا بالفرش ففرشوه وقعد الفقيه وقعدت معه وأصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز وذلك الموضع شديد البرد ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد. ولما كان من الغد ركب المدرس إلى السلطان وتكلم في شأني مما اقتضته فضائله ثم عاد إليّ وأعلمني بذلك وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معا، فجئنا إلى منزله ووجدناه قائماً فسلمنا عليه وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه فسألني عن حالي ومقدمي وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم، ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام وكذلك فعل الترك وأقمنا على تلك الحال أياماً يبعث إلينا كل يوم فنحضر طعامه وأتى يوماً إلينا بعد الظهر وقعد الفقيه في صدر المجلس وأنا على يساره وقعد السلطان عن يمين الفقيه وذلك لعزة الفقهاء عند الترك وطلب مني أن أن أكتب له أحاديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبتها له وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي ثم قام فخرج ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير أدام ولا خضر فأمر بعقاب صاحب خزانته وبعث بالابزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل فأدركني الملل وأردت الانصراف وكان الفقيه أيضا قد ملّ من المقام هنالك فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر فلما كان من الغد بعث إلي السلطان نائبه فتكلم مع المدرس بالتركية ولم أكن إذا ذاك أفهمها فأجابه عن كلامه وانصرف، فقال لي المدرس أتدري ماذا قال؟ قلت: لا أعرف ما قال. قال: أن السلطان بعث إلي ليسألني ماذا يعطيك؟ فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد فليعطه ما أحب من ذلك. فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا، فقال: أن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم وتنزلا معه غداً إلى داره بالمدينة ولما كان من الغد بعث فرساً جيداً من مراكبه ونزل ونحن معه إلى المدينة فخرج الناس لاستقباله وفيهم القاضي المذكور آنفاً وسواه ودخل السلطان ونحن معه فلما نزل بباب داره ذهبت مع المدرس إلى ناحية المدرسة فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره. ولما وصلنا إلى دهليز الدار وجدنا من خدامه نحو عشرين صورهم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة

وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة، فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان؟ قال: هؤلاء فتيان روميون، وصعدنا مع السلطان درجاً كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع نحاس يمج ماء من فيه وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة وفوق أحداها مرتبة للسلطان فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده وقعد معنا على الإطلاع وقعد الفقيه على يمينه والقاضي مما يلي الفقيه وأنا مما يلي القاضي وقعد القراء أسفل المصطبة والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه. ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوة بالجلاب المحلول قد عصر فيه ماء الليمون وجعل فيه كعكات صغار مقسومة وفيها ملاعق ذهب وفضة وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك وفيها ملاعق خشب فمن تورع استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره. وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه وقام له القاضي والفقيه وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقراء أسفل منه، فقلت للفقيه من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت، ثم أعدت السؤال، فقال لي هذا يهودي طبيب؟ وكلنا محتاج إليه فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له، فأخذني ما حدث وقدم من الامتعاض، فقلت لليهودي: يا ملعون يا ابن ملعون كيف تجلس فوق قراء القرآن وأنت يهودي؟ وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال، ولما انصرفنا، قال الفقيه: أحسنت بارك الله فيك أن أحداً سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك ولقد عرفته بنفسه. وسألني السلطان في هذا المجلس فقال لي هل رأيت قط حجراً نزل من السماء؟ فقلت ما رأيت ذلك ولا سمعت به، فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء ثم دعا رجالاً وأمرهم أن يأتوا بالحجر فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة له بريق قدرت أن زنته تبلغ قنطاراً وأمر السلطان بإحضار القطاعين فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد فلم يؤثروا عليه فيه شيئا، فعجبت من أمره.

وأمر بردّه إلى حيث كان. وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان صنع صنيعاً عظيماً ودعا الفقراء والمشايخ وأعيان العسكر ووجوه أهل المدينة فطعموا وقرأ القراء القرآن بالأصوات الحسان وعدنا إلى منزلنا بالمدرسة وكان يوجه الطعام والفاكهة والحلواء والشمع في كل ليلة ثم بعث إلي مائة مثقال ذهباً وألف درهم وكسوة كاملة وفرساً ومملوكاً رومياً يسمى ميخائيل وبعث لكل من أصحابي كسوة ودراهم كل هذا بمشاركة المدرس محيي الدين جزاه الله تعالى خيراً، وودعناه وانصرفنا وكانت مدة مقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يوماً، ثم قصدنا مدينة تِيرَة وهي من بلاد هذا السلطان "وضبط اسمها بكسر التاء المعاوة وياء مد وراء" مدينة حسنة ذات أنهار وبساتين وفواكه نزلنا منها بزاوية الفتى محمد وهو من كبار الصالحين صائم الدهر وله أصحاب على طريقته فأضافنا ودعا لنا، وسرنا إلى مدينة أياسُلُوق "وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف" مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فيما دونها منحوتة أبدع نحت والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا لا نظير له في الحسن وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد فلما فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجداً جامعاً وحيطانه من الرخام الملون وفرشه الرخام الأبيض وهو مسقف بالرصاص فيه إحدى عشرة قبة متنوعة في وسط كل قبة صهريج ماء والنهر يشقه وعن جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرشات الياسمين وله خمسة عشر باباً وأمير هذه المدينة خضر بك ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عند أبيه ببركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها فسلّمت عليه وأنا راكب فكره ذلك مني وكان سبب حرماني لديه، فإن عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا وأعجبهم ذلك، ولم يبعث إلا ثوباً واحداً من الحرير المذهب يسمونه النخ "بفتح النون وخاء معجم" واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكراً بأربعين ديناراً ذهباً، ثم سرنا إلى مدينة يَزْمِير1 "وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكن وميم مكسورة

_ 1 هي الآن مدينة: ازمير.

وياء مد وراء" مدينة كبيرة على ساحل البحر، معظمها خراب. ولها قلعة متصلة بأعلاها. نزلنا منها بزاوية الشيخ يعقوب وهو من الأحمدية صالح فاضل. ولقينا بخارجها الشيخ عز الدين بن أحمد الرفاعي ومعه زاد الأخلاطي من كبار المشايخ ومعه مائة فقير من المولهين وقد ضرب لهم الأمير الأخية وصنع الشيخ يعقوب ضيافة وحضرتها واجتمعت بهم، وأمير هذه المدينة عمر بك بن السلطان محمد آيدين المذكور آنفاً، وسكناه بقلعتها وكان حين قدومنا عليها عند أبيه ثم قدم بعد خمس من نزولنا بها فكان من مكارمه أن آتى إلي بالزاوية فسلم علي واعتذر وبعث ضيافة عظيمة وأعطاني بعد ذلك مملوكا رومياً خماسياً اسمه نقوله، وثوبين من الكمخا، وهي ثياب حرير وتصنع ببغداد وتبريز ونيسابور وبالصين وذكر لي الفقيه الذي يؤم به أن الأمير لم يبق له مملوك سوى ذلك المملوك الذي أعطاني بسبب كرمه رحمه الله وأعطى أيضاً للشيخ عز الدين ثلاثة أفراس مجهزة وآنية فضية كبيرة تسمى عندهم المشربة مملوءة دراهم وثياباً من الملف والمرعز والقسي والكمخا وجواري وغلماناً. وكان هذا الأمير كريماً صالحاً كثير الجهاد له أجفان غزوية يضرب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي ويغنم ويفني ذلك كرماً وجوداً، ثم يعود إلى الجهاد إلى أن اشتدت على الروم وطأته فرفعوا أمرهم إلى البابا فأمر نصارى جنوة وإفرانسة بغزوه. وجهز جيشاً من رومية وطرقوا مدينته ليلاً في عدد كثيرر من الأجفان وملكوا المرسى والمدينة ونزل إليهم الأمير عمر من القلعة فقاتلهم فاستشهد هو وجماعة من ناسه واستقر النصارى بالبلد ولم يقدروا على القلعة لمنعتها. ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة مَغْنِيسِيَّة "وضبط اسمها بميم مفتوحة وغين معجمة مسكنة ونون مكسورة وياء مد وسين مهملة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة" نزلنا بها عشى يوم عرفة بزاوية رجل من الفتيان، وهي مدينة كبيرة حسنة في سفح جبل وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه.

خبر سلطان مغنيسية

خبر سلطان مغنيسية: وكان سلطانها يسمى صاروخان، ولما وصلنا إلى هذه البلدة وجدناه بتربة ولده وكان قد توفي منذ أشهر فكان هو وأم الولد ليلة العيد وصبيحتها

بتربته والولد قد صُبِّر، وجعل في تابوت خشب ومغشى بالحديد المقزدر وعلق في قبة لا سقف لها لأن تذهب رائحته وحينئذ تسقف القبة ويجعل تابوته ظاهراً على وجه الأرض وتجعل ثيابه عليه وهكذا رأيت غيره أيضا من الملوك فعل ذلك وسلمنا عليه بذلك الموضع وصلينا معه صلاة العيد، وعدنا إلى الزاوية فأخذ الغلام الذي كان لي أفراسنا وتوجه مع غلام لبعض الأصحاب برسم سقيها فأبطأ ثم لما كان العشى لم يظهر لهما أثر، وكان بهذه المدينة الفقيه المدرس الفاضل مصلح الدين فركب معي إلى السطان وأعلمناه بذلك. فبعث في طلبهما فلم يوجدا واشتغل الناس في عيدهم وقصدا مدينة للكفار على ساحل البحر تسمى فوجة على مسيرة يوم من مغنيسية وهؤلاء الكفار في بلد الحصين وهم يبعثون هدية في كل سنة إلى سلطان مغنيسية فيقنع منهم بها لحصانة بلدهم فلما كان بعد الظهر أتى بهما بعض الأتراك وبالأفراس وذكروا أنهما اجتازا بهم عشية النهار فأنكروا أمرهما واشتدوا عليهما حتى أقرا بما عزما عليه من الفرار. ثم سافرنا إلى مغنيسية وبتنا ليلة عند قوم من التركمان قد نزلوا في مرعى لهم ولم نجد عندهم ما نعلف به داوبنا تلك الليلة وبات أصحابنا يحترسون1 مداولة بينهم خوف السرقة فأتت نوبة الفقيه عفيف الدين التوزري فسمعته يقرأ سورة البقرة فقلت له إذا أردت النوم فأعلمني لأنظر من يحرس ثم نمت فما أيقظني إلا الصباح وقد ذهب السراق بفرس لي كان يركبه عفيف الدين بسرجه ولجامه وكان من جياد الخيل اشتريته بآياسُلُوق. ثم رحلنا من الغد فوصلنا إلى مدينة بَرْغمة "وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة وراء مسكنة وغين معجمة مفتوحة وميم مفتوحة" مدينة خربة لها قلعة عظيمة منيعة بأعلى جبل ويقال أن أفلاطون الحكيم من أهل هذه المدينة وداره تشتهر باسمه إلى الآن. ونزلنا منها بزاوية فقير من الأحمدية ثم جاء أحد كبراء المدينة فنقلناه إلى داره وأكرمنا إكراما كثيراً.

_ 1 أي: يحرس بعضهم بعضاً.

خبر سطان برغمة

خبر سطان برغمة ... خبر سلطان برغمة: وكان سلطانها يسمى يخشي خان وخان بكسر الشين، وخان عندهم هو السلطان

ويخشي "بياء آخر الحروف وخاء معجم وشين مكسور" ومعناه جيد، صادفناه في مصيف له فأعلم بقدومنا فبعث بضيافة وثوب قدسي من برغمة إلى كينوك، ثم اكترينا مريد يدلنا على الطريق وسرنا في جبال شامخة وعرة إلى أن وصلنا إلى مدينة بَلِي كَسْرِي "وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة ولام مكسورة وياء مد وكاف مفتوح وسين مهمل مسكن وراء مسكن وياء" مدينة حسنة كثيرة العمارات مليحة الأسواق، ولا جامع لها يجتمع فيه وأرادوا بناء جامع خارجها متصل بها فبنوا حيطانه ولم يجعلوا له سقفاً وصاروا يصلون به ويجتمعون تحت ظلال الأشجار ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى أخي سنان وهو من أفاضلهم وأتى إلينا قاضيها وخطيبها الفقيه موسى.

خبر سلطان بلي كسري

خبر سلطان بلي كسرى: ويسمى دمور خان ولا خير فيه. أبوه هو الذي بنا هذه المدينة، وكثرت عمارتها بمن لا خير فيه، في مدة ابنه هذا، والناس على دين الملك ورأيته وبعث إلي ثوب حرير. واشتريت بهذه المدينة جارية رومية تسمى مر غليظة، ثم سرنا إلى مدينة بُرْصَا "وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وفتح الصاد المهمل" مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع تحفها البساتين من جميع جهاتها والعيون الجارية وبخارجها نهر شديد الحرارة يصب في بركة عظيمة وقد بني عليها بيتان: أحدهما للرجال والآخر للنساء، والمرضى يستشفون بهذه الحمة ويأتون إليها من أقاصي البلاد، وهنالك زاوية للواردين ينزلون بها ويطعمون مدة مقامهم وهي ثلاثة أيام. عمر هذه الزاوية أحد ملوك التركمان. ونزلنا في هذه المدينة بزاوية الفتى أخي شمس الدين من كبار الفتيان ووافقنا عنده يوم عاشوراء فصنع طعاماً كثيراً ودعا وجوه العسكر وأهل المدينة ليلاً وأفطروا عنده وقرأ القراء بالأصوات الحسنة وحضر الفقيه الواعظ مجد الدين القونوي ووعظ وذكر وأحسن ثم أخذوا في السماع والرقص وكانت ليلة عظيمة الشأن، وهذا الواعظ من الصالحين يصوم الدهر ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام ولا يأكل إلا من كد يمينه. ويقال إنه لم يأكل طعام أحد قط ولا منزل له ولا متاع إلا ما يستتر به ولا ينام إلا في المقبرة. ويعظ في المجالس ويذكر فيتوب على يديه في كل مجلس الجماعة من الناس.

وطلبته بعد هذه الليلة فلم أجده وأتيت الجبانة فلم أجده ويقال أنه يأتيها بعد هجوع الناس. ولما حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين وعظ بها مجد الدين آخر الليل فصاح أحد الفقراء صيحة غشي عليه منها فصبوا عليه ماء الورد فلم يفق فأعادوا عليه ذلك فلم يفق واختلفت الناس فيه فمن قائل إنه ميت ومن قائل إنه مغشي عليه وأتم الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلينا الصبح وطلعت الشمس فاختبروا حال الرجل فوجدوه فارق الدنيا رحمه الله. فاشتغلوا بغسله وتكفينه وكنت فيمن حضر الصلاة عليه ودفنه وكان هذا الفقير يسمى الصياح وذكروا أنه كان يتعبد بغار هنالك في جبل فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يعظ قصده وحضر وعظه ولم يأكل طعام أحد فإذا وعظ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ثم يفيق فيتوضأ ويصلي ركعتين ثم إذا سمع الواعظ صاح يفعل ذلك مراراً في الليلة وسمي الصياح لأجل ذلك وكان أعذر اليد والرجل لا قدرة له على الخدمة، وكانت له والدة تقوته من غزلها فلما توفيت اقتات من نبات الأرض. ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح عبد الله المصري السائح وهو من الصالحين جال الأرض إلا أنه لم يدخل الصين ولا جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان وقد زدت عليه بدخول هذه الأقاليم.

خبر سلكان برصا

خبر سلكان برصا ... خبر سلطان بُرْصا: وكان سلطانها اختيار الدين أُرْخان بك، وأُرخان "بضم الهمزة وخاء معجم" ابن السلطان عثمان1 جوق، "وجوق بجيم معقود مضموم وآخره قاف" وتفسيره بالتركية الصغير وهذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالاً وبلاداً وعسكراً له من الحصون ما يقارب مائة حصن وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها ويقيم بكل حصن منها أيام لإصلاح شئونه وتفقد حاله ويقال إنه لم يقم قط شهراً كاملاً ويقاتل الكفار ويحاصرهم، ووالده هو الذي استفتح مدينة بُرصا من أيدي الروم، وقبره بمسجدها. وكان مسجدها كنيسة

_ 1 وهو الذي ينتسب إليه سلاطين آل عثمان.

للنصارى ويذكر أنه حاصر مدينة برتيك نحو عشرين سنة ومات قبل فتحها، فحاصرها ولده هذا الذي ذكرناه اثنتي عشرة سنة وافتتحها وكان بها لقائي له وبعث إلي بدراهم كثيرة، ثم سافرنا إلى مدينة يَزْنيك "وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وكسر النون وياء مد وكاف" وبتنا قبل الوصول إليها ليلة بقرية تدعى كَرْلَه بزاوية فتى من الأخية، ثم سرنا من هذه القرية يوماً كاملاً في أنهار ماء على جوانبها أشجار الرمان الحلو والحامض ثم وصلنا إلى بحيرة ماء تنبت القصب على ثمانية أميال من يزنيك لا يستطاع دخولها إلا على طريق واحد مثل الجسر لا يسلك عليها إلا فارس واحد وبذلك امتنعت هذه المدينة والبحيرة محيطة بها من جميع الجهات وهي خاوية على عروشها لا يسكن بها إلا أناس قليلون من خدام السلطان وبها زوجته بيون1 خاتون وهي الحاكمة عليهم امرأة صالحة فاضلة. وعلى المدينة أسوار أربعة بين كل سورين خندق وفيه الماء ويدخل إليها على جسور خشب متى أرادوا رفعها رفعوها. وبداخل المدينة البساتين والدور والأرض والمزارع فلكل إنسان داره ومزرعته وبستانه مجموعة وشربها من آبار بها قريبة وبها من جميع أصناف الفواكه والجوز، والقسطل عندهم كثير جداً رخيص الثمن ويسمون القسطل قسطنة بالنون والجوز القوز بالقاف، وبها العنب العذاري لم أر مثله في سواها متناهي الحلاوة وعظيم الجرم صافي اللون رقيق القشر للحبة منه نواة واحدة. أنزلنا بهذه المدينة الفقيه الإمام الحاج المجاور علاء الدين السلطانيوكي وهو شيخ الفضلاء والكرماء ما جئت قط لزيارته إلا أحضر الطعام وصورته حسنة وسيرته أحسن وتوجه معي إلى الخاتون المذكورة فأكرمت وأضافت وأحسنت. وبعد قدومنا بأيام وصل إلى هذه المدينة السلطان أرخان بك الذي ذكرناه. وأقمت بهذه المدينة نحو أربعين يوماً بسبب مرض فرس لي، فلما طال علي المكث تركته وانصرفت ومعي ثلاثة من أصحابي وجارية وغلامان. وليس معنا من يحسن اللسان التركي ويترجم عنا. وكان معنا ترجمان فارقنا بهذه المدينة. ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها مَكجَا "بفتح الميم والكاف والجيم" بتنا عند فقيه أكرمنا وأضافنا. وسافرنا من عنده وتقدمتنا

_ 1 في إحدى طبعات الكتاب: بيلون خاتون.

امرأة من الترك على فرس ومعها خديم لها، وهي قاصدة مدينة ينجا ونحن في اتباع أثرها فوصلت إلى واد كبير يقال له سقري كأنه نسب إلى سقر أعاذنا الله فذهبت تجوز الوادي فلما توسطته كادت الدابة تغرق بها ورمتها عن ظهرها وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها فذهب الوادي بهما معا وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرهما سباحة فأخرجوا المرأة وبها من الحياة رمق ووجدوا الرجل قد قضى نحبه رحمه الله. وأخبرنا أولئك الناس أن المعديّة أسفل من ذلك الموضع فتوجهنا إليها وهي أربع خشبات مربوطة بالجبال يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع ويجذبها الرجال من العدوة الأخرى ويركب عليها الناس وتجاز الدواب سباحة وكذلك فعلنا. ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية واسمها على مثال فاعلة من الكي نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلمناه بالعربية فلم يفهم، وكلمنا بالتركية فلم نفهم عنه، فقال اطلبوا الفقيه فإنه يعرف العربية فأتى الفقيه فكلمنا بالفارسية وكلمناه بالعربية فلم يفهمها منا، فقال للفتى: ايشان عربي كهنا ميقوان ميكو يندو من عربي نو ميدانم، وإيشان معناه هؤلاء وكهنا قديم وميقوان يقولون ومن أنا ونو جديد وميدانم تعرف، وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة عندما ظنوا أنه يعرف اللسان العربي فهو لا يعرفه فقال هؤلاء يتكلمون بالعربي القديم وأنا لا أعرف إلا العربي الجديد فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه. ونفعنا ذلك عنده وبالغ في إكرامنا، وقال هؤلاء تجب كرامتهم لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم وهو لسان النبي صلى الله عليه وسلم تسليما وأصحابه، ولم نفهم كلام الفقيه إذا ذاك لكنني حفظت لفظه فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده. وبتنا تلك الليلة بالزاوية. وبعث معنا دليلاً إلى ينجا بلدة كبيرة حسنة بحثنا بها عن زاوية الأخي فوجدنا بها أحد الفقراء المولهين فقلت له زاوية الأخي فقال لي: نعم فسررت عند ذلك إذ وجدت من يفهم اللسان العربي. فلما اختبرته أبرز الغيب أنه لا يعرف من اللسان العربي إلا كلمة نعم خاصة. ونزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام ولم يكن الأخي حاضراً وحصل الأنس بهذا الطالب ولم يكن يعرف اللسان العربي ولكنه تفضل وتكلم مع نائب البلدة فأعطاني فارساً من أصحابه، وتوجه معنا إلى كَبْنوك "وضبط

اسمها بفتح الكاف وسكون الباء وضم النون" وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين وليس بها غير بيت واحد من المسلمين وهم الحكام عليهم وهي من بلاد أرخان بك فنزلنا بدار عجوز كافرة وذلك أبان الثلج والشتاء فأحسنا إليها وبتنا عندها تلك الليلة، وهذه البلدة لا شجر فيها ولا دوالي العنب ولا يزرع بها إلا الزعفران وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير وظنت أننا تجار نشتريه منها. ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه معنا الفتى أخي من كَبْنوك فبعث معنا فارساً غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني، وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى عن الطريق1 فتقدمنا ذلك الفارس فأتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان فأتوا بطعام فأكلنا منه وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم وسلك بنا أوعاراً وجبالاً ومجرى ماء تكرر لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة، فلما خلصنا من ذلك قال لنا الفارس أعطوني شيئاً من الدراهم، فقلنا له إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك فلم يرض ذلك منا أو لم يفهم عنا فأخذ قوساً لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فرد إلينا القوس فأعطيته شيئا من الدراهم فأخذها وهرب عنا وتركنا لا نعرف أين نقصد ولا طريق لنا فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة فخفت الهلاك علي ومن معي وتوقعت نزول الثلج ليلاً ولا عمارة هنالك فإن نزلنا عن الدواب هلكنا وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه. وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص وقلت في نفسي إذا سلمت لعلّي أحتال في سلامة أصحابي فكان كذلك واستودعتهم الله تعالى وسرت وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتاً من الخشب يظن رائيها أنها عمارة فيجدها قبوراً فظهر لي منها كثير فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت اللهم اجعلها عامرة فوجدتها عامرة ووفقني الله تعالى إلى باب دار فرأيت عليها شيخاً فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي وأشار إلي بالدخول فأخبرته بشأن أصحابي فلم يفهم عني وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء والواقف بالباب شيخها. فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي

_ 1 صحة العبارة: عفّى على الطريق، أي: غطى آثارها وستر معالمها فلم تعد تعرف.

مع الشيخ خرج بعضهم وكانت بيني وبينه معرفة فسلم علي وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب ففعلوا ذلك وتوجهوا معي إلى أصحابي وجئنا جميعا إلى الزاوية وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة فاجتمع أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى، وأتى كل منهم بما تيسر له من الطعام وارتفعت المشقة. ورحلنا عند الصباح فوصلنا إلى مدينة مُطرني عند صلاة الجمعة "وضبط اسمها بضم الميم والطاء المهملة وإسكان الراء وكسر النون وياء مد"، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية وبها جماعة من المسافرين ولم نجد مربطاً للدواب فصلينا الجمعة ونحن في قلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا وكان يعرف اللسان العربي فسررت برؤيته وطلبت منه أن يدلنا على مرابط للدواب بالكراء فقال أما ربطها في منزل فلا يتأتى لأن أبواب دور هذه البلدة صغار لا تدخل منها الدواب ولكنني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيها المسافرون دوابهم والذين يأتون لحضور السوق فدلنا عليها وربطنا بها دوابنا ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب. وكان من غريب ما اتفق لنا أني بعثت أحد الخدام ليشتري التبن للدواب وبعثت أحدهم يشتري السمن، فأتى أحدهما بالتبن، والآخر دون شيء وهو يضحك، فسألناه عن سبب ضحكه فقال: إنا وقفنا على دكان بالسوق فطلبنا منه السمن فأشار إلينا بالوقوف وكلّم والده فدفعنا إليه الدراهم فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه وقلنا له إنا نريد السمن فقال هذا السمن وأبرز الغيب لنا أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك، أما السمن يسمى عندهم يسمى رباغ، ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطمونية وبينها وبين هذه البلدة عشرة وكسوته ثوباً مصرياً من ثيابي وأعطيته نفقة تركها لعياله وعينت له دابة لركوبه، ووعدته الخير. وسافر معنا وظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير وله ديون على الناس غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيء الأفعال وكنا نعطيه الدراهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبزار والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه. وذكر أنه كان يسرق من دراهم النفقة دون ذلك وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك وانتهت حاله إلى أن فضحناه وكنا نقول له في آخر النهار

يا حاج كم سرقت اليوم من النفقة؟ فيقول كذا فنضحك منه ونرضى بذلك. ومن أفعاله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل فتولى سلخ جلده بيده وباعه. ومنها أننا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الإجاص والتفاح والمشمش والخوخ كلها ميبسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويشرب ماؤه، افأردنا أن نحسن إليها فعلم بذلك فقال: لا تعطوها شيئاً واعطوا ذلك لي، فأعطيناه إرضاء له، وأعطيناها إحساناً في خفية بحيث لم يعلم بذلك. ثم وصلنا إلى مدينة بُولي "وضبط اسمها بباء موحدة مضمومة وكسر اللام" ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا وادياً يظهر في رأي العين صغيراً فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج فجاوزوه جميعاً وبقيت جارية صغيرة خافوا من تجويزها وكان فرسي خيراً من أفراسهم فأردفتها وأخذت في جواز الوادي فلما توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية فأخرجها أصحابي وبها رمق وخلصت أنا ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقوده في زواياهم أيام الشتاء أبداً يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقد النار ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان ولا يؤذي الزاوية ويسمونها البخاري واحدها بخيري. قال ابن جزي: وقد أحسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلّي في قوله في التورية، وتذكرته بذكر البخيري: إن البخيري مذ فارقتمون غدا ... يحثو الرماد على كانونه الترِبِ لو شِئْتُم أنّه يُمسي أبا لَهَبٍ ... جاءَتْ بغالُكُم حمّالة الحَطَب قال: فلما دخلنا للزاوية وجدنا النار موقودة، فنزعت ثيابي ولبست ثيابا سواها واصطليت بالنار وأتى الأخي بالطعام والفاكهة وأكثر من ذلك. فلله درهم من طائفة! ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم وأعظم شفقتهم على الغريب وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه وأجملهم احتفالاً بأمره. فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلاّ كقدومه على أحب أهله إليه. وبنتنا تلك الليلة بحال مرضية، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كَرَدي بُولي "وضبط اسمها بكاف معقود وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مد ولام مكسورة وياء" وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة، متسعة الشوارع والأسواق من أشد البلاد برداً. وهي محلات مفترقة، كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم

غيرهم. وكان سلطانها شاه بك، من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة والسيرة، جميل الخلق، قليل العطاء، صلينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ونزلنا منها، ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي وهو من مستوطنيها من سنين وله بها أولاد وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه ومسموع الكلام عنده ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا فشكرته على فعله واستقبلت السلطان فسلمت عليه وجلس فسألني عن حالي وعن مقدمي وعمن لقيته من السلاطين فأخبرته بذلك كله وأقام ساعة ثم انصرف وبعث بدابة مسرجة وكسوة، وانصرفنا إلى مدينة بُرْلُو "وضبط اسمها بضم الباء الموحد وإسكان الراء وضم اللام"، وهي مدينة صغيرة على تل تحتها فندق ولها قلعة بأعلى شاهق نزلنا منها بمدرسة، وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرسها وطلبتها ويحضر معهم الدرس وهو على علاقة من الطلبة حنفي المذهب، ودعانا أمير هذه البلدة وهو علي بك بن السلطان المكرم سليمان باد شاه ملك قصطمونية، وسنذكره. فصعدنا إليه إلى القلعة فسلمنا عليه فرحب بنا وأكرمنا وسألني عن أسفاري وحالي فأجبته عن ذلك وأجلسني إلى جانبه وحضر قاضيه وكاتبه الحاج علاء الدين محمد وهو من كبار الكتاب وحضر الطعام فأكلنا ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة، وانصرفنا. وسافرنا بالغد إلى مدينة قَصْطَمُونِيَة "وضبط اسمها بقاف مفتوح، وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسورة وياء آخر الحروف"، وهي أعظم المدن وأحسنها كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف بالأطروش لثقل سمعه ورأيت منه عجباً وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء وتارة ف الأرض بأصبعه فيفهم عنه ويجيبه ويحكي له بذلك الحكايات فيفهمها وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً فكنا نشتري طابق اللحم الغنمي السمين بدرهمين ونشتري خبزاً بدرهمين فيكفينا ليومنا ونحن عشرة ونشتري حلواء العسل بدرهمين فتكفينا أجمعين ونشتري جوزاً بدرهم وقشطلاً بمثله فنأكل منها أجمعون ويفضل باقيها ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد وذلك أوان البرد الشديد ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعاراً منها. ولقيت بها الشيخ الإمام العالم المفتي

المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدة وقرأ بدمشق وجاور بالحرمين قديماً. ولقيت بها العالم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي من أهل فنيكة من بلاد الروم وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل. ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي فدخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل فوجدته ملقى على ظهره فأجلسه بعض خدامه ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما وكلمني بالعربي الفصيح وقال قدمت خير مقدم، وسألته عن عمره، فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله1 وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة وعمره الآن مائة وثلاث وستون سنة فطلبت منه الدعاء فدعا لي وانصرفت.

_ 1 الخليفة المستنصر بالله هو الخليفة قبل الأخير من الخلفاء العباسين ببغداد، وكانت وفاته سنة 640هـ، وعليه فيكون مولد المعمر دادا أمير علي في سنة 610هـ، ويكون عمره حين لقاء ابن بطوطة له عام 734هـ أربعاً وعشرين ومائة عام، وليس مائة وثلاثاً وستّين كما ذكر.

خبر سلكان قصطمونية

خبر سلكان قصطمونية ... خبر سلطان قصطمونية: وهو السلطان المكرم سليمان باد شاه "واسمه بباء معقود وألف ودال مسكن"، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة حسن الوجه طويل اللحية صاحب وقار وهيبة يجالسه الفقهاء والصلحاء دخلت عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام فأجبته وأمر بإنزالي على قرب منه وأعطاني ذلك اليوم فرساً عتيقاً قرطاسي اللون وكسوة، وعيّن لي نفقة وعلفاً وأمر لي بعد ذلك بقمح وشعير نفذ لي في قرية من قرى المدينة على مسيرة نصف يوم منها فلم أجد من يشتريه لرخص الأسعار فأعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا. ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كل يوم بمجلسه بعد صلاة العصر ويؤتى بالطعام فتفتح الأبواب ولا يمنع أحد من حضري أو بدوي أو غريب أو مسافر من الأكل، ويجلس في أول النهار جلوساً خاصاً ويأتي ابنه فيقبل يديه وينصرف المجلس له ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون. ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى

المسجد، وهو بعيد عن داره. والمسجد المذكور هو ثلاث طبقات من الخشب. فيصلي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء، ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى ويصلي الأفندي وهو أخو السلطان وأصحابه وخدامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى ويصلي ابن السلطان وولي عهده وهو أصغر أولاده ويسمى الجواد وأصحابه ومماليكه وخدامه وسائر الناس في الطبقة العليا، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب، ويقعد معهم الخطيب والقاضي ويكون السلطان بإزاء المحراب، ويقرءون سورة الكهف بأصوات حسان ويكررون الآيات بترتيب عجيبٍ، فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلى فإذا فرغوا من الصلاة تنفّلوا، وقرأ القاريء بين يدي السلطان عشراً وانصرف السلطان ومن معه، ثم يقرأ القارىء بين يدي ابن السلطان فإذا فرغ من قراءته قام المعرف وهو المذكر فيمدح السلطان بشعر تركي ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف، ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يقبل يد عمه في طريقه وهو واقف في انتظاره، ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم أخوه ويقبل يده ويجلس بين يديه ثم يأتي ابنه فيقبل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه، فإذا حانت صلاة العصر صلّوها جميعاً وقبل أخو السلطان يده وانصرف عنه فلا يعود إليه إلا في الجمعة الأخرى، وأما الولد فإنه يأتي كل يوم غدوة كما ذكرناه، ثم سافرنا من هذه المدينة، ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى تعد أحسن زاوية رأيتها في تلك البلاد بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يسمى فخر الدين وجعل النظر فيها لولده والإشراف لمن أقام بالزاوية من الفقراء وفوائد القرية وقف عليها، وبنى بإزاء الزاوية حماماً للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شيء يلزمه، وبنى سوقا بالقرية ووقفه على المسجد الجامع وعيّن من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يرد من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواها كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه، وثلاثمائة درهم يوم سفره، والنفقة أيام مقامه وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء. ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام، ثم انصرفنا وبتنا ليلة ثانية بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه عمرها بعضي الفتيان الأخية، ويعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية، ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية. وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صَنُوب "وضبط اسمها

بفتح الصاد وضم النون وآخره باء"، وهي مدينة حافلة جمعت بين التحصين والتحسين، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي جهة الشرق، ولها هنالك باب واحد لا يدخلها أحد إلا بإذن أمير ها، وأمير ها إبراهيم بك ابن السلطان سليمان باد شاه الدي ذكرناه. لما استؤذن لنا عليه دخلنا البلد ونزلنا بزاوية عز الدين أخي جلبي، وهي خارج باب البحر، ومن هنالك يصعد إلى جبل داخل في البحر، كميناء سبته فيه البساتين والمزارع والمياه، وأكثر فواكهه التين والعنب وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وبأعلاه رابطة تنسب للخضر وإلياس عليهما السلام لا تخلو من متعبد وعندها عين ماء والدعاء فيها مستجاب، وبسفح هذا الجبل قبر الولي الصالح الصحابي بلال الحبشي وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر، والمسجد بمدينة صنوب من أحسن المساجد وفي وسطه بركة ماء عليها قبة تقلها أربعة أرجل ومع كل رجل ساريتان من الرخام وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانة بن السلطان علاء الدين الرومي وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة وملك بعده ابنه غازي جلبي فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور وكان غازي جلبي المذكور شجاعاً مقداماً ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق، وطرقت مرسى بلده مرة جفان العدو فخرقها وأسر من كان فيها، وكانت كفاية لا كفاء لها إلا أنهم يذكرون أنه كان يكثر أكل الحشيش وبسببه مات فإنه خرج يوماً للتصيد وكان مولعاً به فاتبع غزالة ودخلت له بين أشجار وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فشدخته فمات. وتغلب السلطان سليمان على البلد وجعل به ابنه إبراهيم، ويقال إنه أيضا يأكل ما كان يأكله صاحبه على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها. ولقد مررت يوماً على باب الجامع بِصُنوب وبخارجه دكاكين يقعد الناس عليها فرأيت نفراً من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم يده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بملعقة ويأكل وأنا انظر إليه ولا علم لي بما في الشكارة فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش. وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويعرف بابن عبد الرزاق.

ولما دخلنا هذه المدينة رآنا أهلها ونحن نصلي مسبلي أيدينا وهم حنفية لا يعرفون مذهب مالك ولا كيفية صلاته والمختار من مذهبه هو إسبال اليدين وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق يصلون مسبلي أيديهم فاتهمونا بمذهبهم وسألونا عن ذلك فأخبرناهم أننا على مذهب مالك فلم يقنعوا بذلك عنا واستقرت التهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعل به فذبحناه وطبخناه وأكلناه، وانصرف الخديم إليه وأعلمه بذلك فحينئذ زالت عنا التهمة وبعثوا لنا بالضيافة والروافض لا يأكلون الأرانب. وبعد أربعة أيام من وصولنا صنوب توفيت أم الأمير إبراهيم بها فخرجت في جنازتها وخرج ابنها على قدميه كاشفاً شعره وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة وأما القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا رؤوسهم جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضا عن العمائم وظلوا يطعمون الطعام أربعين يوماً وهي مدة العزاء عندهم. وكانت إقامتنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً ننتظر تيسير السفر في البحر إلى مدينة القرم فاكترينا مركباً للروم وأقمنا أحد عشر يوماً ننتظر مساعدة الريح ثم ركبنا البحر فلما توسطناه بعد ثلاث هال علينا واشتد بنا الأمر ورأينا الهلاك عياناً وكنت بالطارمة ومعي رجل من أهل المغرب يسمى أبا بكر فأمرته أن يصعد أعلى المركب لينظر كيف البحر ففعل ذلك وأتاني بالطارمة فقال لي: أستودعكم الله، ودهمنا من الهول ما لم يعهد مثله ثم تغيرت الريح وردتنا إلى مقربة من مدينة صنوب التي خرجنا منها وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها فمنعت صاحب المركب من إنزاله، ثم استقامت الريح وسافرنا فلما توسطنا البحر هال علينا وجرى لنا مثل المرة الأولى، ثم ساعدت الريح ورأينا جبال البر وقصدنا مرسى يسمى الكرش فأردنا دخوله فأشار إلينا أناس كانوا بالجبل أن لا تدخلوا فخفنا على أنفسنا وظننا أن هنالك أجفاناً للعدو فرجعنا مع البر فلما قربنا قلت لصاحب المركب أريد أن أنزل ها هنا. فأنزلي بالساحل. ورأيت كنيسة فقصدتها فوجدت بها راهباً ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربي عليه عمامة متقلداً سيفا وبيده رمح وبين يديه سراج يوقد، فقلت للراهب: ما هذه الصورة فقال هذه صورة النبي علي، فأعجبت من قوله، وبتنا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجاً ولم نستطع أكلها إذ

كانت مما استصحبناه معنا في المركب ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه. وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق "والدشت بالشين المعجم والتاء المثناة" بلسان الترك هو الصحرا. وهذه الصحراء واسعة قاحلة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا أبنية ولا حطب وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها التزك فترى كبرائهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم ولا يسافر في هذه الصحراء إلا في العجل وهي مسيرة ستة أشهر ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره. لما كان الغد من وصولنا إلى هذا المرسى توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق وهم على دين النصرانية فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها ووصلنا إلى مدينة الكَفَا "واسمها بكاف وفاء مفتوحين"، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر يسكنها النصارى وأكثرهم الجنويون ولهم أمير يعرف بالدندير ونزلنا منها بمسجد المسلمين. ولما نزلنا بهذا الجامع أقمنا منها ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية ولم أكن سمعتها قط فهالني ذلك وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرأوا القرآن ويذكروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلّم علينا واستفهمناه عن شأنه فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك وقال: لما سمعت القراءة والأذان خفت عليكم فجئت كما ترون ثم انصرف عنا وما رأينا إلا خيراً. ولما كان الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعاماً فأكلناه عنده وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق وكلهم كفار ونزلنا إلى مرساها فرأينا مرسى عجيباً به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري صغيراً وكبيراً وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القِرَم وهي "بكسر القاف وفتتح الراء" مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وعليها أمير من قبله اسمه "تُلُكْتمُورُ "وضبط اسمه بتاء مثناة مضمومة ولام مضمومة وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء"، وكان أحد خدام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرفه بقدومنا فبعث إليّ مع إمامه سعد الدين بفرس ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخرساني فأكرمنا هذا الشيخ ورحب بنا وأحسن إلينا وهو معظم عندهم. ورأيت الناس يأتون للسلام عليه

من قاض وخطيب وفقيه وسواهم. وأخبرني هذاالشيخ زاده أن بخارخ هذه المدينة راهباً من النصارى في دير يتعبد ويكثر الصوم وأنه انتهى إلى أن يواصل أربعين يوماً ثم يفطر على حبة فول وأنه يكاشف بالأمور ورغب أن أصحبه في التوجه إليه فأبيت ثم ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفت حقيقة أمره. ولقيت بهذه المدينة قاضيها الأعظم شمس الدين السائل1 قاضي الحنفية ولقيت بها قاضي الشافعية وهو يسمى بخضر والفقيه المدرس علاء الدين الأصي وخطيب الشافعية أبا بكر وهو الذي يخطب بالمسجد الجامع الذي عمره الملك الناصر رحمه الله بهذه المدينة والشيخ الحكيم الصالح مظفر الدين وكان من الروم فأسلم وحسن إسلامه والشيخ الصالح العابد مظهر الدين وهو من الفقهاء المعظمين. وكان الأمير تلكتمور مريضاً فدخلنا عليه فأكرمنا وأحسن إلينا. وكان على التوجه إلى مدينة السرا حضرة السلطان محمد أوزبك فعملت في السير في صحبته واشتريت العجلات برسم ذلك. وكانوا يسمون العجلة عربة "بعين مهملة وراء موحدة مفتوحات" وهي عجلات تكون للواحدة منهن أربع بكرات كبار ومنها ما يجره فرسان ومنها مايجره أكثر من ذلك وتجرها أيضاً البقر والجمال على حال العربة في ثقلها أوخفتها والذي يخدم العربة يركب إحدى الأفراس التي تجرها ويكون عليه سرج وفي يده سوط يحركها للمشي وعود كبير يصوبها إذاعاجت عن القصد ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق وهي خفيفة الحمل وتكسى باللبد أو بالملف ويكون فيها طيقان مشبكة ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل يقرأ ويكتب وهو في حال سيره والتي تحمل والأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا وعليها قفل. وجهزت لما أردت عربة لركوبي مغشاة باللبد ومعي بها جارية وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزري وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب يجرها ثلاثة من الجمال أحدهما خادم العربة وسرنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولده قطلود مور وصارر بك، وسار أيضا معه في هذه

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: السائلي.

الوجهة إمامه سعد الدين والخطيب أبو بكر والقاضي شمس الدين والفقيه شرف الدين موسى، والمعرف علاء الدين. وخطة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه. فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرف ويقول بصوت عال. بسم الله سيدنا ومولانا قاضي القضاة والحكام مبين الفتاوي والأحكام بسم الله. وإذا أتى فقيه معظم أو رجل مشار إليه قال بسم الله سيدنا ومولانا فلان الدين بسم الله. فتهيأ من كان حاضراً لدخول الداخل ويقوم إليه ويفسح له في المجلس وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء سيراً كسير الحجاج في درب الحجاز ويرحلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحى ويرحلون بعد صلاة الظهر وينزلون عشياً وإذا حلُّوا الخيل والإبل والبقر عن العربات سرّحوها للرعي ليلاً ونهاراً. ولا يعلف أحد دابة السلطان ولا غيره وخاصية هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدواب وليس لغيرها من البلاد هذه الخاصية ولذلك كثرت الدواب بها ودوابهم لا رعاة لها ولا حراس وذلك لشدة أحكامهم في السرقة وحكمهم فيها أنه من وجد عنده فرس مسروق كلف أن يرده إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله فإن لم يقدر على ذلك أخذ أولاده في ذلك فإن لم يكن له أولاد ذبح كما تذبح الشاة. وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ وإنما يصنعون طعاما من شيء شبه الآتلي يسمونه الدوقي "بدال مهمل مضموم وواو وقاف مكسور معقود" يجعلون على النار الماء فإذا غلي صبوا عليه شيئا من الدوقي وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعاً صغارا وطبخوه ثم يجعل لكل رجل نصيبه في صحفة ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه ويشربون عليه لبن الخل وهم يسمونه القِمِزّ "بكسر القاف والميم والزاي المشددة" وهم أهل قوة وشدة وحسن مزاج يستعملون في بعض الأوقات طعاماً يسمونه البورخاني، وهو عجين يقطعونه قطيعات صغارا ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدرة فإذا طبخت صبوا عليها اللبن الرائب وشربوها ولهم نبيذ يصنعونه من حب الدُوقِي الذي تقدم ذكره وهم يرون أكل الحلواء عيباً. ولقد حضرت يوما عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم ولحوم الأغنام والرشتا وهو شبه الأطرية يطبخ ويشرب باللبن وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي

فقدمتها بين يديه، فجعل إصبعه عليها وجعله على فيه ولم يزد على ذلك وأخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان وله من أولاده وأولاد أولاده نحو أربعين ولداً قال له السلطان يوماً كل الحلواء وأعتقكم جميعاً فأبى وقال لو قتلتني ما أكلتها. ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور في موضع يعرف بسجاف. فبعث إلي أن أحضره عنده. فركبت إليه وكان لي فرس معد لركوبي يقوده خديم العربة فإذا أردت ركوبه ركبته وأتيت الزاوية فوجدت الأمير قد وضع بها طعاماً كثيراً فيه الخبز ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار فشرب القوم منه وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه وأنا أليه فقلت له ما هذا فقال هذا ماء الدهن فلم أفهم ما قال فذقته فوجدت له حموضة فتركته فلما خرجت سألت عنه فقال هو نبيذ يصنعونه من الدوقي وهم حنفية المذهب والنبيذ عندهم حلال ويسمون هذا النبيذ المصنوع من الدوقي البُوزة "بضم الباء الموحدة وواو مد وزاي مفتوح" وإنما قال الشيخ مظفر الدين ماء الدخن ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت أنه يقول ماء الدهن. وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلاً من مدينة القرم، وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يوماً كاملاً وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتد وحله وزاد صعوبة. فذهب الأمير إلى راحلتي وقدمني أمامه مع بعض خدامه وكتب لي كتاباً إلى أمير أزاق يعلمه أني أريد القدوم على الملك ويحضه على إكرامي. وسرنا حتى انتهينا إلى ماء أخر نخوضه نصف يوم. ثم سرنا بعده ثلاثاً ووصلنا إلى مدينة أَزَاق "وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف"، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة، يقصدها الجنويون وغيرهم بالتجارات. وبها من الفتيان أخي بجقجي وهو من العظماء يطعم الوارد والصادر ولما وصل كتاب الأمير تلكتمور إلى أزاق وهو محمد خواجة الخوارزمي خرج إلى استقبالي ومعه القاضي والطلبة وأخرج الطعام فلما سلمنا عليه نزل بموضع أكلنا فيه ووصلنا المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك تنسب للخضر وإلياس عليهما السلام. وخرج شيخ من أهل أَزَاق يسمى برجب النهر ملكي نسبة إلى قرية بالعراق فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة. وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور، وخرج الأمير محمد

للقائه، ومعه القاضي والطلبة وأعدوا له الضيافة وضربوا ثلاث قباب متصلا بعضها ببعض إحداها من الحرير عجيبة والثنتان من الكتان وأداروا عليها سراجة وهي المسماة عندنا أفراج وخارجها الدهليز وهو على هيئة البرج عندنا. ولما نزل الأمير بسطت بين يديه شقاق الحرير يمشي عليها فكان من مكارمه وفضله أن قدمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده، ثم وصلنا إلى الخباء الأولى وهي المعدة لجلوسه وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير مرصع وعليه مرتبة حسنة فقدمني الأمير أمامه وقدم الشيخ مظفر الدين وصعد هو فجلس فيما بيننا ونحن جميعا على المرتبة وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطلبتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه الأمير محمد وأولاده في الخدمة ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسواها وأتوا بألبان الخيل ثم أتوا بالبوزة وبعد الفراغ من الطعام قرأ القراء بالأصوات الحسان ثم نصب منبر وصعده الواعظ وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين يقول ذلك بالعربي ثم يفسره لهم بالتركي وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيبٍ ثم أخذوا في الغناء يغنون بالعربي ويسمونه القول ثم بالفارسي يسمونه الملمع، ثم أتوا بطعام آخر، ولم يزالوا على ذلك إلى العشي وكلما أردت الخروج منعني الأمير ثم جاءوا بكسوة للأمير وكساوي لولديه وأخيه والشيخ مظفر الدين ولي وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس. والخيل بهذه البلاد كثيرة جدا وثمنها نزر قيمة الجيد منها خمسون درهماً أو ستون من دراهمهم وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه، وهذه الخيل هي التي تعرف بمصر بالأكاديش ومنها معاشهم وهي ببلادهم كالغنم ببلادنا بل أكثر فيكون للتركي منهم آلاف منها. ومن عادة الترك المستوطنين تلك البلاد أصحاب الخيل أنهم يضعون في العربات التي تركب فيها نساؤهم قطعة لبد في طول الشبر مربوطة إلى عود رقيق في طول الذراع في ركن العربة ويجعل لكل ألف فرس قطعة. ورأيت منهم من يكون له عشر قطع ومن له دون ذلك وتحمل هذه الخيل إلى بلاد الهند فيكون في الرفقة منها ستة آلاف وما فوقها وما دونها، لكل تاجر المائة

والمائتان فما دون ذلك وما فوقه، ويستأجر التاجر لكل خمسين منها راعياً يقوم عليها ويرعاها كالغنم ويسمى عندهم القشي، ويركب أحدها وبيده عصا طويلة فيها حبل فإذا أراد أن يقبض على فرس منها حاذاه بالفرس الذي هو راكبه ورمى الحبل في عنقه وجذبه فيركبه ويترك الآخر للرعي وإذا وصلوا بها إلى أرض السند أطعموها العلف لأن نبات أرض السند لا يقوم مقام الشعير، ويموت لهم منها الكثير ويسرق، ويغرمون عليها بأرض السند سبعة دنانير فضة على الفرس بموضع يقال له ششنقار ويغرمون عليها بملتان قاعدة بلاد السند وكانوا فيما تقدم يغرمون ربع ما يجلبونه فرفع ملك الهند إلى السلطان محمد ذلك وأمر أن يؤخذ من تجار المسلمين الزكاة ومن تجار الكفار العشر ومع ذلك يبقى للتجار فيها فضل كبير لأنهم يبيعون الرخيص منها ببلاد الهند بمائة دينار دراهم وصرفها من الذهب المغربي خمسة وعشرون دينارا وربما باعوها بضعف ذلك وضعفيه والجياد منها تساوي خمسمائة دينار وأكثر من ذلك، وأهل الهند لا يبتاعونها للجري والسبق لأنهم يلبسون في الحرب الدروع ويدرعون الخيل وإنما يبتغون قوة الخيل واتساع خطاها والخيل التي يبتغونها للسبق تجلب إليهم من اليمن وعمان وفارس ويباع الفرس منها بألف دينار إلى أربعة آلاف. ولما سافر الأمير تلكتمور عن هذه المدينة أقمت ثلاثة أيام حتى جهز لي الأمير محمد خواجة آلات سفري. وسافرت إلى مدينة الماجَر وهي "بفتح الميم وألف وجيم مفتوح معقود وراء" مدينة كبرى من أحسن مدن الترك، على نهر كبير، وبها البساتين والفواكه الكثيرة نزلنا منها بزاوية الشيخ الصالح العابد المعمر محمد البطائحي من بطائح العراق، وكان خليفة الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه، وفي زاويته نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك والروم، ومنهم المتزوج والعزب، وعيشتهم من الفتوح. ولأهل تلك البلاد اعتقاد حسن في الفقراء، وفي كل ليلة يأتون إلى الزاوية بالخيل والبقر والغنم، ويأتي السطان والخواتين لزيارة الشيخ والتبرك به ويجزلون الإحسان ويعطون العطاء الكثير وخصوصاً النساء فإنهن يكثرن الصدقة ويتحرين أفعال الخير. وصلينا بمدينة الماجر صلاة الجمعة فلما قضيت الصلاة صعد الواعظ عز الدين المنبر وهو من فقهاء بخارى وفضلائها وله جماعة من الطلبة والقراء يقرءون بين يديه، ووعظ وذكر، وأمير المدينة حاضر

وكبراؤها فقام الشيخ محمد البطائحي فقال أن الفقيه يريد السفر ونريد له زوادة ثم خلع فرجية مرعز كانت عليه وقال: هذه مني إليه فكان الحاضرون بين من خلع ثوبه ومن أعطى فرساً ومن أعطى دراهم واجتمع له كثير من ذلك كله ورأيت بقيسارية هذه المدينة يهودياً سلّم علي وكلمني بالعربي فسألته عن بلاده فذكر أنه من بلاد الأندلس وإنه قدم منها في البر ولم يسلك بحراً وأتى على طريق القسطنطينية العظمى وبلاد الروم وبلاد الجرجس وذكر أن عهده بالأندلس منذ أربعة أشهر وأخبرني التجار المسافرون الذين لهم المعرفة بذلك بصحة ما قاله ورأيت بهذه البلاد عجباً من تعظيم النساء عندهم وهن أعلى شأنا من الرجال فأما نساء الأمراء فكانت أول رؤيتي لهن عند خروجي من القرم رويق الخاتون زوجة الأمير سلطية في عربة لها وكلها مجللة بالملف الأزرق الطيب وطيقان البيت مفتوحة وأبوابه وبين يديها أربع جوارٍ فاتنات الحسن بديعات اللباس وخلفها جملة من العربات فيها جوار يتبعنها ولما قربت من منزل الأمير نزلت عن العربة إلى الأرض ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن الأذيال عن الأرض من كل جانب، ومشت كذلك متبخترة فلما وصلت إلى الأمير قام إليها وسلم عليها وأجلسها إلى جانبه ودار بها جواريها وجاءوا بروايا القمز فصبت منه في قدح وجلست على ركبتيها قدام الأمير وناولته القدح فشرب ثم سقت أخاه وسقاها الأمير وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاني كسوة وانصرفت، وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء، وسنذكر نساء الملك فيما بعد. وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري يرفعن أذيالها وعلى رأسها البغطاق وهو أقروف مرصع بالجوهر، وفي أعلاه ريش وتكون طيقان البيت مفتحة وهي بادية الوجه لأن نساء الأتراك لا يحتجبن وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية وربما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنه من يراها بعض خدامها ولا يكون عليه من الثياب إلا فروة من جلد الغنم وفي رأسه قلنسوة تناسب ذلك يسمونها الكلا. وتجهزنا من مدينة الماجَر نقصد معسكر السلطان وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له بِشْ دَغْ ومعنى بش عندهم خمسة وهو "بكسر الباء وشين معجم" ومعنى دَغْ الجبل، وهو "بفتح الدال المهمل وغين معجم" وبهذه الجبال الخمسة عين ماء حار يغتسل منها الأتراك، ويزعمون أن من اغتسل منها لم تصبه عاهة مرض

وارتحلنا إلى موضع المحلة فوصلناه أول يوم من رمضان، فوجدنا المحلة قد خلت فعدنا إلى الموضع الذي رحلنا منه لأن المحلة تنزل بالقرب منه فضربت بيتي على تل هنالك وركزت العلم أمام البيت وجعلت الخيل والعربات وراء ذلك وأقبلت المحلة وهم يسمونها الأُرْد. فرأينا مدينة عظيمة تسير بأهلها فيها المساجد والأسواق ودخان الطبخ صاعد في الهواء وهم يطبخون في حال رحيلهم والعربات تجرها الخيل بهم فإذا بلغوا المنزل أنزلوا البيوت عن العربات وجعلوها على الأرض وهي خفيفة المحمل وكذلك يصنعون بالمساجد والحوانيت. واجتاز بنا خواتين السلطان كل واحدة بناسها على حدة ولما اجتازت الرابعة منهن وهي بنت الأمير عيسى بك وسنذكرها، رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه وهو علامة الوارد فبعثت الفتيان والجواري فسلموا عليّ وبلغوا سلامها إليّ وهي واقفة تنتظرهم فبعثت إليها بهدية مع بعض أصحابي ومع معرف الأمير تلكتمور فقبلتها تبركاً وأمرت أن أنزل في جوارها وانصرفت وأقبل السطان فنزل في محلته على حدة.

خبر السلطان المعظم محمد أوزبك خان

خبر السلطان المعظم محمد أوزْبك خان: واسمه محمد أوزبك "بضم الهمزة وواو وزاي مسكن وباء موحدة مفتوحة" ومعنى خان عندهم السلطان وهذا السلطان عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن رفيع المكان قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى مجتهد في جهادهم وبلاده متسعة ومدنهم عظيمة منها الكفار والقرم والماجر وأزاق وسرادق "سوادق" وخوارزم وحضرته السرا وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها، وهم مولانا أمير المؤمنين ظل الله في أرضه إمام الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة أيد الله أمره وأعز نصره1، وسلطان مصر والشام، وسلطان العراق، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد تركسان وما وراء النهر، وسلطان الهند، وسلطان الصين، ويكون هذا السلطان إذا سافر في محلة على حدة معه مماليكه وأرباب دولته وتكون كل خاتون من خواتينه على حدة في محلتها وإذا أراد أن يكون عنده واحدة

_ 1 يقصد به السلطان أبا عنان فارس المريني.

منهنّ بعث إليها يعلمها بذلك فتتهيأ له. وله في محل قعوده وسفره وأموره ترتيب عجيب بديع. ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تسمى قبة الذهب مزينة بديعة وهي من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب وسطها سرير من خشب مكسو بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة ورؤوسها مرصعة بالجواهر ويقعد السلطان على السرير وعن يمينه الخاتون طيطغلي، وتليها الخاتون كبك، وعلى يساره الخاتون بَيَلُون، وتليها الخاتون أُردجا، ويقف أسفل السرير على اليمين ولد السلطان تين بك، وعن الشمال ولده الثاني جان بك، وتجلس بين يديه ابنته أيت كجك، وإذا أتت إحداهن قام لها السلطان وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير وأما طيطغلي وهي الملكة وأحظاهن عنده فإنه يستقبلها إلى باب القبة فيسلم عليها ويأخذ بيدها فإذا صعدت على السرير وجلست حينئذ يجلس السلطان وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب. ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء فتنصب لهم كراسيهم عن اليمين والشمال وكل إنسان منهم إذا أتى مجلس السلطان يأتي معه غلام بكرسيه ويقف بين يدي السلطان أبناء الملوك من بني عمه وإخوته وأقاربه ويقف مقابلتهم عند باب القبة أولاد الأمراء الكبار ويقف خلفهم وجوه العساكر عن يمين وعن شمال ثم يدخل الناس للسلام الأمثل فالأمثل ثلاثة ثلاثة فيسلمون وينصرفون فيجلسون على بعد. فإذا كان بعد صلاة العصر انصرف الملكة من الخواتين ثم ينصرف سائرهن فيتبعها إلى محلتها فإذا دخلت إليها انصرفت كل واحدة إلى محلتها راكبة عربتها ومع كل واحدة نحو خمسين جارية راكبات على الخيل وأمام العربات نحو عشرين من قواعد النساء راكبات على الخيل فيما بين الفتيان والعربة وخلف الجميع نحو مائة مملوك من الصبيان وأمام الفتيان نحو مائة من المماليك الكبار ركباناً ومثلهم مشاة بأيديهم القضبان والسيوف مشدودة على أوساطهم وهم بين الفرسان والفتيان وهكذا ترتيب كل خاتون منهن في انصرافها ومجيئها. وكان نزولي من المحلة في جوار ولد السلطان جان بك الذي يقع ذكره فيما بعد، وفي الغد من يوم وصولي دخلت إلى السلطان بعد صلاة العصر، وقد جمع المشايخ والقضاة والفقهاء والشرفاء والفقراء وقد صنع طعاماً كثيراً، وأفطرنا بمحضره وتكلم السيد الشريف نقيب الشرفاء ابن عبد

الحميد والقاضي حمزة في شأني بالخير وأشاروا على السلطان بإكرامي، وهؤلاء الأتراك لا يعرفون إنزال الوارد ولا إجراء النفقة وإنما يبعثون له الغنم والخيل للذبح وروايا القِمِزّ وتلك كرامتهم. وبعد هذا بأيام صليت صلاة العصر مع السلطان فلما أردت الإنصراف أمرني بالقعود وجاءوا بالطعام والمشروبات كما يصنع من الدوقي ثم باللحوم المسلوقة من الغنم والخيل وفي تلك الليلة أتيت السلطان بطبق حلواء فجعل إصبعه عليه وجعله على فيه ولم يزد على ذلك.

أخبار الخواتين وترتيبهن

أخبار الخواتين وترتيبهنّ: وكل خاتون من الخواتين تركب في عربة للبيت، وفي البيت الذي تكون فيه قبة من الفضة المموهة بالذهب أو من الخشب المرصع وتكون الخيل التي تجر عربتها مجللة بأثواب الحرير المذهب وخديم العربة الذي يركب أحد الخيل فتى يدعى القشي، والخاتون قاعدة في عربتها وعن يمينها امرأة من القواعد تسمى أوُلُو خاتون "بضم الهمزة واللام" ومعنى ذلك الوزيرة وعن شمالها امرأة من القواعد أيضا تسمى كجك خاتون "بضم الكاف والجيم" ومعنى ذلك الحاجبة، وبين يديها ست من الجواري الصغار يقال لهن البنات فائقات الجمال متناهيات الكمال ومن ورائها ثنتان منهن تستند إليهن وعلى رأس الخاتون البغطاق وهو مثل التاج الصغير مكلل بالجوهر وبأعلاها ريش الطواويس وعليها ثياب حرير مرصعة بالجواهر شبه المنوت "الملوطة" التي يلبسها الروم وعلى رأس الوزيرة والحاجبة مقنعة حرير مزركشة الحواشي بالذهب والجوهر وعلى رأس كل واحدة من البنات الكلا وهو شبه الأقروف وفي أعلاها دائرة ذهب مرصعة بالجوهر وريش الطواويس من فوقها وعلى كل واحدة ثوب من الحرير مذهب يسمى النخ، ويكون بين يدي الخاتون عشرة أو خمسة عشر من الفتيان الروميين والهنديين وقد لبسوا ثياب الحرير المذهب المرصعة بالجواهر وبيد كل واحد منهم عمود ذهب أو فضة أو يكون من عود ملبس بهما وخلف عربة الخاتون نحو مائة عربة في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار وثيابهن الحرير وعلى رؤوسهن الكلأ وخلف هذه العربات نحو ثلاثمائة عربة تجرها الجمال والبقر وتحمل خزائن الخاتون وأموالها وأثاثها وطعامها ومع كل عربة غلام موكل بها متزوج بجارية من الجواري التي ذكرناها فإن العادة عندهنّ أن لا يدخل بين الجواري من الغلمان إلا من كان له بينهن زوجة وكل خاتون فهي على هذا الترتيب ولنذكرهن على الإنفراد. وكانت الخاتون الكبرى هي الملكة أم ولدي السلطان جاك بك وتين بك، وسنذكرهما وليست أم ابنته ايت كجك وأمها كانت الملكة قبل هذه وسم هذه الخاتون طَيْطُغْلي "بفتح الطاء المهملة الأولى وإسكان الياء آخر الحروف وضم الطاء الثانية وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام وياء مد"، وهي أحظى نساء هذا

السلطان عنده، وعندها يبيت أكثر لياليه ويعظمها الناس بسبب تعظيمه لها، وإلا فهي أبخل الخواتين. وحدثني من أعتمده من العارفين بأخبار هذه الملكة أن السلطان يحبها للخاصية التي فيها وهي أنه يجدها كل ليلة كأنها بكر. وذكر لي غيره أنها من سلالة المرأة التي يذكر أن الملك زال عن سليمان عليه السلام بسببها ولما عاد إليه ملكه أمر أن توضع بصحراء لا عمارة فيها فوضعت بصحراء قفجق. وان رحم هذه الخاتون شبه الحلقة خلقة وكذلك كل من هو من نسل المرأة المذكورة. ولم أر بصحراء قفجق ولا غيرها من أخبر أنه رأى امرأة على هذه الصورة ولا سمع بها إلا هذه الخاتون، اللهم إلا أن بعض أهل الصين أخبرني أن بالصين صنفاً من نسائها على هذه الصورة ولم يقع بيدي ذلك ولا عرفت له حقيقة. وفي غد اجتماعي بالسلطان دخلت إلى هذه الخاتون وهي قاعدة فيما بين عشر من النساء القواعد كأنهن خديمات لها وبين يديها نحو خمسون جارية صغاراً يسمون البنات وبين أيديهن طيافير الذهب والفضة مملوءة بحب الملوك1 وهن ينقينه وبين يدي الخاتون صينية ذهب مملوءة منه وهي تنقيه فسلمنا عليها. وكان في جملة أصحابي قاريء يقرأ القرآن على طبقة المصريين بطريقة حسنة وصوت طيب فقرأ ثم أمرت أن يؤتى بالقِمَزّ فأُتي به في أقداح خشب لطاف خفاف فأخذت القدح بيدها وناولتني إياه وتلك نهاية الكرامة عندهم ولم أكن شربت القمز قبلها ولكن لم يمكني إلى قبوله وذقته ولا خير فيه، ودفعته لأحد أصحابي وسألتني عن كثير من حال سفرنا، فأجبناها ثم انصرفنا عنها وكان ابتداؤنا بها لأجل عظمتها عند الملك. أما الخاتون التي تلي الملكة فكان اسمها كبك خاتون "بفتح الكاف الأولى وكسر الباء الموحدة" ومعناها بالتركية النخالة، وهي بنت الأمير نَغَطَيْ "واسمه بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة" وأبوها حي مبتلى بعلة النقرس، وقد رأيته في غد دخولنا على الملكة. دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ المصحف الكريم وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد ونحو عشرين من البنات يطرزون ثياباً فسلمنا عليها وأحسنت في السلام والكلام وقرأ قارئنا فاستحسنته، وأمرت بالقمز فأحضر وناولتني القدح

_ 1 ثمار الكرز.

بيدها كمثل ما فعلته الملكة وانصرفنا عنها. وأما الخاتون الثالثة فكان اسمها بَيَلُون "بياء موحدة وآخر الحروف كلاهما مفتوح ولام مضموم وواو مد ونون" وهي بنت ملك القسطنطينية العظمى السلطان تكفور ودخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصع، قوائمه فضة وبين يديها نحو مائة جارية روميات وتركيات ونوبيات، منهن قائمات وقاعدات والفتيان على رأسها والحجاب بين يديها من رجال الروم فسألت عن حالنا ومقدمنا وبُعد أوطاننا، وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان بين يديها رقة منها وشفقة وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها وهي تنظر إلينا. ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا علينا وترددوا إلينا وطالبونا بحوائجكم وأظهرت مكارم الأخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاثة من جياد الخيل وعشرة من سائرها ومع هذه الخاتون كان سفري إلى القسطنطينية العظمى كما نذكره بعد. وكانت الخاتون الرابعة "أُرْدُجا "بضم الهمزة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وجيم وألف" وأرد بلسانهم المحلة وسميت بذلك لولادتها في المحلة، وهي بنت الأمير الكبير عيسى بك أمير الأُلُوس "بضم الهمزة واللام" ومعناها أمير الأمراء وأدركته حيّاً وهو متزوج ببنت السلطان إيت كجك وهذه الخاتون من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل وأشفقهن وهي التي بعثت إلي لما رأيت بيتي على التل عند جواز المحلة كما قدمناه، ودخلنا عليها فرأينا من حسن خلقها وكرم نفسها ما لا مزيد عليه، وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها، ودعت بالقِمِزّ فشرب أصحابنا وسألت عن حالنا فأجبناها. ودخلت أيضا إلى أختها زوجة الأمير علي بن أزرق. وكانت للسلطان المعظم أوزبك ابنة اسمها إيت كجُك وإيت "بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة وكجك بضم الكاف وضم الجيم" ومعنى اسمها الكلب الصغير، فإن إيت هو الكلب، وكجُك هو الصغير، وقد قدمنا أن الترك يسمون بالفال كما تفعل العرب، وتوجهنا إلى هذه الخاتون بنت الملك وهي في محلة منفردة على نحو ستة أميال من محلة والدها فأمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد وجماعة الطلبة والمشايخ

والفقهاء1 وحضر زوجها الأمير عيسى الذي بنته زوجة السلطان فقعد معها على فراش واحد وهومعتل بالنقرس، فلا يستطيع التصرف على قدميه ولا ركوب الفرس وإنما يركب العربة وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدامه وأدخلوه إلى المجلس محمولاً وعلى هذه الصورة رأيت أيضا الأمير نغطي، وهو أبو الخاتون الثانية وهذه العلة فاشية2 في هؤلاء الأتراك ورأينا من هذه الخاتون بنت السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم نره من سواها وأجزلت الإحسان وأفضلت جزاها الله خيراً. وكان للسلطان ولدان شقيقان، وأمهما جميعا الملكة طَيْطُغْلي التي قدمنا ذكرها، والأكبر منهما اسمه تِينَ بك "بتاء معلوة مكسورة وياء مد ونون مفتوح" وبك معناه الأمير، وتين معناه الجسد. فكأن اسمه أمير الجسد، واسم أخيه جان بك "بفتح الجيم وكسر النون"، ومعنى جَانِ الروح فكأنه يسمى أمير الروح. وكل واحد منهما له محلة على حدة وكان تين بك من أجمل خلق الله صورة. وعهد له أبوه بالملك وكانت له الخطوة والتشريف عنده. ولم يرد الله ذلك فإنه لما مات أبوه ولي يسيراً، ثم قتل لأمور قبيحة جرت له. وولي أخوه جانِ بك وهو خير منه وأفضل. وكان السيد الشريف ابن عبد الحميد هو الذي تولى تربية جَانِ بك وأشار عليّ هو والقاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والإمام المقري حسام الدين البخاري وسواهم حين قدومي أن يكون نزولي بمحلة جانِ بك المذكور لفضله ففعلت ذلك.

_ 1 تكرر ذكر الفقهاء في هذه العبارة، ويظهر – والله أعلم – أن المقصود بالأولى – كبار الفقهاء، وبالأخيرة: عامتهم. 2 لا غرابة في ذلك، فالنقرس يسمى: داء الملوك.

ذكر سفري إلى مدينة بلغار

ذكر سفري إلى مدينة بلغار: وكنت سمعت بمدينة بلغار1 فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضاً في عكس ذلك الفصل. وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر. فطلبت منه أن يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني

_ 1هي المعروفة بستالينغراد في الاتحاد السوفياتي، وصار اسمها اليوم فولغاغراد. "م. ق".

إليها وردني إليه. ووصلتها في رمضان، فلما صلينا المغرب أفطرنا. وأذن بالعشاء في أثناء إفطارنا فصلينا وصليناها التراويح والشفع والوتر. وطلع الفجر إثر ذلك وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضاً. وأقمت بها ثلاثاً.

ذكر أرض الظلمة

ذكر أرض الظلمة: وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار وبينهما أربعون يوماً ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤنة فيه وقلة الجدوى والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا يثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابه فيها والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها موقرة بطعامه وشرابه وحطبه فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مراراً كثيرة وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها. وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب ويكون هو المقدم تتبعه سائر الكلاب بالعربات فإذا وقف وقفت وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولاً قبل بني آدم وإلا غضب الكلب وفر وترك صاحبه للتلف. فإذا كمُلت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلُوا عند الظلمة وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك وعادوا إلى منزلهم المعتاد فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه وإن لم يرضه تركه، فيزيدونه وربما رفعوا متاعهم أعني أهل الظلمة وتركوا متاع التجار وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم أمن الجن هو أم الإنس ولا يرون أحداً. والقاقم هو أحسن أنواع الفراء، وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار، وصرفها من ذهبنا مائتان وخمسون وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير على طول الشبر وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله، والسمور دون ذلك تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها. ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلاً بفرواتهم عند العنق وكذلك تجار فارس والعراقين،

وعدت من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي، فوجدت محلة السلطان على الموضع المعروف ببش دغ وذلك في الثامن والعشرين من رمضان وحضرت معه صلاة العيد وصادف يوم العيد الجمعة. ولما كان صباح العيد ركب السلطان في عساكره العظيمة وركبت كل خاتون عربتها ومعها عساكرها وركبت بنت السلطان والتاج على رأسها إذ هي الملكة على الحقيقة ورثت الملك من أمها وركب أولاد السلطان كل واحد في عسكره. وكان قد قدم لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايلي ومعه جماعة من الفقهاء والمشايخ فركبوا وركب القاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد. وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك ولي عهد السلطان ومعهم الأطبال والأعلام. فصلى بهم القاضي شهاب الدين وخطب أحسن خطبة وركب السلطان وانتهى إلى برج خشب يسمى عندهم الكشك فجلس فيه ومعه خواتينه ونصب برج ثان دونه فجلس فيه ولي عهده وابنته صاحبة التاج ونصب برجان دونهما عن يمينه وشماله فيهما أبناء السلطان وأقاربه ونصبت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك وتسمى الصندليات عن يمين البرج وشماله فجلس كل واحد على كرسيه ثم نصبت طبلات للرمي، لكل أمير طومان طبلة مختصة به، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر يقودون مائه وسبعين ألفاً وعسكره أكثر من ذلك ونصب لكل أمير شبه منبر فقعد عليه وأصحابه يلعبون بين يديه فكانوا على ذلك ساعة. ثم أتي بالخلع فخلعت على كل أمير خلعة وعندما يلبسها يأتي على أسفل برج السلطان فيخدم وخدمته أن يمس الأرض بركبته اليمنى ويمد رجله تحتها والأخرى قائمة ثم يؤتى بفرس مسرج ملجم فيرفع حافره ويقبل فيه الأمير ويقوده بنفسه إلى كرسيه وهنالك يرتبه ويقف مع عسكره ويفعل هذا الفعل مع كل أمير منهم. ثم ينزل السلطان عن البرج ويركب الفرس وعن يمينه ولي العهد وتليه بنته الملكة إيت كجك وعن يساره ابنه الثاني وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوة بأثواب الحرير المذهب والخيل التي تجرها مجللة بالحرير المذهب. وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والوزراء والحجاب وأرباب الدولة فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم إلى أن يصل إلى

الوطاق والوِطاق "بكسر الواو" هو إفراج. وقد نصبت هنالك باركة "باركاه" عظيمة، والباركة عندهم بيت عظيم له أربعة أعمدة من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب وفي الأعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة له بريق وشعاع وتظهر هذه الباركة على البعد كأنها ثنية. ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتان ويفرش ذلك كله بفرش الحرير وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم وهم يسمونه التخت وهو من خشب مرصع وأعواده مكسوة بصفائح فضة مذهبة وقوائمه من الفضة الخالصة المموهة وفوقه فرش عظيم وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس عليها السلطان والخاتون الكبرى وعن يمينه مرتبة جلست بها بنته ايت كجك ومعها الخاتون أردوجا، وعن يساره مرتبة جلست عليها الخاتون بيلون ومعها الخاتون كبك، ونصب عن يمين السرير كرسي قعد عليه تين بك ولد السلطان ونصب عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني ونصبت كراسي عن اليمن والشمال جلس فوقها أبناء الملوك الكبار ثم الأمراء الصغار مثل أمراء هزارة وهم الذين يقودون ألفاً. ثم أتي بالطعام على موائد الذهب والفضة وكل مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة وتوضع بين يدي كل أمير مائدة ويأتي الباروجي وهو مقطع اللحم وعليه ثياب حرير وقد ربط عليها فوطة حرير وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها ويكون لكل أمير باروجي فإذا قدمت المائدة قعد بين يدي أمير هـ ويؤتى بصفحة صغيرة من الذهب أو الفضة فيها ملح محلول بالماء فيقطع الباورجي اللحم قطعاً صغاراً ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطاً بالعظم فإنهم لا يأكلون منه إلا ما اختلط بالعظم. ثم يؤتى بأواني الذهب والفضة للشرب وأكثر شربهم نبيذ العسل وهم حنفية المذهب يحللون شرب النبيذ. فإذا أراد السلطان أن يشرب أخذت بنته القدح بيدها وخدمت برجلها ثم ناولته القدح فشرب ثم تأخذ قدحاً آخر فتناوله للخاتون الكبرى فتشرب منه ثم تناوله لسائر الخواتين على ترتيبهن، ثم يأخذ ولي العهد القدح ويخدم ويناوله أباه فيشرب ثم الخواتين ثم أخته ويخدم جميعهن ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه ويخدم له ثم يقوم الأمراء الكبار فيسقي كل واحد منهم ولي العهد ويخدم له ثم يقوم أبناء الملوك ويغنون أثناء ذلك بالموالية. وكانت قد نصبت قبة كبيرة إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشايخ

وأنا معهم، فأوتينا بموائد الذهب والفضة يحمل كل واحدة أربعة من كبار الأتراك ولا يتصرف في ذلك اليوم من بين يدي السلطان إلا الكبار فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد فكان من الفقهاء من أكل ومنهم من تورع عن الأكل في موائد الفضة والذهب ورأيت مدّ البصر عن اليمين والشمال من العربات عليها روايا القِمِزّ فأمر السلطان بتفريقها على الناس وأتوا الي بعربة منها فأعطيتها لجيراني من الأتراك. ثم أتينا المسجد ننتظر صلاة الجمعة فأبطأ السلطان فمن قائل أنه لا يأتي لأن السكر قد غلب عليه ومن قائل أنه لا يترك الجمعة فلما كان بعد تمكن الوقت أتى وهو يتمايل فسلّم على السيد الشريف وتبسم له وكان يخاطبه بآطا وهو الأب بلسان التركية ثم صلينا الجمعة وانصرف الناس إلى منازلهم وانصرف السلطان إلى الباركة فبقي على حاله إلى صلاة العصر ثم انصرف الناس أجمعون وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته. ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلة لما انقضى العيد فوصلنا إلى مدينة الحاج تَرْخَان ومعنى ترخان عندهم الموضع المحرر من المغارم "وهو بفتح المثناة وسكون الراء وبفتح الخاء المعجم وآخره نون" والمنسوب إليه هذه المدينة هو حاج من الصالحين تركي نزل بموضعها وحرر له السلطان هذا الموضع فصار قرية عظمت وتمدنت. وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنية على نهر أتل وهو من أنهار الدنيا الكبار وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التبن فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر والتبن هنالك لا تأكله الدواب لأنه يضرها وكذلك ببلاد الهند وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر والمياه المتصلة به ثلاث مراحل وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء فيغرقون ويهلكون. ولما وصلنا مدينة الحاج ترخان رغبت الخاتون بَيَلون ابنة ملك الروم من السلطان أن يأذن لها في زيارة أبيها لتضع حملها عنده وتعود إليه فأذن لها. ورغبت منه أن يأذن لي في التوجه بصحبتها لمشاهدة القسطنطينية العظمى فمنعني خوفاً عليّ فلاطفته وقلت له: إنما أدخلها في حرمتك وجوارك، فلا أخاف من أحد. فأذن لي وودعناه. ووصلني بألف وخمسمائة دينار وخلعة

وأفراس كثيرة وأعطتني كل خاتون منهن سبائك الفضة وهم يسمونها بصَوم "بفتح الصاد المهمل" واحدتها صومة وأعطت بنته أكثر منهن، وكستني وأركبتني واجتمع لي من الخيل والثياب وفروات السنجاب والسمور جملة.

التوجة إلى القسطنطينية

التوجه إلى القسطنطينية: وسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها ورحل السلطان في تشييعها مرحلة ورجع هو والملكة وولي عهده. وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن. وسافر الأمير بيدرة في خمسة آلاف من عسكره وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين والباقون من الترك وكان معها من الجواري نحو مائتين وأكثرهن روميات. وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب ونحو ثلاثمائة من البقر ومائتين من الجمال لجرها وكان معها من الفتيان الروميين عشرة ومن الهنديين مثلهم وقائدهم الأكبر يسمى بسنبل الهندي وقائد الروميين يسمى بميخائيل ويقول له الأتراك لؤلؤ وهو من الشجعان الكبار. وتركت جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع الحمل. وتوجهنا إلى مدينة أُكَك. وهي "بضم الهمزة وفتح الكاف الأولى" مدينة متوسطة حسنة العمارة كثيرة الخلوات شديدة البرد وبينها وبين السرا حضرة السلطان مسيرة عشرة وعلى مسيرة يوم من هذه المدينة جبال الروس وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قباح الصور أهل غدر، وعندهم معادن الفضة. ومن بلادهم يؤتى بالصوم، وهي سبائك الفضة التي بها يباع ويشترى في هذه البلاد ووزن الصومة منها خمس أواقي. ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة سُرْدَق "وضبط اسمها بضم السين المهمل وسكون الراء وفتح الدال المهمل وآخره قاف". وهي من مدن دشت قفجق على ساحل البحر ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها وبخارجها البساتين والمياه وينزلها الترك وطائفة من الروم تحت ذمتهم وهم أهل الصنائع وأكثر بيوتها خشب. وكانت هذه المدينة كبيرة فخرب معظمها

بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك وكانت الغلبة للروم فانتصر للترك أصحابهم وقتلوا الروم شر قتلة ونفوا أكثرهم وبقي بعضهم تحت الذمة إلى الآن. وكانت الضيافة تحمل إلى الخاتون في كل منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر الدوقي والقمز وألبان البقر والغنم. والسفر في هذه البلاد مضحىً ومعشىً. وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حد بلاده تعظيماً لها لا خوفاً عليها لأن تلك البلاد آمنة. ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم بابا سلطوق وبابا عندهم بمعناه عند البربر سواء إلا أنهم يفخمون الباء، وسَلْطُوق "بفتح السين المهمل وإسكان اللام وضم الطاء المهمل وآخره قاف"، ويذكرون أن سلطوق هذ كان مكاشفاً لكن يذكر عنه أشياء ينكرها الشرع. وهذه البلاد آخر بلاد الأتراك بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يوماً في برية غير معمورة منها ثمانية أيام لا ماء بها يتزود لها الماء ويحمل في الروايا والقرب على العربات وكان دخولنا إليها في أيام البرد فلم نحتج إلى كثير من الماء والأتراك يرفعون الألبان في القرب ويخلطونها بالدوقي المطبوخ ويشربونها فلا يعطشون وأخذنا من هذه البلدة في الاستعداد للبرية واحتجت إلى زيادة أفراس فأتيت الخاتون فأعلمتها بذلك. وكنت أسلم عليها صباحاً ومساءً ومتى أتيتها ضيافة تبعث إلي بالفرسين والثلاثة وبالغنم فكنت أترك الخيل لأذبحها وكان من معي من الغلمان والخدم يأكلون مع أصحابنا الأتراك فاجتمع لي نحو خمسين فرساً. وأمرت إلي الخاتون بخمسة عشر فرساً وأمرت وكيلها ساروجة الرومي أن يختارها سماناً من خيل المطبخ وقالت لا تخف فإن احتجت إلى غيرها زدناك. ودخلنا البرية في منتصف ذي القعدة فكان سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة وعشرين يوماً وإقامتنا خمسة ورحلنا من هذه البرية ثمانية عشر يوماً مضحىً ومعشىً وما رأينا إلا خيراً. والحمد لله. ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مَهْتُولي، وهو أول عمالة الروم "وضبط اسمه بفتح الميم وسكون الهاء وضم التاء المعلوة وواو مد ولام مكسورة وياء" وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها، فوصلنا إلى هذا

الحصن فاستقبلنا كفالي نقوله الرومي في عسكر عظيم وضيافة عظيمة وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية وبين مَهْتُولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوماً منها ستة عشر يوماً إلى الخليج وستة منه إلى القسطنطينية ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال وتترك العربات به لأجل الوعر والجبال وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة وبعثت إلي الخاتون بستة منها وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال فأمر لهم بدار ورجع الأمير بيدرة بعساكره ولم يسافر مع الخاتون إلا ناسها وتركت مسجدها بهذا الحصن وارتفع حكم الأذان. وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا. وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر. ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي. ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا. ثم وصلنا حصن مسلمة بن عبد الملك وهو بسفح جبل على نهر زخار يقال له اصطقيلي ولم يبق من هذا الحصن إلا آثاره وبخارجه قرية كبيرة، ثم سرنا يومين ووصلنا إلى الخليج وعلى ساحله قرية كبيرة فوجدنا فيه المد فأقمنا حتى كان الجزر وخضناه وعرضه نحو ميلين ومشينا أربعة أميال في رمال ووصلنا الخليج الثاني فخضناه وعرضه نحو ثلاثة أميال ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل ووصلنا الخليج الثالث وقد ابتدأ المد فتعبنا فيه وعرضه ميل واحد فعرض الخليج كله مائيه ويابسه اثنا عشر ميلا وتصير ماء كلها في أيام المطر فلا تخاض إلا في القوارب. وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفَنِيكة "واسمها بفاء مفتوحة ونون وياء مد وكاف مفتوح"، وهي صغيرة لكنها حسنة مانعة وكنائسها وديارها حسان والأنهار تخرقها والبساتين تحفها ويدخر بها العنب والإجاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً. والخاتون في قصر لأبيها هنالك ثم قدم أخوها وشقيقها واسمه كفالي قراس في خمسة آلاف فارس شاكي، السلاح ولما أرادوا وا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرساً أشهب ولبس ثياباً بيضاء وجعل رأسه مظلّلاً مكلّلاً بالجواهر، وجعل عن يمينه خمسة من أبناء الملوك وعن يساره مثلهم لابسين البياض أيضاً وعليهم مظللات مزركشة بالذهب، وجعل بين يديه مائة من المشائين ومائة فارس قد

أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم، وكل واحد منهم يقود فرساً مسرجاً مدرعاً عليه شكة فارس من البيضة المجوهرة والدروع والتركش والقوس والسيف، وبيده رمح في طرف رأسه راية. وأكثر تلك الرماح مكسوة بصفائح الذهب والفضة وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان وقسم فرسانه على أفواج كل فوج فيه مائتا فارس، لهم أمير قد قدم أمامه عشرة من الفرسان شاكي السلاح وكل واحد منهم يقود فرساً وخلفه عشرة من العلامات ملونة بأيدي عشرة من الفرسان وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات. وركبت الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها وهم نحو خمسمائة عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب والفضة المرصعة وعلى الخاتون حلة يقال لها النخ ويقال لها أيضا النسيج مرصعة بالجوهر وعلى رأسها تاج مرصع فرسها مجلل بحرير مزركش بالذهب، وفي يديه ورجليه خلاخل الذهب وفي عنقه قلائد مرصعة ومعظم السرج مكسو ذهباً مكلل جوهراً وكان التقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد وترجل لها أخوها لأنه أصغر منها وقبل ركابها وقبلت رأسه وترجل الأمراء وأولاد الملوك وقبّلوا جميعاً ركابها وانصرفت مع أخيها. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر لا نثبت الآن اسمها ذات أنهار وأشجار نزلنا بخارجها ووصل أخو الخاتون ولي العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع وعلى رأسه تاج وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك وعن يساره مثلهم وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء إلا أن الحفل أعظم والجمع أكثر وتلاقت معه أخته في مثل زيها الأول وترجلاَ جميعاً وأوتي بخباء حرير فدخلت فيه ولا أعلم كيفية سلامها. ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية فلما كان الغد خرج أهلها من رجال ونساء وصبيان ركباناً ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس وضربت عند الصبح الأطبال والأبواق والأنفار وركبت العساكر وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب هذه الدولة والخواص وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان ورجال بأيديهم عصى طوال في أعلى كل عصا شبه كرة من جلد يرفعون بها الورق وفي وسط الرواق مثل القبة يرفعها الفرسان بالعصى ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج ولم أقدر على الدخول فيما بينهم فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها خوفاً على نفسي. وذكر

لي أنها لما قربت من أبويها ترجلت وقبّلت الأرض بين أيديهما ثم قبّلت حافري فرسيهما وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك. وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى وقد ضربوا نواقيسها حتى ارتجت الآفاق لاختلاف أصواتها ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به مائة رجل معهم قائد لهم فوق دكانة وسمعتهم يقولون سراكنوا سراكنوا، ومعناه المسلمون. ومنعونا من الدخول. فقال لهم أصحاب الخاتون: إنهم من جهتنا. فقالوا لا يدخلون إلا بإذن فأقمنا بالباب وذهب بعض أصحاب الخاتون فبعث من أعلمها بذلك وهي بين يدي والدها فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا وعيّن لنا دار بمقربة من دار الخاتون وكتب لنا أمراً بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة ونودي بذلك في الأسواق وأقمنا بالدار ثلاثاً فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغلة والدجاج والسمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش. وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان. واسمه تَكْفُور "بفتح التاء المثناة وسكون الكاف وضم الفاء وواو وراء" بن السلطان جرجيس. وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة، لكنه تزهد وترهب وانقطع للعبادة في الكنائس، وترك الملك لولده وسنذكره. وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعث إليّ الخاتون الفتى سنبل الهندي فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر فجزنا أربعة أبواب في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ودخل ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين ففتشوني لئلا يكون معي سكين وقال لي القائد تلك عادة لهم لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام غريب أو بلدي وكذلك الفعل بأرض الهند ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي واثنان من ورائي فدخلوا بي إلى مشور كبير حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد في وسطه ساقية ماء ومن جهتها الأشجار والناس واقفون يميناً ويساراً سكوتاً لا يتكلم أحد منهم وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون وأشار إليهم رجل فتقدموا بي وكان أحدهم يهودياً فقال لي بالعربي لا تخف فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد وأنا

الترجماني، وأصلي من بلاد الشام. فسألته كيف أسلم. فقال قل السلام عليكم. ثم وصلت إلى قبة عظيمة. والسلطان على سريره وزوجته أم هذه الخاتون بين يديه وأسفل السرير الخاتون وإخوتها وعن يمينه ستة رجال وعن يساره أربعة وكلهم بالسلاح فأشار إلي قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنيهة ليسكن روعي ففعلت ذلك ثم وصلت إليه فسلمت عليه وأشار أن أجلس فلم أفعل وسألني عن بيت المقدس والصخرة المقدسة وعن القمامة وعن مهد عيسى وعن بيت لحم وعن مدينة الخليل عليه السلام ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم فأجبته عن ذلك كله، واليهودي يترجم بيني وبينه. فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أكرموا هذا الرجل وأمنوه ثم خلع علي خلعة، وأمر لي بفرس ملجم ومظلة من التي يجعله الملك فوق رأسه وهي علامة الأمان. وطلبت منه أن يعين من يركب معي بالمدينة في كل يوم حتى أشاهد عجائبها وغرائبها وأذكرها في بلادي. فعين لي ذلك. ومن العوائد عندهم أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والأنفار والأطبال ليراه الناس وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك لئلا يؤذون فطافوا بي في الأسواق. كانت المدينة متناهية في الكبر منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم المد والجزر، على شكل وادي سلا من بلاد المغرب. وكانت عليه فيما تقدم قنطرة مبنية فخربت وهو الآن يعبر في القوارب واسم هذا النهر أَبْسُمِي "بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وضم السين المهمل وكسر الميم وياء مد". وأحد القسمين من المدينة يسمى أصْطَنبول "بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو مد ولام"، وهو بالعدوة الشرقية من النهر وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس وأسواقه وشوارعه مفروشة بالصفاح متسعة وأهل كل صناعة على حدة لا يشاركهم سواهم وعلى كل سوق أبواب تسد عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة بها نساء والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال وعرضه مثل ذلك أو أكثر وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان. والسور يحيط بهذا الجبل، وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر. وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة

والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة. وأمام القسم الثاني منها فيسمى الغَلَطَة "بغين معجمة ولام وطاء مهمل مفتوحات" وهو بالعدوة الغربية من النهر شبيه برباط الفتح في قربةه من النهر. وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه وهم أصناف فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسة. وحكمهم إلى ملك القسطنطينية، يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية. وربما استعصوا عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا وجميعهم أهل تجارة ومرساهم من أعظم المراسي رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وأسواق هذا القسم حسنة إلا أن الأقذار غالبة عليها ويشقها نهر صغير قذر نجس وكنائسهم لا خير فيها. إلاّ أن الكنيسة العظمى - إنما نذكر خارجها، وأما داخلها فلم أشاهده - كانت تسمى عندهم أَيَاصُوفِيَا "بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وألف وصاد مضموم وواو مد وفاء مكسورة وياء كالأولى وألف" ويذكر أنها من بناء آصف بن برخياء وهو ابن خالة سليمان عليه السلام. وهي من أعظم كنائس الروم وعليها سور يطيف بها فكأنها مدينة وأبوابها ثلاثة عشر باباً. ولها حرم هو نحو ميل عليه باب كبيرة ولا يمنع أحد من دخوله وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره، وهو شبه مشهور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة لها حائطان مرتفعان نحو ذراع مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة والأشجار منظمة عن جهتي الساقية ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع عليه دوالي العنب وفي أسفله الياسمين والرياحين وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب يجلس عليها خدام ذلك الباب وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب يجلس بها قضاتهم وكتاب دواوينهم وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب وفيها كرسي كبير مطبق بالملف يجلس فوقه قاضيهم وسنذكره. وعن يسار القبة التي على باب هذا المشور سوق العطارين والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين أحدهما يمر بسوق العطارين والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقمّون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها ولا يدعون

أحداً بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام وهو على باب الكنيسة مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها حتى صارت صليباً وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب وحلقتاه من الذهب الخالص. وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف وأن بعضهم من ذرية الحواريين وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله. ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحاً إلى زيارة هذه الكنيسة ويأتي إليها البابا مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى لقائه ويترجل له وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه ويأتيه صباحاً ومساءً للسلام طول مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف.

نبذة عن المانستارت بقسطنطينية

نبذة عن المانستارت بقسطنطينية ... نبذة عن المانستارات بقسطنطينية: والمانستار1 على مثل لفظ المارستان إلا أن نونه متقدمة وراءه متأخرة وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين وهذه المانستارات بها كثيرة فمنها المانستار عمره الملك جرجيس والد ملك القسطنطينية وسنذكره. وهو بخارج اصطنبول مقابل الغَلَطَة ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء وأحدهما للرجال والآخر للنساء وفي كل واحد منها كنيسة وتدور بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم بناهما أحد الملوك. ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هذين الآخرين ويطيف بها بيوت وأحدهما يسكنه العميان والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة ممن بلغ الستين أو نحوها ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة لذلك وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبد الملك الذي بناه وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستاراً أو

_ 1 المانستار هو دير الرهبان "موناستير".

ولبس المسوح، وهي ثياب الشعر وقلد ولده الملك واشتغل بالعبادة حتى يموت، وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات ويعملونها بالرخام والفسيفساء وهي كثيرة بهذه المدينة. ودخلت مع الرومي الذي عينه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر وفيه كنيسة فيها نحو خمسمائة بكر عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلانيس اللبد، ولهن جمال فائق، وعليهن أثر العبادة. وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن الإنجيل بصوت لم أسمع قط أحسن منه وحوله ثمانية من الصبيان على منابر ومعهم قسيسهم فلما قرأ هذا الصبي قرأ صبي آخر وقال لي الرومي أن هؤلاء البنات من بنات الملوك وهبن أنفسهن لخدمة هذه الكنيسة وكذلك الصبيان القراء ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة ودخلت أيضاً إلى كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبي يقرأ لهن على منبر وجماعة صبيان معه على منابر مثل الأولين فقال لي الرومي هؤلاء بنات الوزراء والأمراء يتعبدون بهذه الكنيسة ودخلت إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد وإلى كنائس فيها العجائز والقواعد من النساء وإلى كنائس فيها الرهبان يكون في الكنيسة منها مائة رجل أو أكثر أو أقل وأكثر هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون وكنائسها لا تحصى كثرة وأهل المدينة من جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلات الكبار شتاء وصيفاً والنساء لهن عمائم كبار. وقد ولّى الملك المترهب جرجيس الملك لابنه وانقطع للعبادة وبنى مانستاراً كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها وكنت يوماً مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماش على قدميه وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه أثر العبادة وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان وبيده عكاز وفي عنقه سبحة فلما رآه الرومي نزل وقال لي انزل فهذا والد الملك فلما سلم عليه الرومي سأله عني ثم وقف وبعث لي فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي وكان يعرف اللسان العربي قل لهذا السراكانوا يعني المسلم أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس والرجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمى قمامة وبيت لحم وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم، ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من

النصارى، وأطال السؤال ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفاً ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه وهو من كبارهم في الرهبانية ولما رآهم أرسل يدي فقلت له أريد الدخول معك إلى الكنيسة فقال للترجمان قل له لا بد لداخلها من السجود للصليب الأعظم فإن هذا مما سنته الأوائل ولا يمكن خلافه فتركته ودخل وحده ولم أراه بعدها. ولما فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتاب فرآني القاضي فبعث إلي أحد أعوانه فسأل الرومي الذي معي فقال له إنه من طلبة المسلمين فلما عاد إليه أخبره بذلك فبعث إلى أحد أعوانه وهم يسمون القاضي النجشي كفالي فقال لي النجشي كفالي يدعوك فصعدت إلى القبة التي تقدم ذكرها فرأيت شيخاً حسن الوجه واللمة عليه لباس الرهبان وهو الملف الأسود وبين يديه نحو عشرة من الكتاب يكتبون فقام إلي وقام أصحابه وقال أنت ضيف الملك ويجب علينا إكرامك وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر وأطال الكلام وكثر عليه الازدحام وقال لي لا بد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك فانصرفت عنه ولم ألقه بعد. ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم فأذنت لهم وأعطتهم عطاءً جزيلاً وبعثت معهم من يوصلهم إلى بلادهم أمير يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس وبعثت إلي فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم يسمونه البربرة وليس بالطيب، وألفي درهم بندقية وشقة ملف من عمل البنات وهو أجود أنواعه وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف وفرسين وذلك من عطاء أبيها وأوصت بي ساروجة وودعتها وانصرفت وكانت مدة مقامي عندهم شهراً وستة أيام. وسافرنا صحبة ساروجة فكان يكرمني حتى وصلنا إلى آخر بلادهم حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا فركبنا العربات ودخلنا البرية ووصل ساروجة معنا إلى مدينة بابا سلطوق وأقام بها ثلاثاً في الضيافة وانصرف إلى بلاده وذلك في اشتداد البرد وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن وفي رجلي خف من صوف وفوقه خف مبطن بثوب كتان من البرغالي وهو من جلد الفرس مبطن بجلد ذئب وكنت أتوضأ بالماء

الحار بمقربة من النار فما تقطر من الماء قطرة إلا جمدت لحينها وإذا غسلت وجهي بالماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من ثياب حتى يركبني أصحابي. ثم وصلت إلى مدينة الحاج ترخان حيث فارقنا السلطان أوزبك فوجدناه قد رحل واستقر بحضرة ملكه فسافرنا على أتل وما يليه من المياه ثلاثاً وهي جامدة وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعا من الجليد وجعلناه في القدرة حتى يصير ماء فنشرب منه ونطبخ به. ووصلنا إلى مدينة السَرَا "وضبط اسمها بسين مهمل وراء مفتوحة وألف"، وتعرف بسرا بركة وهي حضرة السلطان أوزبك ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا وعن ملك الروم ومدينته فأعلمناه. وأمره بإجراء النفقة علينا وأنزلنا. ومدينة السرا، من أحسن المدن، متناهية الكبر، في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق متسعة الشوارع. وركبنا يوماً مع بعض كبرائها، وغرضنا التطوف عليها ومعرفة مقدارها، وكان منزلنا في طرف منها فركبنا منه غدوة فما وصلنا لآخرها إلا بعد الزوال فصلينا الظهر وأكلنا طعامنا فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب ومشينا يوماً في عرضها ذاهبين راجعين في نصف يوم وذلك في عمارة متصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً وفيها طوائف من الناس منهم المغل وهم أهل البلاد والسلاطين وبعضهم مسلمون ومنهم الآص وهم مسلمون ومنهم القفجق والجركس والروس والروم وهم نصارى وكل طائفة تسكن محلة على حدة فيها أسواقها والتجار والغرباء من أهل العراقيين ومصر والشام وغيرها ساكنون بمحلة عليها سور احتياطاً على أموال التجارة. وقصر السلطان بها يسمى أَلْطُون طَاْش "بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الطاء المهمل وواو مد ونون" ومعناه الذهب وطاش "بفتح الطاء المهمل وشين معجم" معناه حجر وقاضي هذه الحضرة بدر الدين الأعرج من خيار القضاة.

وبها من مدرسي الشافعية الفقيه الإمام الفاضل صدر الدين سليمان اللكزي أحد الفضلاء، وبها من المالكية شمس الدين المصري وهو ممن يطعن في ديانته، وبها زاوية الصالح الحاج نظام الدين أضافنا بها وأكرمنا، وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدين الخوارزمي رأيته بها وهو من فضلاء المشايخ حسن الأخلاق كريم النفع شديد التواضع شديد السطو على أهل الدنيا يأتي إليه السلطان أوزبك زائراً في كل جمعة فلا يستقبله ولا يقوم إليه ويقعد السلطان بين يديه ويكلّمه ألطف كلام ويتواضع له، والشيخ بضد ذلك وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان فإنه يتواضع لهم ويكلّمهم بألطف كلام ويكرمهم وأكرمني جزاه الله خيراً، وبعث إلي بغلام تركي وشاهدت له بركة. كنت أردت السفر من السرا إلى خوارزم فنهاني عن ذلك، وقال لي: أقم أياماً وحينئذ تسافر فنازعتني النفس ووجدت رفقة كبيرة آخذة في السفر فيهم تجار أعرفهم فاتفقت معهم على السفر في صحبتهم وذكرت له ذلك فقال لي لا بد لك من الإقامة فعزمت على السفر فأبق لي الغلام أقمت بسببه وهذا من الكرامات الظاهرة. ولما كان بعد ثلاث وجد بعض أصحابي ذلك الغلام الآبق بمدينة الحاج ترخان فجاء به إليه فحينئذ سافرت إلى خوارزم وبينها وبين حضرة السرا صحراء مسيرة أربعين يوماً لا تسافر فيها الخيل لقلة الكلأ وإنما تجر العربات بها الجمال فسرنا من السرا عشرة أيام فوصلنا إلى مدينة سَرَاجُوق "بضم الجيم المعقود وواو وقاف"، ومعنى جوق صغير. فكأنهم قالوا سرا الصغيرة وهي على شاطيء نهر كبير زخار يقال له أُلُوصُو "بضم الجيم المعقود وواو وقاف" ومعناه الماء الكبير، وعليه جسر من قوارب كجسر بغداد وإلى هذه المدينة انتهى سفرنا بالخيل التي تجر العربات وبعناها بحساب أربع دنانير دراهم للفرس وأقل من ذلك لأجل ضعفها ورخصها بهذه المدينة واكترينا الجمال لجر العربات. وبهذه المدينة زاوية لرجل صالح معمر من الترك ويقال له أَطَا "بفتح الهمزة والطاء المهمل" ومعناه الوالد أضافنا بها ودعا لنا. وأضافنا أيضاً قاضيها ولا أعرف اسمه، ثم سرنا منها ثلاثين يوماً سيراً جاداً لا ننزل إلا ساعتين: إحداهما عند الضحى، والأخرى عند المغرب، وتكون الإقامة

قدر ما يطبخون الدوقي ويشربونه، وهو يطبخ من غلية واحدة، ويكون معهم الخليع من اللحم يجعلونه عليه ويصبون عليه اللبن وكل إنسان إنما ينام أو يأكل في عربته حال السير. وكان لي في عربتي ثلاث من الجواري. ومن عادة المسافرين في هذه البرية الإسراع لقلة أعشابها والجمال التي تقطعها يهلك معظمها وما يبقى منها لا ينتفع به إلا في سنة أخرى بعد أن يسمن والماء في هذه البرية في مناهل معلومة بعد اليومين والثلاثة وهو ماء المطر والحسيان. ثم لما سلكنا هذه البرية وقطعناها كما ذكرناه ووصلنا إلى خوارزم وهي أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكثيرة والمحاسن الأثيرة وهي ترتج بسكانها لكثرتهم وتموج بهم موج البحر ولقد ركبت بها يوماً ودخلت السوق فلما توسطته وبلغت منتهى الزحام في موضع يقال له الشَّهَوْر "بفتح الشين المعجم وإسكان الواو" لم أستطع أن أجوز ذلك الموضع لكثرة الإزدحام وأردت الرجوع فما أمكنني لكثرة الناس فبقيت متحيراً وبعد جهد شديدٍ رجعت. وذكر لي بعض الناس أن تلك السوق يخف زحامها يوم الجمعة وتوجهت إلى المسجد الجامع والمدرسة. وهذه المدينة تحت إمرة السلطان أوزبك وله فيها أمير كبير يدعى قطلودمور وهو الذي عمر هذه المدرسة وما معها من المواضع المضافة، أما الجامع فعمرته زوجته الخاتون الصالحة تُرَابَك "بضم التاء المعلوة بفتح الراء وألف" وبك "بفتح الموحدة والكاف"، وبخوارزم مارستان له طبيب شامي يعرف بالصهيوني نسبة إلى صهيون من بلاد الشام. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقاً من أهل خوارزم ولا أكرم نفوساً ولا أحب في الغرباء ولهم عادة جميلة في الصلاة لم أرها لغيرهم وهي أن المؤذنين بمساجدها يطوف كل واحد منهم على دور جيران مسجده معلماً لهم بحضور الصلاة فمن لم يحضر الصلاة مع الجماعة ضربه الإمام بمحضر الجماعة وفي كل جامع درة معلقة برسم ذلك ويغرم خمسة دنانير تنفق في مصالح الجامع أو تطعم للفقراء والمساكين ويذكرون أن هذه العادة عندهم مستمرة على قديم الزمان. وبخارخ خوارزم نهر جيحون أحد الأنهار الأربعة من الجنة وهو يجمد في أوان البرد كما يجمد نهر أتل. ويسلك الناس عليه وتبقى مدة جموده خمسة أشهر وربما سلكوا عليه عند أخذه في الذوبان فهلكوا. ويسافر فيه أيام الصيف بالمراكب إلى ترمذ، ويجلبون منها القمح والشعير وهي مسيرة عشر للمنحدر. وبخارج خوارزم زاوية مبنية

على تربة الشيخ نجم الدين البكري، وكان من كبار الصالحين. وفيها الطعام للوارد والصادر وشيخهم المدرس سيف الدين بن عضبة من كبار أهل خوارزم وبها أيضا زاوية شيخها الصالح المجاور جلال الدين السمر قندي من كبار الصالحين أضافنا بها وبخارجها قبر الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري وعليه قبة وزمخشر قرية على مسافة أربعة أميال من خوارزم. ولما أتيت إلى هذه المدينة نزلت بخارجها وتوجه بعض أصحابي إلى القاضي الصدر أبي حفص عمر البكري فبعث إلى نائبه نور الإسلام فسلم علي ثم عاد إليه ثم أتى القاضي في جماعة من أصحابه فسلّم عليّ وهو فتي السن كبير الفعال وله نائبان أحدهما نور الإسلام المذكور والآخر نور الدين الكرماني من كبار الفقهاء وهو الشديد في أحكامه القوي في ذات الله تعالى. ولما حصل الاجتماع بالقاضي قال لي أن هذه المدينة كثيرة الزحام ودخولكم نهاراً لا يتأتى وسيأتي إليكم نور الإسلام لتدخلوا معه في آخر الليل ففعلنا ذلك ونزلنا بمدرسة جديدة ليس بها أحد ولما كان بعد صلاة الصبح أتى إلينا القاضي المذكور ومعه من كبار المدينة جماعة منهم مولانا همام الدين ومولانا زين الدين المقدسي ومولانا رضي الدين يحيى ومولانا فضل الله الرصوي ومولانا جلال الدين العمادي ومولانا شمس الدين السنجري إمام أمير ها وهم أهل مكارم وفضائل والغالب على مذهبهم الاعتزال لكنهم لا يظهرونه لأن السلطان أوزبك وأمير هـ على هذه المدينة قطلودمور من أهل السنة. وكنت أيام إقامتي بها أصلي الجمعة مع القاضي أبي حفص عمر المذكور بمسجده فإذا فرغت الصلاة ذهبت معه إلى داره وهي قريبة من المسجد فأدخل معه إلى مجلسه وهو من أبدع المجالس فيه الفرش الحافلة وحيطانه مكسوة بالملف وفيه طيقان كثيرة وفي كل طاق منها أواني الفضة الممومة بالذهب والأواني العراقية وكذلك عادة أهل تلك البلاد أن يصنعوا في بيوتهم ثم يأتي بالطعام الكثير وهو من أهل الرفاهية والمال الكثير والرباع. وهو سلف الأمير قطلودمور متزوج بأخت امرأته واسمها جيجا أغا. وبهذه المدينة جماعة من الوعاظ والمذكورين وأكبرهم مولانا زين الدين المقدسي والخطيب مولانا حسام الدين المشاطي الخطيب المصقع أحد الخطباء الأربعة الذين لم أسمع في الدنيا أحسن منهم.

أمير خوارزم

أمير خوارزم: هو الأمير الكبير قُطُلُودُمور "بضم القاف وسكون الطاء المهمل وضم اللام"، ودمور "بضم الدال المهمل والميم وواو ومد وراء" ومعنى اسمه الحديد المبارك لأن قطرا هو المبارك ودمور هو الحديد وهذا الأمير ابن خالة السلطان المعظم محمد أوزبك وأكبر أمرائه وهو واليه على خراسان وولده هارون بك متزوج بابنة السلطان المذكور التي أمها الملكة طيطغلي المتقدم ذكرها وامرأته الخاتون تُرَابَك صاحبة المكارم الشهيرة. ولما أتاني القاضي مسلماً عليّ كما ذكرته، قال لي: أن الأمير قد علم بقدومك وبه بقيه مرض يمنعه من الإتيان اليك فركبت مع القاضي إلى زيارته وأتينا داره فدخلنا مشوار كبيراً أكثر بيوته خشب ثم دخلنا مشواراً صغيراً فيه قبة خشب مزخرفة قد كسيت حيطانها بالملف الملون وسقفها بالحرير المذهب والأمير على فرش له من الحرير وقد غطى رجليه لما بهما من النقرس وهي فاشية في الترك فسلمت عليه وأجلسني إلى جانبه وقعد القاضي والفقهاء وسألني عن سلطانه الملك محمد أوزبك وعن الخاتون بَيَلُون وعن أبيهما وعن مدينة القسطنطينية فأعلمته بذلك كله، ثم أتي بالموائد فيها الطعام من الدجاج المشوية والكراكي أفراخ الحمام وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا والكعك والحلوى، ثم أتى بموائد أخرى فيها الفواكه من الرمان المحبب في أواني الذهب والفضة ومعه ملاعق الذهب وبعضه في أواني الزجاج العراقي ومعه الملاعق الخشب ومن العنب والبطيخ العجيب. ومن عوائد هذا الأمير أن يأتي القاضي في كل يوم إلى مشوره ويجلس بمجلس معد له ومعه الفقهاء وكتابه ويجلس في مقابلة أحد الأمراء الكبراء ومعه ثمانية من كبراء أمراء الترك وشيوخهم يسمون الأرغجية "بارزغوجي"، ويتحاكم الناس إليهم. فما كان من القضايا الشرعية حكم فيها القاضي، وما كان من سواها حكم فيها أولئك الأمراء وأحكامهم مضبوطة عادلة لأنهم لا يتهمون بميل ولا يقبلون رشوة. ولما عدنا إلى المدرسة بعد الجلوس مع الأمير بعث إلينا الأرز والدقيق والسمن والأبزار وأحمال الحطب وتلك البلاد كلها لا يعرف بها الفحم وكذلك الهند وخراسان وبلاد العجم. وأما الصين فيوقدون فيها حجارة تشتعل

فيها النار كما تشتعل في الفحم، ثم إذا صارت رماداً عجنوه بالماء وجففوه بالشمس وطبخوه بها ثانية كذلك حتى يتلاشى. وفي بعض أيام الجمع صليت على عادتي بمسجد أبي حفص فقال لي أن الأمير أمر لك بخمسمائة درهم وأمر أن يصنع لك دعوة ينفق فيها خمسمائة درهم أخرى يحضرها المشايخ والفقهاء والوجوه فلما أمر بذلك قلت أيها الأمير تصنع دعوة يأكل من حضرها لقمة أو لقمتين لو جعلت له جميع المال كان أحسن له للنفع فقال أفعل ذلك وقد أمر لك بالألف كاملة ثم بعثها الأمير صحبة إمامة شمس الدين السنجري في خريطة يحملها غلامه وصرفها من الذهب المغربي ثلاثمائة دينار. وكنت قد اشتريت ذلك اليوم فرساً أدهم اللون بخمسة وثلاثين ديناراً دراهم وركبته في ذهابي إلى المسجد فما أعطيت ثمنه إلا من تلك الألف وتكاثرت عندي الخيل بعد ذلك حتى انتهت إلى عدد لا أذكره خيفة مكذب يكذب به ولم تزل حالي في الزيادة حتى دخلت أرض الهند وكانت عندي خيل كثيرة لكني كنت أفضل هذا الفرس وأوثره وأربطه أمام الخيل وبقي عندي إلى انقضاء ثلاث سنين ولما هلك تغيرت حالي. وبعثت إلي الخاتون جيجا أغا امرأة القاضي مائة دينار دراهم، وصنعت لي أختها ترابك زوجة الأمير دعوة جمعت لها الفقهاء ووجوه المدينة بزاويتها التي بنتها، وفي الطعام للوارد والصادر، وبعثت إلي بفروة سمور وفرس جيد وهي من أفضل النساء وأصلحهن وأكرمهن جزاها الله خيراً. ولما انفصلت من الدعوة التي صنعت لي هذه الخاتون وخرجت عن الزاوية تعرضت لي بالباب امرأة عليها ثياب دنسة على رأسها مقنعة ومعها نسوة لا أذكر عددهن فسلمت عليّ فرددت عليها السلام ولم أقف معها ولا التفت إليها فلما خرجت أدركني بعض الناس وقالوا لي أن المرأة التي سلّمت عليّ هي الخاتون فخجلت عند ذلك وأردت الرجوع إليها فوجدتها قد انصرفت فأبلغت إليها السلام مع بعض خدامه واعتذرت عما ما كان مني لعدم معرفتي بها. وبطيخ خوارزم لا نظير له في بلاد الدنيا شرقاً ولا غرباً، إلا ما كان من بطيخ بخارى ويليه بطيخ أصفهان وقشره أخضر وباطنه أحمر وهو صادق الحلاوة وفيه صلابة ومن العجائب أنه يقدد وييبس في الشمس، ويجعل في

القواصر، كما يصنع عندنا بالشريحة وبالتين المالقي. ويحمل من خوارزم إلى أقصى بلاد الهند والصين. وليس في جميع الفواكه اليابسة أطيب منه. وكنت أيام إقامتي بدلهي من بلاد الهند متى قدم المسافرون بعثت من يشتري لي منهم قديد البطيخ وكان ملك الهند إذا أتي إليه بشيء منه بعث إلي به لما يعلم من محبتي فيه ومن عادته أنه يطرف الغرباء بفواكه بلادهم ويتفقدهم بذلك. وكان قد صحبني من مدينة السرا إلى خوارزم شريف من أهل كربلاء يسمى علي بن منصور وكان من التجار فكنت أكلفه أن يشتري لي الثياب وسواها فكان يشتري لي الثوب بعشرة دنانير ويقول اشتريتها بثمانية ويحاسبني بالثمانية ويدفع الدينارين من ماله وأنا لا علم لي بفعله إلا أن تعرفت على ذلك من ألسنة الناس وكان مع ذلك قد أسلفني دنانير فلما وصل إلى إحسان أمير خوارزم رددت إليه ما أسلفنيه وأردت أن أحسن بعده إليه مكافأة لأفعاله الحسنة فأبى ذلك وحلف أن لا أفعل وأردت أن أحسن إلى فتى كان اسمه كافور فحلف أن لا أفعل وكان أكرم من لقيته من العراقيين. وعزم على السفر معي إلى بلاد الهند ثم أن جماعة من أهل بلده وصلوا خوارزم برسم السفر إلى الصين فأخذ في السفر معهم فقلت له في ذلك فقال هؤلاء أهل بلدي يعودون إلى أهلي وأقاربي ويذكرون إني سافرت إلى الهند برسم الهدية فيكون سبّة عليّ. لا أفعل ذلك. وسافر معهم إلى الصين فبلغني بعد وأنا بأرض الهند أنه لما بلغ إلى مدينة المالق وهي آخر البلاد من عمالة ما وراء النهر وأول بلاد الصين أقام بها وبعث فتى له بما كان عنده من المتاع فأبطأ الفتى عليه وفي أثناء ذلك وصل من بلده بعض التجار ونزل معه في فندق واحد فطلب منه الشريف أن يسلفه شيئا بخلال ما يصل فتاه فلم يفعل ثم أكد قبح ما صنع في عدم التوسعة على الشريف بأن أراد الزيادة عليه في المسكن الذي كان له في الفندق فبلغ ذلك الشريف فاغتم منه ودخل إلى بيته فذبح نفسه فأدرك وبه رمق واتهموا غلاماً كان له بقتله فقال لا تظلموه فإني أنا فعلت ذلك ومات من يومه غفر الله له. وكان قد حكى لي عن نفسه أنه أخذ مرة من بعض تجار دمشق ستة آلاف درهم

قراضاً1 فلقيه ذلك التاجر بمدينة حماة من أرض الشام فطلبه بالمال وكان قد باع ما اشترى به من المتاع بالدين فاستحيا من صاحب المال ودخل إلى بيته وربط عمامته بسقف البيت وأراد أن يخنق نفسه وكان في أجله تأخير فتذكر صاحباً له من الصيارفة فقصده وذكر له القضية فسلفه مالاً دفعه للتاجر. ولما أردت السفر من خوارزم اكتريت جمالا واشتريت محارة وكان عديلي بها عفيف الدين التورزي وركب الخدام بعض الخيل وجللنا باقيها لأجل البرد ودخلنا البرية التي بين خوارزم وبخارى وهي مسيرة ثمانية عشر يوماً في رمال لا عمارة بها إلا بلدة واحدة فودعت الأمير قطلودمور وخلع علي خلعة وخلع على القاضي أخرى وخرج مع الفقهاء لوداعي، وسرنا أربع أيام ووصلنا إلى مدينة ألْكَات وليس بهذه الطريق عمارة سواها، "وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الكاف، وآخره تاء مثناة" وهي صغيرة حسنة نزلنا خارجها على بركة ماء قد جمدت من البرد فكان الصبيان يلعبون فوقها ويزلقون عليها. وسمع بقدومي قاضي ألكات ويسمى صدر الشريعة وكنت قد لقيته بدار قاضي خوارزم فجاء إلي مسلماً مع الطلبة وشيخ المدينة الصالح العابد محمود الخيوفي ثم عرض علي القاضي الوصول إلى أمير تلك المدينة فقال له الشيخ محمود القادم: ينبغي له أن يزار وإن كانت لنا همة نذهب إلى أمير المدينة ونأتي به ففعلوا ذلك. وأتى الأمير بعد ساعة في أصحابه وخدامه فسلمنا عليه وكان غرضنا تعجيل السفر فطلب منا الإقامة وصنع دعوة جمع لها الفقهاء ووجوه العساكر وسواهم ووقف الشعراء يمدحونه وأعطاني كسوة وفرساً جيداً. وسرنا على الطريق المعروفة بسيباية في تلك الصحراء مسيرة ست أيام دون ماء. ووصلنا بعد ذلك إلى بلدة وَبْكَنة "وضبط اسمها بفتح الواو وإسكان الباء الموحدة، وكاف ونون". وهي على مسيرة يوم واحد من بخارى بلدة حسنة ذات أنهار وبساتين وهم يدخرون العنب من سنة إلى سنة وعندهم فاكهة يسمونها "الآلو" بالعين المهملة وتشديد اللام، فييبسونه ويجلبه الناس إلى الهند

_ 1 أي: مضاربة، وهي أن يأخذ المال ليعمل فيه على نسبة من الربح متفق عليها أن كان ربح، فإن كات خسارة خسر صاحب المال ماله، وخسر المضارب عمله.

والصين، ويجعل عليه الماء ويشرب ماؤه. وهو أيام كونه أخضر حلو، فإذا يبس صار فيه يسير حموضة ولحميته كثيرة. ولم أر مثله بالأندلس ولا بالمغرب ولا بالشام. ثم سرنا في بساتين متصلة وأنهار وأشجار وعمارة يوما كاملاً، ووصلنا إلى مدينة بخارى التي ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد وخربها اللعين تنكيز التتري، جد ملوك العراق. فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل وأهلها أذلاء وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها لاشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق. وليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئا من العلم ولا من له عنايتة به.

غزو التتر لبخارى وتخريبهم لها ولسواها

غزو التتر لبخارى وتخريبهم لها ولِسواها: كان تنكيز خان حداداً بأرض الخطا وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم وكان يجمع الناس ويطعمهم ثم صارت له جماعة فقدّموه على أنفسهم وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره فغلب على ملك الخطا ثم على ملك الصين. وعظمت جيوشه وتغلّب على بلاد الختن وكاشغر والمالق. وكان جلال الدين سنجر بن خوارزوم شاه ملك خوارزم وخراسان وبلاد ما وراء النهر له قوة عظيمة وشوكة فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. فاتفق أن بعث تنكيز تجاراً بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أُطرار "بضم الهمزة" وهي آخر عمالة جلال الدين. فبعث إليه عامله عليها معلماً بذلك، واستأذنه ما يفعل في أمرهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ أموالهم ويمثل بهم ويقطع أعضاءهم ويردهم إلى بلادهم لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأياً فائلاً وتدبيراً سيئاً مشئوماً، فلما فعل ذلك تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام. فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوا بخبره فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل فلم يجد من يطعمه ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زاداً ولا أطعمه شيئاً فلما أمسى أخرج مطراناً يابسة عنده فبلّها بالماء وفصد فرسه وملأها بدمه وعقدها وشواها بالنار فكانت طعامه

فعاد إلى أطرار فأخبر عاملهم بأمرهم وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم فاستمد مليكه جلال الدين فمده بستين ألفاً زيادة على ما كان عنده من العساكر فلما وقع القتال هزمهم تنكيز ودخل مدينة أطرار بالسيف فقتل الرجال وسبى الذراري وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الإسلام مثلها وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر وخرب بخارى وسمرقند وترمذ وعبر النهر وهو نهر جيحون إلى مدينة بلخ فتملكها ثم إلى الياميان "الباميان" فتملكها وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم فثار عليه المسلمون في بلخ وفي ما وراء النهر فكر عليهم ودخل بلخ بالسيف وتركها خاوية على عروشها. ثم فعل مثل ذلك في ترمذ فخربت ولم تعمر بعد لكن بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ وقتل أهل الياميان "الباميان" وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعة وعفا عن أهل بخارى وسمرقند ثم عاد بعد ذلك إلى العراق وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الإسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله. قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزّه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه. قال: ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي وكان من كبار الأولياء وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عظيمة لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر، شيخها من ذريته وهو الحاج السياح يحيى الباخرزي وأضافني هذا الشيخ بداره وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان ووعظ الواعظ وغنوا بالتركي والفارسي على طريقة حسنة. ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي، ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدر الشريعة، وكان قد قدم من هراة وهو من الصلحاء الفضلاء. وزرت ببخارى قبر الإمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح شيخ المسلمين رضي الله عنه، وعليه

مكتوب هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وأيضا على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم وكنت قيدت من ذلك كثيراً وضاع في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفار الهند في البحر. ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشرين، وسنذكره. فمررنا على نخشب البلدة التي ينسب إليها الشيخ أبو تراب النخشي. وهي صغيرة تحف بها البساتين والمياه. فنزلنا بخارجها بدار لأمير ها وعندي جارية قد قاربت الولادة وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها فاتفق أنها كانت في المحمل فوضع الحمل وسافر أصحابنا من الليل وهي معهم والزاد وغيره من أسبابي وأقمت أنا حتى أرتحل نهاراً مع بعض من معي فسلكوا طريقا وسلكت طريقا سواها. فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور وقد جعنا فنزلنا على بعد من السوق واشترى بعض أصحابنا ما سد جوعنا وأعارنا بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب فوجدوهم عشيا وجاؤا بهم وكان السلطان غائباً عن المحلة في الصيد فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا فأنزلني بقرب مسجده وأعطاني خرقة "خركاه" وهي شبه الخباء وقد ذكرنا صفتها فيما تقدم فجعلت الجارية في تلك الخرقة فولدت تلك الليلة مولوداً وأخبروني أنه ولد ذكر ولم يكن كذلك فلما كان بعد العقيقة أخبرني بعض الأصحاب أن المولود بنت فاستحضرت الجواري فسألتهن فأخبروني بذلك وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين وسنذكر ذلك. واجتمعت بهذا المحلة بالشيخ الفقيه العابد مولانا حسام الدين الياغي "بالياء آخر الحروف والغين المعجمة"، ومعناه بالتركية الثائر. وهو من أهل أطرار وبالشيخ صهر السلطان. وكان سلطان ما وراء النهر هو السلطان المعظم علاء الدين طَرْمَشِيرِين "وضبط اسمه بفتح الطاء المهمل وسكون الراء وفتح الميم وكسر الشين المعجم وياء مد وراء مكسور وياء مد ثانية ونون" وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحكم وبلاده متوسطة بين أربعة من

ملوك الدنيا الكبار وهم ملك الصين وملك الهند وملك العراق وملك أوزبك. وكلهم يهابونه ويعظمونه ويكرمونه وولي الملك بعد أخيه الجكطي "وضبط اسمه بفتح الجيم المعقود له الكاف والطاء المهمل وسكون الياء". وكان الجكطي هذا كافراً، وولي بعد أخيه الأكبر كبك وكان هذا كافراً أيضاً، لكنه كان عادل الحكم منصفاً للمظلومين يكرم المسلمين ويعظمهم. وروي أن هذا الملك كبك كان تكلم يوماً مع الفقيه الواعظ المذكور بدر الدين الميداني فقال له: أنت تقول أن الله ذكر كل شيء في كتابه العزيز. قال: نعم. فقال: أين اسمي فيه؟ فقال هو في قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} . فأعجبه ذلك. وقال: يخشى، ومعناه بالتركية جيد. فأكرمه كثيراً وزاد في تعظيم المسلمين. ومن أحكام كبك ما ذكر أن امرأة شكت له بأحد الأمراء، وذكرت أنها فقيرة ذات أولاد. وكان لها لبن تقوتهم بثمنه. فاغتصبه ذلك الأمير وشربه. فقال أنا أوسطه فإن خرج اللبن من جوفه مضى لسبيله. وإلا وسطتك بعده فقالت المرأة حللته ولا أطلبه بشيء. فأمر به فوسط فخرج اللبن من بطنه. ولنعد لذكر السلطان طرمشيرين. ولما أقمت بالمحلة، وهم يسمونها الأردو أياماً، ذهبت لصلاة الصبح بالمسجد على عادتي فلما صليت ذكر لي بعض الناس أن السلطان بالمسجد فلما قام عن الصلاة تقدمت للسلام عليه وقام الشيخ حسن والفقيه حسام الدين الياغي وأعلمه بحالي وقدومي منذ أيام فقال لي بالتركية: خش ميسن يخشي ميسن قطلوا يوسن، ومعنى خش ميسن في عافية أنت ومعنى يخش ميسن جيد أنت ومعنى قطلوا ميسن مبارك قدومك. وكان عليه في ذلك الحين قباء قدسي أخضر، وعلى رأسه شاشية مثله ثم انصرف إلى مجلسه راجلاً والناس يتعرضون له بالشكايات فيقف لكل مشتك منهم صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثىً. ثم بعث إلي فوصلت إليه وهو في خرقة والناس خارجها ميمنة وميسرة والأمراء منهم على الكراسي وأصحابه وقوف على رؤوسهم وبين أيديهم وسائر الجند قد جلسوا صفوفاً وأمام كل واحد منهم سلاحه وهم أهل النوبة يقعدون هنالك إلى العصر ويأتي آخرون فيقعدون إلى آخر الليل وقد صنعت هنالك سقائف من ثياب القطن يكونون بها. ولما دخلت إلى الملك بداخل الخرقة وجدته جالساً على كرسي شبه المنبر مكسو بالحرير

المزركش بالذهب وداخل الخرقة ملبس بثياب الحرير المذهب والتاج المرصع بالجوهر والياقوت معلق فوق رأس السلطان بينه وبين رأسه قدر ذراع. والأمراء الكبار على الكراسي عن يمينه ويساره وأولاده الملوك بأيديهم المذاب بين يديه وعند باب الخرقة النائب والوزير والحاجب وصاحب العلامة وهم يسمون آل طَمْغَى وآل "بفتح الهمزة" معناه الأحمر، وطَمْغَى "بفتح الطاء المهمل وسكون الميم والغين المعجم المفتوح" معناه العلامة. وقام إلي أربعتهم حين دخولي ودخلوا معي فسلمت عليه وسألني وصاحب العلامة يترجم بيني وبينه عن مكة والمدينة والقدس شرفها الله وعن مدينة الخليل عليه السلام وعن دمشق ومصر والملك الناصر وعن العراقين وملكها وبلاد الأعاجم. ثم أذن المؤذن بالظهر فانصرفنا وكنا نحضر معه الصلوات وذلك أيام البرد الشديد المهلك فكان لا يترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة ويقعد للذكر بالتركية بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس ويأتي إليه كل من في المسجد فيصافحه ويشد بيده على يده وكذلك يفعلون في صلاة العصر وكان إذا أوتي بهدية من زبيب أو تمر والتمر عزيز عندهم يتبركون به يعطي منها بيده لكل من في المسجد. ومن فضائل هذا الملك أنه حضرت صلاة العصر يوماً، ولم يحضر السلطان. فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جرت عادته أن يصلي وقال للإمام حسام الدين الياغي أن مولانا يريد أن تنتظر قليلاً ريثما يتوضأ، فقام الإمام المذكور وقال: نماز، ومعناه الصلاة براي حد أو براي طرمشيرين، أي الصلاة لله أو لطرمشيرين. ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة وقد جاء السلطان وقد صلى منها ركعتان فصلى الركعتين الأخيرتين حيث انتهى به القيام وذلك في المواضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد وقضى ما فاته وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك وجلس قبالة للمحراب. والشيخ الإمام إلى جانبه وأنا إلى جانب الإمام فقال لي إذا مشيت إلى بلادك فحدّث أن فقيراً من فقراء الأعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك. وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة ويأمر السلطان بالمعروف وينهاه عن المنكر وعن الظلم ويغلظ عليه القول والسلطان ينصت لكلامه ويبكي. وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئاً ولم يأكل قط من طعامه ولا لبس من ثيابه.

وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين وكنت كثيراً ما أرى عليه قباء قطن مبطن بالقطن محشو به وقد بلي وتمزق وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطاً ولا عمامة عليه فقلت له في بعض الأيام يا سيدي ما هذا القباء الذي أنت لابسه إنه ليس بجيد فقال لي يا ولدي ليس هذا القباء لي وإنما هو لابنتي فرغبت منه أن يأخذ بعض يثابي فقال لي عاهدت الله منذ خمسين سنة أن لا أقبل من أحد شيئا ولو كنت أقبل من أحد لقبلت منك. ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يوماً أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم وفروة سمور تساوي مائة دينار طلبتها منه لأجل البرد ولما ذكرتها له أخذ أكمامي وجعل يقلبهما بيده تواضعاً منه وفضلاً وحسن خلق وأعطاني فرسين وجملين. ولما أردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده وكان اليوم شديد البرد جدّاً فوالله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد ففهم ذلك وضحك وأعطاني يده وانصرفت. وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين وهنالك معظم عساكره وبايعو ابن عم له اسمه بُوزُن أُغْلِي وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أُغلي "بضم الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام" وَبُوزُن "بضم الياء الموحدة وضم الزاي" وكان مسلماً إلا أنه فاسد الدين سيء السيرة وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جده تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام، وقد تقدم ذكره. وكان تنكيز ألّف كتاباً في أحكامه يسمى عندهم اليساق "بفتح الياء آخر الحروف والسين المهمل وآخره قاف"، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوماً في السنة يسمونه الطوى ومعناه يوم الضيافة ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد ويحضر الخواتين وكبار الأجناد وإن كان سلطانهم قد غيّر شيئا من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له غيّرت كذا وغيّرت كذا وفعلت كذا وقد وجب خلعك ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك ويقعدون غيره من أبناء تنكيز وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنباً في بلاده حكموا عليه بما يستحقه. وكان السلطان طرمشيرين قد أبطل حكم هذا اليوم ومحا رسمه فأنكروه عليه أشد الإنكار وأنكروا عليه أيضاً كونه أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده ولم يصل إلى الجهة التي توالي الصين. والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في

كل سنة. فيتغير أحوالها وحال الجند بها لأن أصل ملكهم منها. ودار الملك وهي مدينة المالق. فلما بايعوا بُوزُن أتى في عسكر عظيم وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه ولم يأمنهم فركب في خمسة عشر فارساً يريد بلاد غزنة وهي من عمالته وواليها كبير أمرائه وصاحب سره برنطيه، وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين وقد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية فيها الطعام للوارد والصادر وتحت يده العساكر العظيمة ولم أر قط فيمن رأيته من الآدمين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقة منه فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقي ابن أخيه كبك. وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور وبقي ابنه ينقي ببلخ فلما أعلمه التركي بخبره قال ما فر إلا لأمر حدث عليه فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه ووصل بُوزُن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس وجاء ينقي بطرمشيرين، فيذكر أنه لما وصل إلى نسف، بخارج سمرقند قتل هنالك ودفن بها وخدم تربته الشيخ شمس الدين كُرْدَن بريدا. وقيل: أنه لم يقتل كما سنذكره. وكُرْدَن "بكاف معقودة وراء مسكن ودال مهمل مفتوح ونون" معناه العنق وبُريدا "بضم الباء الموحدة وكسر الراء وياء مد ودال مهمل" معناه المقطوع ويسمى بذلك لضربة كانت بعنقه. وقد رأيته بأرض الهند ويقع ذكره فيما بعد. ولما ملك بُوزُن هرب ابن السلطان طرمشيرين وهو بشاى أغل "أغلي" وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند فعظمه وأنزلهم منزلة علية بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة وكان يخاطبه بالأخ. ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند وادعى أنه هو طرمشيرين واختلف الناس فيه فسمع بذلك عماد الملك سرتيز غلام ملك الهند ووالي بلاد السند ويسمى ملك عرض وهو الذي تعرض بين يديه عساكر الهند وإليه أمرها ومقره بملتان قاعدة السند فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقاً فأمر له بالسراجة وهي أفراج تضرب خارج المدينة ورتب له مايرتب لمثله وخرج لاستقباله وترجل له وسلم عليه وأتى في خدمته إلى السراجة فدخلها راكباً كعادة الملوك ولم يشك أحد أنه هو، وبعث إلى ملك الهند يخبره فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم وهو كبير الحكماء بالهند فقال للملك أنا أتوجه إليه وأعرف حقيقة أمره فإني كنت

عالجت له دملاً كان تحت ركبته وبقي أثره وبه أعرفه فأتى إليه ذلك الحكيم واستقبله مع الأمراء ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده وأخذ يغمز رجليه وكشف عن الأثر فشتمه وقال له تريد أن تنظر إلى الدم الذي عالجته؟ ها هو ذا وأراه أثره فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك ثم أن الوزير خواجه جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلوخان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند وقالا له يا خوند عالم هذا السلطان طرمشيرين قد وصل وصحّ أنه هو وها هنا من قومه نحو أربعين ألفاً وولده وصهره أرأيت أن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل؟ فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم وأمر أن يؤتى بطرمشيرن معجلاً. فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين ولم يعظم وقال له السلطان: يا مادر كاني، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول إنك طرمشيرين، وطرمشيرين قد قتل وهذا خادم تربته عندنا والله لولا المعرة لقتلتك ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار، واذهبوا به إلى دار بشاي أغلي وأخته ولدي طرمشيرن وقولوا لهم أن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم فدخل عليهم فعرفوه وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه. ونفي عن بلاد الهند والسند فسلك طريق كبج ومكران وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه ووصل إلى شيراز فأكرمه سلطانها أبو إسحق وأجرى له كفايته ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز ذكر لي أنه باق بها وأردت لقاءه ولم أفعل لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحق فخفت مما يتوقع بسبب ذلك ثم ندمت على لقائه. رجع الحديث إلى بوزن: وذلك أنه لما ملك، ضيق على المسلمين وظلم الرعية وأباح للنصارى واليهود عمارة كنائسهم فضج المسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر واتصل خبره بخليل بن السلطان اليسور المهزوم على خراسان، فقصد ملك هراة، وهو السلطان حسين بن السلطان غياث الدين الغوري فأعلمه بما كان في نفسه وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره الملك إذا استقام فبعث معه الملك حسين عسكراً عظيماً. وبين هراة وترمذ تسعة أيام. فلما سمع أمراء السلطان بقدوم خليل تلقوه بالسمع والطاعة

والرغبة في جهاد العدو. وكان أول قادم عليه علاء الملك خداونة زاده صاحب ترمذ وهو أمير كبير شريف حسيني النسب فأتاه في أربعة آلاف من المسلمين فسر به وولاه وزارته وفوض إليه أمره وكان من الأبطال وجاء الأمراء من كل ناحية واجتمعوا على خليل والتقى مع بُوزُن فمالت العساكر إلى خليل وأسلموا بُوزُن وأتوا به أسيراً فقتله خنقاً وبأوتار القسي وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملوك إلا خنقاً. واستقام الملك لخليل وعرض عساكره بسمرقند فكانوا ثمانين ألفاً عليهم وعلى خيلهم الدروع فصرف العسكر الذي جاء به من هراة وقصد بلاد المالق فقدم التتر على أنفسهم واحداً منهم ولاقوه على مسيرة ثلاث من المالق بمقربة من أطرار "طرار"، وحمى القتال وصبر الفريقان فحمل الأمير خداوند زاده وزيره في عشرين ألف من المسلمين حملة ولم يثبت لها التتر فانهزموا واشتد فيهم القتل وأقام خليل بالمالق ثلاثاً وخرج إلى استئصال من بقي من التتر فأذعنوا له بالطاعة وجاز إلى تخوم الخطا والصين، وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ. وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر ثم وقع بينهما الصلح وعظم أمر خليل وهابته الملوك وأظهر العدل ورتب العساكر بالمالق وترك بها وزيره خداونده وانصرف إلى سمرقند وبخارى. ثم أن الترك أرادوا الفتنة فسعوا إلى خليل بوزيره المذكور وزعموا أنه يريد الثورة ويقول أنه أحق بالملك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وشجاعته فبعث والياً إلى المالق عوضاً عنه وأمره أن يقدم عليه في نفر يسير من أصحابه فلما قدم عليه قتله عند وصوله من غير تثبت. فكان الملك سبب خراب ملكه. وكان خليل لما عظم أمره بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهزه بالعساكر والمال فكتب إليه أن يخطب في بلاده باسمه ويضرب الدنانير والدراهم على سكته، فغاظ ذلك الملك حسيناً، وأنف منه وأجابه بأقبح جواب فتجهز خليل لقتاله فلم توافقه عساكر الإسلام ورأوه باغياً عليه وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك ورنا، والتقى الجمعان فانهزم خليل وأتى به إلى الملك حسين أسيراً فمنّ عليه بالبقاء وجعله في دار وأعطاه جارية وأجرى عليه النفقة. وعلى هذا الحال تركته عنده في أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند. ولنعد إلى ما كنا بسبيله: ولما ودعت السلطان طرمشيرين سافرت إلى

مدينة سمرقند. وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالاً مبنية على شاطيء واد يعرف بوادي القصارين عليه النواعير تسقي البساتين وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات، وكانت على شاطئه قصور عظيمة وعمارة تنبيء عن علو همم أهلها فدثر أكثر ذلك وكذلك المدينة خرب كثير منها ولا سور لها ولا أبواب عليها وفي داخلها البساتين وأهل سمرقند لهم مكارم أخلاق ومحبة في الغريب وهم خير من أهل بخارى. وبخارج سمرقند قبر قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وعن العباس وعن ابنه وهو المستشهد حين فتحها ويخرج أهل سمرقند كل ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته والتتر يأتون لزيارته وينذرون له النذور العظيمة ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير فيصرف ذلك في النفقة على الوارد والصادر ولخدام الزاوية والقبر المبارك. وعليه قبة قائمة على أربع أرجل ومع كل رجل ساريتان من الرخام منها الخضر والسود والبيض والحمر وحيطان القبة بالرخام المجزع المنقوش بالذهب وسقفها مصنوع بالرصاص وعلى القبر خشب الأبنوس المرصع مكسو الأركان بالفضة وفوقه ثلاثة من قناديل الفضة وفرش القبة بالصوف والقطن وخارجها نهر كبير يشق الزاوية التي هنالك على حافتيه الأشجار ودوالي العنب والياسمين وبالزاوية مساكن يسكنها الوارد والصادر ولم يغير التتر أيام كفرهم شيئاً من حال هذا الموضع المبارك وكانوا يتبركون به لما يرون به من الآيات وكان الناظر في كل حال من هذا الضريح المبارك وما يليه حين نزولنا به الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن يوسف الخليفة المستنصر بالله العباسي قدمه لذلك السلطان طرمشيرين لما قدم عليه من العراق وهو الآن عند ملك الهند وسيأتي ذكره. ولقيت بسمرقند قاضيها المسمى عندهم صدر الجهان وهو من الفضلاء ذوي المكارم وسافر إلى بلاد الهند بعد سفري إليها فأدركته منيته بمدينة ملتان قاعدة بلاد السند. وحين مات هذا القاضي بملتان كتب صاحب الخبر بأمره إلى ملك الهند، وأنه قدم برسم بابه فاخترم دون ذلك فلما بلغ الخبر الملك أمر أن يبعث إلى أولاده عدد من آلاف الدنانير لا أذكره الآن. وأمر أن يعطى لأصحابه ما كان يعطى لهم لو وصلوا معه وهو بقيد الحياة. ولملك الهند في كل بلد من

بلاده صاحب الخبر يكتب له ما يجري في ذلك البلد من الأمور وممن يرد عليه من الواردين وإذا أتى الوارد كتبوا من أي البلاد ورد وكتبوا اسمه ونعته وثيابه وأصحابه وخيله وخدامه وهيئته من الجلوس والمأكل وجميع شئونه وتصرفاته وما يظهر منه من فضيلة أو ضدها فلا يصل الوارد إلى الملك إلا وهو عارف بجميع حاله فتكون كرامته على مقدار ما يستحقه. وسافرنا من سمرقند فاجتزنا ببلدة نسف وإليها ينسب أبو حفص عمر النسفي مؤلف كتاب المنظومة في المسائل الخلافيه بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم. ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ التي ينسب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي مؤلف الجامع الكبير في السنن، وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار وبها البساتين الكبيرة والعنب والسفرجل بها متناهي الطيب واللحوم بها كثيرة وكذلك الألبان وأهلها يغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضاً عن الطفل ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبناً فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه وهو يرطب الشعر ويصقله. وأهل الهند يجعلون في رؤوسهم زيت السمسم ويسمونه الشيرج ويغسلون الشعر بعده بالطفل فينعم الجسم ويصقل الشعر ويطيله وبذلك طالت لحا أهل الهند ومن سكن معهم، وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطيء جيحون فلما خربها تنكيز بنيت هذه الحديثة على ميلين من النهر وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان من كبار المشايخ وكرمائهم كثير المال والرباع والبساتين ينفق على الوارد والصادر من ماله واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده وكتب لي إليها بالضيافة فكانت تحمل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم ولقيت أيضاً قاضيها قوام الدين وهو متوجه لرؤية السلطان طرمشيرين وطالب للإذن له في السفر إلى بلاد الهند وسيأتي ذكر لقائي له بعد ذلك ولأخويه ضياء الدين وبرهان الدين بملتان وسافرنا جميعا إلى الهند وذكر أخويه الآخرين عماد الدين وسيف الدين ولقائي لهما بحضرة ملك الهند وذكر ولديه وقدومهما على ملك الهند بعد قتل أبيهما وتزويجهما بنتي الوزير خواجة جهان وما جرى في ذلك كله أن شاء الله تعالى. ثم جزنا نهر جيحون إلى بلاد خراسان وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يوماً ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة بلخ وهي خاوية على عروشها غير عامرة ومن رآها ظنها عامرة لإتقان

بنائها وكانت ضخمة فسيحة ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللازورد والناس ينسبون اللازورد إلى خراسان وإنما يجلب من جبال بدخشان التي ينسب إليها الياقوت البدخشي والعامة يقولون البلخش وسيأتي ذكرها أن شاء الله تعالى، وخرب هذه المدينة تنكيز اللعين وهدم من مسجدها نحو الثلث بسبب كنز ذكر أنه تحت سارية من سواريه وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه، ومسجد بلخ أجمل منه في سوى ذلك. وذكر لي بعض أهل التاريخ أن مسجد بلخ بنته امرأة كان زوجها أمير اً ببلخ لبني العباس يسمى داود بن علي فاتفق أهل الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه فبعث إليهم من يغرمهم مغرماً فادحاً فلما بلغ إلى بلخ أتى نساءها وصبيانها إلى تلك المرأة التي بنت المسجد وهي زوج أمير هم وشكوا حالهم وما لحقهم من هذا المغرم فبعثت إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجواهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه فقالت له اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقص عليه القصة فخجل الخليفة وقال أتكون المرأة أكرم منا؟ وأمره برفع المغرم عن أهل بلخ وبالعودة إليها ليرد للمرأة ثوبها وأسقط عن أهل بلخ خراج سنة. فعاد الأمير إلى بلخ وأتى المرأة وقص عليها مقالة الخليفة ورد عليها الثوب. فقالت له: أوقع بصر الخليفة على هذا الثوب؟ قال: نعم. قالت: لا ألبس ثوباً وقع عليه بصر غير ذي محرم مني. وأمرت ببيعه فبنى منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته مبني بالكذان1 وهو عامر حتى الآن وفضل من ثمن الثوب مقدار ثلثه فذكر أنها أمرت بدفنه تحت بعض سواري المسجد ليكون هنالك متيسرا أن احتيج إليه أخرج، فأخبر تكنيز بهذه الحكاية فأمر بهدم سواري المسجد فهدم منها نحو الثلث ولم يجد شيئا فترك الباقي على حاله. وبخارج بلخ قبر يذكر أنه قبر عكاشة بن محصن الأسدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما الذي يدخل الجنة بلا حساب وعليه زاوية معظمة بها كان نزولنا، وبخارجها بركة ماء

_ 1 الكذان: حجارة رخوة نخرة.

عجيبة عليها شجرة جوز عظيمة. ينزل الواردون في الصيف تحت ظلالها وشيخ هذه الزاوية يعرف بالحاج خرد وهو الصغير من الفضلاء وركب معنا وأرانا مزارات هذه المدينة منها قبر حزوقيل النبي عليه السلام وعليه قبة حسنة وزرنا بها أيضا قبوراً كثيرة من قبور الصالحين لا أذكرها الآن، ووقفنا على دار إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وهي دار ضخمة مبنية بالصخر الأبيض الذي يشبه الكذان. وكان زرع الزاوية مقترن بها وقد سدت عليه فلم ندخلها وهي بمقربة من المسجد الجامع. ثم سافرنا من مدينة بلخ فسرنا في جبال قوة استان "قهستان" سبعة أيام. وهي قرى كثيرة عامرة بها المياه الجارية والأشجار المورقة وأكثرها شجر التين، وبها زوايا كثيرة فيها الصالحون المنقطعون إلى الله تعالى. وبعد ذلك كان وصولنا إلى مدينة هراة وهي أكبر المدن العامرة بخراسان ومدن خراسان العظيمة أربع: ثنتان عامرتان وهما هراة ونيسابور، وثنتان خربتان وهما بلخ ومور. ومدينة هراة عظيمة كثيرة العمارة ولأهلها صلاح وعفاف وديانة، وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبلدهم طاهر من الفساد. وكان سلطان هراة هو السلطان المعظم حسين بن السلطان غياث الدين الغوري صاحب الشجاعة المأثورة. والتأييد والشجاعة ظهر له إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضى منه العجب إحداهما: عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه وكان منتهى أمره حصوله أسيراً في يديه، والموطن الثاني: عند ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة. وكان منتهى أمره تبديده وفراره وذهاب ملكه. وولي السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ وولي بعد أبيه غياث الدين. وكان بخراسان رجلان أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد وكان لهما خمسة من الأصحاب وهم من الفتاك ويعرفون بالعراق بالشطَّار ويعرفون بخراسان بسرابداران "سربداران" ويعرفون بالعراق بالصقور. فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال وشاع خبرهم وسكنوا جبلاً منيعا بمقربة من مدينة بيهق وتسمى أيضا مدينة سيزار "سيزوار". فكانوا يكمنون بالنهار ويخرجون بالليل والعشى فيضربون على القرى ويقطعون الطرق ويأخذون الأموال وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد، فكثر

عددهم واشتدت شوكتهم وهابهم الناس وضربوا على مدينة بيهق فملكوها ثم ملكوا سواها من المدن واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل وتسمى مسعود بالسلطان وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه فكل عبد فرّ منهم يعطيه الفرس والمال وإن ظهرت له شجاعة أمره على جماعة فعظم جيشه واستفحل أمره وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض وطمحوا إلى استئصال أهل السنة بخراسان وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن وهو عندهم من الصلحاء فوافقهم على ذلك وسموه بالخليفة وأمرهم بالعدل فأظهروه حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها وغلبوا على نيسابور وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفاً من التتر فهزموه وملكوا البلاد وتغلبوا على سرخس والزواة وطوس وهي من أعظم بلاد خراسان وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرضى وتغلبوا على مدينة الجام ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هراة وبينها وبينهم مسيرة ست فلما بلغ ذلك الملك حسيناً جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضوا إليهم فيناجزونهم فوقع إجماعهم على الخروج إليهم وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية ويقال إنهم منسوبون إلى غور الشام وأن أصلهم منه فتجهزوا أجمعين واجتمعوا من أطراف البلاد وهم ساكنون بالقرى وبصحراء مرغيس "بدغيس" وهي مسيرة أربع لا يزال عشبها أخضر ترعى منه ماشيتهم وخيلهم وأكثر شجرها الفستق ومنها يحمل إلى أرض العراق وعضدهم أهل مدينة سمنان ونفروا جميعا إلى الرافضة وهم مائة وعشون ألفاً ما بين رجالة وفرسان ويقودهم الملك حسين. واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفاً من الفرسان وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج وصبر الفريقان معاً ثم كانت الدائرة على الرافضة وفر سلطانهم مسعود وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفاً حتى قُتل وقتل أكثرهم وأسر منهم نحو أربعة آلاف. وذكر لي بعض من حضر هذه الوقعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى وكانت الهزيمة عند الزوال ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلّى وأتى بالطعام فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون وسائرهم يضربون أعناق الأسرى. وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح

العظيم وقد نصر الله السنة على يديه وأطفأ نار الفتنة وكانت هذه الوقعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين. ونشأ بهراة رجل من الزهاد والصلحاء الفضلاء واسمه نظام الدين مولانا وكان أهل هراة يحبونه ويرجعون إلى قوله وكان يعظهم ويذكرهم وتوافقوا معه على تغيير المنكر وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بالملك ورنا وهو ابن عم الملك حسين ومتزوج بزوجة والده وهي من أحسن الناس صورة وسيرة. والملك يخافه على نفسه وسنذكر خبره. وكانوا متى علموا بمنكر ولو كان عند الملك غيّروه. وعلمت أنهم تعرفوا يوماً أن بدار الملك حسين منكراً فاجتمعوا لتغييره وتحصن منهم بداخل داره فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل فخاف منهم. فاستحضر الفقيه وكبار البلد وكان قد شرب الخمر فأقاموا عليه الحد بداخل قصره، وانصرفوا عنه. كانت الأتراك المجاورون لمدينة هراة الساكنون بالصحراء وملكهم غيتمور الذي مر ذكره وهم خمسين ألفاً يخافهم الملك حسين ويهدي لهم الهدايا في كل سنة ويداريهم وذلك قبل هزيمته للرافضة، وأما بعد هزيمته للرافضة تغلب عليهم. ومن عادة هؤلاء الأتراك التردد إلى مدينة هراة وربما شربوا بها الخمر وأتاها بعضهم وهو سكران. فكان نظام الدين يحد من وجد منهم سكراناً وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس ولا يزالون يضربون على بلاد الهند فيسبون ويقتلون وربما سبوا بعض المسلمات اللاتي يكن بأرض الهند ما بين الكفار فإذا خرجوا بهم إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي الترك وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن والكافرات آذانهن مثقوبات، فاتفق مرة أن أمير اً من أمراء الترك يسمى تمور ألطي سبى امرأة وكلف بها شديداً، فذكرت أنها مسلمة، فانتزعها الفقيه من يده. فبلغ ذلك من التركي مبلغاً عظيماً وركب في آلاف من أصحابه وأغار على خيل هراة وهي في مرعاها بصحراء مرغيس "بدغيس"، واحتملوها. فلم يتركوا لأهل هراة ما يركبون ولا ما يحلبون وصعدوا بها إلى جبل هنالك لا يقدر عليهم فيه ولم يجد السلطان ولا جندة خيلاً يتبعونهم بها فبعث إليهم رسولاً يطلب منهم رد ما أخذون من الماشية والخيل ويذكرهم العهد الذي بينهم فأجابوا بأنهم لا يردون ذلك حتى يمكن من الفقيه نظام الدين، فقال السلطان: لا سبيل إلى هذا. وكان

الشيخ أبو أحمد الجستي حفيد الشيخ مودود الجستي له بخراسان شأن عظيم، وقوله معتبر لديهم فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه فقال أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضُوا بذلك ثم أرده فكأن الناس مالوا إلى قوله ورأى الفقيه نظام الدين اتفاقهم على ذلك فركب مع الشيخ أبو أحمد ووصل إلى الترك فقام إليه الأمير تمور ألطي، وقال له: أنت أخذت امرأتي مني وضربه بدبوسه فكسر دماغه فخر ميتاً. فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد وانصرف من هنالك إلى بلده ورد الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية. وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قتل الفقيه على مدينة هراة فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه فتقدموا إليه كأنهم مسلمون عليه وتحت ثيابهم السيوف فقتلوه وفر أصحابه، ولما كان بعد هذا بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولاً إلى ملك سجستان فلما حصل بها بعث إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه فقصد بلاد الهند ولقيته وأنا خارج منها بمدينة سيوستان من السند، وهو أحد الفضلاء، وفي طبعه حب الرياسة والصيد والبراز والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند فكان من أمره أن ملك الهند ولاّه بلداً صغيراً. وقتله به بعض أهل هراء المقيمين بالهند بسبب جارية. وقيل: أن ملك الهند دس عليه من قتله بسعي الملك حسين في ذلك ولأجله خدم الملك حسين ملك الهند بعد موت ملك ورنا المذكور، وهاداه ملك وأعطاه مدينة بكار من بلاد السند. ومجباها خمسون ألفاً من دنانير الذهب في كل سنة. "ولنعد إلى ما كنا بسبيله" سافرنا من هراة إلى مدينة الجام وهي متوسطة حسنة ذات بساتين وأشجار وعيون كثيرة وأنهار وأكثرها التوت والحرير بها كثير وهي تنسب إلى الولي العابد الزاهد شهاب الدين أحمد الجامي، وسنذكر حكايته، وحفيده الشيخ أحمد المعروف بزاده الذي قتله ملك الهند والمدينة الآن لأولاده وهي محررة من قبل السلطان ولهم بها نعمة وثروة. وذكر لي من أثق به أن السلطان أبا سعيد ملك العراق قدم خراسان مرة ونزل على هذه المدينة وبها زاوية الشيخ فأضافه ضيافة عظيمة وأعطى لكل خباء بمحلته رأس غنم ولكل أربعة رجال رأس غنم ولكل دابة بالمحلة من فرس أو بغل وحمار علف ليلة فلم يبقى في المحلة حيوان إلا وصلته ضيافة.

والشيخ شهاب الدين الذي تنسب إليه مدينة الجام يذكر أنه كان صاحب راحة مكثراً من الشراب وكان له من الندماء نحو ستين وكانت لهم عادة أن يجتمعوا يوماً في منزل كل واحد منهم فتدور النوبة على أحدهم بعد شهرين وبقوا على ذلك مدة. ثم أن النوبة وصلت يوماً الشيخ شهاب الدين فعقد التوبة تلك النوبة وعزم على إصلاح حاله مع ربه وقال في نفسه أن قلت لأصحابي إني قد تبت قبل اجتماعهم عندي ظنوا ذلك عجزاً عن مؤنتهم فأحضر ما كان يحضر مثله قبل من مأكولات ومشروبات وجعل الخمر في الزقاق وحضر أصحابه فلما أرادوا الشرب فتحوا زقاً فذاقه أحدهم فوجده حلواً، ثم فتح ثانيا فوجده كذلك ثم ثالثاً فوجده كذلك فكلموا الشيخ في ذلك، فخرج لهم عن حقيقة أمره وصدقهم سر فكره وعرفهم بتوبته وقال لهم والله ما هذا إلا الشراب الذي كنتم تشربونه فيما تقدم فتابوا جميعاً إلى الله تعالى وبنوا تلك الزاوية وانقطعوا بها لعبادة الله تعالى وظهر لهذا الشيخ كثير من الكرامات والمكاشفات. ثم سافرنا من الجام إلى مدينة طوس وهي أكبر بلاد خراسان وأعظمها بلد الإمام الشهير بأبي حامد الغزالي رضي الله عنه وبها قبره. ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي أيضاً مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه والأرحاء الطاحنة وكان بها الطاهر محمد شاه والطاهر عندهم بمعنى النقيب عند أهل مصر والشام والعراق وأهل الهند والسند وتركستان يقولوا السيد الأجل وكان أيضاً بهذا المشهد القاضي الشريف جلال الدين لقيته بأرض الهند والشريف علي وولداه أمير هندو ودولة شاه وصحبوني من ترمذ إلى بلاد الهند وكانوا من الفضلاء. والمشهد المكرم عليه قبة عظيمة في داخل زاوية تجاورها مدرسة ومسجد وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني وعلى القبر دكانة خشب ملبسة بصفائح الفضة وعليه قناديل فضة معلقة وعتبة باب القبة فضة وعلى بابها ستر حرير مذهب وهي مبسوطة بأنواع البسط وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات التي يعرفها أهل المغرب بالحسك والمنائر وإذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله وسلم على الرضا. ثم سافرنا إلى مدينة سرخس، وإليها ينسب الشيخ الصالح لقمان

السرخسي رضي الله عنه. ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة وهي مدينة الشيخ الصالح قطب حيدر وإليه تنسب طائفة الحيدرية من الفقراء وهم الذي يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم ويجعلون أيضاً في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح. ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة نيسابور وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان ويقال لها دمشق الصغيرة لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحسنها وتخترقها أربعة من الأنهار وأسواقها حسنة متسعة ومسجدها بديع وهو في وسط السوق ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير وفيها من الطلبة خلق كثير يقرؤون القرآن والفقه وهي من حسان مدارس تلك البلاد ومدارس خراسان والعراقين ودمشق وبغداد ومصر وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن فكلها تقصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان وصل الله سعده ونصر جنده وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسها الله تعالى فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعاً ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه. ويصنع بنيسابور ثياب الحرير من النخ والكمخاء وغيرهما وتحمل منها إلى الهند وفي هذه المدينة زاوية الشيخ الإمام العالم القطب العابد قطب الدين النيسابوري أحد الوعاظ العلماء الصالحين نزلت عنده فأحسن القرى وأكرم ورأيت له البراهين والكرامات العجيبة. وكنت قد اشتريت بنيسابور غلاماً تركياً فرآه معي فقال لي: هذا الغلام لا يصلح لك فبعه، فقلت له: نعم. وبعت الغلام في غد ذلك اليوم واشتراه بعض التجار، وودعت الشيخ وانصرفت فلما حللت بمدينة بسطام كتب إلي بعض أصحابي من نيسابور وذكر أن الغلام المذكور قتل بعض أولاد الأتراك وقتل به وهذه كرامة واضحة لهذا الشيخ رضي الله عنه. وسافرت من نيسابور إلى مدينة بسطام التي ينسب إليها الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي الشهير رضي الله عنه وبهذه المدينة قبره ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه، وببسطام أيضا قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني. وكان نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه. ثم سافرت من هذه المدينة على طريق هند خير إلى قندوس وبغلان. وهي قرى فيها مشايخ وصالحون وبها البساتين والأنهار. فنزلنا بقندوس على نهر ماء

به زاوية لأحد شيوخ الفقراء من أهل مصر، يسمى بشير سياه، ومعنى ذلك الأسد الأسود وأضافنا بها وإلى تلك الأرض وهو من أهل الموصل ببستان عظيم هنالك. وأقمنا بخارج هذه القرية نحو أربعين يوماً لرعي الجمال والخيل وبها مراعي طيبة وأعشاب كثيرة والأمن بها شامل بسبب شدة أحكام الأمير برنطيه. وقد قدمنا أن أحكام الترك في من سرق فرساً أن يعطي منه تسعة مثله فإن لم يجد ذلك أخذ فيها أحد أولاده فإن لم يكن له أولاد ذبح مثل الشاة. والناس يتركون دوابهم مهملة دون راع بعد أن يسم كل واحد دوابه في أفخاذها وكذلك فعلنا في هذه البلاد واتفق أن تفقدنا خيلنا بعد عشر من نزولنا بها ففقدنا منها ثلاثة أفراس. ولما كان بعد نصف شهر جاءنا التتر بها إلى منزلنا خوفاً على أنفسهم من الأحكام. وكنا نربط في كل ليلة إزاء أخبيتنا فرسين لما عسى أن يقع بالليل ففقدنا الفرسين ذات ليلة وسافرنا من هنالك وبعد ثنتين وعشرين ليلة جاءوا بهما إلينا في أثناء طريقنا. وكان أيضا أسباب إقامتنا خوف الثلج فإن بأثناء الطريق جبلاً يقال له هندوكوش ومعناه قاتل الهنود. لأن العبيد والجواري الذي يؤتى بهم من بلاد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدة البرد وكثرة الثلج وهو مسيرة يومٍ كاملٍ وأقمنا حتى تمكنا من دخول الحر وقطعنا ذلك الجبل من آخر الليل. وسلكنا به جميع نهارنا إلى الغروب وكنا نضع اللبود بين أيدي الجمال تطأ عليها لئلا تغرق في الثلج. ثم سافرنا إلى موضع يعرف بأنبر وكانت هنالك فيما تقدم مدينة عفي رسمها ونزلنا بقرية عظيمة فيها زاوية لأحد الفضلاء ويسمى بمحمد المهروي ونزلنا عنده وأكرمنا وكان متى غسلنا أيدينا من الطعام يشرب الماء الذي غسلناها به لحسن اعتقاده وفضله. وسافر معنا إلى أن صعدنا جبل هندوكوش المذكور. ووجدنا بهذا الجبل عين ماء حارة فغسلنا منها وجوهنا فتقشرت وتألمنا لذلك. ثم نزلنا بموضع يعرف ببنج هير ومعنى بنج خمسة وهير الجبل، فمعناه خمسة جبال. وكانت هنالك مدينة حسنة كثيرة العمارة على نهر عظيم أزرق كأنه بحر ينزل من جبال بدخشان. وبهذه الجبال يوجد الياقوت الذي

يعرفه الناس بالبلخش. وخرب هذه البلاد تنكيز ملك التتر فلم تعمر بعده. وبهذه المدينة مزار الشيخ سعيد الملكي وهو معظم عندهم. ووصلنا إلى جبل بشاي "وضبطه بفتح الباء المعقودة والشين المعجم وألف باء ساكنة"، وبه زاوية الشيخ الصالح أطا أولياء وأطا "بفتح الهمزة" معناه بالتركية الأب وأولياء باللسان العربي فمعناه أبو الأولياء، ويسمى أيضا سيِصَد صَاله، وسيصد "بسين مهمل مكسور وياء مد وصاد مهمل ودال مهمل" معناه بالفارسية ثلاثمائة، وصاله "بفتح الصاد المهمل واللام" معناه عام. وهم يذكرون أن عمره ثلاثمائة وخمسون عام ولهم فيه اعتقاد حسن ويأتون لزيارته من البلاد والقرى ويقصده السلاطين والخواتين وأكرمنا وأضافنا ونزلنا على نهر عند زاويته ودخلنا إليه فسلمت عليه وعانقني وجسمه رطب لم أرى ألين منه ويظن رائيه أن عمره خمسون سنة. وذكر لي أنه في كل مائة سنة ينبت له الشعر والأسنان وأنه رأى أباهم الذي دفنهم بملتان من السند وسألته عن رواية حديث فأخبرني بحكايات، وشككت في حاله. والله أعلم بصدقه. ثم سافرنا إلى بَرْوَن "وضبطها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخرها نون"، وفيها لقيت الأمير بُرُنْطية "وضبط اسمها بضم الباء وضم الراء وسكون النون وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكن وهاء"، وأحسن إلي وأكرمني وكتب إلى نوابه في مدينة غزنة في إكرامي وقد تقدم ذكره، وذكر ما أعطي من البسطة في الجسم وكان عنده جماعة من المشايخ والفقراء أهل الزاوية، ثم سافرنا إلى قرية الجرخ "وضبط اسمها بفتح الجيم المعقودة وإسكان الراء وخاء معجم" وهي كبيرة لها بساتين كثيرة وفواكه طيبة قدمنا في أيام الصيف ووجدنا فيها جماعة من الفقراء والطلبة وصلينا بها الجمعة وأضافنا أمير ها محمد الجرخي ولقيته بعد ذلك بالهند. ثم سافرنا إلى مدينة غزنة وهي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم، وكان من كبار السلاطين يلقب بيمين الدولة وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند وفتح بها المدائن والحصون وقبره بهذه المدينة عليه زاوية وقد خرب معظم هذه البلدة ولم يبق منها إلا يسير وكانت كبيرة. وهي شديدة البرد والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار وهي كبيرة مخصبة ولم أدخلها. وبينهما مسيرة ثلاث. ونزلنا بخارج غزنة في قرية هنالك على نهر ماء تحت قلعتها وأكرمنا أمير ها مَرْذَكْ أغَا، ومرذك "بفتح الميم وسكون الراء وفتح الذال المعجم"، ومعناه الصغير، وأغا "بفتح الهمزة والغين

المعجم" ومعناه الكبير الأصل. ثم سافرنا إلى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان. ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية وأكثرهم قطاع طريق وجبلهم الكبير يسمى كوه سليمان يذكر أن نبي الله سليمان عليه السلام صعد ذلك الجبل فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة، فرجع ولم يدخلها فسمي الجبل به وفيه يسكن ملك الأفغان. وبكابل زاوية الشيخ إسماعيل الأفغاني تلميذ الشيخ عباس من الأولياء. ورحلنا إلى كرماش وهي حصن بين جبلين تقطع به الأفغان. وكنا حين جوازنا عليه نقاتلهم وهم بسفح الجبل ونرميهم بالنشاب فيفرون وكانت رفقتنا مخفة ومعهم نحو أربعة آلاف فرس وكانت لي جمال انقطعت عن القافلة لأجلها ومعي جماعة بعضهم من الأفغان، وطرحنا بعض الزاد وتركنا أحمال الجمال التي أعيت بالطريق وعادت إليها خيلنا بالغد فاحتملتها ووصلنا إلى القافلة بعد العشاء الآخرة فبتنا بمنزل ششنغار هي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك. ومن هنا دخلنا البرية الكبرى وهي مسيرة خمس عشرة لا تدخل إلا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند وذلك في أوائل شهر يوليه. وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفن الجسوم. حتى أن الرجل إذا مات تنفسخ أعضاؤه وقد ذكرنا أن هذه الريح تهب أيضا في البرية بين هرمز وشيراز. وكانت تقدمت أمامنا رفقة كبيرة فيها خداوند زادة قاضي ترمذ فمات لهم جماعة وخيل كثيرة. ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بَنْج آب، وهو ماء السند، وبنج "بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم" ومعناه خمسة وآب "بهمزة مفتوحة ممدودة وباء موحدة" ومعناه الماء، فمعنى ذلك الأودية الخمسة، وهي تصب في النهر الأعظم، وتسقي تلك النواحي وسنذكرها أن شاء الله تعالى. وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة. واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربع وثلاثين وسبعمائة. ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند، وعرفوا ملكها بكيفية أحوالنا وها هنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر والحمد لله رب العالمين.

المجلد الثاني

المجلد الثاني خبر الوصول إلى وادي السند ... بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله تعالى: ولما كان تاريخ الغرة من شهر المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى وادي السند المعروف ببنج آب، ومعنى ذلك المياه الخمسة. وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا وهو يفيض في أوان الحر فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند. ولما وصلنا إلى هذا النهر جاء إلينا أصحاب الأخبار الموكلون بذلك وكتبوا بخبرنا إلى قطب الملك أمير مدينة ملتان، وكان أمير أمراء السند على هذا العهد مملوك للسلطان يسمى سَرتيز، وهو من عُرض المماليك وبين يديه تعرض عساكر السلطان ومعنى اسمه الحاد الرأس لأن سَرْ "بفتح السين المهملة وسكون الراء" هو الرأس. وتيز "بتاء معلوة وياء مد وزاي" معناه الحاد. وكان في حين قدومنا بمدينة سيوستان من السند وبينها وبين ملتان مسيرة عشرة أيام وبين بلاد السند وحضرة السلطان مدينة دهلي مسيرة خمسين يوماً وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد. والبريد ببلاد الهند صنفان فأما بريد الخيل فيسمونه "الوُلاق" "بضم الواو وآخره قاف"، وهو خيل تكون للسلطان، في كل مسافة أربعة أميال، وأما بريد الرجالة، فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب ويسمونها الداوة "بالدال المهمل والواو"، والداوة هي ثلث ميل، والميل عندهم يسمى الكُرُوة "بضم الكاف والراء"، وترتيب ذلك أن يكون في كل ثلث ميل قرية معمورة ويكون بخارجها ثلاث قباب يقعد فيها الرجال مستعدين للحركة قد شدوا أوساطهم وعند كل واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين بأعلاها جلاجل نحاس فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى وخرج يشتد بمنتهى جهده. فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا له فإذا وصلهم

أخذ أحدهم الكتاب من يده ومر بأقصى جهده وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الداوة الأخرى ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه. وهذا البريد أسرع من بريد الخيل وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند من فواكه خراسان يجعلونها في الأطباق ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان وكذلك يحملون الكبار من ذوي الجنايات يجعلون الرجل على سرير ويرفعونه فوق رؤوسهم ويسيرون به شدّاً وكذلك يحملون الماء لشرب السلطان إذا كان بدولة أباد يحملونه من نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه وهو على مسيرة أربعين يوماً منها. وإذا كتب المخبرون إلى السلطان بخبر من يصل إلى بلاده استوعبوا الكتاب وأمعنوا في ذلك وعرفوه أنه ورد رجل صورته كذا ولباسه كذا وكتبوا عدد أصحابه وغلمانه وخدامه ودوابه وترتيب حاله في حركته وسكونه وجميع تصرفاته لا يغادرون من ذلك كلّه شيئاً فإذا وصل الوارد مدينة ملتان، وهي قاعدة بلاد السند أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه وما يجري له من الضيافة وإنما يكرم الإنسان هنالك بقدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته إذ لا يعرف هنالك ما حسبه ولا آباؤه. ومن عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة ومعظم خواصه وحجابه ووزارئه وقضاته وأصهاره غرباء ونفذ أمره بأن يسمي الغرباء في بلده بالأعزة فصار لهم ذلك اسماً وعلماً ولا بد لكل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه ويقدمها وسيلة بين يديه فيكافئه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة وسيمر من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير. ولما تعود الناس ذلك منه صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير ديناً ويجهزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدواب للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونهم بأموالهم وأنفسهم ويقفون بين يديه كالحشم فإذا وصل إلى السلطان أعطاه العطاء الجزيل فقضى ديونهم ووفاهم حقوقهم فنفقت تجارتهم وكثرت أرباحهم وصار لهم ذلك عادة مستمرة. ولما وصلت إلى بلاد السند، سلكتُ ذلك المنهج، واشتريت من التجار الخيل والجمال

والمماليك وغير ذلك. ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرساً وجملاً عليه حمل من النشاب فإنه مما يهدى إلى السلطان وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ثم عاد إلى الهند وهنالك تقاضى مني مائة، واستفاد بسببي فائدة عظيمة وعاد من كبار التجار. ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة وقد سلبني الكفار ما كان بيدي فلم ألق منه خيراً. ولما أَجَزْنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق لأنه في وسطها فخرج علينا الكركدن وصورته أنه حيوان أسود اللون عظيم الجرم رأسه كبير متفاوت الضخامة ولذلك يضرب به المثل، فيقال: الكركدن رأس بلا بدن وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف وله قرن واحد بين عينيه طوله نحو ثلاثة أذرع وعرضه نحو شبر ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه وعاد إلى الغيضة فلم نقدر عليه. وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذا الطريق بعد صلاة العصر وهو يرعى نبات الأرض فلما قصدناه هرب منا. ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند دخلنا غيضة قصب وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة ودخلت الرجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة. وسرنا من نهر السند يومين ووصلنا إلى مدينة جَنَاني "وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية" مدينة كبيرة حسنة على نهر السند لها أسواق مليحة وسكانها طائفة يقال لهم السامرة استوطنوها قديماً واستقر بها أسلافهم حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند. وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد ركن الدين بن الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين بن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدين زكريا القرشي وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الاسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم والحمد لله، أن جده الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إمارته على العراق وأقام بها وتكاثرت ذريته. وهؤلاء الطائفة المعروفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين

يأكلون، ولا يصاهرون أحداً من غيرهم ولا يصاهر إليهم أحد. وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى وُنَار "بضم الواو وفتح النون" وسنذكر خبره. ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سِيُوسِتان "وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون" وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال لا شجر بها إلا شجر أم غيلان. ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ. وطعامهم الذرة والجلبان ويسمونه المُشنْك "بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن"، ومنه يصنعون الخبز وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية. وأهلها يأكلون السقنقور، وهي دويبة شبيهة بأم حُبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنة إلا أنها لا ذنب لها ورأيتهم يحتفرون الرمل ويستخرجونها منه ويشقون بطنها ويرمون بما فيه ويحشونه بالكركم وهم يسمونه زردشوبه ومعناه العود الأصفر وهو عندهم عوض الزعفران ولما رأيت تلك الدويبة وهم يأكلونها استقذرتها فلم آكلها. ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ وحرها شديد فكان أصحابي يقعدون عريانين يجعل أحدهم فوطة على وسطه وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة فيبلها مرة أخرى وهكذا أبداً. ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجده الأعلى بخطابة هذه المدينة وهم يتوارثونها من ذلك العهد حتى الآن. ونص الكتاب هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان وتاريخه سنة تسع وتسعين وعليه مكتوب بخط أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الحمد لله وحده على ما أخبرني الخطيب المذكور. ولقيت بها أيضا الشيخ المعمر محمد البغدادي وهو بالزاوية التي على قبر الشيخ الصالح عثمان المرندي وذكر أن عمره يزيد على مائة وأربعين سنة وأنه حضر لقتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس رضي الله عنهم لما قتله الكافر هلاون بن تنكيز التتري1. وهذا الشيخ على كبر سنه قوي الجثة يتصرف على قدميه. وكان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري الذي تقدم ذكره، والأمير

_ 1 يظهر - والله أعلم - أنه يقصد: هولاكو، لأنه الذي خرب بغداد، وقتل المستعصم.

قيصر الرومي وهما في خدمة السلطان ومعهما نحو ألف وثمانمائة فارس، وكان يسكن بها كافر من الهنود اسمه رَتَن "بفتح الراء وبفتح التاء المعلوة والنون" وهو من الحذاق بالحساب والكتابة، فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند وولاه بتلك البلاد وأقطعه سيوستان وأعمالها وأعطاه المراتب وهي الأطبال والعلامات كما يعطي كبار الأمراء، فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على وُنَار وقيصر وغيرهم تقديم الكافر عليهم فأجمعوا على قتله، فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا عليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليطّلع على أمورها فخرج معهم فلما جن الليل أقاموا ضجة بالمحلة وزعموا أن السبع ضرب عليها وقصدوا مضرب الكافر فقتلوه. وعادوا إلى المدينة فأخذوا ما كان بها من مال السلطان وذلك اثنا عشر لكاً، واللّك مائة ألف دينار، وصرف اللّك عشرة آلاف دينار من ذهب الهند، وصرف الدينار الهندي ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب وقدموا على أنفسهم وُنار المذكور وسموه ملك فيروز وقسم الأموال على العسكر ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته فخرج فيمن معه من أقاربه وقصد قبيلته وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي واتصل خبرهم بعماد الملك سِرتيز مملوك السلطان وهو يومئذ أمير أمراء السند وسكناه بملتان، فجمع العساكر وتجهز في البر وفي نهر السند. وبين ملتان وسيوستان عشرة أيام وخرج إليه قيصر فوقع اللقاء وانهزم قيصر ومن معه أشنع هزيمة وتحصنوا بالمدينة فحاصرهم ونصب المجانيق عليهم واشتد عليهم الحصار فطلبوا الأمان بعد أربعين يوماً من نزوله عليهم فأعطاهم الأمان فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم. فكان كلّ يوم يضرب أعناق بعضهم ويوسط البعض ويسلخ آخرين منهم ويملاء جلودهم تبناً ويعلقها على السور فكان تلك الجلود مصلوبة ترعب من ينظر إليها. وجمع رؤوسهم في وسط المدينة فكانت مثل التل هنالك. ونزلت بتلك المدينة أثر هذه الواقعة بمدرسة فيها كبيرة، وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة فانتقلت عنها. وكان الفقيه الفاضل العادل علاء الملك الخراساني المعروف بفصيح الدين قاضي هراة في متقدم التاريخ قد وفد على ملك الهند فولاه مدينة لاهري وأعمالها من بلاد السند وحضر هذه الحركة مع عماد الملك سرتيز بمن معه من العساكر. فعزمت على السفر معه إلى مدينة لاهري. وكان له

خمسة عشر مركباً قدم بها في نهر السند تحمل أثقاله فسافرت. وكان للفقيه علاء الملك في جملة سفنه سفينة تعرف بالأَهَوْرَة "بفتح الهمزة والهاء وسكون الواو وفتح الراء"، وهي نوع من الطريدة عندنا إلا أنها أوسع منها وأقصر وعلى نصفها مرعش من خشب يصعد له على درج وفوقه مجلس مهيأ لجلوس الأمير ويجلس أصحابه بين يديه ويقف المماليك يمنة ويسرة والرجال يقذفون وهم نحو أربعين ويكون مع هذه الأهورة أربعة من السفن عن يمينها ويسارها اثنان منها فيهما مراتب الأمير وهي العلامات والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات والآخران فيهما أهل الطرب فتضرب الطبول والأبواق نوبة ويغني المغنون نوبة ولا يزالون كذلك من أول النهار إلى وقت الغداء فإذا كان وقت الغداء انضمت المراكب واتصل بعضهنا ببعض ووضعت بينهما الإصقالات وأتى أهل الطرب إلى أهورة الأمير فيغنون إلى أن يفرغ من أكله ثم يأكلون وإذا انقضى الأكل عادوا إلى مراكبهم وشرعوا في المسير على ترتيبهم إلى الليل فإذا كان الليل ضربت المحلة على شاطئ النهر ونزل الأمير إلى خيامه ومد السماط وحضر الطعام معظم العسكر فإذا صلوا العشاء الآخرة سمر السمار بالليل نوباً فإذا أتم أهل النوبة منهم نوبتهم نادى مناد منهم بصوت عال يا خوند ملك قد مضى من الليل كذا من الساعات، ثم يسمر أهل النوبة الأخرى فإذا أتموا نادى مناديهم أيضاً معلماً بما مر من الساعات فإذا كان الصبح ضربت الأبواق والطبول وصلّيت صلاة الصبح. وأتي بالطعام فإذا فرغ الأكل أخذوا في المسير فإن أراد الأمير ركوب النهر ركب على ما ذكرناه من الترتيب وإن أراد المسير في البر ضربت الأطبال والأبواق وتقدم حجابه ثم تلاهم المشاؤون بين يديه ويكون بين أيدي الحجاب ستة من الفرسان عند ثلاثة منهم أطبال قد تقلدوها وعند ثلاثة صرنايات فإذا أقبلوا على قرية أو ما هو من الأرض مرتفع ضربوا تلك الأطبال والصرنايات ثم تدق أطبال العسكر وأبواقه ويكون عن يمين الحجاب ويسارهم المغنون يغنون نوباً فإذا كان وقت الغداء نزلوا. وسافرت مع علاء الملك خمسة أيام، ووصلنا إلى موضع ولايته، وهو مدينة لاَهَرِي "وضبط اسمها بفتح الهاء وكسر الراء" مدينة حسنة على ساحل البحر الكبير، وبها يصب نهر السند في البحر، فيلتقي بها بحران، ولها مرسى

عظيم، يأتي إليه أهل اليمن وأهل فارس وغيره. وبذلك عظمت جبايتها وكثرت أموالها. أخبرني الأمير علاء الملك المذكور أن مجبى هذه المدينة ستون لكّاً في السنة وقد ذكرنا مقدار اللك، وللأمير من ذلك نم "نيم" ده يك، ومعناه نصف العشر. وعلى ذلك يعطي السلطان البلاد لعماله يأخذون منها لأنفسهم نصف العشر. وركبت يوماً مع علاء الملك فانتهينا إلى بسيط من الأرض على مسافة سبعة أميال منها يعرف بتارنا، فرأيت هنالك ما لا يحصره العد من الحجارة على مثل صور الآدميين والبهائم وقد تغير كثير منها ودثرت أشكاله فيبقى منه صورة رأس أو رجل أو سواهما. ومن الحجارة أيضاً على صورة الحبوب من البر والحمص والفول والعدسـ وهنالك آثار سور وجدران دور، ثم رأينا رسم دار فيها بيت من حجارة منحوتة وفي وسطه دكانة حجارة منحوتة كأنها حجر واحد عليها صورة آدمي إلا أن رأسه طويل وفمه في جانب من وجهه ويداه خلف ظهره كالمكتوف وهنالك مياه شديدة النتن وكتابة على بعض الجدران بالهندي وأخبرني علاء الملك أن أهل التاريخ يزعمون أن هذا الموضع كانت فيه مدينة أكثر أهلها الفساد فمسخوا حجارة وأن ملكهم هو الذي على الدكانة في الدار التي ذكرناه وهي الآن تسمى دار الملك وإن الكتابة التي على بعض الحيطان هنالك بالهندي هي تاريخ هلاك أهل تلك المدينة وكان ذلك منذ ألف سنة أو نحوها وأقمت بهذه المدينة مع علاء الملك خمسة أيام ثم أحسن في الزاد، وانصرفت عنه إلى مدينة بَكَار "بفتح الباء الموحدة" وهي مدينة حسنة يشقها خليج من نهر السند وفي وسط ذلك الخليج زاوية حسنة فيها الطعام للوارد والصادر عمّرها كشلوخان أيام ولايته على بلاد السند وسيقع ذكره. ولقيت بهذه المدينة الفقيه الإمام صدر الدين الحنفي، ولقيت بها قاضيها المسمى بأبي حنيفة، ولقيت بها الشيخ العابد الزاهد شمس الدين محمد الشيرازي وهو من المعمرين ذكر لي أن سنه يزيد على مائة وعشرين عاماً. ثم سافرت من مدينة بكَار فوصلت إلى مدينة أُوجَه "وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم" وهي مدينة كبيرة على نهر السند لها أسواق حسنة وعمارة جيدة. وكان الأمير بها إذ ذاك الملك الفاضل الشريف جلال الدين الكيجي أحد الشجعان الكرماء. وبهذه المدينة توفي بعد سقطة سقطها عن فرسه.

ونشأت بيني وبين هذا الملك الشريف جلال الدين مودة وتأكدت بيننا الصحبة والمحبة واجتمعنا بحضرة دهلي فلما سافر السلطان إلى دولة أباد كما سنذكره وأمرني بالإقامة بالحضرة قال لي جلال الدين: إنك تحتاج إلى نفقة كبيرة والسلطان تطول غيبته فخذ قريتي واستغلها حتى يعود ففعلت ذلك، واستغللت منها نحو خمسة آلاف دينار جزاه الله أحسن الجزاء. ولقيت بمدينة أُوجَه الشيخ العابد الزاهد الشريف قطب الدين حيدر العلوي وألبسني الخرقة وهو من كبار الصالحين ولم يزل الثوب الذي ألبسنيه معي إلى أن سلبني كفار الهنود في البحر. ثم سافرت من أوجه إلى مدينة مُلتان "وضبط اسمها بضم الميم وتاء معلوة" وهي قاعدة بلاد السند ومسكن أمير أمرائه. وفي الطريق إليها على مسافة عشرة أميال الوادي المعروف بخسرو أباد من الأودية الكبار لا يجاز إلا بالمراكب. وبه يبحث عن أمتعة المجتازين أشد البحث وتفتش رحالهم. وكانت عادتهم حين وصولنا إليها أن يأخذوا الربع من كل ما يجلبه التجار ويأخذوا على كل فرس سبعة دنانير مغرماً. ثم بعد وصولنا للهند بسنتين رفع السلطان تلك المغارم وأمر أن لا يؤخد من الناس إلا الزكاة والعشر، لما بايع الخليفة أبي العباس العباسي. ولما أخذنا في إجازة هذا الوادي وفتشت الرحال عظم علي تفتيش رحلي لأنه لم يكن فيه طائل وكان يظهر في أعين الناس كبيراً فكنت أكره أن يطّلع عليه، ومن لطف الله تعالى أن وصل أحد كبار الأجناد من جهة قطب الملك صاحب ملتان، فأمر أن لا يعرض لي ببحث ولا تفتيش فكان كذلك فحمدت الله على ما هيأه لي من لطائفه. وبِتنا تلك الليلة على شاطئ الوادي وقدم علينا في صبيحتها ملك البريد واسمه دهقان وهو سمرقندي الأصل وهو الذي يكتب للسلطان بأخبار تلك المدينة وعمالتها وما يحدث بها ومن يصل إليها فتعرفت به ودخلت بصحبته إلى أمير ملتان. وهُو قطب الملك من كبار الأمراء وفضلائهم، لما دخلت قام إلي وصافحني وأجلسني إلى جانبه وأهديت له مملوكاً وفرساً وشيئاً من الزبيب واللوز وهو من أعظم ما يهدى إليهم لأنه ليس ببلادهم وإنما يجلب من

خراسان وكان جلوس هذا الأمير على دكانة كبيرة عليها البسط وعلى مقربة منه القاضي ويسمى سالارو، والخطيب ولا أذكر اسمه، وعن يمينه ويساره أمراء الأجناد، وأهل السلاح وقوف على رأسه والعساكر تعرض بين يديه وهناك قسي كثيرة فإذا أتى من يريد أن يثبت في العسكر رامياً أعطي قوساً من تلك القسي ينزع1 فيها وهي متفاوتة في الشدة فعلى قدر نزعه يكون مرتبه ومن أراد أن يثبت فارساً فهناك طبلة منصوبة فيجري فرسه ويرميها برمحه وهناك أيضا خاتم معلق من حائط صغير فيجري فرسه حتى يحاذيه فإن رفعه برمحه فهو الجيد عندهم ومن أراد أن يثبت رامياً فارساً فهنالك كرة موضوعة على الأرض فيجري فرسه ويرميها وعلى قدر ما يظهر الإنسان في ذلك من الإصابة يكون مرتبه. ولما دخلنا على هذا الأمير وسلمنا عليه كما ذكرناه أمر بإنزالنا في دار خارج المدينة، هي لأصحاب الشيخ العابد ركن الدين الذي تقدم ذكره وعادتهم ألا يضيفوا أحداً حتى يأمر السلطان. وممن اجتمعت به في هذه المدينة من الغرباء الوافدين على حضرة ملك الهند خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ قدم بأهله وولده ثم ورد عليه بها إخوته عماد الدين وضياء الدين وبرهان الدين، ومنهم مبارك شاه أحد كبار سمرقند، ومنهم أرن بغا أحد كبار بخاري، ومنهم ملك زاده ابن أخت خداوند ومنهم بدر الدين الفصال وكل واحد من هؤلاء معه أصحابه وخدامه وأتباعه. ولما مضى من وصولنا إلى ملتان شهران وصل أحد حجاب السلطان وهو شمس الدين البوشنجي والملك محمد الهروي الكتوال بعثهما السلطان لاستقبال خداوند زاده وقدم معهم ثلاثة من الفتيان بعثتهم المخدومة جهان أم السلطان لاستقبال زوجة خداوند زاده المذكور وأتوا بالخلع لهما ولأولادهما ولتجهيز من قدم من الوفود وأتوا جميعاً إلي وسألوني لماذا قدمت فأخبرتهم أني قدمت للإقامة في خدمة خوند عالم وهو السلطان وبهذا يدعى في بلاده، وكان أمر أن لا يترك أحد ممن يأتي من خراسان يدخل بلاد الهند إلا أن كان يرسم الإقامة فلما أعلمتهم أني قدمت للإقامة استدعوا القاضي والعدول وكتبوا عقداً علي وعلى من أراد الإقامة من أصحابي وأبى بعضهم من ذلك.

_ 1 أي: يرمي بها.

وتجهزنا للسفر إلى الحضرة. وبين ملتان وبينهما مسيرة أربعين يوماً في عمارة متصلة. وأخرج الحاجب وصاحبه الذي بعث معه ما يحتاج إليه في ضيافة قوام الدين واستصحبوا من ملتان نحو عشرين طباخاً وكان الحاجب يتقدم ليلاً إلى كل منزل فيجهز الطعام وسواه فما يصل خداوند زاده حتى يكون الطعام متيسراً وينزل كل واحد ممن ذكرناهم من الوفود على حدة بمضاربه وأصحابه وربما حضروا الطعام الذي يصنع لخداوند زاده ولم أحضره أنا إلا مرة واحدة وترتيب ذلك الطعام أنهم يجعلون الخبز وخبزهم الرقاق وهو شبه الجراديق ويقطعون اللحم المشوي قطعاً كبيرة بحيث تكون الشاة أربع قطع أو ستّاً ويجعلون أمام كل رجل قطعة ويجعلون أقراصاً مصنوعة بالسمن تشبه الخبز المشترك ببلادنا ويجعلون في وسطها الحلواء الصابونية ويغطون كل قرص منها برغيف حلواء يسمونه الخشتى ومعناه الأجري مصنوع من الدقيق والسكر والسمن ثم يجعلون اللحم المطبوخ بالسمن والبصل والزنجبيل الأخضر في صحاف صينية ثم يجعلون شيئاً يسمونه سموسك وهو لحم مهروس مطبوخ باللوز والجوز والفستق والبصل والأبازير موضوع في جوف رقاقة مقلوة بالسمن، يضعون أمام كل إنسان خمس قطع من ذلك أو أربعة ثم يجعلون الأرز المطبوخ بالسمن وعليه الدجاج ثم يجعلون لقيمات القاضي ويسمونها الهاشمي ثم يجعلون القاهرية. ويقف الحاجب على السماط قبل الأكل ويخدم إلى الجهة التي فيها السلطان ويخدم جميع من حضر لخدمته والخدمة عندهم حط الرأس نحو الركوع فإذا فعلوا ذلك جلسوا للأكل ويؤتى بأقداح الذهب والفضة والزجاج مملوءة بماء النبات وهو الجلاب محلولاً في الماء ويسمون ذلك الشربة ويشربونه قبل الطعام، ثم يقول الحاجب بسم الله فعند ذلك يشرعون في الأكل فإذا أكلوا أتوا بأكواز الفقاع فإذا شربوه أتو بالتنبول والفوفل وقد تقدم ذكرهما. فإذا أخذوا التنبول والفوفل، قال الحاجب. بسم الله فيقومون ويخدمون مثل خدمتهم أولاً، وينصرفون. ثم سافرنا من مدينة ملتان، وهم يجرون هذا الترتيب على حسب ما سطرناه، إلى أن وصلنا إلى بلاد الهند وكان أول بلد دخلناه مدينة أبو هَر "بفتح الهاء" وهي أول تلك البلاد الهندية صغيرة حسنة كثيرة العمارة ذات أنهار وأشجار. وليس

هنالك من أشجار بلادنا شيء ما عدا النبق، لكنه عندهم عظيم الجرم تكون الحبة منه بمقدار حبة العفص شديد الحلاوة. ولهم أشجار كثيرة ليس يوجد منها شيء ببلادنا ولا بسواها.

أشجار بلاد الهند وفواكهها

أشجار بلاد الهند وفواكهها: منها العَنْبَة "بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة" وهي شجرة تشبه أشجار النارنج إلا أنها أعظم أجراماً1 وأكثر أوراقاً وظلها أكثر الظلال غير أنه ثقيل فمن نام تحته وعك وثمرها على قدر الإجاص الكبير فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه وجعلوا عليه الملح2 وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا وكذلك يصيرون أيضا الزنجبيل الأخضر وعناقيد الفلفل ويأكلون ذلك مع الطعام يأخذون بأثر كل لقمة يسيراً من هذه المملوحات فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف اصفرت حباتها فأكلوها كالتفاح فبعضهم يقطعها بالسكين وبعضهم يمصها مصا وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار كما تزرع نوى النارنج وغيرها. ومنها الشَّكي والبَرْكي "بفتح الشين المعجم وكسر الكاف، وفتح الباء الموحدة وكسر الكاف" وهي أشجار عادية أوراقها كأوراق الجوز وثمرها يخرج من أصل الشجر فما اتصل منه بالأرض فهو البركي وحلاوته أشد وطعمه أطيب وما كان فوق ذلك فهو الشكي وثمره يشبه القرع الكبار وجلوده تشبه جلود البقر فإذا اصفر في أوان الخريف قطعوه وشقوه فيكون في داخل كل حبة المائة والمائتان فما بين ذلك من حبات تشبه الخيار بين كل حبة وحبة صفاق أصفر اللون وبكل حبة نواة تشبه الفول الكبير وإذا شويت تلك النواة أو طبخت يكون طعمها كطعم الفول إذ ليس يوجد هنالك ويدخرون هذه النوى في التراب الأحمر فتبقى إلى سنة أخرى وهذا الشكي والبركي هو خير فاكهة ببلاد الهند. والتَنْدو "بفتح التاء المثناة وسكون النون وضم الدال" وهو ثمر شجر الأبنوس، وحباته في قدر حبات المشمش، ولونها،

_ 1 جمع جرم، ومعناه: الجسم، فالمراد أعظم حجماً من شجرة النارنج. والله أعلم. 2 أي: حفظوه مكبوساً بالملح، أو: خلّلوه بتعبير آخر ليكون من المشهيات مع الطعام.

وهو شديد الحلاوة، والجُوز "بضم الجيم المعقودة" وأشجار عادية ويشبه ثمره الزيتون وهو أسود اللون ونواه واحدة كالزيتون. والنارنج الحلو، وهو عندهم كثير. وأما النارنج الحامض فعزيز الوجود ومنه صنف ثالث يكون بين الحلو والحامض وثمره على قدر الليم وهو طيب جدّاً وكنت يعجبني أكله. ومنها المَهْوا "بفتح الميم والواو" وأشجاره عادية وأوراقه كأوراق الجوز إلا أن فيها حمرة وصفرة وثمره مثل الإجاص الصغير شديد الحلاوة وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة وطعمها كالعنب. إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعاً، ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان طعمها كطعم التين وكنت آكلها عوضاً عن التين إذ لا يوجد ببلاد لهند وهم يسمون هذه الحبة الأنكور "بفتح الهمزة وسكون النون وضم الكاف المعقودة والواو والراء"، وتفسيره بلسانهم العنب. والعنب بأرض الهند عزيز جدّاً، ولا يكون بها إلا في مواضع بحضرة دهلي وببلاد أخرى ويثمر مرتين في السنة ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت ويستصبحون1 به. ومن فواكههم فاكهة يسمونها كَسِيرا "بفتح الكاف وكسر السين وياء مد وراء" يحفرون عليها الأرض وهي شديدة الحلاوة يشبه القسطل. وببلاد الهند من فواكه بلادنا الرمان ويثمر مرتين في السنة ورأيته ببلاد جزائر ذيبة المهل لا ينقطع له ثمر، وهم يسمونه أنَار "بفتح الهمزة والنون" وأظن ذلك هو الأصل في تسمية الجلنار، فإن جُل بالفارسية الزهر ونار الرمان. أما عن الحبوب التي يزرعها أهل الهند ويقتاتون بها. فأهل الهند يزرعون مرتين في السنة فإذا نزل المطر عندهم في أوان القيظ زرعوا الزرع الخريفي وحصدوه بعد ستين يوماً من زراعته ومن هذه الحبوب الخريفية عندهم الكُذُرو "بضم الكاف وسكون الذال المعجم وضم الراء وبعدها واو" وهو نوع من الدخن وهذا الكذرو هو أكثر الحبوب عندهم. ومنها القال "بالقاف" وهو شبه أنلى. ومنها الشّاماخ "بالشين والخاء المعجمتين"، وهو أصغر حبا من القال. وربما نبت هذا الشاماخ من غير زراعة وهو طعام الصالحين وأهل الورع والفقراء

_ 1 أي: يتخذونه وقوداً للمصابيح.

والمساكين، يخرجون لجمع ما نبت منه من غير زراعة فيمسك أحدهم قفة كبيرة بيساره وتكون بيمناه مقرعة يضرب بها الزرع فيسقط في القفة فيجمعون منه ما يقتاتون به جميع السنة وحب هذا الشاماخ صغير جدّاً، وإذا جمع جعل في الشمس ثم يدق في مهارس الخشب فيطير قشره ويبقى لبه أبيض ويصنعون منه عصيدة يطبخونها بحليب الجواميس وهي أطيب من خبزه، وكنت آكلها كثيراً ببلاد الهند وتعجبني. ومنها الماش وهو نوع من الجلبان ومنها المنج "بميم مضموم ونون وجيم"، وهو نوع من الماش إلا أن حبوبه مستطيلة ولونه صافي الخضرة ويطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كُشْري "بالكاف والشين المعجم والراء"، وعليه يفطرون في كل يوم وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب، ومنها اللوبيا وهي نوع من الفول. ومنها الموث "بضم الميم" وهو مثل الكذرو إلا أن حبوبه أصغر، وهو علف الدواب عندهم وتسمن الدواب بأكله. والشعير عندهم لا قوة له وإنما علف الدواب من هذا الموث أو الحمص يجرشونه ويبلونه بالماء ويطعمونه الدواب ويطعمونها عوضاً من القصيل أوراق الماش بعد أن تسقى الدابة السمن عشرة أيام في كل يوم مقدار ثلاثة أرطال أو أربعة ولا تركب في تلك الأيام. وبعد ذلك يطعمونها أوراق الماش كما ذكرنا شهراً أو نحوه وهذه الحبوب التي ذكرناها هي الخريفية وإذا حصدوها بعد ستين يوماً من زراعتها ازدرعوا الحبوب الربيعية وهي القمح والشعير والحمص والعدس وتكون زراعتها في الأرض التي كانت الحبوب الخريفية مزروعة فيها وبلادهم كريمة طيبة التربة. وأما الأرز فإنهم يزرعونه ثلاث مرات في السنة وهو من أكبر الحبوب عندهم. ويزدرعون السمسم وقصب السكر مع الحبوب الخريفية التي تقدم ذكرها. "ولنعد إلى ما كنا بسبيله فأقول" سافرنا من مدينة أبو هر، في صحراء مسيرة يوم في أطرافها جبال منيعة يسكنها كفار الهنود، وربما قطعوا الطريق. وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين يسكنون القرى ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم الذي تكون القرية في إقطاعه ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق. ولما أردنا السفر من مدينة أبو هَر خرج الناس منها أول النهار وأقمت بها إلى نصف النهار في لمة من أصحابي ثم خرجنا ونحن اثنان وعشرون

فارساً منهم عرب ومنهم أعاجم، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلاً من الكفار وفارسان، وكان أصحابي ذوي نجدة وعتّي، فقاتلناهم أشد القتال، فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه وقتلنا من رجالهم نحو اثنى عشر رجلاً وأصابتني نشابة وأصابت فرسي نشابة ثانية ومنّ الله بالسلامة منها، لأن نشابهم لا قوة لها وجرح لأحد أصحابنا فرس عوضناه له بفرس الكافر، وذبحنا فرسه المجروح فأكله الترك من أصحابنا وأوصلنا تلك الرؤوس إلى حصن أبي بَكْهَر فعلقناها على سوره. وكان وصولنا في نصف الليل إلى حصن أبي بَكْهر المذكور "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح الهاء وآخره راء". وسافرنا منه فوصلنا بعد يومين إلى مدينة أَجُودَهَن "وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الجيم وفتح الدال المهمل والهاء وآخره نون" مدينة صغيرة هي للشيخ الصالح فريد الدين البذاوني الذي أخبرني الشيخ الصالح الولي برهان الدين الأعرج بالإسكندرية أني سألقاه فلقيته والحمد لله، وهو شيخ ملك الهند وأنعم عليه بهذه المدينة وهذا الشيخ مبتلي بالوسواس والعياذ بالله فلا يصافح أحداً ولا يدنو منه وإذا ألصق ثوبه بثوب أحد غسل ثوبه. دخلت زاويته ولقيته وأبلغته سلام الشيخ برهان الدين فعجب وقال أنا دون ذلك ولقيت ولديه الفاضلين معز الدين وهو أكبرهما ولما مات أبوه تولى الشياخة بعده وعلم الدين. وزرت قبر جده القطب الصالح فريد الدين البذاوني منسوبة إلى مدينة "بذاوُن" بلد السنبل. "وهي بفتح الباء الموحدة والذال المعجم وضم الواو وآخرها نون" ولما أردت الانصراف عن هذه المدينة، قال لي علم الدين: لا بد لك من رؤية والدي فرأيته وهو في أعلى سطح له وعليه ثياب بيض وعمامة كبيرة لها ذوابة وهي مائلة إلى جانب ودعا لي وبعث إلى بسكر ونبات. ولما انصرفت عن هذا الشيخ رأيت الناس يهرعون من عسكرنا ومعهم بعض أصحابنا فسألتهم ما الخبر؟ فأخبروني أن كافراً من الهنود مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه. ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه. وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة والناس يتبعونها من مسلم وكافر والأطبال والأبواق بين يديها ومعها البراهمة وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها. ثم اتفق بعد مدة أني كنت

بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأبحري1 وأمير ها مسلم من سامرة السند وعلى مقربة منها الكفار العصاة فقطعوا الطريق يوماً وخرج الأمير المسلم لقتالهم وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار ووقع بينهم قتال شديد مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر - وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات فاتفقن على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفاً بذلك ونسبوا إلى الوفاء ومن لم تحرق نفسها لبست خشن الثياب وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها ولكنها لا تكره على إحراق نفسها. ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهم أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب كأنهم يودعن الدنيا ويأتي إليهن النساء من كل جهة وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس فركبته وهي متزينة متعطرة وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها والبراهمة يحفون بها وأقاربها معها وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار وكل إنسان من الكفار يقول لها أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي وهي تقول نعم وتضحك إليهم وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال وبين أشجاره أربع قباب في كل قبة صنم من الحجارة وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس فكأن ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم أعاذنا الله منها ولما وصلن إلى تلك القباب نزلن إلى الصهريج وانغمسن فيه وجردن ما عليهم من ثياب وحلي فتصدقن به وأتيت كل واحدة منهم بثوب قطن خشن غير مخيط فربط بعضه على وسطها وبعضه على رأسها وكتفيها والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج في موضع منخفض وصب عليها روغن كنجت "كنجد" وهو زيت الجُلْجُلان2 فزاد في اشتعالها. وهنالك نحو خمسة عشر رجلاً بأيديهم حزم من الحطب الرقيق ومعهم نحو عشرة

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: بأحجري. 2 الجلجلان: ثمرة الكزبرة، أو حبّ السمسم.

بأيديهم خشب كبار، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة وقد حجبت النار بملحفه يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم: مار ميترساني ازاطش "آنش" من ميدانم أواطش است رهاكني مارا، وهي تضحك. ومعنى هذا الكلام أبالنار تخوفونني؟ أنا أعلم أنها نار محرقة ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار ورمت بنفسها فيها، وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أن أصحابي تداركوني بالماء فغسلوا وجهي وانصرفت وكذلك يفعل أهل الهند أيضاً في الغرق يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك وهو الذي إليه يحجون وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين وهم يقولون أنه من الجنة وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال إنما قصدي التقرب إلى كُساى. وكُساى "بضم الكاف والسين المهمل" اسم الله عز وجل بلسانهم ثم يغرق نفسه. فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورمو برماده في البحر المذكور. ولنعد إلى كلامنا الأول، فنقول: سافرنا من مدينة أجودهن فوصلنا بعد مسيرة أربعة ايام منها إلى مدينة سَرْسَتي "وضبط اسمها بسينين مفتوحين بينهما راء ساكنة ثم تاء مثناة مكسورة وياء" مدينة كبيرة كثيرة الأرز وأرزها طيب ومنها يحمل إلى حضرة دهلي ولها مجبى كثير جداً أخبرني الحاجب شمس الدين البوشنجي بمقداره وأنسيته. ثم سافرنا منها إلى مدينة حَانْسي "وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة وألف ونون ساكن وسين مهمل مكسور وياء"، وهي من أحسن المدن وأتقنها وأكثرها عمارة. ولها سور عظيم ذكروا أن بانيه رجل من كبار سلاطين الكفار يسمى توره وله عندهم حكايات وأخبار. ومن هذه المدينة كمال الدين صدر الجهان قاضي قضاة الهند وأخوه قطلوخان معلم السلطان وأخواهما نظام الدين وشمس الدين الذي انقطع إلى الله وجاور بمكة حتى مات. ثم سافرنا من حانسي فوصلنا بعد يومين إلى مسعود أباد وهي على عشرة أميال من حضرة دهلي وأقمنا بها ثلاثة أيام. وحانسي

ومسعود أباد هما للملك المعظم هُوشنج "بضم الهاء وفتح الشين المعجم وسكون النون وبعدها جيم" ابن الملك كمال كُرك، وكرك "بكافين معقودين أولاهما مضمومة" ومعناه الذئب وسيأتي ذكره. وكان سلطان الهند الذي قصدنا حضرته غائباً عنها بناحية مدينة قتوج وبينها وبين حضرة دهلي عشرة أيام وكانت بالحضرة والدته وتدعى المخدومة جهان وجهان اسم الدنيا. وكان بها أيضا وزيره خواجه جهان المسمى بأحمد بن أياس الرومي الأصل فبعث الوزير إلينا أصحابه ليتلقونا وعين للقاء كل واحد منا من كان من صنفه فكان من الذين عينهم للقائي الشيخ البسطامي والشريف المازنداراني وهو حاجب الغرباء والفقيه علاء الدين الملتاني المعروف بقَنّرة "بضم القاف وفتح النون وتشديدها" وكتب إلى السلطان بخبرنا. وبعث الكتاب مع الدواة وهي بريد الرجالة حسبما ذكرناه فوصل إلى السلطان وأتاه الجواب في تلك الأيام الثلاثة التي أقمناها بمسعود أباد وبعد تلك الأيام خرج إلى لقائنا القضاة والفقهاء والمشايخ وبعض الأمراء وهم يسمون الأمراء ملوكاً فحيث يقول أهل ديار مصر وغيرها الأمير يقولون هم الملك وخرج إلى لقائنا الشيخ ظهير الدين الزنجاني وهو كبير المنزلة عند السلطان، ثم رحلنا من مسعود أباد فنزلنا بمقربة من قرية تسمى بالَم "بفتح الباء المعقودة وفتح اللام" وهي للسيد الشريف ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندماء السلطان وممن له عنده الحظوة التامة. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حضرة دِهْلي قاعدة بلاد الهند "وضبط اسمها بكسر الدال المهمل وسكون الهاء وكسر اللام"، وهي المدينة العظيمة الشأن الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق. ومدينة دهلي كبيرة المساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات إحداهما المسماة بهذا الاسم دهلي وهي القديمة من بناء الكفار وكان افتتاحها سنة أربع وثمانين وخمسمائة والثانية تسمى سيري "بكسر السين المهمل والراء بينهما ياء مد" وتسمى أيضا دار الخلافة وهي التي أعطاها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لما قدم عليه، وبها كان سكنى السلطان علاء الدين وابنه قطب الدين وسنذكرهما، والثالثة تسمى أباد باسم بانيها السلطان تغلق والد سلطان الهند الذي قدمنا عليه. وكان سبب بنائه

لها أنه وقف يوماً بين يدي السلطان قطب الدين فقال له يا خوند عالم كان ينبغي أن تبني هنا مدينة فقال له السلطان متهكماً إذا أصبحت سلطاناً فابنها فكان من قدر الله أن كان سلطاناً فبناها وسماها باسمه، والرابعة تسمى جهان بناه، وهي مختصة بسكنى السلطان محمد شاه ملك الهند الآن الذي قدمنا عليه وهو الذي بناها وكان أراد أن يضم هذه المدن الأربع تحت سور واحد فبنى منه بعضا وترك بناء باقيه لعظم ما يلزم في بنائه. والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير عرض حائطه أحد عشر ذراعاً وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب وفيها مخازن للطعام ويسمونها الأنبارات ومخازن للعدد ومخازن للمجانيق والرعادات ويبقى الزرع بها مدة طائلة لا يتغير ولا تطرقه آفة ولقد شاهدت الأرز يخرج من بعض تلك المخازن ولونه قد اسود لكن طعمه طيب، ورأيت أيضا الكذرو يخرج منها وكل ذلك من اختزان السلطان بَلَبَن منذ تسعين سنة ويمشي داخل السور الفرسان والرجالة من أول المدينة إلى آخرها وفيه طيقان مفتحة إلى جهة المدينة يدخل منها الضوء وأسفل السور مبني بالحجارة وأعلاه بالآجر وأبراجه كثيرة متقاربة ولهذه المدينة ثمانية وعشرون باباً وهم يسمون الباب دروازة فمنها دروازة بذاون وهي الكبرى ودروازة المندوي وبها رحبة الزرع ودروازة جُل "بضم الجيم" وهي موضع البساتين ودروازة شاه اسم رجل ودروازة بالم اسم قرية ذكرناها ودروازة نجيب اسم رجل ودروازة كمال كذلك ودروازة غزنة نسبة إلى مدينة غزنة التي بطرف خراسان وبخارجها مصلى العيد وبعض المقابر ودروازة البَجَالصة "بفتح الباء والجيم والصاد المهمل"، وبخارج هذه الدروازة مقابر دهلي وهي مقبرة حسنة يبنون بها القباب ولا بد عند كل قبر من محراب وإن كان لا قبة له ويزرعون بها الأشجار المزهرة مثل قُل1 "كل شنبو" وريبول "راي بيل" والنسرين وسواها. والأزاهير هنالك لا تنقطع في فصل من الفصول. وجامع دهلي كبير الساحة حيطانه وسقفه وفرشه كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة أبدع نحت ملصقة بالرصاص أتقن إلصاقة، لا حشبة

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: مثل: قل شَنْبَة.

به أصلاً. وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة ومنبره أيضا من الحجر وله أربعة صحون وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي لا يدري من أي المعادن هو. ذكر لي بعض حكامهم أنه يسمى هَفْت جُوش ومعنى ذلك سبعة معادن وأنه مؤلف منها وقد جلي من هذا العمود مقدار السبابة ولذلك المجلو منه بريق عظيم ولا يؤثر فيه الحديد وطوله ثلاثون ذراعاً وأدرنا به عمامة فكان الذي أحاط بدائرته منها ثمانية أذرع وعند الباب الشرقي من أبواب المسجد صنمان كبيران جداً من النحاس مطروحان بالأرض قد ألصقا بالحجارة ويطأ عليها كل داخل إلى المسجد أو خارج منه وكان موضع هذا المسجد بدخانة وهو بيت الأصنام فلما افتتحت جعل مسجداً وفي الصحن الشمالي من المسجد الصومعة التي لا نظير لها في بلاد الإسلام وهي مبنية بالحجارة الحمر خلافاً لحجارة سائر المسجد فإنها بيض وحجارة الصومعة منقوشة وهي سامية الارتفاع وفحلها من الرخام الأبيض الناصع وتفافيحها من الذهب الخالص وسعة ممرها بحيث تصعد فيه الفيلة حدثني من أثق به أنه رأى الفيل حين بنيت يصعد بالحجارة إلى أعلاها وهي من بناء السلطان معز الدين بن ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بَلَبََن. وأراد السلطان قطب الدين أن يبني بالصحن الغربي صومعة أعظم منها فبنى مقدار الثلث منها واخترم دون تمامها وأراد السلطان محمد إمامها ثم ترك ذلك تشاؤماً. وهذه الصومعة من عجائب الدنيا في صخامتها وسعة ممرها بحيث تصعده ثلاثة من الفيلة متقارنة وهذا الثلث المبني منها مساو لارتفاع جميع الصومعة التي ذكرنا أنها بالصحن الشمالي وصعدتها مرة فرأيت معظم دور المدينة وعاينت الأسوار على ارتفاعها وسموها منحطة وظهر لي الناس في أسفلها كأنهم الصبيان الصغار ويظهر لناظرها من أسفلها أن أرتفاعها ليس بذلك لعظم جرمها وسعتها. وكان السلطان قطب الدين أراد أن يبني أيضا مسجداً جامعاً بسيري المسماة دار الخلافة فلم يتم منه غير الحائط القبلي والمحراب وبناؤه بالحجارة البيض والسود والحمر والخضر ولو كمل لم يكن له مثل في البلاد وأراد السلطان محمد إتمامه وبعث عرفاء البناء ليقدروا النفقة فيه فزعموا أنه ينفق في إتمامه خمسة وثلاثون لكًّا فترك ذلك استكثاراً له وأخبرني بعض خواصه أنه لم يتركه استكثاراً لكنه تشام به لما كان السلطان قطب الدين قتل قبل تمامه.

ويقع بخارج دهلي الحوض العظيم المنسوب إلى السلطان شمس الدين لَلْمِش ومنه يشرب أهل المدينة وهو بالقرب من مصلاها وماؤها يجتمع من ماء المطر وطوله نحو ميلين وعرضه على النصف من طوله والجهة الغربية منه من ناحية المصلى مبنية بالحجارة مصنوعة أمثال الدكاكين بعضها أعلى من بعض وتحت كل دكان درج ينزل عليها إلى الماء، وبجانب كل دكان قبة حجارة فيها مجالس للمتنزهين والمتفرجين وفي وسط الحوض قبة عظيمه من الحجارة المنقوشه مجعولة طبقتين فإذا كثر الماء في الحوض لم يكن سبيل إليها إلا في القوارب فإذا قل الماء دخل إليها الناس وداخلها مسجد وفي أكثر الأوقات يقيم بها الفقراء المنقطعون إلى الله المتوكلون عليه وإذا جف الماء في جوانب هذا الحوض زرع فيها قصب السكر والخيار والقثاء والبطيخ الأخضر والأصفر وهو شديد الحلاوة صغير الجرم. وفيما بين دهلي ودار الخلافة حوض الخاص وهو أكبر من حوض السلطان شمس الدين وعلى جوانبه نحو أربعين قبة ويسكن حوله أهل الطرب وموضعهم يسمى طرب آباد ولهم سوق هنالك من أعظم الأسواق ومسجد جامع ومساجد سواه كثيرة وأخبرت أن النساء المغنيات الساكنات هنالك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات ويؤم بهن الأئمة وعددهن كبير، وكذلك الرجال المغنون. ولقد شاهدت الرجال أهل الطرب في عرس الأمير سيف الدين غدا بن مهنا لكل واحد منهم مصلّى تحت ركبته فإذا سمع الأذان قام فتوضأ وصلى. وفيها قبر الشيخ الصالح قطب الدين بختيار الكعكي وهو ظاهر البركة كثير التعظيم. وسبب تسمية هذا الشيخ بالكعكي أنه كان إذا أتاه الذين عليهم الديون شاكين من الفقر أو القلة أو الذين لهم البنات ولم يجدوا ما يجهزون به إلى أزواجهن يعطي من أتاه منهم كعكة من الذهب أو من الفضة حتى عرف من أجل ذلك بالكعكي رحمه الله. ومنها قبر الفقيه الفاضل نور الدين الكُرْلاني "بضم الكاف وسكون الراء والنون" ومنها قبر الفقيه علاء الدين الكرماني نسبة إلى كرمان وهو ظاهر البركة ساطع النور ومكانه يظهر قبلة المصلى وبذلك الموضع قبور رجال صالحين كثير نفع الله تعالى بهم. ومن أشهر علمائها الشيخ الصالح العالم محمود الكبا "بالباء الموحدة"، وهو من كبار الصالحين والناس يزعمون أنه ينفق من الكون لأنه لا مال له

ظاهر وهو يطعم الوارد والصادر ويعطي الذهب والدراهم والأثواب، وظهرت له كرامات كثيرة واشتهر بها. رأيته مرات كثيرة وحصلت لي بركته، ومنهم الشيخ الصالح العالم علاء الدين النيلي كأنه منسوب إلى نيل مصر والله أعلم، كان من أصحاب الشيخ العالم الصالح نظام الدين البذواني وهو يعظ الناس في كل يوم جمعة فيتوب كثير منهم بين يديه ويحلقون رؤوسهم ويتواجدون ويغشى على بعضهم. وشاهدته في بعض الأيام وهو يعظ فقرأ القارئ بين يديه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أن زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ,يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 1. ثم كررها الفقيه علاء الدين فصاح أحد الفقراء من ناحية المسجد صيحة عظيمة، فأعاد الشيخ الآية فصاح الفقير ثانية ووقع ميتاً، وكنت فيمن صلى عليه وحضر جنازته. ومنهم الشيخ الصالح العابد صدر الدين الكُهْراني "بضم الكاف وسكون الهاء وراء ونون" وكان يصوم الدهر ويقوم الليل وتجرد عن الدنيا جميعاً ونبذها ولباسه عباءة، ويزوره السلطان وأهل الدولة وربما احتجب عنهم فرغب السلطان منه أن يقطعه قرى يطعم منها الفقراء والواردين فأبى ذلك وزاره يوماً وأتى إليه بعشرة آلاف دينار فلم يقبلها وذكروا أنه لا يفطر إلا بعد ثلاث، وأنه قيل له في ذلك، فقال: لا أفطر حتى اضطر فتحل لي الميتة، ومنهم الإمام الصالح العالم العابد الورع الخاشع فريد دهره ووحيد عصره كمال الدين عبد الله الغاري "بالغين المعجم والراء" نسبة إلى غار كان يسكنه خارج دهلي بمقربة من زاوية الشيخ نظام الدين البذواني زرته بهذا الغار ثلاث مرات. وكان لي غلام فأبق مني وألفيته بيد رجل من الترك فذهبت إلى انتزاعه من يده فقال لي الشيخ أن هذا الغلام لا يصلح لك فلا تأخذه وكان التركي راغباً في المصالحة فصالحته بمائة دينار أخذتها منه وتركته له فلمّا كان بعد ستة أشهر قتل سيده وأتي به إلى السلطان فأمر بتسليمه لأولاد سيده فقتلوه، ولما شاهدت لهذا الشيخ هذه الكرامة انقطعت إليه ولازمته وتركت الدنيا ووهبت

_ 1 الحجّ: الآية، 1، 2.

جميع ما كان عندي للفقراء والمساكين وأقمت عنده مدة فكنت أراه يواصل عشرة أيام وعشرين يوماً ويقوم أكثر الليل ولم أزل معه حتى بعث عني السلطان ونشبت في الدنيا ثانية. والله تعالى يختم بالخير وسأذكر ذلك فيما بعد أن شاء الله تعالى وكيفية رجوعي إلى الدنيا. وحدثني الفقيه الإمام العلامة قاضي القضاة بالهند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان أن مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة وقد قرأت أنا ذلك مكتوباً على محراب الجامع الأعظم بها، وأخبرني أيضاً أنها افتتحت على يد الأمير قطب الدين أيبك "واسمه بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة" وكان يلقب سياه "سالار"، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سام الغوري ملك غزنة وخراسان المتغلب على ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور وسكنها وعظم شأنه وسعي به إلى السلطان وألقى إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند وأنه قد عصى وخالف وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه وقدم على غزنة ليلاً ودخل على السلطان ولا علم عند الذين وشوا به إليه فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره وأقعد أيبك تحت السرير بحيث لا يظهر وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك فذكروا له أنه عصى وخالف وقالوا قد صح عندنا أنه ادعى الملك لنفسه فضرب السلطان سريره برجله وصفق بيديه وقال يا أيبك قال لبيك وخرج عليهم فسقط في أيديهم وفزعوا إلى تقبيل الأرض، فقال لهم السلطان قد غفرت لكم هذه الزلة وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك وأمره أن يعود إلى بلاد الهند، فعاد إليها وفتح مدينة دهلي وسواها واستقر بها الإسلام إلى هذا العهد وأقام قطب الدين بها إلى أن توفي. وكان السلطان شمس الدين لَلْمِش "وضبط اسمه بفتح اللام الأولى وسكون الثانية وكسر الميم وشين معجم"، أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلاً به وكان قبل تملكه مملوكاً للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره ونائباً عنه، فلما

مات قطب الدين استبد بالملك وأخذ الناس بالبيعة فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني فدخلوا عليه وقعدوا بين يديه وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلموه به فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه وأخرج لهم عقداً يتضمن عتقه فقرأ القاضي والفقهاء وبايعوه جميعاً واستقل بالملك وكانت مدته عشرين سنة وكان عادلاً صالحاً فاضلاً ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين، وأمر أن يلبس كل مظلومٍ ثوباً مصبوغاً، وأهل الهند جميعاً يلبسون البياض فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحداً عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه ثم أنه أعيا في ذلك1 فقال أن بعض الناس تجري عليهم المظالم بالليل وأريد تعجيل إنصافهم فجعل على باب قصره أسدين مصورين من الرخام موضوعين على برجين هنالك وفي أعناقهما سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير فكان المظلوم يأتي ليلاً فيحرك الجرس فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين وينصفه. ولما توفي السلطان شمس الدين خلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم ركن الدين الوالي بعده ومعز الدين وناصر الدين وبِنتاً تسمى رضية هي شقيقة معز الدين منهم فتولى بعده ركن الدين كما ذكرناه. ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدي على أخيه معز الذين فقتله وكانت رضية شقيقته فأنكرت ذلك عليه فأراد قتلها فلما كان في بعض أيام الجمع خرج ركن الدين إلى الصلاة فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم وهو يسمى دولة خانة ولبست عليها ثياب المظلومين وتعرضت للناس وكلّمتهم من أعلى السطح، وقالت لهم: أن أخي قتل أخاه وهو يريد قتلي معه، وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في المسجد فقبضوا عليه وأتوا به إليها فقالت لهم القاتل يقتل فقتلُوه قصاصاً بأخيه وكان أخوهما ناصر الدين صغيراً فاتفق الناس على تولية رضية. ولما قتل ركن الدين اجتمعت العساكر على تولية أخته رضية الملك فولوها واستقلت بالملك أربع سنين وكانت تركب بالقوس والتركش والقربان

_ 1 أي: أعجز غيره من الحكام أن يلحقوا به ويصنعوا صنيعه من العدل.

كما يركب الرجال ولا تستر وجهها، ثم إنها اتهمت بعبدٍ لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين. ولماخلعت رضية ولي ناصر الدين أخوها الأصغر واستقل بالملك مدة ثم أن رضية وزوجها خالفا عليه وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله وخرج ناصر الدين ومعه مملوكه النائب عنه غياث الدين بلبن متولي الملك بعده فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية وفرت بنفسها فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء فقصدت حَرّاثاً رأته يحرث الأرض، فطلبت منه ما تأكله فأعطاها كسرة خبز فأكلتها وغلب عليها النوم وكانت في زي الرجال فلما نامت نظر إليها الحرّاث وهي نائمة فرأى تحت ثيابها قباء مرصعاً فعلم أنها امرأة فقتلها وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدانه وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشحنة وهو الحاكم فضربه فأقر بقتلها ودلهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفنوها ودفنت هنالك وبني عليها قبة وقبرها الآن يزار ويتبرك به1، وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون على مسافة فرسخ واحد من المدينة واستقل ناصر الدين بالملك بعدها واستقام له الأمر عشرين سنة. وكان ملكاً صالحاً ينسخ نسخاً من الكتاب العزيز ويبيعها فيقتات بثمنها. وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطة متقن محكم الكتابة ثم أن نائبه غياث الدين بَلَبَن قتله وملك بعده ولِبلبن هذا خبر ظريف نذكره. ولما قتل غياث الدين بَلَبَن "وضبط اسمه بباءين موحدتين بينهما لام والجميع مفتوحات وآخرها نون"، مولاه السلطان ناصر الدين استقل بالملك بعده عشرين سنة وقد كان قبلها نائباً له عشرين سنة أخرى، وكان من خيار السلاطين عادلاً حليماً فاضلاً. ومن مكارمه أنه بنى داراً وسماها دار الأمن فمن دخلها من أهل الديون قضى دَينه ومن دخلها خائفاً أمن ومن دخلها وقد قتل أحداً

_ 1 يدل ذلك على أن عوام الناس لا يميّزون بين الصالحين الذين يتبرّك بهم – أن جاز ذلك – وبين غيرهم، فليس كلّ من القبور أهل للتبرّك بهم، فالقبور بها الصالح ومستور الحال.

أرضى عنه أولياء المقتول ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضاً من يطلبه، وبتلك الدار دفن لما مات وقد زرت قبره. ويذكر أن أحد الفقراء بِبُخارى رأى بها بَلَبَن هذا وكان قصيراً حقيراً ذميماً، فقال له: يا تُركك وهي لفظة تعبر عن الاحتقار، فقال له: لبيك يا خوند، فأعجبه كلامه، فقال له: اشتر لي من هذا الرمان وأشار إلى رمان يباع بالسوق، فقال: نعم، وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها واشترى له من ذلك الرمان فلما أخذها الفقير، قال له: وهبناك ملك الهند، فقبّل بَلَبَن يد نفسه وقال قبلتُ ورضيت واستقر ذلك في ضميره واتفق أن بعث السلطان شمس الدين لَلِمش تاجراً يشتري له المماليك بسمرقند وبخارى وترمذ، فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن لما ذكرناه من دمامته، فقال: لا أقبل هذا، فقال له بلبن يا خوند عالم لمن اشتريت هؤلاء المماليك؟ فضحك منه، وقال: اشتريتهم لنفسي فقال اشترني أنا لله عز وجل، فقال نعم وقبله وجعله في جملة المماليك فاحتقر شأنه وجعل في السقائين وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين أن أحد مماليكك يأخذ الملك من يد ابنك ويستولي عليه ولا يزالون يلقون له ذلك وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله إلى أن ذكروا ذلك للخاتون الكبرى أم أولاده فذكرت له ذلك وأثر في نفسه وبعث على المنجمين فقال أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه؟ فقالوا له نعم عندنا علامة نعرفه بها فأمر السلطان بعرض مماليكه وجلس لذلك فعرضوا بين يديه طبقة طبقة والمنجمون ينظرون إليهم ويقولون لم نره بعد وحان وقت الزوال فقال السقاؤون بعضهم لبعض إنا قد جعنا فلنجمع شيئاً من الدراهم ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله فجمعوا الدراهم وبعثوا بها بلبن إذ لم يكن فيهم أحقر منه فلم يجد بالسوق ما أرادوه فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ وجاءت نوبة السقائين في العرض وهو لم يأت بعد فأخذوا زقه وماعونه وجعلوه على كاهل صبي وعرضوه على أنه بلبن فلما نودي اسمه جاز الصبي بين أيديهم وانقضى العرض ولم ير المنجمون الصورة التي تطلبوها، وجاء بلبن بعد تمام العرض لما أراد الله من إنفاذ قضائه ثم أنه ظهرت نجابته فجعل أمير السقائين ثم صار من جملة الأجناد، ثم من الأمراء ثم تزوج

السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك، ولما ولي الملك جعله نائباً عنه مدة عشرين سنة، ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك وكان للسلطان بلبن ولدان أحدهما الخان الشهيد ولي عهده وكان والياً لأبيه ببلاد السند ساكناً بمدينة ملتان، وقتل في حرب له مع التتر وترك ولدين: كي قباد وكي خسرو، وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين وكان والياً لأبيه ببلاد اللكنوتي وبنجالة فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده كي خسرو وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين وكان لناصر الدين أيضاً ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده يسمى معز الدين وهو الذي تولى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره وأبوه إذ ذاك حي كما ذكرناه. ولما توفي السلطان غياث الدين ليلاً، وابنه ناصر الدين غائب ببلاد اللكنوتي وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو حسبما قصصناه كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين عدواً لكي خسرو فأدار عليه حيلة تمت له وهي أنه كتب بيعة دلّس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا السلطان معز الدين حفيد السلطان بلبن ودخل على كي خسرو كالمتنصح له فقال له أن الأمراء قد بايعوا ابن عمك وأخاف عليك منهم فقال كي خسرو فما الحيلة قال انج بنفسك هارباً إلى بلاد السند، فقال: وكيف الخروج والأبواب مسدودة، فقال له: أن المفاتيح بيدي وأنا أفتح لك فشكره على ذلك وقبل يده، فقال له: اركب الآن فركب في خاصته ومماليكه وفتح له الباب وأخرجه وسد في أثره واستأذن على معز الدين فبايع فقال كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمي فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة وبإخراجه فشكره على ذلك ومضى به إلى دار الملك وبعث عن الأمراء والخواص فبايعوه ليلاً فلما أصبح بايعه سائر الناس واستقام له الملك وكان أبوه حيًّا ببلاد بنجالة واللكنوتي فاتصل به الخبر فقال أنا وارث الملك وكيف يلي ابني الملك ويستقل به وأنا بقيد الحياة فتجهز في جيوشه قاصداً حضرة دهلي وتجهّز ولده في جيوشه كذلك قاصداً لمدافعته عنها فتوافيا معا بمدينة كرا وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معز الدين مما يلي الجهة الأخرى والنهر بينهما وعزما على القتال ثم أن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين فألقى في قلب ناصر الدين الرحمة لابنه قال: إذا

ملك ولدي فذلك شرف لي وأنا أحق أن أرغب في ذلك وألقى في قلب السطان معز الدين الضراعة لأبيه فركب كل واحد منهما في مركب منفرداً عن جيوشه والتقيا في وسط النهر فقبّل السلطان رجل أبيه واعتذر له فقال له أبوه قد وهبتك ملكي ووليتك وبايعه وأراد الرجوع لبلاده فقال له ابنه لا بد لك من الوصول إلى بلادي فمضى معه إلى دهلي ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ووقف بين يديه وسمي ذلك اللقاء الذي كان بينهما بالنهر: لقاء السعدين؛ لما كان فيه من حقن الدماء وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة وأكثرت الشعراء في ذلك وعاد ناصر الدين إلى بلاده فمات بها بعد سنين وترك بها ذرية منهم غياث الدين بهادور الذي أسره السلطان تغلق وأطلقه ابنه محمد بعد وفاته واستقام الملك لمعز الدين أربعة أعوام بعد ذلك وكانت كالأعياد رأيت بعض من أدركها يصف خيراتها ورخص أسعارها وجود معز الدين وكرمه وهو الذي بنى الصومعة بالصحن الشمالي من جامع دهلي ولا نظير لها بالبلاد. وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر من النكاح والشرب فاعترته علة أعجز الأطباء دواؤها ويبس أحد شقيه فقام عليه نائبه جلال الدين فيروزشاه الخَلَجي "بفتح الخاء المعجم واللام والجيم". ولما اعترى السلطان معز الدين ما ذكرناه من يبس أحد شقيه خالف عليه نائبه جلال الدين وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تل هنالك بجانب قبة تعرف بقبة الجيشاني. فبعث معز الدين الأمراء لقتاله فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ويدخل في جملته ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام. وحدثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام فلم يجد ما يأكله فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده، ودخل عليه القصر فقتل، وولي بعده جلال الدين وكان حليماً فاضلاً وحلمه أداه إلى القتل كما سنذكره. واستقام له الملك سنين وبنى القصر المعروف باسمه وهو الذي أعطاه السلطان محمود لصهره الأمير غدا بن مهنا لما زوّجه بأخته وسيذكر ذلك. فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين وابن أخ اسمه علاء الدين زوجه بابنته وولاه مدينه كرا ومانكبور ونواحيها، وهي من أخصب بلاد الهند كثيرة القمح والأرز والسكر وتصنع بها الثياب الرفيعه ومنها تجلب إلى دلهي وبينهما مسيره ثمانيه عشر يوماً وكانت زوجة علاء الدين

تؤذيه فلا زال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها وكان علاء الدين شهماً شجاعاً مظفراً منصوراً، وحب الملك ثابت في نفسه، إلا أنه لم يكن له مال إلا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفار، فاتفق أنه ذهب مرة إلى الغزو ببلاد الدويقير، وتسمى بلاد الكّتكه أيضاً وسنذكرها. وهي كرسي بلاد المالوه والمرهتة، وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار، فعثرت بعلاء الدين في تلك الغزوة دابة له عند حجر، فسمع له طيناً فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزاً عظيماً ففرّقه في أصحابه، ووصل إلي الدويقر فأذعن له سلطانها بالطاعة ومكنه من المدينة من غير حرب وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلي مدينة كرا ولم يبعث إلى عمه شيئا من الغنائم فأغرى الناس عمه به فبعث عنه فامتنع من الوصول إليه فقال جلال الدين أنا أذهب إليه وآتي به فإنه محل ولدي فتجهز في عساكره وطوى المراحل حتى حلّ بساحل مدينه كرا حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه وركب ابن أخيه أيضاً في مركب ثان عازماً على الفتك به، وقال لأصحابه أذا أنا عانقته فاقتلوه، فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه وقتله أصحابه كما وعدهم واحتوى على ملكه وعساكره. ولما قتل علاء الدين عمه استقل بالملك وفرّ إليه أكثر عساكر عمه وعاد بعضهم إلى دهلي واجتمعوا على ركن الدين وخرج إلى دفاعه فهربوا جميعاً إلى علاء الدين محمد شاه الجلخي، وفرّ ركن الدين إلى السند ودخل علاء الدين دار الملك واستقام له الأمر عشرين سنة، وكان من خيار السلاطين، وأهل الهند يثنون عليه كثيراً وكان يتفقد أمور الرعية بنفسه ويسأل عن أسعارهم ويحضر المحتسب وهم يسمونه الرئيس في كل يوم برسم ذلك ويذكر أنه سأله يوماً عن سبب غلاء اللحم فأخبره أن ذلك لكثرة المغرم على البقر في الرتب فأمر برفع ذلك وأمر بإحضار التجار وأعطاهم الأموال وقال لهم اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها ويرتفع ثمنها لبيت المال ولكم أجرة على بيعها ففعلوا ذلك وفعل مثل هذا في الأثواب التي يؤتى بها من دولة أباد وكان إذا غلا ثمن الزرع فتح المخازن وباع الزرع حتى يرخص السعر ويذكر أن السعر ارتفع ذات مرة فأمر ببيع الزرع بثمن عينه فامتنع الناس من بيعه بذلك الثمن فأمر ألا يبيع أحد زرعاً غير زرع المخزن وباع للناس ستة أشهر فخاف المحتكرون فساد زرعهم

بالسوس فرغبوا أن يؤذن لهم في البيع فأذن لهم على أن يبيعوه بأقل من القيمة الأولى التي امتنعوا عن بيعه بها. وكان لا يركب لجمعة ولا لعيد ولا سواهما، وسبب ذلك أنه كان له ابن أخ يسمى سليمان شاه وكان يحبه ويعظمه فركب يوماً إلى الصيد وهو معه وأضمر في نفسه أن يفعل به ما فعل هو بعمه السلطان جلال الدين من الفتك فلما نزل للغداء رماه بنشابه فصرعه وغطاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه فقال له العبيد إنه قد مات فصدّقهم وركب فدخل القصر على الحرم وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب واجتمعت العساكر عليه وفر ابن أخيه. فأدرك وأتي به إليه فقتله وكان بعد ذلك لا يركب وكان له من الأولاد خضر خان وشادي خان وأبو بكر خان ومبارك خان وهو قطب الدين الذي ولي الملك وشهاب الدين. وكان قطب الدين مهتضماً عنده ناقص الحظ قليل الحظوة وأعطى جميع إخوته المراتب وهي الأعلام والأطبال ولم يعطه شيئاً، وقال له يوماً: لا بد أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك فقال له: الله هو الذي يعطيني فهال أباه هذا الكلام وفزع منه، ثم أن السلطان اشتد عليه المرض، وكانت زوجته أم ولده خضر خان وتسمى ماه حق والماه القمر بلسانهم لها أخ يسمى سنجر فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان وعلم بذلك ملك نائب أكبر أمراء السلطان وكان يسمى الألفي لأن السلطان اشتراه بألف تنكة وهي ألفان وخمسمائة من دنانير المغرب فوشى إلى السلطان بما اتفقوا عليه فقال لخواصه إذا دخل علي سنجر فإني معطيه ثوباً فإذا لبسه فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض واذبحوه فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه. وكان خضر خان غائباً بموضع يقال له سندبت على مسيرة يوم من دهلي توجه لزيارة شهداء مدفونين به لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلاً ويدعو لوالده بالراحة. فلما بلغه أن أباه قتل خاله حزن عليه حزناً شديداً ومزق جيبه وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعز عليهم، فبلغ والده ما فعله فكره ذلك. فلما دخل عليه عنفه ولامه وأمر به فقيدت يداه ورجلاه وسلمه لملك نائب المذكور وأمره أن يذهب به إلى حصن كالبُور وضبطه "بفتح الكاف المعقودة وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وآخره راء" ويقال له أيضا كيالير بزيادة ياء ثانية، وهو حصن منقطع بين كفار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلي وقد سكنته أنا مدة فلما أوصله إلى هذا الحصن سلمه للكتوال وهو أمير الحصن وللمفردين وهم الزماميون، وقال لهم لا تقولوا هذا ابن السلطان

فتكرموه، إنما هو أعدى عدو له، فاحفظوه كما يحفظ العدو، ثم أن المرض اشتد بالسلطان فقال لملك نائب ابعث من يأتي بابني خضر خان لأوليه العهد، فقال له: نعم، وماطله بذلك فمتى سأله عنه قال هو ذا يصل إلى أن توفى السلطان رحمه الله. ولما توفي السلطان علاء الدين أقعد ملك نائب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير الملك وبايعه الناس وتغلب ملك نائب عليه وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان وبعث بهما إلى كالبور وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك وسجنوا وسجن قطب الدين لكنه لم تسمل عيينه، وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصه يسمى أحدهما ببشير والآخر بمبشر فبعثت إليهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين وهي بنت السلطان معز الدين فذكرتهما بنعمة مولاهما وقالت أن هذا الفتى نائب ملك قد فعل في أولادي ما تعلمانه وأنه يريد أن يقتل قطب الدين فقالا لها: سترين ما نفعل. وكانت عادتهما أن يبيتا عند نائب ملك ويدخلاَ عليه بالسلاح فدخلاَ عليه تلك الليلة وهو في بيت من الخشب مكسو بالملف يسمونه الخرمقة ينام فيه أيام المطر فوق سطح القصر فاتفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلبه ورده إليه فضربه به المملوك وثنى عليه صاحبه واحتزا رأسه وأتيا به إلى محبس قطب الدين فرمياه بين يديه وأخرجاه فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياماً كأنه نائب له ثم عزم على خلعه فخلعه. وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه وبعث به إلى كالبور فحبس مع إخوته واستقام الملك لقطب الدين ثم أنه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى دولة أباد وهي على مسيرة أربعين يوماً. منها والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه فكأنّ الماشي به في بستان وفي كل ميل منه ثلاث داوات وهي البريد وقد ذكرنا ترتيبه وفي كل داوة جميع ما يحتاج المسافر إليه فكأنه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوماً وكذلك يتصل الطريق إلى بلاد التلنك. والمعبر مسيرة ستة أشهر. وفي كل منزلة قصر للسلطان وزاوية للوارد والصادر فلا يفتقر الفقير إلى حمل زاد في ذلك الطريق ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة اتفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون وسنه نحو عشرة أعوام، وكان مع السلطان. فبلغ

السلطان ذلك فأخذ ابن أخيه المذكور وأمسك برجليه وضرب برأسه إلى الحجارة حتى نثر دماغه وبعث أحد الأمراء ويسمى ملك شاه إلى كالبور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعاً. فحدثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن قال قدم علينا ملك شاه ضحوة يوم وكنت عند خضر خان بمحبسه فلما سمع بقدومه خاف وتغير لونه ودخل عليه الأمير فقال له فيما جئت؟ قال في حاجة خوند عالم فقال له: نفسي سالمة. فقال: نعم. وخرج عنه واستحضر الكتوال وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميون وكانوا ثلاثمائة رجل وبعث عني وعن العدول واستظهر بأمر السلطان فقرؤه وأتوا إلى شهاب الدين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبت غير جزع، ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل وكانت أمه معه فسدوا الباب دونها وقتلوه وسحبوهم جميعاً في حفرة بدون تكفين ولا غسل وأخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم وعاشت أم خضر خان مدة ورأيتها بمكة سنة ثمان وعشرين. وحصن كالبور هذا في رأس شاهق كأنه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل وبداخله جباب الماء ونحو عشرين بئراً عليها الأسوار مضافة إلى الحصن منصوباً عليها المجانيق والرعادات ويصعد إلى الحصن في طريق متسعة يصعدها الفيل والفرس وعند باب الحصن صورة فيل منحوت من الحجر وعليه صورة فيال وإذا رآه الإنسان على البعد لم يشك أنه فيل حقيقة. وأسفل الحصن مدينة حسنة مبنية كلها بالحجارة البيض المنحوتة مساجدها ودورها ولا خشب فيها ما عدا الأبواب وكذلك دار الملك بها والقباب والمجالس وأكثر سوقتها1 كفار وفيها ستمائة فارس من جيش السلطان لا يزالون في جهاد لأنها بين الكفار ولما قتل قطب الدين إخوته واستقل بالملك فلم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه بعث الله تعالى عليه من خاصته الحظيّ لديه أكبرَ أمرائه وأعظم منزلة عنده ناصر الدين خسروخان ففتك به وقتله، واستقل بملكه إلا أن مدته لم تطل في الملك فبعث الله عليه أيضاً من قتله بعد خلعه وهو السلطان تغلق حسبما نشرح ذلك كله مستوفي أن شاء الله تعالى أثر هذا ونسطره.

_ 1 عوامها.

وكان خسرو خان من أكبر أمراء قطب الدين وهو شجاع حسن الصورة وكان فتح بلاد جنديري وبلاد المعبر وهي من أخصب بلاد الهند وبينهما وبين دهلي مسيرة ستة أشهر وكان قطب الدين يحبه حبّاً شديداً ويؤثره فجر ذلك حتفه على يديه، وكان لقطب الدين معلم يسمى قاضي خان صدر الجهان وهو أكبر أمرائه وكليت "كليد" دار وهو صاحب مفاتيح القصر وعادته أن يبيت كل ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال ويكونون صفين فيما بين أبواب القصر وسلاح كل واحد منهم بين يديه فلا يدخل أحد إلا فيما بين سماطيهم وإذا تم الليل أتى أهل النوبة بالنهار ولأهل النوبة أمراء وكتاب يتطوفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر. وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان ويسوءه ما يراه من إيثاره لكفار الهنود وميله إليهم وأصله منهم. ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ويقول له دعه وما يريد لما أراد الله من قتله على يده فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان أن جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا. ومن عادتهم بتلك البلاد أن الهندي إذا أراد الإسلام أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة وأساور من ذهب على قدره. فقال له السلطان: ائتني بهم. فقال: إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهاراً لأجل أقربائهم وأهل ملتهم فقال له: ائتني بهم ليلاً، فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم فيهم أخوه خان خانان وذلك أوان الحر والسلطان ينام فوق سطح القصر ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلا بعض الفتيان فلما دخلوا الأبواب الأربعة وهم شاكو في السلاح ووصلوا إلى الباب الخامس وعليه قاضي خان أنكر شأنهم وأحس بالشر فمنعهم من الدخول وقال لا بد أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم وحينئذ يدخلون فلما منعهم من الدخول عليه هجموا عليه فقتلوه. وعلت الضجة بالباب، فقال السلطان: ما هذا؟ فقال خسرو خان: هم الهنود الذين أتوا ليسلموا، فمنعهم قاضي خان من الدخول. وزاد الضجيج فخاف السلطان وقام يريد الدخول إلى القصر وكان بابه مسدوداً والفتيان عنده فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه وكان السلطان أقوى منه فصرعه. ودخل الهنود فقال لهم خسرو خان: هو ذا فوقي فاقتلوه، فقتلوه. وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه. وبعث خسروخان من حينه

إلى الأمراء والملوك وهم لا يعلمون بما اتفق فكلما دخلت طائفة وجدوه على سرير الملك فبايعوه ولما أصبح أعلن بأمره وكتب المراسم وهي الأوامر إلى جميع البلاد وبعث لكل أمير خلعة فطاعوا له جميعاً، وأذعنوا إلا تغلق شاه والد السلطان محمد شاه، وكان إذ ذاك أمير اً بدبال بور من بلاد السند فلما وصلته خلعة خسرو خان طرحها بالأرض وجلس فوقها. وبعث إليه أخاه خان خانان فهزمه، ثم آل أمره إلى أن قتله كما سنشرحه في أخبار تغلق. ولما ملك خسرو خان آثر الهنود وأظهر أموراً منكرة منها النهي عن ذبح البقر على قاعدة كفار الهنود فإنهم لا يجيزون ذبحها وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق. وهم يعظمون البقر ويشريون أبوالها للبركة وللاستشفاء إذا مرضُوا ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها وكان ذلك مما بغض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق فلم تطل مدة ولايته ولا امتدت أيام ملكه كما سنذكره. أمّا السلطان غياث الدين تُغْلُق شاه "وضبط اسمه بضم التاء المعلوة وسكون الغين المعجم وضم اللام وآخره قاف" فقد حدثني الشيخ الإمام الصالح العالم العامل العابد ركن الدين بن الشيخ الصالح شمس الدين أبي عبد الله بن الولي الإمام العالم العابد بهاء الدين زكريا القرشي الملتاني بزاويته منها أن السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقَرْوَنة "بفتح القاف والراء وسكون الواو وفتح النون"، وهم قاطنون بالجبال التي بين بلاد السند والترك. وكان ضعيف الحال فقدم بلاد السند في خدمة بعض التجار وكان كُلوانياً له، والكُلواني "بضم الكاف المعقود" هو راعي الخيل وذلك على أيام السلطان علاء الدين وأمير السند إذ ذاك أخوه أوُلُوخان "بضم الهمزة واللام" فخدمه تُغلُق وتعلق بجانبه فرتبه في البِيَاة "بكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف" وهم الرجالة ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان، ثم كان من الأمراء الصغار وجعله أُولُوخان أمير خيله، ثم كان بعد ذلك من الأمراء الكبار وسمي بالملك الغازي ورأيت مكتوباً على مقصورة الجامع بملتان وهو الذي أمر بعملها إني قاتلت التتر تسعاً وعشرين مرة فهزمتهم. فحينئذ سميت بالملك الغازي. ولما ولى قطب الدين ولاّه مدينة دبال بور وعمالتها "وهي بكسر الدال المهمل وفتح الباء الموحدة" وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله وكان يسمى

جَونَه "بفتح الجيم والنون" ولما ملك تسمى بمحمد شاه. ثم لما قتل قطب الدين وولى خسروخان أبقاه على إمارة الخيل. فلما أراد تُغْلُق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال وكتب إلى كشلوخان وهو يومئذ بملتان وبينهما وبين دبال بور ثلاثة أيام يطلب منه القيام بنصرته ويذكره نعمة قطب الدين ويحرضه على طلب ثأره وكان ولد كشلوخان بدهلي فكتب إلى تُغْلُق أنه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد فكتب تُغْلُق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه ويأمره أن يفر إليه ويستصحب معه ولد كشلوخان فأدار ولده الحيلة على خسرو خان وتمت له كما أراد فقال له أن الخيل قد سمنت وتبدنت وهي تحتاج اليراق وهو التضمير فأذن له في تضميرها فكان يركب كل يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث واستمر إلى أربع ساعات إلى أن غاب يوماً إلى وقت الزوال وذلك وقت طعامهم فأمر السلطان بالركوب في طلبه فلم يوجد له خبر ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلوخان وحينئذ أظهر تُغْلُق الخلاف وجمع العساكر وخرج معه كشلوخان في أصحابه وبعث السلطان أخاه خان خانان لقتالهما فهزماه شر هزيمة وفرّ عسكره إليهما ورجع خان خانان إلى أخيه وقتل أصحابه وأخذت خزائنه وأمواله وقصد تغلق حضرة دهلي. وخرج إليه خسرو خان في عساكره ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآصيا أباد "آسياباد" ومعنى ذلك رحى الريح، وأمر بالخزائن ففتحت وأعطى الأموال بالبدر لا بوزن ولا عد. ووقع اللقاء بينه وبين تُغْلُق وقاتلت الهنود أشد قتال وانهزمت عساكر تغلق ونهبت محلته وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة، فقال لهم: إلى أين الفرار حيثما أدركنا قتلنا واشتغلت عساكر خسرو خان بالنهب وتفرّقوا عنه ولم يبق معه إلا قليل فقصد تُغْلُق وأصحابه موقفه والسلطان هنالك يعرف بالشطر "جتر" الذي يرفع فوق رأسه وهو الذي يسمى بديار مصر القبة والطير ويرفع بها في الأعياد وأما بالهند والصين فلا يفارق السلطان في سفر ولا حضر فلما قصده تُغْلُق وأصحابه حمي القتال بينهم وبين الهنود وانهزم أصحاب السلطان ولم يبق معه أحد وهرب فنزل عن فرسه ورمى بثيابه وسلاحه وبقي في قميص واحد وأرسل شعره بين كتفيه كما يفعل

فقراء الهند ودخل بستاناً هنالك واجتمع الناس على تُغْلُق وقصد المدينة فأتاه الكتوال بالمفاتيح ودخل القصر ونزل بناحية منه، وقال لكشلوخان: أنت تكون السلطان، فقال كشلو خان: بل أنت تكون السلطان وتنازعاَ، فقال له كشلوخان: فإن أبيت أن تكون سلطانا فيتولى ولدك، فكره هذا، وقبل حينئذ، وقعد على سرير الملك وبايعه الخاص والعام، ولما كان بعد ثلاث اشتد الجوع بخسرو خان وهو مختف بالبستان فخرج وطاف به فوجد القيم فسأله طعاماً فلم يكن عنده فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فارهنه في طعام فلما ذهب بالخاتم إلى السوق أنكر الناس أمره ورفعوه إلى الشحنة وهو الحاكم فأدخله على السلطان تُغْلُق فأعلمه بمن دفع إليه الخاتم فبعث ولده محمداً ليأتي به فقبض عليه وأتاه به راكباً على تتوه وهو البرذون فلما مثل بين يديه قال له إني جائع فأتني بطعام فأمر له بالشربة ثم بالطعام ثم بالفقاع ثم بالتنبول فلما أكل قام قائماً وقال: يا تُغْلُق افعل معي فعل الملوك ولا تفضحني، فقال له لك ذلك وأمر به فضربت رقبته وذلك في الموضع الذي قتل هو به قطب الدين ورمي برأسه وجسده من أعلى السطح كما فعل هو برأس قطب الدين وبعد ذلك أمر بغسله وتكفينه ودفن في مقبرته. واستقام الملك لِتغلق أربعة أعوام وكان عادلاً فاضلاً. ولما استقر تغلق بدار الملك بعث ولده محمداً ليفتح بلاد التَّلِنْك "وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة" وهي على مسيرة ثلاثة أشهر من مدينة دهلي وبعث معه عسكراً عظيماً فيه كبار الأمراء مثل الملك تمور "بفتح التاء المعلوة وضم الميم وآخره راء" ومثل الملك تِكين "بكسر التاء المعلوة والكاف وآخره نون" ومثل ملك كافور المُهردار "بضم الميم" ومثل ملك بَبْرم "بالباء الموحدة مفتوحة والياء آخر الحروف والراء مفتوحة" وسواهم. فلما بلغ إلى أرض التلنك أراد المخالفة وكان له نديم من الفقهاء الشعراء يعرف بعبيد فأمره أن يلقى إلى الناس أن السلطان تُغلق توفي وظنه أن الناس يبايعونه مسرعين إذا سمعوا ذلك فلما ألقى ذلك إلى الناس أنكره الأمراء وضرب كل واحد منهم طبلة وخالف، فلم يبق معه أحد وأرادوا قتله فمنعهم منه ملك تمور وقام دونه، ففر إلى أبيه في عشرة من الفرسان سماهم ياران موافق ومعناه الأصحاب الموافقون فأعطاه أبوه الأموال والعساكر وأمره بالعود

إلى تلنك فعاد إليها. وعلم أبوه بما كان أراد. فقتل الفقيه عبيداً، وأمر بملك كافور المهردار فدق له عمود في الأرض محدود الطرف وركز في عنقه حتى خرج من جنبه طرفه ورأسه إلى أسفل. وترك على تلك الحال. وفر من بقي من الأمراء إلى السلطان شمس الدين بن السلطان ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بلبن واستقروا عنده. وأقام الأمراء الهاربون عند السلطان شمس الدين ثم أن شمس الدين توفي وعهد لولده شهاب الدين فجلس مجلس أبيه ثم غلب عليه أخوه الأصغر غياث الدين بهادر بورة ومعناه بالهندية الأسود واستولى على الملك وقتل أخاه قطلو خان وسائر إخوته وفر شهاب الدين وناصر الدين منهم إلى تُغلُق فتجهّز معهما بنفسه لقتال أخيهما وخلف ولده محمداً نائباً عنه في ملكه وجد السير إلى بلاد اللكنوتي فتغلّب عليها وأسر سلطانها غياث الدين بهادور وقدم به أسيرا إلى حاضرة ملكه. وكان بمدينة دهلي الولي نظام الدين البذواني ولا يزال محمد شاه ابن السلطان يتردد إليه ويعظم خدامه ويسأله الدعاء وكان يأخذ الشسخ حال تغلب عليه فقال ابن السلطان لخدامه إذا كان الشيخ في حاله التي تغلب عليه فأعلموني بذلك. فلما أخذته الحال أعلموه فدخل عليه فلما رآه الشيخ قال وهبنا له الملك. ثم توفي الشيخ في أيام غيبة السلطان فحمل ابنه محمد نعشه على كاهله فبلغ ذلك أباه فأنكره وتوعده وكان قد رابته منه أمور ونقم عليه استكثاره من شراء المماليك وإجزاله العطايا واستجلابه قلوب الناس فزاد حنقه عليه، وبلغه أن المنجمين زعموا أنه لا يدخل مدينة دهلي بعد سفره ذلك فتوعده. ولما عاد من سفره وقرب من الحضرة أمر ولده أن يبني له قصراً وهم يسمونه الكُشك "بضم الكاف وشين معجم مسكن" على واد هنالك يسمى أفغان بور، فبناه في ثلاثة أيام وجعل أكثر بنائه بالخشب مرتفعاً على الأرض قائماً على سواري خشب وأحكمه بهندسة تولى النظر فيها الملك زاده المعروف بعد ذلك بخواجة جهان واسمه أحمد بن إياس كبير وزراء السلطان محمد وكان إذ ذاك شحنة العمارة وكانت الحكمة التي اخترعوها فيه أنه متى وطئت الفيلة جهة منه وقع ذلك القصر وسقط. ونزل السلطان بالقصر وأطعم الناس وتفرقوا واستأذنه ولده في أن يعرض الفيلة بين يديه وهي مزينة فأذن له، وحدثني الشيخ ركن الدين أنه كان يومئذ مع السلطان

ومعهما ولد السلطان المؤثر لديه محمود فجاء محمد بن السلطان فقال للشيخ: يا خوند هذا وقت العصر، انزل فصل قال لي الشيخ فنزلت وأتي بالأفيال من جهة واحدة حسبما دبروه فلما وطئتها سقط الكشك على السلطان وولده محمود قال الشيخ فسمعت الضجة فعدت ولم أصل فوجدت الكُشْك قد سقط فأمر ابنه أن يؤتى بالفئوس والمساحي للحفر عنه وأشار بالإبطاء فلم يؤت بهما إلا وقد غربت الشمس فحفروا ووجدوا السلطان قد حنا ظهره على ولده ليقيه الموت فزعم بعضهم أنه أخرج ميتاً، وزعم بعضهم أنه أخرج حياً أجهز عليه وحمل ليلاً إلى مقبرته التي يناها بخارج البلدة المسماة باسمه تغلق أباد فدفن بها. وقد ذكرنا السبب في بنائه لهذه المدينة وبها كانت خزائن تغلق وقصوره وبها القصر الأعظم الذي جعل قراميده مذهبة فإذا طلعت الشمس كان لها نور عظيم وبصيص يمنع البصر من إدامة النظر إليها واختزن بها الأموال الكثيرة ويذكر أنه بنى صهريجاً وأفرغ فيه الذهب إفراغاً فكان قطعة واحدة فصرف جميع ذلك ولده محمد شاه لما ولي وبسبب ما ذكرناه من هندسة الوزير خواجة جهان في بناء الكشك الذي سقط على تغلق كانت حظوته عند ولده محمد شاه وإيثاره لديه فلم يكن أحد يدانيه في المنزلة لديه ولا يبلغ مرتبته عنده من الوزراء ولا غيرهم. ولما مات السلطان تغلق استولى ابنه محمد على الملك من غير منازع له ولا مخالف عليه. وقد قدمنا أنه كان اسمه جونه. فلما ملك تسمى بمحمد واكتنى بأبي المجاهد وكل ما ذكرت من شأن سلاطين الهند فهو مما أخبرت به وتلقيته أو معظمه من الشيخ كمال الدين بن البرهان الغزنوي قاضي القضاة. وأما اخبار هذا الملك فمعظمها مما شاهدته أيام كوني ببلاده. وكان هذا الملك أحب الناس في إسداء العطايا وإراقة الدماء. فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل. وقد شُهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات وهو أشد الناس مع ذلك تواضعاً وأكثرهم إظهارا للعدل والحق وشعائر الدين عنده محفوظة وله اشتداد في أمر الصلاة والعقوبة على تركها وهو من الملوك الذين اطردت سعادتهم وخرق المعتاد يمن نقيبتهم. ولكن الأغلب عليه الكرم. وسنذكر من أخباره فيه عجائب لم يسمع بمثلها عمن تقدمه. وأنا أشهد بالله وملائكته

ورسله أن جميع ما أنقله عنه من الكرم الخارق للعادة حق يقين وكفى بالله شهيداً، وأعلم أن بعض مآثره من ذلك لا يسع في عقل كثير من الناس ويعدونه من قبيل المستحيل عادة ولكن شيئاً عاينته وعرفت صحته وأخذت بحظ وافر منه لا يسعني إلا قول الحق فيه وأكثر ذلك ثابت بالتواتر في بلاد المشرق. ودار السلطان بدهلي تسمى دار سَرَى "بفتح السين المهمل والراء"، ولها أبواب كثيرة. أما الباب الأول فعليه جملة من الرجال موكلون به ويقعد به أهل الأنفار والأبواق والصرنايات فإذا جاء أمير أو كبير ضربوها ويقولون في ضربهم جاء فلان جاء فلان وكذلك أيضا في البابين الثاني والثالث وبخارج الباب الأول دكاكين يقعد عليها الجلاّدون وهم الذي يقتلون الناس فإنّ العادة عندهم أنه متى أمر السلطان بقتل أحد قتل على باب المشور ويبقى هناك ثلاثاً. وبين البابين الأول والثاني دهليز كبير فيه دكاكين مبنية من جهتيه يقعد عليها أهل النوبة من حفاظ الأبواب. وأما الباب الثاني فيقعد عليه البوابون الموكلين به. وبينه وبين الباب الثالث دكانة كبيرة يقعد عليها نقيب النقباء وبين يديه عمود ذهب يمسكه بيده وعلى رأسه كلاه من الذهب مجوهرة في أعلاها ريش الطواويس والنقباء بين يديه وعلى رأس كل واحد منهم شاشية مذهبة وفي وسطه منطقة وبيده سوط نصابه من ذهب أو فضة ويفضي هذا الباب الثاني إلى مشرو كبير متسع يقعد به الناس. وأما الباب الثالث فعليه دكاكين يقعد فيها كتاب الباب. ومن عوائدهم أن لا يدخل على هذا الباب أحد إلاّ من عينه السلطان لذلك ويعيّن لكل إنسان عداداً من أصحابه. وناسه يدخلون معه وكل من يأتي إلى هذا الباب يكتب الكتاب أن فلاناً جاء في الساعة الأولى أو الثانية أو ما بعدها من الساعات إلى آخر النهار، ويطالع السلطان بذلك بعد العشاء الآخرة ويكتبون أيضاً بكل ما يحدث بالباب من الأمور، وقد عين من أبناء الملوك من يوصل كل ما يكتبونه إلى السطان. ومن عوائدهم أيضاً أنه من غاب عن دار السلطان ثلاثة أيام فصاعداً لعذر أو لغير عذر فلا يدخل هذا الباب بعدها إلا بإذن من السلطان فإن كان له عذر من مرض أو غيره قدم بين يديه هدية مما يناسبه إهداءها إلى السلطان وكذلك أيضا القادمون من الأسفار فالفقيه يهدي المصحف والكتاب وشبه الفقير يهدي المصلى والسبحة والمسواك ونحوها. والأمراء ومن أشبههم يهدون الخيل والجمال والسلاح وهذا الباب الثالث يفضي إلى المشور

الهائل الفسيح الساحة المسمى هَزَار أسطون "بفتح الهاء والزاي وألف وراء" ومعنى ذلك ألف سارية، وهي سواري من خشب مدهونة عليها سقف خشب منقوشة أبدع نقش يجلس الناس تحتها. وبهذا المشور يجلس السطان الجلوس العام. وكان أكثر جلوسه بعد العصر، وربما جلس أول النهار وجلوسه على مصطبة مفروشة بالبياض فوقها مرتبة ويجعل خلف ظهره مخدة كبيرة وعن يمينه متكأ وعن يساه مثل ذلك وقعوده كجلوس الإنسان للتشهد في الصلاة وهو جلوس أهل الهند كلهم. فإذا جلس وقف أمامه الوزير ووقف الكتاب خلف الوزير وخلفهم الحجاب، وكبير الحجاب هو فيروز ملك ابن عم السلطان ونائبه، وهو أدنى الحجاب من السلطان ثم يتلوه نائب خاص حاجب ووكيل الدار ونائبه وشرف الحجاب وسيد الحجاب وجماعة تحت أيديهم، ثم يتلو الحجاب النقباء وهم نحو مائة. وعند جلوس السطان ينادي الحجاب والنقباء بأعلى أصواتهم: بسم الله. ثم يقف على رأس السلطان الملك الكبير قبولة وبيده المذبة يشرد بها الذباب، ويقف مائة من السلحدارية عن يمين السلطان ومثلهم عن يساره بأيديهم الدرق والسيوف والقسي ويقف في الميمنة والميسرة بطول المشور قاضي القضاة ويليه خطيب الخطباء ثم سائر القضاة ثم كبار الفقهاء ثم كبار الشرفاء ثم المشايخ ثم إخوة السلطان وأصهاره ثم الأمراء الكبار ثم الكبار الأعزة وهم الغرباء ثم القواد ثم يؤتى بستين فرساً مسرجة ملجمة بجهازات سلطانية فمنها ما هو بشعار الخلافة وهي التي لجمها ودوائرها من الحرير الأسود المذهب، ومنها ما يكون ذلك من الحرير الأبيض المذهب ولا يركب بذلك غير السلطان فيوقف النصف من هذه الخيل عن اليمين والنصف عن الشمال بحيث يراها السلطان ثم يؤتى بخمسين فيلاً مزيّنة بثياب الحرير والذهب مكسوة أنيابها بالحديد إعداداً لقتل أهل الجرائم وعلى عنق كل فيل فياله وبيده شبه الطبرزين من الحديد يؤدبه به ويقومه لما يراد منه وعلى ظهر كل فيل شبه الصندوق العظيم يسع عشرين من المقاتلة وأكثر من ذلك ودونه على حسب ضخامة الفيل وعظم جرمه ويكون في أركان ذلك الصندوق أربعة أعلام مركوزة وتلك الفيلة معلّمة أن تخدم السلطان وتحط رؤوسها، فإذا خدمت قال الحجاب: بسم الله بأصوات عالية. ويوقف أيضا نصفها عن اليمين ونصفها عن الشمال خلف الرجال الواقفين، وكل من يأتي من الناس المعينين

للوقوف في الميمنة أو الميسرة يخدم عند موقف الحجاب، ويقول الحجاب: بسم الله. ويكون ارتفاع أصواتهم بقدر ارتفاع صوت الذي يخدم فإذا خدم انصرف إلى موقفه من الميمنة أو الميسرة لا يتعداه أبداً. ومن كان من كفار الهنود يخدم ويقول له الحجاب والنقباء: هداك الله. ويقف عبيد السلطان من وراء الناس كلهم بأيديهم الترسة والسيوف، فلا يمكن الدخول بينهم إلا بين يدي الحجاب القائمين بين يدي السلطان. وإن كان بالباب أحد ممن قدم على السلطان بهدية دخل الحجاب إلى السلطان على ترتيبهم يقدمهم أمير حاجب ونائبه خلفه ثم خاص حاجب ونائبه خلفه ثم وكيل الدار ونائبه خلفه ثم سيد الحجاب وشرف الحجاب ويخدمون في ثلاثة مواضع ويعلمون السلطان بمن في الباب فإذا أمرهم أن يأتوا به جعلوا الهدية التي ساقها بأيدي الرجال يقومون بها أمام الناس بحيث يراها السلطان ويستدعي صاحبها فيخدم قبل الوصول إليه ثلاث مرات ثم يخدم عند موقف الحجاب فإن كان رجلاً كبيراً وقف في صف أمير حاجب وإلا وقف خلفه ويخاطبه السلطان بنفسه ألطف خطاب ويرحب به، وإن كان ممن يستحق التعظيم فإنه يصافحه أو يعانقه ويطلب بعض هديته فتحضر بين يديه فإن كانت من السلاح أو الثياب قلبها بيده، وأظهر استحسانها جبراً لخاطر مهديها وإيناساً له ورفقا به وخلع عليه وأمر له بماء لغسل رأسه، على عادتهم في ذلك بمقدار ما يستحقه المهدي. وإذا أتى العمال بالهدايا والأموال المجتمعة من مجابي البلاد صنعوا الأواني من الذهب والفضة مثل الطسوت والأباريق وسواها وصنعوا من الذهب والفضة قطعاً شبه الآجر يسمونها الخِشْت "بكسر الخاء المعجمة وسكون الشين المعجم وتاء معلوة"، ويقف الفراشون وهم عبيد السلطان صفاً والهدية بأيديهم كل واحد منهم ممسك قطعة ثم يقدم الفيلة أن كان في الهدية شيء منها ثم الخيل المسرجة الملجمة ثم البغال ثم الجمال عليها الأموال ولقد رأيت الوزير خواجه جهان قدم هديته ذات يوم حين قدم السلطان من دولة أباد ولقيه بها في ظاهر مدينة بيانة فأدخلت الهدية إليه على هذا الترتيب، ورأيت في جملتها صينية مملوءة بأحجار الياقوت وصينية مملوءة بأحجار الزمرد وصينية مملوءة باللؤلؤ الفاخر. وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سيعد ملك العراق حاضراً عنده حين

ذلك فأعطاه حظاً منها. وسنذكر ذلك فيما بعد أن شاء الله تعالى. وإذا كانت ليلة العيد بعث السلطان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والأعزة والكتاب والحجاب والنقباء والقواد والعبيد وأهل الاخبار الخلع التي تعمهم جميعاً. فإذا كانت صبيحة العيد زينت الفيلة كلها بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلاً لا يركبها أحد، إنما هي مختصة بركوب السلطان ويرفع عليها ستة عشر شطراً "جترا" من الحرير مرصعة بالجوهر قائمة كل شطر منها ذهب خالص وعلى كل فيل مرتبة حرير مرصعة بالجواهر ويركب السلطان فيلاً منها وترفع أمامه الغاشية وهي ستارة سرجة وتكون مرصعة بأنفس الجواهر ويمشي بين يديه عبيده ومماليكه وكل واحد منهم تكون على رأسه شاشية ذهب وعلى وسطه منطقة ذهب وبعضهم يرصعها بالجوهر ويمشي بين يديه أيضا النقباء وهم نحو ثلاثمائة وعلى رأس كل واحد منهم أقروف ذهب وعلى وسطه منطقة ذهب وفي يده مقرعة نصابها ذهب ويركب قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وقاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وسائر القضاة وكبار الأعزة من الخراسانيين والعراقيين والشاميين والمصريين والمغاربة كل واحد منهم على فيلٍ وجميع الغرباء عندهم يسمون الخراسانيين، ويركب المؤذنون على الفيلة وهم يكبرون ويخرج السلطان من باب القصر على هذا الترتيب والعساكر تنتظره كل أمير بفوجه على حدة معه طبوله وأعلامه فيقدم السلطان وأمامه من ذكرناه من المشاة وأمامهم القضاة والمؤذنون يذكرون الله تعالى وخلف السلطان مراتبه وهي الأعلام والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات وخلفهم جميع أهل دخلته، ثم يتلوهم أخو السلطان مبارك خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن أخ السلطان بهرام خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن عمه ملك فيروز بمراتبه وعساكره، ثم يليه الوزير بمراتبه وعساكره ثم يليه الملك مجير بن ذي الرجا بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك الكبير قُبُولة بمراتبه وعساكره، وهذا الملك كبير القدر عنده عظيم الجاه كثير المال. أخبرني صاحب ديوانه ثقة الملك علاء الدين على المصري المعروف بابن الشرابشي أن نفقته ونفقه عبيده ومرتباتهم ستة وثلاثون لكّاً في السنة، ثم يليه الملك نكبية بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك بغرة بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مخلص بمراتبه وعساكره، وهؤلاء هم الأمراء الكبار

الذين لا يفارقون السلطان وهم الذين يركبون معه يوم العيد بالمراتب ويركب غيرهم من الأمراء دون مراتبه وجميع من يركب في ذلك اليوم يكون مدرّعاً هو وفرسه، وأكثرهم مماليك السلطان، فإذا وصل السطان إلى باب المصلى وقف على بابه وأمر بدخول القضاة وكبار الأمراء وكبار الأعزة ن ثم ينزل السلطان ويصلي الإمام ويخطب. فإن كان عيد الأضحى أتى السلطان بجمل فنحره برمح يسمونه النيزة "بكسر النون وفتح الزاي" بعد أن يجعل على ثيابه فوطة توقياً من الدم، ثم يركب الفيل ويعود إلى قصره. ويفرش القصر يوم العيد، ويزيّن بأبدع الزينة وتضرب الباركة على المشور كله وهي شبه خيمة عظيمة تقوم على أعمدة ضخام كثيرة وتحفها القباب من كل ناحية ويصنع أشجار من حرير ملوّن فيها شبه الأزهار ويجعل منها ثلاثة صفوف بالمشور ويجعل بين كل شجرتين كرسي ذهب عليه مرتبة مغطاة وينصب السرير الأعظم في صدر المشور وهو من الذهب الخالص كله مرصع القوائم بالجواهر وطوله ثلاثة وعشرون شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك وهو منفصل وتجمع قطعة فتتصل وكل قطعة منه يحملها جملة رجال لثقل الذهب وتجعل فوقه المرتبة ويرفع الشطر المرصع بالجواهر على رأس السلطان. وعندما يصعد على السرير ينادي الحجاب والنقباء بأصوات عالية: بسم الله، ثم يتقدم الناس للسلام فأولهم القضاة والخطباء والعلماء والشرفاء والمشايخ وإخوة السلطان وأقاربه وأصهاره ثم الأعزة ثم الوزير ثم أمراء العساكر ثم شيوخ المماليك ثم كبار الأجناد يسلم واحداً إثر واحدٌ من غير تزاحم ولا تدافع ومن عوائدهم في يوم العيد أن كلّ من بيده قربة منعم بها عليه يأتي بدنانير ذهب مصرورة في خرقة مكتوب عليها اسمه فيلقيها في طست ذهب هنالك فيجتمع منها مال عظيم يعطيه السلطان لمن شاء. فإذا فرغ الناس من السلام، وضع لهم الطعام على حسب مراتبهم، وينصب في ذلك اليوم المبخرة العظمى وهي شبه برج من خالص الذهب منفصلة فإذا أرادوا اتصالها وصلوها وتحمل القطعة الواحدة منها جملة من الرجال. وفي داخلها ثلاثة بيوت يدخل فيها المبخرون يوقدون العود القماري والقاقلي والعنبر والأشهب والجاوي، حتى يعم دخانها المشور كله ويكون بأيدي الفتيان براميل الذهب والفضة مملوءة بماء الورد وماء الزهر يصبونه على الناس

صبّاً. وهذا السرير وهذه المبخرة لا يخرجان إلا في العيدين خاصة ويجلس السلطان في بقية أيام العيد على سرير ذهب دون ذلك وتنصب باركة بيده لها ثلاثة أبواب يجلس السلطان في داخلها ويقف على الباب الأول منها عماد الملك سرتيز، وعلى الباب الثاني الملك نكبية، وعلى الباب الثالث يوسف بغرة، ويقف عن اليمين أمراء المماليك السلحدارية، وعن اليسار كذلك. ويقف الناس على مراتبهم وشحنة الباركة ملك طغى بيده عصا ذهب وبيد نائبه عصا فضة يرتبان الناس ويسويان الصفوف، ويقف الوزير والكتاب خلفه ويقف الحجاب والنقباء ثم يأتي أهل الطرب، فأولهم بنات الملوك الكفار من الهنود المسبيات في تلك السنة فيغنين ويرقصن ويهبهن السلطان للأمراء والأعزة، ثم يأتي بعدهن سائر بنات الكفار فيغنين ويهبهن لإخوته وأقاربه وأصهاره وأبناء الملوك، ويكون جلوس السلطان لذلك بعد العصر. ثم يجلس في اليوم الذي بعده بعد العصر أيضاً على ذلك الترتيب، ويؤتى بالمغنيات فيغنين ويرقصن ويهبهن لأمراء المماليك. وفي اليوم الثالث يزوج أقاربه وينعم عليهم. وفي اليوم الرابع يعتق العبيد. وفي اليوم الخامس يعتق الجواري. وفي اليوم السادس يزوج العبيد بالجواري، وفي اليوم السابع يعطي الصدقات ويكثر منها. وإذا قدم السلطان من أسفاره، زينت الفيلة، ورفعت على ستة عشر فيلاً منها ستة عشر شطراً، منها مزركش ومنها مرصع وحلت أمامه الغاشية وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس وتصنع قباب من الخشب مقسومة على طبقات وتكسى بثياب الحرير، ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات عليهن أجمل لباس وأحسن حلية ومنهن رواقص ويحصل في وسط كل قبة حوض كبير مصنوع من الجلود مملوء بماء الجلاب محلولاً بالماء يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب، وكل من يشرب منه يعطى التنبول والفوفل، ويكون ما بين القباب مفروشاً بثياب الحرير يطأ عليها مركب السلطان وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف وتكون الأفواج والعساكر خلفه ورأيت في بعض قدماته على الحضرة وقد نصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة ترمي بالدنانير والدراهم على الناس فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره.

والطعام بدار السلطان على صنفين: طعام الخاص وطعام العام. فأما الخاص فهو طعام السلطان الذي يأكل منه وعادته أن يأكل في مجلسه مع الحاضرين ويحضر لذلك الأمراء الخواص وأمير حاجب ابن عم السلطان وعماد الملك سرتيز وأمير مجلس ومن شاء السلطان تشريفه أو تكريمه من الأعزة أو كبار الأمراء دعاه فأكل معهم، وربما أراد أيضا تشريف أحد من الحاضرين فأخذ إحدى الصحاف بيده وجعل عليها خبزه ويعطيه إياها فيأخذها المعطى ويجعلها على كفه اليسرى ويخدم بيده اليمنى إلى الأرض وربما بعث من ذلك الطعام إلى من هو غائب عن المجلس فيخدم كما يصنع الحاضرين ويأكله مع من حضره وقد حضرت مرات لهذا الطعام الخاص فرأيت جملة الذين يحضرون له نحو عشرين رجلاً. وأما الطعام العام فيؤتى به من المطبخ وأمامه النقباء يصيحون: بسم الله. ونقيب النقباء أمامهم بيده عمود ذهب ونائبه معه بيده عمود فضة فإذا دخلوا من الباب الرابع وسمع من بالمشور أصواتهم قاموا قياماً أجمعين ولا يبقى أحد قاعداً إلا السلطان وحده، فإذا وضع الطعام بالأرض اصطف النقباء صفا ووقف أمير هم أمامهم وتكلم بكلام يمدح فيه السلطان ويثني عليه ثم يخدم ويخدم النقباء لخدمته ويخدم جميع من بالمشور من كبير وصغير. وعادتهم أنه من سمع كلام نقيب النقباء حين ذلك وقف أن كان ماشياً ولزم موقفه أن كان واقفاً ولا يتحرك أحدٌ ولا يتزحزح عن مقامه حتى يفرغ ذلك الكلام ثم يتكلم أيضا نائبه كلاماً نحو ذلك ويخدم ويخدم النقباء وجميع الناس مرة ثانية. وحينئذ يجلسون ويكتب كتاب الباب معرفين بحضور الطعام وإن كان السلطان قد علم بحضوره ويعطى المكتوب لصبي من أبناء الملوك موكّل بذلك فيأتي به إلى السلطان فإذا قرأه عيّن من شاء من كبار الأمراء لترتيب الناس وإطعامهم. وطعامهم الرقاق والشواء والأقراص ذات الجوانب المملوءة بالحلواء والأرز والدجاج والسموسك وقد ذكرنا ذلك وفسرنا ترتيبه. وعادتهم أن يكون في صدر سماط الطعام القضاة والخطباء والقضاة والشرفاء والمشايخ ثم أقارب السلطان ثم الأمراء الكبار ثم سائر الناس ولا يقعد أحد إلا في موضع معين له فلا يكون بينهم تزاحم البتة. فإذا جلسوا أتى الشربدارية وهم السقاة وبأيديهم أواني الذهب والفضة والنحاس والزجاج مملوءة بالنبات المحلول بالماء، فيشربون

ذلك قبل الطعام. فإذا شربوا، قال الحجاب: بسم الله، ثم يشرعون في الأكل ويجعل أمام كل إنسان من جميع ما يحتوي عليه السماط يأكل منه وحده ولا يأكل أحد مع أحد في صفحة واحدة فإذا فرغوا من الأكل أتوا بالفقاع في أكواز القصدير فإذا أخذوه قال الحجاب: بسم الله. ثم يؤتى بأطباق التنبول والفوفل فيعطى كل إنسان غرفة من الفوفل المهشوم وخمس عشرة ورقة من التنبول مجموعة مربوطة بخيط حرير أحمر فإذا أخذ الناس التنبول قال الحجاب: بسم الله فيقومون جميعاً ويخدم الأمير المعين للإطعام ويخدمون لخدمته ثم ينصرفون وطعامهم مرتان في اليوم الواحد أحداهما قبل الظهر، والأخرى بعد العصر. وأذكر من أخباره أهم ما حضرته وشاهدته وعاينته، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول، وكفى به شهيداً. مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر والبلاد التي تقرب من أرض الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوءة بأخباره يعلمونها حقيقةً ولاسيما جوده على الغرباء فإنه يفضلهم على أهل الهند ويؤثرهم ويجزل لهم الاحسان ويسبغ عليهم الإنعام ويوليهم الخطط الرفيعة ويوليهم المواهب العظيمة ومن إحسانه إليهم أن سماهم الأعزة ومنع أن يدعوا الغرباء. وقال أن الإنسان إذا دعي غريباً انكسر خاطره وتغير حاله. وسأذكر بعضاً مما لا يحصى من عطاياه الجزيلة ومواهبه أن شاء الله تعالى. وكان شهاب الدين صديقاً لملك التجار الكازروني الملقب ببرويز. وكان السلطان قد أقطع ملك التجار مدينة كنباية ووعده أن يوليه الوزارة فبعث إلى صديقه شهاب الدين ليقدم عليه فأتاه وأعد هدية للسلطان وهي سراجة من الملف المقطوع المزين بورقة الذهب وصيوان مما يناسبها وخباء وتابع وخباء راحة كل ذلك من الملف المزين وبغال كثيرة فلما قدم شهاب الدين بهذه الهدية على صاحبه ملك التجار وجده آخذاً في القدوم على الحضرة بما اجتمع عنده من مجابي بلاده وبهدية للسلطان. وعلم الوزير خواجة جهان بما وعده به السلطان من ولاية الوزارة، فغار من ذلك وقلق بسببه. وكانت بلاد كنباية والجزرات قبل تلك المدة في ولاية الوزير ولأهلها تعلق بجانبه وانقطاع إليه وتخدم له وأكثرهم كفار وبعضهم عصاة يمتنعون بالجبال. فدس الوزير إليهم أن يضربوا على ملك التجار إذا خرج

إلى الحضرة. فلما خرج بالخزائن والأموال ومعه شهاب الدين بهديته نزلوا يوماً عند الضحى على عادتهم وتفرقت العساكر ونام أكثرهم، فضرب عليهم الكفار في جمع عظيم فقلتوا ملك التجار وسلبوا الأموال والخزائن وهدية شهاب الدين ونجا هو بنفسه، وكتب المخبرون إلى السلطان بذلك، فأمر أن يعطى شهاب الدين من مجبى بلاد نهروالة ثلاثين ألف دينار ويعود إلى بلاده. فعرض عليه ذلك فأبى من قبوله وقال: ما قصدي إلا رؤية السلطان وتقبيل الأرض بين يديه، فكتبوا إلى السلطان بذلك فأعجبه قوله وأمر بوصوله إلى الحضرة مكرماً وصادف يوم دخوله على السلطان يوم دخولنا نحن عليه فخلع علينا جميعاً وأمر بإنزالنا وأعطى شهاب الدين عطاءً جزلاً. فلما كان بعد ذلك أمر لي السلطان بستة آلاف تنكة كما سنذكر. وسأل في ذلك اليوم عن شهاب الدين أين هو؟ فقال له بهاء الدين بن الفلكي يا خوند عالم نميدا ثم، معناه ما ندري، ثم قال شنيدم زحمت دارد "دار" معناه سمعت أن به مرضاً. فقال له السلطان بروهمين زمان در خزانه يدل لك تنكه زربكزي أوبير تادل أوخش "خوض" شود، معناه اِمش الساعة إلى الخزانة وخذ منها مائة ألف تنكة من الذهب وأحملها إليه حتى يبقى خاطره طيباً ففعل ذلك، فأعطاه إياها وأمر السلطان أن يشتري بها ما أحب من السلع الهندية ولا يشتري أحدٌ من الناس شيئاً حتى يتجهز هو وأمر له بثلاثة مراكب مجهزة من آلاتها ومن مرتب البحرية وزادهم ليسافر فيها. فسافر ونزل بجزيرة هرمز وبنى بها داراً عظيمة رأيتها بعد ذلك ورأيت أيضاً شهاب الدين وقد فنى جميع ما كان عنده وهو بشيراز يستجدي سلطانها أبا اسحاق، وهكذا مال هذه البلاد الهندية قلما يخرج أحد به منها إلاّ النادر، وإذا خرج به ووصل إلى غيرها من البلاد بعث الله عليه آفة تفني ما بيده كمثل ما اتفق لشهاب الدين هذا فإنه أخذ له في الفتنة التي كانت بين ملك هرمز وابني أخيه جميع ما عنده وخرج سليبا من ماله. وكان السلطان قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس وطلب له أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند اعتقاداً منه في الخلافة فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين فلما قدم عليه بالغ في إكرامه وأعطاه عطاء جزلاً. وكان يقوم له متى دخل عليه

ويعظمه، ثم صرفه وأعطاه أموالاً طائلة، وفي جملة ما أعطاه جملة من صفائح الخيل ومسأمير ها كل ذلك من الذهب الخالص، وقال له: إذا نزلت من البحر فأنعل أفراسك بها. فتوجه إلى كنباية ليركب البحر منها إلى بلاد اليمن. فوقعت قضية خروج القاضي جلال الدين وأخذه مال ابن الكولمي فأخذ أيضاً ما كان لشخ الشيوخ وفر بنفسه مع ابن الكولمي إلى السلطان وفلما رآه قال له ممازحاً: أمدي كزر "كه زر" بري بادكري "دلر باي" صنم خرى زر نيري وسر نهى، معناه جئت لتحمل الذهب تأكله مع الصور الحسان. فلا تحمل ذهباً ورأسك تخليه ها هنا. قال له ذلك على معنى الانبساط ثم قال له اجمع خاطرك فها أنا سائر إلى المخالفين وأعطيك أضعاف ما أخذوه لك. وبلغني بعد انفاصلي عن بلاد الهند أنه وفى بما وعده وأخلف له جميع ما ضاع منه وأنه وصل بذلك إلى ديار مصر. ولما قدم الفقيه الواعظ الترمذي ناصر الدين على السلطان، وأقام تحت إحسانه مدة عام ثم أحب الرجوع إلى وطنه فأذن له في ذلك ولم يكن سمع كلامه ووعظه. ولما خرج السلطان يقصد بلاد المعبر أحب سماعه قبل انصرافه فأمر أن يهيأ له منبر من الصندل الأبيض المقاصري وجعلت مسأمير هـ وصفائحه من الذهب وألصق باعلاه حجر ياقوت عظيم وخلع على ناصر الدين خلة عباسية سوداء مذهبة ومرصعة بالجوهر وعمامة مثلها ونصب لها المنبر بداخل السراجة وهي أفراج وقعد السلطان على سريره والخواص عن يمينه ويساره وأخذ القضاة والفقهاء والأمراء مجالسهم فخطب خطبة بليغة ووعظ وذكر ولم يكن فيما فعله طائل لكن سعادته ساعدته لما نزل عن المنبر قام السلطان إليه وعانقه واركبه على فيل وأمر جميع من حضر أن يشموا بين يديه وكنت في جملتهم إلى سراجة ضربت له مقابلة سراجة السلطان جميعها من الحرير الملون وصيوانها من الحرير وخباؤها أيضاً كذلك فجلس وجلسنا معه وكان بجانب من السراجة أواني الذهب التي أعطاه إياه السلطان وذلك تنور كبير بحيث يسع في جوفه الرجل القاعد وقدران اثنان وصحاف لا أذكر عددها وجملة أكواز وركوة وتميسندة ومائدة لها أربع أرجل ومحمل للكتب، كل ذلك من ذهب.

ورفع عماد الدين السمناني وتدين من أوتاد السراجة أحدهما نحاس والآخر مقصدر يوهم بذلك أنهما من ذهب وفضة ولم يكونا إلا كما ذكرنا وقد كان أعطاه حين قدومه مائة ألف دينار دراهم ومئتين من العبيد سرح بعضهم وحمل بعضهم الآخر. كما روي عن عطائه لعبد العزيز الاردويلي أن هذا الفقيه المحدث قرأ بدمشق على تقي الدين بن تيمية، وبرهان الدين بن البركح، وجمال الدين المزي، وشمس الدين الذهبي وغيرهم. ثم قدم على السلطان فأحسن إليه وأكرمه واتفق يوماً أنه سرد عليه أحاديث في كرم العباس وابنه رضي الله عنهما وشيئاً من مآثر الخلفاء أولادهما فأعجب ذلك السلطان لحبه في بني العباس وقبل قدمي الفقيه وأمر أن يؤتى بصينية ذهب فيها ألفا تنكة، فصبها عليه بيده، وقال: هي لك مع الصينية. وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم. وكان الفقيه شمس الدين الأندكاني حكيماً شاعراً مطبوعاً، فمدح السلطان بقصيدة باللسان الفارسي، وكان عدد أبياتها سبعة وعشرين بيتاً، فاعطاه لكل بيت منها ألف دينار دراهم. وهذا أعظم مما يحكى عن المتقدمين الذين كانوا يعطون على بيت شعر ألف درهم وهو عشر عطاء السلطان. وكان عضد الدين فقيهاً إماماً كبير القدر عظيم الصيت شهير الذكر ببلاده. فبلغت السلطان أخباره وسمع بمآثره فبعث إليه إلى بلده شونكارة عشرة آلاف دينار دراهم ولم يره قط ولا وفد عليه. ولما بلغه خبر القاضي العالم الصالح ذي الكرامة الشهيرة مجد الدين قاضي شيراز الذي سطرنا اخباره في السفر الأول، وسيمر بعض خبره. بعد هذا بعث إليه إلى مدينة شيراز، صحبة الشيخ زاده الدمشقي عشرة آلاف دينار دراهم. وكان برهان الدين الصاغرجي أحد الوعاظ الأئمة، كثير الإيثار، باذلاً لما يملكه. حتى إنه كثيراً ما يأخذ الديون ويؤثر على الناس. فبلغ خبره إلى السلطان فبعث إليه أربعين ألف دينار وطلب منه أن يصل إلى حضرته فقبل الدنانير وقضى دينه منها وتوجه إلى بلاد الخطا وأبى أن يصل إليه وقال: لا أمضي إلى سلطان يقف العلماء بين يديه. وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق، وكان أخوه

موسى ملكاً ببعض بلاد العراق فوفد حاجي كاون على السلطان فأكرم مثواه وأعطاه العطاء الجزل ورأيته يوماً وقد أتى الوزير خواجه جهان بهديته وكان منها ثلاث صينيات واحداها مملوءة يواقيت والأخرى مملوءة زمرداً والأخرى مملوءة جوهراً وكان حاجي كاون حاضراً فأعطاه من ذلك حظاً جزيلاً ثم إنه أعطاه أيضاً مالاً عريضاً ومضى يريد العراق فوجد أخاه قد توفي وولي مكانه سليمان خان فطلب إرث أخيه وادعى الملك وبايعته العساكر وقصد بلاد فارس ونزل بمدينة شونكارة التي بها الإمام عضد الدين الذي تقدم ذكره آنفاً، فلما نزل بخارجها تأخر شيوخها عن الخروج إليه ساعة ثم خرجوا، فقال لهم: ما منعكم عن تعجيل الخروج إلى مبايعتنا؟ فاعتذوا له فلم يقبل منهم وقال لأهل سلاحه: قلج تجار "جقار" معناه جردوا السيوف فجردوها وضربوا أعناقهم وكانوا جماعة كبيرة. فسمع من يجاور هذه المدينة من الأمراء بما فعله فغضبوا لذلك وكتبوا إلى شمس الدين السمناني وهو من الأمراء الفقهاء الكبار فأعلموه بما جرى على أهل شونكارة وطلبوا منه الإعانة على قتاله فتجرد في عساكره واجتمع أهل البلاد طالبين بثأر من قتله حاجي كاون من المشايخ وضربوا على عسكره ليلاً فهزموه وكان هو بقصر المدينة فأحاطوا به فاختفى في بيت الطهارة فعثروا عليه وقطعوا رأسه وبعثوا به إلى سليمان خان وفرقوا أعضاءه على البلاد تشفياً منه. وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز بن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين ملك ما وراء النهر فأكرمه وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي الله عنهما واستطوطن بها أعواماً ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس وقيامه بدعوتهم أحب القدوم عليه وبعث له برسولين أحدهما صاحبه القديم محمد بن أبي الشرقي الحرباوي والثاني محمد الهمذاني الصوفي فقدما على السلطان وكان ناصر الدين الترمذي الذي تقدم ذكره ن قد لقي غياث الدين ببغداد وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه فشهد هو عند السلطان بذلك فلما وصل رسولاه إلى السلطان أعطاهما خمسة آلاف دينار وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين ليتزود بها إليه وكتب له كتاباً بخط يده يعظمه فيه ويسأل منه القدوم عليه. فلما وصله الكتاب رحل إليه،

فلما وصل إلى بلاد السند وكتب المخبرون بقدومه بعث السلطان من يستقبله على العادة ثم لما وصل إلى سرستي بعث أيضا لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغزنوي وجماعة من الفقهاء ثم بعث الأمراء لاستقباله فلما نزل بمسعود أباد خارج الحضرة خرج السلطان بنفسه لاستقباله فلما التقيا ترجل غياث الدين فترجل له السلطان وخدم فخدم له السلطان وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب فأخذ السلطان أحد الأثواب وجعله على كتفه وخدم كما يفعل الناس معه ثم قدمت الخيل فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له وحلف أن يركب وأمسك بركابه حتى ركب ثم ركب السلطان وسايره والشجر يظلهما معاً وأخذ التنبول بيده وأعطاه إياه وهذا أعظم ما أكرمه به فإنه لا يفعله مع أحد. وقال له: لولا أني بايعت الخليفة أبا العباس لبايعتك فقال له غياث الدين وأنا أيضاً على تلك البيعة، وقال له غياث الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما: "من أحيا أرضاً مواتاً فهي له" وأنت أحييتنا، فجاوبه السلطان بألطف جواب وأبره، ولما وصلا إلى السراجة المعدة لنزول السلطان أنزله فيها وضرب للسلطان غيرها وباتا تلك الليلة بخارج الحضرة. فلما كان بالغد دخلا إلى دار الملك وأنزله بالمدينة المعروفة بسيري وبدار الخلافة أيضا في القصر الذي بناه علاء الدين الخلنجي وابنه قطب الدين وأمر السلطان جميع الأمراء أن يمضوا معه إليه وأعد له فيه جميع ما يحتاج إليه من أواني الذهب والفضة حتى كان من جملتها مغتسل يغتسل فيه من ذهب وبعث له أربعمائة ألف دينار لغسل رأسه على العادة وبعث له جملة من الفتيان والخدم والجواري وعيّن له عن نفقته في كل يوم ثلاثمائة دينار وبعث له زيادة إليها عدداً من الموائد بالطعام الخاص وأعطاه جميع مدينة سيري إقطاعاً وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل بها من بساتين المخزن وأرضه وأعطاه مائة قرية وأعطاه حكم البلاد الشرقية المضافة لدهلي وأعطاه ثلاثين بغلة بالسروج المذهبة ويكون علفها من المخزن وأمره أن لا ينزل عن دابته إذا أتى دار السلطان موضع خاص لا يدخله أحد راكباً سوى السلطان وأمر الناس جميعاً من كبير وصغير أن يخدموا له كما يخدمون السلطان وإذا دخل على السلطان ينزل له عن سريره وإن كان على الكرسي قام قائماً وخدم كل واحد منهما لصاحبه ويجلس مع السلطان على بساط واحد، وإذا قام قام السلطان لقيامه، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، وإذا انصرف إلى

خارج المجلس، جعل له بساط يقعد عليه ما شاء، ثم ينصرف، يفعل هذا مرتين في اليوم. وفي أثناء مقامه بدهلي قدم الوزير من بلاد بنجالة، فأمر السلطان كبار الأمراء أن يخرجوا إلى استقباله ثم خرج بنفسه إلى استقباله وعظمه تعظيماً كثيراً وصنعت القباب بالمدينة كما تصنع للسلطان إذا قدم وخرج ابن الخليفة للقائه أيضاً والفقهاء والقضاة والأعيان فلما عاد السلطان إلى لقصره قال للوزير أمض إلى دار المخدوم زاده وبذلك يدعوه ومعنى ذلك ابن المخدوم فسار الوزير إليه وأهدى له ألفي تنكة من الذهب وأثواباً كثيرة وحضر الأمير قبولة وغيره من كبار الأمراء وحضرت أنا كذلك. ولما وفد على السلطان ملك غزنة المسمى ببهرام وكان بينه وبين ابن الخليفة عداوة قديمة فأمر السلطان بإنزاله ببعض دور مدينة سيري التي لابن الخليفة وأمر أن يُبنى له بها دار فبلغ ذلك ابن الخليفة فغضب منه ومضى إلى دار السلطان فجلس على البساط الذي عادته الجلوس عليه وبعث إلى الوزير فقال له سلم على خوند عالم وقل له أن جميع ما أعطانيه هو بمنزلي لم أتصرف في شيء منه بل زاد عندي ونما وأنا لا أقيم معكم وقام وانصرف فسأل الوزير بعض أصحابه عن سبب هذا فأعلمه أن سببه أمر السلطان ببناء الدار لملك غزنة في مدينة سيري فدخل الوزير على السلطان فأعلمه بذلك فركب من حينه في عشرة من ناسه وأتى منزل ابن الخليفة فاستأذن عليه ونزل عن فرسه خارج القصر حيث ينزل الناس فتلقاه واعتذر له فقبل عذره وقال له السلطان والله ما أعلم أنك راض عني حتى تضع قدمك على عنقي فقال له هذا ما لا أفعله ولو قتلت فقال له السلطان وحق رأسي لا بد لك من ذلك ثم وضع رأسه في الأرض وأخذ الملك الكبير قبوة رجل ابن الخليفة بيده فوضعها على عنق السلطان. ثم قام وقال الآن علمت أنك راض عني وطاب قلبي وهذه حكاية غريبة لم يسمع بمثلها عن ملك ولقد حضرته يوم عيد وقد جاءه الملك الكبير بثلاث خلع من عند السلطان مفرجة قد جعل مكان عقد الحرير التي تغلق بها حبات جوهر في قدر البندق الكبير وأقام الملك الكبير ببابه حتى نزل من قصره فكساه إياها والذي أعطاه هو ما لا يحصره العد ولا يحيط به الحد. وابن الخليفة مع ذلك كله أبخل خلق الله تعالى وله في البخل أخبار عجيبة، يعجب منها

سامعها وكأنه كان من البخل بمنزلة السلطان من الكرم. وكانت بيني وبينه مودة، وكنت كثير التردد إلى منزله وعنده تركت ولداً لي سميته أحمد لما سافرت ولا أدري ما فعل الله بهما فقلت له يوماً: لم تأكل وحدك ولا تجمع أصحابك على الطعام؟ فقال لي: لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم يأكلون طعامي فكان يأكل وحده ويعطي صاحبه محمد بن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب ويتصرف في باقيه وكنت أتردّد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلماً لا سراج به ورأيته مراراً يجمع الأعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه وقد ملأ منها مخازن فكلمته في ذلك فقال لي يحتاج إليها وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول لا أرضى أن يأكلوا طعامي وهم لا يخدمون وكان علي مرة دين طلبت به فقال لي في بعض الأيام والله لقد هممت أن أؤدي عنك دينك فلم تسمح نفسي بذلك ولا ساعدتني عليه. وحدّثني مرة قال: خرجت عن بغداد، وأنا رابع أربعة أحدهم محمد بن أبي الشرفي صاحبي ونحن على أقدامنا، ولا زاد عندنا فنزلنا على عين ماء ببعض القرى فوجد أحدنا في العين درهما فقلنا وما نصنع بدرهم فاتفقنا على أن نشتري به خبزاً فبعثنا أحدنا لشرائه فأبى الخبار بتلك القرية أن يبيع الخبز وحده وإنما يبيع خبزاً بقيراط وتبنا بقيراط فاشترى منه الخبز والتبن فطرحنا التبن إذ لا دابة لنا تأكل وقسمنا الخبز لقمة لقمة وقد انتهى حالي اليوم إلى ما تراه فقلت له ينبغي لك أن تحمد الله على ما أولاك وتؤثر على الفقراء والمساكين وتتصدق، فقال: لا استطيع ذلك ولم أره قط يجود بشيء ولا يفعل معروفا ونعوذ بالله من الشح. كنت يوماً ببغداد بعد عودتي من بلاد الهند وأنا قاعد على باب المدرسة المستنصرية التي بناها جده أمير المؤمنين المستنصر رضي الله عنه فرأيت شاباً ضعيف الحال يشتد خلف رجل خارج عن المدرسة فقال لي بعض الطلبة هذا الشاب الذي تراه هو ابن الأمير محمد حفيد الخيفة المستنصر الذي ببلاد الهند فدعوته فقلت له إني قدمت من بلاد الهند وإني أعرفك بخبر أبيك فقال قد جاءني خبره في هذه الأيام ومضى يشتد خلف الرجل فسألت عن الرجل فقيل لي: هو الناظر في الحبس وهذا الشاب هو إمام ببعض المساجد، وله على

ذلك أجرة درهم واحد في اليوم، وهو يطلب أجرته من الرجل فطال عجبي منه. والله لو بعث إليه جوهرة من الجواهر التي في الخلع الواصلة إليه من السلطان لأغناه بها. ونعوذ بالله من مثل هذه الحال. ولما قدم الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن مهنا أمير عرب الشام على السلطان أكرم مثواه وأنزله بقصر السلطان جلال الدين داخل مدينة دهلي ويعرف بكشك، لعل معناه القصر الأحمر وهو قصر عظيم فيه مشور كبير جداً ودهليز هائل على بابه قبة تشرف على هذا المشور وعلى المشور الثاني الذي يدخل منه إلى القصر وكان السلطان جلال الدين يقعد بها وتعلب الكرة بين يديه في هذا المشور وقد دخلت هذا القصر عند نزوله به فرأيته مملوءا أثاثاً وفرشاً وبسطاً وغيرها وذلك كله متمزق لا منتفع فيه فإن عادتهم بالهند أن يتركوا قصر السلطان إذا مات بجميع ما فيه لا يتعرضون له ويبنى المتولي بعده قصراً لنفسه ولما دخلته طفت به وصعدت إلى أعلاه فكانت لي فيه عبرة، نشأت عنها عبرة وكان معي الفقيه الطبيب الأديب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل البجائي المولد مستوطن بلاد الهند قدمها مع أبيه وله بها أولاد فأنشدني عندما عايناه: وسلاطينهم سَلِ الطين عنهم ... فالرؤوس العظام صارت عظاماً وبهذا القصر كانت وليمة عرسه كما نذكره، وكان السلطان شديد المحبة في العرب مؤثراً لهم معترفاً بفضائلهم فلما وصله هذا الأمير أجزل له العطاء وأحسن إليه إحساناً عظيماً وأعطاه مرة وقد قدمت عليه هدية أعظم ملك اليايزيدي من بلاد مانكبور أحد عشر فرساً من عتاق الخيل وأعطاه مرة أخرى عشرة من الخيل مسرجة بالسروج المذهبة عليها اللجم المذهبة، ثم وزوجه بعد ذلك بأخته فيروز خوندة. ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا عيّن للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله المعروف بشَوْنويس "بشين معجم مفتوح وواوين أولهما مسكن" والآخر معه في تلك الأيام فأتى الملك فتح الله بالصيوانات فظلل بها المشورين بالقصر الأحمر المذكور، وضرب في كلّ واحد منهما قبة ضخمة جداً وفرش ذلك بالفرش الحسان وأتي شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان، وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين والشربدارية

والتنبول داران، وَذبحت الأنغام والطيور. وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلاً ونهاراً فلمّا كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر فزينّه وفرشنه بأحسن الفرش واستحضرن الأمير سيف الدين وكان عربياً غريباً لا قرابة له فحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له وكان السلطان قد أمر أن تكون ربيبته أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته وأخرى مقام عمته وأخرى مقام خالته حتى يكون كأنه بين أهله ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه وقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن وانصرفن إلى قصر الزفاف وأقام هو مع خواص أصحابه وعيّن السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته وجماعة يكونون من جهة الزوجة وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلا إن غلبوا أصحاب الزوجة أو يعطونهم الآلاف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم ولما كان بعد المغرب أتى إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجوهر وبشاشية مثل ذلك ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني وابن ملك العلماء وابن شيخ الإسلام وابن صدر جهان البخاري فلم يكن فيها مثل هذه. ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده وفي يد كل واحد منهم عصى قد أعدها وصنعوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين وريبول وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه فأبى من ذلك وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم وعليه وجماعة الزوجة فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية وصرعوا كل من عارضهم فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج مرصع بالجوهر والمشور ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر،

فنزل وخدم عند أول درجة منه وقامت العروس قائمة حتى صعد فأعطته التنبول بيدها فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذ والأطبال والأبواق والأنفار تضرب خارج الباب ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته ونزل وهي تتبعه فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره والخواتين بين يديها راكبات وغيرهن من النساء ماشيات وإذا مرّوا بدار أمير أو كبير خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته حتى أوصلوها إلى قصره. ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً ملجماً وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر وكذلك لأهل الطرب وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئا لأهل الطرب إنما يعطيهم صاحب العرس وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم. وانقضى العرس، وأمر السلطان أن يعطي للأمير غدا بلاد المالوة والجزرات وكبناية ونهروالة، وجعل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها وعظمه تعظيماً شديداً وكان عربياً جافياً، فلم يقدر قدر ذلك، وغلب عليه جفاء البادية، فأداه ذلك إلى النكبة بعد عشرين ليلة من زفافه. ولما كان بعد عشرين يوماً من زفافه اتفق أنه وصل إلى دار السلطان فأراد الدخول فمنعه أمير البرد "البرده" دارية، وهم الخواص من البوابين فلم يسمع منه وأراد التقحم، فأمسك البواب بدبوقته وهي الضفيرة ورده، فضربه الأمير بعصا كانت هناك حتى أدماه وكان هذا المضروب من كبار الأمراء يعرف أبوه بقاضي غزنة وهو من ذرية السلطان محمود بن سبكتكين والسلطان يخاطبه بالأب ويخاطب ابنه هذا بالأخ فدخل على السلطان والدم على ثيابه فأخبره بما صنع الأمير غدا ففكر السلطان هنيهة، ثم قال: القاضي يفصل بينكما وتلك جريمة لا يغفرها السلطان لأحد من ناسه، ولا بد من الموت عليها وإنما احتمله لغربته وكان القاضي كمال الدين بالمشور، فأمر السلطان الملك تتر أن يقف معهما عند القاضي. وكان تتر حاجاً مجاوراً يحسن العربية، فحضر معهما،

وقال للأمير: أنت ضربته أو قل: لا، قصد أن يعلمه الحجة، وكان سيف الدين جاهلاً مغتراً، فقال: نعم أنا ضربته، وأتى والد المضروب فرام الإصلاح بينهما فلم يقبل سيف الدين فأمر القاضي بسجنه تلك الليلة فوالله ما بعثت له زوجته فراشاً ينام عليه ولا سألت عنه خوفاً من السلطان وخاف أصحابه فودعوا أموالهم. وأردت زيارته بالسجن فلقيني بعض الأمراء وفهم عنى أني أريد زيارته، فقال لي: أو نسيت؟ وذكرني بقضية اتفقت لي في زيارة الشيخ شهاب الدين بن شيخ الجام وكيف أراد السلطان قتلي على ذلك حسبما يقع ذكره. فرجعت ولم أزره وتخلص الأمير غدا عند الظهر من سجنه فأظهر السلطان إهماله وأضرب عما كان أمر له بولايته وأراد نفيه وكان للسطان صهر يسمى بمغيث بن ملك الملوك وكانت أخت السلطان تشكوه لأخيها إلى أن ماتت فذكر جواريها أنها ماتت بسبب قهره لها وكان في نسبه مغمز فكتب السلطان بخطه يجلى اللقيط يعينه ثم كتب ويجلى موش خوار معنا آكل الفئران، يعني بذلك الأمير غدا لأن عرب البادية يأكلون اليربوع وهو شبه الفأر وأمر بإخراجهما فجاءه النقباء ليخرجوه فأراد دخول داره ووداع أهله فترادف النقباء في طلبه فخرج باكياً وتوجهت حين ذلك إلى دار السلطان فبت بها فسأني عن مبيتي بعض الأمراء فقلت له جئت لأتكلم في الأمير سيف الدين حتى يرد ولا ينفى. فقال: لا يكون ذلك. فقلت له: والله لا يتبين بدار السلطان ولو بلغ مبيتي مائة ليلة حتى يرد فبلغ ذلك السلطان فأمر برده وأمره أن يكون في خدمة الأمير ملك قبولة اللاهوري فأقام أربعة أعوام في خدمته يركب لركوبه ويسافر لسفره حتى تأدب وتهذّب ثم أعاده السلطان إلى ما كان عليه أولاً وأقطعه البلاد وقدمه على العساكر ورفع قدره. ولما قدم خذاوند زاده أعطاه السلطان عطاء جزلاً، وأحسن إليه إحساناً عظيماً وبالغ في إكرامه ثم زوج ولديه من بنتي الوزير خواجة جهان وكان الوزير إذ ذاك غائبا فأتى السلطان إلى داره ليلاً وحضر عقد النكاح كأنه نائب عن الوزير ووقف حتى قرأ قاضي القضاة الصداق1 والقضاة والأمراء

_ 1 الصداق: ما تصادق عليه المتعاقدان من عقد النكاح ومهره.

والمشايخ قعود وأخذ السلطان بيده الأثواب والبدر فجعلها بين يدي القاضي وولدي خداوند زاده وقام الأمراء وأبوا أن يجعل السلطان ذلك بين أيديهم بنفسه فأمرهم بالجلوس وأمر بعض كبار الأمراء أن يقوم مقامه وانصرف. وحين ادعى على السلطان رجل من كبار الهنود أنه قتل أخاه من غير موجب ودعاه إلى القاضي فمضى على قدميه ولا سلاح معه إلى مجلس القاضي فسلم وخدم وكان قد أمر القاضي قبل ذلك أنه إذا جاءه إلى مجلسه فلا يقوم له ولا يتحرك فصعد إلى المجلس ووقف بين يدي القاضي فحكم عليه أن يرضي خصمه عن دم أخيه فأرضاه. وادعى على السلطان مرة رجلٌ من المسلمين أن له قبله حقا ماليا فتخاصما في ذلك عند القاضي فتوجه الحكم على السلطان بإعطاء المال فاعطاه. وادعى عليه صبي من أبناء الملوك أنه ضربه من غير موجب ورفعه إلى القاضي فتوجه الحكم عليه بأن يرضيه بالمال إن قبل ذلك وإلا أمكنه من القصاص فشاهدته يومئذ وقد عاد لمجلسه واستحضر الصبي وأعطاه عصا وقال له وحق رأسي تضربني كما ضربتك وأخذ الصبي العصا وضربه بها إحدى وعشرين ضربة حتى رأيت الكلا "الكلاه" قد طارت عن رأسه. وكان السلطان شديداً في إقامته الصلاة، آمراً بملازمتها في الجماعات يعاقب على تركها أشد العقاب، ولقد قتل في يوم واحد تسعة نفر على تركها كان أحدهم مغنياً، وكان يبعث الرجال الموكلين بذلك إلى الأسواق فمن وجد بها عند إقامة الصلاة عوقب حتى انتهى إلى عقاب الستائريين الذين يمسكون دواب الخدام على باب المشور إذا ضيعوا الصلاة وأمر أن يطلب الناس بعلم فرائض الوضوء والصلاة وشروط الإسلام فكانوا يسألون عن ذلك فمن لم يحسنه عوقب وصار الناس يتدارسون ذلك بالمشور والأسواق ويكتبونها. وكان شديداً في إقامة الشرع ومما فعل في ذلك أن أمر أخاه مبارك خان أن يكون قعوده بالمشور مع قاضي القضاة كمال الدين في قبة مرتفعة هنالك مفروشة بالبسط وللقاضي بها مرتبة تحف بها المخاد كمرتبة السلطان ويقعد أخو السلطان عن يمينه فمن كان عليه حق من كبار الأمراء وامتنع من

أدائه لصاحبه يحضره رجال أخي السلطان عند القاضي لينصف منه. ولما كان في سنة إحدى وأربعين أمر السلطان برفع المكوس عن بلاده وأن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر خاصة وصار يجلس بنفسه للنظر في المظالم في كل يوم اثنين وخميس برحبة إمام المشور ولا يقف بين يديه في ذلك اليوم إلا أمير حاجب وخاص حاجب وسيد الحجاب وشرف الحجاب لا غير ولا يمنع أحد ممن أراد الشكوى من الوقوف بين يديه وعين أربعة من كبار الأمراء يجلسون في الأبواب الأربعة من المشور لأخذ القصص من المشتكين والرابع منهم هو ابن عمه ملك فيروز فإن أخذ صاحب الباب الأول الرقع من الشاكي فحسن وإلا أخذه الثاني أو الثالث أو الرابع وإن لم يأخذوه منه مضى به إلى صدر الجهان قاضي المماليك فإن أخذه منه وإلا شكى إلى السلطان فإن صح عنده أنه مضى به إلى أحد منهم فلم يأخذه منه أدبه وكل ما يجتمع من القصص في سائر الأيام يطالع به السلطان بعد العشاء الآخرة. ولما استولى القحط على بلاد الهند والسند واشتد الغلاء حتى بلغ مَنُّ1 القمح إلى ستة دنانير، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر من المخزن بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب لكل إنسان في اليوم صغيراً أو كبيراً حراً أو عبداً وخرج الفقهاء والقضاة يكتبون الأزمّة بأهل الحارات ويحضرون الناس ويعطى لكل واحد عولة ستة أشهر يقتات بها. وكان على ما قدمنا من تواضعه وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة، كثير التجاسر على إراقة الدماء، لا يخلو بابه عن مقتول إلا في النادر، وكنت كثيراً ما أرى الناس يقتلون على بابه ويطرحون هنالك ولقد جئت يوماً فنفر بي الفرس ونظرت إلى قطعة بيضاء في الأرض فقلت ما هذه؟ فقال بعض أصحابي هي صدر رجل قطع ثلاث قطع وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة، ولا يحترم أحداً من أهل العلم والصلاح والشرف وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدين مئين فمن كان للقتل قتل أو للعذاب عذب أو للضرب ضرب. وعادته أن يؤتى كل يوم بجميع من في سجنه من

_ 1 المن: جمعه أمنان، كيل أو ميزان، وهو شرعاً 180 مثقالاً، وعرفاً 28 مثقالاً. عن المنجد في اللغة.

الناس إلى المشور ما عدا يوم الجمعة فإنهم لا يخرجون فيه وهو يوم راحتهم يتنظفون فيه ويستريحون أعاذنا الله من البلاء. وكان له أخ اسمه مسعود خان وأمه بنت السلطان علاء الدين وكان من أجمل صوة رأيتها في الدنيا فاتهمه بالقيام عليه وسأله عن ذلك فأقر خوفاً من العذاب فإنه من أنكر ما يدعيه عليه السلطان من مثل ذلك يعذب فيرى الناس أن القتل أهون عليهم من العذاب فأمر به فضربت عنقه في وسط السوق وبقي مطروحاً هنالك ثلاثة أيام على عادتهم وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع قبل ذلك بسنتين لاعترافها بالزنا فرجمها القاضي كمال الدين. وكان مرة عين حصة من العسكر تتوجه مع الملك يوسف بغرة إلى قتال الكفار ببعض الجبال المتصلة بحوز دهلي فخرج يوسف وخرج معه معظم العسكر وتخلف قوم منهم فكتب يوسف إلى السلطان يعلمه بذلك فأمر أن يطاف بالمدينة ويقبض على من وجد من أولئك المتخلفين ففعل ذلك وقبض على ثلاثمائة وخمسين منهم فأمر بقتلهم أجمعين فقتلوا. وكان الشيخ شهاب الدين بن شيخ الجام الخراساني الذي تنسب مدينة الجام بخراسان إلى جده حسبما قصصنا ذلك ن من كبار المشايخ الصلحاء الفضلاء وكان يواصل أربعة عشر يوماً وكان السلطانان قطب الدين وتغلق يعظمانه ويزورانه ويتبركان به، فلما ولي السلطان محمد أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته فإن عادته أن يخدم الفقهاء والمشايخ والصلحاء محتجاً أن الصدر الأول رضي الله عنهم لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلاح فامتنع الشيخ شهاب الدين من الخدمة وشافهه السلطان بذلك في مجلسه العام فأظهر الاباية والامتناع فغضب السلطان من ذلك وأمر الشيخ الفقيه المعظم ضياء الدين السمناني أن ينتف لحيته فأبى ضياء الدين من ذلك وقال: لا أفعل هذا. فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما فنتفت، ونفي ضياء الدين إلى بلاد التِّلنك، ثم ولاه بعد مدة قضاء ورنكل، فمات بها، ونفي شهاب الدين إلى دولة آباد، فأقام بها سبعة أعوام ثم بعث عنه فأكرمه وعظمه، وجعله على ديوان المستخرج وهو ديوان بقايا العمال يستخرجها منهم بالضرب والتنكيل، ثم زاد في تعظيمه وأمر الأمراء أن يأتوا للسلام عليه ويمتثلوا أقواله ولم يكن أحد في دار السلطان فوقه ولما انتقل السلطان إلى السكنى على نهر الكنك، وبنى هنالك

القصر المعروف بسرك دوار، معناه شبه الجنة، وأمر الناس بالبناء هنالك طلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة بالحضرة فأذن له إلى أرض موات على مسافة ستة أميال من دهلي فحفر بها كهفاً كبيراً صنع في جوفه البيوت والمخازن والغرف والحمام وجلب الماء من نهر جون، وعمر تلك الأرض وجمع مالاً كثيراً من مستغلها لأنها كانت السنون قاحطة، وأقام هنالك عامين ونصف عام مدة مغيب السلطان وكان عبيده يخدمون تلك الأرض نهاراً ويدخلون الغار ليلاً ويسدونه على أنفسهم وأنعامهم خوف سراق الكفار لأنهم في جبل منيع هنالك، ولما عاد السلطان إلى حضرته استقبله الشيخ ولقيه على سبعة أميال منها فعظمه السلطان وعانقه عند لقائه وعاد إلى غاره، ثم بعث عنه بعد أيام فامتنع من إتيانه فبعث إليه مخلص الملك النذرباري، وكان من كبراء الملوك فتلطف له في القول وحذره بطش السلطان، فقال له: لا أخدم ظالماً أبداً، فعاد مخلص الملك إلى السلطان فأخبره بذلك فأمر أن يأتي به فأتي به، فقال له: أنت القائل إني ظالم، فقال: نعم أنت ظالم، ومن ظلمك كذا وكذا، وعدّد أموراً، منها: تخريبه لمدينة دهلي وإخراجه أهلها فأخذ السلطان سيفه ودفعه لصدر الجهان وقال: يثبت هذا أني ظالم، واقطع عنقي بهذا السيف، فقال له شهاب الدين: ومن يريد أن يشهد بذلك فيقتل، ولكن أنت تعرف ظلم نفسك وأمر بتسليمه لملك نكبيه، رأس الدويدارية، فقيده بأربعة قيود وغل يديه وأقام كذلك أربعة عشر يوماً مواصلاً لا يأكل ولا يشرب، وفي كل يوم منها يؤتى به إلى المشور ويجمع الفقهاء والمشايخ ويقولون له ارجع عن قولك، فيقول: لا أرجع عنه وأريد أن أكون في زمرة الشهداء. فلما كان اليوم الرابع عشر بعث إليه السلطان بطعام مع مخلص الملك، فأبى أن يأكل، وقال: قد رفع رزقي من الأرض ارجع بطعامك إليه، فلما أخبر بذلك السلطان أمر عند ذلك أن يطعم الشيخ خمسة أستار "أساتير" من العذرة وهي رطلان ونصف من أرطال المغرب فأخذ ذلك الموكلون بمثل هذه الأمور وهم طائفة من كفار الهنود فمدوه على ظهره وفتحوا فمه بالكلبتين وحلوا العذرة بالماء وسقوه ذلك. وفي اليوم الذي بعده أتي به إلى دار القاضي صدر الجهان وجمع الفقهاء والمشايخ ووجوه الأعزة فوعظوه، وطلبوا منه أن يرجع عن قوله، فأبى ذلك. فضربت عنقه رحمه الله تعالى.

وكان السلطان في سني القحط قد أمر بحفر آبار خارج دار الملك وأن يزرع هنالك زرع وأعطى الناس البذر وما يلزم على الزراعة من النفقة وكلفهم زرع ذلك للمخزن فبلغ ذلك الفقيه عفيف الدين الكاساني فقال هذا الزرع لا يحصل المراد منه فوشي به السلطان فسجنه وقال له لأي شيء تدخل نفسك في أمور الملك ثم أنه سرحه بعد مدة فذهب إلى داره ولقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء فقالا له: الحمد لله على خلاصك، فقال الفقيه: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ ذلك السلطان، فأمر بهم فأحضر ثلاثتهم بين يديه فقال: اذهبوا بهذا يعني عفيف الدين فاضربوا عنقه حمائل، وهو أن يقطع الرأس مع الذراع وبعض الصدر، واضربوا أعناق الآخرين. فقالا له: أما هو فيستحق العقاب بقوله وأما نحن فبأي جريمة تقتلنا. فقال لهما: إنكما سمعتما كلامه فلم تنكراه فكأنكما وافقتما عليه فقتلوا جميعاً رحمهم الله تعالى. وكان قد أمر فقيهين سنديين كانا في خدمته أن يمضيا مع أمير عينه إلى بعض البلاد، وقال لهما: إنما سلمت أحوال البلاد والرعية لكما ويكون هذا الأمير معكما يتصرف بما تأمرانه به، فقالا له: إنما نكون كالشاهدين عليه، ونبين له وجه الحق ليتبعه، فقال لهما: إنما قصدكما أن تأكلا أموالي وتضيعاها وتنسبا ذلك إلى هذا التركي الذي لا معرفة له، فقالا له: حاشا لله يا خوند عالم ما قصدنا هذا، فقال لهما: لم تقصدا غير هذا اذهبوا بهما إلى الشيخ زاده النهاوندي، وهو الموكل بالعذاب، فذهب بهما إليه، فقال لهما: السلطان يريد قتلكما، فأقرا بما قوّلكما إياه ولا تعذبا أنفسكما. فقالا: والله ما قصدنا إلا ما ذكرنا، فقال لزبانيته ذوقوهما بعض شيء يعني من العذاب فبطحا على أقفائهما وجعل على صدر كل واحد منهما صفيحة حديد محماة ثم قلعت بعد هنيهة فذهبت بلحم صدورهما ثم أخذ البول والرماد فجعل على تلك الجراحات، فأقرا على أنفسهما أنهما لم يقصدا إلا ما قاله السلطان وأنهما مجرمان مستحقان للقتل فلا حق لهما ولا دعوى في دمائهما دنيا ولا أخرى وكتبا خطهما بذلك واعترفا به عند القاضي فسجل على العقد وكتب فيه أن اعترافهما كان من غير إكراه ولا إجبار، ولو قالا أكرهنا لعذبا أشد العذاب ورأيا أن تعجيل ضرب العنق خير لهما من الموت بالعذاب الأليم فقتلاَ رحمهما

الله تعالى. وكان الشيخ زاده المسمى بهود حفيد الشيخ الصالح الولي ركن الدين بن بهاء الدين بن أبي زكريا الملتاني وجده الشيخ ركن الدين معظماً عند السلطان وكذلك أخوه عماد الدين الذي كان شبيهاً بالسلطان وقتل يوم وقيعة كشلوخان وسنذكره، ولما قتل عماد الدين أعطى السلطان لأخيه ركن الدين مائة قرية ليأكل منها ويطعم الصادر والوارد بزاويته، فتوفي الشيخ ركن الدين وأوصى بمكانه من الزاوية لحفيده الشيخ هود، ونازعه في ذلك ابن أخي الشيخ ركن الدين وقال أنا أحق بميراث عمي. فقدما على السلطان وهو بدولة أباد وبينهما وبين ملتان ثمانون يوماً، فأعطى السلطان المشيخة لهود حسبما أوصى له الشيخ وكان كهلاً وكان ابن أخي الشيخ فتى وأكرمه السلطان وأمر بتضييفه في كل منزل يحلّه وأن يخرج إلى لقائه أهل كل بلد يمر به إلى ملتان وتصنع له فيه دعوة، فلما وصل الأمر للحضرة خرج الفقهاء والقضاة والمشايخ والأعيان للقائه وكنت فيمن خرج إليه فلقيناه وهو راكب في دولة يحملها الرجال وخيله مجنوبة فسلمنا عليه وأنكرت أنا ما كان من فعله في ركوبه الدولة وقلت إنما كان ينبغي له أن يركب الفرس ويساير من خرج للقائه من القضاة والمشايخ فبلغه كلامي فركب الفرس واعتذر بأنّ فعله أولاً كان بسبب ألم منعه من ركوب الفرس ودخل الحضرة وصنعت له بها دعوة أنفق فيها من مال السلطان عدد كثير وحضر القضاة والمشايخ والفقهاء والأعزة ومد السماط وأتوا بالطعام على العادة ثم أعطيت الدراهم لكل من حضر على قدر استحقاقه فأعطى القضاة خمسمائة دينار وأعطيت أنا مائتين وخمسين ديناراً وهذه عادة لهم في الدعوى السلطانية. ثم انصرف الشيخ هود إلى بلده ومعه الشيخ نور الدين الشيرازي بعثه السلطان ليجلسه على سجادة جده بزاويته ويصنع له الدعوة من مال السلطان هنالك واستقر بزاويته وأقام بها أعواماً ثم أن عماد الملك أمير بلاد السند كتب إلى السلطان يذكر أن الشيخ وقرابته يشتغلون بجمع الأموال وإنفاقها في الشهوات ولا يطعمون أحداً بالزاوية فنفذ الأمر بمطالبتهم بالأموال، فطلبهم عماد الملك بها وسجن بعضهم وضرب بعضاً. وصار يأخذ منهم كل يوم عشرين ألف دينار مدة أيام حتى استخلص ما كان عندهم ووجد لهم كثير من الأموال والذخائر من جملتها نعلان مرصعان

بالجوهر والياقوت بيعا بسبعة آلاف دينار، قيل إنهما كانا لبنت الشيخ هود، وقيل لسرية له. فلما اشتدت الحال على الشيخ هرب يريد بلاد الأتراك فقبض عليه، وكتب عماد الملك بذلك إلى السلطان فأمره أن يبعثه ويبعث الذي قبض عليه كلاهما في حكم الثقاف فلما وصلا إليه سرح الذي قبض عليه وقال للشيخ هود أين أردت أن تفر فاعتذر بعذره. فقال له السلطان: إنما أردت أن تذهب إلى الأتراك فتقول أنا ابن الشيخ بهاء الدين زكريا وقد فعل السلطان معي كذا وتأتي بهم لقتالنا، اضربوا عنقه. فضربت عنقه رحمه الله تعالى. وكان الشيخ الصالح شمس الدين بن تاج العارفين ساكناً بمدينة كول منقطعاً للعبادة كبير القدر ودخل السلطان إلى مدينة كول فبعث عنه فلم يأته فذهب السلطان إليه ثم لما قارب منزله انصرف ولم يره واتفق بعد ذلك أن أميراً من الأمراء خالف على السلطان ببعض الجهات وبايعه الناس فنقل للسلطان أنه وقع ذكر هذا الأمير بمجلس الشيخ شمس الدين فأثنى عليه، وقال إنه يصلح للملك. فبعث السلطان بعض الأمراء إلى الشيخ فقيده وقيد أولاد وقيد قاضي كول ومحتسبها، لأنه ذكر أنهما كانا حضرين للمجلس الذي وقع فيه ثناء الشيخ على الأمير المخالف وأمر بهم فسجنوا جميعاً بعد أن سمل عيني القاضي وعيني المحتسب، ومات الشيخ بالسجن وكان القاضي والمحتسب يخرجان مع بعض السجانين فيسألان الناس ثم يردان إلى السجن. وكان قد بلغ السلطان أن أولاد الشيخ كانوا يخالطون كفار الهنود وعصاتهم ويصحبونهم فلما مات أبوهم أخرجهم من السجن وقال لهم لا تعودوا إلى ما كنتم تفعلون. فقالوا له: وما فعلنا؟ فاغتاظ من ذلك وأمر بقتلهم جميعاً، فقتلوا. ثم استحضر القاضي المذكور فقال أخبرني بمن كان يرى رأي هؤلاء الذين قتلوا ويفعل مثل أفعالهم فأملى أسماء رجال كثيرين من كبار البلد فلما عرض ما أملاه على السلطان قال هذا يحب أن يخرب البلد اضربوا عنقه. فضرب عنقه رحمه الله تعالى. وكان الشيخ علي الحيدري ساكناً بمدينة كنباية من ساحل الهند وهو عظيم القدر شهير الذكر بعيد الصيت، ينذر له التجار بالبحر النذور الكثيرة

_ 1 في حكم الثقاف: أي في حكم المتخاصمين.

وإذا قدموا بدأوا بالسلام عليه وكان يكاشف بأحوالهم وربما نذر أحدهم النذر وندم عليه فإذا أتى الشيخ للسلام عليه أعلمه بما نذر له وأمره بالوفاء به واتفق له ذلك مرات واشتهر به. فلما خالف القاضي جلال الأفغاني وقبيلته بتلك الجهات بلغ السلطان أن الشيخ الحيدري دعا للقاضي جلال وأعطاه شاشيته من رأسه، وذكر أيضاً أنه بايعه. فلما خرج السلطان إليهم بنفسه وانهزم القاضي جلال خلف السلطان شرف الملك أمير بحت أحد الوافدين معنا عليه بكنباية وأمره بالبحث عن أهل الخلاف وجعل معه الفقهاء يحكم بقولهم فأحضر الشيخ علي الحيدري بين يديه وثبت أنه أعطى للقائم شاشيته ودعا له فحكموا بقتله. فلما ضربه السياف لم يفعل شيئاً وعجب الناس لذلك وظنوا أنه يعفى عنه بسبب ذلك فأمر سيافاً آخر بضرب عنقه، فضربها رحمه الله تعالى. وكان طوغان الفرغاني وأخوه من كبار أهل مدينة فرغاني فوفدا على السلطان فأحسن إليهما وأعطاهما عطاء جزيلاً وأقاما عنده مدة فلما طال مقامهما أرادا الرجوع إلا بلادهما وحاولا الفرار فوشى بهما أحد أصحابهما إلى السلطان فأمر بتوسيطهما فوسطا وأعطى للذي وشى بهما جميع مالهما. وكذلك عادتهم بتلك البلاد إذا وشى أحد بأحد وثبت ما وشى به فقتل أعطي ماله. وكان ابن ملك التجار شاباً صغيراً لا نبات بعارضيه، فلما وقع خلاف عين الملك وقيامه وقتاله للسلطان كما سنذكره، غلب على ابن ملك التجار هذا، فكان في جملته مقهوراً فلما هزم عين الملك وقبض عليه وعلى أصحابه كان من جملتهم ابن ملك التجار وصهره ابن قطب الملك فأمر بهما فعلقا من أيدهما في خشب وأمر أبناء الملوك فرموهما بالنشاب حتى ماتا. ولما ماتا قال الحاجب خواجة أمير علي التبريزي لقاضي القضاة كمال الدين ذلك الشاب لم يجب عليه القتل. فبلغ ذلك السلطان فقال: هلا قلت هذا قبل موته؟ وأمر به فضرب مائتي مقرعة أو نحوها وسجن وأعطي جميع ماله لأمير السيافين. فرأيته في ثاني ذلك اليوم قد لبس ثيابه وجعل قلنسوته على رأسه وركب فرسه فظننت أنه هو. وأقام بالسجن شهوراً ثم سرحه ورده إلى ما كان عليه ثم غضب عليه ثانية ونفاه إلى خراسان فاستقر بهراة وكتب إليه يستعطفه فوقع له على ظهر كتابه أكرباز آمدي باز "آي" معناه إن كنت تبت فارجع فرجع إليه.

وكان قد ولي خطيب الخطباء بدهلي النظر في خزانة الجواهر في السفر فاتفق أن جاء سراق الكفار ليلاً فضربوا على تلك الخزانة وذهبوا بشيء منها. فأمر السلطان بضرب الخطيب حتى مات رحمه الله تعالى. ومن أعظم ما كان ينقم على السلطان إجلاؤه لأهل دهلي عنها، وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبه ويختمون عليها ويكتبون عليها وحق رأس خوند عالم ما يقرؤها غيره ويرمونها بالمشور ليلاً فإذا فضها وجد فيها شتمه وسبه فعزم على تخريب دهلي واشترى من أهها جميعاً دورهم ومنازلهم ودفع لهم ثمنها وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة أباد فأبوا ذلك فنادى مناديه أن لا يبقى بها أحد بعد ثلاث فانتقل معظمهم واختفى بعضهم في الدور. فأمر بالبحث عمن بقي بها فوجد عبيده بأزقتها رجلين أحدهما مقعد والآخر أعمى فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمى به في المنجنيق وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة أباد مسيرة أربعين يوماً فتمزق في الطريق ووصل منه رجله. ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعاً وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها. فحدثني من أثق به قال: صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره فنظر إلى دهلي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج فقال الآن طاب قلبي وتهدن خاطري ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها. فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وصخامتها وهي من أعظم مدن الدنيا وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية ليس بها إلا قليل عمارة وقد ذكرنا كثيراً، من مآثر هذا السلطان ومما نقم عليه أيضاً، فلنذكر جملاً من الوقائع والحوادث الكائنة في أيامه. ولما ولي السلطان الملك بعد أبيه وبايعه الناس أحضر السلطان غياث الدين بهادور بوره الذي كان أسره السلطان تغلق فمنّ عليه وفك قيوده وأجزل له العطاء من الأموال والخيل والفيلة وصرفه إلى مملكته وبعث معه ابن أخيه إبراهيم خان وعاهده على أن تكون المملكة مشاطرة بينهما وتكتب أسماؤهم معاً في السكة ويخطب لهما وعلى أن يصرف غياث الدين ابنه محمدا المعروف برباط يكون رهينة عند السلطان فانصرف غياث الدين إلى مملكته، والتزم ما شرط عليه إلا أنه لم يبعث ابنه وادعى أنه امتنع وأساء الأدب في كلامه فبعث السلطان العساكر إلى ابن أخيه إبراهيم خان وأمير هم دلجي التتري.

فقاتلوا غياث الدين فقتلوه وسلخوا جلده وحشي بالتبن وطيف به على البلاد. وكان للسلطان تغلق ابن أخت يسمى بهاء الدين كُشْت اسبْ "بضم الكاف وسكون الشين المعجم وتاء معلوة" واسب "بالسين المهمل والباء الموحدة مسكنين"، فجعله أميراً ببعض النواحي فلما مات خاله امتنع من بيعة ابنه وكان شجاعاً بطلاً فبعث السلطان إليه العساكر فيهم الأمراء الكبار مثل الملك مجير والوزير خواجه جهان أمير على الجميع فالتقى الفرسان واشتد القتال وصبر كلا العسكريين ثم كانت الكرة لعسكر السلطان ففر بهاء الدين إلى ملك من ملوك الكفار يعرف بالرآي كنْبيلَة والرأي عندهم كمثل ما هو بلسان الروم عبارة عن السلطان وكنبيلة اسم الإقليم الذي هو به، وهو "بفتح الكاف وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء ولام مفتوحة" وهذا الراي له بلاد في جبال منيعة وهو من أكابر سلاطين الكفار. فلما هرب إليه بهاء الدين اتبعته عساكر السلطان وحصروا تلك البلاد واشتد الأمر على الكافر ونفد ما عنده من الزرع وخاف أن يؤخذ باليد فقال لبهاء الدين أن الحال قد بلغت لما تراه وأنا عازم على هلاك نفسي وعيالي ومن تبعني فاذهب أنت إلى السلطان فلان فابعث لسلطان من الكفار سمّاه له فأقم عنده فإنه سيمنعك وبعث معه من أوصله إليه وأمر راي كنبيلة بنار عظيمة فأججت وأحرق فيها أمتعته وقال لنسائه وبناته إني أريد قتل نفسي فمن أرادت مرافقتي فلتفعل فكانت المرأة منهن تغتسل وتدهن بالصندل والمقاصري وتقبل الأرض بين يديه وترمي بنفسها في النار حتى هلكن جميعاً وفعل مثل ذلك نساء أمرائه ووزرائه وأرباب دولته ومن أراد من سائر النساء ثم اغتسل الراي وادهن بالصندل ولبس السلاح ما عدا الدرع وفعل كفعله من أراد الموت معه من ناسه وخرجوا إلى عسكر السلطان فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً ودخل المدينة فأسر أهلها وأسر من أولاد راي كنبيلة أحد عشر ولداً فأتي بهم السلطان فأسلموا جميعاً، وجعلهم السلطان أمراء وأعظمهم لأصالتهم ولفعل أبيهم. فرأيت عنده منهم نصراً وبختيار والمهردار وهو صاحب الخاتم الذي يختم به على الماء الذي يشرب السلطان منه وكنيته أبو مسلم وكانت بيني وبينه صحبة ومودة. ولما قتل راي كنبيلة توجهت عساكر السلطان إلى بلد الكافر الذي لجأ إليه بهاء الدين وأحاطوا به فقال ذلك السلطان أنا لا أقدر على أن أفعل ما فعله راي كنبيلة فقبض على بهاء الدين وأسلمه إلى عسكر السلطان فقيدوه وغلوه وأتوا

به إليه فلما أتي به إليه أمر بإدخاله إلى قرابته من النساء فشتمنه وبصقن في وجهه وأمر بسلخه وهو بقيد الحياة فسلخ وطبخ لحمه مع الأرز وبعث لأولاده وأهله وجعل باقيه على صحفة وطرح للفيلة لتأكله فأبت أكله وأمر بجلده فحشي بالتبن وقرن بجلد بهادور بوره وطيف بهما على البلاد فلما وصلا إلى بلاد السند وأمير أمرائها يومئذ كشلوخان صاحب السلطان تغلق ومعينه على أخذ الملك وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالعم ويخرج لاستقباله إذا وفد من بلاده أمر كشلو خان بدفن الجلدين فبلغ ذلك السلطان فشق عليه فعله وأراد الفتك به. ولما اتصل بالسلطان ما كان من فعله في دفن الجلدين بعث عنه وعلم كشلوخان أنه يريد عقابه فامتنع وخالف وأعطى الأموال وجمع العساكر وبعث إلى الترك والأفغان وأهل خراسان فأتاه منهم العدد الجم حتى كافأ عسكره عسكر السلطان أو أربى عليه كثرة. وخرج السلطان بنفسه لقتاله فكان اللقاء على مسيرة يومين من ملتان بصحراء أبو هر وأخذ السلطان بالحزم عند لقائه فجعل تحت الشطر عوضاً منه الشيخ عماد الدين شقيق الشيخ ركن الدين الملتاني وهو حدثني هذا وكان شبيهاً به. فلما حمي القتال انفرد السلطان في أربعة آلاف من عسكره، وقصد عسكر كشلوخان الشطر معتقدين أن السلطان تحته، فقتلوا عماد الدين، وشاع في العسكر أنّ السلطان قتل. فاشتغل عساكر كشلو خان بالنهب وتفرقوا عنه ولم يبق معه إلا القليل فقصده السلطان بمن معه فقتله وجز رأسه وعلم بذلك جيشه ففروا. ودخل السلطان مدينة ملتان وقبض على قاضيها كريم الدين وأمر بسلخه فسلخ. وأمر برأس كشلوخان فعلق على بابه وقد رأيته معلقاً لما وصلت إلى ملتان. وأعطى السلطان للشيخ ركن الدين أخي عماد الدين ولابنه صدر الدين مائة قرية إنعاماً عليهم ليأكلوا منها وينعموا بزاويتهم المنسوبة لجدهم بهاء الدين زكريا وأمر السلطان وزيره خواجه جهان أن يذهب إلى مدينة كمال بور وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر وكان أهلها قد خالفوا فأخبرني بعض الفقهاء أنه حضر دخول الوزير إياها قال وأحضر بين يديه القاضي بهاء والخطيب فأمر بسلخ جلودهما. فقالا له اقتلنا بغير ذلك، فقال لهما بما استوجبتما القتل فقالا: بمخالفتنا أمر السلطان. فقال لهما فكيف أخالف أنا أمره وقد أمرني أن أقتلكما بهذه القتلة. وقال للمتولين لسلخهما احفروا لهما حفرا تحت وجهيهما يتنفسان فيها. فإنهم إذا سلخوا

والعياذ بالله يطرحون على وجوههم. ولما فعل ذلك تمهدت بلاد السند وعاد السلطان إلى حضرته.

خبر الواقعية بجبل قراجيل

خبر الواقعية بجبل قراجيل ... خبر الوقيعة بجبل قراجيل: "وأول اسمه قاف وجيم معقودة" وجبل قراجيل هذا جبل كبير، يتصل مسيرة ثلاثة أشهر. وبينه وبين دهلي مسيرة عشر، وسلطانه من أكبر سلاطين الكفار. وكان السلطان بعث ملك نكبية رأس الدويدارية إلى حرب هذا الجبل ومعه مائة ألف فارس ورجاله سواهم كثير. فملك مدينة جِدْيَدَة "وضبطها بكسر الجيم وسكون الدال المهمل وفتح الياء آخر الحروف" وهي أسفل الجبل وملك ما يليها وسبى وخرب وأحرق وفر الكفار إلى أعلى الجبل وتركوا بلادهم وأموالهم وخزائن ملكهم وللجبل طريق واحد وعن أسفل منه واد وفوقه الجبل فلا يجوز فيه إلا فارس منفرد خلفه آخر فصعدت عساكر المسلمين على ذلك الطريق وتملكوا مدينة وَرَنْكل التي بأعلى الجبل، "وضبطها بفتح الواو والراء وسكون النون وفتح الكاف"، واحتووا على ما فيها، وكتبوا إلى السلطان بالفتح، فبعث إليهم قاضياً وخطيباً وأمرهم بالإقامة. فلما كان وقت نزول المطر غلب المرض على العسكر وضعفوا وماتت الخيل وانحلت القسي فكتب الأمراء إلى السلطان واستأذنوه في الخروج عن الجبل والنزول إلى أسفله بخلال ما ينصرم فصل نزول المطر فيعودون فأذن لهم في ذلك فأخذ الأمير نكبية الأموال التي استولى عليها من الخزائن والمعادن وفرّقها على الناس ليرفعوها ويوصلوها إلى أسفل الجبل فعندما علم الكفار بخروجهم قعدوا لهم بتلك المهاوي وأخذوا عليهم المضيق وصاروا يقطعون الأشجار العادية قطعاً ويطرحونها من أعلى الجبل فلا تمر بأحد إلا أهلكته فهلك الكثير من الناس وأسر الباقون منهم وأخذ الكفار الأموال والأمتعة والخيل والسلاح. ولم يفلت من العسكر إلا ثلاثة أمراء كبيرهم نكبية وبدر الدين الملك دولة شاه وثالث لهما لا أذكره. وهذه الوقيعة أثرت في جيش الهند أثراً كبيراً وأضعفته ضعفاً بينا وصالح السلطان بعدها أهل الجبل على مال يؤدونه إليه لأن لهم البلاد أسفل الجبل ولا قدرة لهم على عمارتها إلا بإذنه.

خبر ثورة الشريف جلال الدين ببلاد المعبر وما اتصل من قتل ابن أخت الوزير

خبر ثورة الشريف جلال الدين ببلاد المعبر وما اتصل من قتل ابن أخت الوزير. وكان السلطان قد أمّر على بلاد المعبر وبينها وبين دهلي مسيرة ستة أشهر الشريف جلال الدين أحسن شاه فخالف وادعى الملك لنفسه وقتل نواب السلطان وعماله وضرب الدنانير والدراهم باسمه وكان يكتب في أحدى صفحتي الدينار: سلالة طه ويس، أبو الفقراء والمساكين، جلال الدنيا والدين. وفي الصفحة الأخرى: الواثق بتأييد الرحمن، أحسن شاه السلطان. وخرج السلطان لما سمع بثورته يريد قتاله فنزل بموضع يقال له: كشك زر، معناه قصر الذهب، وأقام به ثمانية أيام لقضاء حوائج الناس. وفي تلك الأيام أتي ابن أخت الوزير خواجه جهان وأربعة من الأمراء أو ثلاثة وهم مقيدون مغلولون وكان السلطان قد بعث وزيره المذكور في مقدمته فوصل إلى مدينة ظهار وهي على مسيرة أربع وعشرين من دهلي وأقام بها أياماً وكان ابن أخته شجاعاً بطلاً فاتفق مع الأمراء الذين أتي بهم على قتل خاله والهروب بما عنده من الخزائن والأموال إلى الشريف القائم ببلاد المعبر وعزموا على الفتك بالوزير عند خروجه إلى صلاة الجمعة فوشى بهم أحد من أدخلوه في أمرهم إلى الوزير وكان يسمى الملك نصرة الحاجب وأخبر الوزير أن آية ما يرمونه لبسهم الدروع تحت ثيابهم فبعث الوزير عنهم فوجدهم كذلك فبعث بهم إلى السلطان وكنت بين يدي السلطان حين وصولهم فرأيت أحدهم وكان طوالاً ألحى1 وهو يرعد ويتلو سورة يس، فأمر بهم فطرحوا للفيلة المعلمة لقتل الناس. وأمر بابن أخت الوزير فرد إلى خاله لقتله فقتله وسنذكر ذلك. وتلك الفيلة التي تقتل الناس تكسى أنيابها حدائد مسنونة شبه سكك الحرث، لها أطراف كالسكاكين ويركب الفيال على الفيل فإذا رمي بالرجل بين يديه لف عليه خرطومه ورمى به إلى الهواء ثم يتلقفه بنابيه ويطرحه بعد ذلك بين يديه ويجعل يده على صدره ويفعل به ما يأمره الفيال على حسب ما أمره السلطان فإن أمره بتقطيعه قطعه الفيل قطعاً بتلك الحدائد وإن أمره بتركه، تركه

_ 1 أي: طويل القامة، ملتحياً.

مطروحاً فسلخ وكذلك فعل بهؤلاء. وخرجت من دار السلطان بعد المغرب فرأيت الكلاب تأكل لحومهم وقد ملئت جلودهم بالتبن والعياذ بالله. ولما تجهز السلطان لهذه الحركة أمرني بالإقامة بالحضرة كما سنذكره. ومضى في سفره إلى أن بلغ دولة آباد فثار الأمير هلاجون ببلاده، وخرج ذلك. وكان الوزير خوجه جهان قد بقي أيضا بالحضرة لحشد الحشود وجمع العساكر.

خبر ثورة هلاجون

خبر ثورة هلاجون: ولما بلغ السلطان إلى دولة آباد، وبعد عن بلاده، ثار الأمير هلاجون بمدينة لاهور، وادعى الملك وساعده الأمير قلجند على ذلك، وصيّره وزيراً له واتصل ذلك بالوزير خواجه جهان وهو بدلهي فحشد الناس وجمع العساكر وجمع الخراسانيين، وكل من كان مقيماً من الخدام بدهلي أخذ أصحابه، وأخذ في الجملة أصحابي لأني كنت بها مقيماً وأعانه السلطان بأميرين كبيرين أحدهما قيران ملك صفدار ومعناه مرتب العساكر، والثاني الملك تمور الشربدار وهو الساقي. وخرج هلاجون بعساكره فكان اللقاء على ضفة أحد الأودية الكبار فانهزم هلاجون وهرب وغرق كثير من عسكره في النهر. ودخل الوزير المدينة فسلخ بعض أهلها وقتل آخرين بغير ذلك من أنواع القتل. وكان الذي تولى قتلهم محمد بن النجيب نائب الوزير وهو المعروف بأجدر ملك ويسمى أيضاً صك "سك" السلطان والصك عندهم الكلب. وكان ظالماً قاسي القلب ويسميه السلطان أسد الأسواق. وكان ربما عض أرباب الجنايات بأسنانه شرهاً وعدواناً. وبعث الوزير من نساء المخالفين نحو ثلاثمائة إلى حصن كاليور فسجن به. ورأيت بعضهن هنالك وكان أحد الفقهاء له فيهن زوجة فكان يدخل إليها حتى ولدت منه في السجن. ولما وصل السلطان إلى بلاد التلنك، وهو قاصد إلى قتال الشريف ببلاد المعبر، نزل مدينة بَدْرَكُوت "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الدال وفتح الراء وضم الكاف وواو وتاء معلوة" وهي قاعدة بلاد التِلِنْك "وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة" وبينها وبين بلاد المعبر مسيرة ثلاثة أشهر. ووقع الوباء إذ ذاك في عسكره فهلك معظمهم ومات العبيد والمماليك وكبار الأمراء مثل ملك دولة شاه الذي كان السلطان يخاطبه بالعم،

ومثل أمير عبد الله الهروي وقد تقدمت حكايته في السفر الأول وهو الذي أمره السلطان أن يرفع من الخزانة ما استطاع من المال فربط ثلاث عشرة خريطة بأعضاده ورفعها. ولما رأى السلطان ما حل بالعسكر عاد إلى دولة آباد وخالفت البلاد وانتقضت الأطراف وكاد الملك يخرج عن يده لولا ما سبق به القدر من استحكام سعادته. ولما عدا السلطان إلى دولة آباد مرض في طريقه، فأرجف الناس بموته وشاع ذلك، فنشأت عنه فتن عريضة وكان الملك هنوشنج بن الملك كمال الدين كرك بدولة آباد وكان بينه وبين السلطان عهد أن لا يبايع غيره أبداً لا في حياته ولا بعد موته فلما أرجف بموت السلطان هرب إلى سلطان كافر يسمى بُربَرة يسكن بجبال مانعة بين دولة آباد وكوكن تانه، فعلم السلطان بفراره وخاف وقوع الفتنة فجد السير إلى دولة آباد واقتفى أثر هوشنج وحصره بالخيل وراسل للكافر أن يسلمه إليه فأبى وقال لا أسلم دخيلي ولو آل بين الأمر لما آل براي كنبيلة وخاف هوشنج على نفسه فراسل السلطان وعاهده على أن يرحل السلطان إلى دولة آباد ويبقى هنالك قطلوخان معلم السلطان ليستوثق منه هوشنج وينزل إليه على الأمان فرحل السلطان ونزل هوشنج إلى قطلوخان وعاهده أن لا يقتله السلطان ولا يحط منزلته وخرج بماله وعياله وأصحابه وقدم على السلطان فسر بقدومه وأرضاه وخلع عليه. وكان قطلوخان صاحب عهد يستنيم الناس إليه ويقولون في الوفاء عليه. ومنزلته عند السلطان عليّة، وتعظيمه له شديدٌ ومتى دخل عليه قام له إجلالاً. فكان بسبب ذلك لا يدخل عليه حتى يكون هو الذي يدعوه لئلا يتعبه بالقيام له وهو محب في الصدقات كثير الإيثار، مولع بالإحسان للفقراء والمساكين. وكان الشريف إبراهيم المعروف بالخريطة دار وهو صاحب الكاغد والأقلام بدار السلطان والياً على بلاد حانسي وسرستي. لما تحرك السلطان إلى بلاد المعبر وأبوه هو القائم ببلاد المعبر الشريف أحسن شاه فلما أرجف بموت السلطان طمع إبراهيم في السلطنة، وكان شجاعاً كريماً حسن الصورة. وكنت متزوجاً بأخته حور نسب، وكانت صالحة تتهجد بالليل ولها أوراد من ذكر الله عز وجل، وولدت مني بنتاً، ولا أدري ما فعل الله فيهما. وكانت تقرأ لكنها لا تكتب. فلما همّ إبراهيم بالثورة اجتاز به أمير من أمراء السند معه الأموال

يحملها إلى دهلي. فقال له إبراهيم: إن الطريق مخوف وفيه القطع فأقم عندي حتى يصلح الطريق وأوصلك إلى المأمن وكان قصده أن يتحقق موت السلطان فيستولي على تلك الأموال فلما تحقق حياته سرح ذلك الأمير وكان يسمى ضياء الملك بن شمس الملك. ولما وصل السلطان إلى الحضرة بعد غيبته سنتين ونصف وصل الشريف إبراهيم إليه فوشى به بعض غلمانه وأعلم السلطان بما كان هم به فأراد السلطان أن يعجل بقتله ثم تأنى لمحبته فيه فاتفق أن أتي يوماً إلى السلطان بغزال مذبوح فنظر إلى ذبحته، فقال: ليس بجيد الذكاة اطرحوه فرآه إبراهيم فقال أن ذكاته جيدة وأنا آكله فأخبر السلطان بقوله فأنكر ذلك وجعله ذريعة إلى أخذه فأمر به فقيد وغل ثم قرّره على ما رمى به من أنه أخذ الأموال التي مر بها ضياء الملك وعلم إبراهيم أنه إنما يريد قتله بسبب أبيه وأنه لا تنفعه معذرة وخاف أن يعذب فرأى الموت خيراً له فأقر بذلك. فأمر به فوسط وترك هنالك. وعادتهم أنه متى قتل السلطان أحداً أقام مطروحاً بموضع قتله ثلاثاً فإذا كان بعد الثلاث أخذه طائفة من الكفار موكلون بذلك فحملوه إلى خندق خارج المدينة يطرحونه به وهم يسكنون حول الخندق لئلا يأتي أهل المقتول فيرفعونه وربما أعطى بعضهم لهؤلاء الكفار مالاً فتجافوا له عن قتيله حتى يدفنه وكذلك فعل بالشريف إبراهيم رحمه الله تعالى. ولما عاد السلطان من التِلِنْك وشاع خبر موته، وكان ترك تاج الملك نصرة خان نائباً عنه ببلاد التلنك وهو من قدماء خواصه بلغه ذلك فعمل عزاء السلطان ودعا لنفسه وبايعه الناس بحضرة بدَرْكُوت فبلغ خبره إلى السطان فبعث معلمه قطلوخان في عساكر عظيمة فحصره بعد قتال شديد هلك فيه أمم من الناس واشتد الحصار على أهل بَدَرْكوت وهي منيعة وأخذ قطلوخان في نقبها فخرج إليه نصرة خان على الأمان في نفسه فأمنه وبعث به إلى السلطان وأمن أهل المدينة والعسكر. ولما استولى القحط على البلاد انتقل السلطان بعساكره إلى نهر الكنك الذي تحج إليه الهنود على مسيرة عشرة من دهلي أمر الناس بالبناء وكانوا قبل ذلك صنعوا خياماً من حشيش الأرض فكانت النار كثيراً ما تقع فيها وتؤذي الناس حتى كانوا يصنعون كهوفاً تحت الأرض فإذا وقعت النار رموا أمتعتهم

بها وسدوا عليها التراب. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان وكانت البلاد التي بغربي النهر حيث السلطان شديدة القحط والبلاد التي بشرقيه خصبة وأميرها عين الملك بن ماهر. ومنها مدينة عوض ومدينة ظفر أباد ومدينة اللكنو وغيرها. وكان الأمير عين الملك كل يوم يحضر خمسين ألف منّ، منها قمح وأرز وحمص لعلف الدواب. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك وأوصى عين الملك بحفظها. وكان لعين الملك أربعة إخوة وهم شهر الله ونصر الله وفضل الله ولا أذكر اسم الآخر فاتفقوا مع أخيهم عين الملك على أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه ويبايعوا عين الملك ويقوموا على السلطان وهرب إليهم عين الملك بالليل وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكاً له يكون عيناً عليه ويعرفه بجميع حاله ويجعل أيضاً جواري في الدور يكن عيوناً له على أمرائه ونسوة يسميهن الكناسات يدخلن الدور بلا استئذان يخبرهن الجواري بما عندهن فيخبر الكناسات بذلك لملك المخبرين فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشه مع زوجته فأراد مماستها فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل فلم يسمع منها فبعث عنه السلطان صباحاً وأخبره بذلك وكان سبب هلاكه. وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه هو عين على عين الملك المذكور فأخبر السطان بفراره وجوازه النهر فسقط في يده وظن أنها القاضية عليه لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك وعساكر السلطان مفترقة فأراد أن يقصد حضرته ويجمع العساكر وحينئذ يأتي لقتاله وشاور أرباب الدولة في ذلك وكان أمراء خراسان والغرباء أشد الناس خوفاً من هذا القائم لأنه هندي وأهل الهند مبغضون في الغرباء لإظهار السلطان لهم فكرهوا ما ظهر له. وقالوا: يا خوند عالم إن فعلت ذلك بلغه الخبر فاشتد أمره ورتب العساكر وانثال عليه طلاب الشر ودعاة الفتن والأولى معاجلته قبل استحكام قوته. وكان أول من تكلم بهذا ناصر الدين مطهر الأوهري ووافقه جميعهم فعمل السلطان بإشارتهم وكتب تلك الليلة إلى من قرب منه من الأمراء والعساكر فأتوا من حينهم وأدار في ذلك حيلة حسنة فكان إذا قدم على محلته مثلاً مائة فارس بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلاً ودخلوا معهم إلى المحلة كأن جميعهم مدد له. وتحرّك السلطان مع ساحل النهر ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها وبينها

وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام فرحل أول مرحلة وقد عبأ جيشه للحرب وجعلهم صفا واحداً عند نزولهم كل واحد منهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه ومعه خباء صغير يأكل به ويتوضأ ويعود إلى مجلسه والمحلة الكبرى على بعد منهم ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء ولا استظل بظل. وكنت في يوم منها بخبائي فصاح بي فتى من فتياني اسمه سنبل واستعجلني وكان معي الجواري فخرجن إليه فقال إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته فشفع عنده الأمراء فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة امرأة وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال يقال له كنبيل. فلم تبق امرأة بالمحلة ولا مع السلطان. وبتنا تلك الليلة على تعبئة فلما كان اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجاً وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة عليها الأبراج فوقها المقاتلة وتدرع العسكر وتهيئوا للحرب وباتوا تلك الليلة على أهبة ولما كان اليوم الثالث بلغ الخبر بأنّ عين الملك الثائر أجاز النهر فخاف السلطان من ذلك وتوقع أنه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه وبعث إلي حظاً منها وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان فأعطيته فرساً منها أشهب اللون فلما حرّكه جمح به فلم يستطع إمساكه ورماه عن ظهره فمات رحمه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها وبات ليلته تلك يرتّب الناس بنفسه. ووقف علينا ونحن في المقدمة مع ابن عمه ملك فيروز ومعنا الأمير غدا بن مهنا والسيد ناصر الدين مطهر وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه. وقال: أنتم أعزة عليّ ما ينبغي أن تفارقوني وكان في عاقبة ذلك الخير فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة وفيها الوزير خواجة جهان فقامت ضجة في الناس كبيرة فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد عن مكانه ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف فاستل العسكر سيوفهم ونهضوا إلى أصحابهم وحمي القتال وأمر الناس أن يكون شعار جيشه دهلي وغزنة فإذا لقي أحدهم فارساً قال له دهلي فإن أجابه بغزنة علم أنه من أصحابه وإلا قاتله. وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان فاخطأ به الدليل فقصد موضع الوزير فضرب عنق الدليل. وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون، وهم أعداء الهنود فصدقوا القتال. وكان جيش القائم

نحو الخمسين ألفاً، فانهزموا عند طلوع الفجر. وكان الملك إبراهيم المعروف بالبَنْجي "بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم" التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة وهي قرية من بلاد عين الملك فاتفق معه على الخلاف وجعله نائبه وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضاً وجعل داود حاجبه وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمه أقبح شتم والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامه. فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري: ماذا ترى يا ملك إبراهيم قد فر أكثر العسكر وذو النجدة منهم فهل لك أن ننجوا بأنفسنا فقال إبراهيم لأصحابه بلسانهم إذا أراد عين الملك أن يفر فإني سأقبض على دبوقته فإذا فعلت ذلك فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض فنقبض عليه ونأتي به السلطان ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه وسبباً لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار قال له إبراهيم إلى أين يا سلطان علاء الدين؟ وكان يسمى بذلك وأمسك بدبوقته وضرب أصحابه فرسه فسقط على الأرض ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال لا أتركه حتى أوصله للوزير أو أموت دون ذلك فتركوه فأوصله إلى الوزير وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان ثم جاءني بعض العراقيين فقال قد قبض على عين الملك وأتي به الوزير فلم أصدقه فلم يمر إلا يسير وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال ابشر فقد قبض على عين الملك وهو عند الوزير. فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على نهر الكنك فنهبت العساكر ما فيها واقتحم كثير من عسكر عين الملك النهر فغرقوا وأخذ داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم ونهبت الأموال والخيل والأمتعة. ونزل السلطان على المجاز وجاء الوزير بعين الملك وقد أركب على ثور وهو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه، فوقف على باب السراجة ودخل الوزير إلى السطان فأعطاه الشربة عناية به. وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه وبعث إليه السلطان الملك الكبير فقال له ما هذا الذي فعلت فلم يجد جواباً فأمر به السلطان أن يكسى ثوباً من ثياب الزمالة وقيد بأربعة كبول وغلت يداه إلى عنقه وسلم للوزير ليحفظه وجاز إخوته النهر هاربين، ووصلوا مدينة عوض فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه

من المال، وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك: اخلصي بنفسك، وبنوك معنا. فقالت: أفلا أكون كنساء الكفار اللائي يحرقن أنفسهن مع أزواجهن فأنا أيضا أموت لموت زوجي وأعيش لعيشه فتركوها. وبلغ ذلك السلطان فكان سبب خيرها وأدركته لها رقة. وأدرك الفتى سهيل نصر الله من أولئك الإخوة فقتله وأتى السلطان برأسه وأتي بأم عين الملك وأخته وامرأته فسلمن إلى الوزير وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك فكان يدخل إليهن ويجلس معهن ويعود إلى محبسه. ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة أمر السلطان بسرح لفيف من الناس الذين مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به. وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه. فقال ملك العسكر الملك نوا: يا خوند عالم أقتل هذا فإنه من المخالفين. فقال الوزير: إنه قد فدى نفسه بالقائم. فعفى عنه السلطان وسرحه إلى بلاده. ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب وأتي باثنين وستين رجلاً من كبار أصحاب القائم وأتي بالفيلة فطرحوا بين أيديها فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها وترمي ببعضهم إلى الهواء وتتلقفه والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك وعين الملك واقف يعاين مقتلهم ويطرح منهم عليه، ثم أعيد إلى محبسه. وأقام السلطان على جواز النهر أيام لكثرة الناس وقلة القوارب وأجاز أمتعته وخزائنه على الفيلة وفرق الفيلة على خواصه ليجيزوا أمتعتهم. وبعث إلي بفيل منها أجزت عليه رحلي وقصد السلطان ونحن معه إلى مدينة بهرايج وهي مدينة حسنة في عدوة نهر السرو وهو واد كبير شديد الانحدار وأجازه السلطان برسم زيارة قبر الشيخ الصالح البطل سالار عود الذي فتح أكثر تلك البلاد وله أخبار عجيبة وغزوات شهيرة وتكاثر الناس للجواز وتزاحموا حتى غرق مركب كبير كان فيه نحو ثلاثمائة نفس لم ينج منهم إلا عربي من أصحاب الأمير غدا وكنا ركبنا نحن مركباً صغيراً فسلمنا الله تعالى. وكان العربي الذي سلم من الغرق يسمى بسالم وذلك اتفاق عجيب. وكان أراد أن يصعد معنا في مركبنا، فوجدنا قد ركبنا النهر، فركب في المركب الذي غرق. فلما خرج ظن الناس أنه كان معنا. فقامت ضجة في

أصحابنا وفي سائر الناس وتوهموا أنا غرقنا ثم لما رأونا بعد استبشروا بسلامتنا. وزرنا قبر الصالح المذكور وهو في قبة لم نجد سبيلاً إلى دخولها لكثرة الزحام. وفي تلك الوجهة دخلنا غيضة قصب فخرج علينا منها الكركدن فقُتل وأتى الناس برأسه وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف وقد ذكرناه. ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف. وعفا عن عين الملك وعفا أيضاً عن نصرة خان القائم ببلاد التِلِنك وجعلهما معاً على عمل واحدٍ وهو النظر على بساتين السلطان وكساهما وأركبهما وعيّن لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم وبلغ الخبر بعد ذلك أنّ أحد أصحاب قطلوخان وهو علي شاه كر، ومعنى كر: الأطرش خالف على السلطان. وكان شجاعاً حسن الصورة والسيرة. فغلب على بدركوت وجعلها مدينة ملكه وخرجت العساكر إليه وأمر السلطان معلمه أن يخرج إلى قتاله فخرج في عساكر عظيمة وحصره ببدركوت ونقبت أبراجها واشتدت به الحال فطلب الأمان فأمنه قطلوخان وبعث به إلى السلطان مقيداً فعفا عنه ونفاه إلى مدينة غزنة من طرف خراسان فأقام بها مدة ثم اشتاق إلى وطنه فأراد العودة إليه لما قضاه الله من حينه فقبض عليه ببلاد السند وأتي به السلطان فقال له: إنما جئت لتثير الفساد ثانية وأمر به فضربت عنقه. وكان السلطان قد وجد على أمير بخت الملقب بشرف الملك أحد اللذين وفدوا معنا على السلطان فحط مرتبه من أربعين ألفاً إلى ألف واحد، وبعثه في خدمة الوزير إلى دهلي. واتفق أن مات أمير عبد الله الهروي في الوباء في التلنك وكان ماله عند أصحابه بدهلي فاتفقوا مع أمير بخت على الهروب فلما خرج الوزير من دهلي إلى لقاء السلطان هربوا مع أمير بخت وأصحابه ووصلوا إلى أرض السند في سبعة أيام وهي مسيرة أربعين يوماً وكانت معهم الخيل مجنوبة وعزموا على أن يقطعوا نهر السند عوماً ويركب أمير بخت وولده ومن لا يحسن العوم في معدية قصب يصنعونها وكانوا قد أعدوا حبالاً من الحرير برسم ذلك فلما وصلوا إلى النهر خافوا من عبوره بالعوم فبعثوا رجلين منهم إلى جلال الدين صاحب مدينة أوجة فقالا له: أن ها هنا تجاراً أرادوا أن يعبروا النهر وقد بعثوا إليك بهذا السرج لتبيح لهم الجواز، فأنكر

الأمير أن يعطي التجار مثل ذلك السرج وأمر بالقبض على الرجلين ففر أحدها ولحق بشرف الملك وأصحابه وهم نيام لما لحقهم من الإعياء ومواصلة السهر. فأخبرهم الخبر فركبوا مذعورين وفروا. وأمر جلال الدين بضرب الرجل الذي قبض عليه فاعترف بقضية شرف الملك فأمر جلال الدين نائبه فركب في العسكر وقصدوا نحوهم فوجدوهم قد ركبوا فاقتفوا أثرهم فأدركوهم فرموا العسكر بالنشاب ورمى طاهر بن شرف الملك نائب الأمير جلال الدين بسهم فأثبته في ذراعه وغلب عليهم فأتي بهم إلى جلال الدين فقيدهم وغلّ أيديهم وكتب إلى الوزير في شأنهم فأمره الوزير أن يبعثهم إلى الحضرة فبعثهم إليها وسجنوا بها. فمات طاهر في السجن. وأمر السلطان أن يضرب شرف الملك مائة مقرعة في كل يوم فبقي على ذلك مدة ثم عفا عنه وبعثه مع الأمير نظام الدين أمير نجلة إلى بلاد جنديري فانتهت حاله إلى أن كان يركب البقر ولم يكن له فرس يركبه وأقام على ذلك مدة ثم وفد ذلك الأمير على السلطان وهو معه فجعله السلطان شاشنكير "جاشنكير" وهو الذي يقطع اللحم بين يدي السلطان ويمشي مع الطعام ثم إنه بعد ذلك نوه به ورفع مقداره وانتهت حاله إلى أن مرض فزاره السلطان وأمر بوزنه بالذهب وأعطاه ذلك وقد قدمنا هذه الحكاية في السفر الأول وبعد ذلك زوّجه بأخته وأعطاه بلاد جنديري التي كان يركب بها البقر في خدمة الأمير نظام الدين. فسبحان مقلب القلوب ومحول الأحوال. كان شاه أفغان خالف على السلطان بأرض ملتان من بلاد السند وقتل الأمير بها، وكان يسمى بِهْ زَاد، وادعى السلطنة لنفسه. وتجهز السلطان لقتاله فعلم أنه لا يقاومه فهرب ولحق بقومه الأفغان وهم ساكنون بجبال منيعة لا يقدر عليها. فاغتاظ السلطان مما فعله وكتب إلى عماله أن يقبضوا على من وجدوه من الأفغان ببلاده فكان ذلك سببا لخلاف القاضي جلال. وكان القاضي جلال وجماعة من الأفغانيين قاطنين بمقربة من مدينة كنباية ومدينة بلوذرة، فلما كتب السلطان إلى عماله بالقبض على الأفغانيين كتب إلى ملك مقبل نائب الوزير ببلاد الجزرات ونهر واله أن يحتال في القبض على القاضي جلال ومن معه وكانت بلوذرة إقطاعاً لملك الحكماء وكان ملك الحكماء متزوجاً بربيبة السلطان زوجة أبيه تغلق ولها بنت من تغلق هي التي

تزوجها الأمير غدا. وملك الحكماء إذ ذاك في صحبة مقبل لأن بلاده تحت نظره فلما وصلوا إلى بلاد الجزرات أمر مقبل ملك الحكماء أن يأتي بالقاضي جلال وأصحابه فلما وصل ملك الحكماء إلى بلاده حذرهم في خفية لأنهم كانوا من أهل بلاده. وقال أن مقبلاً طلبكم ليقبض عليكم فلا تدخلوا عليه إلا بالسلاح فركبوا في نحو ثلاثمائة مدرع وأتوه، وقالوا: لا ندخل إلا جملة فظهر له أنه لا يمكن القبض عليهم وهم مجتمعون وخاف منهم فأمرهم بالرجوع وأظهر تأمينهم فخالفوا عليه ودخلوا مدينة كنباية ونهبوا خزانة السلطان بها وأموال الناس ونهبوا مال ابن الكومي التاجر وهو الذي عمر المدرسة الحسنة بإسنكدرية وسنذكره إثر هذا. وجاء ملك مقبل لقتالهم فهزموه هزيمة شنيعة وجاء الملك عزيز الخمار والملك جهان بنبل لقتالهم في سبعة آلاف من الفرسان فهزموهم أيضاً وتسامع بهم أهل الفساد والجرائم فانثالوا عليهم وادعى القاضي جلال السلطنة وبايعه أصحابه وبعث السلطان إليه العساكر فهزمها وكان بدولة أباد جماعة من الأفغان فخالفوا أيضاً. وكان ابن الملك مل ساكنا بدولة آباد في جماعة من الأفغان فكتب السلطان إلى نائبه بها وهو نظام الدين أخو معلمه قطلوخان أن يقبض عليهم وبعث إليه بأحمال كثيرة من القيود والسلاسل وبعث بخلع الشتاء. وعادة ملك الهند أن يبعث لكل أمير على مدينة لوجوه عسكره خلعتين في السنة خلعة الشتاء وخلعة الصي. وإذا جاءت الخلع يخرج الأمير والعساكر للقائها فإذا وصلوا إلى الآتي بها نزلوا عن دوابهم وأخذ كل واحد خلعته وحملها على كتفه وخدم لجهة السلطان وكتب السلطان لنظام الدين إذا خرج الأفغان ونزلوا عن دوابهم لأخذ الخلع فاقبض عليهم عند ذلك. وأتى أحد الفرسان الذي أوصلوا الخلع إلى الأفغان فأخبرهم بما يراد بهم فكان نظام الدين ممن احتال فانعكست عليه فركب وركب الأفغان معه حتى إذا لقوا الخلع ونزل نظام الدين عن فرسه حملوا عليه وعلى أصحابه فقبضوا عليه وقتلوا كثيراً من أصحابه ودخلوا المدينة فأخذوا الخزائن وقدموا على أنفسهم ناصر الدين بن ملك مل وانثال عليهم المفسدون فقويت شوكتهم. ولما بلغ السلطان ما فعله الأفغان بكنباية ودولة آباد خرج بنفسه وعزم على أن يبدأ بكنباية ثم يعود إلى دولة آباد وبعث أعظم ملك البايزيدي صهره في أربعة

آلاف مقدمة فاستقبلته عساكر القاضي جلال فهزموه وحصروه ببلوذرة وقاتلوه بها. وكان في عسكر القاضي جلال شيخ يسمى جلول وهو أحد الشجعان فلا يزال يفتك في العساكر ويقتل ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته واتفق يوماً أنه دفع فرسه فكبا به في حفرة فسقط عنه وقتل. ووجدوا عليه درعين فبعثوا برأسه إلى السلطان وصلبوا جسده بسور بلوذرة وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد ثم وصل السلطان بعساكره فلم يكن للقاضي جلال من ثبات ففر في أصحابه وتركوا أموالهم وأولادهم فنهب ذلك كله ودخلت المدينة وأقام بها السلطان أياماً ثم رحل عنها وترك بها صهره شرف الملك أمير بخت الذي قدمنا ذكره وقضية فراره وأخذه بالسند وسجنه وما جرى عليه من الذل ثم من العز وأمره بالبحث عمن كان في طاعة جلال الدين وترك معه الفقهاء ليحكم بأقوالهم فأدى ذلك إلى قتل الشيخ على الحيدري حسبما قدمناه. ولما هرب القاضي جلال لحق بناصر الدين بن ملك مل بدولة آباد ودخل في جملته فأتى السلطان بنفسه إليهم واجتمعوا في نحو أربعين ألفاً من الأفغان والترك والهنود والعبيد وتحالفوا على أن لا يفروا وأن يقاتلوا السلطان وأتى السلطان لقتالهم ولم يرفع الشطر الذي هو علامة عليه فلما استحرّ القتال رفع الشطر ولما عاينوه دهشوا وانهزموا أقبح هزيمة ولجأ ابن ملك مل والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدويقير وسنذكرها. وهي من أمنع القلاع في الدنيا واستقر السلطان بمدينة دولة آباد والدويقير هي قلعتها. وبعث لهم أن ينزلوا على حكمه فأبوا أن ينزلوا إلا على الأمان فأبى السلطان أن يؤمنهم وبعث لهم الأطعمة تهاوناً بهم وأقام هنالك وعلى ذلك آخر عهدي بهم. كان تاج الدين بن الكولمي من كبار التجار فوفد على السلطان من أرض الترك بهدايا جليلة منها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثني عشر لكاً. ويذكر أنه لم تكن قيمة هديته إلاّ لكاً واحداً وولاه مدينة كنباية وكانت لنظر الملك المقبل نائب الوزير فوصل إليها وبعث المراكب إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها وجاءته التحف والهدايا في المراكب وفخمت حاله. ولما لم يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة بعث الملك مقبل إلى ابن الكولمي أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة امتنع ابن الكولمي من ذلك وقال: أنا أحملها بنفسي أو أبعثها مع خدامي ولا حكم لنائب الوزير علي ولا

للوزير، واغتر بما أولاه السلطان من الكرامة والعطية فكتب مقبل إلى الوزير بذلك فوقع له الوزير على ظهر كتابه إن كنت عاجزاً عن بلادنا فاتركها وارجع إلينا. ولما وصله الجواب تجهز في عسكره ومماليكه والتقيا بظاهر كنباية فانهزم ابن الكولمي وقتل جماعة من الفريقين واستخفى ابن الكولمي في دار الناخوذة "الناخذا" إلياس أحد كبراء التجار. ودخل مقبل فضرب رقاب أمراء عسكر ابن الكولمي، وبعث له الأمان نظير أن يأخذ ماله المختص به ويترك مال السلطان وهديته مجبى البلد، وبعث مقبل بذلك كله مع خدامه إلى السلطان وكتب شاكياً من ابن الكولمي وكتب ابن الكولمي شاكياً منه. فبعث السلطان ملك الحكماء لينصف بينهما وبإثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين فنهب مال ابن الكولمي وفر ابن الكولمي في بعض مماليكه ولحق بالسلطان. وفي مدة مغيب السلطان عن حضرته إذ خرج بقصد بلاد المعبر وقع الغلاء واشتد الأمر وانتهى المنّ إلى ستين درهماً ثم زاد على ذلك وضاقت الأحوال وعظم الخطب. ولقد خرجت مرة إلى لقاء الوزير فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعاً من جلد فرس مات منذ أشهر ويأكلنه. وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق وكان الناس إذا ذبحت البقر أخذوا دماءها فأكلوها. وحدثني بعض طلبة خراسان أنهم دخلوا بلدة تسمى أكروهة، بين حانسي وسرستي فوجودوها خالية فقصدوا بعض المنازل ليبيتوا به فوجدوا في بعض بيوته رجلاً قد أضرم ناراً وبيده رجل آدمي وهو يشويها في النار ويأكل منها والعياذ بالله. ولما اشتدت الحال أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات ويكتبون الناس ويعطون لكل أحد نفقة ستة أشهر بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. وكنت في تلك المدة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السطان قطب الدين حسبما يذكر فكان الناس ينتعشون بذلك والله تعالى ينفع بالقصد فيه. وإذ قد ذكرنا من أخبار السلطان وما كان في أيامه من الحوادث ما فيه الكفاية فلنعد إلى ما يخصنا من ذلك، ونذكر كيفية وصولنا أولاً إلى حضرته وتنقل الحال إلى خروجنا عن الخدمة، ثم خروجنا عن

السلطان في الرسالة إلى الصين، وعودنا منها إلى بلادنا إن شاء الله تعالى. ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث ووجدنا عليه النقباء وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع فوجدنا به الوزير خواجة جهان ينتظرنا فتقدم ضياء الدين خداوند زاده ثم تلاه أخوه قوام الدين ثم أخوهما عماد الدين ثم تلوتهم ثم تلاني أخوهم برهان الدين ثم الأمير مبارك السمرقندي ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خداوند زادة ثم بدر الدين الفصال. ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون "استون" ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام، فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض وخدمنا نحن بالركوع وأوصلنا أصابعنا إلى الاض وخدمتنا لناحية سرير السلطان وخدم جميع من معنا فلما فرغنا من الخدمة صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله وخرجنا. وكانت أم السلطان تدعى المخدومة جهان وهي من أفضل النساء كثيرة الصدقات عمرت زوايا كثيرة وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر وهي مكفوفة البصر. وسبب ذلك أنه لما ملك ابنها جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر فخدمن بين يديها جميعاً فذهب بصرها للحين وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع وولدها أشد الناس برّاً بها، ومن برّه أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة فلما قدمت خرج لاستقبالها وترجل عن فرسه وقبل رجلها وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين. ولنعد لما قصدناه فنقول ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف وهم يسمونه باب الحرم وهنالك سكنى المخدومة جهان فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله. ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان فخدم الوزير والقاضي عند بابها وخدمنا كخدمتهم وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا

إلى الوزير ثم عادوا إلى القصر ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك ثم أتوا بالطعام وأتوا بقلال من الذهب يسمونها السُيُن "بضم السين والياء آخر الحروف" وهي مثل القدور ولها مرافع من الذهب تجلس عليها يسمونها السُبُك "بضم السين وضم الباء الموحدة" وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب وجعلوا الطعام سماطين وعلى كل سماط صفان ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين. ولما تقدمنا للطعام خدم الحجاب والنقباء وخدمنا لخدمتهم، ثم أتوا بالشربة فشربنا وقال الحجاب: بسم الله. ثم أكلنا وأتوا بالفقاع ثم بالتنبول. ثم قال الحجاب: بسم الله. فخدمنا جميعاً. ثم دعينا إلى موضع هنالك فخلع علينا خلع الحرير المذهبة. وأتوا بنا إلى باب القصر تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان وقطن، فأعطي كل واحد منا نصيبه منها، ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة وبطيفور مثله في الجلاب وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك يأخذ الطيفور بيده ويجعله على كاهله ثم يخدم بيده الأخرى إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناساً منه وتواضعاً ومبرة. جزاه الله خيراً. ففعلت كفعله ثم انصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي وبمقربة من دروازة بالم منها، وبعثت لنا الضيافة. ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل يحمل السرير منها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر يحمله غلامه على رأسه وهو أربع قوائم مخروطة يعرض عليها أربعة أعواد وتنسج عليها ضفائر من الحرير أو القطن فإذا نام الإنسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به لأنه يعطي الرطوبة من ذاته وجاءوا مع السرير بمضربتين ومخدتين ولحاف كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف "اللحف" وجوهاً تغشيها من كتان أو قطن بيضاً، فمتى توسخت غسلوا الوجوه المذكورة وبقي ما في داخلها مصوناً. وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونه الخواص والثاني الجزار ويسمونه القصاب فقالوا لنا: خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق ومن هذا كذا وكذا من اللحم لأوزان لا أذكرها الآن. وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق وهذا الذي ذكرناه ضيافة أم السلطان وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غد ذلك اليوم ركبنا إلى دار

السلطان وسلمنا على الوزير فأعطاني بدرتين كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتى "شستي" ومعنا لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز. وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منها أعطي كل واحد منهم مائتي دينار. والصنف الثاني أعطي كل واحد منهم مائة وخمسين ديناراً. والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار. والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين ديناراً. وكانوا نحو أربعين. وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفاً. وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان وهي ألف رطل هندية من الدقيق ثلثها من الميرا وهو الدرمك وثلثاها من الخشكار وهو المدهون وألف رطل من اللحم ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلاً من أرطال المغرب وخمسة وعشرون من أرطال مصر. وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق ومثلها من اللحم مع ما يناسبها مما ذكرنا. ولما كان بعد شهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام. وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير ويجعلون على القبر الأزاهير وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه "كل شبو" وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منها حبات بالخيوط ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرؤون القرآن فإذا ختموه أتوا بماء الجلاب فسقوه للناس ثم يصب عليهم ماء الورد صبا ويعطون التنبول وينصرفون. ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت خرجت عند الصبح على العادة وأعددت ما تيسر من ذلك كله فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك وأمر

بسراجة فضربت على القبر وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة ولم آت إلا والقوم المذكورون قد أخذوا مجالسهم والحاجب بين أيديهم وهم يقرؤون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر فلما فرغوا من القراءة فرأ القراء بأصوات حسان ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة وثناء إلى السلطان وعند ذكر اسمه قام الناس جميعاً قياماً فخدموا ثم جلسوا ودعا القاضي دعاءً حسناً ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات ثم فرقوا عليهم التنبول ثم أتي بأحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان فخدمنا للسرير على العادة وانصرفت إلى منزلي. فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان ما ملأ الدار ودور أصحابي وأكلوا جميعاً وأكل المساكين وفضلت الأقراص والحلواء والنبات فأقامت بقاياها أياماً وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء ويركبها الرجال وهي شبه السرير سطحها من ضفائر الحرير أو القطن وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا معوج من القصب الهندي المغلوق ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة ويحمل أربعة وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر عليها يتصرف أكثر الناس فمن كان له عبيد حملوه ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالاً يحملونه وبالبلد منهم جماعة يسيرة يقفون في الأسواق وعند أبواب الناس للكري وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان فحملوا فيها جاريتي التي هي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فأقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة. وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم وأساور ذهب مرصعة وتهليلاً من الذهب مرصعاً أيضا وقميص كتان مزركشا بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختا بأثواب ولما جاءت بذلك كله أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين محافظة على نفسي وصوناً لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي. وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة

آلاف دينار في السنة، فعينها لي الوزير وأهل الديوان وخرجت إليها فمنها قرية تسمى بَدَلي "بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المهملة وكسر اللام" وقرية بَسَهَى "بفتح الباء الموحدة والسين المهمل وكسر الهاء" ونصف قرية تسمى بَلَرة "بفتح الباء الموحدة واللام والراء" وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروهاً، وهو الميل، بصدي يعرف بصدى هندبت، والصدى عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدى له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار فبعث الوزير إلي عشر جوار منه فأعطيت الذي جاء بهنّ واحدة منهن فما رضي بذلك وأخذ أصحابي ثلاثاً صغاراً منهن وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن لأنهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحدٌ إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض وهي لهم مثل السور وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم إلا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك. وأطلّ عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل وقد مهد له على ظهره شبه السرير وركزت أربعة أعلام في أركانه الأربعة ولبس الخطيب ثياب السواد وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامه وركب فقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد منهم يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلّى صيوان قطن وفرش ببسط واجتمع الناس ذاكرين الله تعالى ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم انصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام فحضره الملوك والأمراء والأعزة وهم الغرباء وأكلوا وانصرفوا. ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر يسمى تِلْبَت "بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى"، وهي على

مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج إليه فخرجنا ومع كل إنسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر وقد اجتمع جميع القادمين فكانوا جميعاً يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب ولما وصلت إلى النوبة التي دخلت فوجدت السلطان قاعدا على كرسي فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي وكنت عرفته أيام غيبة السلطان فخدم الحاجب فخدمت واستقبلني أمير حاجب وهو ابن عم السلطان المسمى بفيروز وخدمت ثانية لخدمته ثم قال لي ملك الندماء: بسم الله مولانا بدر الدين وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخاطبني بأحسن خطاب ويقول لي بالفارسي حلت البركة قدومك مبارك اجمع خاطرك اعمل معك من المراحم وأعطيك الأنعام ما يسمع به أهل بلادك فيأتون إليك ثم سألني عن بلادي فقلت له بلاد المغرب فقال لي بلاد عبد المؤمن. فقلت له: نعم وكان كلما قال لي كلاماً جيداً قبلت يده، حتى قبلتها سبع مرات وخلع على وانصرفت. واجتمع الواردون فمد لهم سماط ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وكان من كبار الفقهاء وقاضي قضاة المماليك صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وعماد الملك عرض المماليك والملك جلال الدين الكيجي وجماعة من الحجاب والأمراء وحضر لذلك خداوند زاده غياث الدين ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مراراً من بلاده والواردون الذين خلع عليهم في ذلك هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن اخته أمير بخت بن السيد تاج الدين وكان جده وجيه الدين وزير خراسان وكان خاله علاء الدين أمير هند ووزيرا ايضا والأمير هبة الله بن الفلكي التبريزي وكان أبوه نائب الوزير بالعراق وهو بنى المدرسة الفلكية بتبريز وملك كراي من أولاد بهرام جور "جوبين" صاحب كسرى وهو من أهل جبل بذخشان الذي منه يجلب الياقوت البلخش واللازورد والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري وملك زادة الترمذي وشهاب الدين الكازروني التاجر الذي قدم

تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه. وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرسا من مراكب السلطان عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان لدخول حضرته وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان وزينت الفيلة أمام السلطان وجعلت عليها الأعلام ورفعت عليها ستة عشر شطراً منها مزركشة ومنها مرصعة ورفع على رأس السلطان شطر منها وحملت أمامه الغاشية وهي ستارة مرصعة وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك ولم يزالوا ينثرون إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك. ولما كان يوم الجمعة ثاني يوم دخول السلطان أتينا باب المشور فجلسنا في سقائف الباب الثالث ولم يكن الإذن حصل لنا بالدخول وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا وأذن لهم في دخولنا ودخول بعض أصحابنا وعين للدخول معي ثمانية فدخلنا ودخلوا معنا ثم جاؤوا بالبدر والقبان وهو الميزان وقعد قاضي القضاة والكتاب ودعوا من الباب من الأعزة هم الغرباء فعينوا لكل إنسان نصيبه من تلك البدر فحصل لي منها خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار تصدقت به أم السلطان لما قدم ابنها وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه ويسأل عن أحوالنا ويخاطبنا بأجمل كلام ولقد قال لنا في بعض الأيام أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافاتكم فالكبير منكم مقام والدي والكهل مقام أخي والصغير مقام ولدي وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له. ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل أحداها قرية جوزة والثانية قرية ملك بور وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده غياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا أن خوند عالم يقول لكم من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاء أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك

فسكت الجميع لأنهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم وتكلم أمير بخت بن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي وغير ذلك لا أعرفه. وتكلم هبة الله بن الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خدواند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي؟ وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد1 وبذلك يخاطبه السلطان تعظيماً للعرب فقلت له أما الوزارة والكتابة فليست شغلي وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب. فلما بلغ ذلك إلى السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام فبعث عنا فأكلنا بين يديه وهو يأكل ثم انصرفنا إلى خارج هزار أسطون فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي واعتذروا له عني وجئت بعد صلاة العصر فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خذواند زاده ضياء الدين وهو أكبر الإخوة المذكورين فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار فجلس بمجلس القاضي فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة عين له مجاشر قائدها ذلك المقدار فأمر له بخمسين ألفا عن يد وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير ومعناه صورة السبع لأنه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار ما زركش فيها من الذهب وأمر له بفرس من الجنس الأول والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر ويكسون أعظمها بالفضة المذهبة ثم دخل أمير بخت فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده ويقف على محاسبات الدواوين وعيّن له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطي مجاشر قائدها بمقدار ذلك وأعطي أربعين ألفا عن يد وأعطي فرساً مجهزاً وخلع عليه كخلعة الذي قبله ولقب شرف الملك. ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطي مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك

_ 1 أي ما ينادونه إلاّ ملقّباً بالسيد.

وأعطي أربعة وعشرين ألفا عن يد وأعطي فرساً مجهزاً وخلعة وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستندا إلى السرير والوزير خواجة جهان بين يديه والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه قال لي الملك الكبير اخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة وعين لك مجاشر بمقدارها وأمر لك باثني عشر ألفا نقداً تأخذها من الخزانة غداً إن شاء الله، وأعطاك فرساً بسرجه ولجامه وأمر لك بخلعة محاربي وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان فقال لي السلطان لا تحسب قضاء دلهي من أصغر الأشغال هو أكبر الأشغال عندنا وكنت أفهم قوله ولا أحسن الجواب عنه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنه فقلت له يا مولانا أنا على مذهب مالك وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف اللسان فقال لي قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد. فقلت له بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي بل أنت سيدنا ومخدومنا تواضعاً منه وفضلاً وإيناساً. ثم قال لشرف الملك أمير بخت إن كان الذي رتبت له لا يكفيه لأنه كثير الإنفاق فأنا أعطيه زاوية أن قدر على إقامة حال الفقراء وقال قل له هذا بالعربي وكان يظن أنه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له بروويكجا بخصبي وآن حكاية براوبكوي وتفهيم كنى تافردا إن شاء الله بيش من بيابي جواب او بكرى معناه امسوا الليلة فارقدوا في موضع واحد وفهمه هذه الحكاية فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء الي وتعلمني بكلامه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل وقد ضربت النوبة والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج وخرجنا معه ووجدنا أبواب دهلي مسدودوة فبتنا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي بزقاق يعرف بسرابورخان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان ولما كان بالغد بعث عنا فقبضنا الأموال والخيل والخلع وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال فجعلها على كاهلة ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها بعد أن جعلت عليها الخرق وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابي بألفي دينار وعشر خلع ولم يعط لأصحاب

أحد سواي شيئاً وكان أصحابي لهم رواء ومنظر فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم. وكنت يوماً بالمشور بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ فأتى بعض الحاجب فدعا مولانا ناصر الدين فدخل إلى السلطان فخلع عليه وأعطاه مصحفاً مكللاً بالجوهر ثم أتاني بعض الحجاب فقال أعطني شيئاً وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفا أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي وهو مجد في كلامه فقال بعض الأصحاب أنا أعطيه فأعطاه دينارين أو ثلاثة جاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوباً بتعريف الحاجب ومعناه أمر خوند عالم أن يعطى من الخرانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه ويكتب المبلغ اسمه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان والخريطة دار وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام والأمير نكبية الداودار صاحب الدوات فإذا كتب كل واحد منهم خطه يذهب بالبراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم ثم تثبت في ديوان الأشراف ثم تثبت في ديوان النظر ثم تكتب البروانة وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء ثم يثبتها الخازن في ديوانه ويكتب تلخيصا في كل يوم بمبلغ ما أمر به السلطان ذلك اليوم من المال ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفا ستة أشهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألف أعطي تسعين ألفا أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف. وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالاً أنفقته في طريقي وما صنعت به الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا عليّ في طلب ديونهم فمدحت السلطان بقصيدة طويلة أولها: إليك أميرَ المؤمنين المبجَّلا. ... أتينا نجدُّ السيرَ نحوك في الفلا فجئت محلاً من علائِك زائراً ... ومغْناك كهفٌ للزيارة أُهِلا فلو أن فوق الشمس للمجد رتبةً ... لكنتَ لأعْلاها إماماً مؤهلا

فأنت الإمام الماجد الأوحد الذي ... سجاياه حتماً أن يقولَ ويفعلا ولي حاجة من فيض جودك أرتجي ... قضاها وقصدي عند مجدك سهلا أأذكرها أم قد كفاني حياؤكم ... فإن حَيَاكم ذِكرهُ كان أجملا فعجّلْ لمن وافى محلك زائراً ... قضَا دينه أن الغريمَ تعجّلا فقدمتها بين يديه وهو قاعد على كرسي فجعلها على ركبته وأمسك طرفها بيده وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتاً ومنها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيدي ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت وهنأني الناس بذلك وأقمت مدة وكتبت رفعا وهم يسمونه عرض داشت فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند فدفعه للسلطان فقال له امض إلى خواجه جهان فقل له يعطي دينه فمضى إليه واعلمه فقال نعم وابطأ ذلك أياما وأمره السلطان في خلاها بالسفر إلى دولة آباد وفي اثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد وسافر الوزير فلم آخذ شيئا منها إلا بعد مدة والسبب الذي توقف به عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنه لما عزم الذين كان لهم علي الدين إلى السفر قلت لهم إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني1 على العادة في تلك البلاد لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنه متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصة وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد الدخول قال له دروهي السلطان وحتى رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني فلا يمكنه أن يبرح من مكانه حتى يخلصه او يرغب إليه في تأخيره فاتفق يوماً أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه ونزل بقصر هنالك فقلت لهم هذا وقتكم فلما أردت الدخول وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان فخرج حاجب قصة شمس الدين وكان من كبار الفقهاء فسألهم لاي شيء درهتموه؟ فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فاعلمه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين؟ فسألهم فقالوا له خمسة

_ 1 أي: فتعلقوا بي على باب دار السلطان مطالبين بديونكم.

وخمسون ألف دينار فعاد إليه فأعلمه فأمره أن يعود إليهم ويقول لهم أن خوند عالم يقول لكم المال عندي وأنا أنصفكم منه فلا تطلبوه به وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون ويأتي أهل الدين بعقودهم وينظروا إليها ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلما بثبوت العقود فضحك وقال ممازحاً أنا أعلم أنه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خذواند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد فبعثت إليه مائتي تنكة فردها ولم يأخذها وقال لي عنه بعض خدامه أنه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك فأعلم به أباه وعمله الوزير وكانت بينه وبين خذاوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك وذكر له كثيراً من أفعال خذاوند زاده فغير خاطر السلطان عليه فأمر بحبسه في المدينة وقال لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خذاوند زاده شيئاً إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني. ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه وعملت ترتيب أهل الهند فاشتريت سراجة وهي أفراج وضربها هناك مباح ولا بد منها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونها حمراء وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق واشتريت الصيوان وهو الذي يظلل به داخل السراجة ويرفع على عمودين كبيرين ويحمل ذلك الرجال على أاعناقهم ويقال لهم اليكوانية1 والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية وقد ذكرناهم ويكتري من يسوق له العشب لعلق الدواب لأنهم لا يطعمونها التبن ويكتري الكهارين وهم الذين يحملون أواني المطبخ ويكتري من يحمله في الدولة وقد ذكرناها ويحملها فارغة ويكتري الفراشين وهم الذين يضربون السراجة ويفرشونها ويرفعون الأحمال على الجمال ويكترى الدوادوية وهو الذين يمشون بين يديه ويحملون المشاعل بالليل فاكتريت أنا جميع من احتجت له منهم وأظهرت القوة والهمة وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة فلما كان بعد العصر من يوم خروجه

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: الكيوانية، والله أعلم بالصواب.

ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج ومن أبطا وجلس خارج السراجة على كرسي فجئت وسلمت ووقفت في مواقفي بالميمنة فبعث إلى الملك الكبير قبولة سر جامدار وهو الذي يشرد الذباب عنه فأمرني بالجلوس عناية بي ولم يجلس في ذلك اليوم سوائي ثم أتي بالفيل وألصق به سلم فركب عليه ورفع شطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب أن يركب الأمراء أفواجاً كل يمر بفوجه وعلامته وطبوله وأنفاره وصرناياته ويسمون ذلك المراتب ولا يركب إمام السلطان إلا الحجاب وأهل الطرب والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار والذين يضربون الصرنايات ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلاً وعن يساره مثل ذلك منهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة وكنت أنا من أهل ميمنته ويكون بين يديه المشاءون والإدلاء ويكون خلفه علاماته وهي من الحرير المذهب والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه وأهل دخلته وخلفهم الأمراء وجميع الناس ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول به أمر بالنزول ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون كل أحد في منزله وفي خلال ذلك ينزل السلطان على نهر أو بين أشجاره وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد ويحضر أبناء الملوك وفي يد كل واحد منهم سفود ويوقودن النار ويشتوون ذلك ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها ويؤتى بالطعام ويستدعي من شاء فيأكل معه. وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي وهو متغير فقال لماذا فقال بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك. فإن أمر مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال يا خوند عالم كل يوم هو يكلمني بالعربي ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك فامض انت يا أومار ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوندزاده حاضراً فقال يا خوند عالم

إنه كثير الإنفاق وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين اشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه اشكر لخداوند زاده وفي بعض تلك الأيام ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة وكان طريقه على منزلي وأنا معه في الميمنة وأصحابي في الساقة وكان لي خباء عند السراجة فوقف أصحابي عندها وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسألا لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما لفلان فأخبراه بذلك فتبسم فلما كان بالغد نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة. وكان السلطان في تلك الأيام سالني عن الملك الناصر هل يركب الجمل فقلت نعم يركب المهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملاً منها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المهاري به من القير وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنه وكسوته بالملف وصنعت له ركباً وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير كان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء فصنع منها ما يشبه التمر وغيره وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال يا خوند عالم رأيت العجب قال وما ذلك قال فلان بعث جملا عليه سرج فقال ائتوا به فأدخل الجمل داخل السراجة وأعجب به السلطان وقال لراجلي اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة وعاد الرجل إلى فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة. ولما عاد إلى راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخرة مكسواً بصفائح الفضة المذهبة وكسوتهما بالملف وصنعت رسناً مصفحاً بصفائح الفضة وجعلت لهما جلين من زرد خانة مبطنين بالكمخا وجعلت للجملين الخلاخيل من

الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفوراً، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومه بموضع جلوسه العام غدوت عليه بالجمال فأمر بها فحركت بين يديه وهرولت فطار خلخال أحدها فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري "جه داري": درآن طبقها حلوا است معنى ذلك ما معك في تلك الأطباق حلواء هي؟ فقلت له: نعم. فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ ما أكلت قط ولا رأيت مثل الحلواء التي بعث إلينا ونحن بالمعسكر ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه واستدعاني وأمر بالطعام فأكلت ثم سألني عن نوع من الحلواء الذي بعثت له قبل فقلت له يا خوند عالم تلك الحلواء أنواعها كثيرة ولا أدري عن أي نوع تسألون منها فقال إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقا فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنها فقال عن هذا سألتك وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له هذه يقال لها المقرصة ثم أخذ نوعاً آخر فقال وما اسم هذه؟ فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري وينتسب إلى آل العباس رضي الله عنه وهو كثير المال ويقول له السلطان يا والدي فحسدني وأراد أن يخجلني فقال ليست هذه لقيمات القاضي بل هي هذه. وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي وكان كثيراً ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق فقال له السلطان وكيف ذلك؟ فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته. فإنه أتى بها. فضحك السلطان وقال صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وخذنا التنبول وانصرفنا. فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال ابعث أصحابك يقبضون المال فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفاً التي هي دين علي وصرف الاثني عشر ألفاً التي أمر لي بها فيما تقدم بعد حط العشر على عادتهم، وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب. وفي تاسع جمادى الاولى خرج السلطان برسم قصد بلاد المعبر، وقتال

القائم بها وكنت قد خلصت أصحاب الدين وعزمت على السفر وأعطيت مرتب تسعة أشهر للكهارين والفراشين والكيوانية والدوادوية وقد تقدم ذكرهم فخرج الأمر بإقامتي في جملة ناس وأخذ الحاجب خطوطنا بذلك لتكون حجة له وتلك عادتهم خوفا من أن ينكر المبلغ وأمر لي بستة آلاف دينار دراهم وأمر لابن قاضي مصر بعشرة آلاف وكذلك كل من أقام من الأعزة وأما البلديون فلم يعطو شيئاً، وأمرني السلطان أن أتولى النظر في مقبرة السلطان قطب الدين تقدم ذكره. وكان السلطان يعظم تربته تعظيماً شديداً لأنه كان خديماً له. ولقد رأيته إذا أتى قبره يأخذ نعله فيقلبه ويجعله فوق رأسه وعادتهم أن يجعلوا نعل الميت عند قبره فوق متكأة وكان إذا وصل القبر خدم له كما كان يخدم أيام حياته وكان يعظم زوجته ويدعوها بالأخت وجعلها مع حرمه. وزوجها بعد ذلك لابن قاضي مصر واعتنى به من أجلها وكان يمضي لزيارتها في كل جمعة. ولما خرج السلطان بعث عنا للوداع فقام ابن قاضي مصر فقال أنا لا أودع ولا أفارق خوند عالم فكان له في ذلك الخير فقال له السلطان امض فتجهز للسفر وقدمت بعدها للوداع وكنت أحب الإقامة ولم تكن عاقبتها محمودة فقال مالك من حاجة فأخرجت بطاقة فيها ست مسائل فقال لي تكلم بلسانك فقلت له أن خوند عالم أمر لي بالقضاء وما قعدت لذلك بعد وليس مرادي من القضاء إلا حرمته فأمرني بالقعود للقضاء وقعود النائبين معي ثم قال لي إيه فقلت وروضة السلطان قطب الدين ماذا أفعل فيها فإني رتبت فيها أربعمائة وستين شخصاً ومحصول أوقافها لا يفي بمرتباتهم وطعامهم فقال للوزير بنجاه هزار ومعناه خمسين ألفاً ثم قال لا بد لك من غلة بديه يعني أعطه مائة ألف من المغلة وهي القمح والأرز ينفقها في هذه السنة حتى تأتي غلة الروضة والمنّ عشرون رطلا مغربية، ثم قال لي: وماذا أيضا؟ فقلت أن أصحابي سجنوا بسبب القرى التي أعطيتموني فإني عوضتها بغيرها فطلب أهل الديوان ما وصلني منها أو الاستظهار بأمر خوند عالم أن يرفع عني ذلك فقال كم وصلك منها فقلت خمسة آلاف دينار فقال هي أنعام عليك فقلت له وداري التي أمرتم لي بها مفتقرة إلى البناء فقال للوزير عمارة كنيد، أي: معناه عمروها ثم قال لي ديكر نماند؟ معناه هل بقي لك كلام. فقلت: لا ثم قال لي وصية ديكر هست معناه أوصيك أن لا تأخذ الدين لئلا تطلب فلا تجد من يبلغ خبرك إلي أنفق على قدر ما أعطيتك. قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ

يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 1. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 2. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 3. فأردت أن أقبل قدمه فمنعني وأمسك رأسي بيده فقبلتها وانصرفت. وعدت إلى الحضرة فاشتغلت بعمارة داري وأنفقت فيها أربعة آلاف دينار، أعطيت منها من الديوان ستمائة دينار وزدت عليها الباقي وبنيت بإزائها مسجداً، واشتغلت بترتيب مقبرة السلطان قطب الدين وكان قد أمر أن تبني عليه قبة يكون ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بزيادة عشرين ذراعاً على ارتفاع القبة المبنية على قازان ملك العراق وأمر أن تشترى ثلاثون قرية تكون وقفاً عليها وجعلها بيدي على أن يكون لي العشر من فائدتها على العادة. وعادة أهل الهند أن يرتبوا لأمواتهم ترتيباً كترتيبهم بقيد الحياة ويؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة وهي مزينة فرتبت أنا في هذه التربة بحسب ذلك ورتبت من قراء القرآن مائة وخمسين وهم يسمونهم الختميين ورتبت من الطلبة ثمانين ومن المعيدين ويسمونهم المكررين ثمانية ورتبت لها مدرسا ورتبت من الصوفية ثمانين ورتبت الإمام والمؤذنين والقراء بالأصوات الحسان والمداحين وكتاب الغيبة والمعرفين وجميع هؤلاء يعرفون عندهم بالأرباب ورتبت صنفاً آخر يعرفون بالحاشية وهم الفراشون والطباخون والدوادرية والأبدارية وهم السقاؤون والشربدارية الذين يسقون الشربة والتنبول دارية الذين يعطون التنبول والسلحدارية والنيزدارية والشطر دارية والطشت دارية والحجاب والنقباء فكان جميعهم أربعمائة وستين. وكان السلطان أمر أن يكون الطعام بها كل يوم اثنى عشر منّاً من الدقيق ومثلها من اللحم فرأيت أن ذلك قليل والزرع الذي أمر به كثير فكنت أنفق كل يوم خمسة وثلاثين منًّا من الدقيق ومثلها من اللحم مع ما يتبع ذلك من السكر والنبات والسمن والتنبول وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد وكان الغلاء شديداً فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبره وسافر الملك صبيح إلى السلطان بدولة آباد فسأله عن

_ 1 الإسراء، الآية: 29. 2 الأعراف، الآية: 31. 3 الفرقان، الآية: 67.

حال الناس فقال له لو كان بدهلي اثنان مثل فلان لما شكا الجهد أحد فأعجب ذلك السلطان وبعث إلي بخلعة من ثيابه وكنت أصنع في المواسم وهي العيدان والمولد الكريم ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ويوم وفاة السلطان قطب الدين مائة من الدقيق ومثلها لحماً فيأكل منها الفقراء والمساكين، وأما أهل الوظيفة فيجعل أمام كل إنسان منهم ما يخصه ولنذكر عادتهم في ذلك. وعادتهم ببلاد الهند وببلاد السرا أنه إذا فرغ من أكل الطعام في الوليمة جعل أمام كل إنسان من الشرفاء والفقهاء والمشايخ والقضاة وعاء شبه المهد له أربع قوائم منسوج سطحه من الخوص وجعل عليه الرقاق ورأس غنم مشوي وأربعة أقراص معجونة بالسمن مملوءة بالحلواء الصابونية مغطاة بأربع قطع من الحلواء كأنها الآجر وطبقا صغيراً مصنوعاً من الجلد فيه الحلواء والسموسك ويغطي ذلك الوعاء بثوب قطن جديد ومن كان دون من ذكرناه جعل أمامه نصف رأس غنم ويسمونه الزلة ومقدار النصف مما ذكرناه ومن كان دون هؤلاء أيضا جعل أمامه مثل الربع من ذلك ويرفع رجال كل أحد ما جعل أمامه وأول ما رأيتهم يصنعون هذا بمدينة السرا حضرة السلطان أوزبك فامتنعت أن يرفع رجالي ذلك إذ لم يكن لي به عهد وكذلك يبعثون أيضا لدار كبراء الناس من طعام الولائم. وكان الوزير قد أعطاني من الغلة المأمور بها للزاوية عشرة آلاف منّ ونفذ لي الباقي في هزار أمروها. وكان والي الخراج بها عزيز الخمار وأميرها شمس الدين البذخشاني. فبعثت رجالي فأخذوا بعض الإحالة وتشكوا من تعسف عزيز الخمار فخرجت بنفسي لاستخلاص ذلك وبين دهلي وهذه العمالة ثلاثة أيام وكان ذلك في أوان نزول المطر فخرجت في نحو ثلاثين من أصحابي واستصحبت معي أخوين من المغنيين المحسنين يغنيان لي في الطريق، فوصلنا إلى بلدة بِجْنَوَر، وضبط اسمها "بكسر الباء الموحدة وسكون الجيم وفتح النون وآخره راء" فوجدت بها أيضاً ثلاثة إخوة من المغنين فاستصحبتهم فكانوا يغنون لي نوبة والآخران نوبة. ثم وصلنا إلى أمروها وهي بلدة صغيرة حسنة فخرج عمالها للقائي وجاء قاضيها الشريف أمير علي وشيخ زاويتها وأضافاني معا ضيافة حسنة وكان عزيز الخمار بموضع يقال له: أفغان بور على نهر السرو. وبيننا وبينه

النهر ولا معدية فيه. فأخذنا الأثقال في معدية صنعناها من الخشب والنبات وجزنا في اليوم الثاني وجاء نجيب أخو عزيز في جماعة من أصحابه وضرب لنا سراجه ثم جاء أخوه إلى الوالي وكان معروفاً بالظلم وكانت القرى التي في عمالته ألفا وخمسمائة قرية ومجباها ستون لكاً في السنة له فيها نصف العشر. ومن عجائب النهر الذي نزلنا عليه أنه لا يشرب منه أحد في أيام نزول المطر ولا تسقى منه دابة ولقد أقمنا عليه ثلاثاً فما غرف منه أحد غرفة ولا كدنا نقرب منه لأنه ينزل من جبل قراجيل التي بها معادن الذهب ويمر على الحشائش المسمومة فمن شرب منه مات وهذا الجبل متصل مسيرة ثلاثة أشهر وينزل منه إلى بلاد تبت حيث غزلان المسك. وقد ذكرنا ما اتفق على جيش المسلمين بهذا الجبل وبهذا الموضع جاء إلي جماعة من الفقراء الحيدرية وعملوا السماع وأوقدوا النيران فدخلوها ولم تضرهم وقد ذكرنا ذلك. وكانت قد نشأت بين أمير هذه البلاد شمس الدين البذخشاني وبين واليها عزيز الخمار منازعة وجاء شمس الدين لقتاله فامتنع منه بداره وبلغت شكاية أحدهما الوزير بدهلي فبعث إلى الوزير وإلى الملك شاه أمير المماليك بأمروها وهم أربعة آلاف مملوك للسلطان وإلى شهاب الدين الرومي أن ننظر في قضيتهما فمن كان على الباطل بعثاه مثقفاً إلى الحضرة فاجتمعوا جميعاً بمنزلي وادعى عزيز على شمس الدين دعاوي منها: أن خديما له يعرف بالرضى الملتاني نزل بدار خازن عزيز المذكور فشرب بها الخمر وسرق خمسة آلاف دينار من المال الذي عند الخازن. فاستفهمت الرضى عن ذلك. فقال لي ما شربت الخمر منذ خروجي من ملتان وذلك ثمانية أعوام. فقلت له: أو شربتها بملتان؟ قال نعم. فأمرت بجلده ثمانين وسجنته، بسبب الدعوى للوث ظهر عليه، وانصرفت عن أمروها. فكانت غيبتي نحو شهرين وكنت في كل يوم أذبح لأصحابي بقرة وتركت أصحابي ليأتوا بالزرع المنفذ على عزيز وحمله عليه فوزع على أهل القرى التي لنظره ثلاثين ألف من يحملونها على ثلاثة آلاف بقرة وأهل الهند لا يحملون إلا على البقر وعليه يرفعون أثقالهم في الأسفار وركوب الحمير عندهم عيب كبير وحميرهم صغار الأجرام،

ويسمونها اللاشة وإذا أرادوا إشهار أحد بعد ضربه أركبوه الحمار. وكان السيد ناصر الدين الأوهري قد ترك عندي لما سافر ألفاً وستين تنكة فتصرفت فيها فلما عدت إلى دهلي وجدته قد أحال في ذلك المال خذواندزاده قوام الدين وكان قدم نائباً على الوزير فاستقبحت أن أقول له تصرفت في المال فأعطيته نحو ثلثه وأقمت بداري أياما وشاع في أني مرضت فأتى ناصر الدين الخوارزمي صدر الجهان لزيارتي فلما رآني قال ما أرى بك مرض. فقلت له: إني مريض القلب. فقال لي عرفني بذلك فقلت له ابعث إلي نائبك شيخ الإسلام أعرفه به فبعثه إلي فأعلمته فعاد إليه فأعلمه فبعث إلي بألف دينار دراهم. وكان له عندي قبل ذلك ألفا ثانية ثم طلب مني بقية المال فقلت في نفسي ما يخلصني منه إلا صدر الجهان المذكور لأنه كثير المال فبعثت إليه بفرس مسرج قيمته وقيمة سرجه ألف وستمائة دينار وبفرس ثان قيمته وقيمة سرجه ثمانمائة دينار وببغلتين قيمتهما ألف ومائتا دينار وبتركش فضة وبسيفين غمداهما مغشيان بالفضة وقلت له انظر قيمة الجميع وابعث إلي ذلك. فأخذ ذلك وعمل لجميعه قيمة ثلاثة آلاف دينار فبعث إلي ألفاً واقتطع الألفين فتغير خاطري ومرضت بالحمى. وقلت في نفسي إن شكوت به إلى الوزير افتضحت فأخذت خمسة أفراس وجاريتين ومملوكين وبعثت الجميع للملك مغيث الدين محمد بن ملك الملوك عماد الدين السمناني وهو فتى مسن فرد على ذلك وبعث إلي مائتي تنكة وأغزر وخلصت من ذلك المال فشتان بين محمد ومحمد. وكان السلطان لما توجه إلى بلاد المعبر وصل إلى التلنك ووقع الوباء بعسكره فعاد إلى دولة آباد ثم وصل إلى نهر الكنك فنزل عليه وأمر الناس بالبناء وخرجت في تلك الأيام إلى محلته واتفق ما سردناه من مخالفة عين الملك ولازمت السلطان في تلك الأيام وأعطاني من عتاق الخيل لما قسمها على خواصه وجعلني فيهم وحضرت معه الوقيعة على عين الملك والقبض عليه وجزت معه نهر الكنك ونهر السرو لزيارة قبر الصالح البطل سالا رعود وقد استوفيت ذلك كله وعدت معه إلى حضرة دهلي لما عاد إليها. وقد هم السلطان بمعاقبتي ولكن الله سبحانه وتعالى تداركني بلطفه ونجاني. وكان سبب ذلك أنّي ذهبت يوماً لزيارة الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ

الجام، بالغار الذي احتفره خارج دهلي، وكان قصدي رؤية ذلك الغار فلما أخذه السلطان سأل أولاده عمن كان يزوره فذكروا أناساً أنا من جملتهم فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور. وعادته أنه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص. فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. فقرأتها ذلك اليوم ثلاثة وثلاثين ألف مرة وبت بالمشور وواصلت إلى خسمة أيام في كل يومٍ منها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة ثم أفطرت بعد خمس وواصلت أربعاً وتخلصت بعد قتل الشيخ، والحمد لله تعالى. ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري وكان من الأولياء وله كرامات كثيرة قد ذكرت منها ما شاهدته عند ذكر اسمه وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين وكان الشيخ يواصل عشرة أيام وربما واصل عشرين فكنت أحب أن أواصل فكان ينهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة ويقول لي أن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير وأعطيت ثياب ظهري لفقير ولبست ثيابه ولزمت هذا الشيخ خمسة أشهر والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند. ولما بلغ السلطان خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسيوستان، فدخلت عليه في زي الفقراء فكلمني أحسن كلام وألطفه وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت وطلبت منه الإذن في السفر إلى الحجاز فأذن لي فيه وانصرفت عنه ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة ثنتين وأربعين فاعتكفت بها شهر رجب وعشرة من شعبان وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام. وكنت أقرأ القرآن كل يوم وأتهجد بما شاء الله وكنت إذا أكلت الطعام آذاني فإذا طرحته وجدت الراحة وأقمت كذلك أربعين يوماً ثم بعث عني ثانية

_ 1 آل عمران، الآية: 173.

ولما كملت لي أربعون يوماً بعث إلي السلطان خيلاً مسرجة وجواري وغلماناً وثياباً ونفقة، فلبست ثيابه وقصدته. وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة لبستها أيام اعتكافي فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نوراً في باطني ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر. ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده. وقال لي إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولا إلى ملك الصين فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان فجهزني بما أحتاج له وعين للسفر معي من يذكر بعد. وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا منها مائة من التي تصنع بمدينة الزيتون ومائة من التي تصنع بمدينة الخنسا وخمسة أمنان من المسك وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر وخمسة من التراكش مزركشة ومثلها سيوف. وطلب من السلطان أن يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره. ويعرف الموضع الذي هو به بِسَمْهَل "بفتتح السين المهمل وسكون الميم وفتح الهاء" وإليه يحج أهل الصين وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه أن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأه عن هديته بخير منها وذلك مائة فرس من الجياد مسرجة ملجمة ومائة مملوك ومائة جارية من كفار الهند مغنيات ورواقص ومائة ثوب بيرمية وهي من القطن ولا نظير لها في الحسن قيمة الثوب منها مائة دينار ومائة شقة من ثياب الحرير المعروفة بالجز وهي التي يكون حرير إحداها مصبوغا بخمسة ألوان وأربعة ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية ومائة ثوب من الشيرين باف ومائة ثوب من الشان باف وخمسمائة ثوب من المرعز مائة منها سود ومائة بيض ومائة حمر ومائة خضر ومائة زرق ومائة شقة من الكتان الرومي ومائة فضلة من الملف وسراجة وست من القباب وأربع حسك من ذهب وست حسك من فضة منيلة وأربع طسوت من الذهب ذات أباريق كمثلها وست طسوت من الفضة وعشر خلع من ثياب السلطان مزركشة وعشر شواش من لباسه إحداهما مرصعة بالجوهر وعشرة تراكش مزركشة وأحدها مرصع بالجواهر وعشرة

من السيوف أحدها مرصع الغمد بالجوهر ودشت بان "دستبان" وهو قفاز مرصع بالجوهر وخمسة عشر من الفتيان. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني وهو من فضلاء أهل العلم والفتى كافور الشربدار وإليه سلمت الهدية وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منه البحر وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين وهم خمسة عشر رجلاً يسمى كبيرهم ترسي وخدامهم نحو مائة رجل وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة وأمر لنا السلطان بالضيافة مدة سفرنا ببلاده. وكان سفرنا في السابع عشر لشهر صفر سنة ثلاث وأربعين، وهو اليوم الذي اختاروه للسفر لأنهم يختارون للسفر من أيام الشهر ثانيه أو سابعة أو الثاني عشر أو السابع عشر أو الثاني والعشرين أو السابع والعشرين فكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت على مسافة فرسخين وثلث من حضرة دهلي. ورحلنا منه إلى منزل هيلوور1، ورحلنا منه إلى مدينة بَيَانة "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف مع تخفيفها وفتح النون" وهي مدينة كبيرة حسنة البناء مليحة الأسواق ومسجدها الجامع من أبدع المساجد وحيطانه وسقفه حجارة. والأمير بها مظفر بن الداية وأمه هي داية السلطان وكان بها قبله الملك مجير بن أبي الرجاء أحد كبراء الملوك وقد تقدم ذكره وهو ينتسب في قريش وفيه تجبر وله ظلم كثير قتل من أهل هذه المدينة جملة ومثّل بكثير منهم. ولقد رأيت من أهلها رجلاً حسن الهيئة قاعداً في أسطوان منزله وهو مقطوع اليدين والرجلين. وقدم السلطان مرة على هذه المدينة فتشكى الناس من الملك مجير المذكور فأمر السلطان بالقبض عليه وجعلت في عنقه الجامعة وكان يقعد بالديوان بين يدي الوزير وأهل البلد يكتبون عليه المظالم فأمر السلطان بإرضائهم فأرضاهم بالأموال ثم قتله بعد ذلك. ومن كبار أهل هذه المدينة الإمام العالم عز الدين الزبيري من ذرية الزبير بن العوام رضي الله عنه

_ 1 في بعض طبعات الكتاب، ورحلنا منه إلى منزل هيلو.

أحد كبار الفقهاء الصلحاء لقيته بكاليور عند الملك عز الدين البنتاني المعروف بأعظم ملك. ثم رحلنا من بيانة فوصلنا إلى مدينة كُول "وضبط اسمها بضم الكاف" مدينة حسنة ذات بساتين وأكثر أشجارها العنبا. ونزلنا بخارجها في بسيط أفيح ولقينا بها الشيخ الصالح العابد شمس الدين المعروف بابن تاج العارفين وهو مكفوف البصر معمر وبعد ذلك سجنه السلطان ومات في سجنه. وقد ذكرنا حديثه. ولما بلغنا إلى مدينة كول، بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها وهي على مسافة سبعة أميال من كول، فقصدنا الجلالي والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف ولم يعلم الكفار بنا حتى صدقنا الحملة عليهم وهم في نحو ألف فارس وثلاثة آلاف راجل فقتلناهم عن آخرهم واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم واستشهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارساً وخمسة وخمسون راجلاً، واستشهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده فكتبنا إلى السلطان بخبره وأقمنا في انتظار الجواب وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على مدافعتهم. وفي أحد الأيام ركبت في جماعة من أصحابي ودخلنا بستاناً نقيل فيه وذلك فصل القيظ فسمعنا الصياح فركبنا ولحقنا كفاراً أغاروا على قرية من قرى الجلالي فاتبعناهم فتفرقوا وتفرّق أصحابنا في طلبهم وانفردت في خمسة من أصحابنا فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك ففررنا منهم لكثرتهم واتبعني نحو عشرة منهم ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منهم ولا طريق بين يدي وتلك الأرض كثيرة الحجارة فنشبت يدا فرسي بين الحجارة فنزلت عنه واقتلعت يده وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسرج ويسمى الركابي والآخر في التركش فسقط سيفي الركابي من غمده وكانت حليته ذهبا فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت وهم في أثري ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم. ثم خرجت إلى واد في وسط شجراء ملتفة في وسطها طريق فمشيت عليه ولا أعرف منتهاها فبينما أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلاً

من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي وخفت أن يرموني رمية رجل إن فررت منهم وكنت غير متدرع فألقيت بنفسي إلى الأرض واستأسرت. وهم لا يقتلون من فعل ذلك فأخذوني وسلبوني جميع ما علي غير جبة وقميص وسروال ودخلوا بي إلى تلك الغابة فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منها على حوض ماء بين تلك الأشجار وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منه وشربت من الماء وكان معهم مسلمان كلماني بالفارسية وسألاني عن شأني فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان. فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم ولكن هذا مقدمهم وأشارا إلى رجل منهم فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له فوكل بي ثلاثة منهم أحدهم شيخ ومعه ابنه والآخر أسود خبيث وكلمني أولئك الثلاثة ففهمت منهم أنهم أمروا بقتلي فاحتملوني عشي النهار إلى كهف وسلط الله على الأسود منهم حمى مرعدة فوضع رجليه علي ونام الشيخ وابنه فلما أصبح تكلموا فيما بينهم وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض وفهمت أنهم يريدون قتلي فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرقّ لي وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت. ولما كان عند الظهر سمعنا كلاماً عند الحوض فظنوا أنهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم فنزلنا ووجدنا قوماً آخرين فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا وجلس ثلاثتهم أمامي وأنا مواجه لهم ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي بهذا الحبل يربطونني عند القتل وأقمت كذلك ساعة ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني فتكلموا معهم وفهمت أنهم قالوا لهم لأي شيء ما قتلتموه؟ فأشار الشيخ إلى الأسود كأنه اعتذر بمرضه وكان أحد هؤلاء الثلاثة شاباً حسن الوجه فقال لي: أتريد أن أسرحك؟ فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت عليّ فأعطيته إياها وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق فذهبت وخفت أن يبدو لهم فيدركونني فدخلت غيضة قصب واختفيت فيها إلى أن غابت الشمس. ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب فأفضت بي إلى ماء فشربت منه وسرت إلى ثلث الليل فوصلت إلى جبل فنمت تحته فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عال فيه شجر أم

غيلان والسدر، فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثاراً هي باقية به حتى الآن. ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزدرعة قطناً وبها أشجار الخروع، وهنالك باين والباين عندهم بئر متسعة جدّاً مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها وسنذكر بعض ما رأينا منها فيما بعد. ولما وصلت إلى الباين شربت منه ووجدت عليه شيئاً من عساليج الخردل قد سقطت لمن غسلها فأكلت منها وادخرت باقيها ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارساً مدّرعين فدخل بعضهم إلى المزرعة ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح ونزلوا الباين وأتى أحدهم إلى شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها فلم يشعر بي. ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن وأقمت بها بقية نهاري وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون فلما كان الليل هدأت أصواتهم. فعلمت أنهم قد مروا أو ناموا، فخرجت حينئذ واتبعت أثر الخيل والليل مقمر وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة فنزلت إليه وشربت من مائه وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير فنمت بها. وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقاً واسعة تفضي إلى قرية خربة وسلكت سواها فكانت كمثلها وأقمت كذلك أياماً وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة بينها حوض ماء وداخلها شبه بيت وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره. فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة ثم إني وجدت يسير قوة فنهضت على طريق وجدت بها أثر البقر ووجدت ثوراً عليه بردعة ومنجل فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقاً أخرى فأفضت بي إلى قرية خربة ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما وأقمت تحت أشجار هنالك فلما كان الليل دخلت القرية ووجدت داراً في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة يصنعونها لاختزان الزرع وفي أسفلها نقب يسع منه الرجل فدخلتها ووجدت داخلها مفروشاً بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي

عليه ونمت وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنه كان يخاف فاجتمعنا خائفين. وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت وهو يوم السبت وفي السابع منها وصلت إلى قرية للكفار عامرة وفيها حوض ماء ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني فوجدت حول بئرها أوراق فجل فأكلته. وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة فدعاني طليعتهم فلم أجبه وقعدت إلى الأرض فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد ففتشني فلم يجد عندي شيئاً فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي. ولما كان اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء ووصلت إلى قرية خراب، فلم أجد بها حوضاً. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضاً يجتمع بها ماء المطر فيشربون منه جميع السنة فاتبعت طريقاً فأفضت بي إلى بئر غير مطوية عليها حبل مصنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل وامتصصت ما تعلق بها في الماء فلم يروني فربطت خفي واستقيت به فلم يروني فاستقيت به ثانياً فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر وبخرق وجدتها هنالك. فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز وعلى كاهله جراب، فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته: فقال لي بالفارسية: جيكس "جه كسيى" معناه من أنت؟ فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء فأردت أن أشرب فقال لي اصبر ثم فتح جرابة فأخرج منه غرفة حمص أسود مقلو مع قليل أرز فأكلت منه وشربت. وتوضأ وصلى ركعتين. وسألني عن اسمي فقلت له: محمد. وسألته عن اسمه، فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك وسررت به. ثم قال لي بسم الله ترافقني؟ فقلت: نعم. فمشيت معه قليلاً ثم وجدت فتوراً في أعضائي ولم أستطع النهوض فقعدت. فقال: ما شأنك؟ فقلت له: كنت قادراً على المشي قبل أن ألقاك فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف ولا تستطع ذلك. فقال: يقويني الله لا بد لك

فركبت على عنقه. وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك. وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض فاستيقظت ولم أر للرجل أثراً وإذا أنا في قرية عامرة فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمها من المسلمين، فأعلموه بي فجاء إلي. فقلت له: ما اسم هذه القرية؟ فقال لي: تاج بوره وبينها وبين مدينة كُول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته فأطعمني طعاماً سخناً واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بِكُول فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتي بهما فوجدتهما من ثيابي كنت قد وهبتهما لذلك العربي لما قدمنا كُول فطال تعجبي من ذلك. وفكّرت في الرجل الذي حملني على عنقه، فتذكرت ما أخبرني به ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي حسبما ذكرناه في السفر الأول إذ قال لي ستدخل أرض الهند وتلقي بها أخي دلشاد ويخلصك من شدة تقع فيها وتذكرت قوله لما سألته عن اسمه فقال القلب الفارح وتفسيره بالفارسية دلشاد فعلمت أنه هو الذي أخبرني بلقائه وأنه من الأولياء ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكرت. وكتبت تلك الليلة إلى أصحابي بِكُول معلماً لهم بسلامتي فجاؤا إلي بفرس وثياب واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار عوضا من كافور المستشهد وأمرنا أن نتمادى على سفرنا ووجدتهم أيضا قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور وهم يريدون أن يرجعوا فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم وقوي عزمي، فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة والسلطان يعذرك فلنرجع إليه أو نقيم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام وحيث ما كنا أدركنا الجواب من كُول إلى دولة آباد. فرحلنا من كُول ونزلنا برج بوره، وبه زاوية حسنة فيها شيخ حسن الصورة والسيرة يسمى بمحمد العريان لأنه لا يلبس عليه إلا ثوباً من سرته إلى أسفل وباقي جسده مكشوف. وهو تلميذ الصالح الولي محمد العريان القاطن بقرافة مصر نفع الله به، وكان من أولياء الله تعالى قائماً على قدم التجرد يلبس تنورة وهو ثوب يستر من سرته إلى أسفل ويذكر أنه كان إذا صلى العشاء الآخرة أخرج كل ما بقي بالزاوية من طعام وأدام وماء وفرق ذلك على المسلمين ورمى بفتيلة السراج وأصبح على غير

معلوم. وكانت عادته أن يطعم أصحابه عند الصباح خبزاً وفولاً فكان الخبازون والفوالون يستبقون إلى زاويته فيأخذ منهم مقدار ما يكفي الفقراء ويقول لمن أخذ منه ذلك: اقعد حتى يأخذ أول ما يفتح به عليه في ذلك اليوم قليلاً أو كثيراً. ومن حكاياته أنه لما وصل قازان ملك التتر إلى الشام بعساكره وملك دمشق ما عدا قلعتها وخرج الملك الناصر إلى مدافعته ووقع اللقاء على مسيرة يومين من دمشق بموضع يقال له قشحب والملك الناصر إذ ذاك حديث السن لم يعهد الوقائع وكان الشيخ العريان في صحبته فنزل وأخذ قيداً فقيد به فرس الملك الناصر لئلا يتزحزح عند اللقاء لحداثة سنه فيكون ذلك سبب هزيمة المسلمين فثبت الملك الناصر وهزم التتر هزيمة شنعاء قتل منهم فيها كثير وغرق كثير بما أرسل عليهم من المياه ولم يعد التتر إلى قصد بلاد الإسلام بعدها. وأخبرني الشيخ محمد العريان المذكور تلميذ هذا الشيخ أنه حضر هذه الوقيعة وهو حديث السن. ورحلنا من برج بوره ونزلنا على الماء المعروف بآب سياه، ثم رحلنا إلى مدينة قِنَوْج "وضبط اسمها بكسر القاف وفتح النون وواو ساكن وجيم" مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة الأسعار كثيرة السكر ومنها يحمل إلى دهلي وعليها سور عظيم وقد تقدم ذكرها. وكان بها الشيخ معين الدين الباخرزي أضافنا بها، وأميرها فيروز البدخشاني من ذرية بهرام جور صاحب كسرى ويسكن بها جماعة من الصلحاء الفضلاء المعروفين بمكارم الأخلاق يعرفون بأولاد شرف جهان، وكان جدهم قاضي القضاة بدولة آباد، وهو من المحسنين المتصدقين، وانتهت الرئاسة ببلاد الهند إليه. وقد عزل مرة عن القضاء وكان له أعداء فادعى أحدهم عند القاضي الذي ولي بعده أن له عشرة آلاف دينار قبله، ولم تكن له بينة وكان قصده أن يحلفه، فبعث القاضي له، فقال لرسوله: بم ادعى علي؟ فقال: بعشرة آلاف دينار. فبعث إلى مجلس القاضي عشرة آلاف وسلمت للمدعي. وبلغ خبره السلطان علاء الدين وصحّ عنده بطلان تلك الدعوى فأعاده إلى القضاء وأعطاه عشرة آلاف. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً ووصلنا فيها جواب السلطان في شأني بأنه إن لم يظهر لفلان أثر فيتوجه وجيه الملك قاضي دولة آباد عوضاً منه. ثم رحلنا من هذه المدينة فنزلنا بمنزل هنول، ثم بمنزل وزير بور، ثم بمنزل البجالصة، ثم وصلنا إلى مدينة مَوْري

"وضبط اسمها فتح الميم وواو وراء" وهي صغيرة، ولها أسواق حسنة. ولقيت بها الشيخ الصالح المعمر قطب الدين المسمى بحيدر الفرغاني، وكان بحال مرض فدعا لي وزودني رغيف شعير. وأخبرني أن عمره ينيف على مائة وخمسين. وذكر لي أصحابه أنه يصوم الدهر ويواصل كثيراً ويكثر الاعتكاف وربما أقام في خلوته أربعين يوماً يقتات فيها بأربعين تمرة في كل يوم واحدة. وقد رأيت بدهلي الشيخ المسمى برجب البرقعي دخل الخلوة بأربعين تمرة فأقام بها أربعين يوماً ثم خرج وفضل معه منها ثلاث عشرة تمرة. ثم رحلنا ووصلنا إلى مدينة مَرْه وضبط اسمها "بفتح وسكون الراء وهاء"، وهي مدينة كبيرة أكثر سكانها كفار تحت الذمة وهي حصينة وبها القمح الطيب الذي ليس له مثل بسواها ومنها يحمل إلى دهلي وحبوبه طوال شديدة الصفرة ضخمة ولم أر قمحاً مثله إلا بأرض الصين وتنسب هذه المدينة إلى المالوة وهي قبيلة من قبائل الهنود ضخام الأجسام عظام الخلق حسان الصور لنسائهم الجمال الفائق وهن مشهورات بطيب الخلوة ووفور الحظ من اللذة، وكذلك نساء المرهتة ونساء جزيرة ذيبة المهل. ثم سافرنا إلى مدينة عَلاَبُور "وضبط اسمها فتح العين ولام وألف وباء موحدة مضمومة وواو وراء" مدينة صغيرة أكثر سكانها الكفار تحت الذمة وعلى مسيرة يوم منها سلطان كافر اسمه قَتَم "بفتح القاف والتاء المعلوة" وهو سلطان جَنْبيل "بفتح الجيم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء مد ولام" الذي حاصر مدينة كيالير وقتل بعد ذلك. وكان هذا السلطان الكافر قد حاصر مدينة رابري، وهي على نهر اللجون كثيرة القرى والمزارع وكان أميرها خطاب الأفغاني وهو أحد الشجعان. واستعان السلطان الكافر بسلطان كافر مثله يسمى رَجُو "بفتح الراء وضم الجيم" وبلده يسمى سلطان بور، وحاصر مدينة رابري فبعث خطاباً إلى السلطان يطلب منه الإغاثة فأبطأ عليه المدد وهو على مسيرة أربعين من الحضرة فخاف أن يتغلب الكفار عليه فجمع من قبيلة الأفغان نحو ثلاثمائة ومثلهم من المماليك ونحو أربعمائة من سائر الناس وجعلوا العمائم في أعناق خيلهم وهي عادة أهل الهند إذا أرادوا الموت وباعوا نفوسهم من الله تعالى وتقدم خطاب وقبيلته واتبعهم سائر الناس وفتحوا الباب عند الصبح وحملوا على الكفار حملة واحدة وكانوا نحو خمسة عشر ألفاً فهزموهم بإذن الله وقتلوا سلطانيهم:

قَتَم ورَجُو وبعثوا برأسهما إلى السلطان. ولم ينج من الكفار إلى الشريد. وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفرداً بنفسه، فيقتل ويسبي، حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار. وكان طويلاً ضخماً يأكل الشاة عن آخرها في أكلة وأخبرت أنه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة. فاتفق أنه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع به الفرس في مطمورة، واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقُتَارة والقُتَارة "بقاف معقود وتاء معلوة" حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منها مقدار ذراعين وضربتها لاتبقي، فقتله بتلك الضربة، وقاتل عبيده أشد القتال فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وما فيها. وأخرجوا الفرس من المطمورة سالماً فأتوا به ولده فكان من الاتفاق الغريب أنه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي فخرج عليه الكفار فقاتلهم حتى قتل وعاد الفرس إلى أصحابه فدفعوه إلى أهله فركبه صهر له فقتله الكفار عليه أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة كالِيُور "وضبط اسمها بفتح الكاف المعقود وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وواو وراء" ويقال فيه أيضاً: كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع منقطع في رأس شاهق على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين وأمير هذه المدينة أحمد بن سيرخان فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة. ودخلت عليه يوماً وهو يريد توسيط رجل من الكفار فقلت له: بالله لا تفعل ذلك فإني ما رأيت أحداً قط يقتل بمحضري فأمر بسجنه وكان ذلك سبب خلاصه. ثم رحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة بَرْوَن "وضبط اسمها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخره نون" مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار، أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلاً وأبوابها مغلقة فيفترس الناس حتى قتل من أهلها كثيراً وكانوا يعجبون في شأن دخوله. وأخبرني محمد التوفيري من أهلها وكان جاراً لي بها أنه دخل داره ليلاً وافترس صبياً من فوق السرير. وأخبرني غيره أنه كان مع جماعة في دار عرس

فخرج أحدهم لحاجة فافترسه. فخرج أصحابه في طلبه فوجدوه مطرحاً بالسوق وقد شرب دمه ولم يأكل لحمه. وذكروا أنه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية، يتصور في صورة سبع. ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني به جماعة ولنذكر بعضا من أخبار هؤلاء السحرة. فهؤلاء الطائفة تظهر منهم عجائب. منها: أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب وكثير منهم تحفر لهم حفر تحت الأرض وتبنى عليه فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء ويقيم به الشهور وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلاً من المسلمين ممن يتعلم منهم قد رفعت له طبلة وأقام بأعلاها لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوماً وتركته كذلك فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنهم يركبون حبوباً يأكلون الحبة منها لأيام معلومة أو شهر فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا شراب ويخبرون بأمور مغيبة، والسلطان يعظمهم ويجالسهم. ومنهم من يقتصر في أكله على البقل. ومنهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون والظاهر من حالهم أنهم عودوا أنفسهم الرياضة ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتاً من نظرته وتقول العامة أنه إذا قتل بالنظر وشق عن صدر الميت وجد دون قلب ويقولون أكل قلبه وأكثر ما يكون هذا في النساء والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار. ولما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط والسلطان ببلاد التلنك نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم فجمعهم الوزير ووزع المساكين منهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم فكان عندي منهم خمسمائة نفس فعمرت لهم سقائف في واد1 وأسكنتهم بها وكنت أعطيهم نفقة في خمسة أيام فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منهم وقالوا إنها كفتار وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها وأتوا بالصبي ميتاً فأمرتهم أن يذهبوا إلى نائب السلطان فأمر باختبارها. وذلك بأن ملأوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نهر

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: في دارين.

الجون فلم تغرق. فعلم أنها كفتار ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار. فأمر بإحراقها بالنار. وأتى أهل البلد رجالاً ونساءً فأخذوا رمادها. وزعموا أنه من تبخّر به أمن في تلك السنة من سحر كفتار. وقد بعث إلي السلطان يوماً وأنا عنده بالحضرة فدخلت عليه وهو في خلوة وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية وهم يلتحفون بالملاحف ويغطون رؤوسهم لأنهم ينتفونها بالرماد كما ينتف الناس أباطهم فأمرني بالجلوس فجلست. فقال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة فأرياه ما لم يره. فقالا: نعم. فتربع أحدهما ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعاً. فعجبت منه وأدركني الوهم فوقعت إلى الأرض فأمر السلطان أن أسقى دواءا عنده فأفقت وقعدت وهو على حاله متربع فأخذ صاحبه نعلاً له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى جلس معنا. فقال السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل. ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت فانصرفت عنه وأصابني الخفقان ومرضت حتى أمر لي بشربة اذهبت ذلك عني. ولنعد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أمواري. ثم منزل كجرا، وبه حوض عظيم طوله نحو ميل وعليه الكنائس فيها الأصنام قد مثل بها المسلمون وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاث طباق وعلى أركانه الأبعة أربع قباب ويسكن هنالك جماعة من الجوكية وقد لبدوا شعورهم وطالت حتى صارت في طولهم وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة وكثير من المسلمين يتبعونهم ليتعلموا منهم ويذكرون أن من كانت به عاهة من برص أو جذام يأوي إليه مدة طويلة فيبرأ بإذن الله تعالى. وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان وكانوا نحو خمسين فحفر لهم غار تحت الأرض وكانوا مقيمين به لا يخرجون إلا لقضاء حاجة ولهم شبه القرن1 يضربونه أول النهار وآخره وبعد العتمة وشأنهم كله عجب. ومنهم الرجل الذي صنع للسلطان غياث الدين الدامغاني

_ 1 القرن: البوق.

سلطان بلاد المعبر حبوباً يأكلها تقويه على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد، فأعجبه فعلها فأكل منها أزيد من مقدار الحاجة فمات. وولي ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا لجوكي ورفع قدره. ثم سافرنا إلى مدينة جَنْديِري "وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وسكون النون وكسر الدال المهمل وياء مد وراء" مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنها أمير أمراء تلك البلاد عز الدين البنتاني وهو المدعو بأعظم ملك وكان خيراً فاضلاً يجالس أهل العلم. وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري والفقيه العالم وجيه الدين البياني نسبة إلى مدينة بيانة، التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة وإمامهم شمس الدين وكان النائب عنه على أمور المخزن يسمى قمر الدين ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان وبين يديه تعرض العساكر. وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادراً. ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار "وضبط اسمها بكسر الظاء المعجم" وهي مدينة المالوة أكبر عمالة تلك البلاد وزرعها كثير خصوصاً القمح. ومن هذه المدينة تحمل أوراق التنبول إلى دهلي وبينهما أربعة وعشرون يوماً وعلى الطريق بينهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين كل عمودين فاذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومه وما بقي له إلى المنزل أو إلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه. ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المهل. وكان الشيخ إبراهيم قدم على هذه المدينة ونزل بخارجها فأحيا أرضاً مواتاً هنالك وصار يزرعها بطيخاً فتأتي في الغاية من الحلاوة ليس بتلك الأرض مثلها ويزرع الناس بطيخاً فيما يجاوره فلا يكون مثله وكان يطعم الفقراء والمساكين فلما قصد السلطان إلى بلاد المعبر أهدى إليه هذا الشيخ بطيخاً فقبله واستطابه وأقطعه مدينة ظهار وأمره أن يعمر زاوية بربوة يشرف عليها فعمرها أحسن عمارة وكان يعطم بها الوارد والصادر وأقام على ذلك أعواماً. ثم قدم على السلطان وحمل إليه ثلاثة عشر لكاً فقال هذا فضل مما كنت أطعمه الناس وبيت المال أحق به فقبضه منه ولم يعجب السلطان فعله لكونه جمع المال ولم ينفق جميعه في إطعام الطعام. وبهذه المدينة أراد ابن اخت الوزير خواجة جهان أن يفتك بخاله ويستولي على أمواله ويسير إلى القائم

ببلاد المعبر فنمى خبره إلى خاله فقبض عليه وعلى جماعة من الأمراء وبعثهم إلى السلطان فقتل الأمراء ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير. ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر به أن يقتل كما قتل أصحابه وكانت له جارية يحبها فاستحضرها وأطعمها التنبول وأطعمته وعانقها مودعاً، ثم طرح للفيلة وسلخ جلده ومليء تبناً. فلما كان من الليل خرجت الجارية من الدار فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه فوجدت ميتة من الغد فأخرجت ودفن لحمه معها في قبر واحد وسمى ذلك قبور "كور" عاشقان. وتفسير ذلك بلسانهم قبر العاشقين. ثم سافرنا من مدينة ظهار إلى مدينة أُجَين "وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم وياء ونون" مدينة حسنة كثيرة العمارة وكان يسكنها الملك ناصر الدين بن عين الملك من الفضلاء الكرماء العلماء استشهد بجزيرة سندابور حين افتتاحها وقد زرت قبره هنالك وسنذكره. وبهذه المدينة كان سكنى الفقيه الطبيب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل. ثم سافرنا من مدينة أُجين إلى مدينة دولة آباد وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي في رفعة قدرها واتساع خطتها وهي منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها دولة آباد وهو مختص بسكنى السلطان وعساكره. والقسم الثاني اسمه الكَتكَة "بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما". والقسم الثالث: قلعتها التي لا مثل لها ولا نظير في الحصانة وتسمى الدويقير "بضم الدال المهمل وفتح الواو وسكون الياء وقاف معقود مكسور وياء مد وراء". وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها والنائب عن السلطان بها وببلاد صاغر وبلاد التلنك وما أضيف إلى ذلك. وعمالتها مسيرة ثلاثة أشهر عامرة كلها لحكمه ونوابه فيها. وقلعة الدويقير التي ذكرناها في قطعة حجر في بسيط من الأرض قد نحتت وبني بأعلاها قلعة يصعد إليها بسلم مصنوع من جلود ويرفع ليلاً ويسكن بها المفردون وهم الزماميون بأولادهم وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جبوب بها. وبها فيران ضخام أعظم من القطوط والقطوط1 تهرب منها ولا تطيق مدافعتها لأنها تغلبها ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها. وقد رأيتها هناك فعجبت منها.

_ 1 يريد: القطط.

وأخبرني الملك خطاب الأفغاني أنه سجن مرة في جب بهذه القلعة يسمى جب الفيران قال فكانت تجتمع عليّ ليلاً لتأكلني فأقاتلها وألقي من ذلك جهداً، ثم إني رأيت في النوم قائلاً يقول لي اقرأ سورة الاخلاص مائة ألف مرة ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها فلما أتممتها أخرجت. وكان سبب خروجي أن ملك مل كان مسجوناً في جب يجاورني فمرض وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات فبلغ ذلك السلطان فقال: اخرجوا خطاب لئلاّ يتفق له مثل ذلك. وإلى هذه القلعة لجأ ناصر الدين بن ملك مل المذكور والقاضي جلال حين هزمهما السلطان. وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن وخصوصاً في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة بحركات الجماع ما ليس لغيرهن. وكفار هذه المدينة أصحاب تجارات وأكثر تجاراتهم في الجوهر وأموالهم طائلة وهم يسمون الساهة واحدهم ساه. وهم مثل الأكارم بديار مصر. وبدولة آباد العنب والرمان ويثمران مرتين في السنة وهي من أعظم البلاد مجبى وأكبرها خراجاً لكثرة عمارتها واتساع عمالتها. وأخبرت أن بعض الهنود التزم مغارمها وعمالتها جميعاً، وهي كما ذكرناه مسيرة ثلاثة أشهر بسبعة عشر كرورا والكرور مائة لكاً، والكّ مائة ألف دينار، ولكنه لم يف بذلك فبقي عليه بقية وأخذ ماله وسلخ جلده. وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق طرب آباد من أجمل الأسواق وأكبرها، فيه الدكاكين الكثيرة كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه وللدار باب سوى ذلك والحانوت مزيّن بالفرش وفي وسطه شكل مهد كبير تجلس فيه المغنية أو ترقد وهي متزينة بأنواع الحلي وجواريها يحرّكن مهدها وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من يوم كل خميس وبين يديه خدامه وممالكيه وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى فيغنين بين يديه ويرقصن إلى وقت المغرب ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة ويصلي الأئمة فيها التراويح في شهر رمضان وكان بعض سلاطين الكفار بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها ويغني المغنيات بين يديه وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة نَذَرْبار "وضبط اسمها بنون وبذال معجم مفتوحين وراء مسكن وباء موحدة مفتوحة وألف وراء" مدينة صغيرة يسكنها المرهتة، وهم أهل الإتقان

في الصنائع والأطباء والمنجمون. وشرفاء المرهتة هم البراهمة، وهم الكتريون أيضاً وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه. ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينهم وبينه سبعة أجداد ولا يشربون الخمر وهي عندهم أعظم المعائب، وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين، ومن شربها من مسلم حد ثمانين جلدة وسجن في مطمورة ثلاثة أشهر لا تفتح عليه إلا حين طعامه. ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة صَاغَر "وضبط اسمها بفتح الصاد المهمل وفتح الغين المعجم وآخره راء" وهي مدينة كبيرة على نهر كبير يسمى أيضاً صاغر كاسمها. وعليه النواعير والبساتين فيها العنب والموز وقصب السكر. وأهل هذه المدينة أهل صلاح ودين وأمانة وأحواله كلها مرضية. ولهم بساتين فيها الزوايا للوارد والصادر وكل من يبني زاوية يحبس البستان عليها ويجعل النظر فيه لأولاده فإن انقرضوا عاد النظر للقضاة. والعمارة بها كثيرة والناس يقصدونها للتبرك بأهلها ولكونها محررة من المغارم والوظائف. ثم سافرنا من صاغر المذكورة إلى مدينة كِنْبَاية "وضبط اسمها بكسر الكاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وياء آخر الحروف مفتوحة" وهي على خور من البحر وهو شبه الوادي تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب به مرساة في الوحل حين الجزر فإذا كان المد عامت في الماء. وهذه المدينة من أحسن المدني في إتقان البناء وعمارة المساجد. وسبب ذلك أن أكثر سكانها التجار الغرباء فهم أبداً يبنون بها الديار الحسنة والمساجد العجيبة ويتنافسون في ذلك. ومن الديار العظيمة بها دار الشريف السامري الذي اتفقت لي معه قضية الحلواء وكذّبه ملك الندماء. ولم أر قط أضخم من الخشب الذي رأيته بهذه الدار وبابها كأنه باب مدينة وإلى جانبها مسجد عظيم يعرف باسمه. ومنها دار ملك التجار الكازروني وإلى جانبها مسجده. ومنها دارشمس الدين كلاه وز1 ومعناه خياط الشواشي. ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين

_ 1 في بعض طبعات الكتاب: كلاه نور، وكلاه دوز.

المذكور والناخوذة إلياس، وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منه بهذه المدينة. وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها فتغلب عليهم ودخلها. واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة وخافوا أن يتطلع عليهم فاتفقوا على أن يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منهم صاحبه بقتارة، وقد ذكرنا صفتها. فمات اثنان منهم ولم يمت ملك الحكماء. وكان من كبار التجار أيضاً بها نجم الدين الجيلاني، وكان حسن الصورة كثير المال، وبنى بها داراً عظيمة ومسجداً. ثم بعث السلطان عنه وأمره عليها وأعطاه المراتب فكان ذلك سبب تلف نفسه وماله. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها مقبل التلنكي وهو كبير المنزلة عند السلطان وكان صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائباً عنه في جميع أمره وهذا الشيخ له أموال عظيمة وعنده معرفة بأمور السلطنة ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده ويتحيل في الفرار وبلغ خبره إلى السلطان وذكر عنه أنه يروم الهروب فكتب إلى مقبل أن يبعثه على البريد وأحضر بين يدي السلطان ووكل به. والعادة عنده أنه متى وكل بأحد فقلما ينجو فاتفق هذا الشيخ مع الموكل به على مال يعطيه إياه، وهربا جميعاً. وذكر لي أحد الثقات أنه رآه في ركن مسجد بمدينة قلهات وأنه وصل بعد ذلك إلى بلاده فحصل على أمواله وأمن مما كان يخافه. وأضافنا الملك مقبل يوماً بداره فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة وهو أعور العين اليمنى وفي مقابلته شريف بغداد شديد الشبه به في صورته وعوره إلا أنه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك فزجره القاضي فقال له لا تزجرني، فإني أحسن منك. قال: كيف ذلك؟ قال: لأنك أعور اليمنى وأنا أعور اليسرى فضحك الأمير والحاضرون وخجل القاضي ولم يستطع أن يرد عليه، لأن الشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم. وكان بهذه المدينة من الصالحين الحاج ناصر من أهل ديار بكر وسكناه بقبة من قباب الجامع. دخلنا إليه وأكلنا من طعامه واتفق له لما دخل القاضي جلال مدينة كنباية حين خلافه أنه أتاه وذكر للسلطان أنه دعا له فهرب لئلا يقتل كما قتل الحيدري. وكان بها أيضاً من الصالحين التاجر خواجة إسحاق وله زاوية يطعم فيها الوارد والصادر وينفق على الفقراء والمساكين وماله على هذا ينمى ويزيد كثرة. وسافرنا من هذه المدينة إلى بلد كاوي، وهي

على خور فيه المد والجزر وهي بلاد الري جالنسي الكافر وسنذكره. وسافرنا منها إلى مدينة قَنْدَهار "وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الدال المهمل وهاء وألف وراء"، وهي مدينة كبيرة للكفار على خور من البحر. وسلطان لقندهار سلطان كافر اسمه جَالَنْسي "بفتح الجيم واللام وسكون النون وكسر السين المهمل"، وهو تحت حكم الإسلام، ويعطي لملك الهند هدية كل عام. ولما وصلنا إلى قندهار خرج إلى استقبالنا وعظمنا أشد التعظيم وخرج عن قصره فأنزلنا به وجاء إلينا من عنده كبار المسلمين كأولاد خواجة بهرة ومنهم الناخوذة إبراهيم له ستة من المراكب مختصة له. ومن هذه المدينة ركبنا البحر وركبنا في مركب لإبراهيم المذكور يسمى الجاكر "بفتح الجيم والكاف المعقودة". وجعلنا فيه من خيل الهدية سبعين فرساً وجعلنا باقيها مع خيل أصحابنا في مركب لأخي إبراهيم المذكور يسمى مَنُورت "بفتح الميم ونون وواو مد وراء مسكن وتاء معلوة" وأعطانا جالنسي مركباً جعلنا فيه ظهير الدين وسنبل وأصحابهما وجهزه لنا بالماء والزاد والعلف. وبعث معنا ولده في مركب يسمى العُكَيْري "بضم العين المهمل وفتح الكاف وسكون الياء وراء"، وهو شبه الغراب إلا أنه أوسع منه، وفيه ستون مجذفاً ويسقف حين القتال حتى لا ينال الجذافين شيء من السهم ولا الحجارة. وكان ركوبي أنا في الجاكر وكان فيه خمسون رامياً وخمسون من المقاتلة الحبشة وهم زعماء هذا البحر وإذا كان بالمركب أحد منهم تحاماه لصوص الهنود وكفارهم. ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة بَيْرم "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء"، وهي خالية. وبينها وبين البر أربعة أميال فنزلنا بها واتقينا الماء من حوض بها. وسبب خرابها أن المسلمين دخلوها على الكفار فلم تعمر بعد. وكان ملك التجار الذي تقدم ذكره أراد عمارتها وبنى سورها وجعل بها المجانيق وأسكن بها بعض المسلمين. ثم سافرنا منها ووصلنا في اليوم الثاني إلى مدينة قُوقَة وهي "ضم القاف الأولى وفتح الثانية"، وهي مدينة كبيرة عظيمة الأسواق. فرسينا1 على أربعة أميال منها بسبب الجزر. ونزلت في عشاري مع بعض أصحابي حين الجزر

_ 1 الأصح أن يقال: فرَسَوْنا.

لأدخل إليها فوحل العشاري في الطين وبقي بيننا وبين البلد نحو ميل فكنت لما نزلنا في الوحل أتوكأ على رجلين من أصحابي وخوفني الناس من وصول المد قبل وصولي إليها وأنا لا أحسن السباحة ثم وصلت إليها وطفت بأسواقها ورأيت بها مسجداً ينسب للخضر وإلياس عليهما السلام صليت به المغرب ووجدت به جماعة من الفقراء الحيدرية مع شيخ لهم ثم عدت إلى المركب. وكان لقوقة سلطان يسمى دُنْكُول "بضم الدال المهمل وسكون النون وضم الكاف وواو ولام" وكان يظهر الطاعة لملك الهند وهو في الحقيقة عاص. وبما أقعلنا عن هذه المدينة وصلنا بعد ثلاثة أيام إلى جزيرة سَنْدَابُور "وضبط اسمها بفتح السين المهمل وسكون النون وفتح الدال المهمل وألف وباء موحدة وواو مد وراء"وهي جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية، ويدور بها خور، واذا كان الجزر فماؤها عذب طيب وإذا كان المد فهو ملح أجاج. وفي وسطها مدينتان: إحداهما قديمة من بناء الكفار، والثانية بناها المسلمون عند استفتاحهم لهذه الجزيرة الفتح الأول، وفيها مسجد جامع عظيم يشبه مساجد بغداد عمره الناخوذة حسن والد السلطان جمال الدين محمد الهنوري وسيأتي ذكره. وذكر عند حضوري معه لفتح الجزيرة الفتح الثاني - إن شاء الله. وتجاوزنا هذه الجزيرة لما مررنا بها ورسينا على جزيرة صغيرة قريبة من البر فيها كنيسة وبستان وحوض ماء ووجدنا فيها أحد الجوكية. ولما نزلنا بهذه الجزيرة الصغرى وجدنا بها جوكيا مستنداً إلى حائط بدخانة وهي بيت الأصنام وهو فيها بين صنمين منها وعليه أثر المجاهدة فكلمناه فلم يتكلم ونظرنا هل معه طعام فلم نر معه طعاماً، وفي حين نظرنا صاح صيحة عظيمة فسقطت عند صياحه جوزة من جوز النارجيل بين يديه ودفعها لنا فعجبنا من ذلك ودفعنا له دنانير ودراهم فلم يقبلها وأتيناه بزاد فرده وكانت بين يديه عباءة من صوف الجمال مطروحة فقبلتها بيدي فدفعها لي وكانت بيدي سبحة زيلع فقبلها في يدي فأعطيته إياها ففركها بيده وشمها وقبلها وأشار إلى السماء ثم إلى سمت القبلة فلم يفهم أصحابي إشارته وفهمت أنا عنه أنه أشار أنه مسلم يخفي إسلامه من أهل تلك الجزيرة ويتعيش من تلك الجوز. ولما وادعناه قبلت يده فأنكر أصحابي ذلك ففهم إنكارهم فأخذ يدي

وقبلها وتبسم وأشار لنا بالانصراف فانصرفنا. وكنت آخر أصحابي خروجاً فجذب ثوبي فرددت رأسي إليه فأعطاني عشرة دنانير. فلما خرجنا عنه قال لي أصحابي لم جذبك فقلت لهم أعطاني هذه الدنانير. وأعطيت لظهير الدين ثلاثة منها، ولسنبل ثلاثة، وقلت لهما: الرجل مسلم ألا ترون كيف أشار إلى السماء يشير إلى أنه يعرف الله تعالى وأشار إلى القبلة يشير إلى معرفة الرسول عليه السلام وأخذه السبحة يصدق ذلك فرجعا لما قلت لهما ذلك إليه فلم يجداه. وسافرنا تلك الساعة. وبالغد وصلنا إلى مدينة هنور "وضبط اسمها بكسر الهاء وفتح النون وسكون الواو وراء" وهي على خور كبير تدخله المراكب الكبار والمدينة على نصف ميل من البحر. وفي أيام البشكال وهو المطر يشتد هيجان هذا البحر وطغيانه فيبقى مدة أربعة اشهر لا يستطيع أحد ركوبه إلا للتصيد فيه. وفي يوم وصلنا إليها جاءني أحد الجوكية من الهنود في خلو وأعطاني ستة دنانير فأخذتها منه وأعطيته ديناراً منها فلم يقبله وانصرف. وأخبرت أصحابي بالقضية وقلت لهما إن شئتما فخذا نصيبكما منها فأبيا وجعلا يعجبان من شأنه، وقالا لي: إن الدنانير الستة التي أعطيتنا إياها جعلنا معها مثلها وتركناها بين الصنمين حيث وجدناه فطال عجبي من أمره واحتفظت بتلك الدنانير التي أعطانيها. وأهل مدينة هنور شافعية المذهب لهم صلاح ودين وجهاد في البحر وقوة وبذلك عرفوا حتى أذلهم الزمان بعد فتحهم لسندابور وسنذكر ذلك. ولقيت من المتعبدين بهذه المدينة الشيخ محمد الناقوري، أضافني بزاويته. وكان يطبخ الطعام بيده استقذاراً للجارية والغلام. ولقيت بها الفقيه إسماعيل معلم كتاب الله تعالى وهو ورع حسن الخلق كريم النفس، والقاضي لها نور الدين علي، والخطيب ولا أذكر اسمه. ونساء هذه المدينة وجميع هذه البلاد الساحلية لا يلبسن المخيط وإنما يلبسن ثياباً غير مخيطة تحتزم إحداهن بأحد طرفي الثوب وتجعل باقيه على رأسها وصدرها، ولهن جمال وعفاف، وتجعل إحداهن خرص ذهب في أنفها، ومن خصائصهن أنهن جميعا يحفظن القرآن الكريم. ورأيت بالمدينة ثلاثة عشر مكتباً لتعليم البنات وثلاثة وعشرين لتعليم الأولاد ولم أر ذلك في سواها. ومعاش أهلها من التجارة في البحر ولا زرع لهم. وأهل بلاد

المليبار يعطون للسلطان جمال الدين في كل عام شيئاً معلوماً خوفا منه لقوته في البحر، وعسكره نحو ستة آلاف بين فرسان ورجاله. وسلطان هنور هو السلطان جمال الدين محمد بن حسن من خيار السلاطين وكبارهم وهو تحت حكم سلطان كافر يسمى هريب سنذكره. والسلطان جمال الدين مواظب للصلاة في الجماعة وعادته أن يأتي إلى المسجد قبل الصبح فيتلو في المصحف حتى يطلع الفجر فيصلي أول الوقت، ثم يركب إلى خارج المدينة. ويأتي عند الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ثم يدخل إلى قصره وهو يصوم الأيام البيض1. وكان أيام إقامتي عنده يدعوني للإفطار معه، فأحضر لذلك ويحضر الفقيه علي والفقيه إسماعيل فتوضع أربع كراسي صغار على الأرض، فيقعد على إحداها ويقعد كل واحد منا على كرسي. وترتيبه أن يؤتى بمائدة نحاس يسمونها خونجة، ويجعل عليها طبق نحاس يسمونه الطالم "بفتح الطاء المهمل وفتح اللام"، وتأتي جارية حسنة ملتحفة بثوب حرير فتقدم قدور الطعام بين يديه ومعها مغرفة نحاس كبيرة فتغرف بها من الأرز مغرفة واحد وتجعلها في الطالم وتصب فوقها السمن وتجعل مع ذلك عناقيد الفلفل المملوح والزنجبيل الأخضر والليمون المملوح والعنبا2، فيأكل الإنسان لقمة ويتبعها بشيء من تلك الموالح، فإذا تمت الغرفة التي جعلتها في الطالم غرفت غرفة أخرى من الأرز وأفرغت دجاجة مطبوخة في سكرجة فيؤكل بها الأرز أيضاً، فاذا تمت المغرفة الثانية غرفت وأفرغت لوناً آخر من الدجاج تؤكل به، فإذا تمت ألوان الدجاج، أتوا بألوان من السمك فيأكلون بها الأرز أيضاً، فإذا فرغت ألوان السمك أتوا بالخضر مطبوخة بالسمن والألبان فيأكلون بها الأرز، فإذا فرغ ذلك كله أتوا بالكوشان وهو اللبن الرائب وبهذا يختمون طعامهم، فإذا وضع علم أنه لم يبق شيء يؤكل بعده، ثم يشربون على ذلك الماء الساخن، لأن الماء البارد يضر بهم في فصل نزول المطر. ولقد أقمت عند هذا السلطان في كرة أخرى أحد عشر شهراً، لم

_ 1 الأيام البيض من كل شهر هي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، من كل شهرٍ هجري، وهي التي تبيض لياليها بالقمر، وقد كره مالك رضي الله عنه تخصيصها بالصيام خشية اعتقاد تحديدها، فإنّ السنة صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهرٍ بدون تحديد. 2 العنبا: ثمر المانغا.

آكل خبزاً، إنما طعامهم الأرز وبقيت أيضاً بجزائر المهل وسيلان وبلاد المعبر والمليبار ثلاث سنين لا آكل فيها الأرز حتى كنت لا أستسيغه إلا بالماء. ولباس هذا السلطان ملاحف الحرير والكتان الرقاق يشد في وسط فوطة ويلتحف ملحفتين: إحداهما فوق الأخرى، ويقص شعره ويلف عليه عمامة صغيرة. وإذا ركب لبس قباء، والتحف بلمحفتين فوقه. وتضرب بين يديه طبول وأبواق يحملها الرجال. وكانت إقامتنا عنده في هذه المرة ثلاثة أيام. وزودنا وسافرنا عنه. وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلاد المُلَيْبَار "بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وألف وراء". وهي بلاد الفلفل. وطولها مسيرة شهرين على ساحل البحر من سندابور إلى كولم، والطريق في جميعها بين ظلال الأشجار. وفي كل نصف ميل بيت من الخشب فيه دكاكين يقعد عليها كل وارد وصادر من مسلم وكافر. وعند كل بيت منها بئر يشرب منها، ورجل كافر موكل بها، فمن كان كافراً سقاه في الأواني، ومن كان مسلماً سقاه في يديه، ولا يزال يصب له حتى يشير له أن يكف. وعادة الكفار ببلاد المليبار أن لا يدخل المسلم دورهم ولا يطعم في آنيتهم، فإن طعم فيها كسروها أو أعطوها للمسلمين. وإذا دخل المسلم موضعاً منها لا يكون فيه دار للمسلمين طبخوا له الطعام وصبوه له على أوراق الموز وصبوا عليه الأدام وما فضل عنه تأكله الكلاب والطير. وفي جميع المنازل بهذا الطريق ديار المسلمين ينزل عندهم المسلمون فيبيعون منهم جميع ما يحتاجون إليه ويطبخون لهم الطعام، ولولاهم لما سافر فيه مسلم، وهذا الطريق الذي ذكرنا أنه مسيرة شهرين، ليس فيه موضع شبر فما فوقه دون عمارة وكل إنسان له بستانه على حدة وداره في وسطه وعلى الجميع حائط خشب، والطريق يمر في البساتين فإذا انتهى إلى حائط بستان كان هنالك درج خشب يصعد عليها ودرج آخر ينزل عليها إلى البستان الآخر هكذا مسيرة الشهرين. ولا يسافر أحد في تلك البلاد بدابة، ولا تكون الخيل إلا عند السلطان. وأكثر ركوب أهلها في دولة على رقاب العبيد أو المستأجرين. ومن لم يستطع أن يركب في

دولة1 مشي على قدميه كائنا من كان. ومن كان له رحل أو متاع من تجارة وسواها اكترى رجالاً يحملونه على ظهورهم، فترى هنالك التاجر ومعه المائة فما دونها أو فوقها يحملون أمتعته، وبيد كل واحد منهم عود غليظ له زج حديد، وفي أعلاه مخطاف حديد. فإذا أعيا ولم يجد دكانة يستريح عليها ركز عوده بالأرض وعلق حمله منه، فإذا استراح أخذ حمله من غير معين ومضى به. ولم أر طريقاً آمن من هذا الطريق. وهم يقتلون السارق على الجوزة الواحدة، فإذا سقط شيء من الثمار لم يلتقطه أحد حتى يأخذه صاحبه. وأخبرت أن بعض الهنود مروا على الطريق فالتقط أحدهم جوزة، وبلغ خبره إلى الحاكم فأمر بعود فركز في الأرض وبرى طرفه الأعلى وأدخل في لوح خشب حتى برز منه ومد الرجل على اللوح وركز في العود وهو على بطنه حتى خرج من ظهره وترك عبرة للناظرين. ومن هذه العيدان على هذه الصورة بتلك الطرق كثيراً ليراها الناس فيتعظوا. ولقد كنا نلقي الكفار بالليل في هذه الطريق فإذا رأونا تنحوا عن الطرق حتى نجوز. والمسلمون أعز الناس بها غير أنهم كما ذكرناه لا يؤاكلونهم ولا يدخلونهم دورهم. وفي بلاد المليبار اثنا عشر سلطانا من الكفار، منهم القوي الذي يبلغ عسكره خمسين ألفاً، ومنهم الضعيف الذي عسكره ثلاثة آلاف، ولا فتنة بينهم البتة ولا يطمع القوي منهم في انتزاع ما بيد الضعيف. وبين بلاد أحدهم وصاحبه باب خشب منقوش فيه اسم الذي هو مبدأ عمالته ويسمونه باب أمان فلان وإذا فر مسلم أو كافر بسبب جناية من بلاد أحدهم ووصل باب أمان الآخر أمن على نفسه ولم يستطع الذي هرب عنه أخذه وإن كان القوي صاحب العدد والجيوش. وسلاطين تلك البلاد يورثون ابن الأخت ملكهم دون أولادهم. ولم أر من يفعل ذلك إلا مسوفة أهل الثلم "اللثام" وسنذكرهم فيما بعد. فإذا أراد السلطان من أهل بلاد المليبار منع الناس من البيع والشراء أمر بعض غلمانه فعلّق على الحواتيت بعض أغصان الأشجار بأوراقها فلا يبيع أحد ولا يشتري ما دامت عليها تلك الأغصان. وشجرات الفلفل شبيهة بدوالي العنب وهم يغرسونها إزاء النارجيل فتصعد فيها كصعود الدوالي إلا أنها ليس لها عسلوج، وهو الغزل كما للدوالي

_ 1 محمل يشبه المحفة.

وأوراق شجرة تشبه آذان الخيل. وبعضها يشبه أوراق العليق ويثمر عناقيد صغاراً حبها كحب أبي قنينة، اذا كانت خضراء. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس كما يصنع بالعنب عند تزبيبه، ولا يزالون يقلبونه حتى يستحكم يبسه ويسود ثم يبيعونه من التجار. والعامة ببلادنا يزعمون أنهم يغلونه بالنار وبسبب ذلك يحدث فيه التكريش وليس كذلك، وإنما يحدث ذلك فيه بالشمس. ولقد رأيته بمدينة قالقوط يصب للكيل كالذرة ببلادنا. وأول مدينة دخلناها من بلاد المليبار مدينة أبي سَرور "بفتح السين" وهي صغيرة على خور كبير كثيرة أشجار النارجيل. وكبير المسلمين بها الشيخ جمعة المعروف بأبي ستة، أحد الكرماء، أنفق أمواله على الفقراء والمساكين. وبعد يومين منها وصلنا إلى مدينة فاكَنَور "وضبط اسمها فتح الفاء والكاف والنون آخر الحروف" مدينة كبيرة على خور بها قصب السكر الكثير الطيب الذي لا مثل له بتلك البلاد. وبها جماعة من المسلمين يسمى كبيرهم بحسين السلاط، وبها قاض وخطيب وعمر بها حسين المذكور مسجداً لإقامة الجمعة. وكان سلطان فاكنور كافر اسمه بَاسَدُو "بفتح الباء الموحد والسين المهمل والدال المهمل وسكون الواو" وله نحو ثلاثين مركباً حربية قائدها مسلم يسمى لولا، وكان من المفسدين يقطع بالبحر ويسلب التجار. ولما أرسينا على فاكنور بعث سلطانها إلينا ولده فأقام بالمركب كالرهينة، ونزلنا إليه فأضافنا ثلاثاً بأحسن ضيافة تعظيماً لسلطان الهند وقياماً بحقه ورغبة فيما يستفيده في التجارة مع أهل مراكبنا. ومن عادتهم هنالك أن كل مركب يمر ببلد فلا بد من إرسائه بها وإعطائه هدية لصاحب البلد يسمونها حق البندر. ومن لم يفعل ذلك خرجوا في اتباعه بمراكبهم وأدخلوه المرسى قهراً وضاعفوا عليه المغرم، ومنعوه عن السفر ما شاؤوا. وسافرنا منها فوصلنا بعد ثلاثة أيام مدينة مَنْجَرُور "وضبط اسمها بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء وواو واء ثانية". مدينة كبيرة على خور يسمى خور الدنب "بضم الدال المهمل وسكون النون وباء موحدة" وهو أكبر خور ببلاد المليبار. وبهذه المدينة ينزل معظم تجار فارس واليمن، والفلفل والزنجبيل بها كثير جداً. وسلطانها هو أكبر سلاطين تلك البلاد واسمه رَامْ دَوْ "بفتح الراء والميم والدال المهمل وسكون الواو" وبها نحو أربعة آلاف من المسلمين يسكنون ربضاً بناحية المدينة. ربما وقعت

الحرب بينهم وبين أهل المدينة فيصلح السلطان بينهم لحاجته إلى التجار. وبها قاض من الفضلاء الكرماء شافعي المذهب يسمى بدر الدين المعبري، وهو يقرئ العلم. صعد إلينا إلى المركب ورغب منا في النزول إلى بلده. فقلنا حتى يبعث السلطان ولده يقيم بالمركب، فقال: إنما فعل ذلك سلطان فاكنور لأنه لا قوة للمسلمين في بلده. وأما نحن فالسلطان يخافنا. فأبينا عليه إلا أن بعث السلطان ولده. فبعث ولده كما فعل الآخر. ونزلنا إليهم وأكرمونا إكراماً عظيماً، وأقمنا عنده ثلاثة ايام. ثم سافرنا إلى مدينة هِيلِي، فوصلناها بعد يومين "وضبط اسمها بهاء مكسورة وياء مد ولام مكسور". وهي كبيرة حسنة العمارة على خور عظيم تدخله المراكب الكبار. وإلى هذه المدينة تنتهي مراكب الصين ولا تدخل إلا مرساها ومرسى كولم قالقوط. ومدينة هيلي معظمة عند المسلمين والكفار بسبب مسجدها الجامع فإنه عظيم البركة مشرق النور وركاب البحر ينذرون له النذور الكثيرة، وله خزانة مال عظيمة تحت نظر الخطيب حسين وحسن الوزان كبير المسلمين. وبهذا المسجد جماعة من الطلبة يتعلمون العلم ولهم مرتبات من مال المسجد. وله مطبخة فيها الطعام للوارد والصادر ولإطعام الفقراء من المسلمين بها. ولقيت بهذا المسجد فقيهاً صالحاً من أهل مقدشو يسمى سعيداً حسن اللقاء والخلق يسرد الصوم. ويذكر لي أنه جاور بمكة أربع عشرة سنة، ومثلها بالمدينة. وأدرك الأمير بمكة أبا نمي والأمير بالمدينة منصور بن جماز. وسافر في بلاد الهند والصين. ثم سافرنا من هيلي إلى مدينة جُرْفَتَّن "وضبط اسمها بضم الجيم وسكون الراء وفتح الفاء وفتح التاء المعلوة وتشديدها وآخره نون" وبينه وبين هيلي ثلاثة فراسخ. ولقيت بها فقيهاً من أهل بغداد كبير القدر يعرف بالصرصري نسبه إلى بلدة على مسافة عشرة أميال من بغداد في طريق الكوفة، واسمها كاسم صرصر التي عندنا بالمغرب، وكان له أخ بهذه المدينة كثير المال له أولاد صغار أوصى إليه بهم. وتركته آخذاً في حملهم إلى بغداد. وعادة أهل الهند كعادة السودان لا يتعرضون لمال الميت ولو ترك الآلاف إنما يبقى ماله بيد كبير المسلمين حتى يأخذه مستحقه شرعًا. وسلطانها يسمى بِكُوَيل "بضم الكاف على لفظ التصغير" وهو من أكبر سلاطين المليبار. وله مراكب كثيرة تسافر إلى عمان وفارس واليمن ومن بلاده فتن وبدفتن وسنذكهما. وسرنا من جرفتن إلى مدينة دَهْ فَتّن "بفتح الدال المهمل وسكون الهاء"، وقد ذكرنا ضبط فتن. وهي مدينة كبيرة على خور، كثيرة البساتين. وبها النارجيل والفلفل

والفوفل والتنبول، وبها القلقاس الكثير، ويطبخون به اللحم. وأما الموز فلم أر في البلاد أكثر منه بها ولا أرخص ثمن، وفيها الباين الأعظم، طوله خمسمائة وعرضه ثلاثمائة خطوة وهو مطوي بالحجارة الحمر المنحوتة وعلى جوانبة ثمان وعشرون قبة من الحجر في كل قبة أربع مجالس من الحجر. وكل قبة يصعد إليها على درج حجارة وفي وسطه قبة كبيرة من ثلاث طبقات في كل طبقة أربع مجالس. وذكر لي أن والد هذا السلطان كويل هو الذي عمر هذا الباين وبإزائه مسجد للمسلمين، وله أدراج ينزل منها إليه فيتوضأ منه الناس ويغتسلون. وحدثني الفقيه حسين أن الذي عمر المسجد والباين أيضاً هو أحد أجداد كويل وأنه كان مسلماً، ولإسلامه خبر عجيب نذكره. ورأيت بإزاء الجامع شجرة خضراء ناعمة تشبه أوراقها أوراق التين، إلا أنها لينة وعليها حائط يطيف بها وعندها محراب صليت فيه ركعتين. واسم هذه الشجرة عندهم درخت الشهادة ودَرَخْت "بفتح الدال المهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة " وأخبرت هنالك أنه اذا كان زمان الخريف من كل سنة تسقط من هذه الشجرة ورقة واحدة بعد أن يستحيل لونها إلى الصفرة ثم إلى الحمرة ويكون فيها مكتوباً بقلم القدرة لا إله الا الله محمد رسول الله. وأخبرني الفقيه حسين وجماعة من الثقات أنهم عاينوا هذه الورقة وقرؤا المكتوب الذي فيها. وأخبرني أنه إذا كانت أيام سقوطها قعد تحتها الثقات من المسلمين والكفار فإذا سقطت أخذ المسلمون نصفها وجعل نصفها في خزانة السلطان الكافر وهم يستشفون بها للمرضى. وهذه الشجرة كانت سبب إسلام جد كويل الذي عمر المسجد والباين، فإنه كان يقرأ الخط العربي فلما قرأها وفهم ما فيها أسلم وحسن إسلامه. وحكايته عندهم متواترة. وحدثني الفقيه حسين أن أحد أولاده كفر بعد أبيه وطغى وأمر باقتلاع الشجرة من أصلها فاقتلعت ولم يترك لها أثر، ثم إنها نبتت بعد ذلك وعادت كأحسن ما كانت عليه وهلك الكافر سريعاً. ثم سافرنا إلى مدينة بدفتن وهي مدينة كبيرة على خور كبير وبخارجها مسجد بمقربة من البحر يأوي إليه غرباء المسلمين لأنه لا مسلم بهذه المدينة. ومرساها من أحسن المراسي وماؤها عذب والفوفل بها كثير ومنها يحمل للهند والصين وأكثر أهلها براهمة وهم معظمون عند الكفار مبغضون في المسلمين ولذلك ليس بينهم مسلم.

وقد أخبرت أن سبب تركهم هذا المسجد غير مهدوم أن أحد البراهمة خرب سقفه ليصنع منه سقفاً لبيته فاشتعلت النار في بيته فاحترق هو وأولاده ومتاعه فاحترموا هذا المسجد ولم يتعرضوا له بسوء بعدها وخدموه وجعلوا بخارجه الماء يشرب منه الصادر والوارد وجعلوا على بابه شبكة لئلا يدخله الطير. ثم سافرنا من مدينة بدفتن إلى مدينة فَنْدَرينا "وضبط اسمها بفاء مفتوحة ونون ساكن ودال مهمل وراء مفتوحة وياء آخر الحروف". مدينة كبيرة ذات بساتين وأسواق وبها للمسلمين ثلاث محلات وفي كل محلة مسجد والجامع بها على الساحل وهو عجيب له مناظر ومجالس على البحر وقاضيها وخطيبها رجل من أهل عمان وله أخ فاضل. وبهذا البلدة تشتو مراكب الصين. ثم سافرنا منها إلى مدينة قالقوط "وضبط اسمها بقافين وكسر اللام وضم القاف الثاني وآخره طاء مهمل" وهي إحدى البنادر العظام ببلاد المليبار يقصدها أهل الصين والجاوة وسيلان والمهل وأهل اليمن وفارس، ويجتمع بها تجار الآفاق. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا وسلطانها كافر يعرف بالسامري شيخ مسن يحلق لحيته كما يفعل طائفة من الروم رأيته بها وسنذكره إن شاء الله. وأمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين فاضل ذو مكارم يجتمع إليه التجار ويأكلون في سماطه وقاضيها فخر الدين عثمان فاضل كريم وصاحب الزاوية بها الشيخ شهاب الدين الكازروني وله تعطى النذور التي ينذر بها أهل الهند والصين للشيخ أبي إسحاق الكازوني نفع الله به. وبهذه المدينة الناخوذة مثقال الشهير الاسم صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس. ولما وصلنا إلى هذه المدينة خرج إلينا إبراهيم شاه بندر والقاضي والشيخ شهاب الدين وكبار التجار ونائب السلطان الكافر المسمى بقلاج "بضم القاف وآخره جيم" ومعهم الأطبال والأنفار والأبواق والأعلام في مراكبهم. ودخلنا المرسى في بروز عظيم ما رأيت مثله بتلك البلاد فكانت فرحة تتبعها ترحة. وأقمنا بمرساها وبه يومئذ ثلاثة من مراكب الصين. ونزلنا بالمدينة وجعل كل واحد منا في دار وأقمنا ننتظر زمان السفر إلى الصين ثلاثة أشهر ونحن في ضيافة الكافر، وبحر الصين لا يسافر فيه إلا بمراكب الصين ولنذكر ترتيبها. ومراكب الصين ثلاثة أصناف: الكبار منها تسمى الجنوك، واحدها جُنْك

"بجيم معقود مضموم ونون ساكن" والمتوسطة تسمى الزَوَ "بفتح الزاي وواو" والصغار اسم أحدها الكَكَم "بكافين مفتوحتين" ويكون في المركب الكبير منها اثنا عشر قلعاً فما دونها إلى ثلاثة وقلعها من قضبان الخيزران منسوجة كالحصر لا تحط أبداً ويديرونها بحسن دوران الريح وإذا أرسوا تركوها واقفة في مهب. الريح ويخدم في المركب منها ألف رجل منهم البحرية ستمائة ومنهم أربعمائة من المقاتلة تكون فيهم الرماة وأصحاب الدرق والجرخية وهم الذين يرمون بالنفط ويتبع كل مركب كبير منها ثلاثة: النصفي والثلثي والربعي ولا تصنع هذه المراكب إلا بمدينة الزيتون من الصين، أو بصين كَلاَن وهي صين الصين. وكيفية إنشائها أنهم يصنعون حائطين من الخشب يصلون ما بينهما بخشب ضخام جدّاً موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام طول المسمار منها ثلاثة أذرع، فإذا التأم الحائطان بهذه الخشب صنعوا على أعلاهما فرش المركب الأسفل ودفعوهما في البحر وأتموا عمله وتبقى تلك الخشب والحائطان موالية للماء ينزلون إليها فيغتسلون ويقضون حاجتهم وعلى جوانب تلك الخشب تكون مجاذيفهم وهي كبار كالصواري يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلاً ويجذفون وقوفاً على أقدامهم ويجعلون للمركب أربعة ظهور ويكون فيه البيوت والمصاري والغرف للتجارة والمصرية منها يكون فيها البيوت والسنداس وعليها المفتاح يسدها صاحبها ويحمل معه الجواري والنساء وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف به غيره ممن يكون بالمركب حتى يتلاقيا إذا وصلا بعض البلاد والبحرية يسكنون فيها أولادهم ويزرعون الخضر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب. ووكيل المركب كأنه أمير كبير. وإذا نزل إلى البر مشت الرماة والحبشة بالحراب والسيوف والأطبال والأبواق والأنفار أمامه. وإذا وصل إلى المنزل الذي يقيم به ركزوا رماحهم عن جانبي بابه ولا يزالون كذلك مدة إقامته. ومن أهل الصين من تكون له المراكب الكثيرة بعث بها وكلاءه إلى البلاد وليس في الدنيا أكثر أموالاً من أهل الصين. ولما حان وقت السفر إلى الصين جهز لنا السلطان السامري جنكاً من الجنوك الثلاث عشرة التي بمرسى قالقوط. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي وبيني وبينه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد لأجل الجواري. ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين. ولصهري مصرية أعطيكها لكنها لاسنداس فيها. وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي

من المتاع، وصعد العبيد والجواري إلى الجنك وذلك في يوم الخميس وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخذنا بالجنك ضيقة لا تصلح. فذكرت ذلك للناخودة، فقال: ليست في ذلك حيلة فإن أحببت أن تكون في الكَكَم ففيه المصاري على اختيارك. فقلت: نعم. وأمرت أصحابي فنقلوا الجواري والمتاع إلى الكَكَم واستقروا به قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانه كل يوم بعد العصر فلا يستطيع أحد ركوبه وكانت الجنوك قد سافرت ولم يبق منها إلا الذي فيه الهدية وجنك عزم أصحابه على أن يشتوا بفندرينا والكَكَم المذكور. فبتنا ليلة السبت على الساحل لا نستطيع الصعود إلى الكَكَم ولا يستطيع من فيه النزول إلينا ولم يكن بقي معي إلا بساط افترشه وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا فتكسر ومات بعض أهله وسلم بعضهم. وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهباً لمن يخرجها وكانت قد التزمت خشبة في مؤخرة الجنك فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها وأبى أن يأخذ الدنانير، وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية فمات جميع من فيه. ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه وتناثر دماغه. والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه ونفذ من الآخر. وصلينا عليهما ودفناهما. ورأيت الكافر سلطان قالقوط وفي وسطه شقة بيضاء كبيرة قد لفها من سرته إلى ركبته وفي رأسه عمامة صغيرة وهو حافي القدمين والشطر بيد غلام فوق رأسه والنار توقد بين يديه في الساحل وزبانيته يضربون الناس لئلا ينتهبوا ما يرمي البحر. وعادة بلاد المليبار أنّ كل ما انكسر من مركب يرجع ما يخرج منه للمخزن إلا في هذا البلد خاصة فإن ذلك يأخذه أربابه. ولذلك عمرت وكثر تردد الناس إليها. ولما رأى أهل الكَكَم ما حدث على الجنك رفعوا قلعهم وذهبوا ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري وبقيت منفرداً على الساحل ليس معي إلا فتى كنت أعتقته. فلما رأى ما حل بي ذهب عني ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي والبساط الذي كنت افترشه وأخبرني الناس أن ذلك الكَكَم لا بد له أن يدخل مرسى كولم فعزمت على السفر إليها وبينهما مسيرة عشر

في البر أو في النهر أيضاً لمن أراد ذلك، فسافرت في النهر واكتريت رجلاً من المسلمين يحمل لي البساط. وعادتهم إذا سافروا في ذلك النهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقرى التي على حافتيه ثم يعودوا إلى المركب بالغدو فكنا نفعل ذلك ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا ويعربد علي فيزيد تغير خاطري. ووصلنا في اليوم الخامس من سفرنا إلى كُنْجي كَري "وضبط اسمها بكاف مضموم ونون ساكن وجيم وياء مد وكاف مفتوح وراء مكسور وياء"، وهي بأعلى جبل هنالك. يسكنها اليهود، ولهم أمير منهم، ويؤدون الجزية لسلطان كولم. وجميع الأشجار التي على هذا النهر أشجار القرفة والبقم وهي حطبهم هنالك. ومنها كنا نقد النار لطبخ طعامنا في ذلك الطريق. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كَوْلَم "وضبط اسمها بفتح الكاف واللام وبينهما واو"، وهي أحسن بلاد المليبار وأسواقها حسان وتجارها يعرفون بالصوليين لهم أموال عريضة يشتري أحدهم المركب بما فيه ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة من بلاد العراق، وهو رافضي ومعه أصحاب له على مذهبه وهم يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين. وكبير المسلمين بها محمد شاه بندر وله أخ فاضل كريم اسمه تقي الدين. والمسجد الجامع بها عجيب عمره التاجر خواجة مهذب. وهذه المدينة أول ما يوالي الصين من بلاد المليبار وإليه يسافر أكثرهم. والمسلمون بها أعزة محترمون. وكان سلطان كولم كافراً يعرف بالتِيرَوَرِي "بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء وواو مفتوحين وراء مكسورة وياء" وهو معظم المسلمين. وله أحكام شديدة على السراق والدعار. ومما شاهدت بِكََولم أن بعض الرماة العراقيين قتل آخر منهم وفر إلى دار الآوجي وكان له مال كثير، وأراد المسلمون دفن المقتول، فمنعهم نواب السلطان من ذلك. وقالوا لا يدفن حتى تدفعوا لنا قاتله فيقتل به وتركوه في تابوته على باب الآوجي حتى أنتن وتغير. فمكنهم الآوجي من القاتل ورغب منهم أن يعطيهم أمواله ويتركوه حيا فأبوا ذلك وقتلوه. وحينئذ دفن المقتول. أخبرت أن سلطان كولم ركب يوماً إلى خارجها وكان طريقة فيما بين البساتين ومعه صهره زوج بنته وهو من أبناء الملوك، فأخذ حبة واحدة من

العنبة سقطت من بعض البساتين. وكان السلطان ينظر إليه فأمر به عند ذلك فوسط وقسم نصفين وصلب نصفه عن يمين الطريق ونصفه الآخر عن يساره وقسمت حبة العنبة نصفين فوضع على كل نصف منها وترك عبرة للناظرين. ومما اتفق نحو ذلك بقالقوط أن ابن أخ للنائب عن سلطانها غصب سيفاً لبعض تجار المسلمين، فشكا بذلك إلى ابن عمه فوعده بالنظر في أمره وقعد على باب داره فإذا بابن أخيه متقلد ذلك السيف. فدعاه فقال: هذا سيف المسلم. قال: نعم. قال: اشتريته منه. قال لا فقال لأعوانه: أمسكوه ثم أمر به فضربت عنقه بذلك السيف. وأقمت بكولم مدة بزاوية الشيخ فخر الدين بن الشيخ شهاب الدين الكازورني شيخ قالقوط، فلم أتعرف للككم خبراً. وفي أثناء مقامي بها دخل إليها أرسال ملك الصين الذين كانوا معنا وكانوا ركبوا في أحد تلك الجنوك فانكسر أيضا فكساهم تجار الصين وعادوا إلى بلادهم ولقيتهم بها بعد وأردت أن أعود من كولم إلى السلطان لأعلمه بما اتفق على الهدية. ثم خفت أن يتعقب فعلي ويقول: لم فارقت الهدية؟ فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنوري وأقيم عنده حتى أتعرف خبر الكَكَم. فعدت إلى قالقوط ووجدت بها بعض مراكب السلطان فبعث فيها أميراً من العرب يعرف السيد أبي الحسن وهو من البرددارية وهم خواص البوابين بعثه السلطان بأموال يستجلب بها من قدر عليه من العرب من أرض هرمز والقطيف لمحبته في العرب فتوجهت إلى هذا الأمير ورأيته عازماً على أن يشتو بقالقوط وحينئذ يسافر إلى بلاد العرب فشاورته في العودة إلى السلطان فلم يوافق على ذلك. فسافرت بالبحر من قالقوط وذلك آخر فصل السفر فيه فكنا نسير نصف النهار الأول ثم نرسو إلى الغد ولقينا في طريقنا أربعة أجفان غزوية فخفنا منها ثم لم يعرضوا لنا بشر. ووصلنا إلى مدينة هنور فنزلت إلى السلطان وسلمت عليه فأنزلني بدار ولم يكن لي خديم وطلب مني أن أصلي معه الصلوات فكان أكثر جلوسي في مسجده. وكنت أختم القرآن كل يوم ثم كنت أختم مرتين في اليوم أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال. وأجدد الوضوء وأبتدئ القراءة فأختم الختمة الثانية عند الغروب. ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشهر واعتكفت فيها أربعين يوماً.

وكان السلطان جمال الدين قد جهز اثنين وخمسين مركباً وسفرته برسم غزو سندابور وكان وقع بين سلطانها وولده خلاف فكتب ولده إلى السلطان جمال الدين أن يتوجه لفتح سندابور ويسلم الولد المذكور ويزوجه السلطان أخته. فلما تجهزت المراكب ظهر لي أن أتوجه فيها إلى الجهاد ففتحت المصحف أنظر فيه فكان في أول الصفح يذكر فيها اسم الله كثيراً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. فاستبشرت بذلك وأتى السلطان إلى صلاة العصر. فقلت له إني أريد السفر، فقال: فأنت إذا تكون أميرهم فأخبرته بما خرج لي في أول الصفح فأعجبه ذلك وعزم على السفر بنفسه ولم يكن ظهر له ذلك قبل فركب مركباً منها وأنا معه وذلك في يوم السبت، فوصلنا عشي الاثنين إلى سندابور ودخلنا خورها فوجدنا أهلها مستعدين للحرب وقد نصبوا المجانيق، فبِتْنا عليها تلك الليلة، فلما أصبح ضربت الطبول والأنفار والأبواق وزحفت المراكب ورموا عليها بالمجانيق فلقد رأيت حجراً أصاب بعض الواقفين بمقربة من السلطان، ورمى أهل المراكب أنفسهم في الماء وبأيديهم الترسة والسيوف ونزل السلطان إلى العكيري وهو شبه الشلير ورميت بنفسي في الماء في جملة الناس. وكان عندنا طريدتان مفتوحتي المواخر فيها الخيل وهي بحيث يركب الفارس فرسه في جوفها ويتدرع ويخرج ففعلوا ذلك وأذن الله في فتحها وأنزل النصر على المسلمين فدخلنا بالسيف ودخل معظم الكفار في قصر سلطانهم فرَمينا النار فيه فخرجوا وقبضنا عليهم، ثم أن السلطان أمنهم ورد لهم نساءهم وأولادهم وكانوا نحو عشرة آلاف وأسكنهم بربض المدينة وسكن السلطان القصر وأعطى الديار بمقربة منه لأهل دولته وأعطاني جارية منهن تسمى بلكي فسميتها مباركة، وأراد زوجها فداءها فأبيت. وكساني فرجية مصرية وجدت في خزائن الكافر. وأقمت عنده بسندابور من يوم فتحها وهو الثالث عشر لجمادى الأولى إلى منتصف شعبان، وطلبت منه الإذن في السفر فأخذ علي العهد في العودة إليه. وسافرت في البحر إلى هنور ثم إلى فاكنور ثم إلى منجرور ثم إلى هيلي ثم إلى جرفتن وده فتن وبدفتن وفندرينا وقالقوط، وقد تقدم ذكر جميعها، ثم إلى مدينة الشاليات

_ 1 الحج: 40.

"وهي بالشين المعجم وألف ولام وياء آخر الحروف وألف وتاء معلوة"، مدينة من حسان المدن، تصنع بها الثياب المنسوبة لها. وأقمت بها فطال مقامي فعدت إلى قالقوط. ووصل إليها غلامان كانا لي بالككم فأخبراني أن الجارية التي كانت حاملاً، وبسببها كان تغير خاطري توفيت. وأخذ صاحب الجاوة سائر الجواري، واستولت الأيدي على المتاع وتفرق أصحابي إلى الصين والجاوة وبنجالة. فعدت لما تعرفت هذا إلى هنور ثم إلى سندابور، فوصلتها في آخر المحرم وأقمت بها إلى الثاني من شهر ربيع الآخر، وقدم سلطانهم الكافر الذي دخلنا عليه برسم أخذها وهرب إليه الكفار كلهم، وكانت عساكر السلطان متفرقة في القرى فانقطعوا عنا، وحصرنا الكفار وضيقوا علينا ولما اشتد الحال خرجت عنها وتركتها محصورة وعدت إلى قالقوط وعزمت على السفر إلى ذيبة المهل وكنت أسمع بأخبارها. فبعد عشرة أيام من ركوبنا البحر بقالقوط وصلنا جزائر ذيبة المَهَل، وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، والمَهَل "بفتح الميم والهاء". وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا وهي نحو ألفي جزيرة ويكون منها مائة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة لها مدخل كالباب لا تدخل المراكب إلا منه وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى فإن أخطأ المركب سمتها لم يمكنه دخولها وحملته الريح إلى المعبر أو سيلان. وهذه الجزائر أهلها كلهم مسلمون ذوو ديانة وصلاح وهي منقسمة إلى أقاليم على كل إقليم وال يسمونه الكردوي. ومن أقاليمها إقليم بالبور "وهو ببائين معقودتين وكسر اللام وآخره راء"، ومنها كنَّلُوس "بفتح الكاف والنون مع تشديدها وضم اللام وواو وسين مهمل"، ومنها إقليم المهل وبه تعرف الجزائر كلها وبها يسكن سلاطينها، ومنها إقليم تَلاَديب "بفتح التاء المعلوة واللام وألف ودال مهمل وباء مد وباء موحدة"، ومنها إقليم كرايدوا "بفتح الكاف وسكون الياء المسفولة وضم الدال المهمل"، ومنها إقليم التيم "بفتح التاء المعلوة وسكون الياء المسفولة"، ومنها إقليم تَلْدُمَّتِي "بفتح التاء المعلوة الأول واللام وضم الدال المهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء"، ومنها إقليم هَلْدُمَّتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلاّ أنّ الهاء أوله، ومنها إقليم بَرَوَيْدو "بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المهمل وواو"، ومنها إقليم كَندْكَل "بفتح الكافين والدال

المهمل ولام"، ومنها إقليم مُلوك "بضم الميم"، ومنها إقليم السويد "بالسين المهمل"، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها إلا أن في إقليم السويد منها زرعا يشبه أتلي ويجلب منه إلى المهل، وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، ويسمونه قُلب الماس "بضم القاف"، ولحمه أحمر ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منه أربع قطع وطبخوها يسيراً ثم جعلوه في مكاتيل من سعف النخل وعلقوه للدخان فإذا استحكم يبسه أكلوه، ويحمل منها إلى الهند والصين واليمن. ومعظم أشجار هذه الجزائر النارجيل وهو من أقواتهم مع السمك وقد تقدم ذكره، وأشجار النارجيل شأنها عجيب وتثمر النخل منها اثنى عشر عذقا في السنة يخرج في كل شهر عذق فيكون بعضها صغيراً وبعضها كبيراً وبعضها يابسا وبعضها أخضر هكذا أبداً، ويصنعون منه الحليب والزيت والعسل حسبما ذكرنا ذلك في السفر الأول، ويصنعون من عسله الحلواء فيأكلونها مع الجوز اليابس منه. ولذلك كله وللسمك الذي يتغذون به قوة عجيبة في الباءة لا نظير لها. ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك. ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن فكنت أطوف على جميعهن كل يوم وأبيت عند من تكون ليلتها. وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك. ومن أشجارها الجموح1 والأترج والليمون والقلقاص، وهم يصنعون من أصوله دقيقاً يعملون منه شبه الأطرية ويطبخونها بحليب النارجيل وهي من أطيب الطعام كنت أستحسنها كثيراً وآكلها. وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة أكلهم حلال ودعاؤهم مجاب. وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين، وأبدانهم ضعيفة ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة وسلاحهم الدعاء. ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها فغشى علي جماعة منهم كانوا بالمجلس، ولا تطرقهم لصوص الهند ولا تذعرهم لأنهم جربوا أن من أخذ لهم شيئا أصابته مصيبة عاجلة. وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا من وجدوا من غيرهم ولم يعرضوا لأحد منهم بسوء. وإن أخذ أحد الكفار،

_ 1 في إحدى طبعات الكتاب: الجمون.

ولو ليمونة عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح خوفاً من عاقبة ذلك. ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم. وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة وأكثر عمارتهم الخشب. وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفا لشدة الحر بها وكثرة العرق ويكثرون من الأدهان العطرية كالصندلية وغيرها ويتلطخون بالغالية المجلوبة من مقدشو. ومن عادتهم أنهم إذا صلوا الصبح أتت كل امرأة إلى زوجها أو ابنها بالمكحلة وبماء الورد ودهن الغالية فيكحل عينيه ويدهن بماء الورد ودهن الغالية فتصقل بشرته وتزيل الشحوب عن وجهه. ولباسهم فوط يشدون الفوطة منها على أوساطهم عوض السراويل ويجعلون على ظهورهم ثياب الوليان "بكسر الواو وسكون اللام وياء" وهي شبه الأحاريم وبعضهم يجعل عمامة وبعضهم منديلاً صغيراً عوضا منها. وإذا لقي أحدهم القاضي أو الخطيب وضع ثوبه عن كتفيه وكشف ظهره ومضى معه كذلك حتى يصل إلى منزله. ومن عوائدهم أنه إذا تزوج الرجل منهم ومضى إلى دار زوجته بسطت له ثياب القطن من باب دارها إلى باب البيت وجعل عليها غرفات من الودع عن يمين طريقه إلى البيت وشماله وتكون المرأة واقفة عند باب البيت تنتظره فإذا وصل إليها رمت على رجليه ثوباً يأخذه خدامه. وإن كانت المرأة هي التي تأتي إلى منزل الرجل بسطت داره وجعل فيها الودع ورمت المرأة عند الوصول إليه الثوب على رجليه. وكذلك عادتهم في السلام على السلطان عندهم لا بد من ثوب يرمى عند ذلك وسنذكره. وبنيانهم بالخشب ويجعلون سطوح البيوت مرتفعة عن الأرض توقياً من الرطوبات لأن أرضهم ندية. وكيفية ذلك أن ينحتوا حجارة يكون طول الحجر منها ذراعين أو ثلاثة ويجعلونها صفوفا ويعرضون عليها خشب النارجيل ثم يضعون الحيطان من الخشب ولهم صناعة عجيبة في ذلك. ويبنون في أسطوان الدار بيتاً يسمونه المالَم "بفتح اللام" يجلس الرجل به مع أصحابه ويكون له بابان أحدهما إلى جهة الأسطوان يدخل منه الناس والآخر إلى جهة الدار يدخل منه صاحبها. ويكون عند هذا البيت خابية مملوءة ماء ولها مستقى يسمونه الوالنج "بفتح الواو واللام وسكون النون وجيم" هو من قشر جوز النارجيل، وله نصاب طوله ذراعان. وبه يسقون الماء من الآبار لقربها. وجميعهم حفاة الأقدام من رفيع ووضيع، وأزقتهم مكنوسة نقية، تظللها

الأشجار. فالماشي بها كأنه في بستان ومع ذلك لا بد لكل داخل إلى الدار أن يغسل رجليه بالماء الذي في الخابية بالمالم، ويمسحها بحصير غليظ من الليف يكون هنالك، ثم يدخل بيته وكذلك يفعل كل داخل إلى المسجد. ومن عوائدهم إذا قدم عليهم مركب أن تخرج إليه الكنادر وهي القوارب الصغار وإحداها كُنْدُرة "بضم الكاف والدال". وفيها أهل الجزيرة معهم التنبول أو الكرنبة وهي جوز النارجيل الأخضر، فيعطي الإنسان منهم ذلك لمن شاء من أهل المركب ويكون نزيله ويحمل أمتعته إلى داره كأنه بعض أقربائه. ومن أراد التزوج من القادمين عليهم تزوج فإذا حان سفره طلق المرأة لأنهن لا يخرجن عن بلادهن. ومن لم يتزوج فالمرأة التي ينزل بدارها تطبخ له وتخدمه وتزوّده إذا سافر وترضى منه في مقابلة بأيسر شيء من الإحسان. وفائدة المخزن ويسمونه البندر أن يشتري من كل سلعة بالمركب حظاً بسوم معلوم سواء كانت السلعة تساوي ذلك أو أكثر منه ويسمونه شرع البندر ويكون للبندر بيت في كل جزيرة من الخشب يسمونه البَجَنْصار "بفتح الباء الموحدة والجيم وسكون النون وفتح الصاد المهمل وآخره راء"، يجمع به الوالي وهو الكردوري جميع سلعه ويبيع بها ويشتري. وهم يشترون الفخار إذا جلب إليهم بالدجاج فتباع عندهم القدر بخمس دجاجات وست، وتحمل المراكب من هذه الجزائر السمك الذي ذكرناه وجوز النارجيل والفوط والوليان والعمائم وهي من القطن ويحملون منها أواني النحاس. فإنها عندهم كثيرة ويحملون الودع ويحملون القنبر وهو ليف جوز النارجيل وهم يدبغونه في حفر على الساحل ثم يضربونه بالمرازب ثم تغزله النساء وتصنع منه الحبال لخياطة المراكب وتحمل إلى الصين والهند واليمن وهو خير من القنب. وبهذه الحبال تخاط مراكب الهند واليمن لأن ذلك البحر كثير الحجارة، فإن كان المركب مسمراً بمسامير الحديد صدم الحجارة فانكسر وإذا كان مخيطاً بالحبال أعطى الرطوبة فلم ينكسر. وصرف أهل هذه الجزائر الودع وهو حيوان يلتقطونه في البحر ويضعونه في حفر هنالك فيذهب لحمه ويبقى عظمه أبيض ويسمون المائة منه سياه "بسين مهمل وياء آخر الحروف" ويسمونه السبعمائة منه الفال "بالفاء"، ويسمونه الاثنى عشر ألفاً منه الكتيّ "بضم الكاف وتشديد التاء

المعلوة"، ويسمون المائة ألف منه بُستُو "بضم الباء الموحدة والتاء المعلوة وبينهما سين مهمل"، ويباع بها بقيمة أربعة بساتي بدينار من الذهب وربما رخص حتى يباع عشر بساتي منه بدينار. ويبيعونه من أهل اليمن فيجعلونه عوض الرمل في مراكبهم. وهذا الودع أيضاً هو صرف السودان في بلادهم، رأيته يباع بمالي وجوجو بحساب ألف وخمسين للدينار الذهبي. ونساؤها لا يغطين رؤسهن، ولا سلطانتهم تغطي رأسها. ويمشطن شعورهن ويجمعنها إلى جهة واحدة. ولا يلبس أكثرهن إلا فوطه واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة، وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها. ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس فلم أستطع ذلك. وكانت لا تدخل إلي منهن امرأة في خصومة إلا مستترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن لي عليهن قدرة. ولباس بعضهن قمص زائدة على الفوطة وقمصهن قصار الأكمام عراضها. وكان لي جوار كسوتهن لباس أهل دهلي تغطين رؤسهن فعابهن ذلك أكثر مما زانهن إذ لم يتعودونه. وحليهن الأساور وتجعل المرأه منها جملة في ذراعيها بحيث تملأ ما بين الكوع والمرفق وهي من الفضة. ولا تحمل أساور الذهب إلا نساء السلطان وأقاربه ولهن الخلاخيل ويسمونها البَايِل "بباء موحدة وألف وياء آخر الحروف مكسورة" وقلائد ذهب يجعلنها على صدورهن ويسمونها البَسْدرد "بالباء الموحدة وسكون السين المهمل وفتح الدال المهمل والراء". ومن عجيب أفعالهن أنهن يستأجرن أنفسهن للخدمة بالديار على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها وعلى مستأجرهن نفقتهن ولا يرين ذلك عيباً، ويفعله أكثر بناتهم فتجد في دار الإنسان الغني منهم العشرة والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته. وإذا أرادت الخروج من دار إلى دار أعطاها أهل الدار التي تخرج إليها العدد الذي هي مرتهنة فيه فتدفعه لأهل الدار التي خرجت منها ويبقى عليها للآخرين. وأكثر شغل هؤلاء المستأجرات غزل القنبر. والتزوج بهذه الجزائر سهل لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقاً، إنما تقع الشهادة ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة. وهن لا يخرجن

عن بلادهن أبداً. ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها إلى سواها، بل هي تأتيه بالطعام وترفعه من بين يديه وتغسل يده وتأتيه بالماء للوضوء وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة، ولقد تزوجت بها نسوة فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي ولا أستطعت أن أراها تأكل ولا نفعتني حيلة في ذلك. وحدثني الثقات من أهلها كالفقية عيسى اليمني، والفقيه المعلم علي، والقاضي عبد الله، وجماعة سواهم، أن هذه الجزائر كانوا كفاراً وكان يظهر لهم في كل شهر عفريت من الجن يأتي ناحية البحر كأنه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه أخذوا جارية بكراً فزينوها وأدخلوها إلى بدخانة وهي بيت الأصنام وكان مبنياً على ضفة البحر وله طاق ينظر إليه، ويتركونها هنالك ليلة ثم يأتون عند الصباح فيجدونها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم فمن أصابته القرعة أعطى بنته، ثم أنه قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري وكان حافظاً للقرآن العظيم فنزل بدار عجوز منهم يجزيرة المهل فدخل عليها يوماً وقد جمعت أهلها وهن يبكين كأنهن في مأتم فساتفهمهن عن شأنهن فلم يفهمنه فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها وليس لها إلا بنت واحدة يقتلها العفريب. فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضاً من بنتك بالليل. وكان سُناطاً لا لحية له، فاحتملوه تلك الليلة وأدخلوه إلى بدخانة، وهو متوضئ، وأقام يتلو القرآن ثم ظهر له العفريت من الطاق فداوم التلاوة فلما كان بحيث يسمع القراءة غاص في البحر وأصبح المغربي وهو يتلو على حاله فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها فوجدوا المغرب يتلوا فمضو إلى ملكهم وكان يسمى شَنُورازة "بفتح الشين المعجم وضم النون وواو وراء وألف وزاي وهاء"، واعلموه بخبره فعجب منه وعرض المغربي عليه الإسلام ورغبه فيه، فقال له: أقم عندنا إلى الشهر الآخر فإن فعلت كفعلك ونجوت من العفريت أسلمت. فأقام عندهم وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشهر وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته، ثم حمل المغربي لما دخل الشهر إلى بدخانة ولم يأت العفريت فجعل يتلو حتى الصباح. وجاء

السلطان والناس معه فوجدوه على حاله من التلاوة فكسروا الأصنام وهدموا البدخانة وأسلم أهل الجزيرة وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها. وأقام المغربي عندهم معظماً وتمذهبوا بمذهبه مذهب الإمام مالك رضي الله عنه وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه. وبنى مسجد هو معروف باسمه، وقرأت على مقصورة الجامع منقوشاً في الخشب أسلم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي. وجعل ذلك السلطان ثلث مجابي الجزائر صدقة على أبناء السبيل إذ كان إسلامه بسببهم، فسمي على ذلك حتى الآن، وبسبب هذا العفريت خرب من هذه الجزائر كثير قبل الإسلام. ولما دخلناها لم يكن لي علم بشأنه فبينا أنا ليلة في بعض شأني سمعت الناس يجهرون بالتهليل والتكبير ورأيت الأولاد وعلى رؤوسهم المصاحف والنساء يضربون في الطسوت وأواني النحاس فعجبت من فعلهم وقلت ما شأنكم؟ فقالوا: ألا تنظر إلى البحر فنظرت فإذا مثل المركب الكبير وكأنه مملوءٌ سرجاً ومشاعل، فقالوا ذلك العفريت وعادته أن يظهر مرة في الشهر فإذا فعلنا ما رأيت انصرف عنا ولم يضرنا. ومن عجائبها أن سلطانتها امرأة وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر بن السلطان صلاح الدين صالح البنجالي. وكان الملك لجدها ثم لأبيها، فلما مات أبوها ولي أخوها شهاب الدين وهو صغير السن فتزوج الوزير عبد الله بن محمد الحضرمي أمه وغلب عليه وهو الذي تزوج أيضا هذه السلطانة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين كما سنذكره. فلما بلغ شهاب الدين مبلغ الرجال أخرج ربيبة الوزير عبد الله ونفاه إلى جزائر السويد واستقل بالملك واستوزر أحد مواليه ويسمى علي كلكي ثم عزله بعد ثلاثة أعوام ونفاه إلى السويد. وكان يذكر عن السلطان شهاب الدين المذكور أنه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم هلدتني وبعثوا من قتله بها. ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة، فقدموا خديجة سلطانة وكانت متزوجة لخطيبهم جمال الدين فصار وزيراً وغالباً على الأمر وقدم ولده محمدا للخطابة عوضا عنه. ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة. وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين. ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم،

ويذكرها الخطيب يوم الجمعة وغيرها، فيقول: اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين بن السلطان صلاح الدين. ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم ومضى إلى المشور وهم يسمونه الدار فلا بد له أن يستصحب ثوبين فيخدم لجهة هذه السلطانة ويرمي بأحدهما ثم يخدم لوزيرها وهو زوجها جمال الدين ويرمي بالثاني. وجندها نحو ألف نفرٍ من الغرباء وبعضهم بلديون. ويأتون كل يوم إلى الدار، فيخدمون وينصرفون. ومرتبهم الأرز يعطاهم من البندر في كل شهر، فإذا تم الشهر أتوا الدار وخدموا، وقالوا للوزير: بلغ عنا الخدمة، واعلم بأنا أتينا نطلب مرتبنا. فيؤمر لهم بها عند ذلك. ويأتي أيضا إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطط وهم الوزراء عندهم فيخدمون ويبلغ خدمتهم الفتيان وينصرفون. وهم يسمون الوزير الأكبر النائب عن السلطانة كَلَكي "بفتح الكاف الأولى واللام" ويسمون القاضي فَنْدْيَار قَالُوَا "وضبط ذلك بفاء مفتوح ونون مسكن ودال مهمل مفتوح وياء آخر الحروف وألف وراء وقاف وألف ولام مضمومٌ) ، وأحكامهم كلها راجعة إلى القاضي، وهو أعظم عندهم من الناس أجمعين، وأمره كأمر السلطان وأشد ويجلس على بساط في الدار. وله ثلاثة جزائر يأخذ مجباها لنفسه عادة قديمة أجراها السطان أحمد شنورازة ويسمون الخطيب هَنْدِيجَرِي "بفتح الهاء وسكون النون وكسر الدال وياء مد وجيم ومفتوح وراء وياء". ويسمون صاحب الديوان الفَاملداري "بفتح الفاء والدال المهمل"، واسم صاحب الأشغال مَافَاكَلُو "بفتح الميم والكاف وضم اللام" واسم الحاكم فِتْنَايَك "بكسر الفاء وسكون التاء المعلوة وفتح النون وألف وياء آخر الحروف" واسم قائد البحر مَانَايَاك "بفتح الميم والنون والياء". وكل من هؤلاء يسمى وزيراً. ولا سجن عندهم بتلك الجزائر، إنما يحبس أرباب الجرائم في بيوت خشب هي معدة لأمتعة التجار ويجعل أحدهم في خشبة كما يفعل عندنا بأساري الروم. ولما وصلت إليها نزلت منها بجزيرة كنلوس، وهي جزيرة حسنة فيها المساجد الكثيرة ونزلت بدار رجل من صلحائها وأضافني بها الفقيه علي وكان فاضلاً له أولاد من طلبة العلم. ولقيت بها رجلا اسمه محمد من أهل ظفار

الحموض، فأضافني وقال لي: إن دخلت جزيرة المهل أمسكك الوزير بها. فإنهم لا قاضي عندهم. وكان غرضي أن أسافر منها إلى المعبر وسرنديت وبنجالة ثم إلى الصين وكان قدومي عليها في مركب الناخوذة عمر الهنوري وهو من الحجاج الفضلاء. ولما وصلنا كنلوس أقام بها عشراً ثم اكترى كندرة يسافر فيها إلى المهل بهدية للسلطانة وزوجها، فأردت السفر معه، فقال: لا تسعك الكندرة أنت وأصحابك فإن شئت السفر منفرداً عنهم فدونك فأبيت ذلك، وسافر فلعبت به الريح وعاد إلينا بعد أربعة أيام وقد لقي شدائد فاعتذر لي وعزم علي في السفر معه بأصحابي فكنا نرحل غدوة فننزل في وسط النهار لبعض الجزائر ونرحل فنبيت بأخرى. ووصلنا بعد أربعة أيام إلى إقليم التيم. وكان الكردوي يسمى بها هلالاً، فسلم علي وأضافني وجاء إلي ومعه أربعة رجال وقد جعل اثنان منهم عوداً على أكتافهما وعلقا منه أربع دجاجات وجعل الآخران عوداً مثله وعلقا منه نحو عشر من جوز النارجيل فعجبت من تعظيمهم لهذا الشيء الحقير، فأخبرت أنهم صنعوه على جهة الكرامة والإجلال. ورحلنا عنهم فنزلنا في اليوم السادس بجزيرة عثمان وهو رجل فاضل من خيار الناس فأكرمنا وأضافنا. وفي اليوم الثامن نزلنا بجزيرة لوزير يقال له التلمذي. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة المهل حيث السلطانة وزوجها وأرسينا بمرساها. وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنهم فأذنوا لنا في النزول وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل وقالوا لا بد من الدخول إلى الوزير. وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه خوفاً من إمساكهم إياي. ولم أعلم أن بعض أهل الفضول قد كتب إليهم معرفاً بخبري، وأني كنت قاضياً بدهلي، فلما وصلنا إلى الدار وهو المشور نزلنا في سقائف على الباب الثالث منه وجاء القاضي عيسى اليمني فسلم علي وسلمت على الوزير وجاء الناخوذة إبراهيم بعشرة أثواب فخدم لجهة السلطانة ورمى بثوب منها ثم خدم للوزير ورمى بثوب آخر ورمى بجميعها. وسئل عني فقال: لا أعرفه. ثم أخرجوا إلينا التنبول وماء الورد وذلك هو الكرامة عندهم وأنزلنا بدار وبعث إلينا الطعام وهو قصعة كبيرة فيها الأرز،

وتدور بها صحاف فيها اللحم الخليع والدجاج والسمن والسمك. ولما كان بالغد مضيت مع الناخوذة والقاضي عيسى اليمني لزيارة زاوية في طرف الجزيرة عمرها الشيخ الصالح نجيب وعدنا ليلاً. وبعث الوزير إلي صبيحة تلك الليلة كسوة وضيافة فيها الأرز والسمن والخليع وجوز النارجيل والعسل المصنوع منها وهم يسمونه القُرْبَاني "بضم القاف وسكون الراء وفتح الباء الموحدة، وألف ونون وياء"، ومعنى ذلك ماء السكر. وأتوا بمائة ودعة للنفقة. وبعد عشرة أيام قدم مركب من سيلان فيه فقراء من العرب والعجم يعرفونني فعرفوا خدام الوزير بأمري فزاد اغتباطاً بي، وبعث عني عند استهلال رمضان فوجدت الأمراء والوزراء. وأحضر الطعام في موائد يجتمع على المائدة طائفة فأجلسني الوزير إلى جانبه ومعه القاضي عيسى والوزير الفاملداري والوزير عمر دهرد ومعناه مقدم العسكر. وطعامهم الأرز والدجاج والسمن والسمك والخليع والموز المطبوخ، ويشربون بعده عسل النارجيل مخلوطاً بالأفاويه، وهو يهضم الطعام. وفي التاسع من شهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته وكانت قبله عند السلطان شهاب الدين ولم يدخل بها أحد منهما لصغرها، فردها أبوها لداره وأعطاني دارها وهي من أجمل الدور. واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم1 فأذن لي في ذلك وبعث إلي خمساً من الغنم وهي عزيزة عندهم لأنها مجلوبة من المعبر والمليبار ومقدشو، وبعث الأرز والدجاج والسمن والأبازير، فبعثت ذلك كله إلى دار الوزير سليمان مانايك فطبخ لي بها فأحسن في طبخه وزاد فيه وبعث الفرش وأواني النحاس وأفطرنا على العادة بدار السلطانة مع الوزير. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة فقال لي وأنا أحضر أيضاً فشكرته وانصرفت إلى داري، فإذا به قد جاء ومعه الوزراء وأرباب الدولة فجلس في قبة خشب مرتفعة وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير ويرمي بثوب غير مخيط حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها، فأخذها الفقراء وقدم الطعام فأكلوا ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان ثم أخذوا في السماع والرقص وأعددت النار فكان الفقراء يدخلونها ويطؤونها بالأقدام ومنهم من يأكلها كما تؤكل الحلواء إلى أن خمدت.

_ 1 أي: قدم آدم عليه السلام في جزيرة سيلان، وسيأتي الحديث عنها.

ولما تمت الليلة انصرف الوزير ومضيت معه، فمررنا ببستان للمخزن، فقال لي الوزير: هذا البستان لك وسأعمر لك فيه داراً لسكناك، فشكرت فعله ودعوت له. ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمه: يقول لك الوزير: إن أعجبتك هذه فهي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له: إنما أريد المرهتية، فبعثها لي، وكان اسمها قل استان، ومعناه زهر البستان، وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري. ولما كانت الليلة بعدها جاء الوزير إلي بعد العشاء الأخيرة في نفر من أصحابه فدخل الدار ومعه غلامان صغيران فسلمت عليه وسألني عن حالي فدعوت له وشكرته فألقى أحد الغلامين بين يديه لقشة "بقشة"1 وهي شبه السبنية وأخرج منها ثياب حرير وحُقّاً فيه جوهر وحلي فأعطاني ذلك، وقال لي: لو بعثته لك مع الجارية لقالت هو مالي جئت به من دار مولاي والآن هو مالك فأعطه إياه فدعوت له وشكرته وكان أهلاً للشكر رحمه الله. وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذناً في ذلك. فعاد إلي الرسول وقال: لم يعجبه ذلك وهو يحب أن يزوجك بنته إذا انقضت عدتها. فأبيت أنا ذلك وخفت من شؤمها لأنه مات تحتها زوجان قبل الدخول وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها. ولا بد لكل من يدخل تلك الجزيرة أن يحم فقوي عزمي على الرحلة عنها. فبعت بعض الحلي بالودع واكتريت مركباً أسافر فيه لنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال: الوزير يقول لك إن شئت السفر فأعطنا ما أعطيناك وسافر، فقلت له: إن بعض الحلي اشتريت به الودع فشأنكم وأياه، فعاد إلي فقال: يقول إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع، فقلت له: أنا أبيعه وآتيكم بالذهب. فبعثت إلى التجار ليشتروه مني فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال: الوزير يقول لك أقم عندنا ولك كل ما أحببت، فقلت في نفسي: أنا تحت حكمهم وإن لم أقم مختاراً أقمت مضطراً فالإقامة باختياري أولى. وقلت

_ 1 هي التي تعرف باسم: البقجة، وهي منديل توضع فيه الأشياء، ويصر عليها.

لرسوله: نعم أنا أقيم معه. فعاد إليه ففرح بذلك واستدعاني فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني، وقال: نحن نريد قربك وأنت تريد البعد عنا، فاعتذرت له فقبل عذري، وقلت له: إن أردتم مقامي فأنا أشترط عليكم شروطاً، فقال: نقبلها فاشترط. فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي. ومن عادتهم أن لا يركب أحد هنالك إلا الوزير ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته يتبعني الناس رجالاً وصبياناً يعجبون مني، حتى شكوت له فضربت الدنقرة وبرح1 في الناس أن لا يتبعني أحد والدُنْقُرة "بضم الدال المهمل وسكون النون وضم القاف وفتح الراء" شبه الطست من النحاس تضرب بحديدة فيسمع لها صوت على البعد. فإذا ضربوها حينئذ يبرح في الناس بما يراد، فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة2 فاختر أيهما شئت، فاخترت الرمكة فأتوني بها في تلك الساعة وأتوني بكسوة، فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته، فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينه على ذلك، فقال نعم. فبعثت حيئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان وبعثوا معه رجلاً يسمى الحاج علياً، فاتفق أن هال3 البحر فرموا بكل ما عندهم حتى الزاد والماء والصاري والقربة. وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان ولا غيره. ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان بعد جوع وعطش وشدائد وقدم عليّ صاحبي أبو محمد بعد سنة وقد زار القدم وزارها مرة ثانية مع. ولما تم شهر رمضان بعث الوزير إليّ بكسوة وخرجنا إلى المصلى وقد زينت الطريق التي يمر الوزير عليها من داره إلى المصلى وفرشت الثياب فيها وجعلت كتاتي الودع يمنة ويسرة. وكل من له على طريقة دار من الأمراء والكبار قد غرس عندها النخل الصغار من النارجيل وأشجار الفوفل والموز، ومد من شجرة إلى أخرى شرائط، وعلّق منها الجوز الأخضر. ويقف صاحب الدار عند بابها، فإذا مرّ الوزير رمى على رجليه ثوباً من الحرير أو القطن،

_ 1 أي: أعلن. 2 الرمكة: الفرس. 3 هال البحر: أي: هاج.

فيأخذها عبيده مع الودع الذي يجعل على طريقه أيضاً، والوزير ماش على قدميه، وعليه فرجية مصرية من المرعز وعمامة كبيرة وهو متقلد فوطة حرير وفوق رأسه أربعة شطور وفي رجليه النعل وجميع الناس سواه حفاة. والأبواق والأنفار والأطبال بين يديه والعساكر أمامه وخلفه، وجميعهم يكبرون، حتى أتوا المصلى فخطب ولده بعد الصلاة. ثم أتى بمحفة فركب فيها الوزير وخدم الأمراء والوزراء ورموا بالثياب على العادة ولم يكن ركب في المحفة قبل ذلك لأن ذلك لا يفعله إلا الملوك، ثم رفعه الرجال وركبت فرسي ودخلنا القصر، فجلس بموضع مرتفع وعنده الوزراء والأمراء ووقف العبيد بالترسة والسيوف والعصي. ثم أتي بالطعام ثم بالفوفل والتنبول ثم أتى بصحيفة صغيرة فيها الصندل المقاصري فإذا أكلت جماعة من الناس تلطخوا بالصندل. ورأيت على بعض طعامهم يومئذ حوتاً من السردين مملوحاً غير مطبوخ، أهدي لهم من كولم وهو ببلاد المليبار كثير، فأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها، وقال لي: كل منه، فإنه ليس ببلادنا، فقلت: كيف آكله وهو غير مطبوخ، فقال: إنه مطبوخ، فقلت: أنا أعرف به فإنه ببلادي كثير. وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان ماناياك على تزوج بنته. فبعث إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر فأجاب إلى ذلك وأحضر التنبول على العادة والصندل وحضر الناس وأبطأ الوزير سليمان فاستدعي فلم يأت ثم استدعي ثانية فاعتذر بمرض البنت. فقال لي الوزير سراً: إن بنته امتنعت وهي مالكة أمر نفسها والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطانة زوجة أبيها وهي التي ولده متزوج بنتها، فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشهود ووقعت الشهادة ودفع الوزير الصداق. ورفعت إلي بعد أيام فكانت من خيار النساء وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي وهي ضاحكة لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء. وسبب ذلك اعتراضي على القاضي ولكونه كان يأخذ العشر من التركات إذا قسمها على أربابها، فقلت له: إنما لك أجرة تتفق بها مع الورثة ولم يكن يحسن شيئاً فلما وليت اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع وليست هنالك خصومات كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين. وكانت إحداهنّ لا

تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره. فحسمت علة ذلك وأتي إليّ بنحو خمسة وعشرين رجلاً ممن فعل ذلك فضربتهم وشهرتهم الأسواق وأخرجت النساء عنهم. ثم اشتددت في إقامة الصلوات وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأزقة والأسواق إثر صلاة الجمعة فمن وجدوه لم يصل ضربته وشهرته. وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك. وجهدت أن أكسو النساء فلم أقدر على ذلك. وكنت قد تزوجت ربيبة بنت زوجة الوزير عبد الله بن محمد الحضرمي وأحببتها حبا شديداً. ولما بعث الوزير عنه ورده إلى جزيرة المهل بعثت له التحف وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير وأنزله في دار جيدة فكنت أزوره بها، واتفق أن اعتكفت في رمضان فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين فدخل هو معه بحكم الموافقة فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبة أولاد الوزير جمال الدين السنجري فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله وأنّ مالهم باق بيده وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم. وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم أبعث له قطعة كاغد مكتوبة أو غير مكتوبة فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة فأغضبه ذلك وحقدها لي وأضمر عداوتي ووكل من يتكلم عنه وبلغني عنه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين، وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض ثم يقبلونها ويضعونها على رؤوسهم. فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشهاد أنه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمه العقاب الشديد. وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك فزادت عداوته، وتزوجت أيضاً زوجة أخرى بنت وزير معظم عندهم كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة، ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شهاب الدين. وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير. وكانت الرابعة هي ربيبه الوزير عبد الله تسكن في دارها وهي أحبهن إلي. فلما صاهرت من ذكرته هابني الوزير وأهل الجزيرة وتخوفوا مني لأجل ضعفهم، وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم، وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة.

واتفق في بعض الأيام أنّ عبداً من عبيد السلطان جلال الدين شكته زوجته إلى الوزير وأعلمته أنه عند سرية من سراري السلطان يزني بها، فبعث الوزير الشهود ودخلوا دار السرية فوجدوا الغلام نائماً معها في فراش واحد وحبسوهما، فلما أصبحت وعلمت بالخبر توجهت إلى المشور وجلست في موضع جلوسي ولم أتكلم في شيء من أمرها، فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير ألك حاجة؟ فقلت: لا. وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام إذ كانت عادتي أن لا تقع قضية إلا حكمت فيها فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك فانصرفت إلى داري بعد ذلك. وجلست بموضع الأحكام، فإذا ببعض الوزراء فقال لي: الوزير يقول لك أنه وقع البارحة كيت وكيت لقضية السرية والغلام فاحكم فيهما بالشرع. فقلت له: هذه قضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان. فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام فأمرت بضربهما للخلوة وأطلقت سراح المرأة وحبست الغلام وانصرفت إلى داري. فبعث الوزير إلي جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفع في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه؟ وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شهاب الدين وقتلتموه بسبب دخوله لدار غلام له. وأمرت بالغلام عند ذلك فضرب بقضبان الخيزران وهي أشد وقعاً من السياط وشهرته بالجزيرة وفي عنقه حبل. فذهبوا إلى الوزير فأعلموه، فقام وقعد واستشاط غضباً، وجمع الوزراء ووجوه العسكر وبعث عني فجئته. وكانت عادتي أن أخدم فلم أخدم، وقلت: سلام عليكم. ثم قلت للحاضرين: اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنه. فكلمني الوزير فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون أني سلطان. وهأناذا طلبته لأغضب عليه، فغضب علي، وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند لأنهم تحققوا مكانتي عنده وإن كانوا على بعد منه فخوفه في قلوبهم متمكّن. فلما دخل إلى داره بعث إليّ القاضي المعزول، وكان جريء اللسان فقال لي: إن مولانا يقول لك كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشهاد ولم تخدم له؟ فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيباً، فلما وقع التغير تركت ذلك وتحية المسلمين إنما هي السلام وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما

غرضك الرحيل عنا فأعط صدقات النساء وديون الناس وانصرف إذا شئت. فخدمت له على هذا القول وذهبت إلى داري فخلصت مما علي من الدين. وكان قد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها وكان يعطيني كل ما أطلبه ويحبني ويكرمني ولكنه غير خاطره وخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على السفر ندم على ما قاله وتلكأ في الإذن لي في السفر فحلفت بالإيمان المغلظة أن لا بد من سفري ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر وطلقت إحدى الزوجات وكانت إحداهن حاملاً فجعلت لها أجلاً تسعة أشهر إن عدت فَبِها، وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شهاب الدين لأسلمها لأبيها بجزيرة ملوك وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطان. وتوافقت مع الوزير عمر دهرد والوزير حسن قائد البحر على أن أمضي إلى بلاد المعبر وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمه، وأنوب أنا عنه فيها. وجعلت بيني وبينهم علامة رفع أعلام بيض في المراكب فإذا رأوها ثاروا في البر ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفاً مني يقول للناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة: إما في حياتي أو بعد موتي. ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركبا فأبيت. وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمها معي فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك فلما رأت عزمها على السفر قالت لها أن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر فإن كان لك شهود بأن جلال الدين وهبه لك وإلا فرده. وكان حليا له خطر فردته إليهم. وأتاني الوزراء والوجوه وأنا بالمسجد وطلبوا مني الرجوع، فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت. فقالوا: تذهب إلى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود. فقلت لهم: نعم إرضاء لهم. فلما كانت الليلة التي سافرت فيها أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي. وبات تلك الليلة يحترس الجزيرة بنفسه خوفاً أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة وأحبت الرجوع فطلقتها وتركتها هنالك. وكتبت للوزير بذلك لأنها أم زوجة ولده وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل وبعثت عن جارية كنت أحبها وسرنا في تلك الجزائر من

إقليم إلى إقليم. وفي بعض تلك الجزائر رأيت امرأة لها ثدي واحد في صدرها ولها بنتان إحداهما كمثلها ذات ثدي واحد والأخرى ذات ثديين إلا أن أحدهما كبير فيه اللبن والآخر صغير لا لبن فيه فعجبت من شأنهن. ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر صغيرة ليس لها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجه وأولاد ونخيلات نارجيل وقارب صغير يصطاد فيه السمك ويسير به إلى حيث أراد من الجزائر وفي جزيرته أيضا شجيرات موز، ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا. فغبطت والله ذلك الرجل ووددت أن لو كانت تلك الجزيرة لي فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين. ثم وصلت إلى جزيرة ملوك حيث المركب الذي للناخوذة إبراهيم وهو الذي عزمت على السفر فيه إلى المعبر فجاء إلي ومعه أصحابه وأضافوني ضيافة حسنة وكان الوزير قد كتب لي أن أعطى بهذه الجزيرة مائة وعشرين بستوا من الكودة وهي الودع وعشرين قدحاً من الأطوان وهو عسل النارجيل وعدداً معلوماً من التنبول والفوفل والسمك في كل يوم. وأقمت بهذه الجزيرة سبعين يوماً، وتزوجت بها امرأتين وهي من أحسن الجزائر خضرة ونضرة. رأيت من عجائبها أن الغصن يقتطع من شجرها ويركز في الأرض أو الحائط فيورق ويصير شجرة ورأيت الرمان بها لا ينقطع له ثمر بطول السنة. وخاف أهل هذه الجزيرة من الناخوذة إبراهيم أن ينهبهم عند سفره فأرادوا إمساك ما في مركبه من السلاح حتى يوم سفره فوقعت المشاجرة بسبب ذلك. وعدنا إلى المَهَل ولم ندخلها وكتبت إلى الوزير معلماً بذلك فكتب أن لا سبيل لأخذ السلاح. وعدنا إلى ملوك. وسافرنا منها في نصف ربيع الثاني عام خمسة وأربعين. وفي شعبان من هذه السنة توفي الوزير جمال الدين رحمه الله وكانت السلطانة حاملاً منه فولدت أثر وفاته، وتزوجها الوزير عبد الله. وسافرنا ولم يكن معنا رئيس1 عارف ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام فسرنا نحن تسعة أيام وفي التاسع منها خرجنا إلى جزيرة سيلان ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهباً في السماء كأنه عمود دخان. ولما وصلناها قال

_ 1 وفي إحدى طبعات الكتاب: رائس، والمقصود: ربان السفينة.

البحرية أن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين إنما هذا مرسى في بلاد السلطان أَيْري شكروتي، وهو من العتاة المفسدين وله مراكب تقطع في البحر فخفنا أن ننزل بمرساه، ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق. فقلت للناخوذة: نزلني إلى الساحل وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان، ففعل ذلك. وأنزلني بالساحل. فأتانا الكفار، فقالوا: ما أنتم؟ فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه جئت لزيارته وأن الذي في المركب هدية له فذهبوا إلى سلطانهم فأعلموه بذلك فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة بطالة وهي حضرته مدينة صغيرة حسنة عليها سور خشب وأبراج خشب وجميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة تأتي بها السيول فتجتمع بالساحل كأنها الروابي ويحملها أهل المعبر والمليبار دون ثمن إلا أنهم يهدون للسلطان في مقابلة ذلك الثوب ونحوه. وبين بلاد المعبر وهذه الجزيرة مسيرة يوم وليلة. وبها أيضاً من خشب البقم كثير ومن العود الهندي المعروف بالكلخي إلا أنه ليس كالقمارى والقاقُلّي1 وسنذكره. واسم سلطان سيلان أيري شكروتي "بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الراء ثم ياء وشين معجم مفتوح وكاف مثله وراء مسكنة وواو ممفتوح وتاء معلوة مكسورة وياء"، وهو سلطان قوي في البحر. رأيت مرة وأنا بالمعبر مائة مركب من مراكبه بين صغار وكبار. وصلت إلى هنالك وكانت بالمرسى ثمانية مراكب للسلطان برسم السفر إلى اليمن فأمر السلطان بالاستعداد وحشد الناس لحماية أجفانه فلما يئسوا من انتهاز الفرصة فيها قالو: إنما جئنا في حماية مراكب لنا تسير أيضاً إلى اليمن. ولما دخلت على هذا السلطان الكافر قام إلي وأجلسني في جانبه وكلمني بأحسن كلام. وقال ينزل أصحابك على الأمان ويكونون في ضيافتي إلى أن يسافروا، فإن سلطان المعبر بيني وبينه الصحبة. ثم أمر بإنزالي فأقمت عنده ثلاثة أيام في إكرام عظيم متزايد في كل يوم. وكان يفهم اللسان الفارسي ويعجبه ما أحدثه به عن الملوك والبلاد. ودخلت عليه يوماً وعنده جواهر كثيرة أتي بها من مغاص الجوهر الذي ببلاده وأصحابه يميزون

_ 1 القاقُلّي: نبات هندي عطري الرائحة يعرف ب "الهال".

النفيس منها من غيره، فقال لي هل رأيت مغاص الجوهر في البلاد التي جئت منها؟ فقلت له: نعم رأيته بجزيرة قيس وجزيرة كش التي لابن السواملي. فقال: سمعت بها. ثم أخذ حبات منه فقال: أيكون في تلك الجزيرة مثل هذه؟ فقلت له: رأيت ما هو دونها. فأعجبه ذلك، وقال هي لك. وقال لي: لا تستحي واطلب مني ما شئت. فقلت له: ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة إلا زيارة القدم الكريمة قدم آدم عليه السلام وهم يسمونه "بابا" ويسمون حواء "ماما". فقال: هذا هين نبعث معك من يوصلك. فقلت: ذلك أريد. ثم قلت له: وهذا المركب الذي جئت فيه يسافر آمناً إلى المعبر. وإذا عدت أنا بعثتني في مراكبك. فقال: نعم. فلما ذكرت ذلك لصاحب المركب قال لي لا أسافر حتى تعود ولو أقمت سنة بسببك فأخبرت السلطان بذلك. فقال: يقيم في ضيافتي حتى تعود. فأعطاني دولة يحملها عبيده على أعناقهم وبعث معي أربعة من الجوكية الذين عادتهم السفر كل عام إلى زيارة القدم وثلاثة من البراهمة وعشرة من سائر أصحابه وخمسة عشر رجلاً يحملون الزاد. وأما الماء فهو بتلك الطريق كثير. ونزلنا ذلك اليوم على واد جزناه في معدية مصنوعة من قصب الخيزران. ثم رحلنا من هنالك إلى مَنَارمَنْدلي "وضبط ذلك بفتح الميم والنون وألف وراء مسكنة وميم مفتوحة ونون مسكن ودال مهمل مفتوح ولام مكسور وياء"، مدينة حسنة هي آخر عمالة السلطان. أضافنا أهلها ضيافة حسنة وضيافتهم عجول الجواميس يصطادونها بغابة هنالك ويأتون بها أحياء ويأتون بالأرز والسمن والحوت والدجاج واللبن. وليس بالمدينة مسلمٌ غير رجل خراساني انقطع بسبب مرضه فسافر معنا. ورحلنها إلى بَنْدَرْسَلاَوَات "وضبطه بفتح الباء الموحدة وسكون النون وفتح الدال المهمل وسكون الراء وفتح السين المهمل واللام وألف وتاء معلوة"، بلدة صغيرة. وسافرنا في أوعار كثيرة المياه بها الفيلة الكثيرة إلا أنها لا تؤذي الزوار والغرباء، وذلك ببركة الشيخ أبي عبد الله بن خفيف رحمه الله، وهو أول من فتح هذا الطريق إلى زيارة القدم. وكان هؤلاء الكفار يمنعون المسلمين من ذلك ويؤذونهم ولا يؤاكلونهم ولا يبايعونهم. فلما اتفق للشيخ أبي عبد الله ما ذكرناه في السفر الأول من قتل الفيلة لأصحابه وسلامته من بينهم وحمل الفيل له على ظهره صار الكفار من ذلك العهد يعظّمون المسلمين ويدخلونهم دورهم ويطعمون معهم ويطمئنون لهم بأهلهم وأولادهم وهم إلى الآن يعظمون الشيخ المذكور أشد

تعظيم ويسمونه الشيخ الكبير. ثم وصلنا بعد ذلك إلى مدينة كُنكار "وضبط اسمها بضم الكاف الأول وفتح النون والكاف الثانية وآخره راء"، وهي حضرة السلطان الكبير بتلك البلاد وبناؤها في خندق بين جبلين على خور كبير يسمى خور الياقوت، لأن الياقوت يوجد به. وبخارج هذه المدينة مسجد الشيخ عثمان الشيرازي المعروف بِشاوُش "بشينين معجمين بينهما واو مضموم" وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعظمونه، وهو كان الدليل إلى القدم. فلما قطعت يده ورجله صار الأدلاء أولاده وغلمانه. وسبب قطعه أنه ذبح بقرة وحكم كفار الهنود أنه من ذبح بقرة ذبح كمثلها أو جعل في جلدها وحرق. وكان الشيخ عثمان معظماً عندهم فقطعوا يده ورجله وأعطوه مجبى بعض الأسواق. وكان سلطان كنكنار يعرف بالكُنار "بضم الكاف وفتح النون وألف وراء"، وعنده الفيل الأبيض. ولم أر في الدنيا فيلا أبيض سواه، يركبه في الأعياد ويجعل على جبهته أحجار الياقوت العظيمة. واتفق له أن قام عليه أهل دولته وكحلوا عينيه وولوا ولده وهو هنالك أعمى. والياقوت العجيب البهرمان إنما يكون بهذه البلدة. فمنه ما يخرج من الخور وهو عزيز عندهم ومنه ما يحفر عنه. وفي جزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها وهي متملكة فيشتري الإنسان القطعة منها ويحفر عن الياقوت فيجد أحجاراً مشعبة وهي التي يتكون الياقوت في أجوافها فيعطيها الحكاكين فيحكونها حتى تنفلق عن أحجار الياقوت. فمنه الأحمر ومنه الأصفر ومنه الأزرق ويسمونه النَيْلم "بفتح النون واللام وسكون الياء آخر الحروف". وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من أحجار الياقوت إلى مائة فنَم "بفتح الفاء والنون" فهو للسلطان يعطي ثمنه ويأخذه وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه. وصرف مائة فنم ستة دنانير من الذهب. وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضاً من الأسورة والخلاخيل. وجواري السلطان يصنعن منه شبكة يجعلنا على رؤوسهن. ولقد رأيت على جبهة الفيل الأبيض سبعة أحجار منه كل حجر أعظم من بيضة الدجاج. ورأيت عند السلطان إيري شكروتي سكرجة على مقدار الكف من الياقوت، فيها دهن العود. فجعلت أعجب منها فقال أن عندنا ما هو أضخم من ذلك. ثم سافرنا من كنكار فنزلنا بمغارة تعرف باسم أسطا محمود

اللُوري "بضم اللام"، وكان من الصالحين واحتفر تلك المغارة في سفح جبل، عند خور صغير هنالك. ثم رحلنا عنها ونزلنا بالخور المعروف بخور بُوزنة "بالباء الموحدة وواو وزاي ونون وهاء"، وبوزنة هي القرود. والقرود بتلك الجبال كثيرة جداً وهي سود الألوان لها أذناب طوال ولذكورها لحى كما هي للآدميين. وأخبرني الشيخ عثمان وولده وسواهما أن هذه القرود لها مقدم تتبعه كأنه سلطان يشد على رأسه عصابة من أوراق أشجار ويتوكأ على عصا ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود لها عصي بأيديها. وأنه إذا جلس القرد المقدم تقف القرود الأربعة على رأسه وتأتي أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كل يوم وتأتي القرود فتقعد على بعد منه ثم يكلمها أحد القرود الأربعة فتنصرف القرود كلها. ثم يأتي كل قرد منها بموزة أو ليمونه أو شبه ذلك فيأكل القرد المقدم وأولاده والقرود الأربعة. وأخبرني بعض الجوكية أنه رأى القرود الأربعة بين يدي مقدمها وهي تضرب بعض القرود بالعصي ثم نتفت وبره بعد ضربه. وذكر لي الثقات أنه إذا ظفر قرد من هذه القرود بصبية لا تستطيع الدفاع عن نفسها جامعها. وأخبرني بعض أهل هذه الجزيرة أنه كان بداره قرد منها فدخلت بنت له بعض البيوت فدخل عليها فصاحت به فغلبها قال ودخلنا عليها وهو بين رجليها فقتلناه. ثم كان رحيلنا إلى خور الخيزران. ومن هذا الخور أخرج أبو عبد الله بن خفيف الياقوتتين اللتين أعطاهما لسلطان هذه الجزيرة حسبما ذكرناه في السفر الأول. ثم رحلنا إلى موضع يعرف ببيت العجوز وهو آخر العمارة. ثم رحلنا إلى مغارة بابا طاهر وكان من الصالحين. ثم رحلنا إلى مغارة السبيك "بفتح السين المهمل وكسر الباء الموحدة وياء مد وكاف"، وكان السبيك من سلاطين الكفار، وانقطع للعبادة هنالك. وبهذا الموضع رأينا العلق الطيار ويسمونه الزُّلّو "بضم الزاي واللام"، ويكون بالأشجار والحشائش التي تقرب من الماء. فإذا قرب الإنسان منه وثب عليه. فحيثما وقع من جسده خرج منه الدم الكثير. والناس يعدون له الليمون، يعصرونه عليه، فيسقط عنهم ويحردون الموضع الذي يقع عليه بسكين خشب معدّ لذلك. ويذكر أن بعض الزوار مر بذلك الموضع فتعلقت به العلق فأظهر الجلد ولم يعصر عليها الليمون فنزف دمه ومات وكان اسمه بابا خوزي

"بالخاء المعجم المضموم والزاي"، وهنالك مغارة تنسب إليه. ثم رحلنا إلى السبع مغارات ثم إلى عقبة اسكندر، ثم مغارة الاصفهاني، وعين ماء، وقلعة غير عامرة تحتها خور يعرف بغوطة كاه عارفان وهنالك مغارة النارنج، ومغارة السلطان وعندها دروازة الجبل أي بابه وهو من أعلى جبال الدنيا رأيناه من البحر وبيننا وبينه مسيرة تسع. ولما صعدناه كنا نرى السحاب أسفل منا قد حال بيننا وبين رؤية أسفله، وفيه كثير من الأشجار التي لا يسقط لها ورق، والأزاهير الملونة والورد الأحمر على قدر الكف ويزعمون أن في ذلك الورد كتابة يقرأ منها اسم الله تعالى واسم رسوله عليه الصلاة والسلام. وفي الجبل طريقان إلى القدم أحدهما يعرف بطريق "بابا" والآخر بطريق "ماما" يعنون آدم وحواء عليهما السلام. فأما طريق ماما فطريق سهل عليه يرجع الزوار إذا رجعوا ومن مضى عليه فهو عندهم كمن لم يزر. وأما طريق بابا فصعب وعر المرتقى. وفي أسفل الجبل حيث دروازته مغارة تنسب أيضا للاسكندر. وعين ماء ونحت الأولون في الجبل شبه درج يصعد عليها وغرزوا فيها أوتاد الحديد وعلقوا منها السلاسل ليتمسك بها من يصعده وهي عشر سلاسل ثنتان في أسفل الجبل إلى حيث الدروازة وسبع متوالية بعدها والعاشرة هي سلسلة الشهادة لأن الإنسان إذا وصل إليها ونظر إلى أسفل الجبل أدركه الوهم فيتشهد خوف السقوط ثم إذا جاوزت هذه السلسلة وجدت طريقاً مهملاً. ومن السلسلة العاشرة إلى مغارة الخضر سبعة أميال. وهي في موضع فسيح عندها عين ماء تنسب إليه أيضا ملأى بالحوت ولا يصطاده أحد. وبالقرب منها حوضان منحوتان في الحجارة عن جنبتي الطريق. وبمغارة الخضر يترك الزوار ما عندهم ويصعدون منها ميلين إلى أعلى الجبل حيث القدم. وأثر القدم الكريمة قدم أبينا آدم صلى الله عليه وسلم في صخرة سوداء مرتفعة بموضع فسيح. وقد غاصت القدم الكريمة في الصخرة حتى عاد موضعاً منخفضاً وطولها أحد عشر شبراً وأتى إليها أهل الصين قديماً فقطعوا من الصخرة موضع الإبهام وما يليه وجعلوه في كنيسة بمدينة الزيتون يقصدونها من أقصى البلاد. وفي الصخرة حيث القدم تسع حفر منحوتة يجعل الزوار من الكفار فيها الذهب واليواقيت والجواهر. فترى الفقراء إذا وصلوا مغارة الخضر يتسابقون منها لأخذ ما بالحفر، ولم نجد نحن بها إلا يسير

حجيرات وذهب أعطيناها الدليل. والعادة أن يقيم الزوار بمغارة الخضر ثلاثة أيام يأتون فيها إلى القدم غدوةً وعشياً وكذلك فعلنا. ولما تمت الأيام الثلاثة، عدنا على طريق ماما. فنزلنا بمغارة شيم وهو شيث بن آدم عليهما السلام، ثم إلى خور السمك، ثم إلى قرية كُرْمُله "بضم الكاف وسكون الراء وضم الميم" ثم إلى قرية جَبَرْكَاوان "بفتح الجيم والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف والواو وآخره نون" ثم إلى قرية دل دينوة "بدالين مهملين مكسورين بينهما لام مسكن وياء مد ونون مفتوح وواو مفتوح وتاء تأنيث"، ثم إلى قرية آت قلنجة "بهمزة مفتوحة وتاء مثناة مسكنة وقاف ولام مفتوحين ونون مسكن وجيم مفتوح"، وهنالك "كان" يشتو الشيخ أبو عبد الله بن خفيف. وكل هذه القرى والمنازل هي بالجبل. وعند أصل الجبل في هذا الطريق دَرَخْت رَوان وروان "بفتح الراء والواو وألف نون"، وهي شجرة عادية لايسقط لها ورق. ولم أر من رأى ورقها1 ويعرفونها أيضاً بالماشية لأن الناظر إليها من أعلى الجبل يراها بعيدة منه قريبة من أسفل الجبل والناظر إليها من أسفل الجبل يراها بعكس ذلك. ورأيت هنالك جملة من الجوكيين ملازمين أسفل الجبل ينتظرون سقوط ورقها وهي بحيث لا يمكن التوصل إليها البتة. ولهم أكاذيب في شأنها من جملتها أنّ من أكل من أوراقها عاد له الشباب إن كان شيخاً. وذلك باطل. وتحت هذا الجبل الخور العظيم الذي يخرج منه الياقوت، وماؤه يظهر في رأي العين شديد الزرقة. ورحلنا من هنالك يومين إلى مدينة دِينَوَر "وضبط اسمها بدال مهمل مكسور وياء مد ونون وواو مفتوحين وراء"، مدينة عظيمة على البحر، يسكنها التجار. وبها الصنم المعروف بدينور، في كنيسة عظيمة فيها نحو الألف من البراهمة والجوكية ونحو خمسمائة من النساء بنات الهنود ويغنين كل ليلة عند الصنم ويرقصن. والمدينة ومجابيها وقف على الصنم. وكل من بالكنيسة ومن يرد عليها يأكلون من ذلك. والصنم من ذهب على قدر الآدمي وفي موضع العينين منه ياقوتتان عظيمتان أخبرت أنهما تضيئان بالليل كالقنديل. ثم رحلنا إلى مدينة

_ 1 أي: من رأى ورقها بعيداً عنها، لعدم سقوطه. والله أعلم.

قَالِِي "بالقاف وكسر اللام"، وهي صغيرة على ستة فراسخ من دينور، وبها رجل من المسلمين يعرف بالناخوذة إبراهيم أضافنا بموضعه. ورحلنا إلى مدينة كَلَنْبُو "بفتح الكاف واللام وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو"، وهي من أحسن بلاد سرنديب وأكبرها، وبها يسكن الوزير حاكم البحر، جالسني، ومعه نحو خمسمائة من الحبشة. ثم رحلنا فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى بطالة وقد تقدم ذكرها ودخلنا إلى سلطانها الذي تقدم ذكره ووجدت الناخوذة إبراهيم في انتظاري، فسافرنا بقصد بلاد المعبر. وقويت الريح وكاد الماء يدخل في المركب ولم يكن لنا رائس عارف ثم وصلنا إلى حجارة كاد المركب ينكسر فيها. ثم دخلنا بحراً قصيراً فتجلّى المركب ورأينا الموت عياناً ورمى الناس بما معهم وتوادعوا. وقطعنا صاري المركب فرمينا به وصنع البحرية معدية من الخشب. وكان بيننا وبين البر فرسخان فأردت أن أنزل في المعدية وكان لي جاريتان وصاحبان من أصحابي، فقالا: أتنزل وتتركنا فآثرتهما على نفسي وقلت: انزلا أنتما والجارية التي أحبها. فقالت الجارية: إني أحسن السباحة فأتعلق بحبل المعدية وأعوم معهم. فنزل رفيقاي وأحدهما محمد بن فرحان التوزري والآخر رجل مصري والجارية معهم والأخرى تسبح وربط البحرية في المعدية حبالاً وسبحوا بها. وجعلت معهم ما عز علي من المتاع والجواهر والعنبر فوصلوا إلى البر سالمين، لأن الريح كانت تساعدهم. وأقمت بالمركب ونزل صاحبه إلى البر على الدفة وشرع البحرية في عمل أربع من المعادي فجاء الليل قبل تمامها ودخل معنا الماء فصعدت إلى المؤخر وأقمت به حتى الصباح. وحينئذ جاء إلينا نفر من الكفار في قارب لهم ونزلنا معهم إلى الساحل ببلاد المعبر فأعلمناهم أنا من أصحاب سلطانهم وهم تحت ذمته. فكتبوا إليه بذلك وهو على مسيرة يومين في الغزو. وكتبت أنا إليه أعلمه بما اتفق علي. وأدخلنا أولئك الكفار إلى غيضة عظيمة فأتوا بفاكهة تشبه البطيخ يثمرها شجرة المقل. وفي داخلها شبه قطن فيه عسلية يستخرجونها ويصنعون منها حلواء يسمونها التل، وهي تشبه السكر. وأتو بسمك طيب. وأقمنا ثلاثة أيام ثم وصل من جهة السلطان أمير يعرف بقمر الدين معه جماعة فرسان ورجال وجاؤا بالدولة وبعشرة خيول فركبت وركب أصحابي وصاحب المركب وإحدى الجاريتين، وحملت الأخرى في الدولة. ووصلنا إلى حصن هَرْكَاتُو "وضبط اسمه بفتح الهاء وسكون الراء وفتح الكاف وألف وتاء معلوة

مضمومة وواو" وبِتْنا به وتركت فيه الجواري وبعض الغلمان والأصحاب. ووصلنا في اليوم الثاني إلى محلة السلطان. وسلطان بلاد المعبر هو غياث الدين الدامغاني وكان أول أمره فارساً من فرسان الملك مجير بن أبي الرجا، أحد خدام السلطان محمد، ثم خدم الأمير حاجي بن السيد السلطان جلال الدين ثم ولي الملك. وكان يدعى سراج الدين قبله فلما ولي تسمى غياث الدين. وكانت بلاد المعبر تحت حكم السلطان محمد ملك دهلي، ثم ثار بها صهري الشريف جلال الدين أحسن شاه وملك بها خمسة أعوام ثم قتل. وولي أحد أمرائه وهو علاء الدين أُدَيْجِي "بضم الهمزة وفتح الدال المهمل وسكون الياء آخر الحروف وكسر الجيم" فملك سنة ثم خرج إلى غزو الكفار فأخذ لهم أموالاً كثيرة وغنائم واسعة وعاد إلى بلاده. وغزاهم في السنة الثانية فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واتفق يوم قتله لهم أن رفع المغفر عن رأسه ليشرب فأصابه سهم غرب، فمات من حينه. فولوا صهره قطب الدين. ثم لم يحمدوا سيرته فقتلوه بعد أربعين يوماً. وولي بعده السلطان غياث الدين وتزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجا أختها بدهلي. ولما وصلنا إلى قرب من منزل السلطان غياث الدين بعث بعض الحجاب لتلقينا وكان قاعداً في برج خشب. وعادتهم بالهند كلها أن لا يدخل أحد على السلطان دون خف ولم يكن عندي خف فأعطاني بعض الكفار خفاً. وكان هنالك من المسلمين جماعة فعجبت من كون الكفار كان أتم مروءة منهم. ودخلت على السلطان فأمرني بالجلوس ودعا القاضي الحاج صدر الزمان بهاء الدين وأنزلني في جواره في ثلاثة من الأخبية وهم يسمونها الخيام وبعث بالفرش وبطعامهم وهو الأرز واللحم. وعادتهم هنالك أن يسقوا اللبن الرائب على الطعام كما يفعل ببلادنا. ثم اجتمعت به بعد ذلك وألقيت له أمر جزائر ذيبة المهل وأن يبعث الجيش إليها فأخذ في ذلك بالعزم وعين المراكب لذلك وعين الهدية لسلطانتها والخلع للوزراء والأمراء والعطايا لهم وفوض إلي في عقد نكاحه مع أخت السلطانة وأمر بوثق ثلاثة مراكب بالصدقة لفقراء الجزائر. وقال لي: يكون رجوعك بعد خمسة أيام. فقال له قائد البحر خواجة سرلك: لا يمكن السفر إلى الجزائر إلا بعد ثلاثة أشهر من الآن. فقال لي السلطان: أما إذا كان الأمر هكذا فامض إلى فتن حتى تقضي هذه الحركة وتعود إلى حضرتنا مترة،

ومنها تكون الحركة. فأقمت معه بخلال ما بعثت عن الجواري والأصحاب. وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب بحيث لا يسلكها أحد فأمر السلطان أن يكون لكل واحد ممن في الجيش من كبير وصغير قَدوم لقطع ذلك. فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه فقطعوا تلك الأشجار من غدوة النهار إلى الزوال. ثم يؤتى بالطعام فيأكل جميع الناس طائفة بعد أخرى. ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشي وكل من وجدوه من الكفار في الغيضة أسروه وصنعوا خشبة محددة الطرفين فجعلوها على كتفيه يحملها ومعه امرأته وأولاده ويؤتى بهم إلى المحلة. وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سوراً من خشب يكون له أربعة أبواب ويسمونه الكَتْكَر "بفتح الكافين وسكون التاء المعلوه وآخره راء"، ويصنعون على دار السلطان كَتْكراً ثانياً، ويصنعون خارج الكَتكَْر الأكبر مصاطب، ارتفاعها نحو نصف قامة، ويوقدون عليها النار بالليل ويبيت عندها العبيد والمشاؤن ومع كل واحد منهم حزمة من رقيق القصب. فإذا أتى أحد من الكفار ليضربوا على المحلة ليلاً أوقد كل واحد منهم الحزمة التي بيده فعاد الليل شبه النهار لكثرة الضياء وخرجت الفرسان في اتباع الكفار. فإذا كان عند الصباح قسم الكفار المأسورون بالأمس أربعة أقسام. وأتي إلى كل باب من أبواب الكَتْكَر بقسم منهم فركزت الخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم ثم تذبح نساؤهم ويربطن بشعورهن إلى تلك الخشبات ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن ويتركون هنالك. وتنزل المحلة ويشتغلون بقطع غيضة أخرى ويصنعون بمن أسروه كذلك. وذلك أمر شنيع، ما علمته لأحد من الملوك. وبسببه عجل الله حينه. ولقد رأيته يوماً والقاضي عن يمينه وأنا عن شماله وهو يأكل معنا وقد أتي بكافر معه امرأته وولده سنه سبع فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه. ثم قال لهم: وزن أو بسر أو، معناه: وابنه وزوجته. فقطعت رقابهم وصرفت بصري عنهم. فلما قمت وجدت رؤسهم مطروحة بالأرض. وحضرت عنده يوماً وقد أتي برجل من الكفار فتكلم بما لم أفهمه فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم. فبادرت القيام فقال لي: إلى أين؟ فقلت أصلي العصر. ففهم عني وضحك وأمر بقطع يديه ورجله فلما عدت وجدته متشحطاً في دمائه.

وكان فيما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بَلال دِيُو "بفتح الباء الموحدة ولام وألف ولام ثانية ودال مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة واو مسكن" وهو من كبار سلاطين الكفار، يزيد عسكره على مائة ألف. ومعه نحو عشرين ألفاً من المسلمين أهل الدعارة وذوي الجنايات والعبيد الفارين، فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر، وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف، منهم النصف من الجياد والنصف الثاني لا خير فيهم ولا غناء عندهم. فلقوه بظاهر مدينة كُبّان فهزمهم ورجعوا إلى حضرة مترة ونزل الكافر على كُبان وهي من أكبر مدنهم وأحصنها وحاصرها عشرة أشهر ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوماً. فبعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان ويتركوا له البلد. فقالوا له: لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك فوعدهم إلى تمام أربعة عشر يوماً. وكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم. فقرأ كتابهم على الناس يوم الجمعة فبكوا، وقالوا: نبيع أنفسنا من الله. فإنّ الكافر أن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا فالموت تحت السيوف أولى بنا. فتعاهدوا على الموت وخرجوا من الغد، ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل وهي علامة من يريد الموت. وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة، وكانوا ثلاثمائة. وجعلوا على الميمنة سيف الدين بهادور وكان فقيهاً ورعاً شجاعاً، وعلى الميسرة الملك محمد السلحدار. وركب السلطان في القلب ومعه ثلاث آلاف. وجعل الثلاثة آلاف الباقين ساقة لهم وعليهم أسد الدين كيخسرو الفارسي. وقصدوا محلة الكافر عند القائلة وأهلها على غرة وخيلهم في المرعى فأغاروا عليها وظن الكفار أنهم سراق فخرجوا إليهم على غير تعبية وقاتلوهم فوصل السلطان غياث الدين فانهزم الكفار شر هزسمة وأراد سلطانهم أن يركب وكان ابن ثمانين فأدركه ناصر الدين بن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده فأراد قتله ولم يعرفه. فقال له أحد غلمانه: هو السلطان فأسره وحمله إلى عمه، فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل، وكان يعده السراح. فلما استصفى ما عنده ذبحه وسلخه وملئ جلده بالتبن فعلق على سور مترة ورأيته بها معلقاً. ولنعد إلى كلامنا فنقول ورحلت عن المحلة فوصلت إلى مدينة فتَّن "بفتح الفاء والتاء والمثناة المشددة ونون" وهي كبيرة حسنة على الساحل، ومرساها عجيب قد صنعت فيه قبة

من الخشب كبيرة قائمة على الخشب الضخام يصعد إليها على طريق خشب مسقف، فإذا جاء العدو ضموا إليها الأجفان التي تكون بالمرسى وصعدها الرجال والرماة فلا يصيب العدو فرصة. وبهذه المدينة مسجد حسن مبني بالحجارة، وبها العنب الكثير والرمان الطيب. ولقيت الشيخ الصالح محمد النيسابوي أحد الفقراء المولهين الذين يسدلون شعورهم على أكتافهم، ومعه سبع ربّاه، يأكل مع الفقراء ويقعد معهم وكان معه نحو ثلاثين فقيراً لأحدهم غزالة تكون مع الأسد في موضع واحد فلا يعرض لها. وأقمت بمدينة فتن، وكان السلطان غياث الدين قد صنع له أحد الجوكية حبوباً للقوة على الجماع. وذكروا أن من جملة أخلاطها برادة الحديد فأكل منها فوق الحاجة فمرض ووصل إلى فتّن. فخرجت إلى لقائه وأهديت له هدية فلما استقر بها بعث عن قائد البحر خواجة سرور، فقال له: لا تشتغل بسوى المراكب المعينة للسفر إلى الجزائر. وأراد أن يعطيني قيمة الهدية فأبيت ثم ندمت لأنه مات فلم آخذ شيئاً. وأقام بفتن نصف شهر ثم رحل إلى حضرته. وأقمت أنا بعده نصف شهر ثم رحلت إلى حضرته وهي مدينة مُتْرة "بضم الميم وسكون التاء المعلوة وفتح الراء" مدينة كيرة متسعة الشوارع. وأول من اتخذها حضرة صهري السلطان الشريف جلال الدين أحسن شاه وجعلها شبيهة بدهلي وأحسن بناءها. ولما قدمتها ووجدت بها وباء يموت منه الناس موتاً سريعاً فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه أو ثالثه، وإن أبطأ موته فإلى الرابع. فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضاً أو ميتاً. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة فماتت في يوم آخر. ولقد جاءت إلي في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه ومعها ابن لها سنه ثمانية أعوام نبيل كيس فطن. فشكت ضعف حالها فأعطيتهما نفقة وهما صحيحان سويان. فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها المذكور كفناً وإذا به قد توفي من حينه. وكنت أرى بمشور السلطان حين مات المئين من الخدم اللاتي أتي بهم لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان، وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطان مُتْرَة وجد أمه وامرأته وولده مرضى. فأقام بالمدينة ثلاثة أيام ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها كانت عليه كنيسة الكفار وخرجت إليه في يوم خميس فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرعون ويموج بعضهم في بعض. فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك فكان الولد

هو الميت ولم يكن له سواه. فكان موته مما زاد في مرضه. وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان. وفي الخميس الثالث توفي السلطان غياث الدين، وشعرت بذلك فبادرت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة. ولقيت ناصر الدين ابن أخيه الوالي بعده خارجاً إلى المحلة قد وجه عنه إذ ليس للسلطان ولد. فطلبني بالرجوع معه فأبيت وأثر ذلك في قلبه وكان ناصر الدين هذا خديماً بدهلي قبل أن يملك عمه. فلما ملك عمه هرب في زي الفقراء إليه فكان من القدر ملكه بعده. ولما بويع مدحته الشعراء فأجزل لهم العطاء، وأول من قام منشداً القاضي صدر الزمان فأعطاه خمسمائة دينار وخلعة، ثم الوزير المسمى بالقاضي فأعطاه ألفي دينار دراهم، وأعطاني أنا ثلاثمائة دينار وخلعة، وبث الصدقات في الفقراء والمساكين. ولما خطب الخطيب أول خطبة خطبها باسمه نثرت عليه الدنانير والدراهم في أطباق الذهب والفضة. وعمل عزاء السلطان غياث الدين فكانوا يختمون القرآن على قبره كل يوم ثم يقرأ العشارون ثم يؤتى بالطعام فيأكل الناس ثم يعطون الدراهم كل إنسان على قدره وأقاموا على ذلك أربعين يوماً ثم يفعلون ذلك في مثل يوم وفاته من كل سنة. وأول ما بدأ به السلطان ناصر الدين أن عزل وزير عمه وطلبه بالأموال وولي الوزارة الملك بدر الدين الذي بعثه عمه إلي وأنا بفتن ليتلقاني فتوفي سريعاً، فولي الوزارة خواجه سرور قائد البحر وأمر أن يخاطب بخواجة جهان كما يخاطب الوزير بدهلي ومن خاطبه بغير ذلك غرم دنانير معلومة. ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوج بنت السلطان غياث الدين وتزوجها بعده. وبلغه أن الملك مسعوداً زاره في محبسه قبل موته فقتله أيضا، وقتل الملك بهادور وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء، وأمر لي بجميع ما كان عينه عمه من المراكب برسم الجزائر. ثم أصابتني الحمى القاتلة هنالك فظننت أنها القاضية. وألهمني الله إلى التمر الهندي، وهو هنالك كثير فأخذت نحو رطل منه وجعلته في الماء ثم شربته فأسهلني ثلاثة أيام وعافاني الله من مرضي، فكرهت تلك المدينة وطلبت الإذن في السفر. فقال لي السلطان: كيف تسافر ولم يبق لأيام السفر إلى الجزائر غير شهر واحد؟ أقم حتى نعطيك جميع ما أمر لك به خوند عالم. فأبيت وكتب لي إلى فتن لأسافر في أي مركب أردت.

وعدت إلى فتن، فوجدت ثمانية من المراكب تسافر إلى اليمن، فسافرت في أحدها ولقينا أربعة أجفان فقاتلتنا يسيراً ثم انصرفت. ووصلنا إلى كولم وكان فيّ بقية مرض فأقمت ثلاثة أشهر. ثم ركبت في مركب بقصد السلطان جمال الدين الهنوري، فخرج علينا الكفار بين هنور وفاكنور. ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنور وفاكنور خرج علينا الكفار في اثنى عشر مركباً حربية وقاتلونا قتالاً شديداً وتغلبوا علينا، فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أدخره للشدائد، وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان، وأخذوا ثيابي والزوادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء، ولم يتركوا لي ساتراً خلا السراويل، وأخذوا ما كان لجميع الناس وأنزلونا بالساحل. فرجعت إلى قالقوط فدخلت بعض المساجد فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب، وبعث القاضي بعمامة، وبعث بعض التجار بثوب آخر. وتعرفت هنالك بتزوج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين وبأن زوجتي التي تركتها حاملاً ولدت ولدا ذكراً، فخطر لي السفر إلى الجزائر. وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله ففتحت المصحف فخرج لي {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} 1. فاستخرت الله وسافرت. فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل ونزلت منها بكنلوس فأكرمني واليها. عبد العزيز المقدشاوي وأضافني وجهز لي كندرة. ووصلت بعد ذلك إلى هللي، وهي الجزيرة التي تخرج السلطانة وخواتها إليها برسم التفرج والسياحة، ويسعون ذلك التتجر. ويلعبون في المراكب ويبعث لها الوزراء والأمراء بالهدايا والتحف متى كانت بها. ووجدت بها أخت السلطانة وزوجها الخطيب محمد بن الوزير جمال الدين وأمها التي كانت زوجتي. فجاء الخطيب إلي وأتوا بالطعام. ومر بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي. فسأل عن حالي، وعمن قدم معي. وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي وكانت سنه نحو عامين وأتته أمه تشكو من ذلك. فقال لها: أنا لا أمنعه من حمل ولده. وصادرني في دخول الجزيرة وأنزلني بدار تقابل برج قصره ليتطلع على حالي. وبعث إلي بكسوة كاملة وبالتنبول وماء الورد على عادتهم. وجئت بثوبي

_ 1 فصلت: 30.

حرير للرمي عند السلام فأخذوهما ولم يخرج الوزير إلي ذلك اليوم. وأتى إلي بولدي فظهر لي أن إقامته معهم خير له. فرددته إليهم، وأقمت خمسة أيام وظهر لي أن تعجيل السفر أولى. فطلبت الإذن في ذلك، فاستدعاني الوزير ودخلت عليه وأتوني بالثوبين اللذين أخذوهما مني فرميتهما عند السلام على العادة. وأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي وأكلت معه الطعام وغسلت يدي معه في الطست، وذلك شيء لا يفعله مع أحد. وأتوا بالتنبول وانصرفت، وبعث إلي بأثواب وبساتي من الودع وأحسن أفعاله وأجمل. وسافرت، فأقمنا على ظهر البحر ثلاثاً وأربعين ليلةً ثم وصلنا إلى بلاد بَنْجالة "وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم معقود، وألف ولام مفتوح"، وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز. ولم أر في الدنيا أرخص أسعاراً منها لكنها مظلمة. وأهل خراسان يسمونها دوزخست "دوزخ" بور "بر" نعمة، معناه: جهنم ملأى بالنعم. رأيت الأرز يباع في أسواقها خمسة وعشرين رطلاً دهلية بدينار فضي والدينار الفضي هو ثمانية دراهم ودرهمهم كالدرهم النقرة سواء والرطل الدهلي عشرون رطلاً مغربية، وسمعتهم يقولون إن ذلك غلاء عندهم. وحدثني محمد المصمودي المغربي وكان من الصالحين وسكن هذا البلد قديماً ومات عندي بدهلي، أنه كانت له زوجة وخادم فكان يشتري قوت ثلاثتهم في السنة بثمانية دراهم وأنه كان يشتري الأرز في قشره بحساب ثمانين رطلا دهلية بثمانية دراهم فإذا دقه خرج منه خمسون رطلاً صافية وهي عشرة قناطير. ورأيت البقرة تباع بها للحلب بثلاثة دنانير فضة وبقرهم الجواميس، ورأيت الدجاج السمان تباع بحساب ثمان بدرهم واحد، وفراخ الحمام يباع خمسة عشر منها بدرهم، ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين. ورطل السكر بأربعة دراهم وهو رطل دهلي، ورطل الجلاب بثمانية دراهم، ورطل السمن بأربعة دراهم، ورطل السيرج بدرهمين، ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيد الذي ذرعه ثلاثون ذراعاً يباع بدينارين، ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب واحد، وهو ديناران ونصف دينار من الذهب المغربي. واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة وكان لها جمال بارع. واشترى بعض أصحابي غلاماً صغير السن حسناً اسمه لؤلؤ بدينارين من الذهب. وأول مدينة دخلناها من بلاد بنجالة مدينة سُدْكاوَان، وضبط اسمها "بضم السين وسكون الدال المهملين وفتح الكاف والواو وآخره نون"، وهي

مدينة عظيمة على ساحل البحر الأعظم، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود ونهر الجون ويصبان في البحر. ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد للكنوتي. وكان سلطان بنجالة هو السلطان فخر الدين الملقب بفَخْره "بالفاء والخاء المعجم والراء"، وهو سلطان فاضل محب في الغرباء وخصوصاً الفقراء والمتصوفة. وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بلبن وهو الذي ولي ولده معز الدين الملك بدهلي فتوجه لقتاله والتقيا بالنهر وسمي لقاؤهما لقاء السعدين وقد ذكرنا ذلك وأنه ترك الملك لولده وعاد إلى بنجالة فأقام بها إلى أن توفي. وولي ابنه شمس الدين إلى أن توفي فولي ابنه شهاب الدين إلى أن غلب عليه أخوه غياث الدين بهادور بور فاستنصر شهاب الدين بالسلطان غياث الدين تغلق فنصره وأخذ بهادور بور أسيراً ثم أطلقه ابنه محمد لما ملك على أن يقاسمه ملكه فنكث عليه فقاتله حتى قتله. وولي على هذه البلاد صهراً له فقتله العسكر واستولى على ملكها علي شاه وهو إذ ذاك ببلاد اللكنوتي فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين وهو مولى لهم، خالف بسدكاوان وبلاد بنجالة، واستقل بالملك واشتدت الفتنة بينه وبين علي شاه فإذا كانت أيام الشتاء والوحل أغار فخر الدين على بلاد اللكنوتي في البحر لقوته فيه وإذا عادت الأيام التي لا مطر فيها أغار علي شاه على بنجالة في البر لقوته فيه. وانتهى حب الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائباً عنه في الملك بسدكاوان، وكان يسمى شَيْدا "بفتح الشين المعجم والدال المهمل بينهما ياء آخر الحروف"، وخرج إلى قتال عدو له. فخالف عليه شَيْدا وأراد الاستبدد بالملك وقتل ولداً للسلطان فخر الدين لم يكن له ولد غيره، فعلم بذلك فكّر عائداً إلى حضرته ففر شيدا ومن اتبعه إلى مدينة سُنُرْهكاوان، وهي منيعة. فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره فخاف أهلها على أنفسهم فقبضوا على شَيْدا وبعثوه إلى عسكر السلطان فكتبوا إليه بأمره فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه. وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء. ولما دخلت سدكاوان لم أر سلطانها ولا لقيته، وعلمت أنه مخالف على ملك الهند. فخفت عاقبة ذلك،

وسافرت من سدكاوان بقصد جبال كَامَرو، وهي "بفتح الكاف والميم وضم الراء" وبينها وبين سدكاوان مسيرة شهر. وهي جبال متسعة متصلة بالصين وتتصل أيضا ببلاد التبت حيث غزلان المسك. وأهل هذا الجبل يشبهون الترك ولهم قوة على الخدمة. والغلام منهم يساوي أضعاف ما يساويه الغلام من غيرهم وهم مشهورون بمعاناة السحر والاشتغال به. وكان قصدي بالمسير إلى هذه الجبال لقاء ولي من الأولياء بها وهو الشيخ جلال الدين التبريزي. وكان الشيخ من كبار الأولياء وأفراد الرجال له الكرامات الشهيرة والمآثر العظيمة وهو من المعمرين، أخبرني رحمه الله أنه أدرك الخليفة المستعصم بالله العباسي ببغداد وكان بها حين قتله، وأخبرني أصحابه بعد هذه المدة أنه مات وهو ابن مائة وخمسين، وأنه كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم ولا يفطر إلا بعد مواصلة عشر، وكانت له بقرة يفطر على حليبها ويقوم الليل كله وكان نحيف الجسم طوالاً خفيف العارضين. وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال، ولذلك أقام بينهم. وقد أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد وأوصاهم بتقوى الله وقال لهم إني أسافر عنكم غداً إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو، فلما صلى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبراً محفوراً عليه الكفن والحنوط فغلسوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه به رحمه الله تعالى. ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه، فأخبروني أن الشيخ قال للفقراء الذين معه: قد جاءكم سائح من المغرب فاستقبلوه، وأنهم أتوا لذلك بأمرالشيخ. ولم يكن عنده علم من أمري وإنما كوشف به وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها. وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زيارته ويأتون بالهدايا والتحف فيأكل منها الفقراء والواردون. وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه. ولما دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري، فأخبرته. فقال لي: أنت مسافر العرب. فقال له من حضر من أصحابه والعجم: يا سيدنا. فقال: والعجم، فأكرموه. فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام.

ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز فأعجبني وقلت في نفسي ليت الشيخ أعطانيها، فلما دخلت عليه للوداع قام إلى جانب الغار وجرد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه ولبس مرقعة فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية وإنما لبسها عند قدومي وأنه قال لهم هذه الفرجية يطلبها المغربي ويأخذها منه سلطان كافر ويعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي وهي له وبرسمه كانت. فلما أخبرني الفقراء بذلك قلت لهم: قد حصلت لي بركة الشيخ بأن كساني لباسه، وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم وانصرفت عن الشيخ. فاتفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين وانتهيت إلى مدينة الخنسا فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام وكانت الفرجية علي فبينما أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم فوقع بصره علي فاستدعاني وأخذ بيدي وسألني عن مقدمي ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه فأردت الانفصال فمنعني، وأدخلني على السلطان فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته ونظر إلى الفرجية فاستحسنها. فقال لي الوزير: جردها. فلم يمكنني خلاف ذلك فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة. وتغير خاطري لذلك ثم تذكرت قول الشيخ أنه يأخذها سلطان كافر فطال عجبي من ذلك. ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجي فوجدته يقرأ والفرجية عليه بعينها فعجبت من ذلك وقلبتها بيدي، فقال لي: لم تقلبها وأنت تعرفها؟ فقلت له: نعم هي التي أخذها مني سلطان الخنسا. فقال لي: هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان ثم أخرج لي الكتاب فقرأته وعجبت من صدق يقين الشيخ وأعلمته بأول الحكاية: فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله هو يتصرف في الكون، وقد انتقل إلى رحمة الله. ثم قال: بلغني أنه كان يصلي الصبح كل يوم بمكة، وأنه يحج كل عام لأنه كان يغيب عن الناس يومي عرفة والعيد فلا يعرف أين ذهب. ولما ودعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حَنَنْق "ضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. وسكون النون وقاف"، وهي من أكبر المدن وأحسنها. يشقها النهر الذي ينزل من جبال كامرو، ويسمى النهر الأزرق ويسافر فيه إلى بنجالة

وبلاد اللكنوتي وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة كما هي على نيل مصر. وأهلها كفار تحت الذمة يؤخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك. وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوماً بين القرى والبساتين، فكنا نمشي في سوق من الأسواق وفيه من المراكب مالا يحصى كثرة وفي كل مركب منها طبل فإذا التقى المركبان ضرب كل واحد طبله وسلم بعضهم على بعض وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يؤخذ بذلك النهر من الفقراء نول وأن يعطي الزاد لمن لا زاد له منهم. وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطي نصف دينار. وبعد خمسة عشر يوماً من سفرنا في النهر كما ذكرناه وصلنا إلى مدينة سُنْرُكاوان وسنر "بضم السين المهمل والنون وسكون الراء"، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها ولما وصلناها وجدنا بها جنكا يريد السفر إلى بلاد الجاوة وبينهما أربعون يوماً من بنجالة إلى الجاوة. فركبنا فيه ووصلنا بعد خمسة عشر يوماً إلى بلاد البَرَهْنكَار الذين أفواههم كأفواه الكلاب "وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء"، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقفة بحشيش الأرض على شاطئ البحر. وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير. ورجالهم على مثل صورتنا إلا أن أفواههم كأفواه الكلاب. وأما نساؤهم فلسن كذلك، ولهن جمال بارع. ورجالهم عرايا لا يستترون. إلا أن الواحد منهم يجعل ذكره وأنثييه في جعبه من القصب منقوشة معلقة في بطنه، ويستتر نساؤهم بأوراق الشجر. ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة والجاوة ساكنون في حارة على حدة. أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم، لا يستترون بذلك. ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأةً فما دون ذلك أو فوقه، وأنهم لا يزنون. وإذا زنا رجل منهم فحد الرجل أن يصلب حتى يموت أو يؤتي صاحبه أو عبده فيصلب عوضاً منه ويسرح هو. وحد المرأة أن يأمر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحداً بعد واحد بحضرته حتى تموت، ويرمون بها في البحر. ولأجل ذلك لا يتركون أحداً من أهل المراكب ينزل إليهم إلا أن كان من المقيمين عندهم. وإنما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل ويسوقون إليهم الماء على الفيلة لأنه بعيد من الساحل. ولا يتركونهم لاستقائه خوفاً على نسائهم لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان. والفيلة كثيرة عندهم، ولا يسعها أحد غير سلطانهم. ثم يشتري منهم بالأثواب ولهم كلام غريب لا يفقهها إلا من ساكنهم وأكثر التردد إليهم.

ولما وصلنا إلى ساحلهم أتوا إلينا في قوارب صغار كل قارب من خشبة واحدة منحوتة وجاءوا بالموز والأرز والتنبول والفوفل والسمك. وأتى إلينا سلطانهم راكباً على فيل عليه شبه بردعة من الجلود ولباس السلطان ثوب من جلود المعزى وقد جعل الوبر إلى خارج فوق رأسه ثلاث عصائب من الحرير ملونات وفي يده حربة من القصب ومعه نحو عشرين من أقاربه على الفيلة فبعثنا إليه هدية من الفلفل والزنجبيل والقرفة والحوت الذي يكون بجزائر ذيبه المهل وأثواباً من بنجالة وهم لا يلبسونها إنما يكسونها الفيلة في أيام عيدهم. ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها. ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحراً يهيج به البحر فيهلك أو يقارب الهلاك. واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرماهم أن غلاماً لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلاً وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل وعلم بذلك زوجها فجاء في جميع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به. فحملا إلى سلطانهم فأمر بالغلام فقطعت أنثياه وصلب. وأمر بالمرأة فجامعها الناس حتى ماتت. ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى، وقال: إنا لا نجد بداً من إمضاء أحكامنا ووهب لصاحب المركب غلاماً عوض الغلام المصلوب، ثم سافرنا عن هؤلاء. وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلنا إلى جزيرة الجاوة "بالجيم" وهي التي ينسب إليها اللبان الجاوي. رأيناها على مسيرة نصف يوم وهي خضرة نضرة وأكثر أشجارها النارجيل والفوفل والقرنفل والعود الهندي والشكي والبركي والعنبة والجمون والنارنج الحلو وقصب الكافور. وبيع أهلها وشراؤهم بقطع قصدير وبالذهب الصيني التبر غير المسبوك. والكثير من أفاويه الطيب التي بها إنما هو ببلاد الكفار منها، وأما ببلاد المسلمين فهو أقل من ذلك. ولما وصلنا المرسى خرج إلينا أهلها في مراكب صغار ومعهم جوز النارجيل والموز والعنبة والسمك. وعادتهم أن يهدوا ذلك للتجار فيكافئهم كل إنسان على قدره، وصعد إلينا أيضا نائب صاحب البحر وشاهد من معنا من التجار وأذن لنا في النزول إلى البر. فنزلنا إلى البندر وهي قرية كبيرة على ساحل البحر، بها دور اسمها السَرْحَى

"بفتح السين المهمل وسكون الراء وفتح الحاء المهمل"، وبينها وبين البلد أربعة أميال. ثم كتب بهروز نائب صاحب البحر إلى السلطان فعرفه بقدومي، فأمر الأمير دولسة بلقائي والقاضي الشريف أمير سيد الشيرازي وتاج الدين الأصبهاني وسواهم من الفقهاء، فخرجوا لذلك وجاءوا بفرس من مراكب السلطان وأفراس سواه فركبت وركب أصحابي، ودخلنا إلى حضرة السلطان وهي مدينة سُمَطْرة "بضم السين المهمل والميم وسكون الطاء وفتح الراء" مدينة حسنة كبيرة عليها سور خشب وأبراج خشب. وكان سلطان الجاوة الملك الظاهر من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعي المذهب محب في الفقهاء يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة، وهو كثير الجهاد والغزو ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه وأهل بلاده شافعيه محبون في الجهاد يخرجون معه تطوعاً وهم غالبون على من يليهم من الكفار والكفار يعطونهم الجزية على الصلح. ولما قصدنا دار السلطان وجدنا بالقرب منه رماحاً مركوزة على جانبي الطريق هي علامة على نزول الناس فلا يتجاوزها من كان راكباً. فنزلنا عندها ودخلنا المشور، فوجدنا نائب السلطان وهو يسمى عمدة الملك فقام إلينا وسلم علينا وسلامهم بالمصافحة وقعدنا معه وكتب بطاقة إلى السلطان يعلمه بذلك وختمها ودفعها لبعض الفتيان فأتاه الجواب على ظهرها ثم جاء أحد ببُقْشة والبقشة "بضم الباء الموحدة وسكون القاف وفتح الشين المعجم"، هي السبنية، فأخذها النائب بيده وأخذ بيدي وأدخلني إلى دويرة يسمونها فردخانة على وزن زردخانة "إلاّ أن أولها فاء" وهي موضع راحته بالنهار فإن العادة أن يأتي نائب السلطان إلى المشور بعد الصبح ولا ينصرف إلا بعد العشاء الآخر. وكذلك الوزراء والأمراء الكبار. وأخرج من البقشة ثلاث فوط إحداهما من خالص الحرير والأخرى حرير وقطن والأخرى حرير وكتان. وأخرج ثلاثة أثواب يسمونها التحتانيات من جنس الفوط، وأخرج ثلاثة من الثياب مختلفة الأجناس تسمى الوسطانيات، وأخرج ثلاثة أثواب من الأرمك، أحدها أبيض. وأخرج ثلاث عمائم. فلبست فوطة منها عوض عن السراويل على عادتهم وثوباً من كل جنس. وأخذ أصحابي ما بقي منها. ثم جاءوا بالطعام أكثره الأرز ثم أتوا بنوع من الفقاع ثم أتوا بالتنبول،

وهو علامة الانصراف، فأخذناه وقمنا، وقام النائب لقيامنا وخرجنا عن المشور، فركبنا وركب النائب معنا. وأتوا بنا إلى بستان عليه حائط خشب وفي وسطه دار بناؤها بالخشب مفروشة بقطائف قطن يسمونها المخملات "بالميم والخاء المعجم"، منها مصبوغ وغير مصبوغ. وفي البيت أسرة من الخيزران فوقها مضربات من الحرير ولحف خفاف ومخاد يسمونها البوالشت. فجلسنا بالدار ومعنا النائب ثم جاء الأمير دولسة بجاريتين وخادمين، وقال لي: يقول لك السلطان هذه على قدرنا لا على قدر السلطان محمد. ثم خرج النائب وبقي الأمير دولسة عندي. وكانت بيني وبينه معرفة لأنه كان ورد رسولاً على السلطان بدهلي. فقلت له: متى تكون رؤية السلطان؟ فقال لي؛ أن العادة عندنا أن لا يسلم القادم على السلطان إلا بعد ثلاث، ليذهب عنه تعب السفر ويثوب إليه ذهنه. فأقمنا ثلاثة أيام يأتي إلينا الطعام ثلاث مرات في اليوم وتأتينا الفواكه والطرف مساءً وصباحاً. فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة أتاني الأمير دولسة فقال لي: يكون سلامك على السلطان بمقصورة الجامع بعد الصلاة. فأتيت الجامع وصليت به الجمعة مع حاجبه قَيْران "بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف والراء" ثم دخلت إلى السلطان فوجدت القاضي أمير سيد والطلبة عن يمينه وشماله. فصافحني وسلمت عليه وأجلسني عن يساره، وسألني عن السلطان محمد وعن أسفاري فأجبته. وعاد إلى المذاكرة في الفقه على مذهب الإمام الشافعي ولم يزل كذلك إلى صلاة العصر، فلما صلاها دخل بيتاً هنالك فنزع الثياب التي كانت عليه وهي ثياب الفقهاء، وبها يأتي الجامع يوم الجمعة ماشياً، ثم لبس ثياب الملك وهي الأقبية من الحرير والقطن. ولما خرج من الجامع وجد الفيلة والخيل على بابه. والعادة عندهم أنه إذا ركب السلطان الفيل ركب من معه الخيل. وإذا ركب الفرس ركبوا الفيلة. ويكون أهل العلم عن يمينه فركب ذلك اليوم على الفيل. وركبنا الخيل وسرنا معه إلى المشور فنزلنا حيث العادة ودخل السلطان راكباً وقد اصطف في المشور الوزراء والأمراء والكتاب وأرباب الدولة ووجوه العسكر صفوفاً، فأول الصفوف صف الوزراء والكتاب ووزراؤه أربعة فسلموا عليه وانصرفوا إلى موضع وقوفهم، ثم صف الأمراء فسلموا ومضوا إلى مواقفهم. وكذلك تفعل كل

طائفة ثم صف الشرفاء والفقهاء ثم صف الندماء والحكماء والشعراء ثم صف وجوه العسكر ثم صف الفتيان والمماليك ووقف السلطان على فيله إزاء قبة الجلوس ورفع فوق رأسه شطر مرصع وجعل عن يمينه خمسون فيلاً مزينة وعن شماله مثلها وعن يمينه أيضا مائة فرس وعن شماله مثلها وهي خيل النوبة ووقف بين يديه خواص الحجاب. ثم أتى أهل الطرب من الرجال فغنوا بين يديه وأتي بخيل مجللة بالحرير لها خلاخيل ذهب وأرسان حرير مزركشة فرقصت الخيل بين يديه فعجبت من شأنها وكنت رأيت مثل ذلك عند ملك الهند. ولما كان عند الغروب دخل السلطان إلى داره. وانصرف الناس إلى منازلهم. وكان له ابن أخ متزوج ببنته، فولاه بعض البلاد. وكان الفتى يتعشق بنتاً لبعض الأمراء ويريد تزوجها. والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس أمير أو سوقي أو سواه بنت قد بلغت مبلغ النكاح فلا بد أن يستأمر للسلطان في شأنها ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها فإن أعجبته صفتها تزوجها وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن يشاءوا. والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم لما يحوزون به من الجاه والشرف. ولما استأمر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان بعث السلطان من نظر إليها وتزوجها. واشتد شغف الفتى بها ولم يجد سبيلاً إليها. ثم إن السلطان خرج إلى الغزو وبينه وبين الكفار مسيرة شهر، فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة ودخلها إذ لم يكن عليها سور حينئذ وادعى الملك وبايعه بعض الناس وامتنع آخرون وعلم عمه بذلك فقفل عائداً إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر وأخذ الجارية التي تعشقها وقصد بلاد الكفار بِمُل جاوة. ولهذا بنى عمه السور على سمطرة. وكانت إقامتي عنده بسمطرة خمسة عشر يوماً، ثم طلبت منه السفر إذا كان أوانه إذ لا يتهيأ السفر إلى الصين في كل وقت فجهز لنا جنكاً، وزودنا وأحسن وأجمل جزاه الله خيراً. وبعث معنا من أصحابه من يأتي لنا بالضيافة إلى الجنك. وسافرنا بطول بلاده إحدى وعشرين ليلة. ثم وصلنا إلى مُل جاوة "بضم الميم" وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين، وبها الأفاوية العطرة والعود الطيب القاقلي والقماري وقاقلة وقمارة من بعض بلادها، وليس ببلاد السلطان الظاهر بالجاوة إلا اللبان والكافور وشيء من الفرنفل وشيء من العود الهندي وإنما معظم ذلك بمل جاوة. ولنذكر ما شاهدناه منها، ووقفنا على أعيانه

وحققناه. أما شجرة اللبان فصغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك وأغصانها كأغصان الخرشف وأوراقها صغار رقاق، وربما سقطت فبقيت الشجرة منها دون ورقة. واللبان صمغية تكون في أغصانها. وهي في بلاد المسلمين أكثر منها في بلاد الكفار. وأما شجر الكافور فهي قصب كقصب بلادنا، إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ ويكون الكافور داخل الأنابيب فإذا كسرت القصبة وجد في داخل الأنبوب مثل شكله من الكافور. والسر العجيب فيه أنه لا يتكون في تلك القصب حتى يذبح عند أصولها شيء من الحيوان وإلا لم يتكون شيء منه. والطيب المتناهي في البرودة الذي يقتل منه وزن الدرهم بتجميد الروح وهو المسمى عندهم الحردالة هو الذي يذبح عند قصبة الآدمي ويقوم مقام الآدمي في ذلك الفيلة الصغار. وأما العودة الهندي فشجره يشبه شجر البلوط إلا أن قشره رقيق وأوراقه كأوراق البلوط سواء ولا ثمر له وشجرته لا تعظم كل العظم وعروقه طويلة ممتدة وفيها الرائحة العطرة وأما عيدان شجرته وورقها فلا عطرية فيها وكل ما ببلاد الإسلام من شجره فهو متملك. وأما الذي في بلاد الكفار فأكثره غير متملك منه. والمتملك منه ما كان بقاقلة وهو أطيب العود. وكذلك القماري هو أطيب أنواع العود ويبيعونه لأهل الجاوة بالأثواب. ومن القماري صنف يطبع عليه كالشمع. وأما العطاس فإنه يقطع العرق منه ويدفن في التراب أشهراً فتبقى فيه قوته وهو من أعجب أنواعه. وأما أشجار القرنفل فهي عادية ضخمة وهي ببلاد الكفار أكثر منها ببلاد الإسلام وليست بمتملكة لكثرتها والمجلوب إلى بلادنا منها هو العيدان والذي يسميه أهل بلادنا نوّار القرنفل هو الذي يسقط من زهره وهو شبيه بزهر النارنج وثمر القرنفل هو جوز بوا المعروفة في بلادنا بجوزة الطيب والزهر المتكون فيها هو البساسة رأيت ذلك كله وشاهدته. ووصلنا إلى مرسى قاقلة فوجدنا به جملة من الجنوك معد للسرقة ولمن يستعصي عليهم من الجنوك فإن لهم على كل جنك وظيفة. ثم نزلنا من الجنك إلى مدينة قَاقُلة "وهي بقافين

آخرها مضموم ولامها مفتوح"، وهي مدينة حسنة، عليها سور من حجارة منحوتة عرضه بحيث تسير فيه ثلاثة من الفيلة. وأول ما رأيت بخارجها الفيلة عليها الأحمال من العود الهندي يوقدونه في بيوتهم وهو بقيمة الحطب عندنا أو أرخص ثمناً هذا إذا ابتاعوا فيما بينهم. وأما التجار فيبيعونه الحمل منه بثوب من ثياب القطن وهي أغلى عندهم من ثياب الحرير. والفيلة بها كثيرة جداً عليها يركبون ويحملون وكل إنسان يربط فيلته على بابه، وكل صاحب حانوت يربط فيله عنده يركبه إلى داره ويحمل له. وكذلك جميع أهل الصين والخطا على مثل هذا الترتيب. وكان سلطان مُل جاوة كافراً، رأيته خارج قصره جالساً على قبة ليس بينه وبين الأرض بساط، ومعه أرباب دولته. والعساكر يعرضون عليه مشاة ولا خيل هنالك إلا عند السلطان وإنما يركبون الفيلة وعليها يقاتلون. فعرف شأني فاستدعاني فجئت، وقلت: السلام على من ابتع الهدى، فلم يفقهوا إلا لفظ السلام. فرحب بي وأمر أن يفرش لي ثوب أقعد عليه، فقلت للترجمان: كيف أجلس على الثوب والسلطان قاعد على الأرض؟ فقال: هكذا عادته يقعد على الأرض تواضعاً، وأنت ضيف، وجئت من عند سلطان كبير فيجب إكرامك، فجلست وسألني عن السلطان فأوجز في سؤاله، وقال لي: تقيم عندنا في الضيافة ثلاثة أيام وحينئذ يكون انصرافك. ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلاً بيده سكين شبه سكين المسعر قد وضعه على رقبة نفسه وتكلم بكلام كثير لم أفهمه ثم أمسك السكين بيديه معاً وقطع عنف نفسه فوقع رأسه لحدة السكين وشدة إمساكه بالأرض فعجبت من شأنه وقال لي السلطان: أيفعل أحد هذا عندكم؟ فقلت له: ما رأيت هذا قط. فضحك، وقال: هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبتنا. وأمر به فرفع وأحرق وخرج لإحراقة النواب وأرباب الدولة والعساكر والرعايا وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه وعظموا لأجل فعله. وأخبرني من كان حاضراً في ذلك المجلس أن الكلام الذي تكلم به كان تقريراً لمحبته في السلطان وأنه يقتل نفسه في حبه كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه وجده نفسه في حب جده ثم انصرفت عن المجلس وبعث إلي بضيافة ثلاثة أيام. وسافرنا في البحر فوصلنا بعد أربعة وثلاثين يوماً في البحر الكاهل، وهو الراكد وفيه حمرة زعموا

أنها من تربة أرض تجاوره. ولا ريح فيه ولا موج ولا حركة مع اتساعه. ولأجل هذا البحر تتبع كل جنك من جنوك الصين ثلاثة من مراكب، كما ذكرناه، تجذف به فتجره. ويكون في الجنك مع ذلك نحو عشرين مجذافاً كبار كالصواري، يجتمع على المجذاف منها ثلاثون رجلاً أو نحوها ويقومون قياماً صفين كل صف يقابل الآخر. وفي المجذاف حبلان عظيمان كالطوابيس. فتجذف إحدى الطائفتين الحبل ثم تتركه وتجذف الطائفة الأخرى. وهم يغنون عند ذلك بأصواتهم الحسان، وأكثر ما يقولون: لعلى لعلى. وأقمنا على ظهر هذا البحر سبعة وثلاثين يوماً وعجبت البحرية من التسهيل فيه فإنهم يقيمون فيه خمسين يوماً إلى أربعين وهي أنهى ما يكون التيسير عليهم. ثم وصلنا إلى بلاد طوالسي وهي "بفتح الطاء المهمل والواو وكسر السين المهمل" وملكها هو المسمى بطوالسي. وهي بلاد عريضة وملكها يضاهي ملك الصين. وله الجنوك الكثيرة يقاتل بها أهل الصين حتى يصالحوه على شيء. وأهل هذه البلاد عبدة أوثان حسان الصورة أشبه الناس بالترك في صورهم والغالب على ألوانهم الحمرة ولهم شجاعة ونجدة. ونساؤهم يركبن الخيل ويحسن الرماية ويقاتلن كالرجال سواء. وأرسينا من مراسيهم بمدينة كَيْلُوكِري "وضبطها بكاف مفتوح وياء آخر الحروف مسكنة ولام مضموم وراء مكسور"، وهي من أحسن مدنهم وأكبرها وكان يسكن بها ابن ملكهم. فلما أرسينا بالمرسى جاءت عساكرهم ونزل الناخوذة إليهم ومعه هدية لابن الملك فسألهم عنه فأخبروه أن أباه ولاه بلداً غيره وولى بنته بتلك المدينة واسمها أُرْدُجا "بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهمل وجيم". ولما كان اليوم الثاني من حلولنا بمرسى كيلوكري، استدعت هذه الملكة الناخوذة صاحب المركب والكراني وهو الكاتب والتجار والرؤساء والتنديل وهو مقدم الرجال وسباه سالار وهو مقدم الرماة لضيافة صنعتها لهم على عادتها. ورغب الناخوذة مني أن أحضر معهم. فأبيت لأنهم كفار لا يجوز أكل طعامهم. فلما حضروا عندها قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر؟ فقال لها الناخوذة: لم يبق إلى رجل واحد بَخْشِي، وهو القاضي بلسانهم، وبخشي "بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء وكسر الشين المعجمة"، وهو لا يأكل طعامكم. فقالت: ادعوه. فجاء جنادرتها وأصحاب الناخوذة، فقالوا: أجب

الملكة. فأتيتها وهي بمجلسها الأعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمة يعرضن ذلك عليها. وحولها النساء القواعد وهن وزيراتها وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل وبين يديها الرجال. ومجلسها مفروش بالحرير وعليه ستور حرير وخشبة من الصندل وعليه صفائح الذهب. وبالمجلس مساطب خشب منقوش عليها أواني ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال والبواقيل. أخبرني الناخوذة أنها مملوؤة بشراب مصنوع من السكر مخلوط بالأفاوية يشربونه بعد الطعام وإنه عطر الرائحة حلو المطعم يفرح ويطيب النكهة ويهضم ويعين على الباءة، فلما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية: حسن مسن يخشى مسن "خوشميسن يخشميسن" معناه: كيف حالك؟ كيف أنت؟ وأجلستني على قرب منها وكانت تحسن الكتاب العربي، فقالت لبعض خدامها: دواة وبتك كاتور "كتور" معناه: الدواة والكاغد. فأتى بذلك فكتبت بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت: ما هذا؟ فقلت لها: تنضري "تنكري" نام. وتَنْضَري "بفتح التاء المعلوة وسكون النون وفتح الضاد وراء وياء"، ونام "بنون وألف وميم" ومعنى ذلك اسم الله. فقالت: خشن "خوشن"، ومعناه جيد. ثم سألتني من أي البلاد قدمت. فقلت لها من بلاد الهند. فقالت: بلاد الفلفل. فقلت: نعم. فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها فأجبتها. فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفسي فإني يعجبني أكثر ما لها وعساكرها. فقلت لها: افعلي. وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز وبجاموستين وعشر من الضأن وأربعة أرطال جلاب وأربعة مرطبانات وهي أوان ضخمة مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والعنبا. كل ذلك مملوح مما يستعد للبحر، وأخبرني الناخوذة أن هذه الملكة لها في عسكرها نسوة وخدم وجوار يقاتلن كالرجال وأنها تخرج في العساكر من رجال ونساء فتغير على عدوها وتشاهد القتال وتبارز الأبطال. وأخبرني أنها وقع بينها وبين بعض أعدائها قتال شديد وقتل كثير من عسكرها وكادوا ينهزمون فدفعت بنفسها وخرقت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله فطعنته طعنة كان فيها حتفه فمات وانهزمت عساكره. وجاءت برأسه على رمح فافتداه أهله منها بمالٍ كثير. فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها. وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني.

فيتحامون مبارزتها خوف المعرة إن غلبتهم. ثم سافرنا عن بلاد طوالسي فوصلنا بعد سبعة عشر يوماً والريح مساعدة لنا ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين. وإقليم الصين متسع كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض. ويخترقه النهر المعروف بآب حياة، معنى ذلك ماء الحياة ويسمى أيضا نهر السبر "السرو" كاسم النهر بالهند ومنبعه من جبال بقرب مدينة خان بالق تسمى كوه بوزنه، معناه: جبل القرود ويمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين. وتكتنفه القرى والمزارع والبساتين والأسواق كنيل مصر، إلا أن هذا أكثر عمارة وعليه النواعير الكثيرة. وببلاد الصين السكر الكثير مما يضاهي المصري بل يفضله والأعناب والإجاص. وكنت أظن أن الإجاص العثماني الذي بدمشق لا نظير له حتى رأيت الإجاص الذي بالصين. وبها البطيخ العجيب يشبه بطيخ خوارزم وأصفهان. وكل ما ببلادنا من الفواكه فإن بها ما هو مثله وأحسن منه. والقمح بها كثير جداً ولم أر قمحاً أطيب منه، وكذلك العدس والحمص. وأما الفخار الصيني فلا يصنع منه إلا بمدينة الزيتون وبصين كلان. وهو من تراب جبال هنالك تقد فيه النار كالفحم وسنذكر ذلك، ويضيفون إليه حجارة عندهم. ويوقدون النار عليها ثلاثة أيام ثم يصبون عليها الماء فيعود الجميع تراباً ثم يخمرونه، فالجيد منه ما خمر شهراً كاملاً ولا يزاد على ذلك. والدون ما خمر عشرة أيام. وهو هنالك بقيمة الفخار ببلادنا أو أرخص ثمناً ويحمل إلى الهند وسائر الأقاليم حتى يصل إلى بلاد بالمغرب وهو أبدع أنواع الفخار. ودجاج الصين وديوكها ضخمة جداً أضخم من الأوز عندنا وبيض الدجاج عندهم أضخم من بيض الأوز عندنا، وأما الأوز عندهم فلا ضخامة لها. ولقد اشترينا دجاجة فأردنا طبخها فلم يسع لحمها في برمة واحدة فجعلناه في برمتين. ويكون الديك بها على قدر النعامة. وربما انتتف ريشه فيبقى بضعة حمراء. وأول ما رأيت الديك الصيني بمدينة كولم فظننته نعامة وعجبت منه، فقال لي صاحبه: إن ببلاد الصين ما هو أعظم منه. فلما وصلت إلى الصين رأيت مصداق ما أخبرني به من ذلك.

وأهل الصين كفار يعبدون الأصنام ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود. وملك الصين تتري من ذرية تنكيزخان. وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم. ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها. وهم معظمون محترمون. وكفار الصين يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم. وهم أهل رفاهية وسعة عيش إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس. وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشنة. وجميع أهل الصين إنما يحتفلون في أواني الذهب والفضة. ولكل واحد منهم عكاز يعتمد عليه في المشي ويقولون هو الرجل الثالثة. والحرير عندهم كثير جداً لأن الدود تتعلق بالثمار وتأكل منها فلا تحتاج إلى كثير مؤنة ولذلك كثر وهو لباس الفقراء والمساكين بها ولولا التجار لما كانت له قيمة. ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير. وعادتهم أن يسبك التاجر ما يكون عنده من الذهب والفضة قطعاً تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه ويجعل ذلك على باب داره. ومن كان له خمس قطع منها جعل في أصبعه خاتماً ومن كانت له عشر جعل خاتمين ومن كان له خمس عشرة سموه السّتي "بفتح السين المهمل وكسر التاء المعلوة" وهو بمعنى الكارمي بمصر. ويسمون القطعة الواحدة منها بَرْكالة "بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف واللام". وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعا كما ذكرناه وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بَالِشْت "بباء موحدة وألف ولام مكسور وسين معجم مسكن وتاء معلوة"، وهو بمعنى الدينار عندنا. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا فأخذ عوضها جدداً ودفع تلك ولا يعطى على ذلك أجرة ولا سواها لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة أو دينار يريد شراء شيء لم يأخذ منه ولا يلتفت إليه حتى يصرفه بِالبَالِشت ويشتري به ما أراد. وجميع أهل الصين والخطا، إنما فحمهم تراب عندهم منعقد كالطفل

عندنا، ولونه لون الطفل تأتي الفيلة بالأحمال منه فيقطعونه قطعاً على قدر قطع الفحم عندنا ويشعلون النار فيه فيقد كالفحم وهوأشد حرارة من نار الفحم، وإذا صار رماداً عجنوه بالماء ويبسوه وطبخوا به ثانية ولا يزالون يفعلون به كذلك إلى أن يتلاشى. ومن هذا التراب يصنعون أواني الفخار الصينني ويضيفون إليه حجارة سواه كما قلناه. وأهل الصين أعظم الأمم إحكاما للصناعات، وأشدهم إتقانا فيها، وذلك مشهور من حالهم قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا سواهم. فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً. ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلاّ ورأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد موضوعة في الأسواق. ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فممرت على سوق النقاشين ووصلت إلى قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زي العراقيين فلما عدت من القصر عشياً مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط. فجعل الواحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئاً من شبهه. وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك وأنهم أتوا إلى القصر ونحن به فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثت صورته إلى البلاد وبحث عنه فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ. قال ابن جزي: هذا مثل ما حكاه أهل التاريخ من قضية سابور ذي الأكتاف ملك الفرس حين دخل بلاد الروم متنكراً وحضر وليمة صنعها ملكهم وكانت صورته على بعض الأواني فنظر إليه بعض خدام قيصر فانطبعت على صورة سابور. فقال لملكه: إن هذه الصورة تخبرني أن كسرى معنا في هذا المجلس. فكان الأمر كما قاله، وجرى فيه ما هو مسطور في الكتب. وعادة أهل الصين إذا أراد جنك من جنوكهم السفر، صعد إليه صاحب

البحر وكتابه، وكتبوا من يسافر فيه من الرماة والخدام والبحرية وحينئذ يباح لهم السفر. فإذا عاد الجنك إلى الصين صعدوا إليه أيضاً وقابلوا ما كتبوه بأشخاص الناس فإن فقدوا أحدا مما قيدوه طلبوا صاحب الجنك به. فإما أن يأتي ببرهان على موته أو فراره أو غير ذلك مما يحدث عليه وإلا أخذ فيه. فإذا فرغوا من ذلك أمروا صاحب المركب أن يملي عليهم تفصيلاً بجميع ما فيه من السلع قليلها وكثيرها ثم ينزل من فيه ويجلس حفاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم. فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم عاد الجنك بجميع ما فيه مالاً للمخزن وذلك نوع من الظلم ما رأيته ببلاد من بلاد الكفار ولا المسلمين إلا بالصين، اللهم إلا أنه كان بالهند ما يقرب منه. وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين خيّر في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معين أو في الفندق، فإن أحب النزول عند التاجر حصر ماله وضمنه التاجر المستوطن وأنفق عليه منه بالمعروف. فإذا أراد السفر بحث عن ماله فإن وجد شيء منه قد ضاع أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمنه، وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه فإن أراد التسري اشترى له جارية وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق وأنفق عليهما. والجواري رخيصات الأثمان؛ لأن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم وليس ذلك عيباً عندهم غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم ولا يمنعون أيضاً منه إن اختاروه. وكذلك أن أراد التزوج تزوج. وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه. ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا، فإنها أرض ضلال. وبلاد الصين آمن البلاد وأحسنها حالاً للمسافرين. فإن الإنسان يسافر منفرداً مسيرة تسعة أشهر وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها. وترتيب ذلك أنّ لهم في كل منزل ببلادهم فندقاً عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب والعشاء جاء الحاكم إلى الفندق ومعه كاتبه فكتب أسماء جميع من يبيت به من المسافرين وختم عيها وأقفل باب الفندق عليهم. فإذا كان بعد الصبح جاء ومعه كاتبه فدعا كل

إنسان باسمه وكتب به تفصيلا وبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل الثاني له ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه. وإن لم يفعل طلبه بهم. وهكذا العمل في كل منزل ببلادهم من صين الصين إلى خان بالق. وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إلى المسافر من الأزواد وخصوصاً الدجاج والأوز. وأما الغنم فهي قليلة عندهم. ولنعد إلى ذكر سفرنا فنقول: لما قطعنا البحر كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون. وهذه المدينة ليس بها زيتون ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند ولكنه اسم وضع عليها وهي مدينة عظيمة كبيرة، تصنع بها ثياب الكمخا والأطلسـ وتعرف بالنسبة إليها وتفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا أو هو أعظمها رأيت به نحو مائة جنك كبار وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر الأعظم. وهذه المدينة وجميع بلاد الصين يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا. وبهذا عظمت بلادهم. والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة. وفي يوم وصولي إليها رأيت بها الأمير الذي توجه إلى الهند رسولاً بالهدية ومضى في صحبتنا وغرق به الجنك فسلم علي وعرف صاحب الديوان بي فأنزلني في منزل حسن. وجاء إلي قاضي المسلمين تاج الدين الأردويلي وهو من الأفاضل الكرماء وشيخ الإسلام كمال الدين عبد الله الأصفهاني وهو من الصلحاء وجاء إلي كبار التجار فيهم شرف الدين التبريزي أحد التجار الذي استدنت منهم حين قدومي على الهند وأحسنهم معاملة حافظ للقرآن مكثر للتلاوة. وهؤلاء التجار لسكناهم في بلاد الكفار إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح وقالوا جاء من أرض الإسلام وله يعطون زكوات أموالهم فيعود غنياً كواحد منهم. وكان بها من المشايخ الفضلاء برهان الدين الكازورني له زاوية خارج البلد وإليه يدفع التجار النذور التي ينذرونها للشيخ أبي إسحاق الكازروني. ولما عرف صاحب الديوان أخباري كتب إلى القان وهو ملكهم الأعظم يخبره بقدومي من جهة ملك الهند. فطلبت منه أن يبعث معي من يوصلني إلى بلاد الصين "صين الصين"، وهم يسمونها صين كلان لأشاهد تلك البلاد وهي في عمالته بخلال ما يعود جواب القان. فأجاب إلى ذلك وبعث معي من أصحابه من يوصلني. وركبت في النهر في مركب يشبه أجفان بلادنا الغزوية، إلا أن الجذافين يجذفون فيه قياماً، وحميعهم في وسط المركب،

والركاب في المقدم والمؤخر، ويظلون على المركب بثياب تصنع من نبات ببلادهم يشبه الكتان وليس به وهو أرق من القنب. وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوماً. وفي كل يوم نرسو عند الزوال بقرية نشترى بها ما تحتاج إليه ونصلي الظهر ثم ننزل بالعشي إلى أخرى وهكذا إلى أن وصلنا مدينة صين كلان "بفتح الكاف" وهي مدينة صين الصين. وبها يصنع الفخار، وبالزيتون أيضاً، وهنالك يصب نهر آب حياة في البحر ويسمونه مجمع البحرين وهي من أكبر المدن وأحسنها أسواقاً ومن أعظم أسواقها سوق الفخار ومنها يحمل إلى سائر بلاد الصين والهند واليمن. وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة لها تسعة أبواب داخل كل باب أسطوان ومصاطب يقعد عليها الساكنون بها. وبين البابين الثاني والثالث منها موضع فيه بيوت يسكنها العميان وأهل الزمانات. ولكل واحد منهم نفقته وكسوته من أوقاف الكنيسة. وكذلك فيما بين الأبواب كلها. وفي داخلها المارستان للمرضى، والمطبخة لطبخ الأغذية، وفيها الأطباء والخدام. وذكر لي أن الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب، لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة، وكذلك الأيتام والأرامل ممن لا مال لهم. وعمر هذه الكنيسة بعض ملوكهم وجعل هذه المدينة وما إليها من القرى والبساتين وقفاً عليها. وصورة ذلك الملك مصورة بالكنيسة المذكورة وهم يعبدونها. وفي بعض جهات هذه المدينة بلدة المسلمين لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق ولهم قاض وشيخ ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه وقاض يقضي بينهم. وكان نزولي عند أوحد الدين السنجاري وهو أحد الفضلاء الأكابر ذوي الأموال الطائلة، وأقمت عنده أربعة عشر يوماً وتحف القاضي وسائر المسلمين تتوالى علي. وكل يوم يصنعون دعوة جديدة ويأتون إليها بالعشارين الحسان والمغنين وليس وراء هذه المدينة مدينة، لا للكفار ولا للمسلمين. وبينها وبين سد يأجوج ومأجوج ستون يوماً فيما ذكر لي، يسكنها كفار رحالة يأكلون بني آدم إذا ظفروا بهم. ولذلك لا تسلك بلادهم ولا يسافر إليها ولم أر بتلك البلاد من رأى السد المذكور ولا من رأى من رآه. ولما كنت بصين كلان سمعت أن بها شيخاً كبيراً قد أناف على مائتي سنة وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ولا يباشر النساء مع قوته التامة، وأنه

ساكن في غار بخارجها يتعبد فيه فتوجهت إلى الغار فرأيته على بابه وهو نحيف شديد الحمرة عليه أثر العبادة ولا لحية له فسلمت عليه فأمسك يدي وشمها. وقال للترجمان: هذا من طرف الدنيا كما نحن من طرفها الآخر. ثم قال لي: لقد رأيت عجباً. أتذكر قدومك الجزيرة التي فيها الكنيسة والرجل الذي كان بين الأصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب؟ فقلت: نعم. فقال أنا هو فقبلت يده. وفكر ساعة ثم دخل الغار فلم يخرج إلينا وكأنه ظهر منه الندم على ما تكلم به فتجهمنا ودخلنا عليه فلم نجده. ووجدنا بعض أصحابه ومعه جملة بوالشت من الكاغد فقال: هذه ضيافتكم فانصرفوا. فقلنا له: ننتظر الرجل. فقال لو أقمتم عشر سنين لم تروه فإن عادته إذا أطلع أحد على سر من أسراره لا يراه بعده ولا تحسب أنه غاب عنك بل هو حاضر معك فعجبت من ذلك وانصرفت. فاعلمت القاضي وشيخ الإسلام وأوحد الدين السنجاري بقضيته، فقالوا: كذلك عادته مع من يأتي إليه من الغرباء ولا يعلم أحد ما ينتحله من الأديان والذي ظننتموه أحد أصحابه هو. وأخبروني أنه غاب عن هذه البلاد نحو خمسين سنة ثم قدم عليها منذ سنة. وكان السلاطين والأمراء والكبراء يأتونه زائرين فيعطيهم التحف على أقدارهم. ويأتيه الفقراء كل يوم فيعطي لكل احد على قدره. وليس في الغار الذي هو به ما يقع عليه البصر وأنه يحدث عن السنين الماضية ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: لوكنت معه لنصرته ويذكر الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بأحسن الذكر ويثني عليهما. ويلعن يزيد بن معاوية ويقع في معاوية. وحدثوني عنه بأمور كثيرة. وأخبرني أوحد الدين السنجاري قال: دخلت عليه الغار فأخذ بيدي فخيل لي أني في قصر عظيم وأنه قاعد فيه على سرير وفوق رأسه تاج وعن جانبيه الوصائف الحسان والفواكه تتساقط في أنهار هنالك وتخيلت أني أخذت تفاحة لآكلها فإذا أنا بالغار وبين يديه وهو يضحك مني وأصابني مرض شديد لازمني شهوراً فلم أعد إليه. وأهل تلك البلاد يعتقدون أنه مسلم. لكن لم يره أحد يصلي وأما الصيام فهو صائم أبداً. وقال لي القاضي: ذكرت له الصلاة في بعض الأيام فقال لي أتدري أنت ما أصنع؟ أن صلاتي غير صلاتك. وأخباره جميعها غريبة. وفي

اليوم الثاني من لقائه سافرت راجعاً إلى مدينة الزيتون. وبعد وصولي إليها بأيام جاء أمر القان بوصولي إلى حضرته على البر والكرامة. إن شئت في النهر وإلا ففي البر، فاخترت السفر في النهر فجهزوا لي مركباً حسنا من المراكب المعدة لركوب الأمراء، وبعث الأمير معنا أصحابه، ووجه لنا الأمير والقاضي والتجار المسلمون أزوادا كثيرة. وسرنا في الضيافة نتغدى بقرية ونتعشى بأخرى فوصلنا بعد سفر عشرة أيام إلى مدينة قَنْجَنْفُو "وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الجيم وسكون النون الآخر وضم الفاء وواو" وهي مدينة كبيبرة حسنة في بسيط أفيح، والبساتين محدقة بها فكأنها غوطة دمشق. وعند وصولنا خرج إلينا القاضي وشيخ الإسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب. وأتونا بالخيل فركبنا ومشوا بين أيدنيا لم يركب معنا غير القاضي والشيخ. وخرج أمير البلد وخدامه. وضيف السلطان عندهم معظم أشد التعظيم. ودخلنا المدينة ولها أربعة أسوار يسكن ما بين السور الأول والثاني عبيد السلطان من حراس المدينة وسمارها، يسمون البَصْوانان "الباسوانان" "بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهمل وواو وألف ونون"، ويسكن ما بين السور الثاني والثالث الجنود لمركبون، والأمير الحاكم على البلد، ويسكن داخل السور الثالث المسلمون. وهنالك نزلنا عند شيخهم ظهير الدين القُرْلاني "بضم القاف وسكون الراء" ويسكن داخل السور الرابع الصينيون، وهوأعظم المدن الأربعة. ومقدار ما بين كل باب منها والذي يليه ثلاثة أميال وأربعة ولكل إنسان كما ذكرناه بستانه وداره وأرضه. وبينا أنا يوماً في دار ظهير الدين القُرلاني إذا بمركب عظيم لبعض الفقهاء المعظمين عندهم فاستؤذن له علي، وقالوا: مولانا قوام الدين السبتي فعجبت من اسمه. ودخل إلي. فلما حصلت المؤانسة بعد التحية سنح لي أن أعرفه فأطلت النظر إليه، فقال: أراك تنظر إلي نظر من يعرفني. فقلت له: من أي البلاد أنت؟ فقال: من سبته. فقلت له: وأنا من طنجة. فجدد السلام علي وبكى حتى بكيت لبكائه. فقلت له: هل دخلت بلاد الهند؟ فقال لي: نعم دخلت حضرة دهلي. فلما قال لي ذلك تذكرت، وقلت له أأنت البشري؟ قال: نعم. وكان وصل إلى دهلي مع خاله أبي القاسم المرسي وهو يومئذ شاب لا نبات بعارضيه من حذاق الطلبة يحفظ الموطأ. وكنت أعلمت سلطان الهند

بأمره، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وطلب منه الإقامة عنده فأبى. وكان قصده في بلاد الصين فعظم شأنه بها، واكتسب الأموال الطائلة. أخبرني أن له نحو خمسين غلاماً ومثلهم من الجواري وأهدى إلي منهم غلامين وجاريتين وتحفاً كثيرة. ولقيت أخاه بعد ذلك ببلاد السودان فيا بعد ما بينهما. وكانت إقامتي بقنجنفو خمسة عشر يوماً. وسافرت منها. وبلاد الصين على ما فيها من الحسن لم تكن تعجبني، بل كان خاطري شديد التغير بسبب غلبة الكفر عليها. فمتى خرجت عن منزلي رأيت المناكير الكثيرة فأقلقني ذلك حتى كنت ألازم المنزل فلا أخرج إلا للضرورة وكنت إذا رأيت المسلمين بها فكأني لقيت أهلي وأقاربي. ومن تمام فضيلة هذا الفقيه البشري أن سافر معي لما رحلت عن قنجنفو أربعة أيام حتى وصلت إلى مدينة بَيْوَمقُطْلو "وهي بباء موحدة مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة ووواو مفتوحة وميم وقاف مضمومة وطاء مسكنة وطاء مسكنة ولام مضموم وواو" مدينة صغيرة يسكنها الصينيون من جند وسوقة وليس بها للمسلمين إلا أربعة من الدور أهلها من جهة الفقيه المذكور. نزلنا بدار أحدهم وأقمنا عنده ثلاثة أيام ثم ودعت الفقيه وانصرفت. فركبت النهر على العادة نتغدى بقرية ونتعشى بأخرى إلى أن وصلنا بعد سبعة عشر يوماً منها إلى مدينة الخنساء واسمها على نحو اسم الخنساء الشاعرة، ولا أدري أعربي هو أم وافق العربي. وهذه المدينة أكبر مدينة رأيتها على وجه الأرض. طولها مسيرة ثلاثة أيام يرحل المسافر فيها وينزل. وهي على ما ذكرناه من ترتيب عمارة الصين كل واحد له بستانه وداره وهي منقسمة إلى ست مدن سنذكرها. وعند وصولنا إليها خرج إلينا قاضيها فخر الدين وشيخ الإسلام بها وأولاد عثمان بن عفان المصري، وهم كبراء المسلمين بها، ومعهم علم أبيض والأطبال والأنفار والأبواق. وخرج أمير ها في موكبه ودخلنا المدينة. وهي ست مدن على كل مدينة سور ومحدق بالجميع سور واحد. فأول مدينة منها يسكنها حراس المدينة وأميرهم. حدثني القاضي وسواه انهم اثنا عشر ألفا في زمام العسكرية. وبتنا ليلة دخولنا في دار أميرهم. وفي اليوم الثاني دخلنا المدينة الثانية على باب يعرف بباب اليهود ويسكن بها اليهود والنصارى والترك عبدة الشمس وهم كثير. وأمير هذه المدينة من أهل الصين. وبتنا عنده الليلة الثانية.

وفي اليوم الثالث دخلنا المدينة الثالثة ويسكنها المسلمون ومدينتهم حسنة وأسواقهم مرتبة كترتيبها في بلاد الإسلام وبها المساجد والمؤذنون سمعناهم يؤذنون بالظهر عند دخولنا ونزلنا منها بدار أولاد عثمان بن عفان المصري وكان أحد التجار الكبار استحسن هذه المدينة فاستوطنها وعرفت بالنسبة إليه وأورث عقبه بها الجاه والحرمة وهم على ما كان عليه أبوهم من الإيثار على الفقراء والإعانة للمحتاجي. ن ولهم زاوية تعرف بالعثمانية حسنة العمارة لها أوقاف كثيرة وبها طائفة من الصوفية وبني عثمان المذكور المسجد الجامع بهذه لمدينة ووقف عليه وعلى الزاوية أوقاف عظيمة وعدد المسلمين بهذه المدينة كثير. وكانت إقامتنا عندهم خمسة عشر يوماً فكنا كل يوم وليلة في دعوة جديدة ولا يزالون يختلفون في أطعمتهم ويركبون معنا كل يوم للنزهة في أقطار المدينة، وركبوا معي يوماً فدخلنا إلى المدينة الرابعة وهي دار الإمارة وبها سكنى الأمير الكبير قرطي ولما دخلنا من بابها ذهب عني أصحابي. ولقيني الوزير وذهب بي إلى دار الأمير الكبير قرطي فكان من أخذه الفرجية التي أعطانيها ولي الله جلال الدين الشيرازي ما قد ذكرته. وهذه المدينة منفردة لسكنى عبيد السلطان وخدامه وهي أحسن المدن الست. ويشقها أنهار ثلاثة أحدها خليج يخرج من النهر الأعظم وتأتي فيه القوارب الصغار إلى هذه المدينة بالمرافق من الطعام وأحجار الوقود وفيه السفن للنزهة. والمشور في وسط هذه المدينة وهو كبير جداً. ودار الإمارة في وسطه وهو يحف بها من جميع الجهات. وفيه سقائف فيها الصناع يصنعون الثياب النفيسة وآلات الحرب. أخبرني الأمير قرطي أن عددهم ألف وستمائة معلم. كل واحد منهم يتبعه الثلاثة والأربعة من المتعلمين وهم أجمعون عبيد القان وفي أرجلهم القيود ومساكنهم خارج القصر. ويباح لهم الخروج إلى أسواق المدينة دون الخروج على بابها. ويعرضون كل يوم على الأمير مائة مائة، فإن نقص أحدهم طلب به أميره. وعادتهم أنه إذا خدم أحدهم عشر سنين فك عنه قيده وكان يخير في النظرين إما أن يقيم في الخدمة غير مقيد وإما أن يسير حيث شاء من بلاد القان ولا يخرج عنها. وإذا بلغ سنة خمسين عاماً أعتق من الأشغال وأنفق عليه وكذلك ينفق على من بلغ هذه السن أو نحوها من سواهم. ومن بلغ ستين

سنة عدوه كالصبي فلم تجر عليه الأحكام. والشيوخ بالصين يعظمون تعظيماً كثيراص ويسمى أحدهم آطا، ومعناه الوالد. وكان الأمير الكبير قُرْطيْ وضبط اسمه "بضم القاف وسكون والراء وفتح الطاء المهمل وسكون الياء" أمير أمراء الصين، أضافنا بداره وصنع الدعوة ويسمونها الطُّوى "بضم الطاء المهمل وفتح الواو" وحضرها كبار المدينة. وأتى بالطباخين المسلمين فذبحوا وطبخوا الطعام. وكان هذا الأمير على عظمته يناولنا الطعام بيده ويقطع اللحم بيده. وأقمنا في ضيافته ثلاثة أيام وبعث ولده معنا إلى الخليج. فركبنا في سفينة تشبه الحراقة، وركب ابن الأمير في أخرى، ومعه أهل الطرب وأهل الموسيقى وكانوا يغنون بالصيني وبالعربي وبالفارسي، وكان ابن الأمير معجباً بالغناء الفارسي، فغنوا شعرا منه. وأمرهم بتكريره مراراً حتى حفظته من أفواههم. وله تلحين عجيب وهو: تادل بمحنت داديم ... در بحر فكر افتاديم جن "جون در نماز استاديم ... قوي بمحراب اندرى "اندريم"1 واجتمعت بذلك الخليج من السفن طائفة كبيرة لهم القلاع الملونة ومظلات الحرير وسفنهم منقوشة أبدع نقش وجعلوا يتحاملون ويترامون بالنارنج والليمون. وعدنا بالعشي إلى دار الأمير فبتنا بها وحضر أهل الطرب فغنوا بأنواع من الغناء العجيب. وفي تلك الليلة حضر أحد المشعوذة، وهو من عبيد القان، فقال له الأمير: أرنا من عجائبك فأخذ كرة خشب لها ثقب فيها سيور طوال فرمى بها إلى الهواء فارتفعت حتى غابت عن الأبصار ونحن في وسط المشور أيام الحر الشديد فلما لم يبق من السير في يده إلا يسير أمر متعلما له فتعلق به وصعد في الهواء إلى أن غاب عن أبصارنا فدعاه فلم يجبه ثلاثاً، فأخذ سكيناً بيده كالمغتاظ وتعلق بالسير إلى أن غاب أيضاً، ثم رمى بيد الصبي إلى الأرض ثم رمى برجله ثم بيده الأخرى ثم برجله الأخرى ثم بجسده ثم برأسه، ثم هبط وهو ينفخ وثيابه ملطخة بالدم. فقبل الأرض بين يدي الأمير، وكلمه

_ 1 معنى هذا الشعر: إننا منذ أسلمنا أنفسنا للأحزان غرقنا في بحر التفكير، ولكنا عندما نقف بالمحراب لنصلي نكون أقوياء.

بالصيني وأمر له الأمير بشيء. ثم أنه أخذ أعضاء الصبي فألصق بعضها ببعض وَرَكَلَهُ برجله فقام سوياً فعجبت منه. وأصابني خقفان القلب كمثل ما كان أصابني عند ملك الهند حين رأيت مثل ذلك فسقوني دواء أذهب عني ما وجدت. وكان القاضي فخر الدين إلى جانبي، فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو وإنما شعوذة. وفي غد تلك الليلة دخلنا من باب المدينة الخامسة وهي من أكبر المدن يسكنها عامة الناس وأسواقها حسان وبها الحذاق بالصنائع وبها تصنع الثياب الخنساوية. ومن عجيب ما يصنعون بها أطباقاً يسمونها الدست، وهي من القصب وقد ألصقت قطعة أبدع إلصاق ودهنت بصبغ أحمر مشرق وتكون هذه الأطباق عشرة واحداً في جوف آخر لرقتها تظهر لرائيها كأنها طبق واحد. ويصنعون غطاء يغطى جميعها ويصنعون من هذا القصب صحافاً. ومن عجائبها أن تقع من العلو فلا تنكسر ويجعل فيها الطعام السخن فلا يتغير صباغها ولا يحول. وتجلب من هنالك إلى الهند وخراسان وسواها. ولما دخلنا هذه المدينة بتنا ليلة في ضيافة أميرها. وبالغد دخلنا من باب يسمى كشتي وانان إلى المدينة السادسة. ويسكنها البحرية والصيادون والجلافطة والنجارون، ويدعون دودكاران "درودكران" والأصباهية وهم الرماة، والبيادة وهم الرجالة، وجميعهم عبيد السلطان. ولا يسكن معهم سواهم وعددهم كثير. وهذه المدينة على ساحل النهر الأعظم بتنا بها ليلة في ضيافة أميرها وجهز لنا الأمير قُرْطَي مركبا بما يحتاج إليه من زان وسواه وبعث معنا أصحابه برسم التضييف. وسافرنا من هذه المدينة وهي آخر أعمال الصين ودخلنا إلى بلاد الخطا "بكسر الخاء المعجم وطاء مهمل"، وهي أحسن بلاد الدنيا عمارة. ولايكون في جميعها موضع غير معمور فإنه أن بقي موضع غير معمور طلب أهله أو من يواليهم بخراجه. والبساتين والقرى والمزارع منتظمة بجانبي هذا النهر من مدينة الخنسا إلى مدينة خان بالق وذلك مسيرة أربعة وستين يوماً. وليس بها أحد من المسلمين إلا من كان خاطراً غير مقيم، لأنها ليست بدار مقام وليس بها مدينة مجتمعة إنما هي قرى وبسائط فيها الزرع والفواكه والسكر ولم أر في الدنيا

مثلها غير مسيرة أربعة أيام من الأنبار إلى عانة. وكنا كل ليلة ننزل بالقرى لأجل الضيافة حتى وصلنا إلى مدينة خان بالق "ضبط اسمها بخاء معجم وألف ونون مسكن وباء معقود وألف ولام مكسور وقاف"، وتسمى أيضاً خانِقو "بخاء معجم ونون مكسور وقاف وواو"، وهي حضرة القان، والقان هو سلطانهم الأعظم الذي مملكته بلاد الصين والخِطا. ولما وصلنا إليها أرسينا على عشرة أميال منها على العادة عندهم. وكتب إلى أمراء البحر بخبرنا فأذنوا لنا في دخول مرساها فدخلناه ثم نزلنا إلى المدينة، وهي من أعظم مدن الدنيا وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها. إنما هي كسائر البلاد والبساتين بخارجها، ومدينة السلطان في وسطها كالقصبة حسبما نذكره. ونزلت عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي وهو الذي بعث إليه ملك الهند بأربعين ألف دينار واستدعاه فأخذ الدنانير وقضى بها دينه وأبى أن يسير إليه وقدم على بلاد الصين فقدمه القان على جميع المسلمين الذين ببلاده وخاطبه بصدر الجهان. والقان عندهم سمة لكل من يلي الملك ملك الأقطار كمثل ما يسمى كل من ملك بلاد اللور بأتابك واسمه بَاشَاي "بفتح الباء المعقودة والشين المعجمة وسكون الياء". وليس للكفار على وجه الأرض مملكه أكبر من مملكته. وقصره في وسط المدينة المختصة بسكناه وأكثر عمارته بالخشب المنقوش وله ترتيب عجيب. وعليه سبعة أبواب: فالباب الأول منها يجلس به الكتوال وهو أمير البوابين وله مصاطب مرتفعة عن يمين الباب ويساره فيها المماليك البرددارية وهم حفاظ باب القصر وعددهم خمسمائة رجل. وأخبرت أنهم كانوا فيما تقدم ألف رجل. والباب الثاني يجلس عليه الأصباهية وهم الرماة وعددهم خمسمائة. والباب الثالث يجلس عليه النزدارية "بالنون والزاي" وهم أصحاب الرماح وعددهم خمسمائة. والباب الرابع يجلس عليه التغدارية "بالتاء المثناة والغين المعجم"، وهم أصحاب السيوف والترسة. والباب الخامس فيه ديوان الوزارة، وبه سقائف كثيرة. فالسقيفة العظمى يقعد بها الوزير على مرتبة هائلة مرتفعة، ويسمون ذلك الموضع المسند. وبين يدي الوزير دواة عظيمة من الذهب. وتقابل هذه السقيفة سقيفة كاتب السر. وعن يمينها شقيفة كُتّاب الرسائل، وعن يمين سقيفة الوزير سقيفة كُتّاب الأشغال.

وتقابل هذه الساقئف سقائف أربع. إحداها تسمى ديوان الأشراف، يقعد بها المشرف، والثانية سقيفة ديوان المستخرج، وأميرها من كبار الأمراء، والمستخرج هو ما يبقى قبل العمال وقبل الأمراء من إقطاعاتهم، والثالثة ديوان الغوث، ويجلس فيها أحد الأمراء الكبار ومعه الفقهاء والكتاب. فمن لحقته مظلمة استغاث بهم. والرابعة ديوان البريد، يجلس فيها أمير الإخباريين. والباب السادس من أبواب القصر يجلس عليه الجندارية، وأميرهم الأعظم، والباب السابع يجلس عليه الفتيان ولهم ثلاثة سقائف: إحداهما سقيفة الحبشان منهم، والثانية سقيفة الهنود، والثالثة سقيفة الصينيين. لكل طائفة منهم أمير من الصينيين. ولما وصلنا حضرة خان بالق وجدنا القان غائباً عنها إذ ذاك وخرج للقاء ابن عمه فيروز القائم عليه بناحية قراقرم وبش بالغ من بلاد الخطا. وبينها وبين الحضرة مسيرة ثلاثة أشهر عامرة. وأخبرني صدر الجهان برهان الدين الصاغرجي أن القان لما جمع الجيوش وحشد الحشود اجتمع عليه من الفرسان مائة فوج، كل فوج منها من عشرة آلاف فارس. وأميرهم يسمى أمير طومان وكان خواص السلطان وأهل دخلته خمسين ألفاً زائداً إلى ذلك. وكانت الرجالة خمسمائة ألف. ولما خرج خالف عليه أكثر الأمراء واتفقوا على خلعه. لأنه كان قد غير أحكام اليساق وهي الأحكام التي وضعها تنكيز خان جدهم الذي خرب بلاد الإسلام. فمضوا إلى ابن عمه القائم وكتبوا إلى القان أن يخلع نفسه وتكون مدينة الخنسا إقطاعاً له فأبى ذلك وقاتلهم فانهزم وقتل. وبعد أيام من وصولنا إلى حضرته ورد الخبر بذلك فزينت المدينة وضربت الطبول والأبواق والأنفار واستعمل اللعب والطرب مدة شهر. ثم جيء بالقان المقتول، وبنحو مائة من المقتولين بني عمه وأقاربه وخواصه. فحفر للقان ناووس عظيم، وهو بيت تحت الأرض، وفرش بأحسن الفرش وجعل فيه القان بسلاحه وجعل معه ما كان في داره من أواني الذهب والفضة وجعل معه أربع من الجواري وستة من خواص المماليك معهم أواني الشراب وبني باب البيت وجعل فوقه التراب حتى صار كالتل العظيم. ثم جاءوا بأربعة أفراس فأجروها عند قبره حتى وقفت، ونصبوا خشباً على القبر وعلقوها عليه. بعد أن دخلوا في دبر كل فرس خشبة حتى خرجت من

فمه، وجعل أقارب القان المذكورون في نواويس ومعهم سلاحهم وأواني دورهم وصلبوا على قبور كبارهم. وكانوا عشرة: ثلاثة من الخيل على كل قبر وعلى قبور الباقين فرساً فرساً. وكان هذا اليوم يوما مشهوداً لم يتخلف عنه أحد من الرجال ولا النساء والمسلمين والكفار وقد لبسوا أجمعون ثياب العزاء وهي الطيالسة البيض للكفار والثياب البيض للمسلمين. وأقام خواتين القان وخواصه في الأخبية على قبره أربعين يوماً وبعضهم يزيد على ذلك إلى سنة. وصنعت هنالك سوق يباع فيها ما يحتاجون إليه من طعام وسواه. وهذه الأفعال لا أذكر أن أمة تفعلها سواهم في هذا العصر. فأما الكفار من الهنود وأهل الصين فيحرقون موتاهم وسواهم من الأمم يدفنون الميت ولا يجعلون معه أحداً لكن أخبرني الثقات ببلاد السودان أن الكفار منهم إذا مات ملكهم صنعوا له ناووسا وأدخلوا معه بعض خواصه وخدامه وثلاثين من أبناء كبارهم وبناتهم بعد أن يكسروا أيديهم وأرجلهم ويجعلون معهم أواني الشراب. وأخبرني بعض كبار مسوفة ممن يسكن بلاد كوبر مع السودان واختصة سلطانهم أنه كان له ولد. فلما مات سلطانهم أرادوا أن يدخلوا ولده مع من أدخلوه من أولادهم، قال: فقلت لهم كيف تفعلون ذلك وليس على دينكم ولا من ولدكم؟ ثم فديته منهم بمال عريض. ولما قتل القان كما ذكرناه واستولى ابن عمه فيروز على الملك اختار أن تكون حضرته مدينة قَرَاقُرُم "وضبطها بفتح القاف الأول والراء وضم الثانية وضم الراء الثانية"، لقربها من بلاد بني عمه ملوك تركستان وما وراء النهر. ثم خالفت عليه الأمراء ممن لم يحضر لقتل القان وقطعوا الطرق وعظمت الفتن. ولما وقع الخلاف وتسعرت الفتن أشار علي الشيخ برهان الدين وسواه أن أعود إلى الصين قبل تمكن الفتن، ووقفوا معي إلى نائب السلطان فيروز، فبعث معي ثلاثة من أصحابه وكتب لي بالضيافة. وسرنا منحدرين في النهر إلى الخنسا ثم إلى قنجفو ثم إلى الزيتون. فلما وصلتها وجدت الجنوك على السفر إلى الهند وفي جملتها جنك للملك الظاهر صاحب الجاوة وأهله مسلمون. وعرفني وكيله وسر بقدومي. وصادفنا الريح الطيبة عشرة أيام، فلما قاربنا بلاد طوالسي تغيرت الريح، وأظلم الجو وكثر المطر، وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس. ثم دخلنا بحراً لا نعرفه وخاف أهل الجنك فأرادوا الرجوع

لى الصين فلم يتمكن ذلك. وأقمنا اثنين وأربعين يوماً نعرف في أي البحار نحن. ولما كان في اليوم الثالث والأربعين، ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر، بيننا وبينه نحو عشرين ميلاً، والريح تحملنا إلى صوبه. فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر ولا يعهد في البحر جبل وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا فلجأ الناس إلى التضرع والإخلاص، وجددوا التوبة، وابتهلنا إلى الله بالدعاء وتوسلنا بنبيه صلى الله عليه وسلم ونذر التجار الصدقات الكثيرة وكتبتها لهم في زمام بخطي وسكنت الريح بعض سكون، ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر فعجبنا من ذلك. ورأيت البحرية يبكون ويودع بعضهم بعضاً، فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلاً هو الرخ. وإن رآنا أهلكنا. وبيننا وبينه إذ ذاك أقل من عشرة أميال. ثم إن الله تعالى منّ علينا بريح طيبة صرفتنا عن صوبه فلم نره ولا عرفنا حقيقة صورته. وبعد شهرين من ذلك اليوم وصلنا الجاوة ونزلنا إلى سمطرة فوجدنا سلطانها الملك الظاهر قد قدم من غزوة له وجاء بسبي كثير فبعث لي جاريتين وغلامين وأنزلني على العادة وحضرت إعراس ولده مع بنت أخيه. وشاهدت يوم الجلوة فرأيتهم قد نصبوا في وسط المشور منبراً كبيراً وكسوه بثياب الحرير وجاءت العروس من داخل القصر على قدميها بادية الوجه ومعها نحو أربعين من الخواتين يرفعن أذيالها من نساء السلطان وأمرائه ووزارئه وكلهن باديات الوجوه ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع وليست تلك بعادة لهن إلا في الأعراس خاصة. وصعدت العروس المنبر وبين يديها أهل الطرب رجالاً ونساء يلعبون ويغنون. ثم جاء الزوج على فيل مزيّن على ظهره سرير وفوقه قبة شبيه البوجة، والتاج على رأس العروس المذكور، وعن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة وهم أتراب العروس ليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير والدراهم على النسا عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده وجلس إلى جانبها والخواتين يروحون عليها، وجاءوا بالفوفل والتنبول. فأخذه الزوج بيده وجعل منه في فمها. ثم أخذت

هي بيديها وجعلت في فمه. ثم أخذ الزوج بفمه ورقة تنبول وجعلها في فمها وذلك كله على أعين الناس ثم فعلت هي كفعله، ثم وضع عليها الستر، ورفع المنبر وهما فيه إلى داخل القصر. وأكل الناس وانصرفوا. ثم لما كان من الغد جمع الناس وأجرى له أبوه ولاية العهد وبايعه الناس وأعطاهم العطاء الجزل من الثياب والذهب. وأقمت بهذه الجزيرة شهرين ثم ركبت في بعض الجنوك. وأعطاني السلطان كثيراً من العود والكافور والقرنفل والصندل وزودني. وسافرت عنه فوصلت بعد أربعين يوماً إلى كولم فنزلت بها في جوار القزويني قاضي المسلمين وذلك في رمضان. وحضرت بها صلاة العيد في مسجدها الجامع. وعادتهم أن يأتوا المسجد ليلاً فلا يزالون يذكرون الله إلى الصبح ثم يذكرون إلى حين صلاة العيد ثم يصلون ويخطب الخطيب وينصرفون. ثم سافرنا من كولم إلى قالقوط وأقمنا بها أياماً. وأردت العودة إلى دهلي ثم خفت من ذلك. فركبت البحر فوصلت بعد ثمان وعشرين ليلة إلى ظفار وذلك في محرم سنة ثمان وأربعين ونزلت بدار خطيبها عيسى بن طأطأ. وكان سلطان ظفار في هذه الكرة الملك الناصر بن الملك المغيث، الذي كان ملكاً بها حين وصولي إليها فيما تقدم، ونائبه سيف الدين عمر أمير جندر، التركي الأصل. وأنزلني هذا السلطان، وأكرمني. ثم ركبت البحر، فوصلت إلى مَسْقط "بفتح الميم" وهي بلدة صغيرة بها السمك الكثير المعروف بقُلب الماس. ثم سافرنا إلى مرسى القُرَيات "وضبطها بضم القاف وفتح الراء والياء آخر الحروف وألف وتاء مثناة". ثم سافرنا إلى مرسى شَبَّه "وضبط اسمها بفتح الشين المعجم وفتح الباء الموحدة وتشديدها" ثم إلى مرسى كَلْبَة، ولفظها على لفظ مؤنث الكلب. ثم إلى قلهات، وقد تقدم ذكرها. وهذه البلاد كلها من عمالة هرمز وهي محسوبة من بلاد عمان. ثم سافرنا إلى هرمز وأقمنا بها ثلاثاً. وسافرنا في البر إلى كورستان ثم إلى اللار ثم إلى خنج بال، وقد تقدم ذكر جميعها. ثم سافرنا إلى كَارْزِي وأقمنا بها ثلاثاً. ثم سافرنا إلى جَمَكَان "وضبط اسمها بفتح الجيم والميم والكاف وآخره نون"، ثم سافرنا منها إلى مَيْمَن "وضبط اسمها بفتح الميمين وبينهما ياء آخر

الحروف مسكنة وآخره نون"، ثم سافرنا إلى بَسّا "وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة والسين المهمل مع تشديدها"، ثم إلى مدينة شيراز. فوجدنا سلطانها أبا إسحاق على ملكه إلا أنه كان غائباً عنها. ولقيت بها شيخنا الصالح العالم مجد الدين قاضي القضاة وهو قد كف بصره نفعه الله ونفع به. ثم سافرت إلى ماين، ثم إلى يزدخاص، ثم إلى كليل، ثم إلى كشك زر، ثم إلى أصبهان، ثم إلى تستر، ثم إلى الحويزا، ثم إلى البصرة، وقد تقدم ذكر جميعها. وزرت بالبصرة القبور الكريمة التي بها وهي قبر الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وحليمة السعدية وأبي بكرة وأنس بن ملك والحسن البصري وثابت البناني ومحمد بن سيرين ومالك بن دينار ومحمد بن واسع وحبيب العجمي وسهل بن عبد الله التستري رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم سافر من البصرة، فوصلنا إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزرناه. ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك، ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان، واتفق في بعض تلك الأيام أن وليها بعض الأمراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم إلى مسجد صاحب الزمان، وانتظاره هنالك. ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير، فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا إنما أصابه ذلك لأجل منعه الدابة فلم تمنع بعد. ثم سافرت إلى صرصر، ثم إلى مدينة بغداد. وصلتها في شوال سنة ثمان وأربعين، ولقيت بها بعض المغاربة فعرفني بكائنة طريف، واستيلاء الروم على الخضراء. جبر الله صدع الإسلام في ذلك. وكان سلطان بغداد والعراق في عهد دخولي إليها في التاريخ المذكور الشيخ حسن بن عمة السلطان أبي سعيد رحمه الله. ولما مات أبو سعيد استولى على ملكه بالعراق وتزوج زوجته دلشاد بنت دمشق خواجة بن الأمير الجوبان حسبما كان فعله السلطان أبو سعيد من تزوج زوجة الشيخ حسن. وكان السلطان حسن غائباً عن بغداد في هذه المدة متوجها لقتال السلطان أتابك افراسياب صاحب بلاد اللور. ثم رحلت من بغداد فوصلت إلى مدينة الأنبار ثم إلى هيت ثم إلى الحديثة ثم إلى عانة. وهذه البلاد من أحسن البلاد وأخصبها. والطريق فيما بينها كثيرة العمارة كأن الماشي في سوق من الأسواق وقد ذكرنا أنا لم نر ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلاد. ثم

وصلت إلى مدينة الرحبة، وهي التي تنسب إلى مالك بن طوق. ومدينة الرحبة أحسن بلاد العراق، وأول بلاد الشام. ثم سافرنا إلى السخنة وهي بلدة حسنة، أكثر سكانها الكفار من النصارى. وإنما سميت السخنة لحرارة مائها وفيه بيوت للرجال وبيوت للنساء يستحمون فيها ويستقون الماء ليلاً ويجعلونه في السطوح ليبرد. ثم سافرنا إلى تدمر، مدينة نبي الله سليمان عليه السلام التي بنتها له الجن، كما قال النابغة: يبنون تدمر بالصُّفَّاحِ والعَمَد ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام، وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت ولداً ذكراً فبعثت حينئذ إلى جده للأم وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة لم يكن لي هم إلا السؤال عن ولدي. فدخلتُ المسجد فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم فسلمت عليه فلم يعرفني فعرفته بنفسي، وسألته عن الولد فقال: مات منذ ثنتي عشر سنة. وأخبرني أنّ فقيهاً من أهل طنجة يسكن بالمدرسة الظاهرية، فسرت إليه لأسأله عن والدي وأهلي فوجدته شيخاً كبيراً فسلمت عليه وانتسبت له فأخبرني أنّ والدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة. وأقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقي بدرهم نقرة وأوقيتهم أربع أواقي مغربية. وكان قاضي قضاة المالكية إذ ذاك جمال الدين المسلاتي وكان من أصحاب الشيخ علاء الدين القونوي وقدم معه دمشق فعرف بها. ثم ولي القضاء وقاضي قضاة الشافعية تقي الدين بن السبكي، وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه. ومات في تلك الأيام بعض كبراء دمشق، وأوصى بمال للمساكين. فكان المتولي لإنفاذ الوصية يشتري الخبز ويفرقه عليهم كل يوم بعد العصر. فاجتمعوا في بعض الليالي وتزاحموا واختطفوا الخبز الذي يفرق عليهم، ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. وبلغ ذلك الأمير أرغون شاه فأخرج زبانيته فكانوا حيث ما لقوا أحدا من المساكين قالوا له: تعال نأخذ الخبز فاجتمع منهم عدد كثير. فحبسهم تلك الليلة وركب من الغد وأحضرهم تحت القلعة وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم. وكان أكثرهم براء عن ذلك. وأخرج طائفة الحرافيش عن

دمشق فانتقلوا إلى حمص وحماة وحلب. وذكر لي أنه لم يعش بعد ذلك إلا قليلاً وقتل. ثم سافرت من دمشق إلى حمص ثم حماة ثم المعرة ثم سرمين ثم إلى حلب. وكان أمير حلب في هذا العهد الحاج رُغْطَي "بضم الراء وسكون الغين المعجم وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكنة". واتفق في تلك الأيام أنّ فقيراً يعرف بشيخ المشايخ وهو ساكن في جبل خارج مدينة عينتاب والناس يقصدونه هم يتبركون به. وله تلميذ ملازم له وكان متجرداً عزباً لا زوجة له، قال في بعض كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصبر عن النساء وأنا أصبر عنهن. فشهد عليه بذلك، وثبت عند القاضي ورفع أمره إلى ملك الأمراء وأتي به وبتلميذه الموافق له على قوله، فأفتى القضاة الأربعة وهم: شهاب الدين المالكي، وناصر الدين العديم الحنفي، وتقي الدين بن الصائغ الشافعي، وعز الدين الدمشقي الحنبلي، بقتلهما معا فقتلاَ. وفي أوائل شهر ربيع الأول عام تسعة وأربعين بلغنا الخبر في حلب أن الوباء وقع بغزة وأنه انتهى عدد الموتى فيها إلى زائد على الألف في يوم واحد. فسافرت إلى حمص فوجدت الوباء قد وقع بها ومات يوم دخولي إليها نحو ثلثمائة إنسان. ثم سافرت إلى دمشق ووصلتها يوم الخميس وكان أهلها قد صاموا ثلاثة أيام وخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الأقدام حسبما ذكرناه في السفر الأول. فخفف الله الوباء عنهم، فانتهى عدد الموتى عندهم إلى ألفين وأربعمائة في اليوم، ثم سافرت إلى عجلون ثم إلى بيت المقدس ووجدت الوباء قد ارتفع عنهم، ولقيت خطيبه عز الدين بن جماعة ابن عم عز الدين القضاة بمصر وهو من الفضلاء الكرماء ومرتبه على الخطابة ألف درهم في الشهر. وصنع الخطيب عز الدين يوماً دعوة ودعاني فيمن دعاه إليها فسألته عن سببها فأخبرني أنه نذر أيام الوباء أنه إن ارتفع ذلك، ومر عليه يوم لا يصلي فيه على ميت، صنع الدعوة. ثم قال لي: ولما كان بالأمس لم أصل على ميت فصنعت الدعوة التي نذرت. ووجدت من كنت أعهده من جميع الأشياخ بالقدس قد انتقلوا إلى جوار الله تعالى رحمهم الله. فلم يبق منهم إلا القليل مثل المحدث العالم الإمام صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ومثل الصالح شرف الدين الخشي شيخ زاوية المسجد الأقصى، ولقيت الشيخ سليمان الشيرازي فأضافني. ولم ألق بالشام ومصر من وصل إلى قدم آدم عليه السلام

سواه. ثم سافرت عن القدس ورافقني الواعظ المحدث شرف الدين سليمان المليانين وشيخ المغاربة بالقدس الصوفي الفاضل طلحة العبد الوادي. فوصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام وزرناه ومن معه من الأنبياء عليهم السلام. ثم سرنا إلى غزة فوجدنا معظمها خاليا من كثرة من مات بها في الوباء. وأخبرنا قاضيها أن العدول بها كانوا ثمانين، فبقي منهم الربع، وأن عدد الموتى بها انتهى إلى ألف ومائة في اليوم. ثم سافرنا في البر فوصلت إلى دمياط ولقيت بها قطب الدين النفشواني وهو صائم الدهر، ورافقني منها إلى فارسكور وسمنود ثم إلى أبي صير "بكسر الصاد المهمل وياء وراء"، ونزلنا في زاوية لبعض المصريين بها. وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلم وعرضنا عليه الطعام فأبى وقال إنما قصدت زيارتكم ولم يزل ليلته تلك ساجداً وراكعاً، ثم صلينا الصبح واشتغلنا بالذكر والفقير بركن الزاوية فجاء الشيخ بالطعام ودعاه فلم يجبه. فمضى إليه فوجده ميتاً فصلينا عليه ودفناه رحمة الله عليه. ثم سافرت إلى المحلة الكبيرة ثم إلى نحرارية ثم إلى أبيار ثم إلى دمنهور ثم إلى الإسكندرية. فوجدت الوباء قد خف بها بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم. ثم سافرنا إلى القاهرة وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى واحد وعشرين ألفاً في اليوم. ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا، رحمهم الله تعالى. وكان ملك ديار مصر في هذا العهد الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون وبعد ذلك خلع عن الملك وولي أخوه الملك الصالح. ولما وصلت القاهرة وجدت قاضي القضاة عز الدين بن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة قد توجه إلى مكة في ركب عظيم يسمونه الرجبي لسفرهم في شهر رجب, وأخبرت أن الوباء لم يزل معهم حتى وصلوا إلى عقبة أيلة فارتفع عنهم. ثم سافرت من القاهرة إلى بلاد الصعيد وقد تقدم ذكرها، إلى عيذاب. وركبت منها البحر فوصلت إلى جدة. ثم سافرت منها إلى مكة شرفها الله تعالى وكرمها فوصلتها في الثاني والعشرين لشعبان سنة تسع

وأربعين. ونزلت في جوار إمام المالكية الصالح الولي الفاضل أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل. فصمت شهر رمضان بمكة، وكنت أعتمر كل يوم على مذهب الشافعي. ولقيت ممن أعهده من أشياخها شهاب الدين الحنفي، وشهاب الدين الطبري، وأبا محمد اليافعي، ونجم الدين الأصفوني، والحرازي. وحججت في تلك السنة. ثم سافرت مع الركب الشامي إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزرت قبره المكرم، زاده الله طيباً وتشريفاً. وصليت في المسجد الكريم طهره الله وزاده تعظيماً، وزرت من بالبقيع من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. ولقيت من الأشياخ أبا محمد بن فرحون. ثم سافرنا من المدينة الشريفة إلى العلا وتبوك ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مدينة الخليل صلى الله عليه وسلم ثم إلى غزة ثم إلى منازل الرمل وقد تقدم ذكر ذلك كله. ثم إلى القاهرة وهنالك تعرفنا أن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين أبا عنان أيده الله تعالى. قد ضم الله به نشر الدولة المرينية، وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية، وأفاض الإحسان على الخاص والعام وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام. فتشوقت النفوس إلى المثول ببابه وأملت لثم ركابه. فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته العلية، مع ما شاقني من تذكر الأوطان، والحنين للأهل والخلان، والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان. بلاد بها نيطت علي تمائمي وأول أرض مس جلدي تُرابَها فركبت البحر في قرقورة لبعض التونسيين صغيرة، وذلك في صفر سنة خمسين. وسرت حتى نزلت بجربة. وسافرت المركب المذكور إلى تونس فاستولى العدو عليه. ثم سافرت في مركب صغير إلى قابس، فنزلت في ضيافة الأخوين الفاضلين أبي مروان وأبي العباس بني مكي أميري جربة وقابس. وحضرت عندهما مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت في مركب إلى سفاقس، ثم توجهت في البحر إلى بليانة، ومنها سرت في البر مع العرب، فوصلت بعد مشقات إلى مدينة تونس، والعرب محاصرون لها. وكانت تونس في أيالة مولانا أمير المسلمين، وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين، علم الأعلام وأوحد الملوك الكرام، أسد الأساد وجواد الأجواد القانت الأواب، الخاشع العادل، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، ناصر دين الإسلام، الذي سارت

الأمثال بجوده وشاع في الأقطار أثر كرمه وفضله، ذي المناقب والمفاخر والفضائل والمآثر، الملك العادل الفاضل أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين، قاهر الكفار ومبيدها، ومبدي آثار الجهاد ومعيدها، ناصر الإيمان، الشديد السطوة في ذات الرحمان، العابد الزاهد الراكع الساجد الخاشع الصالح، أبي يوسف بن عبد الحق رضي الله عنهم أجمعين، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. ولما وصلت تونس قصدت الحاج أبا الحسن الناميسي لما بيني وبينه من مودات القرابة البلدية. فأنزلني بداره، وتوجه معي إلى المشور فدخلت المشور الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه وأمرني بالقعود فقعدت. وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته وسألني عن ابن تيفراجين فأخبرته بما فعلت المغاربة معه. وإرداتهم قتله بالإسكندرية وما لقي من أذيتهم انتصاراً منهم لمولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وكان في مجلسه من الفقهاء الإمام أبو عبد الله السطي والإمام أبو عبد الله محمد بن الصباغ ومن أهل تونس قاضيها أبو علي عمر بن عبد الرفيع وأبو عبد الله بن هارون. وانصرفت عن المجلس الكريم. فلما كان بعد العصر استدعاني مولانا أبو الحسن وهو ببرج يشرف على موضع القتال ومعه الشيوخ الأجلة أبو عمر عثمان بن عبد الواحد التنالفتي وأبو حسون زيان بن أمريون العلوي وأبو زكريا يحيى بن سليمان العسكري والحاج أبو الحسن الناميسي. فسألني عن ملك الهند فأجبته عما سأل. ولم أزل أتردد إلى مجلسه الكريم أيام إقامتي بتونس وكانت ستة وثلاثين يوماً. ولقيت بتونس إذا ذاك الشيخ الإمام خاتمة العلماء وكبيرهم أبا عبد الله الأبلّي وكان في فراش المرض، وباحثني عن كثير من أمور رحلتي. ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين، فوصلنا إلى جزيرة سردانية من جزر الروم، ولها مرسى عجيب عليه خشب كبار دائرة به. وله مدخل كأنه باب لا يفتح إلا بإذن منهم، وفيها حصون. دخلنا أحدها وبه أسواق كثيرة ونذرت لله تعالى إن خلصنا الله منها صوم شهرين متتابعين لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على اتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا. ثم خرجنا عنها فوصلنا بعد عشر إلى مدينة تنس، ثم إلى مازونة، ثم إلى مستغانم، ثم إلى تلمسان. فقصدت العباد، وزرت الشيخ أبا مدين رضي الله عنه

ونفع به، ثم خرجت عنها على طريق مدرومة وسلكت طريق أخندقان. وبت بزاوية الشيخ إبراهيم. ثم سافرنا منها فبينما نحن بقرب أزغنغان، إذا خرج علينا خمسون راجلاً وفارسان. وكان معي الحاج ابن قريعات الطنجي وأخوه محمد المستشهد بعد ذلك في البحر. فعزمنا على قتالهم، ورفعنا علماً، ثم سالمونا وسالمناهم، والحمد لله، ووصلت إلى مدينة تازي، وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى. ثم سافرت عن تازي، فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس، فمثلت بين يدي مولانا الأعظم، الإمام الأكرم، أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، أبي عنان، وصل الله علوه، وكبت عدوه، فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق، وحسنه حسن ملك الهند، وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن، وشجاعته شجاعة ملك الترك، وحلمه حلم ملك الروم، وديانته ديانة ملك تركستان، وعلمه علم ملك الجاوة. وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة والمآثر الكثيرة أبو زيان بن ودرار، فسألني عن الديار المصرية إذ كان قد وصل إليها فأجبته عما سأل، وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى بما أعجزني شكره. والله ولي مكافأته. وألقيت عصى التسيار ببلاده الشريفة، بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان. لأن الفواكه بها متيسرة، والمياه والأقوات غير متعذرة. وقلّ إقليم يجمع ذلك، ولقد أحسن من قال: الغرب أحسن أرض ... ولي دليل عليه البدر يرقب منه ... والشمس تسعى إليه ودارهم الغرب صغيرة وفوائدها كثيرة، وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام ظهر لك الحق في ذلك ولاح فضل بلاد المغرب. فأقول: إن لحوم الأغنام بديار مصر تباع بحساب ثمان عشرة أوقية بدرهم نقرة، والدرهم النقرة ستة دراهم من دراهم المغرب، وبالمغرب يباع اللحم إذا غلا سعره ثمانية عشر أوقية بدرهمين، وهما ثلث النقرة. وأما السمن فلا يوجد بمصر في أكثر الأوقات. والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الإدام لا يلتفت إليه بالمغرب، ولأن أكثر ذلك العدس والحمص يطبخونه في قدور راسيات، ويجعلون عليه السيرج والبسلا، وهو صنف من الجلبان، يطبخونه ويجعلون عليه الزيت،

والقرع يطبخونه ويخلطونه باللبن، والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك، وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللبن، والقلقاس يطبخونه. وهذا كله متيسر بالمغرب، لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك. وأما الخضر فهي أقل الأشياء ببلاد مصر، وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام، وأما العنب فإذا كان رخيصاً بيع عندهم ثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية، وإذا رخص ثمنه بيع بحساب رطلين بدرهم نقرة، والإجاص يباع بحساب عشر أوراق بدرهم نقرة، وأما الرمان والسفرجل فتباع الحبة منه بثمانية فلوس وهي درهم من دارهم المغرب. وأما الخضر فيباع بالدرهم النقرة منها أقل مما يباع في بلادنا بالدرهم الصغير. وأما اللحم فيباع فيها الرطل منه من أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك كله تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعاراً، وأكثرها خيرات وأعظمها مرافق وفوائد. ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفاً إلى شرفها وفضلاً إلى فضلها بإمامه مولانا أمير المؤمنين الذي مد ظلال الأمن في أقطارها وأطلع شمس العدل في أرجائها، وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها، وطهرها من المفسدين وأقام بها رسوم الدنيا والدين. وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته، واشتغاله بالعلم وتفقهه وصدقته الجارية ورفع المظالم. أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب. فمن ذلك جلوسه للمشتكين من رعيته وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم، وتقسيمه ذلك اليوم بين الرجال والنساء وتقديمه النساء لضعفهن. فتقرأ قصصهن بعد صلاة الجمعة إلى العصر ومن وصلت نوبتها نودي باسمها ووقفت بين يديه الكريمتين يكلمها دون واسطة. فإن كانت متظلمة عجل إنصافها أو طالبة إحسان وقع إسعافها. ثم إذا صليت صلاة العصر قرأت قصص الرجال، وفعل مثل ذلك فيها. ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة فيرد إليهم ما تعلق بالأحكام الشرعية وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التمام ويظهر فيه مثل هذا العدل. فإن ملك الهند عين بعض أمرائه لأخذ القصص من الناس وتخليصها ورفعها إليه دون حضور

أربابها بين يديه. وأما حمله فقد شاهدت منه العجائب. فإنه أيده الله عفا عن الكثير ممن تعرض لقتال عساكره والمخالفة عليه وعن أهل الجرائم الكبار التي لا يعفو عن جرائمهم إلا من وثق بربه. وعلم علم اليقين معنى قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} 1. قال ابن جزي: من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين إلى هذا العهد وهو أوائل عام سبعة وخمسين، لم أشاهد أحداً أمر بقتله إلا من قتلة الشرع في حد من حدود الله تعالى قصاص أو حرابة، وهذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف. ولم يسمع بمثل ذلك فيما تقدم من الأعصار، ولا فيما تباعد من الأقطار. وأما شجاعته فقد علم ما كان منه في المواطن الكريمة من الثبات والإقدام مثل يوم قتال بني عبد الوادي وغيرهم. ولقد سمعت خبر ذلك اليوم ببلاد السودان، وذكر ذلك عند سلطانهم فقال: هكذا وإلا فلا. قال ابن جزي: لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الأعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد عليه أهون من قتل الشاة على الأسد، فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النجارين من المعمورة بحوز سلا، وتحامته الأبطال، وفرت أمامه الفرسان والرجال، برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به، ولا متهيب منه فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خر بها صريعاً لليدين وللفم. وأما هزائم الأعادي فإنما اتفقت للملوك بثبوت جيوشهم وإقدام فرسانهم، فيكون حظ الملوك الثبوت والتحريض على القتال. وأما مولانا أيده الله فإنه أقدم على عدوه منفرداً بنفسه الكريمة، بعد علمه بفرار الناس، وتحققه أنه لم يبق معه من يقاتل. فعند ذلك وقع الرعب في قلوب الأعداء، وانهزموا أمامه. فكان من العجائب فرار الأمم أمام واحد. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين، وما هو إلا ثمرة ما يمتن به أعلى الله مقامه من التوكل على الله والتفويض إليه. وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كل يوم بعد صلاة الصبح، ويحض لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم،

_ 1 آل عمران: 134.

وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوفة. وفي كل علم منها له القدح المعلى ويجلو مشكلاته بنور فهمه ويلقى نكته الرائقة من حفظه. وهذا شأن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين. ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية. فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي خاصة، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتى رأيت ملازمة مولانا أيده الله في الصلوات كلها في الجماعة ولقيام رمضان: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1. قال ابن جزي: لو أن عالماً ليس له شغل إلا بالعلم ليلاً ونهاراً، لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم، مع اشتغاله بأمور الأمة، وتديبره لسياسة الأقاليم النائية، ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره أحد من الملوك، ونظره بنفسه في شكايات المظلومين. ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أي علم كان إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها. ثم سما أيده الله إلى العلم الشريف التصوفي، ففهم إشارات القوم وتخلق بأخلاقهم. وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته وشفقته على رعيته ورفقه على أمره كله وأعطى الآداب حظاً جزيلاً من نفسه فاستعمل أحسنها منزعاً وأعظمها موقعاً وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبهما بخط يده الذي يخجل الروض حسناً. وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه ولا رام إدراكه. ومن تأمل التوقيعات الصادرة عنه أيده الله تعالى وأحاط علماً بمحصولها لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها. وأما صدقاته الجارية وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام، للوارد والصادر، فذلك ما لم يفعله أحد من الملوك، غير

_ 1 البقرة: 105

السلطان أتابك أحمد. وقد زاد عليه مولانا أيده الله بالتصدق على المساكين بالطعام كل يوم والتصدق بالزرع على المتسترين من أهل البيوت. قال ابن جزي: اخترع مولانا أيده الله في الكرم والصدقات أموراً لم تخطر في الأوهام، ولا اهتدت إليها السلاطين. فمنها إجراء الصدقة على المساكين بكل بلد من بلاده على الدوام، ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضاً، ومنها كون تلك الصدقات خبزا مخبوزاً متيسراً للانتفاع به، ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشائخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده، ومنها تعيين الضحايا لهؤلاء الأصناف في عيد الأضحى، ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراماً لذلك اليوم الكريم وقياماً بحقه، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم واجتماعهم لإقامة رسمه، ومنها إعذار اليتامى من الصبيان وكسوتهم يوم عاشوراء، ومنها صدقته على الزمني والضعفاء بأزواج الحرث، يقيمون بها أودهم ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم. وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير. ومنها بناء المرستانات في كل بلد من بلاده، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى، وتعيين الأطباء لمعالجتهم والتصرف في طبهم، إلى غير ذلك مما أبدع من أنواع المكارم وضروب المآثر كافأ الله أياديه وشكر نعمه. وأما رفعه للمظالم عن الرعية فمنها الرتب التي كانت تؤخذ بالطرقات، أمر أيده الله بمحو رسمها وكان لها مجبى عظيم فلم يلتفت إليه وما عند الله خير وأبقى، وأما كفه أيدي الظلام فأمر مشهور وقد سمعته أيده الله يقول لعماله لا تظلموا الرعية ويؤكد تلك الوصية. قال ابن جزي: ولم لم يكن من رفق مولانا أيده الله برعيته إلا رفعه التضييف الذي كانت عمال الزكاة وولاة البلاد تأخذه من الرعايا، لكفى ذلك أثرا في العدل ظاهرا ونورا في الرفق باهرا، فكيف وقد دفع من المظالم وبسط من المرافق ما لا يحيط به الحصر. وقد صدر في أيام تصنيف هذا من أمره الكريم في الرفق بالمسجونين ورفع الوظائف الثقيلة التي كانت تؤخذ منهم ما هو اللائق بإحسانه والمعهود من رأفته، وشمل الأمر بذلك جميع الأقطار، وكذلك صدر من التنكيل بمن ثبت جوره من القضاة والحكام ما فيه زاجر الظلمة وردع

المعتدين. وأما فعله في معاونة أهل الأندلس على الجهاد ومحافظته على إمداد الثغور بالأموال والأقوات والسلاح وفته في عضد العدو بإعداد العدد وإظهار القوة فذلك أمر شهير، لم يغب علمه عن أهل المغرب والمشرق ولا سبق إليه أحد من الملوك. قال ابن جزي: حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله من سداد القطر إلى المسلمين ودفاع القوم الكافرين ما فعله في فداء مدينة طرابلس إفريقية. فإنها لما استولى العدو عليها ومد يد العدوان إليها، ورأى أيده الله أن بعث الجيوش إليها لا يتأتى لبعد الأقطار، كتب إلى خدامه ببلاد أفريقية أن يفدوها بالمال. ففديت بخمسين ألف دينار من الذهب العين. فلما بلغه خبر ذلك قال: الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النذر اليسير. وأمر للعين ببعث ذلك العدد إلى إفريقية، وعادت المدينة إلى الإسلام على يده. ولم يخطر في الأوهام أن أحدا تكون عنده خمسة قناطير من الذهب نذراً يسيراً حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة ومآثرة فائقة، قل في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها. ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل واستكثاره من عدد البحر وهذا في زمان الصلح والمهادنة إعداداً لأيام الغزاة. وأخذ بالعزم في قطع أطماع الكفار، وأكد ذلك بتوجهه أيده الله بنفسه إلى جبال جاناته في العام الفارط ليباشر قطع الخشب للإنشاء، ويظهر قدر ماله بذلك من الاعتناء، ويتولى بذاته أعمال الجهاد مترجياً ثواب الله تعالى، وموقنا بحسن الجزاء. ومن أعظم حسناته أيده الله عمارة المسجد الجديد بالمدينة البيضاء دار ملكه العلي، وهو الذي امتاز بالحسن واتقان البناء وإشراق النور وبديع الترتيب، وعمارة المدرسة الكبرى بالموضع المعروف بالقصر، مما يجاور قصبة فاس، ولا نظير لها في المعمورة اتساعاً وحسناً وإبداعاً وكثرة ماء وحسن وضع. ولم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخراسان ما يشبهها. وعمارة الزاوية العظمى على غدير الحمص خارج المدينة البيضاء فلا مثل لها أيضاً في عجب وضعها وبديع صنعها. وأبدع زاوية رأيتها بالشرق زاوية سرياقص "سرياقس" التي بناها الملك الناصر. وهذه أبدع منها وأشد إحكاما وإتقاناً. والله سبحانه

ينفع مولانا أيده الله بمقاصده الشريفة، ويكافئ فضائله المنيفة، ويديم للإسلام والمسلمين أيامه وينصر ألويته المظفرة وأعلامه. ولنعد إلى ذكر الرحلة فنقول: ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم، وعمني فضل إحسانه العميم قصدت زيارة قبر الوالدة. فوصلت إلى بلدة طنجة وزرتها، وتوجهت إلى مدينة سبته فأقمت بها أشهراً، وأصابني المرض ثلاثة أشهر، ثم عافاني الله فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط، فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا، فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى، حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن. وكان ذلك إثر موت طاغية الروم ألفونس، وحصاره الجبل عشرة أشهر، وظنه أنه يستولي على ما بقي من بلاد الأندلس للمسلمين. فأخذه الله من حيث لم يحتسب، ومات بالوباء الذي كان أشد الناس خوفاً منه. وأول بلد شاهدته من البلاد الأندلسية جبل الفتح. فلقيت به خطيبه الفاضل أبا زكريا يحيى بن السراج الرندي، وقاضيه عيسى البربري، وعنده نزلت وتطوفت معه على الجبل، فرأيت عجائب ما بنى به مولانا أبا الحسن رضي الله عنه وأعد فيه من العدد وما زاد على ذلك مولانا أيده الله. ووددت أن لو كنت ممن رابط به إلى نهاية العمر. قال ابن جزي: جبل الفتح هو معقل الإسلام المعترض شجىً في حلوق عبدة الأصنام، حسنه مولانا أبي الحسن رضي الله عنه المنسوبة إليه وقربته التي قدمها نوراً بين يديه، محل عدد الجهاد، ومقر آساد الأجناد، والثغر الذي افتر عن نصر الإيمان، وأذاق أهل الأندلس بعد مرارة الخوف حلاوة الأمان، ومنه كان مبدأ الفتح الأكبر وبه نزل طارق بن زياد مولى موسى بن نصير عند جوازه فنسب إليه، فيقال له: جبل طارق، وجبل الفتح، لأن مبدأه كان منه. وبقايا السور الذي بناه ومن معه باقية إلى الآن، تسمى بسور العرب. شاهدتها أيام إقامتي به عند حصار الجزيرة أعادها الله، ثم فتحه مولانا أبوالحسن رضوان الله عليه واسترجعه من أيدي الروم بعد تملكهم له عشرين سنة ونيفاً، وبعث إلى حصاره ولده الأمير الجليل أبا مالك، وأيده بالأموال الطائلة والعساكر الجرارة. وكان فتحه بعد حصار ستة أشهر، وذلك في عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ولم يكن حينئذ على ما هو الآن عليه. فبنى به مولانا أبوالحسن،

رحمة الله عليه، المأثرة العظمى بأعلى الحصن، وكانت قبل ذلك برجاً صغيراً، تهدم بأحجار المجانيق، فبناها مكانه، وبنى به دار الصناعة، ولم يكن به دار صنعة وبنى السور الأعظم المحيط بالتربة الحمراء الآخذ من دار الصنعة إلى القرمدة، ثم جدد مولانا أمير المؤمنين أبو عنان أيده الله عهد تحصينه وتحسينه، وزاد بناء السور بطرف الفتح وهو أعظم أسواره غناء وأعمها نفعاً وبعث إليه العدد الوافرة والأقوات والمرافق العامة وعامل الله تعالى فيه بحسن النية وصدق الإخلاص. ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا أيده الله وثمرة توكله في أموره على الله وبان مصداق ما اطرد له من السعادة الكافية. وذلك أن عامل الجبل الخائن الذي ختم له بالشقاء عيسى بن أبي منديل نزع يده المغلولة عن الطاعة، وفارق عصمة الجماعة وأظهر النفاق وجمح في الغدر والشقاق وتعاطى ما ليس من رجاله وعمى عن مبدأ حاله السيء ومآله، وتوهم الناس أن ذلك مبدأ فتنة تنفق على إطفائها كرائم الأموال، ويستعد لاتقائها بالفرسان والرجال. فحكمت سعادة مولانا أيده الله ببطلان هذا التوهم وقضى صدق يقينه بانخراق العادة في هذه الفتنة فلم تكن إلا أيام يسيرة وراجع أهل الجبل بصائرهم وثاروا على الثائر وخالفوا الشقي المخالف وأقاموا بالواجب من الطاعة وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق وأتي بها مصفدين إلى الحضرة العلية، فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين وأراح الله من شرهما. ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا أيده الله من العناية ببلاد الأندلس مالم يكن في حساب أهلها وبعث إلى جبل الفتح ولده الأسعد المبارك الأرشد أبا بكر المدعو من السمات السلطانية بالسعيد أسعده الله تعالى وبعث معه أنجاد الفرسان ووجوه القبائل وكفاة الرجال وأدر عليهم الأرزاق ووسع لهم الأقطاع وحرر بلادهم من الغرائم وبذل لهم جزيل الإحسان. وبلغ من اهتمامه بأمور الجبل أن أمر أيده الله بناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور فمثل فيه أشكال أسواره وأبراجه وحصنه وأبوابه ودار صنعته ومساجده ومخازن عُدَده وأهربة زرعه وصورة الجبل وما اتصل به من التربة الحمراء. فصنع ذلك بالمشور السعيد فكان شكلاً عجيباً أتقنه الصناع اتقاناً يعرف قدره من شاهد الجبل وشاهد هذا المثال وما ذلك إلا لتشوقه أيده الله إلى استطلاع أحواله وتهممه بتحصينه وإعداده. والله تعالى يجعل نصر الإسلام بالجزيرة الغربية على

يديه، ويحقق ما يؤمله في الفتح بلاد الكفار، وشتّ شمل عباد الصليب. وتذكرت حين هذا التقييد قول الأديب البليغ المفلق أبي عيد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي، رحمه الله، في وصف هذا الجبل المبارك من قصيدته الشهيرة في مدح عبد المؤمن بن علي1 التي أولها: لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور وفيها يقول في وصف الجبل وهو من البديع الذي لم يسبق إليه بعد وصفه السفن وجوازها: حتى رمت جبل الفتحين من2 جبل ... معظم القدر في الأجيال مذكور3 من شامخ الأنف في سحنائه طلس4 ... له من الغيم جيب غير مزرور تمسي النجوم على تكليل مفرقه ... في الجو حائمة مثل الدنانير فربما مسحته من ذوائبها ... بكل فضل على فوديه مجرور وادردٍ5 من ثناياه بما أخذت ... منه معاجم أعواد الدهارير محنك حلب الأيام أشطرها ... وساقها سَوق حادي العير للعير مقيد الخطو جوّال الخواطر في ... عجيب أمر به من ماض ومنظور قد واصل الصمت والإطراق مفتكراً ... بادي السكينة مُغْبَرَّ الأسارير

_ 1 عبد المؤمن بن علي، هو: أمير دولة الموحدين بعد مؤسسها محمد بن تومرت، وقامت هذه الدولة بالمغرب، واستولت على الأندلس، وطردت منه المرابطين، وكان حكمه من سنة 525هـ إلى سنة 558هـ. "1130 – 1163م". 2 سماه البلنسي: جبل الفتحين، لأنّه أضاف إلى فتح طارق بن زياد للجبل فتح عبد المؤمن بن علي له في ذي القعدة سنة 550هـ. 3 أورد لسان الدين بن الخطيب "ذو الوزارتين" في كتابه: أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام، والذي حقّق قسمه الثاني الذي يتعلّق بأخبار الجزيرة الأندلسية، وعلق عليه الأستاذ إ. ليفي بروفنسال أبيات القصيدة هكذا: حتى رمت جبل الفتحين من كثب ... بساطع من سناه غير مبهور لله ما جبل الفتحين من جبل ... معظم القدر في الأجيال مذكور. 4 السحناء: الهيئة واللون، والطَلَس: جمع طلسة، وهي: الغبرة في سواد، والسحابة الرقيقة. 5 الأدرُدْ، مؤنثة: درداء: من ذهبت أسنانه، وهو ممنوع من الصرف، لأنه وصف على وزن الفعل، وقد صرف هنا لضرورة الشعر.

كأنه مكمد مما تعبده ... خوف الوعيدين1 من دك وتسيير أخلق به وجبال الأرض راجفة ... أن يطمئن غدا من كل محذور ثم استمرّ في قصيدته على مدح عبد المؤمن بن علي. قال ابن جزي: ولنعد إلى كلام الشيخ أبي عبد الله قال: ثم خرجت من جبل الفتح إلى مدينة رندة، وهي من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وضعاً، وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو الربيع سليمان بن داود العسكري، وقاضيها ابن عمي الفقيه أبو القاسم محمد بن يحيى بن بطوطة. ولقيت بها الفقيه القاضي الأديب أبا الحجاج يوسف بن موسى المنتشاقري، وأضافني بمنزله، ولقيت بها أيضاً خطيبها الصالح الحاج الفاضل أبا إسحاق إبراهيم المعروف بالشندرخ، المتوفى بعد ذلك بمدينة سلا من بلاد المغرب، ولقيت بها جماعة من الصالحين منهم عبد الله الصفّار وسواه. وأقمت بها خمسة أيام. ثم سافرت منها إلى مدينة مربلة، والطريق فيما بينهما صعب شديد الوعورة، ومربلة حسنة خصبة. ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجهين إلى مالقه، فأردت التوجه في صحبتهم. ثم أن الله تعالى عصمني بفضله فتوجهوا قبلي فأسروا في الطريق كما سنذكره. وخرجت في أثرهم، فلما جاورت حوز مربلة ودخلت في حوز سهيل مررت بفرس ميت في بعض الخنادق ثم مررت بقفة حوّات2 مطروحة بالأرض فرابني ذلك، وكان أمامي برج الناظور. فقلت في نفسي: لو ظهر ها هنا عدوّ لأنذر به صاحب البرج، ثم تقدمت إلى دار هنالك فوجدت عليه فرساً مقتولاً. فبينما أنا هنالك، سمعت الصياح من خلفي وكنت قد تقدمت أصحابي فعدت إليهم فوجدت معهم قائد حصن سهيل فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك، ونزل بعض

_ 1 المقصود بالوعيدين: الوعيد بالداك للجبال، وتسييرها، وقد جاء هذا الوعيد في قول الله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} . "الحاقة: 14"، وقول الله تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} . "الطور: 10"، وقول الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} . "الكهف: 47" وقول الله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} . "النبأ: 20" وقول الله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} . "التكوير: 3". 2 الحوات: بائع الحيتان.

عمارتها إلى البر. ولم يكن الناظور بالبرج، فمر بهم الفرسان الخارجون من مربلة وكانوا اثني عشر فقتل النصارى أحدهم وفر واحد وأسر العشرة. وقتل معهم رجل حوّات وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض وأشار علي ذلك القائد بالمبيت في موضعه ليوصلني منه إلى مالقه فبت بحصن الرابطة المنسوبة إلى سهيل. والأجفان المذكورة مرساة عليه. وركب معي بالغد فوصلنا إلى مدينة مالقه إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه. رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير. ورمانها المرسي الياقوتي لا نظر له في الدنيا، وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب. قال ابن جزي: وإلى ذلك أشار الخطيب أبو محمد بن عبد الوهاب بن علي المالقي في قوله، وهو من مليح التجنيس: مالقة حييت ياتينها ... فالفلك من أجلك يأتينها نهى طبيبي عنك في علة ... ما لطبيبي عن حياتي نهى وذيلها قاضي الجماعة أبو عبد الله بن عبد الملك بقوله في قصد المجانسة: وحمص لا تنسى لها تينها ... واذكر مع التين زياتينها1 وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب ويجلب منها إلى أقاصي البلاد. ومسجدها كبير الساحة شهير البركة وصحنه لا نظير له في الحسن فيه أشجار النارنج البعيدة. ولما دخلت مالقة وجدت قاضيها الخطيب الفاضل أبا عبد الله ابن خطيبها الفاضل أبي جعفر بن خطيبها ولي الله تعالى أبي عبد الله الطنجالي قاعداً بالجامع الأعظم، ومعه الفقهاء ووجوه الناس يجمعون مالاً برسم فداء الأساري الذي تقدم ذكرهم، فقلت له: الحمد لله الذي عافاني ولم يجعلني منهم. وأخبرته بما اتفق لي بعدهم، فعجب من ذلك، وبعث إلي

_ 1 مغنى البيتين الأولين: حياك الله يا تين مالقة، فإن السفن تقصد مالقة من كل مكان لأجلك، وقد نهاني الطبيب عن أكلك لمرضي فلماذا نهاني طبيبي عنك وأنت حياتي؟ والجناس فيهما بين: ياتينها، وحياتي نهى، وهو جناس ناقص لاختلاف الكلمات في بعض الحروف، وفي الشكل، ومعنى البيت الأخير الذي ذيّل به البيتان السابقان: لا تنسى تين حمص، واذكر كذلك ما تمتاز به من أنواع الزيتون. وفيه جناس ناقص بين: لها تينها، وزياتينها.

بالضيافة رحمه الله. وأضافني أيضاً خطيبها أبو عبد الله الساحلي المعروف بالمعمم1. ثم سافرت منها إلى مدينة بلّش وبينهما أربعة وعشرون ميلاً. وهي مدينة حسنة بها مسجد عجيب، وفيها الأعناب والفواكه والتين، كمثل ما بمالقة. ثم سافرنا منها إلى الحمة وهي بلدة صغيرة لها مسجد بديع الوضع عجيب النباء. وبها العين الحارة على ضفة واديها، وبينها وبين البلد ميل أو نحوه. وهنالك بيت لاستحمام الرجال، وبيت لاستحمام النساء. ثم سافرت منها إلى غرناطة قاعدة بلاد الأندلس2 وعروس مدنها وخارجها لانظير له في بلاد الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلاً يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنات والرياض والقصور. والكروم محدقة بها من كله جهة. ومن عجيب مواضعها عين الدمع وهو جبل فيه الرياض والبساتين لا مثل له بسواها. قال ابن جزي: لولا خشية أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة فقد وجدت مكانه. ولكن ما اشتهر كاشتهارها لا معنى لإطالة القول فيه. ولله در شيخنا أبي بكر محمد بن أحمد بن شيرين البستي نزيل غرناطة، حيث يقول: رعى الله من غرناطة مُتَنوّأً ... يَسُرُّ حزينا أو يجير طريدا تبرّم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالثلج عُدن جليدا هي الثغر، صان الله من أَهِلَت به ... وما خير ثغر لا يكون برودا. وكان ملك غرناطة في عهد دخولي إليها السلطان أبو الحجاج يوسف بن السلطان أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر. ولم ألقه بسبب مرض كان به. وبعثت إلي والدته الحرة الصالحة الفاضلة بدنانير ذهب ارتفقت بها. ولقيت بغرناطة جملة من فضلائها منهم قاضي الجماعة بها الشريف البليغ أبو القاسم محمد بن أحمد ابن محمد الحسيني السبتي، ومنهم فقيههاً المدرس الخطيب العالم أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم البياني، ومنهم عالمها ومقرئها الخطيب أبو سعيد بن فرج بن قاسم الشهير بابن لب،

_ 1 في إحدى طبعات الكتاب: المعروف بالعم. 2 أي: في عهد ابن بطوطة.

ومنهم قاضي الجماعة نادرة العصر وطرفة الدهر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم السلمي البعلبعي. قدم عليها من المرية في تلك الأيام فوقع الاجتماع به في بستان الفقيه أبي القاسم محمد بن الفقيه الكاتب الجليل أبي عبد الله بن عاصم. وأقمنا هنالك يومين وليلة. قال ابن جزي: كنت معهم في ذلك البستان وأمتعنا الشيخ أبو عبد الله1 بأخبار رحلته وقيدت عنه أسماء الأعلام الذين لقيهم فيها واستفدنا منه الفوائد العجيبة. وكان معنا جملة من وجوه أهل غرناطة منهم الشاعر المجيد الغريب الشأن أبو جعفر أحمد بن رضوان بن عبد العظيم الجذامي. وهذا الفتى أمره عجيب فإنه نشأ بالبادية ولم يطلب العلم ولا مارس الطلبة ثم إنه نبغ بالشعر الجيد الذي يندر وقوعه من كبار البلغاء وصدور الطلبة مثل قوله: يا من اختار فؤادي منزلاً ... بابُه العينُ التي تَرْمُقه فَتحَ البابَ سُهادي بَعدَكم ... فابعثوا طيفَكم يُغْلِقُهُ ولقيت بغرناطة الشيوخ والمتصوفين منهم: الفقيه أبا علي عمر بن الشيخ الصالح الولي أبي عبد الله محمد بن المحروق، وأقمت أياما بزاويته التي بخارج غرناطة وأكرمني أشد الإكرام. وتوجهت معه إلى زيارة الزاوية الشهيرة البركة المعروفة برابطة العقاب، والعقاب جبل مطل على خارج غرناطة، وبينهما نحو ثمانية أميال، وهو مجاور لمدينة البيرة الخربة. ولقيت أيضاً ابن أخيه الفقيه أبا الحسن علي بن أحمد بن المحروق بزاويته المنسوبة للجام بأعلى ربض نجد من خارج غرناطة المتصل بجبل السبيكة، وهو شيخ المنتسبين من الفقراء. وبغرناطة جملة من فقراء العجم، استوطنوها لشبهها ببلادهم منهم الحاج أبو عبد الله السمرقندي والحاج أحمد التبريزي والحاج إبراهيم القونوي والحاج حسين الخراساني والحاجان علي ورشيد الهنديان وسواهم. ثم رحلت من غرناطة إلى الحمة ثم إلى بلش ثم إلى مالقة ثم إلى حصن ذكوان، وهو حصن حسن كثير المياه والأشجار والفواكه، ثم سافرت منه

_ 1 أي: ابن بطوطة.

إلى رندة، ثم إلى قرية بني رياح. فانزلني شيخها أبو الحسن علي سليمان الرياحي، وهو أحد كرماء الرجال وفضلاء الأعيان يطعم الصادر والوارد وأضافني ضيافة حسنة. ثم سافرت إلى جبل الفتح وركبت البحر في الجفن الذي جزت فيه أولاً وهو لأهل أصيلاً، فوصلت إلى سبتة. وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو المهدي عيسى بن سليمان ابن منصور، وقاضيها الفقيه أبو محمد الزجندري. ثم سافرت منها إلى أصيلاَ وأقمت بها شهوراً. ثم سافرت منها إلى مدينة سلا، ثم سافرت من سلا فوصلت إلى مدينة مراكش. وهي من أجمل المدن فسيحة الأرجاء متسعة الأقطار كثيرة الخيرات، بها المساجد الضخمة كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين، وبها الصومعة الهائلة العجيبة صعدتها وظهر لي جميع البلد منها. وقد استولى عليه الخراب. فما شبهته إلا ببغداد، إلا أن أسواق بغداد أحسن. وبمراكش المدرسة العجيبة التي تميزت بحسن الوضع وإتقان الصنعة وهي من بناء الإمام مولانا أمير المسلمين أبي الحسن رضوان الله عليه. قال ابن جزي: في مراكش يقول قاضيها الإمام التاريخي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأوسي: لله مراكش الغراء من بلد ... وحبذا أهلها السادات من سكن إن حلها نازح الأوطان مغترب ... أسلوه بالأنس عن أهل وعن وطن بين الحديث بها أو العيان لها ... ينشأ التحاسد بين العين والأذن. ثم سافرت من مراكش صحبة الركاب العلي، ركاب مولانا أيده الله فوصلنا إلى مدينة سلا، ثم إلى مدينة مكناسة العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات المحيطة بها بحائر الزيتون من جميع نواحيها. ثم وصلنا إلى حضرة فاس حرسها الله تعالى فوادعت بها مولانا أيده الله وتوجهت برسم السفر إلى بلاد السودان، فوصلت إلى مدينة سجلماسة. وهي من أحسن المدن، وبها التمر الكثير الطيب وتشبهها مدينة البصرة في كثرة التمر. لكن تمر سجلماسة أطيب، وصنف أيران منه لا نظير له في البلاد. ونزلت منها عند الفقيه أبي محمد البشري وهو الذي لقيت أخاه بمدينة قنجنفو من بلاد الصين. فيا شدّ ما تباعدا، فأكرمني غاية الإكرام واشتريت بها الجمال وعلفتها أربعة أشهر. ثم سافرت في غرة شهر الله المحرم سنة ثلاث وخمسين في رفقة مقدمها

أبو محمد يندكان المسوفي رحمه الله تعالى وفيها من تجار سجلماسة وغيرهم. فوصلنا بعد خمسة وعشرين يوماً إلى تَغَازَى، وضبط اسمها "بفتح التاء المثناة والغين المعجم وألف وزاي مفتوح أيضاً"، وهي قرية لا خير فيها. ومن عجائبها أن بناء بيوتها ومسجدها من حجارة الملح وسقفها من جلود الجمال. ولا شجر بها إنما هي رمل فيه معدن الملح يحفر عليه في الأرض فيوجد منه ألواح ضخام متراكبة كأنها قد نحتت ووضعت تحت الأرض يحمل الجمل منها لوحين. ولا يسكنها إلا عبيد مسوفة الذين يحفرون على الملح ويتعيشون بما يجلب إليهم من تمر درعة وسجلماسة ومن لحوم الجمال ومن أنلي المجلوب من السودان، ويصل السودان من بلادهم فيحملون منها الملح. ويباع الحمل منه بأيوالاتن بعشرة مثاقيل إلى ثمانية، وبمدينة مالي بثلاثين مثقالاً إلى عشرين، وربما انتهى إلى أربعين مثقالاً. وبالملح يتصارف السودان، كما يتصارف بالذهب والفضة. يقطعونه قطعاً ويتبايعون به. وقرية تغازي على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبر. وأقمنا بها عشرة أيام في جهد لأن ماءها زعاق وهي أكثر المواضع ذباباً، ومنها يرفع الماء لدخول الصحراء التي بعدها. وهي مسيرة عشرة لا ماء فيها إلا في النادر. ووجدنا نحن بها ماء كثيراً في غدران أبقاها المطر ولقد وجدنا في بعض الأيام غديراً بين تلين من حجارة ماؤه عذب فتروينا منه وغسلنا ثيابنا. والكمأة بتلك الصحراء كثير ويكثر القمل بها حتى يجعل الناس في أعناقهم خيوطا فيها الزئبق فيقتلها. وكنا في تلك الأيام نتقدم أمام القافلة فإذا وجدنا مكانا يصلح للرعي رعينا الدواب به. ولم نزل كذلك حتى ضاع في الصحراء رجل يعرف بابن زيري فلم أتقدم بعد ذلك ولا تأخرت. وكان ابن زيري وقعت بينه وبين ابن خاله ويعرف بابن عدي منازعة ومشاتمة فتأخر عن الرفقة فضل. فلما نزل الناس لم يظهر له خبر فأشرت على ابن خاله بأن يكتري من مسوفة من يقص أثره لعله يجده فأبى، وانتدب في اليوم الثاني رجل من مسوفة دون أجرة لطلبه فوجد أثره وهو يسلك الجادة طوراً ويخرج عنها تارة ولم يقع له على خبر. ولقد لقينا قافلة في طريقنا فأخبرونا أن بعض رجال انقطعوا عنهم فوجدنا أحدهم ميتا تحت شجيرة من أشجار الرمل، وعليه ثيابه، وفي يده

سوط. وكان الماء على نحو ميل منه. ثم وصلنا إلى تاسرهلا "بفتح التاء المثناة والسين المهمل والراء وسكون الهاء"، وهي أحساء ماء تنزل القوافل عليها، ويقيمون ثلاثة أيام. فيستريحون ويصلحون أسقيتهم ويملؤونها بالماء ويخيطون عليها التلاليس خوف الريح، ومن هنالك يبعث التكشيف. والتكشيف اسم لكل رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة فيتقدم إلى أيوالاتن يكتب الناس إلى أصحابهم بها ليكتروا لهم الدور ويخرجون للقائهم بالماء مسيرة أربع. ومن لم يكن له صاحب بأيوالاتن كتب إلى من شهر بالفضل من التجار بها فيشاركه في ذلك. وربما هلك التكشيف في هذه الصحراء فلا يعلم أهل أيوالاتن بالقافلة فيهلك أهلها أو الكثير منهم. وتلك الصحراء كثيرة الشياطين فإن كان التكشيف منفرداً لعبت به واستهوته حتى يضل عن قصده فيهلك إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر إنما هي رمال تسفيها الريح فترى جبالاً من الرمل في مكان ثم تراها قد انتقلت إلى سواه والدليل هنالك من كثر تردده وكان له قلب ذكي. ورأيت من العجائب أن الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواحدة مريض الثانية وهو أعرف الناس بالطريق. واكترينا التكشيف في هذه السفرة بمائة مثقال من الذهب وهو من مسوفة. وفي ليلة اليوم السابع رأينا نيران الذين خرجوا للقائنا فاستبشرنا بذلك. وهذه الصحراء منيرة مشرقة ينشرح الصدر فيها وتطيب النفس وهي آمنة من السراق والبقر الوحشية بها كثير يأتي القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنشاب لكن لحمها يولد أكله العطش فيتحاماه كثير من الناس لذلك. ومن العجائب أن هذه البقر إذا قتلت وجد في كروشها الماء. ولقد رأيت أهل مسوفة يعصرون الكرش منها ويشربون الماء الذي فيه. والحيات أيضاً بهذه الصحراء كثير. وكان في القافلة تاجر تلمساني يعرف بالحاج زيان. ومن عادته أن يقبض على الحيات ويعبث بها وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي. فلما كان ذات يوم أدخل يده في جحر ضب ليخرجه فوجد مكانه حية فأخذها بيده. وأراد الركوب فلسعته في سبابته اليمنى وأصابه وجع شديد فكويت يده وزاد ألمه عشي النهار فنحر جملاً وأدخل يده في كرشه وتركها كذلك ليلة ثم تناثر لحم أصبعه فقطعها من الأصل. وأخبرنا أهل مسوفة أن تلك الحية كانت قد شربت

الماء قبل لسعه ولو لم تكن شربت لقتلته. ولما وصل إلينا استقبلونا بالماء شربت خيلنا. ودخلنا صحراء شديدة الحر ليست كالتي عهدنا. وكنا نرحل بعد صلاة العصر ونسري الليل كله وننزل عند الصباح. وتأتي الرجال من مسوفة وبردامة وغيرهم بأحمال الماء للبيع. ثم وصلنا إلى مدينة أيوالاتن في غرة شهر ربيع الأول بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وهي أول عمالة السودان ونائب السلطان بها فَرْبا حسين وفربا "بفتح الفاء وسكون الواو وفتح الباء الموحدة" معناه النائب. ولما وصلنا جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السودان بحفظها وتوجهوا إلى الفربا وهو جالس على بساط في سقيف وأعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي وكبراء مسوفة من ورائه. ووقف التجار بين يديه وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه احتقاراً لهم، فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم لسوء أدبهم، واحتقارهم للأبيض. وقصدت دار ابن بداء وهو رجل فاضل من أهل سلا، كنت كتبت له أن يكتري لي داراً ففعل ذلك. ثم إن مشرف أيوالاتن ويسمى مَنْشَاجو "بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجم وألف وجيم مضموم وواو" استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته، فأبيت من حضور ذلك فعزم الأصحاب علي أشد العزم فتوجهت فيمن توجه. ثم أتي بالضيافة وهي جريش أنلي مخلوطاً بيسير عسل ولبن قد وضعوه في نصف قرعة صيروه شبه الجفنة فشرب الحاضرون وانصرفوا، فقلت لهم: ألهذا دعانا الأسود؟ قالوا: نعم، وهو الضيافة الكبيرة عندهم. فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم، وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم. وكانت إقامتي بإيوالاتن نحو خمسين يوماً. وأكرمني أهلها وأضافوني، منهم: قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر، وأخوه الفقيه المدرس يحيى. وبلدة إيوالاتن شديدة الحر، وفيها يسير نخيلات، يزرعون في ظلالها البطيخ. وماؤهم من أحساء بها، ولحم الضأن كثير بها وثياب أهلها حسان مصرية وأكثر السكان بها من مسوفة. ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأنا من الرجال. وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود.

وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهن تزوج، لكنهن لا يسافرون مع الزوج، ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك. ودخلت يوماً على القاضي بإيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع، فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: لم ترجع؟ إنها صاحبتي. فعجبت من شأنهما فإنه من الفقهاء الحجاج وأخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته لا أدري أهي هذه أم لا؟ فلم يأذن له. ودخلت يوما على أبي محمد بن يندكان المسوفي الذي قدمنا في صحتبه، فوجدته قاعداً على بساط وفي وسط داره سرير مظلل، عليه امرأة معها رجل قاعد وهما يتحدثان. فقلت له: ما هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي. فقلت: وما الرجل الذي معها؟ فقال: هو صاحبها. فقلت له: أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع. فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم. فعجبت من رعونته وانصرفت عنه فلم أعد إليه بعدها. واستدعاني مرات فلم أجبه. ولما عزمت على السفر إلى مالي وبينها وبين أيوالاتن مسيرة أربعة وعشرين يوماً للمجد اكتريت دليلاً من مسوفة إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة لأمن تلك الطريق وخرجت في ثلاثة من أصحابي. وتلك الطريق كثيرة الأشجار وأشجارها عادية ضخمة تستظل القافلة بظل الشجرة منها وبعضها لا أعصان لها ولا ورق ولكن ظل جسدها بحيث يستظل به الإنسان وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها واستنقع فيه ماء المطر فكأنها بئر ويشرب الناس من الماء الذي فيها. ويكون في بعضها النخل والعسل فيشتاره الناس منها. ولقد مررت بشجرة منها فوجدت في داخلها رجلاً حائكا قد نصب بها مرمته وهو ينسج فعجبت منه. قال ابن جزي: إن ببلاد الأندلس شجرتان من شجر القسطل في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب وإحداهما بسندا وادي

آش والآخرى ببشارة غرناطة. وفي أشجار هذه الغابة التي بين إيوالاتن ومالي ما يشبه شجرة الإجاص والتفاح والخوخ والمشمش وليست بها. وفيها أشجار تثمر شبه الفقوس فإذا طاب انفلق عن شيء شبه الدقيق فيطبخونه ويأكلونه ويباع بالأسواق ويستخرجون من هذه الأرض حبات كالفول فيقلونها ويأكلونها وطعمها كطعم الحمص المقلو. وربما طحنوها وصنعوا منها شبه الإسفنج وقلوه بالغرتي، والغرتي "بفتح الغين المعجم وسكون الراء وكسر التاء المثناة" هو ثمر كالإجاص شديد الحلاوة مضر بالبيضان إذا أكلوه، ويدق عظمه فيستخرج منه زيت لهم فيه منافع، فمنها أنهم يطبخون به ويسرجون السرج ويقلون به هذا الإسفنج ويدهنون به ويخلطونه بتراب عندهم ويسطحون به الدور كما تسطح بالجير. وهو عندهم كثير متيسر ويحمل من بلد إلى بلد في قرع كبار تسع القرعة منها قدر ما تسعه القلة ببلادنا. والقرع ببلاد السودان يعظم ومنه يصنعون الجفان. يقطعون القرعة نصفين فيصنعون منها جفنتين وينقشونها نقشاً حسناً. وإذا سافر أحدهم يتبعه عبيده وجواريه يحملون فرشه وأوانيه التي يأكل ويشرب فيها وهي من القرع. والمسافر في هذه البلاد لا يحمل زاداً ولا إداماً ولا ديناراً ولا درهماً. إنما يحمل قطع الملح وحلي الزجاج الذي يسميه الناس النظم وبعض السلع العطرية. وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكى وتاسر غنت وهو بخورهم. فإذا وصل قرية جاء نساء السودان بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوني، وهو كحب الخردل يصنع منه الكسكسو والعصيدة ودقيق اللوبيا فيشتري منهن ما أحب من ذلك. إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان، والفوني خير منه. وبعد مسيرة عشرة أيام من أيوالاتن وصلنا إلى قرية زَاغري "وضبطها بفتح الزاي والغين المعجم وكسر الراء"، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان ويسمون وَنْجَرَاته "بفتح الواو وسكون النون وفتح الجيم والراء وألف وتاء مثناة وتاء تأنيث". ويسكن معهم جماعة من البيضان يذهبون مذهب الإباضية من الخوارج، ويسمون صَغَنَغُو "بفتح الصاد المهمل والغين المعجم الأول والنون وضم الغين الثاني وواو" والسنيون المالكيون من البيض يسمون عندهم تُوُرِي "بضم التا المثناة وواو وراء مكسورة". ومن هذه القرية يجلب أنلي إلى

إيوالاتن. ثم سرنا من زاغري فوصلنا إلى النهر الأعظم، وهو النيل1 وعليه بلدة كارْسَخُو "بفتح الكاف وسكون الراء وفتح السين المهمل وضم الخاء المعجم وواو"، والنيل ينحدر منها إلى كَابرَة "بفتح الباء الموحدة والراء"، ثم إلى زَاغَة "بفتح الزاي والغين المعجم"، ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي، وأهل زاغة قدماء في الإسلام لهم ديانة وطلب للعلم، ثم ينحدر النيل من زاغة إلى تنبكتو ثم إلى كَوْكَوْ وسنذكرها، ثم إلى بلدة مُولِي "بضم الميم وكسر اللام" من بلاد الليميي، ن وهي آخر عمالة مالي، ثم إلى يوفي واسمها "بضم الياء آخر الحروف وواو مكسورة"، وهي من أكبر بلاد السودان وسلطانها من أعظم سلاطينهم. ولا يدخلها الأبيض من الناس لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها. ثم ينحدر منها إلى بلاد النوبة وهم على دين النصرانية، ثم إلى دُنْقُلة وهي أكبر بلادهم "وضبطها ضم الدال والقاف وسكون النون بينهما وفتح اللام"، وسلطانها يدعى بابن كنز الدين، أسلم على أيام الملك الناصر، ثم ينحدر إلى جنادل وهي آخر عمالة السودان وأول عمالة أسوان من صعيد مصر. ورأيت التمساح بهذا الموضع من النيل بالقرب من الساحل كأنه قارب صغير. ولقد نزلت يوماً إلى النيل لقضاء حاجة فإذا بأحد السودان قد جاء ووقف فيما يني وبين النهر. فعجبت من سوء أدبه وقلة حيائه، وذكرت ذلك لبعض الناس فقال: إنما فعل ذلك خوفاً عليك من التمساح فحال بينك وبينه. ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صَنْصَرة "بفتح الصادين المهملين والراء وسكون النون" وهو على نحو عشرة أميال من مالي. وعادتهم أن يمنع الناس من دخولها إلا بإذن. وكنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي وشمس الدين ابن النقويش المصري ليكتروا لي داراً، فلما وصلت إلى النهر المذكور جزت في المعدية ولم يمنعني أحد، فوصلت إلى مدينة مالي حضرة ملك السودان فنزلت عند مقبرتها ووصلت إلى محلة البيضان، وقصدت محمد بن الفقيه، فوجدته قد اكترى لي داراً إزاء داره، فتوجهت إليها.

_ 1 وَهِمَ ابن بطوطة في قوله: إن النهر الأعظم الذي وصل إليه هو النيل، فإنما هو نهر النيجر، فهو الذي يمر بالبلدان التي ذكرها، ومنابعه في شمال سيراليون، وليبيريا، ويصب في المحيط الأطلسي، أما نهر النيل فتقع عليه دنقلة، وبلاد النوبة، ومنابعه في أوغندا، وتنغانيقا، وتصل إليه الأمصار التي تسقط صيفاً على الجبال الحبشة، فيكون فيضانه.

وجاء صهره الفقيه المقريء عبد الواحد بشمعة وطعام، ثم جاء ابن الفقيه إلي من الغد وشمس الدين بن النقويش وعلي الزودي المراكشي وهو من الطلبة، ولقيت القاضي بمالي عبد الرحمن، جاءني، وهو من السودان حاج فاضل له مكارم أخلاق بعث إلي بقرة في ضيافته. ولقيت الترجمان دوغَا "بضم الدال وواو وغين معجم"، وهو من أفاضل السودان وكبارهم، وبعث إلي بثور وبعث إلي الفقيه عبد الواحد غرارتين من الفوني وقرعة من الغرتي، وبعث إلي ابن الفقيه الأرز الفوني، وبعث إلي شمس الدين ضيافة، وقاموا بحقي أتم قيام شكر الله لهم حسن أفعالهم. وكان الفقيه متزوجاً ببنت عم السلطان فكانت تتفقدنا بالطعام وغيره. وأكلنا بعد عشرة أيام من وصولنا عصيدة تصنع من شيء شبه القلقاس يسمى القافي "بقاف وألف وفاء" وهي عندهم مفضلة على سائر الطعام فأصبحنا جميعاً مرضى وكنا ستة فمات أحدنا وذهبت أنا لصلاة الصبح فغشي علي فيها، وطلبت من بعض المصريين دواءً مسهلاً فأتى بشيء يسمى بَيْدر "بفتح الباء الموحدة وتسكين الياء آخر الحروف وفتح الداء المهمل وراء" وهو عروق نبات، وخلطه بالأنيسون والسكر، ولته بالماء فشربته، وتقيأت ما أكلته مع صفراء كثيرة. وعافاني الله من الهلاك. ولكني مرضت شهرين. وكان سلطان مالي مَنْسَى سليمان ومنسى "بفتح الميم وسكون النون وفتح السين المهمل" معناه: السلطان، وسليمان اسمه وهو ملك بخيل لا يرجى منه كبير عطاء، واتفق أني أقمت هذه المدة ولم أره بسبب مرضي، ثم إنه صنع طعاما برسم عزاء مولانا أبي الحسن رضي الله عنه واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب وحضرت معهم فأتوا بالربعات وختم القرآن ودعوا لمولانا أبي الحسن رحمه الله ودعوا لمنسي سليمان. ولما فرغ من ذلك تقدمت فسلمت على منسى سليمان وأعلمه القاضي والخطيب وابن الفقيه بحالي فأجابهم بلسانهم فقالوا لي: يقول لك السلطان أشكر الله: فقلت الحمد لله، والشكر على كل حال. ولما انصرفت بعث إلي الضيافة فوجهت إلى دار السلطان القاضي وبعث القاضي بها مع رجاله إلى دار ابن الفقيه. فخرج ابن الفقيه من داره مسرعاً حافي القدمين فدخل علي، وقال: قم، قد جاءك قماش السلطان وهديته. فقمت،

وظننت أنها الخلع والأموال، فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتي وقرعة فيها لبن رائب، فعندما رأيتها ضحكت وطال تعجبي من ضعف عقولهم، وتعظيمهم لهذا الشيء الحقير. وأقمت بعد بعث هذه الضيافة شهرين لم يصل إلي فيهما شيء من قبل السلطان. ودخل شهر رمضان وكنت خلال ذلك أتردد إلى المشور وأسلم عليه وأقعد مع القاضي والخطيب فتكلمت مع دوغا الترجمان، فقال: تكلم عنده، وأنا أعبر عنك ما يجب فجلس في أوائل رمضان وقمت بين يديه وقلت له إني سافرت بلاد الدنيا، ولقيت ملوكها، ولي ببلادك أربعة أشهر ولم تضفني ولا أعطيتني شيئاً. فماذا أقول عنك عند السلاطين؟ فقال: إني لم أرك ولا علمت بك فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها ونفقة تجري علي، ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالاً ليلة سبع وعشرين من رمضان يسمونه الزكاة. وأعطاني ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً وأحسن إلي عند سفري بمائة مثقال ذهباً. وله قبة مرتفعة بابها بداخل داره يقعد فيها أكثر الأوقات ولها من جهة المشور طيقان ثلاثة من الخشب مغطاة بصفائح الفضة وتحتها ثلاثة مغشاة بصفائح الذهب أو هي فضة مذهبة وعليها ستور ملف فإذا كان يوم جلوسه بالقبة رفعت الستور فعلم أنه يجلس فإذا جلس أخرج من شباك إحدى الطاقات شرابة حرير قد ربط فيها منديل مصري مرقوم فإذا رأى الناس المنديل ضربت الأطبال والأبواق ثم خرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد في أيدي بعضهم القسي وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدرق فيقف أصحاب الرماح منهم ميمنة وميسرة ويجلس أصحاب القسي كذلك ثم يؤتى بفرسين مسرجين ملجمين ومعهما كبشان يذكرون أنهما ينفعان من العين. وعند جلوسه يخرج ثلاثة من عبيده مسرعين فيدعون نائبه قنجاه موسى وتأتي الفَرارية "بفتح الفاء"، وهم الأمراء، ويأتي الخطيب والفقهاء، فيقعدون أمام السلحدارية يمنه ويسرة في المشور ويقف دوغا الترجمان على باب المشور وعليه الثياب الفاخرة من الزردخانة وغيرها وعلى رأسه عمامة ذات

حواشي لهم في تعميمها صنعة بديعة وهو متقدل سيفاً غمده من الذهب وفي رجليه الخف والمهاميز ولا يلبس أحد ذلك اليوم خفاً غيره. ويكون في يده رمحان صغيران أحدهما من ذهب والآخر من فضة وأسنتهما من الحديد. ويجلس الأجناد والولاة والفتيان ومسوفة وغيرهم خارج المشور في شارع هنالك متسع فيه أشجار، وكل فراري بين يديه أصحابه بالرماح والقسى والأطبال والأبواق، بوقاتهم من أنياب الفيلة، وآلات الطرب المصنوعة من القصب والقرع وتضرب بالسطاعة ولها صوت عجيب وكل فراري له كنانة قد علقها بين كتفيه وقوسه بيده وهو راكب فرسه وأصحابه بين مشاة وركبان ويكون بداخل المشور تحت الطيقان رجل واقف فمن أراد أن يكلم السلطان كلم دوغا ويكلم دوغا لذلك الواقف ويكلم الواقف السلطان. ويجلس السلطان أيضاً في بعض الأيام بالمشور وهنالك مصطبة تحت شجرة لها ثلاث درجات، يسمونها البَنْبي "بفتح الباء المعقود الأولى وكسر الثانية وسكون النون بينهما"، وتفرش بالحرير، وتجعل المخاد عليها ويرفع الشطر وهو شبه قبة من الحرير وعليه طائر من ذهب على قدر البازي ويخرج السلطان من باب في ركن القصر وقوسه بيده وكنانته بين كتفيه وعلى رأسه شاشية ذهب مشدودة بعصابة ذهب لها أطراف مثل السكاكين رقاق طولها أزيد من شبر وأكثر لباسه جبة حمراء موبرة من الثياب الرمية التي تسمى المطنفس، ويخرج بين يديه المغنون بأيديهم قنابر الذهب والفضة وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح ويمشي مشياً رويداً ويكثر التأني وربما وقف، فإذا وصل إلى البَنْبي وقف ينظر في الناس، ثم يصعد برفق كما يصعد الخطيب المنبر، وعند جلوسه تضرب الطبول والأبواق والأنفار ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين فيدعون النائب والفرارية فيدخلون ويجلسون ويؤتى بالفرسين والكبشين معهما ويقف دوغا على الباب وسائر الناس في الشارع تحت الأشجار. والسودان أعظم الناس تواضعاً لملكهم، وأشدهم تذللاً له ويحفلون باسمه فيقولون: منسى سليمان كي، فإذا دعا بأحدهم عند جلوسه بالقبة التي ذكرناها نزع المدعو ثيابه ولبس ثياباً خلقة، ونزع عمامته، وجعل شاشية وسخة، ودخل رافعاً ثيابه وسراويله إلى نصف ساقه وتقدم بذلة ومسكنة، وضرب الأرض بمرفقيه ضرباً شديداً ووقف كالراكع يسمع كلامه.

وإذا كلم أحدهم السلطان فرد عليه جوابه كشف ثيابه عن ظهره ورمى بالتراب على رأسه وظهره كما يفعل المغتسل بالماء، وكنت أعجب منهم كيف لا تعمى أعينهم. وإذا تكلم السلطان في مجلسه بكلام وضع الحاضرون عمائهم عن رؤوسهم، وأنصتوا للكلام وربما قام أحدهم بين يديه فيذكر أفعاله في خدمته، ويقول: فعلت كذا يوم كذا، وقتلت كذا يوم كذا فيصدقه من علم ذلك وتصديقهم أن ينزع أحدهم وتر قوسه ثم يرسلها كما يفعل إذا رمى، فإذا قال له السلطان: صدقت أو شكره نزع ثيابه وترب وذلك عندهم من الأدب. قال ابن جزي: وأخبرني الصاحب العلامة الفقيه أبو القاسم بن رضوان أعزه الله أنه لما قدم الحاج موسى الونجراتي رسولاً عن منسى سليمان إلى مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، كان إذا دخل المجلس الكريم، حمل بعض ناسه معه قفة تراب فيترب لهما قال له مولانا كلاماً حسناً، كما يفعل ببلاده. وحضرت بمالي عيدي الأضحى والفطر فخرج الناس إلى المصلى وهو بمقربة من قصر السلطان وعليهم الثياب الحسان وركب السلطان وعلى رأسه الطيلسان والسودان لا يلبسون الطيلسان إلا في العيد ما عدا القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم يلبسونه في سائر الأيام وكانوا يوم العيد بين يدي السلطان وهم يهللون ويكبرون وبين يديه العلامات الحمر من الحرير ونصب عند المصلى خباء فدخل السلطان إليها وأصلح من شأنه ثم خرج إلى المصلى فقضيت الصلاة والخطبة ثم نزل الخطيب وقعد بين يدي السلطان وتكلم بكلام كثير وهنالك رجل بيده رمح يبين للناس بلسانهم كلام الخطيب وذلك وعظ وتذكير وثناء على السلطان وتحريض على لزوم طاعته وأداء حقه. ويجلس السلطان في أيام العيدين بعد العصر على البنبي ويأتي السلحدارية بالسلاح العجيب من تراكش الذهب والفضة والسيوف المحلاة بالذهب وأغمادها منه ورماح الذهب والفضة ودبابيس البلور ويقف على رأسه أربعة من الأمراء يشردون الذباب وفي أيديهم حلية من الفضة تشبه ركاب السرج ويجلس الفرارية والقاضي والخطيب على العادة ويأتي دوغا الترجمان بنسائه الأربع وجواريه وهن نحو مائة عليهن الملابس الحسان وعلى رؤوسهن عصائب الذهب والفضة فيها مفاتيح ذهب وفضة وينصب لدوغا كرسي يجلس عليه،

ويضرب الآلة التي هي من قصب وتحتها قريعات ويغني بشعر بمدح السلطان فيه ويذكر غزواته وأفعاله ويغني النساء والجواري معه ويلعبن بالقسي ويكون معهن نحو ثلاثين من غلمانه عليهم جباب الملف والحمر وفي رؤسهم الشواشي البيض وكل واحد منهم متقلد طبله يضربه ثم يأتي أصحابه من الصبيان ويلعبون في الهواء كما يفعل السندي ولهم في ذلك رشاقة وخفة بديعة ويلعبون بالسيوف أجمل لعب ويلعب دوغا بالسيف لعباً بديعاً وعند ذلك يأمر السلطان له بالإحسان فيوتى بصرة فيها مائتا مثقال من التبر وينثر ما فيها على رؤوس الناس وتقوم الفرارية فينزعون في قسيهم شكرا للسلطان وبالغد يعطى كل واحد منهم لدوغا عطاء على قدره وفي كل يوم جمعة بعد العصر يفعل دوغا مثل هذا الترتيب الذي ذكرناه. وإذا كان يوم عيد وأتم دوغا لعبه جاء الشعراء ويسمون الجُلا "بضم الجيم"، وأحدهم جالي، وقد دخل كل واحد منهم في جوف صورة مصنوعة من الريش تشبه الشقشاق، وجعل لها رأس من الخشب له منقار أحمر كأنه رأس الشقشاق ويقفون بين يدي السلطان بتلك الهيئة المضحكة فينشدون أشعارهم. وذكر لي أن شعرهم نوع من الوعظ يقولون فيه للسطان أن هذا البنبي الذي عليه جلس فوقه من الملوك فلان وكان من أحسن أفعاله كذا وفلان وكان من أفعاله كذا فافعل أنت من الخير ما يذكر بعدك ثم يصعد كبير الشعراء على درج البنبي ويضع رأسه في حجر السلطان ثم يصعد إلى أعلى البنبي فيضع رأسه على كتف السلطان الأيمن ثم على كتفه الأيسر وهو يتكلم بلسانهم، ثم ينزل. وأخبرت أن هذا الفعل لم يزل قديماً عندهم قبل الإسلام فاستمروا عليه. وحضرت مجلس السلطان في بعض الأيام فأتى أحد فقهائهم وكان قدم من بلاد بعيدة وقام بين يدي السلطان وتكلم كلاماً كثيراً فقام القاضي فصدقه ثم صدقهما السلطان فوضع كل واحد منهما عمامته عن رأسه وترب بين يديه وكان إلى جانبي رجل من البيضان فقال: أتعرف ما قالوه؟ فقلت: لا أعرف. فقال: إن الفقيه أخبر أن الجراد وقع ببلادهم فخرج أحد صلحائهم إلى موضع الجراد فهاله أمرها فقال هذا جراد كثير. فأجابته جرادة منها وقالت: إن البلاد التي يكثر فيها الظلم يبعثنا الله لفساد زرعها. فصدقه القاضي والسلطان. وقال عند ذلك للأمراء إني بريء من الظلم ومن ظلم منكم عاقبته ومن علم بظالم

ولم يعلمني به فذنوب ذلك الظالم في عنقه والله حسيبه وسائله. ولما قال هذا الكلام وضع الفرارية عمائمهم عن رؤوسهم وتبرؤوا من الظلم. وحضرت الجمعة يوماً فقام أحد التجار من طلبة مسوفة ويسمى بأبي حفص فقال: يا أهل المسجد أشهدكم أن منسى سليمان في دعوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك خرج إليه جماعة رجال من مقصورة السلطان فقالوا له: من ظلمك؟ من أخذ لك شيئاً؟ فقال منشاجو إيوالاتن يعني مشرفها أخذ مني ما قيمته ستمائة مثقال وأراد أن يعطيني في مقابلته مائة مثقال خاصة فبعث السلطان عنه للحين فحضر بعد أيام وصرفهما للقاضي فثبت للتاجر حقه فأخذه وبعد ذلك عزل المشرف عن عمله. واتفق في يوم إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا ومعنى قاسا عندهم الملكة، وهي شريكته في الملك على عادة السودان، ويذكر اسمها مع اسمه على المنبر وسجنها عند بعض الفرارية، وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو ولم تكن من بنات الملوك فأكثر الناس الكلام في ذلك وأنكروا فعله، ودخل بنات عمه على بنجو يهنئنها بالمملكة فجعلن الرماد على أذرعهن ولم يتربن رؤوسهن ثم إن السلطان سرح قاسا من ثقافها فدخل عليها بنات عمه يهنئنها بالسراح وتزين على العادة فشكت بنجو إلى السلطان بذلك. فغضب على بنات عمه فخفن منه واستجرن بالجامع فعفا عنهن، واستدعاهن وعادتهن إذا دخلن على السلطان أن يتجردن عن ثيابهن ويدخلن عرايا، ففعلن ذلك ورضي عنهن، وصرن يأتين باب السلطان غدواً وعشياً مدة سبعة أيام وكذلك يفعل كل من عفا عنه السلطان. وسارت قاسا تركب كل يوم في جواريها وعبيدها وعلى رؤوسهم التراب وتقف عند المشور متنقبة لا يرى وجهها، وأكثر الأمراء الكلام في شأنها فجمعهم السلطان في المشور وقال لهم دوغا على لسانه: إنكم قد أكثرتم الكلام في أمر قاسا وإنها أذنبت ذنباً كبيراً. ثم أتي بجارية من جواريها مقيدة مغلولة، فقيل لها: تكلمي بما عندك. فأخبرت أن قاسا بعثتها إلى جاطل ابن عم السلطان الهارب عنه إلى كنبرني واستدعته ليخلع السلطان عن ملكه، وقالت له: أنا وجميع العساكر طوع أمرك، فلما سمع الأمراء ذلك قالوا: إن هذا ذنب كبير وهي تستحق القتل عليه.

فخافت قاسا من ذلك واستجارت بدار الخطيب، وعادتهم أن يستجيروا هنالك بالمسجد وإن لم يتمكن فبدار الخطيب. وكان السودان يكرهون منسى سليمان لبخله، وكان قبله منسى مغا وقبل منسى مغا منسى موسى وكان كريماً فاضلاً يحب البيضان ويحسن إليهم وهو الذي أعطى لأبي إسحاق الساحلي في يوم واحد أربعة آلاف مثقال، وأخبرني بعض الثقات أنه أعطى لمدرك بن فقوص ثلاثة آلاف مثقال في يوم واحد وكان جده سارق جاطه أسلم على يدي مدرك هذا. وأخبرني الفقيه مدرك هذا أن رجلاً من أهل تلمسان يعرف بابن شيخ اللبن كان قد أحسن إلى السلطان منسى موسى في صغره بسبعة مثاقيل وثلث وهو يومئذ صبي غير معتبر ثم اتفق أن جاء إليه في خصومة وهو سلطان فعرفه ودعاه وأدناه منه حتى جلس معه على البنبي ثم قرره على فعله معه وقال للأمراء ما جزاء من فعل ما فعله من الخير فقالوا له الحسنة بعشر أمثالها فأعطه سبعين مثقالاً فأعطاه عند ذلك سبعمائة مثقال وكسوة وعبيداً وخدماً وأمره أن لا ينقطع عنه وأخبرني بهذه الحكاية أيضا ولد ابن شيخ اللبن المذكور وهو من الطلبة يعلم القرآن بمالي. فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه، ومنها شمول الأمن في بلادهم فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب، ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان ولو كان القناطير المقنطرة إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان حتى يأخذه مستحقه، ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات وضربهم أولادهم عليها، وإذا كان يوم الجمعة ولم يبكر الإنسان إلى المسجد لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام. ومن عادتهم أن يبعث كل إنسان غلامه بسجادته فيبسطها له بموضع يستحقه بها حتى يذهب إلى المسجد وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل ولا ثمر له، ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة ولو لم يكن لأحدهم إلى قميص خلق غسله ونظفه وشهد به الجمعة، ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه فلا تفك عنهم حتى يحفظوه. ولقد دخلت على القاضي يوم العيد وأولاده مقيدون، فقلت له: ألا

تسرحهم؟ فقال: لا أفعل حتى يحفظوا القرآن. ومررت يوماً بشاب منهم حسن الصورة عليه ثياب فاخرة وفي رجله قيد ثقيل. فقلت لمن كان معي: ما فعل هذا؟ أقتل؟ ففهم عني الشاب وضحك وقيل لي: إنما قيد حتى يحفظ القرآن. ومن مساوئ أفعالهم كون الخدم الجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات. ولقد كنت أرى في رمضان كثيراً منهن على تلك الصورة. فإن عادة الفرارية أن يفطروا بدار السلطان ويأتي كل واحد منهم بطعامه تحمله العشرون فما فوقهن من جواريه وهن عرايا. ومنها دخول النساء على السلطان عرايا غير مستترات، وتعري بناته، ولقد رأيت في ليلة سبع وعشرين من رمضان نحو مائة جارية خرجن بالطعام من قصره عرايا، ومعهن بنتان لهما ناهدان ليس عليهما ستر. ومنها جعلهم التراب والرماد على رؤوسهم تأدباً. ومنها ما ذكرته من الأضحوكة في إنشاد الشعراء. ومنها أن كثيراً منهم يأكلون الجيف والكلاب والحمير. وكان دخولي إلى مالي في الرابع عشر لجمادى الأولى سنة ثلاثة وخمسين وخروجي عنها في الثاني والعشرين لمحرم سنة أربع وخمسين ورافقني تاجر يعرف بأبي بكر بن يعقوب وقصدنا طريق ميمة وكان لي جمل أركبه لأن الخيل غالية الأثمان يساوي أحدها مائة مثقال فوصلنا إلى خليج كبير يخرج من النيل لا يجاز إلا في المراكب وذلك الموضع كثير البعوض فلا يمر أحد به إلا بالليل. ووصلنا الخليج ثلث الليل والليل مقمر. ولما وصلنا الخليج رأيت على ضفته ست عشرة دابة ضخمة الخلقة فعجبت منها وظننتها فيلة لكثرتها هنالك ثم أني رأيتها دخلت في النهر. فقلت لأبي بكر بن يعقوب: ما هذه الدواب؟ فقال: هي خيل البحر خرجت ترعى في البر وهي أغلظ من الخيل ولها أعراف وأذناب ورؤوسها كرؤوس الخيل وأرجلها كأرجل الفيلة. ورأيت هذه الخيل مرة أخرى لما ركبنا النيل من تُنبكتو إلى كَوْكَوْ وهي تعوم في الماء وترفع رؤوسها وتنفخ. وخاف منها أهل المركب فقربوا من البر لئلا تغرقهم. ولهم حيلة في صيدها حسنة وذلك أن لهم رماحاً مثقوبة قد جعل في ثقبها شرائط وثيقة فيضربون الفرس منها فإن صادفت الضربة رجله أو عنقه أنفذته وجذبوه بالحبل حتى يصل إلى الساحل فيقتلونه ويأكلون لحمه ومن عظامها بالساحل كثير. وكان نزولنا عند

هذا الخليج بقرية كبيرة عليها حاكم من السودان حاج فاضل يسمى فربامغا "بفتح الميم والغين المعجم"، وهو ممن حج مع السلطان منسى موسى لما حج. أخبرني فربامغا أن منسى موسى لما وصل إلى هذا الخليج كان معه قاض من البيضان يكنى بأبي العباس ويعرف بالدكالي فأحسن إليه بأربعة آلاف مثقال لنفقته. فلما وصلوا إلى ميمة شكا إلى السلطان بأن الأربعة آلاف مثقال سرقت له من داره. فاستحضر السلطان أمير ميمة وتوعده بالقتل إن لم يحضر من سرقها. وطلب الأمير السارق فلم يجد أحداً ولا سارق يكون بتلك البلاد. فدخل دار القاضي واشتد على خدامه وهدّدهم. فقالت له إحدى جواريه: ما ضاع له شيء وإنما دفنها بيده في ذلك الموضع وأشارت له إلى الموضع فأخرجها الأمير وأتى بها السلطان وعرفه الخبر فغضب على القاضي ونفاه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم فأقام عندهم أربع سنين ثم رده إلى بلده. وإنما لم يأكله الكفار لبياضه، لأنهم يقولون: إن أكل الأبيض مضرّ، لأنه لم ينضج. والأسود هو النضج بزعمهم. قدمت على السلطان منسى سليمان جماعة من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم معهم أمير لهم. وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً وتكون فتحة القرط نصف شبر ويلتحفون في ملاحف الحرير. وفي بلادهم يكون معدن الذهب فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادماً فذبحوها وأكلوها ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها. وأتوا السلطان شاكرين. وأخبرت أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك. وذكر لي عنهم أنهم يقولون أن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي. ثم رحلنا من هذه القرية التي عند الخليج فوصلنا إلى بلدة قُرِي منسا. وقرِي "بضم القاف وكسر الراء"، ومات لي بها الجمل الذي كنت أركبه فأخبرني راعيه بذلك فخرجت لأنظر إليه فوجدت السودان قد أكلوه كعادتهم في أكل الجيف فبعثت غلامين كنت استأجرتهما على خدمتي ليشتريا لي جملاً بِزَاغَري وهي على مسيرة يومين. وأقام معي بعض أصحاب أبي بكر بن يعقوب وتوجه هو لينتظرنا بميمة فأقمت سبعة أيام أضافني فيها بعض الحجاج بهذه البلدة حتى وصل الغلامان بالجمل. وفي أيام إقامتي بهذه البلدة رأيت ليلة فيما يرى النائم كأن إنساناً يقول لي: يا محمد بن بطوطة لماذا لا تقرأ سورة يس في كل يوم؟ فمن يومئذ ما

تركت قراءتها كل يوم في سفر ولا حضر. ثم رحلت إلى بلدة مِيمَة "بكسر الميم الأول وفتح الثاني" فنزلنا على آبار بخارجها. ثم سافرنا منها إلى مدينة تُنْبُكتُو"وضبط اسمها بضم التاء المعلوة وسكون النون وضم الباء الموحدة وسكون الكاف وضم التاء المعلوة الثانية وواو"، وبينها وبين النيل أربعة أميال. وأكثر سكانها مسوفة أهل اللثام وحاكمها يسمى فربا موسى. حضرت عنده يوماً وقد قدم أحد مسوفة أميراً على جماعة فجعل عليه ثوبا وعمامة وسروالاً كلها مصبوغة وأجلسه على درقة ورفعه كبراء قبيلته على رؤوسهم. وبهذه البلدة قبر الشاعر المفلق أبي إسحاق الساحلي الغرناطي المعروف ببلده بالطويجن، وبها قبر سراج الدين بن الكويك أحد كبار التجار من أهل الإسكندرية. كان السلطان منسى موسى، لما حج نزل بروض لسراج الدين هذا ببركة الحبش خارج مصر وبها ينزل السلطان واحتاج إلى مال فتسلفه من سراج الدين وتسلف منه أمراؤه أيضاً. وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضي المال فأقام بمالي فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله ومعه ابن له، فلما وصل تُنْبُكتو أضافه أبو إسحاق الساحلي فكان من القدر موته تلك الليلة فتكلم الناس في ذلك واتهموا أنه سم. فقال لهم ولده: إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه فلو كان فيه سم لقتلنا جميعا لكنه انقضى أجله. ووصل الولد إلى مالي واقتضى ماله وانصرف إلى ديار مصر. ومن تُنْبُكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة وكنا ننزل كل ليلة بالقرى فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن بالملح وبالعطريات وبحلي الزجاج ثم وصلت إلى بلد اُنسيت اسمه له أمير فاضل حاج يسمى فربا سليمان مشهور بالشجاعة والشدة لا يتعاطى أحد النزع في قوسه ولم أر في السودان أطول منه ولا أضخم جسماً واحتجت بهذه البلدة إلى شيء من الذرة فجئت إليه وذلك يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وسألني عن مقدمي وكان معه فقيه يكتب له فأخذت لوحاً كان بين يديه وكتبت فيه: يا فقيه قل لهذا الأمير، إنا نحتاج إلى شيء من الذرة للزاد والسلام. وناولت الفقيه اللوح يقرأ ما فيه سرا ويكلم الأمير في ذلك بلسانه فقرأه جهراً وفهمه الأمير فأخذ بيدي وأدخلني إلى مشوره وبه سلاح كثير من الدرق والقسي والرماح، ووجدت عنده كتاب

المدهش لابن الجوزي فجعلت أقرأ فيه. ثم أتي بمشروب لهم يمسى الدَّقْنُو "بفتح الدال المهمل وسكون القاف وضم النون وواو" وهو ماء فيه جريش الذرة مخلوط بيسير عسل أو لبن وهم يشربونه عوض الماء لأنهم إن شربوا الماء خالصاً أضرّ بهم وإن لم يجدوا الذرة خلطوه بالعسل أو اللبن، ثم أتي ببطيخ أخضر فأكلنا منه ودخل غلام خماسي فدعاه وقال لي: هذا ضيافتك واحفظه لئلا يفر، فأخذته وأردت الانصراف فقال: أقم حتى يأتي الطعام. وجاءت إلينا جارية له دمشقية عربية فكلمتني بالعربي. فبينما نحن في ذلك سمعنا صراخاً بداره. فوجه الجارية لتعرف خبر ذلك فعادت إليه فأعلمته أن بنتا له قد توفيت، فقال: إني لا أحب البكاء فتعال نمش إلى البحر يعني النيل وله على ساحله ديار فأتى بالفرس، فقال لي: اركب فقلت لا اركبه وأنت ماش فمشينا جميعاً ووصلنا إلى دياره على النيل وأتي الطعام فأكلنا وودعته وانصرفت. ولم أر في السودان أكرم منه ولا أفضل والغلام الذي أعطانيه باق عندي إلى الآن. ثم سرت إلى مدينة كَوْكَو، وهي مدينة كبيرة على النيل من أحسن مدن السودان وأكبرها وأخصبها فيها الأرز الكثير واللبن والدجاج والسمك، وبها الفقوس العناني الذي لا نظير له. وتعامل أهلها في البيع والشراء بالودع وكذلك أهل مالي. وأقمت بها نحو شهر. وأضافني بها محمد بن عمر من أهل مكناسة وكان ظريفاً مزاحاً فاضلاً. وتوفي بها بعد خروجي عنها. وأضافني بها الحاج محمد الوجدي التازي وهو ممن دخل اليمن، والفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان. ثم سافرت منها برسم تَكْدَّا في البر مع قافلة كبيرة للغدامسين. دليلهم ومقدمهم الحاج وُجّين "بضم الواو وتشديد الجيم المعقودة" ومعناه الذئب بلسان السودان. وكان لي جمل لركوبي وناقة لحمل الزاد فلما رحلنا أول مرحلة وقفت الناقة فأخذ الحاج وجين ما كان عليها وقسمه على أصحابه فتوزعوا حمله. وكان في الرفقة مغربي من أهل تادلي فأبى أن يرفع من ذلك شيئاً كما فعل غيره. وعطش غلامي يوماً فطلبت منه الماء فلم يسمح به. ثم وصلنا إلى بلاد بَرْدامة وهي قبيلة من البربر "وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهمل وميم مفتوح وتاء تأنيث". ولا تسير القوافل إلا

في خفارتهم. والمرأة عندهم في ذلك شأنا أعظم من الرجل. وهم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل ويقيمون أعواداً من الخشب ويضعون عليها الحصر وفوق ذلك أعواداً مشتبكة وفوقها الجلود أو ثياب القطن. ونساؤهم أتم النساء جمالاً وأبدعهن صوراً، مع البياض الناصع والسمن. ولم أر في البلاد من يبلغ مبلغهن في السمن. وطعامهن حليب البقر وجريش الذرة يشربنه مخلوطاً بالماء غير مطبوخ عند السماء والصباح. ومن أراد التزوج منهن سكن بهن في أقرب البلاد إليهن، ولا يتجاوز بهن كوكو ولا إيوالاتن. وأصابني المرض في هذه البلاد لاشتداد الحر وغلبة الصفراء. واجتهدنا في السير إلى أن وصلنا إلى مدينة تَكْدّاَ "وضبطها بفتح التاء المعلوة والكاف المعقودة والدال المهمل مع تشديده". ونزلت بها في جوار شيخ المغاربة سعيد بن علي الجزولي وأضافني قاضيها أبو إبراهيم إسحاق الجاناتي وهو من الأفاضل وأضافني جعفر بن محمد المسوفي. وديار تكدا مبنية بالحجارة الحمر وماؤها يجري على معادن النحاس فيتغير لونه وطمعه بذلك ولا زرع بها إلا يسير من القمح يأكله التجار والغرباء ويباع بحساب عشرين مدا من أمداداهم بمثقال ذهب ومدهم ثلث المد ببلادنا. وتباع الذرة عندهم بحساب تسعين مدا بمثقال ذهب. وهي كثيرة العقارب وعقاربها تقتل من كان صبيا لم يبلغ، وأما الرجال فقلما تقتلهم. ولقد لدغت يوماً وأنا بها ولداً للشيخ سعيد بن علي عند الصبح فمات لحينه، وحضرت جنازته ولا شغل لأهل تكدا غير التجارة يسافرون كل عام إلى مصر ويجلبون كل ما بها من حسان الثياب وسواها. ولأهلها رفاهية وسعة حال ويتفاخرون بكثرة العبيد والخدم وكذلك أهل مالي وأيوالاتن. ولا يبيعون المعلمات منهن إلا نادراً وبالثمن الكثير. لما دخلت تكدا أردت شراء خادم معلمة فلم أجدها، ثم بعث إلي القاضي أبو إبراهيم بخادم لبعض أصحابه فاشتريتها بخمسة وعشرين مثقالاً. ثم إن صاحبها ندم ورغب في الإقالة، فقلت له: إن دللتني على سواها أقلتك. فدلني على خادم لعلي أغيول وهو المغربي التادلي الذي أبى أن يرفع شيئاً من أسبابي حين وقعت ناقتي وأبى أن يستقي غلامي الماء حين عطش. فاشتريتها منه وكانت خيراً من الأولى. وأقلت صاحبي الأول ثم ندم المغربي على بيع

الخادم ورغب في الإقامة، وألح في ذلك فأبيت إلا أن أجازيه بسوء فعله، فكاد أن يجن أو يهلك أسفا. ثم أقلته بعد. ومعدن النحاس بخارج تكدا يحفرون عليه في الأرض، ويأتون به إلى البلد، فيسكبونه في دورهم. ويفعل ذلك عبيدهم وخدمهم فإذا سكبوه نحاساً أحمر صنعوا منه قضباناً في طول شبر ونصف بعضها رقاق وبعضها غلاظ. فتباع الغلاظ منها بحساب أربعمائة قضيب بمثقال ذهب. وتباع الرقاق بحساب ستمائة وسبعمائة بمثقال ذهب. وهي صرفهم يشترون برقاقها اللحم والحطب، ويشترون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح. ويحمل النحاس منها إلى مدينة كوبر من بلاد الكفار، وإلى زغاري، وإلى بلاد برنو، وهي على مسيرة أربعين يوماً من تكدا وأهلها مسلمون لهم ملك اسمه إدريس لا يظهر للناس ولا يكلّمهم إلا من وراء حجاب. ومن هذه البلاد يؤتى بالجواري الحسان والفتيان والثياب المجسدة. ويحمل النحاس أيضاً منها إلى جوجرة وبلاد المورتيين وسواها. وفي أيام إقامتي بها، توجه القاضي أبو إبراهيم والخطيب محمد والمدرس أبو حفص والشيخ سعيد بن علي إلى سلطان تكدا وهو بربري يسمى إزْار "بكسر الهمزة وزاي وألف وراء" وكان على مسيرة يوم منها ووقعت بينه وبين التكركري وهو من سلاطين البربر أيضا منازعة فذهبوا إلى الإصلاح بينهما. فأردت أن ألقاه فاكتريت دليلاً وتوجهت إليه وأعلمه المذكورون بقدومي فجاء إلى راكبا فرساً دون سرج وتلك عادتهم. وقد جعل عوض السرج طنفسة حمراء بديعة وعليه ملحفة وسراويل وعمامة كلها زرق ومعه أولاد أخته وهم الذين يرثون ملكه. فقمنا إليه وصافحناه. وسأل عن حالي ومقدمي فأعلم بذلك وأنزلني ببيت من بيوت اليناطبين، وهم كالوصفان عندنا. وبعث برأس غنم مشوي في السفود، وقعب من حليب البقر. وكان في جوارنا بيت أمه وأخته فجاءتا إلينا وسلمتا علينا. وكانت أمه تبعث لنا الحليب بعد العتمة وهو وقت حلبهم ويشربونه ذلك الوقت وبالغدو. وأما الطعام فلا يأكلونه. ولا يعرفونه وأقمت عندهم ستة أيام. وفي كل يوم يبعث بكبشين مشويين عند الصباح والمساء. وأحسن إلي بناقة

وعشرة مثاقيل من الذهب، وانصرفت عنه وعدت إلى تكدا. ولما عدت إلى تكدا، وصل غلام الحاج محمد بن سعيد السجلماسي، بأمر مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين آمراً لي الوصول إلى حضرته العلية فقبّلته. وامتثلته على الفور. واشتريت جملين لركوبي بسبعة وثلاثين مثقالاً وثلث، وقصدت السفر إلى توات. ورفعت زاد سبعين ليلةً إذ لا يوجد الطعام فيما بين تكدا وتوات إنما يوجد اللحم واللبن والسمن يشترى بالأثواب، وخرجت من تكدا يوم الخميس الحادي عشر لشعبان سنة أربع وخمسين في رفقة كبيرة فيهم جعفر التواتي وهو من الفضلاء ومعنا الفقيه محمد بن عبد الله قاضي تكدا. وفي الرفقة نحو ستمائة خادم. فوصلنا إلى كاهر من بلاد السلطان الكركري، وهي أرض كثيرة الأعشاب يشتري بها الناس من برابرها الغنم، ويقددون لحمها ويحمله أهل توات إلى بلادهم. ودخلنا منها إلى برية لا عمارة بها ولا ماء وهي مسيرة ثلاثة أيام. ثم سرنا بعد ذلك خمسة عشر يوماً برية لا عمارة بها إلا أن بها الماء. ووصلنا إلى الموضع الذي يفترق به طريق غات الآخذ إلى ديار مصر وطريق توات. وهنالك احساء ماء يجري على الحديد فإذا غسل به الثوب الأبيض اسودّ لونه. وسرنا من هنالك عشرة أيام ووصلنا إلى بلاد هكار، وهم طائفة من البربر ملثمون لا خير عندهم، ولقينا أحد كبرائهم فحبس القافلة حتى غرموا له أثواباً وسواها. وكان وصولنا إلى بلادهم في شهر رمضان. وهم لا يغيرون فيه ولا يعترضون القوافل. وإذا وجد سراقها المتاع بالطريق في رمضان لم يعرضوا له. وكذلك جميع من بهذه الطريق من البرابر. وسرنا في بلاد هكار شهراً وهي قليلة النبات كثيرة الحجارة طريقها وعر. ووصلنا يوم عيد الفطر إلى بلاد برابر أهل لثام كهؤلاء. فأخبرونا بأخبار بلادنا وأعلمونا أنّ أولاد خراج وابن يغمور خالفوا وسكنوا تسابيت من توات. فخاف أهل القافلة من ذلك. ثم وصلنا إلى بُودا "بضم الباء الموحدة" وهي من أكبر قرى توات، وأرضها رمال وسباخ وتمرها كثير ليس بطيب، لكن أهلها يفضلونه على تمر سجلماسة. ولا

زرع بها ولا سمن ولا زيت، وإنما يجلب لها ذلك من بلاد المغرب. وأكل أهلها التمر والجراد وهو كثير عندهم يختزنونه كما يختزن التمر ويقتاتون به ويخرجون إلى صيده قبل طلوع الشمس فإنه لا يطير إذاك لأجل البرد. وأقمنا ببُودَا أياماً ثم سافرنا في قافلة، ووصلنا في أوسط ذي القعدة إلى مدينة سجلماسة. وخرجت منها في ثاني ذي الحجة وذلك أوان البرد الشديد ونزل بالطريق ثلج كثير. ولقد رأيت الطرق الصعبة والثلج الكثير ببخارى وسمرقند وخراسان وبلاد الأتراك، فلم أر أصعب من طريق أم جنيبة. ووصلنا ليلة عيد الأضحى إلى دار الطمع، فأقمت هنالك يوم عيد الأضحى، ثم خرجت فوصلت إلى حضرة فاس، حضرة مولانا أمير المؤمنين أيده الله، فقبلت يده الكريمة وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك، وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة. والله تعالى يشكر ما أولانية من جزيل إحسانه، وسابغ امتنانه ويديم أيامه ويمتع المسلمين بطول بقائه. وههنا انتهت الرحلة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. وكان الفراغ من تقييدها في ثالث ذي الحجة عام ستة وخمسين وسبعمائة. والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

الخاتمة

الخاتمة قال ابن جزي انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة، أكرمه الله. ولا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر. ومن قال: رحال هذه الملة لم يبعد، ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. واتخذ حضرة فاس مقرّاً ومستوطناً بعد طول جولانه، إلا لما تحقق أن مولانا أيده الله أعظم ملوكها شأناً، وأعمهم فضائل، وأكثرهم إحساناً، وأشدهم بالواردين عليه عناية، وأتمهم بمن ينتمي إلى طلب العلم حماية. فيجب على مثلي أن يحمد الله تعالى لأن وفقه في أول حاله وترحاله لاستيطان هذه الحضرة التي اختارها هذا الشيخ بعد رحلة خمسة وعشرين عاماً. إنها لنعمة لا يقدر قدرها، ولا يوفى شكرها. والله تعالى يرزقنا الإعانة على خدمة مولانا أمير المؤمنين، ويبقى علينا ظل حرمته ورحمته ويجزيه عنا معشر الغرباء المنقطعين إليه أفضل جزاء المحسنين. اللهم وكما فضلته على الملوك بفضيلَتَي العلم والدين، وخصصته بالحلم والعقل الرصين، فمد لملكه أسباب التأييد والتمكين، وعرفه عوارف النصر العزيز والفتح المبين، واجعل الملك في عقبة إلى يوم الدين، وأره قرة العين في نفسه وبنيه وملكه ورعيته، يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين. والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من كتبها في صفر عام سبعة وخمسين وسبعمائة.

§1/1