رجال المعلقات العشر

مصطفى الغلاييني

المقدمة الأولى

المقدمة الأولى في العرب والعربية إجمال عن العرب قبل الإسلام بلادهم ومواقعها جزيرة العرب واقعة في الجنوب الغربي من آسيا، ويحيط بها البحر الأحمر وصحراء التيه المتصلة بترعة (السويس) من غربها والخليج الفارسي من شرقها وبحر عمان الذي هو قسم من بحر (الهند) من جنوبها والصحارى الممتدة بين بلاد الشام والفرات من شمالها. ومساحتها 1.100.000 ميل مربع. أو 3.156.558 كيلو مترا مربعا. أو 126.000 فرسخ مربع. وقد عملنا حسابها بالميل والكيلو متر والفرسخ فجاء الحساب متقاربا. ونفوسها اثنا عشر مليونا، وقيل عشرة ملايين. وهي اليوم تقسم إلى ثمانية أقسام: القسم الأول: الحجاز وهو الواقع في الجنوب الشرقي من أرض (طور سيناء) على ساحل البحر الأحمر، وسمي حجازاً لأنه حاجز بين تهامة ونجد، وتهامة محصورة بين الحجاز واليمن. و (مكة المكرمة) و (المدينة المنورة) من هذا القسم. وفي وسط (مكة) مسجدها الجامع المسمى بالحرم والكعبة، في وسطه، وبجانبها الحجر الأسود، و (مكة) هي البلد الذي ولد فيه الرسول ونشأ وفيه أكرم بالنبوة، وتسمى أيضا (بكة) وقيل: إن (بكة) هو بطن مكة، وسمي بهذا لازدحام الناس فيه، لأنه يقال: بكه إذا زحمه، وتسمى (أم القرى) وكانت تسمى في القديم (الباس والباسة والبساسة) - وأما المدينة المنورة فكانت تسمى (يثرب) وهي دار هجرة الرسول وقطب نصرته وفيها قبره الطاهر. ولكل من (مكة والمدينة) حرم له حدود مذكورة في كتب الفقه. وأرض (تهامة) تحسب اليوم من الحجاز. القسم الثاني: اليمن، وهو الواقع في جنوب الحجاز، وفي شماله بلاد (عسير) وفيه عدة مدن مشهورة بتجارة البن وهي (مخا وحديدة وعدن) . وفيه مدينة سبأ (مأرب) وصنعاء. وسميت اليمن بهذا الاسم لوقوعها عن يمين الكعبة إذا استقبلت المشرق كما أن بلاد الشام عن شمالها. القسم الثالث: حضرموت، في شرق (اليمن) وعلى ساحل (بحر الهند) ومنه يخرج العود ذو الرائحة الزكية المعروف بالقاقلى. القسم الرابع: إقليم مهرة في شرق (حضرموت) . القسم الخامس: عمان، المتصل بالخليج الفارسي من الشمال، ومن الشرق والجنوب بحر الهند. ويوجد فيه قليل من النحاس. القسم السادس: الحسا، ويجاوره جزائر (البحرين) بالخليج الفارسي، ويمتد على ساحله إلى نهر الفرات: وسكان هذا القسم يستخرجون اللؤلؤ القسم السابع: نجد، وأراضيه مرتفعة وهو في وسط الجزيرة بين الحجاز والحسا وصحارى الشام وإقليم اليمامة، وهو يتصل بالشام شمالا والعراق شرعا والحجاز غربا واليمامة جنوبا. وأرضه أطيب أرض في بلاد العرب. وفي نجد أرض (العالية) التي كان يحميها (كليب بن وائل بن ربيعة) حتى أفضى ذلك إلى قتله ونشوب (حرب البسوس) التي دامت أربعين سنة، حتى ضرب بها المثل: "أشام من حرب البسوس". وفيها جبل (عكاد) الذي لم تثبت العربية الفصحى بعد فسادها إلا في أهله. وفي (نجد) كثير من الواحات والخيول الجميلة (المعروفة بالكحيل) وهي مرغوبة في بلاد الدنيا كافة. وفي جنوب نجد أرض اليمامة. القسم الثامن: إقليم الأحقاف، وهو في أرض منخفضة في بلاد العرب وفي الجنوب الغربي من بلاد (عمان) ، ويلحق به أرض (اليمامة) وكان هذا القسم معمورا بأقوام من الجبابرة يقال لهم (عاد) ، وقد أهلكهم الله بريح عظيمة وأهال عليهم الرمال. أما في القديم فكانت تقسم إلى ستة أقسام: الحجاز واليمن ونجد وتهامة والإحساء واليمامة. فاليمامة: بين نجد واليمن وهي في جنوب نجد بين الإحساء شرقا والحجاز غربا، ومن مدائناها (اليمامة وهجر) ، وتسمى (العروض) أيضا لأنها معترضة بين نجد واليمن. وتهامة: تحسب اليوم من أرض الحجاز كما قدمنا، وهي واقعة بين اليمن جنوبا والحجاز شمالا. والإحساء: تمتد على ساحل الخليج من (عمان) إلى أرض (بصرى) ، وتسمى بالبحرين، ومن مدائنها (الإحساء والظهران والقطيف) . والحجاز قد دخل فيه تهامة. واليمن انفصل عنه أقاليم حضرموت ومهرة عمان. ونجد دخل في اليمامة والإحساء. أنسابهم وطبقاتهم طبقات العرب ثلاث وهي:

العاربة الأولى: أو العرباء وتسمى (البائدة) وهم العرب الخلص الأولون، وقد ذهبت عنا تفصيلات أخبارهم لتقادم العهد، وقد كانوا شعوبا وقبائل كثيرة، وهم من ولد (إرم بن سام بن نوح) . وهم تسع قبائل (عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم الأولى ووبار) ، ومنهم تعلم إسماعيل جد الرسول العربية، وهم أقدم الأمم بعد قوم نوح وأعظمهم قدرة وأشدهم قوة وآثارا في الأرض، وقد انتقلوا إلى جزيرة العرب من (بابل) لما زاحمهم فيها بنو (حام) . ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور إلى أن غلب عليهم بنو (يعرب بن قحطان) . وكانت مساكنهم في اليمامة من جزيرة العرب. الطبقة الثانية: العرب العاربة الثانية، وبعضهم يسميها بالمتعربة، وهم من ولد (جرهم بن قحطان بن عابر) وعابر اسم هود عليه السلام، وكانت مساكنهم الحجاز، ويسمون أيضا بالعرب اليمانية، لأن مواطنهم كانت في اليمن. ومن العرب المتعربة أو العاربة الثانية (بنو سبأ) واسم سبأ (عبد شمس) فلما أكثروا الغزو والسبي سموا (سبأ) وهو (ابن يشجب بن يعرب بن قحطان) ، وكان لسبأ عدة أولاد منهم (حمير وكهلان) . وجميع قبائل عرب اليمن وملوكها التبابعة من ولد سبأ المذكور ما عدا (عمران) وأخاه فإنهما ابنا (عامر بن حارثة بن امرئ القيس) . وكان هؤلاء العرب يغلب عليهم الميل إلى الحضارة، فسكنوا المدن وأسسوا الممالك، ومنهم ملوك الحيرة (أي المناذرة) وملوك الشام (أي الغسانيون) . وكانت هذه الطبقة - أي العرب المتعربة - معاصرة أخيرا لإخوانهم من عرب تلك الطبقة أي العاربة الأولى، موالين لهم ومناصريهم. ولم يزالوا مجتمعين في رحاب بادية بعيدين عن الملك الذي كان لإخوانهم (العاربة الأولى) إلى أن تشعبت في الأرض فصائلهم وتعددت أفخاذهم وعشائرهم ونما عددهم، فزاحموا معاصريهم أبناء الطبقة الأولى، وانتهزوا فرصة اضمحلال دولتهم وانتزعوا منهم - على ما يقال - في القرن الثامن قبل المسيح عليه السلام، فاستجدوا بالي الدولة بما استأنفوا من عزهم. وكان (قحطان بن عامر) أول من نزل اليمن وغلب عليها حتى ملكها ولبس التاج، وملك بعده ابنه (يعرب) وهو أول من نطق بالعربية وقيل بل أبوه قحطان أول من نطق بها من العرب المتعربة أي العاربة الثانية، وليس المراد أنه أول من نطق بها على الإطلاق لأنه قد كان للعرب جيل آخر وهم العاربة الأولى، ومنهم تعلم قحطان وابنه يعرب العربية. وقد غلب (يعرب) على قوم (عاد) في اليمن وعلى (العمالقة) في (الحجاز) وولى إخوته جميع أعمالهم فولى (جرهما) على الحجاز وولى (عاد ابن قحطان) على الشحر، وولى (عمان بن قحطان) على بلاد (عمان) . وكان من نسل (يعرب بن قحطان) التبابعة ملوك اليمن المشهورة بالحضارة والتمدن، وفي عصرهم حصل سيل العرم فأغرق اليمن وفرق السكان وجعلهم طوائف، كانت هذه الحادثة على ما يقال سنة (120) قبل المسيح عليه السلام، ويسمون (الغساسنة) ، ومنها (آل المنذر) ملوك الحيرة من قبل الفرس ويسمون (المناذرة) . الطبقة الثالثة: العرب المستعربة أي التابعة للعرب. ومنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويقال لهم (العدنانيون) نسبة إلى (عدنان) وهو أول شعب اشتهر من ولد إسماعيل، وسموا بالمستعربة لأن أباهم (إسماعيل بن الخليل) عليهما السلام لم يكن عربيا بل جاء به أبوه إبراهيم الخليل مع أمه (هاجر) إلى مكة فتزوج إسماعيل ببنت (مضاض) سيد قبيلة (جرهم) وتكلم بالعربية وكانت لغته عبرانية. وقد تناسل منه جيل عظيم كانوا شعوبا وقبائل متفرقة بعضها بدو اعتاد المعيشة في البادية تحت الخيام ويقال لهم الأعراب. (ويسمى كل من سكن البادية أعرابا ولو كانوا غير عرب، ومفرد الأعراب أعرابي) ، ويعيشون من ألبان الإبل والغنم ولحومها، وينتقلون من مكان إلى مكان في طلب العشب والماء. وبعضها حضر يسكن المدن كمكة والمدينة وجدة وغيرها ويقال لهم العرب. ولم يخضعوا قط لسلطة خارجة عنهم. ومن ولد عدنان (معد) ومن معد (نزار) ، واشتهر من أولاد نزار أربعة شعوب وهي: إياد وأنمار وربيعة ومضر. وبنو (مضر) كانوا من أهل الكثرة والغلبة في الحجاز وقد انفردوا برياسة الحرم. واشتهر من قبائلهم (كنانة) ثم (قريش) التي منها النبي صلى الله عليه وسلم.

ممالك العرب قبل الإسلام

وقريش كانت أشهر قبائلهم. وقد بلغت في القرن السادس من الميلاد المسيحي مبلغا عظيما من الشرف وعلو الهمة، وقد آلت إليها رياسة البيت الحرام، وكان لها نوع من السلطنة والمشورة على جميع قبائل العرب. وكان التقدم في قريش لبني لؤي وكان سيدهم (قصيا) لما كان له فيهم من الشرف والقرابة والثروة والأولاد، وقد تولى رياسة الكعبة سنة (440) بعد المسيح، وكان منه بنو (عبد مناف) وكان القائم بأمرهم (هاشما) ثم ابنه (المطلب) ثم أخاه (عبد المطلب) ثم أخاه (عبد المطلب) جد النبي عليه السلام. وهناك طبقة خامسة نشأت بعد حضارة الإسلام إلى يومنا هذا، وهم العرب المستعجمة الذين فسدت لغتهم على تمادي الأيام بسبب مخالطتهم غير العرب، وقد مر عليهم أدوار انقرض فيها ما كان لهم من الدولة والسطوة في الجاهلية والإسلام. وهم قبائل عظيمة، وشعوب كثيرة، يسكنون الخيام ويجولون في البراري. وأشهرهم قبيلة (عنزة) و (صخر) و (سباعة) وغيرها. وقد دخل كثير من العرب المدن، وسكنوا حواضر البلاد بعد الإسلام، واختلطوا بأهل البلاد الشامية والمصرية والمغربية، حتى صار يعد كل من تكلم العربية من أهل هذه البلاد عربيا. قال بعض المعاصرين: "وإننا بناء على ما نراه في شرق الأرض وغربها وفي جزائر البحار أيضا من انتعاش اللغة العربية ونهضتها نأمل أنه سيكون في زمن غير بعيد للذين يكتبون بعدنا في هذا الشأن أن يعدوا للعرب طبقة يسمونها (العرب العائدة) أي الذين عادوا إلى التكلم بالعربية الفصحى". ونحن نقول: حقق الله ذلك. ممالك العرب قبل الإسلام كانت ممالك العرب قبل الإسلام منقسمة إلى دول كبيرة وممالك صغيرة، فالدول الكبيرة ثلاث: أولها اليمن: وكان مقر ملوكها "صنعاء" وأول من ملك منهم "قحطان بن عابر" و"عابر" هو "هود" عليه السلام على بعض الأقوال. وخلفه على ملك اليمن "28" ملكا ثم انتقل الملك منهم إلى الدولة الثانية. وأول من ملك منها "تبع الأول ابن الأقرن". وخلفه عشرون ملكا آخرهم "ذو جدن الحميري" الذي تغلب عليه "أرباط" قائد جيش "النجاشي" ملك الحبشة سنة "529م" واستولى على مملكته وضمها إلى مملكة الحبشة. وكان "أرباط" المذكور يزدري الضعفاء ويكلفهم ما لا يطيقون من المشاق، فجزعوا لذلك وانتموا إلى "أبرهة" أحد رؤساء الجيش فأخذ بناصرهم وتحارب مع "أرباط" وقتله. وقام بالأمر بعده. وبعد موته ملك ابنه "يكسوم" ثم أخوه "مسروق" فاستخلصها منه "سيف بن ذي يزن" بمساعدة "كسرى أنو شروان" وبعد موته تغلب عليها "كسرى" وبقيت تحت سلطته إلى سنة "634 م" حتى فتحت بالإسلام. وكان العامل عليها حينئذ "باذن" الذي أسلم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام. الثانية المناذرة: ملوك العراق، وكان مقر ملكهم "الحيرة" وهي قريبة من "الكوفة". وكانوا عمالا للأكاسرة على عرب العراق. وأول من ملك على العرب بأرض الحيرة "مالك بن فهم"، وينتهي نسبه إلى قحطان "وكان ملكه في أيام ملوك الطوائف قبل الأكاسرة" ثم ملك بعده أخوه "عمرو بن فهم" ثم ابن أخيه "جذيمة بن مالك بن فهم" ثم غيره إلى تمام "26" ملكا ثم انتزعها "خالد بن الوليد" عقب الفتح الإسلامي من آخر ملوكها "المنذر بن النعمان" الثالثة الغسانية: ملوك الشام، وعددهم "32" ملكا وكانوا عمالا لقياصرة الروم على عرب الشام. وأول ملوكهم "جفنة بن عمرو بن ثعلبة" وآخرهم "جبلة بن الأيهم" وقد أسلم في خلافة أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه سنة "16هـ-". وفي هذه السنة خرج "عمر" إلى الحج فحج "جبلة" معه فبينما "جبلة" طائف إذ وطى رجل من "فزارة" إزاره، فلطمه "جبلة" فهشم أنفه. فأقبل الفزاري إلى "عمر" وشكاه فأحضره "عمر" وقال: "افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك". فقال "جبلة": كيف ذلك؟، وأنا ملك وهو "سوقة". فقال "عمر": "إن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد" فقال "جبلة": "أتنصر". فقال "عمر": "إن تنصرت ضربت عنقك" فقال: "أنظرني ليلتي هذه" فأنظره. فلما جاء الليل سار "جبلة" بخيله ورجله إلى الشام. ثم سار إلى "القسطنطينية". وتبعه خمسمائة رجل من قومه فتنصروا عن آخرهم. وفرح "هرقل" بهم وأكرمه. ثم ندم "جبلة" على فعله ذلك وقال: تنصرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

أخلاقهم وعاداتهم، ما حسن منها وما قبح

تكتفي فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني، وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر وهذه هي الدول الثلاث الكبرى في بلاد العرب. وأما الممالك الصغيرة فكثيرة مثل "كندة" وغيرها وكذا الملوك المتفرقون مثل "كليب" ملك "بني وائل وتغلب" الذي قتله "جساس بن مرة"وثل "قيس بن زهير العبسي". أخلاقهم وعاداتهم، ما حسن منها وما قبح من أخلاقهم الحسنة، وعاداتهم الطيبة: الشجاعة، والعفة، والشهامة، والنجدة، وعلو الهمة، والحمية، وحفظ العهود، والإيفاء بالوعود، والمحافظة على الأعراض أشد المحافظة، فقد كان عندهم الموت أسهل من العار "حتى أدى ذلك ببعضهم إلى دفن بناتهم وهن أحياء خشية العار". ومنها المدافعة عن الجار، وحفظ الجوار، والسخاء، والكرم، والضيافة، للغريب والقريب. ومنها الافتخار بشدة البأس، وعزة النفس، وإباء الضيم، والولوع بالأشعار، لأنها ديوان العرب، والحكم والأمثال، والحلم والفصاحة، والغلو في حفظ الشرف ومكانة النفس. وأما لغتهم فكانت من أعز الأشياء لديهم، حتى أنهم كانوا يأنفون من مخالطة غير العرب حفظا لها من العجمية. ومن عاداتهم السيئة دفن بعض البنات وهن أحياء خشية العار، وقتل الأولاد خشية الفقر، والغلو في أخذ الثأر، حتى أنهم كانوا يشنون الحرب التي تزهق فيها النفوس الكثيرة في سبيل الأخذ بثأر رجل منهم، ومنها المنابزة بالألقاب. والنبز هو اللقب المستهجن القبيح. ومنها التبني "وهو أن يجعل الولد غير الحقيقي الذي يتخذ كالابن بمنزلة الابن الحقيقي يرث ويورث". ومنها عبادة غير الله، وكانت عبادتهم على أنواع مختلفة، ولهم آلهة وأصنام كثيرة: كاللات والعزى وهبل ونسر وسواع ويغوث ويعوق، وغير ذلك. وكان منهم من يعبد النجوم كالشمس والقمر وعطارد والمشتري، وغير ذلك. ومن ذلك أسماؤهم كعبد العزى وعبد يغوث وعبد شمس، ونحوها. وكان في بلادهم كثير من النصارى واليهود والمجوس. وكانوا قبلا موحدين، يعبدون الله على ملة "إبراهيم الخليل" و"إسماعيل" عليهما السلام. ثم اتخذوا الأصنام لتكون واسطة بينهم وبين الله بزعمهم، إلى أن عبدوها وقدموا لها القرابين، وذبحوا الذبائح على اسمها. فلما وصلوا إلى هذه الدرجة من الجهل والكفر وعبادة غير الله أرسل لهم رسوله المصطفى ونبيه المرتضى "محمدا" صلى الله عليه وسلم، فأرجعهم إلى الشريعة الحق: شريعة "إبراهيم وموسى وعيسى" والأنبياء من قبلهم، فهداهم بعد الضلال، وأرشدهم بعد الحيرة. المقدمة الثانية شذرة في اللغة وآدابها اللغة اللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عما في ضمائرهم بأساليب خاصة. وهي ضرورية للنوع الإنساني. وتلازمه من لدن دروجه إلى احتضاره. وبها يتميز عن سائر الحيوان. وقد بلغت اللغات حد الكثرة، حتى قدرها بعضهم بثلاثة آلاف. وقد تشعبت هذه اللغات حتى أصبح من المستحيل ردها إلى أصولها التي اشتقت منها. وانقطع لذلك في (أوروبة وأمريكة) مئات الرجال. فأنفذوا أعمارهم في دراستها وتحليها. وغاية ما وصلوا إليه أن أرجعوا جميع اللغات إلى أصول ثلاثة: الأولى: اللغة الآرامية (السامية) ، نسبة إلى (الآراميين) وهم جيل من الناس كانوا يسكنون ما بين نهري (دجلة والفرات) قبل ألوف من السنين. واشتقت منها العربية والسريانية والعبرانية والقبطية والحبشية. الثانية: اللغة (الطورانية) نسبة إلى (طوران) في (التركستان) . ومنها اشتقت التترية والتركية والصينية والجركسية والدانيماركية والهنكارية. الثالثة: اللغة (الإيرانية) نسبة إلى (إيران) في (آسيا) . ومنها جاءت الفارسية واليونانية واللاتينية وما تفرع عنها من لغات (أوروبة) . اللغة العربية أما اللغة العربية - وهي إحدى اللغات السامية - فهي تمتاز بسلاسة العبارة، وبلاغة الاستعارة، وغزارة المادة. وقد اتفق أهل البحث من العلماء على أن أوسع اللغات بحرا، وأطوعها تصريفا، وأجزلها عبارة، وأنصعها بيانا، هما اللغتان: العربية واليونانية. إلا أن مواد العربية - على كثرتها العجيبة - كلها أصلية، ومواد اليونانية، الكثير منها حاصل بالنحت والتركيب من أصلين فأكثر. فيكون غنى العربية من أصلها، وغنى اليونانية بصنع أهلها.

تصريفها

وحسب العربية مزية أن ليس في اللغات لغة حفظت أصول شعرها وكتابتها تلك القرون العديدة وبقيت واحدة في أطراف الأرض غيرها. ولقد مر عليها أدوار وعصور تختلف بين صعود وهبوط ووقوف. "وسنذكر في هذه الشذرة طرفاً من ذلك. ونترك التوسع فيه لكتاب غير هذا نؤلفه مختصا بهذا الموضوع". تصريفها اللغة مأخوذة من (لغا يلغو) أي تكلم. وأصلها (لغوة) بضم فسكون: حذفت (الواو) منها بعد نقل فتحتها إلى (الغين) فصارت (لغة) . وتجمع على (لغات) و (لغى) . حصولها قد اختلف في حصولها. فقال قوم بالتوقيف. وقال قوم بالاصطلاح. ومعنى التوقيف أن الله سبحانه وتعالى علمها الإنسان. ومعنى الاصطلاح أن يجتمع إنسانان فأكثر فيصطلحوا على إن هذه اللفظة لمعنى كذا، وهذه لمعنى كذا، وأطال كل فريق في الاحتجاج لمذهبه. والقول بالاصطلاح باطل عقلا وعلما وشرعا. أما عقلا فلأن الاصطلاح يقتضي سابق اصطلاح، وهذا أيضا يقتضي سابق اصطلاح، وهكذا إلى ما لا نهاية، فهو باطل، لأنه من باب التسلسل. ومن جهة ثانية فإن الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم لا يتركه سدى من غير أن يعلمه لغة يعبر بها عما يخالج ضميره من المعاني والأفكار والحاجيات. وأما علما فلأنه ليس في التاريخ أن قوما اجتمعوا فابتدعوا لغة. وأما شرعا فقد جاء في الكتب المنزلة أن الله هو الذي علم آدم الأسماء كلها. تدوينها الصرف والنحو كانت اللغة العربية من نشأتها إلى سنة ستين (60) للهجرة لغة يتلقفها الأبناء عن الآباء، كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغتنا العامية. فلما جاء الإسلام وفارقوا بلادهم للفتح أو غيره، وانتشروا بين الأعاجم أخذ اللحن في اللغة يفشو، ودبت عقارب العجمة فيها. فتغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها مما يغايرها. فخشي أهل الإدراك منهم أن تفسد تلك الملكة، رأسا، ويطول العهد بها، فينغلق القرآن الكريم والحديث الشريف على الفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة تعصم مراعاتها المتكلم عن الخطأ. وقيدوا ذلك بالكتابة، وجعلوها صناعة خاصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم "النحو". وأول من وضع ذلك "أبو الأسود الدؤلي" المتوفي سنة سبع وستين (67) للهجرة بإشارة الإمام "علي بن أبي طالب" رضي الله عنهما، لأنه رأى تغير الملكة ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أيام "الرشيد". فهذب الصناعة وأكمل أبوابها. وأخذها عنه "سيبويه" فأكمل تفاريعها، واستكثر من أدلتها وشواهدها. ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماما لكل من كتب فيها من بعده. ثم كثرت المؤلفات من بعده حتى ضاقت عنها صدور المكتبات. وكانت "البصرة" و"الكوفة" من أعمر الأمصار التي اختطها العرب. وقد تفرغ من أهليها لضبط اللغة وعلومها نقلا عن عرب البادية بالخروج إليهم، والإقامة ببينهم، والسماع منهم، واستكتابهم. وكان رئيس علماء البصرة "سيبويه" ورئيس علماء الكوفة "الكسائي". وكلاهما قد جاهد مع أتباعه حق الجهاد في المناضلة عن اللغة والذب عن حياضها. وكان بين "البصرة" و"الكوفيين" حروب جدال كثيرة كثرت فيها الأدلة، وعظم فيها اللجاج، وتباينت فيها الطرق. حتى أدى الأمر إلى موت "سيبويه" رئيس "البصريين" غما وكمدا من أجل مسألة حكم فيها عرب البادية عند "الرشيد" لإمام الكوفيين "الكسائي" في قصة طويلة مشهورة. ثم فصل بعض العلماء عن النحو ما يتعلق بالكلمات المفردة. وجعلوها علما مستقلا سموه "علم الصرف" أو "التصريف". وأقدم صنع ذلك "ابن جني" و"معاذ الهراء". وأفضل من كتب بعد هؤلاء من المتأخرين هو "ابن هشام". فقد أخرج للناس كتبا هي خير ما رأيناه بعد كتب "سيبويه" وأضرابه. وقد حدت الهمة بالمعاصرين إلى تأليف كتب تلائم روح العصر. منها كتاب "الدروس النحوية" للجنة من أساتذة المصريين. وكتاب "مبادئ اللغة العربي" للمعلم "رشيد الشرتوني". و"دروس الصرف والنحو" للشيخ "محي الدين الخياط". وكتاب "الدروس العربية" للشيخ "مصطفى الغلاييني" مؤلف هذا الكتاب. وقد كتب كثير غيرهم. ولا يزالون يكتبون نفع الله بهم، حتى تنهض هذه اللغة من كبوتها وترجع إلى سالف مجدها. متن اللغة

البيان والأدب

ثم إنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عن أهل النحو (بالإعراب) ، واستنبطت القوانين لحفظها - كما قدمنا - استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ. فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية. فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتابة والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث ومنثور العرب ومنظومهم. فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك، وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك (الخليل بن أحمد الفراهيدي) ألف فيها كتاب (العين) ثم جاء (أبو بكر الزبيدي) فاختصره مع المحافظة على أصله. وألف (الجوهري) كتاب (الصحاح) . ثم اختصره (الرازي) وسماه (مختار الصحاح) . وألف (ابن سيده) كتاب (المحكم) . ثم لخصه (محمد ابن أبي الحسين) صاحب (المنتصر) من ملوك (الدولة الحفصية) في (تونس) وكتب فيها (الزمخشري) كتابه (الأساس) في مجاز اللغة. وألف (الثعالبي) كتابه (فقه اللغة) . وألف (الفيروزابادي) كتابا عظيما. ثم اختصره بكتابه المعروف باسم (القاموس) . وألف (ابن منظور) كتابه (لسان العرب) المشهور. وألف كثير غيرهم. ثم ألف المعاصرون كتبا في اللغة منهم المعلم (بطرس البستاني) ألف (محيط المحيط، وقطر المحيط) . والمعلم (سعيد الشرتوني) ألف (أقرب الموارد) . والمعلم (جرجس همام) ألف (معجم الطالب) . والأب (أنطون المعلوف) ألف (المنجد) . وقد بلغني أن الأستاذ (الشيخ طاهرا الجزائري) ألف كتابا نفيسا فيها وهو يريد أن يمثله بالطبع منذ مدة ليست بالقصيرة. فعسى أن الهمة العالية التي نعرفها فيه تحدوه إلى إظهاره خدمة لهذه اللغة الشريفة. البيان والأدب ثم لما أخذ الفساد يدب في أساليب اللغة والإنشاء حدت الهمة بالعلماء إلى وضع كتب ترشد إلى معرفة الأساليب الصحيحة. وكانت هذه المسائل مبعثرة في كتب العلماء كالإمام (سيبويه) وغيره. وأقدم من أقدم على تخليص ذلك وابتكار غير الموجود وتدوينه الإمام (عبد القادر الجرجاني) في كتابيه (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) . الأول في (البيان) والثاني في (المعاني) . ثم تهافت العلماء على التأليف في هذا الموضوع وتلخيص ما كتبه عبد القاهر وترتيبه وتبويبه. غير أن أكثرهم قد جعل ذلك قواعد نظرية، حتى أخرجه عن معنى البلاغة والأساليب الصحيحة. وكتابا (عبد القاهر) لا يشق لهما غبار، وهما خير ما أخرج للناس، لمن أراد أن يكون بليغا علما وعملا. ولمؤلف هذا الكتاب كتاب جليل سماه (علم الأدب العربي) جمع فيه بين طريقة (عبد القاهر) وطريقة غيره. وأودعه علوم البلاغة، والإنشاء، والخطابة والعروض، وقرض الشعر، وما يتبع ذلك من فنون الأدب. غير أنه لم يطبع بعد. ثم لما فترت الهمم عن تلقي منثور العرب ومنظومهم. أخذ العلماء يدونون أخبار العرب وأحاديثهم وأشعارهم. ونكتهم وما يتبع ذلك من وجوه الأدب التي لا غنى غنها للمتأدبين. وقد قالوا: إن أركان الأدب أربعة دواوين وهي (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و (الكامل) للمبرد، و (البيان والتبيين) للجاحظ، و (النوادر) لأبي علي القالي البغدادي. ونحن نزيد عليها كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصبهاني ذلك الكتاب الممتع. العروض وقرض الشعر وقد وضع (الخليل بن أحمد الفراهيدي) موازين للشعر مستقرئا بذلك ما قاله العرب. وقد استدرك عليه غيره بحرا من بحورها وهو المعروف بالبحر (المتدارك) . ثم أخذ العلماء في التأليف في هذا الموضوع وجعلوه علما نظريا. وقد ألف مؤلف هذا الكتاب في ذلك كتابا سهل التناول سماه (الثريا المضية، في الدروس العرضية) . ثم حدث علم (قرض الشعر) بعد أن فسدت ملكة أسلوب الشعر العربي. وهو علم ذو قواعد تعرف من له سليقة بكيفية نظم الشعر ومحاسنه وعيوبه. وأفضل من ألف في ذلك (ابن رشيق) ألف كتاب (العمدة) و (ابن هلال العسكري) ألف كتاب (الصناعتين) . العرب الذين أخذت عنهم اللغة

أدب اللغة

قال (أبو نصر الفارابي) في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت (قريش) أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس. والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم (قيس) و (تميم) و (أسد) فإن هؤلاء هم الذين عنهم نقل أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف. ثم (هذيل) وبعض (كنانة) وبعض (الطائيين) . لم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم. فإنه لم يؤخذ عن (لخم) ولا عن (جذام) لمجاورتهم أهل (مصر) و (القبط) ، ولا عن (قضاعة) و (غسان) و (إياد) لمجاورتهم أهل (الشام) وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من (تغلب) و (النمر) فإنهم كانوا ب- (الجزيرة) مجاورين لليونان، ولا من (عبد قيس) و (أزد عمان) لأنهم كانوا ب- (البحرين) مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل (اليمن) لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من (بني حنيفة) وسكان (اليمامة) ، ولا من (ثقيف) وأهل (الطائف) لمخالطتهم تجار (اليمن) المقيمين عندهم، ولا من حاضرة (الحجاز) لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم. والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علما وصناعة هم أهل (البصرة) و (الكوفة) فقط من بين أمصار العرب. أدب اللغة الأدب هو معرفة ما يوصل المرء إلى تجنب الزلل في أعماله وأقواله. وهو قسمان: أدب النفس وأدب الدرس. فالأول يسمى بالطبيعي. والثاني بالكسبي. فأدب النفس هو ما فطر قليه الإنسان من الأخلاق الفاضلة، والمزايا النبيلة: كالجود والشجاعة والكرم والحلم، وغيرها. وأدب الدرس هو ما يحصله المرء بالمدارسة والمطالعة والمزاولة والنظر في الأكوان. ولما كان هذا الأدب - أدب الدرس - لا يحصل إلا بالدرس والمطالعة يضطر المتأدب إلى الآلة التي يحصل بها ذلك. والآلة هي اللغة وآدابها. فهما الأستاذ الأعظم لمن يريد أن يحصل الأدب بالدرس. علم الأدب العربي علم الأدب العربي هو الأصول التي تعرف بها أساليب الكلام العربي. وأركانه خمسة: (البيان بأقسامه - أي المعاني والمجاز والبديع - والإنشاء والخطابة والعروض وقرض الشعر) . ومداره على الكلام المنثور والمنظوم من حيث البحث عن بلاغتهما وعدمها. والغاية منه حمل المتأدب على أن يتحدى بليغ الكلام من نثر ونظم، فينسج على منواله. ومطالع علم الأدب من ثلاثة أوجه: قلب مفكر، ولسان معبر، وبيان مصور. فمن كان غبيا خامل الذهن، ليس له ذكاء ولا فكر راق، ولا خيال يصور ما يريد إنشاءه، ولا ذوق يميز به بين الغث والثمين، فأولى له أن يدع هذا العلم وينصرف إلى غيره مما هو أكثر فائدة له. وأما طلاقة اللسان فإنما يحتاج إليها من يريد أن يكون خطيبا، وهي شرط مهم فيه. المطالعة وعلى المتأدب أن يكثر من مطالعة الكتب والرسائل الأدبية المشتملة على الجيد من المنظوم والمنثور، ليكون له من وراء ذلك سليقة عربية، ومادة وافرة. ويودع حافظته مختار اللفظ، وشريف المعنى، وبليغ الأسلوب، بحيث يستعمل ذلك عند الحاجة، ويحتذي مثاله. أما درس الأدب مجردا عن المطالعة فلا يفيد الطالب فائدة تشكر، لأن العلم بلا عمل أضر على صاحبه من الجهل. فالمطالعة تطبع في الذهن ملكة البلاغة. ولا ينبغي للمطالع أن يقرأ من الكتب إلا ما هو مشتمل على كلام فحول البلغاء، حتى ينطبع في ذهنه أسلوبهم، فينحو منحاهم. وقد كتبنا في موضوع (أساليب الكلام العربي) والكتب التي يجدر بالمتأدب أن يطالعها مقالا مهما نشرناه في كتابنا (أريج الزهر) فليرجع إليه من شاء. رياضة القلم واللسان والفكر

تاريخ أدب اللغة

ثم بعد ذلك ينبغي له أن يرتاض على الكتابة والنظم، ويعود نفسه الإنشاء والكتابة والتعبير عن كل ما يدور في خلده من المعاني والأغراض، ويروض فكره عل استنباط المعاني والجولان في حدائق الموضوعات السامية، ويدع لسانه ينطق بما في نفسه بلفظ فصيح، من غير حياء ولا وجل، لتتمكن في نفسه ملكة الخطابة. وكل ذلك يشترط فيه البداءة بالمعاني الموجزة، والأغراض القريبة. حتى إذا أتقن تصورها وإنشاءها على أسلي اللسان والقلم، انتقل إلى غيرها. وهكذا حتى تصير ملكة الاختراع وإظهارها على اللسان والقلم خلقا فيه. تاريخ أدب اللغة تاريخ أدب اللغة هو علم يبحث فيه عن أحوال اللغة وأطوارها وما دخلها من وجوه التهذيب والتحسين أو التأخير. وموضوعه الكلام من حيث الحسن والإجادة والطبقة، والشعراء والخطباء، وما نمقوه من بنات الأفكار ومبتكرات الخيال. وفائدته الوقوف على تواريخ الألفاظ وما اعتورها من تغيير المعنى بالاصطلاح والمجاز والكناية وغيرها، واكتساب ملكة النقد بالوقوف على ثمرات الأفكار من نوابغ الرجال، ومعرفة المآخذ الصحيحة ممن يوثق بعربيتهم، وإرجاع الأساليب إلى العصور الراقية بالأدب. حتى تحيا اللغة بالتحدي والمماثلة. تهذيب اللغة إن اللغة قد ترقت مع الناموس الطبيعي فدخلها التهذيب، ودارت عليها دائرة الصقل والتعريب، شأن كل لغة درجت من مهدها. إلا إنها لم تصل إلى ما هي عليه الآن وقبل الآن من جزالة التركيب وسلاسة الأساليب إلا بعد أن تناولتها أيدي التهذيب غير مرة. التهذيب الأول وذلك قبل (إسماعيل) والإسلام. فقد كان للعرب العاربة عظيم الفضل على اللغة العربية في نشأتها، لأنهم كانوا يأخذون ألفاظ اللغات الأخرى بعد أن يعرضوها على محك التعريب، فيصقلها، ويعطيها المسحة العربية، حتى تصير بهم أجدر. التهذيب الثاني وذلك أنه لما نزل (إسماعيل) عليه السلام أرض (الحجاز) ، وتزوج من (جرهم الثانية) ، ونشأ منهم (العرب المستعربة) ، دخل العربية كثير من وجوه التحسين بواسطته وواسطة أولاده، حتى وصلوا بالعربية إلى أوج الرقي. ولكن الدهر لم يدعهم صاعدين بها، بل جر عليهم حوادثه، وقلب لهم ظهر المجن، حتى باتت كل قبيلة تأكل لحم أختها كرها وعدوانا، إلى أن تشتت الكثير منهم. فأصابها من الضعف ما أصابها. التهذيب الثالث - أو - أسواق العرب وهو تهذيب قريش فقد كانت العرب ترد عليهم في مواسم الحج. وتقيم عندهم ثلاثة أيام في (سوق ذي المجاز) ، وسبعة في (سوق مجنة) ، وثلاثين في (سوق عكاظ) ، وعشرين يقضون فيها مناسك الحج. وفي أثناء ذلك كانت العرب تتناشد الأشعار أمام قضاة الأدب، وتترنم بالخطب. حتى اتحدت اللغة. وكانت لغة (قريش) هي المهيمنة عليهم، السائرة على ألسنتهم. وبها نزل القرآن الكريم. إلا أن الأسواق الأخرى غير (عكاظ) كانت ابتدائية خاصة لا يحضرها غير فصحاء قبيلتها. ولكن (عكاظ) هذه كانت مؤتمرا عاما تجتمع فيها قبائل العرب، فيتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويتعارفون فيها. وكان الغرض منها اجتماع فحول الشعراء والخطباء والبلغاء لإبداء نتائج أفكارهم، وإظهار محاسن فصاحتهم وبلاغتهم. وكان يجتمع فيها سادات العرب وملوكهم ورؤساء قبائلهم. ومثل (عكاظ) في ذلك (سوق ذي المجاز) . وكانت (عكاظ) تقام بين الأول والعشرين من (ذي القعدة) في كل سنة. ولم تجتمع إلا بعد (عام الفيل) بخمس عشرة سنة. وقد هدمت أركانها أيدي الخوارج سنة تسع وعشرين بعد المئة من ذلك العام. التهذيب الرابع وذلك بعد أن ظهر الإسلام، فقد غير القرآن بعض أساليب الكلام وهذبها ورقاها، فاكتسب بذلك رونقا وبهاء. وسيأتي الكلام على ذلك. اللغة في العصر الجاهلي لما رجعت اللغة من مهدها أخذت تنمو وتنتشر تبعا لنواميس الكون. وأهلها -وإن كانوا أميين- قد ساعدوها على النماء والحياة بما جبلوا عليه من فصيح المنطق وبليغ القول، وما أدخلوا فيها من أسماء النباتات والحيوانات والاصطلاحات من لغات غيرهم.

النظم والنثر فيه

على أن أميتهم وإن لم تقف في تيار نهضتهم فقد نشأ عنها - لعدم الرابطة بين القبائل المتنائية - اضطراب في اللغة: لتعدد الأوضاع، واختلاف اللهجات، وغير ذلك مما دعا أولي الرأي منهم أن يفكروا في توحيد اللسان العام وتهذيبه. فأقاموا لذلك أسواقا أشبه بالمؤتمرات اللغوية، بثوا فيها وحدته - كما قدمنا - فكانت لغة (قريش) فارس الحلبة، وصاحبة الغلب. ولولا (عكاظ) ونظائرهم لم يكن ذلك أمرا ميسورا. النظم والنثر فيه كان للشعر في عصر الجاهلية أسمى المنازل وأشرف الدرجات، لأنه ديوان علومهم وحكمهم، وشاهد صوابهم وخطأهم، والضابط لأيامهم وأنسابهم. وقد كان الشاعر صاحب الكلمة، يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الأمر والنهي، وإليه الحل والعقد. وكانت القبائل يهنئ بعضهم بعضا إذا نبع فيهم شاعر. وتقام لذلك الولائم والأفراح. وكان الشاعر يقول الشعر طبعا من غير تكلف، وسهلا من غير تعسف. إلا إذا تعمد ذلك كزهير، فقد كان لا ينشد بعض قصائده حتى يحول عليها الحول. كما سترى ذلك في الكلام على شعره، إن شاء الله. وقد طرق الشعراء في هذا العصر أبوابا كثيرة كالمدح والهجاء والفخر والحماسة وضرب الأمثال. فصاغوا ذلك كله في قالب الإجادة والإبداع. وكانوا يأبون الإجازة عليه حتى جاء (النابغة الذبياني) و (زهير) و (الأعشى) فقبلوها. وكان أول من سنها (النابغة) . فأنفت الناس من قول الشعر بعض الأنفة. إلا أن ذلك لم يحط من قدره لقلة من فعل ذلك من الشعراء في الجاهلية. ونهضة الشعر في هذا العصر تتناول مئة وخمسين (150) سنة. يمتاز فيها برسم الحقيقة رسما ناطقا، ووصف الشيء على علاته، وبيانه على طبيعته. وأجود ما قيل فيه المعلقات. وصفوة فحوله شعراؤها. أما الكلام المنثور فقد كان لهم فيه اليد الطولى كالمنظوم. ما بين مسجع ومرسل. وقد أثر عنهم منه شيء كثير مما يعلق بالضمير لنفاسته كالأمثال والحكم والوصايا والخطب. فالمثل جملة مقتطعة من القول أو مرسلة تنقل عما وردت فيه إلى مشابهه من غير تغيير. كقولهم: "الصيف ضيعت اللبن". والحكمة هي قول موافق للحق مصون عن الحشو. كقوله: "المرء بأصغريه قلبه ولسانه". والفرق بينهما أن المثل لا بد فيه من واقعة حال قيلت فيه الجملة. والخطبة جملة من القول يراد بها الترغيب فيما ينفع، والتنفير مما يضر. وربما حوت فخرا أو غيره. ومثلها الوصية إلا أن الخطب تكون في المجامع والمواسم، والوصية لا تكون إلا من مثل شخص لعشيرته أو ولده أو لدى الانتقال من حال إلى حال. الكتابة فيه يجهل التاريخ تحديد الزمن الذي ابتدئ فيه باستعمال الخط العربي. غير أنه يرجح أن أول من كتب بالعربية اليمنيون أصحاب (هود) عليه السلام. وكان خطهم يسمى (المسند) يكتبونه حروفا منفصلة - كما يكتب الإفرنج لغتهم - ويحظرون على العامة تعلمه. على أن ثلاثة من (طيء) تمكنوا من ذلك. فاقتطعوا منه خطا سموه (الجزم) وعلموه أهل (الأنبار) . وعن هؤلاء أخذه أهل (الحيرة) وتداولوه. فلما قدم (حرب بن أمية) جد (معاوية بن أبي سفيان) إلى (الحيرة) نقله إلى مكة ونشره في (الحجاز) . علوم العرب في جاهليتها تقدم تقسيم العرب إلى (بائدة) و (غيرها) فغير البائدة هم الذين تفرعوا من (عدنان) و (قحطان) . أما (القحطانيون) فهم عرب (اليمن) . وقد كانوا على حظ عظيم من العلوم والآداب، وقدم راسخة في المدينة، وأصل عريق في الحضارة، وحكومات شوروية منظمة. وقد استولوا على كثير من البلاد والعباد. وقد ذكر القرآن الكريم شيئا من سياستهم الدولية كالتي كانت بين مملكة (فلسطين) ومملكة (سبأ) . وقد ذكر ما كتب به (سليمان) عليه السلام إلى (بلقيس) ، وما اشتغلت به من التدبير والمشورة، وإرسال الهدية لاستطلاع ما عسى أن يكون من الأمر. وذلك قوله تعالى حكاية عنهما: "إذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم، ثم تول عنهم، فانظر ماذا يرجعون. قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون". إلى آخر القصة.

اللغة في صدر الإسلام

وأما العدنانيون، فقد كانوا على شريعة موروثة، وهي ما جاء به (إبراهيم وإسماعيل) عليهما السلام. إلا أن تطاول الدهور عليهم عدل بهم عما كانوا عليه. ولم يبق لهم إلا بنات أفكارهم من كل ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب والنسب والأخبار والأنواء والفراسة والكهانة والعرافة والطب والنجوم والحروب وبعض الطبيعيات والقيافة والعيافة والبيطرة وبعض الصناعات وغيرها مما أدركوه بفرط العناية والتجربة والذكاء. اللغة في صدر الإسلام كان القرآن له الفضل العظيم على اللغة لاضطرار كل مسلم إلى تفهمه والتأدب بآدابه. فزادت العناية بها. ووفرت الهمة في درس القرآن الكريم وحفظه. ومدة هذا الدور أربعون (40) سنة. النثر والنظم فيه لما جاء القرآن الكريم، وظهر بهذا المظهر العجيب: من البلاغة الرائعة، والمعاني السامية، خفتت أصوات الخطباء، وسكتت ألسنة الشعراء، لما عراهم من الهيبة والروعة والدهشة. فصار الخطيب المصقع من يقتبس بعض آياته ليزيد كلامه رونقا، وخطابته بهجة. أما الشعر فقد غفا غفوة لم تكن بالطويلة. لدهش الشعراء من أسلوب القرآن من جهة ولاشتغالهم بالقرآن وآداب الدين والجهاد من جهة ثانية. الكتابة فيه كانت الكتابة قبل الإسلام قليلة الانتشار، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتشرت للحاجة إليها في كتابة الوحي والرسائل التي ينفذها عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأمراء. وقد جاء في السيرة النبوية أنه أمر - عليه السلام - الأسرى (الذين كانوا عنده بعد غزوة بدر) أن يعلم من لم يكن له فداء منهم عشرة من صبيان المدينة الكتابة فانتشرت بعد ذلك الكتابة خصوصا أيام الخلفاء الراشدين. اللغة في العصر الأموي بعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم بسبب الفتوح فشا اللحن في اللغة خصوصا في (الدولة الأموية) . ولم يكن ذلك قاصرا على العامة والسوقة، بل فشا الأمر بين الخلفاء والأمراء، حتى خيف على اللغة والقرآن، فكان من ذلك وضع القوانين التي تحفظ اللغة، كما قدمنا. النثر والنظم فيه أثر القرآن في اللغة وأهلها فنسجوا على منواله، وضربوا على مثاله، في الدعوة للدين، والإرشاد للخير، فاصطبغت بصبغته، وسارت في وجهته. ولذلك ترى النثر في الصدر الأول أبعد من الحشو والكلفة، وأنزه عن اللغو والصنعة. وهو في عصر الأمويين أجمل وأكمل لتحديهم للقرآن، وتوسعهم في العمران، وسموهم في الخيال، ورقيهم في التصور، فاكتسبت الألفاظ مسحة البلاغة ورقة الحضارة. وحسبك أن تقرأ كتبهم وخطبهم فتعلم ذلك. وأما الشعر فكان قدت غفا قبل هذا العصر غفوة أخمدت من جذوته، وأضعفت من قوته، لاشتغال القوم عنه بأمر الدين، فمن داع إليه ومن راد عليه. وما لبث أن أفاق، فجمل الآفاق، بما هز القلوب، ولذ المسامع. وقد ساعد على نهضته أن الدين أباحه والنبي سمعه واستنشده، والخلفاء استمالوا الشعراء ووصلوهم إلى إنشاده وأدنوهم منهم على قدر نصيبهم منه. فبلغ بذلك مبلغا راقيا ومكانا عاليا. أما مده هذا العصر فهي من بدء الخلافة الأموية إلى آخر عهدها، أي نحو مئة عام إلا قليلا. ويمتاز فيها الشعر ببلاغة المعنى ومتانة المبنى. وشعراء هذا العصر والعصر الذي قبله إما مخضرمون، وهم من أدركوا الجاهلية والإسلام، كحسان بن ثابت والخنساء وكعب بن زهير والحطيئة. وإما إسلاميون وهم من نشأوا في الإسلام، كجرير والفرزدق والأخطل وبشار وكلهم أرق ديباجة وأوفر بلاغة من شعراء الجاهلية. الخطابة والرسائل فيه لا نجد فرقا بين الخطابة في الجاهلية وبينها في صدر الإسلام إلا في رقة التعبير، ودقة التصوير، وقوة التأثير: بما اكتسبته من القرآن. فقد كان جهد الخطيب إن يترسم خطوة، ويحذو حذوه، وأن يرصع خطبته ببعض آية لتكون أحسن في الموقع، وأخف على المسمع. ولما اتسع السلطان واستبحر العمران كثرت البواعث إلى الخطابة. وتشعبت أغراضها، فرقت رقيا كبيرا يعرفه كل ملم بخطب الخلفاء الراشدين وغيرهم كمعاوية وزياد والحجاج.

الخط فيه

أما الرسائل فكانت في صدر الإسلام موجزة بليغة، بعيدة عن الصنعة وإعنات القريحة. ولكنها اختلفت كثيرا في أواخر الدولة الأموية إذ أطالوها وتعمدوا التنميق-، فظهرت فيها الصنعة والكلفة. والبادئ بذلك هو عبد الحميد الكاتب، زعيم الطبقة الثانية من الكتاب. الخط فيه انتشرت الكتابة في هذا العصر وكان الباعث على انتشارها حاجة الدين إليها، وانتقال الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية بعد أن أستوثق الأمر واستكمل النظام. وأول ما كتب بالعربية القرآن خاليا من الإعجام، حتى فشا اللحن فوضع له (أبو الأسود الدؤلي) علامات الإعراب في أواخر الكلمات. ثم جاء (نصر بن عاصم) وبعده (الخليل بن أحمد) فتمما بقية الإعجام. وكان المستعمل في ذلك العصر من الخط نوعين أحدهما (الحزم) المسمى بعد بالكوفي، كان يستعمل كتابة المصاحف وما يطلب تجويده، وثانيهما أصل خط (النسخ) ، وكان يستعمل في الكتابة العادية كالرسائل ونحوها. العلوم والمعارف فيه لقد كان حظ العلوم من هذا العصر حظ الشعر منه، فما كانوا يعرفون منها إلا ما كان ضروريا موروثا كالطب. وما كاد يستتب لهم الأمر في أواخر الدولة الأموية حتى صرفوا للعلم وجوههم وفتحوا له صدورهم، فترجموا كثيرا من كتب العلم والصناعة، ودونوا الحديث، واستبطوا الأصول، ووضعوا شيئا في التاريخ وعلوم العربية. ولا ينسى التاريخ ما للخلائف من بني أمية من عظم الطول وجزيل الفضل على اللغة وأشعارها وأخبارها فقد حفظوا كيانها وجملوا بيانها بما نفثوه من سحر كلامهم وبدائع أقلامهم. اللغة في عصر الدولة العباسية بزغ هلال الدولة العباسية، وألوية الممالك العربية خفاقة ما بين الهند والصين، والمسلمون مبثوثون في الأرض، يستعمرون ويستثمرون، واللغة مشاركتهم في الانتشار والنمو. فاتسعت دائرتها باصطلاحات العلوم والفنون، وزهت آدابها بزهو النهضة العلمية، وكثر المتكلمون بها، فكثر فيها الدخيل، وزاد اللحن والتحريف. وما كاد ينتصف عليها القرن الرابع حتى أخذ بدرها في الأفول، وغصنها في الذبول، لتغلب العجم على الممالك العربية. فلولا القرآن وما دون بها من العلوم لانمحى رسمها، وخفي اسمها. النثر والنظم فيه لقد كان رقي النثر في هذا العصر عظيما، إذ دونوا به ما وضعوه وما نقلوه من العلوم، وصرفوه في أنواع الرسائل والتحرير، وكثير ما هي في عصر الحضارة والمدنية. ولم يغض منه ما دخله من التكلف، فقد كان مستترا بحسن السبك وإحكام الصنعة، ولكنه ضعف بضعف الخلافة. فأكثر الكتاب حينئذ من السجع ونحوه، ولهوا بالألفاظ عن المعاني، حتى ألفوا بعض كتبهم مسجعة كتاريخ (العتبي) وغيره. وأشهر كتاب هذا العصر (الجاحظ) و (ابن العميد) و (الصابي) و (الخوارزمي) و (البديع) و (الحريري) . أما النظم فقد أثرت حضارة الدولة في خواطر شعرائها، فجالوا في الشعر جولة لم تتوفر أسبابها لأسلافهم. فلقد تفننوا فيه، وتصرفوا في معانيه بقوة نادرة، ورقة ظاهرة، لما علق بالنفس وأثر في الحس من آثار الأمم التي تغلبوا عليها، ومظاهر المدنية التي توصلوا إليها. وما زال الشعر آخذا مأخذه من الصعود حتى تجرم القرن الثالث ففقد تأثيره، وأخذ عدد الشعراء يقل، حتى انتهوا (بالطغرائي) . هم خلف من بعدهم خلف أجادوه وإن لم يبلغوا شأوهم وكان خاتمتهم (صفي الدين الحلي) . وشعراء هذا العصر يسمون بالمولدين. وشعرهم يمتاز بالسلاسة والنفاسة وجمع الكثير من التشبيه والمجاز والكناية. ولا سيما المتأخرون منهم فقد أوغلوا في ذلك حتى لا تقرأ لهم إلا ألفاظا منمقة دونها معنى مرذول، أو غلو مملول. وأشهر شعراء هذا العصر (أبو نواس) و (أبو تمام) و (البحتري) و (المتنبي) و (الشريف الرضي) و (أبو العتاهية) و (المعري) و (أبو فراس) و (الطغرائي) . الكتابة فيه

العلوم والمعارف فيه

لقد كان للخط نصيب من الرقي في هذا العصر الذهبي، إذ اخترعوا له الأقلام المختلفة، وأخذوا في تحسينة، حتى جاء الوزير (ابن مقلة) فابتدع من (الكوفي) نوعاً منه سماه (بالبديع) وهو (خط النسخ) ثم جاء (ابن هلال) فزاده حسنا حتى حل محل الكوفي. ولاقى عناية من الترك فرقوه كثيرا وابتكروا خطي (التعليق) و (الرقعة) كما ترى الآن. وكثير من اللغات يكتب به كالعربية والتركية والفارسية والأفغانية وغيرها. العلوم والمعارف فيه لا يعلم التاريخ فيما يعلم عصرا اشتهر بالعلوم، وازدهر بالآداب، كهذا العصر الزهي البهي. فلقد اعتنى خلفاؤه وعلماؤه بتدوين العلوم وترجمتها ونشرها. وكان أول ما دونوه علوم الدين والعربية، وما ترجموه علوم الرياضة. بدأ بذلك أبو جعفر المنصور الذي أنشأ المدارس للطب والشريعة، وترجم في زمنه كتاب (إقليدس) في الرياضة. وكذلك فعل الرشيد فألحق بكل مسجد مدرسة عامة. وترجم في عهده كثير من الكتب اليونانية في كثير من الفنون. وما تبوأ (المأمون) عرش الخلافة حتى استعر أوار هذه النهضة، برقعه شأن العلماء، وإجزاله صلة المترجمين. فتفجرت ينابيع العلوم، وعكف أهل الفضل على النظر فيها، فاخترعوا، واكتشفوا ما لا يجهله العالم، ولا ينكره التاريخ. من ذلك اكتشافهم قوانين لثقل الأجسام مائعها وجامدها، واختراعهم (الخطار) للساعة و (البوصلة البحرية) أي (بيت الإبرة) . وهم الذين بدأوا باستعمال الساعات الدقاقة الدالة على أقسام الزمن، ووضعوا علم الكيمياء الحقيقية، وألفوا الأرصاد والأزياج الفلكية، وحسبوا الكسوف والخسوف، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وغير ذلك مما لا يتسع له صدر هذا المختصر. اللغة في عصر الدول المتتابعة ليس في هذا العصر - عصر التقليد والانحطاط - ما يلفت النظر، فإن الدول العربية قد دالت، واللغة قد زالت، إلا قليلا مسطورا في كتب العلم والدين، أو مذكورا على ألسنة علمائها، وقليل ما هم. والشعر قد انطفأ نوره، وقل ظهوره، لقلة المستمعين إلى أهله، والعارفين بفضله، من ملوك العجم المتغلبة بالشرق. فكان كالعلم ذاويا في (فارس) وما وراء النهر زاهيا قليلا في بلاد العرب ومصر (بفضل الجامع الأزهر) والشام، تبعا لمصر. فلم تخل الأرض في كل قرن من عالم عربي كبير، أو شاعر خطير (كابن نباتة المصري وابن الوردي وأبي الفداء وابن خلدون وابن منظور صاحب لسان العرب وغيرهم) ممن كانوا نجوما في هذه السماء الداجية، وأعلاما في هذه المفازة النائية. اللغة في العصر الحديث إذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا تبتدئ مدة هذا العصر من استيلاء (محمد علي باشا) على مصر سنة (1220) للهجرة أي مند عشر سنين ومئة (110) من تاريخ عامنا هذا، وهو أواخر (ذي الحجة سنة 1330 هـ-) . بعد أن سقطت اللغة وآدابها في عصور الدول المتتابعة في تلك الهوة السحيقة، حتى أشفت على الدثور، وأشرفت على الهلاك، أخذت في هذا العصر تنهض من كبوتها، وتقال من عثرتها. فقد شيد لها في القطرين (المصري والشامي) دور رفيعة البنيان، سامية المنار. وأقبل على تعلمها وتعليمها الكثير من الناس، فأخذت روح حياتها تعاودها شيئا فشيئا. وقد زاد في تعاليها والإقبال عليها ما ترجم إليها من الكتب العلمية في الفنون المختلفة، بعد أن ولى القوم وجوههم شطر الديار الغريبة لتلقي العلوم الحديثة. فأقبلوا على التأليف والترجمة، وافتتاح دور العلم، وبث روح النهضة في الأمة، حتى غصت - خصوصا في هذه الآونة الأخيرة - دور العلم بالطالبين والطالبات، وذلك مما يحمل المرء على الاعتقاد بأن الحياة قد أشرقت كواكبها بعد تلك الدياجي المتراكمة. النظم والنثر فيه قد أخذ النظم والنثر في هذا العصر بالترقي شيئا فشيئا. خصوصا في هذه الأيام، وما قبلها بنحو ثلاثين سنة. فقد وجد قوم أرجعوا الإنشاء إلى سالف عهده من المسحة العربية. والأساليب الصحيحة. والمعاني السامية. وكان الفضل في ذلك لشيخنا الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) مفتي الديار المصرية وأستاذه الأشهر (السيد جمال الدين الأفغاني) و (الشيخ إبراهيم اليازجي) ثم كثر بعدهم الكتاب متخذين أسلوبهما، ناسجين نسجهما. وقد أنجبوا من التلاميذ وتلاميذ التلاميذ ما يعز حصره.

تنبيه

وفي مصر وبر الشام وغيرهما من الأقطار العربية اليوم كثير من المبرزين في حلبة الإنشاء يضيق صدر هذا الموجز دون تعداد القليل منهم. وأما الشعر فقد سار مع الإنشاء جنبا لجنب، خصوصا في هذه الأيام التي كثر فيها الشعراء المجيدون الذين رجعوا بالشعر إلى عهده المجيد. فنظموا من المعاني الاجتماعية والفلسفية والحماسية والشعرية عقودا يفتخر بها نحر العصر إلى أبد الدهر، كل ذلك بأسلوب عربي ترتاح إليه النفوس، وتصبو نحوه العقول. ولا يخلو العصر الحاضر من بعض كتاب وشعراء يخالف أسلوبهم أسلوب العرب، وينحون بتراكيبهم منحى الإنشاء الإفرنجي (إما عن جهل بالأساليب الصحيحة، وإما عن اعتقاد بأن ذلك أفضل) وإني أرى أنه يخشى من سريان عدوى هؤلاء إلى الإنشاء العربي والشعر الجزل. فعسى أن يقلعوا عن هذا العمل - إن كانوا عربا - حرصا على ديباجة اللغة، ورأفة بأمهم الحنون، ونحن لهم من الشاكرين. فإن أبوا إلا المشاغبة فإني أحيلهم إلى المقال الذي كتبته في (أريج الزهر) فإن فيه مقنعا لهم على ما أظن. ومما ينعش الآمال، ويحيي الرجاء أن كثيرا من المدارس أخذت تعنى باللغة العربية وآدابها، وتبذل الوسع إنهاضها. وإن لنا في كلية (الجامعة المصرية) آمالا كبارا. فقد علمنا إنها لا تألو جهدا في إحياء دوارس اللغة، والسعي نحو ترقيها، بإلقاء المحاضرات، وتأليف الكتب، وإرسال الطلاب على نفقتها إلى الجوامع الأوروبية. أخذ الله بيد كل من يعمل لإحياء هذه اللغة، ويسعى لإنعاشها. أما ما يسعى إليه بعض الذين استهواهم التفرنج من المسلمين غير العرب، من بذل الجهد وراء ترجمة (القرآن الكريم) إلى لغتهم ليقرأوه بها، فإن هذا - وإن كان لا يضير العرب والعربية شيئا - فإنا نراه مخالفا للدين، مضيعا للمقصد الأعظم الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.- ولعمري لا يسعى بذلك إلا من فيه عرق من مجوسية. والمسلم كل المسلم - أية كانت لغته أو جنسيته - هو من يسعى في إحياء اللغة العربية، ويعمل على ترقيتها، وتكثير سواد المتكلمين بها فإنه بذلك يخدم الإسلام خدمة جلى. ينال فيها الأجر، وحسن الذكر، في الدنيا والآخرة. وقد آن لنا أن نختم هذا الفصل. ونشرع فيما قصدنا إليه. وهو الكلام على رجال (المعلقات) . وبالله المستعان. تنبيه إن اعتمادنا على ما نذكره من الكلام على المعلقات ورجالها وأشعارهم وما يتبع ذلك من تاريخ العرب هو على (الأغاني) و (خزانة الأدب) للبغدادي و (العقد الفريد) لابن عبد ربه و (شرح شواهد المغني) للسيوطي وشروح المعلقات ودواوين (زهير) و (طرفة) و (النابغة) و (الشعر أو الشعراء) لابن قتيبة. و (تاريخ آداب اللغة العربية) لجرجي زيدان و (آداب اللغة العربية) للمرصفي وتاريخ (أبي الفداء) و (تاريخ المسعودي) . غير أن جل الاعتماد وكثرة المآخذ إنما هما عن (الأغاني) و (خزانة الأدب) لذلك فلا حاجة للتنبيه على المأخذ. خصوصا وإننا قد تصرفنا في بعض العبائر وأدمجنا عبارة رجلين أو أكثر في موضوع واحد محافظين على روح المقصد. المعلقات المعلقات هي قصائد قد اختارها العرب من شعر فحولهم، وذهبوها على الحرير، وناطوها بالكعبة تشريفا لها، وتعظيما لمقامها، واعترافا بحسن سبكها، حتى أصبحت العرب تترنم بها في نواديها. واختلف أصحاب الأخبار في شأن هذه المعلقات. فقال بعضهم: إن العرب قد بلف من تعظيمهم إياها أنهم علقوها بأستار الكعبة. وأنكر ذلك بعضهم وأكبره. وأقدم من أنكره (أبو جعفر النحاس) النحوي. وأكثر العلماء يذهب إلى أنها علقت في الكعبة. قال (ابن عبد ربه) : (وكان معاصرا لابن النحاس وتوفي قبله سنة 328 هـ-) "وقد بلغ من كلف العرب به (أي بالشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بأستار الكعبة. فمنه ما يقال له: "مذهبة امرئ القيس" و"مذهبة زهير". والمذهبات سبع، ويقال لها (المعلقات) ." وقد أيد أخبار تعليقها في الكعبة كثير من الناس في أعصر مختلفة. منهم (ابن رشيق) صاحب كتاب (العمدة) وهو من أكبر نقدة الشعرة. ومنهم (ابن خلدون) الأديب المؤرخ المشهور. أصحاب المعلقات

أشعر شعراء المعلقات

قد اختلف الرواة في عدد المعلقات وأصحابها. فمنهم من يجعلها سبعا، وأصحابها هم (امرؤ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى ولبيد بن ربيعة وعمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد والحارث بن حلزة اليشكري) . وبعضهم ثمانية، ويضيف إلى أصحابها (النابغة الذبياني) وبعضهم يجعلها عشرة، ويضيف إليهم (الأعشى ميمونا وعبيد بن الأبرص) . وعلى أنهم عشرة درجنا في كتابنا هذا. أشعر شعراء المعلقات ما برح الخلاف بين المتأدبين - قديما وحديثا - فيمن هو أشعر الشعراء في الجاهلية. ولهم في ذلك مذاهب. على أنهم اتفقوا أو كادوا على تقديم شعراء (المعلقات) . وذكروا أن أشعر هؤلاء ثلاثة، وهم (امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني) . قال أبو عبيدة: "أشعر الناس أهل الوبر خاصة، وهم امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة. وفي الطبقة الثانية (الأعشى ولبيد وطرفة) ". وقد اختلفوا فيمن هو أشعر الجميع. فقال (الفرزدق) : "امرؤ القيس أشعر الناس". وقال (ابن مقبل) : "طرفة أشعر الناس". وقال (ابن أحمر) : "زهير أشعر الناس". وقال (الكميت) : "عمرو بن كلثوم أشعر الناس" وقال (ذو الرمة) : "لبيد أشعر الناس". وقال (الأخطل) : "الأعشى أشعر الناس". والراجح ما قال (أبو عبيدة) : "امرؤ القيس ثم زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة". وقد قالوا: "أشعر الشعراء أربعة: زهير إذا طرب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا غضب، وعنترة إذا كلب، أي غضب". وقالوا: "إن (امرأ القيس) صاحب النصيب الأوفر في الشعر، لأن الشعر في تعبيرهم كان جملا فنحر، فأخذ امرؤ القيس رأسه. وإن (زهيرا) يمتاز بأنه لا يعاظل بين كلامين، ولايتتبع وحشي الكلام، ولا يمدح أحدا بغير ما فيه. ولشعره ديباجة إن شئت قلت: "شهد إن مسسته ذاب". وإن النابغة أوضح الشعراء معنى، وأبعدهم غاية، وأكثرهم فائدة. وإن (الأعشى) أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، وأقدرهم شعرا، وأحسنهم قريضا. وإن (لبيدا) أقلهم لغوا. وإن (عمرو بن كلثوم) أعزهم نفسا، وأكثرهم امتناعا، وأجودهم واحدة. وإن (طرفة) أشعرهم: إذ بلغ - على حداثة سنه - ما بلغه القوم في طول أعمارهم". قال (ابن عبد ربه) اختلف الناس في أشعر الشعراء. قال النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد ذكر عنده (امرؤ القيس بن حجر) : "هو قائدهم وحامل لوائهم". وقال (عمر بن الخطاب) للوفد الذين قدموا عليه من غطفان: من الذي يقول: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب قالوا: هو نابغة بني (ذبيان) . قال لهم: فمن الذي يقول: أتيتك عاريا خلقا ثيابي، ... على وجل، تظن بي الظنون فألقيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لايخون قالوا: هو (النابغة) . قال: "هو أشعر شعرائكم" وقال (عمرو بن العلاء) : طرفة أشعرهم واحدة. يعني قصيدته: لخولة أطلال ببرقة ثهمد، ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وفيها يقول: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وأنشد للنبي (صلى الله عليه وسلم) هذا البيت، فقال: "هو من كلام النبوة". امرؤ القيس بن حجر توفي سنة (80) قبل الهجرة. وقيل سنة (565) لميلاد المسيح عليه السلام. والفرق بين الروايتين زهاء (20) سنة هو (أبو وهب أو أبو الحارث أو أبو زيد، امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي) الشاعر المشهور من فحول شعراء الطبقة الأولى. ويتصل نسبه بملوك (كندة) وهم بطن من (كهلان) بن (سبأ) بن (يشجب) بن (يعرب) بن (قحطان) . وأمه (فاطمة) بنت (ربيعة بن الحارث بن زهير) أخت (كليب) و (مهلهل) ابني (ربيعة) التغلبيين. ويقال له الملك (الضليل) و (ذو القروح) . شيء عن قومه كان قومه يقيمون في (المشقر) من أرض (اليمامة) . ويقال: بل كانوا ينزلون في حصن (بالبحرين) ثم أجلوا عنه إلى (حضرموت) . وقد أقاموا هناك دهرا يتولون أعمال الدولة على عهد (التبابعة) الحميريين. وقد ضاع أكثر أخبارهم. وأقدم من عرفت أخباره (حجر آكل المرار) جد (امرئ القيس) صاحب المعلقة. وقد نزح (حجر) هذا إلى (نجد) ونزل (بطن عاقل) في أوائل القرن الخامس لميلاد المسيح عليه السلام.

مذهب المزدكية

وذلك أنه لما تسافهت (بكر بن وائل) وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم، فقالوا: "إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القوي الضعيف، ولا نستطيع تغيير ذلك. فنرى أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير. فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم. ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخر، فتفسد ذات بيننا. ولكنا نأتي (تبعا) فنملكه علينا". فأتوه فذكروا له أمرهم. فملك عليهم (حجرا آكل المرار الكندي) . فقدم، فنزل (بطن عاقل) . ثم غزا ببني (بكر بن وائل) ملوك (الحيرة) اللخميين وهم المناذرة ملوك العرب وواحدهم (المنذر) وكانوا قد ملكوا كثيرا من تلك البلاد، سيما بلاد (بكر بن وائل) حتى انتزع عامة ما في أيدي هؤلاء الملوك وردهم إلى أقاصي أعمالهم. قيل: وغزا بهم أيضا ملوك (الشام) وهم (الغسانيون) . ولما ملك (حجر) سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة حتى مات في أواسط القرن الخامس الميلادي. ولما مات خلفه ابنه (عمرو بن حجر) وهو (المقصور) . وسمي (المقصور) لأنه اقتصر على ملك أبيه، أي أقعد فيه كرها. فلما مات خلفه ابنه "الحارث بن عمرو" فكان شديد الملك، بعيد الصيت. وفي أيامه فتح الأحباش "اليمن"، فضعف أمر دولته. فوجه عزيمته نحو "اللخميين" لينتزع الملك منهم. وكان يحسدهم لمنزلتهم عند الأكاسرة. وكان "كسرى قباذ" على "المنذر بن ماء السماء" اللخمي ملك العرب، فاغتنم "الحارث" تغير "كسرى" عليه، وأخذ يسعى بالتقرب منه. مذهب المزدكية وقد ذكروا في سبب تغير "كسرى قباذ" على "المنذر بن ماء السماء" أنه قد خرج في أيامه رجل يقال له "مزدك" فدعا الناس إلى الزندقة وإباحة الحرم وأن لا يمنع أحد أخاه ما يريده من ذلك. وكان "المنذر بن ماء السماء" يومئذ عاملا على "الحيرة" ونواحيها. فدعاه "قباذ" إلى الدخول معه في ذلك فأبى. فدعا "الحارث بن عمرو" فأجابه، فشدد له ملكه، واطرد المنذر عن مملكته، وغلب على ملكه. فعظم "الحارث" عند القبائل من "نزار" أتاه أشرافهم، فقالوا: "إنا نخاف أن نتفانى مما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض". ففرق ولده في قبائل العرب. وكان له خمسة أولاد. فملك ابنه "حجرا" أبا "امرئ القيس" صاحب المعلقة على بني "أسد" و"غطفان" وفرق أولاده الأربعة وهم "شرحبيل" قتيل "يوم الكلاب" و"معد يكرب" وهو "غلفي" "سمي بذلك لأنه كان يغلف رأسه" و"عبد الله" و"سلمة" على قبائل العرب يحكمون فيهم. غير أن الحال لم تدم للحارث بن عمرو. بل قد قلب له الدهر ظهر المجن. فقد نكب ثم قتل. وقد ذكروا في سبب نكبته أن أم "أنو شروان" كانت يوما بين يدي "كسرى قباذ" - وهي امرأته - فدخل عليه "مزدك" الزنديق السالف الذكر، فلما رأى أم "أنو شروان" قال لقباذ: "ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها". فقال له: "دونكها" فوثب إليه "أنو شروان"، فلم يزل يسأله ويضرع إليه أن يهب له أمه، حتى قبل رجله. فتركها له. فكانت تلك في نفس "أنو شروان". قتل المزدكيين فلما هلك "قباذ" وهو على تلك الحال من الزندقة، وملك بعده "أنو شروان"، وهو الملقب بالعادل، جلس في مجلس الملك. وبلغ المنذر هلاك "قباذ" فأقبل إلى "أنو شروان". وقد علم خلافه على أبيه فيما كانوا قد دخلوا فيه. فأذن "أنو شروان" للناس. وكان فيمن دخل عليه "مزدك" الزنديق صاحب أبيه. ثم دخل عليه "المنذر". فقال "أنو شروان": "إني كنت قد تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله قد جمعهما لي". فقال "مزدك": "وما هما أيها الملك؟ "؟ قال "تمنيت أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف "يعني المنذر"، وأن أقتل هؤلاء الزنادقة". فقال له "مزدك": "أو تستطيع أن تقتل الناس كلهم؟ ". قال: "إنك لههنا يا ابن الزانية؟ ". والله ما ذهب "نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا". وأمر به فقتل وصلب. وأمر بقتل الزنادقة، فقتل منهم ما بين "حاذر" إلى "النهروان" إلى "المدائن" في ضحوة واحدة مئة ألف زنديق، وصلبهم، وسمي يومئذ "أنو شروان".

خبر أبي امرئ القيس

ثم طلب أنو شروان الحارث بن عمرو "الذي تابع أباه على الزندقة حتى ولاه مكان المنذر" فبلغ "الحارث" ذلك وهو "بالأنبار" وكان بها منزله - فخرج هاربا في هجائنه وماله وولده. وتبعه "المنذر" بالخيل من "تغلب" و"بهراء" و"إياد". فلحق "الحارث" بأرض "كلب" فنجا. وانتبهوا ماله وهجائنه. وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من "حجر آكل المرار" جد "الحارث" المذكور. فقدم بهم على المنذر، فضرب رقابهم. وفيهم يقول "عمرو بن كلثوم": فآبوا بالنهاب وبالسبايا، ... وأبنا بالملوك مصفدينا قالوا: ومضى الحارث فأقام بأرض "كلب". فكلب يزعمون أنهم قتلوه. وعلماء "كندة" تزعم أنه خرج إلى الصيد فألظ بتيس من الظباء فأحجزه، فآلى ألية أن لا يأكل أولا إلا من كبده، فطلبته الخيل ثلاثا، فأتى به بعد ثالثة وقد هلك جوعا. فشوى له بطنه، فتناول فلذة من كبده فأكلها حارة فمات. خبر أبي امرئ القيس أبوه هو "حجر بن الحارث بن عمرو". وكان "الحارث" أبوه قد ولاه على بني أسد وغطفان. - كما تقدم - فضرب عليهم إتاوة كانوا يؤدونها إليه كل سنة. وبقي على ذلك حينا حتى أثقلهم. فلما علموا بنكبة أبيه ثم بموته طمعوا فيه وأظهروا العصيان وامتنعوا من أداء الأتاوة. وذلك أنه بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم فمنعوه ذلك - وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله وضرجوهم ضرجاً شديداً قبيحاً. فبلغ ذلك (حجرا) فسار إليهم بجند من (ربيعة) وجند من جند أخيه من (قيس) و (كناية) . فأتاهم وأخذ سراتهم، فجعل يقتلهم بالعصا، فسموا عبيد العصا، وأباح الأموال، وصيرهم إلى (تهامة) . وآلى بالله أن لا يساكنوهم في بلد أبدا. وحبس منهم (عمرو بن مسعود بن كندة ابن فزارة الأسدي) - وكان سيدا - و (عبيد بن الأبرص) الشاعر. فسارت (بنو أسد) ثلاثا. ثم إن (عبيد بن الأبرص) قام فقال: "أيها الملك اسمع مقالتي" وأنشده قصيدة منها: يا عين، فابكي ما بني ... أسد، فهم أهل الندامة أهل القباب الحمر ... والنعم المؤبل والمدامة وذوي الجياد الجرد ... والأثل المثقفة المقامة إما تركت تركت عفوا ... أو قتلت فلا ملامة أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة ذلوا لسوطك مثلما ... ذل الأشيقر ذو الخزامة فرق لهم (حجر) وصفح عن جريرتهم حين سمع قوله. فبعث في أثرهم، فأقبلوا. حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من (تهامة) تكهن لهم كاهنهم (وهو عوف بن ربيعة) أنهم سيقتلون حجرا وينهبون أمواله. فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا عسكر (حجر) . فهجموا على قبته. فلما نظروا حجابه (وكانوا من بني الحارث بن سعد يقال لهم (بنو خدان) ، وكان حجر قد أعتق أباهم من القتل) إلى القوم يريدون قتله خيموا عليه ليمنعوه ويجيروه. فأقبل عليهم (علباء بن الحارث الكاهلي) وكان حجر قد قتل أباه، فطعنه من خللهم فأصاب نساه فقتله. فلما قتلوه قالت بنو أسد: "يا معشر كنانة وقيس، أنتم إخواننا وبنو عمنا، والرجل بعيد النسب منا ومنكم، وقد رأيتم ما كان يصنع بكم هو وقومه، فانتبهوهم". فشدوا على هجائنه فمزقوها. ولفوه في ريطة بيضاء، وطرحوه على ظهر الطريق. فلما رأته (قيس وكنانة) انتبهوا أسلابه. وقيل: بل قتله غلام من بني كاهل (وكان ابن أخت (علباء بن الحارث) وكان "حجر" قد قتل أبا الغلام) وكان المحرض على قتله "علباء" المذكور. وقد ذكر الرواة في قتله روايات مختلفة أقربها إلى الصحة ما ذكرناة. قالوا: ووثب (عمرو بن مسعود) فضم عيال (حجر) . وقال: "أنا لهم جار". وقيل: إن الذي أجار عياله هو (عوير بن شجنة) . فقال له قومه: "كل أموالهم فإنهم مأكولون" فأبى. فلما كان الليل حملهم حتى أوصلهم إلى (نجران) ، فقال لابنته: "لست أغني عنك شيئا وراء هذا الموضع، وهؤلاء قومك، وقد برئت من خفارتي". فمدحه امرؤ القيس بعدة قصائد. منها قوله: عوير، ومن مثل العوير ورهطه ... أبر بميثاق وأوفى بجيران؟ هم أبلغوا الحي المضيع أهله، ... وساروا بهم بين العراق ونجران خبر امرئ القيس

طرد أبيه إياه

لما طعن (حجر) والد (امرئ القيس) لم يجهز عليه. وقد أوصى قبل موته. ودفع وصيته إلى رجل. وقال له: "انطلق إلى ابني (نافع) "وكان أكبر أولاده" فإن بكى وجزع فآله عنه. واستقرهم واحدا واحدا حتى تأتي (امرأ القيس) "وكان أصغرهم". فأيهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي ووصيتي". وكان قد بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره. فانطلق الرجل بوصيته إلى (نافع) ابنه. فأخذ التراب فوضعه على رأسه. ثم استقراهم واحدا واحدا. فكلهم فعل ذلك حتى أتى (امرأ القيس) . فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد. فقال له: "قتل حجر". فلم يلتفت إلى قوله. وأمسك نديمه عن اللعب. فقال له (امرئ القيس) : اضرب، فضرب. حتى إذا فرغ قال: "ما كنت لأفسد عليك دستك". ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله. فأخبره. فقال: "الخمر علي والنساء حرام، حتى أقتل من بني أسد مئة وأجز نواصي مئة. وفي ذلك يقول: أرقت، ولم يأرق لما بي نافع، ... وهاج لي الشوق الهموم الرواجع قال ابن الكلبي: إن (حجرا) كان قد طرد (امرئ القيس) وآلى إن لا يقيم معه أنفة من قوله الشعر"وكانت الملوك تأنف من ذلك" فكان يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب من (طيء) و (كلب) و (بكر بن وائل) . فإذا وجد غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام وذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وساقهم وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفذ ماء ذلك الغدير، فينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه وهو في (دمون) من أرض اليمن. فلما أتاه الخبر قال: تطاول الليل علينا دمون ... دمون، إنا معشر يمانون وإننا لأهلها محبون ثم قال: "ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا. لا صحو اليوم ولا سكر غدا. اليوم خمر، وغدا أم" فذهبت مثلا. ثم قال: خليلي ما في اليوم مصحى لشارب، ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب ثم شرب سبعا فلما صحا آلى أن يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة، حتى يدرك بثأره. فلما جنه الليل رأى برقا، فقال: أرقت لبرق بليل أهل، ... يضيء سناه بأعلى الجبل أتاني حديث ... فكذبته بأمر تزعزع منه القلل بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل فأين ربيعة من ربها؟، ... وأين تميم؟، وأين الخول؟ ألا يحضرون لدى بابه، ... كما يحضرون إذا ما أكل طرد أبيه إياه قالوا: وكان (امرئ القيس) كثير التشبيب بالنساء والتغزل بهن. وكان أبوه (حجر) يسوءه ذلك منه. فلما كان يوم (دارة جلجل) واجتمع بفاطمة، وكان له معها ما كان مما قصه في معلقته، وأنشد فيها قصيدته هذه، غضب أبوه عليه وأرسله مع مولى له. فقال له: خذ "امرأ القيس" واذبحه وائتني بعينيه". فأخذ الغلام وانطلق به. فلما صارا في الصحراء خاف الغلام: إن هو أنفذ أمر أبيه عاودته الشفقة عليه بعد حين فيقتله به. فأطلقه وأخذ جؤذرا وامتلخ عينيه وأتى بهما (حجرا) أباه. فحين رآهما ندم على ما كان منه. فقال الغلام "أبيت اللعن، إني لم أقتله". قال: "فائتني به" فانطلق، فإذا هو قد قال شعراً في رأس جبل، وهو: فلا تتركني يا ربيع لهذه، ... وكنت أراني قبلها بك واثقا فرده إلى أبيه. فنهاه عن قول الشعر. فمكث زمناً لا يقوله. ثم إنه قال قصيدته التي مطلعها: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ومنها: لقد زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت، وإن لا يحسن اللهو أمثالي ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال تنورتها من أذرعات، واهلها ... بيثرب، أدنى دارها نظر عال نظرت إليها ... والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو جباب الماء، حالا على حال فقالت سباك الله، إنك فاضحي: ... ألست ترى السمار والناس أحوالي فقلت: يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي فأصبحت معشوقا، وأصبح بعلها ... عليه القتام، سيء الظن والبال

ما كان من أمره بعد مقتل أبيه

يغط غطيط البكر ... شد خناقه ليقتلني، والمرء ليس بقتال أيقتلني، والمشرفي مضاجعي ... ومسنونه زرق كأنياب أغوال وليس بذي رمح فيطعنني به، ... وليس بذي سيف، وليس بنبال ومنها: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وما المرء ... مادامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي فبلغ ذلك أباه فطرده. فما زال هائما على وجهه حتى بلغه مقتل أبيه وهو بدمون. كما قدمنا. ومما قاله بعد ما بلغه قتل أبيه: تالله لا يذهب شيخي باطلا، ... حتى أبيد عامرا وكاهلا (القاتلين الملك الحلاحلا) ... خير معد حسبا ونائلا نحن جلبنا القرح القوافلا، ... يحملننا والأسل النواهلا وحي صعب، والوشيح الذابلا ... يالهف نفسي إذ خطئن كاهلا ما كان من أمره بعد مقتل أبيه حدث (سيبويه) النحوي أن (الخليل بن أحمد) أخبره، قال: قدم على (امرئ القيس بن حجر) بعد مقتل أبيه رجال من قبائل (بني أسد) كهول وشبان. فيهم (المهاجر بن خداش) و (قبيصة بن نعيم) . فلما علم بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم. واحتجب عنهم ثلاثا. فسألوا من حضرهم من رجال (كندة) . فقال: "هو في شغل شاغل بإخراج ما في خزائن حجر من الحلقة والسلاح". فقالوا: اللهم غفرا. إنما جئنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف، ونستدرك به ما فرط. فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم امرؤ القيس في قباء وعمامة سوداء (وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلى في الترات فلما نظروا إليه قاموا له. وبدر إليه قبيصة (وقال) : "إنك في المحل والقدر، والمعرفة بتصرف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتنتقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصرة واعظ، ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك، محتد يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، ورجوع عن الهفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك، فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم، وكرم الصفح، ما يطول رغباته، ويستغرق طلباتها. وقد كان ما كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته (نزارا) و (اليمن) ، ولم تخصص بذلك (كندة) دوننا، للشرف البارع الذي كان لحجر: التاج والعمة فوق الجبين، وإخاء الحمد، وطيب الشيم. ولو كان يفدي هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه بمثله. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه. فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من (بني أسد) أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعه يذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته، فنقول: "رجل امتحن بهلك عزيز، فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام. وإما فداء بما يروح من بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فيكون ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها. وإما أن تواعدنا حتى تضع الحوامل، فنسدل الأزر، ونعقد الخمر فوق الرايات". قال فبكى ساعة ثم قال: "لقد علمت العرب أن لا كفؤ لحجر في دم. وأني لن أعتاض به جملا أو ناقة، فأكتسب بذلك سبة الأبد، وفت العضد. وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا. وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك، تحمل في القلوب حنقا، وفوق الأسنة علقا: إذا جالت الخيل في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا أتقيمون أم تنصرفون؟ " قالوا: "بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار: بمكروه وأذية، وجرب وبلية". ثم نهضوا، و (قبيصة) يقول متمثلا: لعلك أن تستوخم الورد إن عدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر فقال امرؤ القيس: "لا، والله لا أستوخمه، بل أستعذبه. فرويدا ينكشف لك دجاها عن فرسان (كندة) وكتائب (حمير) . ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي، إذ كنت نازلا بربعي. ولكنك قلت فأجبت". فقال (قبيصة) : "إن ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب". فقال امرؤ القيس: "هو ذاك". ثم انصرفوا. شيء عن حروبه ثائرا لأبيه:

مطاردة المنذر لامرئ القيس

ثم إن (امرأ القيس) ارتحل يستجيش القبائل. وطاف بين العرب يستنجدهم. حتى نزل (بكرا) و (تغلب) . فسألهم النصر على (بني أسد) قاتلي أبيه، فأجابوا. فبعث العيون على (بني أسد) . فعلموا بذلك. ولجأوا إلى (بني كنانة) ولما خافوا أن يدركهم فيهم ارتحلوا بليل. وكان الذي أنذرهم أن يرحلوا (علباء بن الحارث الكاهلي) . ثم أقبل (امرؤ القيس) بمن معه من (بكر) و (تغلب) حتى انتهى إلى (بني كنانة) - وهو يحسبهم (بني أسد) - فوضع السلاح فيهم، وقال: "يا لثارات الملك، يا لثارات الهمام". فخرجت إليه عجوز من (بني كنانة) فقالت: "أبيت اللعن. لسنا لك بثأر. نحن من (بني كنانة) . فدونك ثأرك فاطلبهم، فإن القوم قد ساروا بالأمس". فتبع (بني أسد) ، ففاتوه ليلتهم تلك. فقال في ذلك: ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء، فلم يصابوا وقاهم جدهم ببني أبيهم، ... وبالأشقين ما كان العقاب وأفلتهن علباء جريضا، ... ولو أدركته صفر الوطاب يعني ببني أبيهم (بني كنانة) لأن (أسدا) و (كنانة) ابني (خزيمة) أخوان. هم لحقهم وقد تقطعت خيله وقطع أعناقهم العطش. و (بنو أسد) حامون على الماء. فنهد إليهم. فقاتلهم حتى كثرت القتلى والجرحى فيهم. وحجز الليل بينهم. وهرب (بنو أسد) . فلما أصبح من معه من (بكر) و (تغلب) أبوا أن يتبعوهم. وقالوا: "لقد أصبت ثأرك". قال: "والله ما فعلت ولا أصبت من (بني كاهل) ولا من غيرهم من (بني أسد) أحدا" قالوا: (بلى ولكنك رجل مشؤوم) . ثم انصرفوا عنه. ومضى هاربا لوجهه حتى لحق (بحمير) فاستنصر (ازدشنؤة) فأبوا أن ينصروه. فنزل بقيل يدعى (مرثد الخير بن ذي جدن الحميري) وكان بينهما قرابة، فاستنصره واستمده على (بني أسد) . فأمده بخمس مئة رجل من (حمير) . وتبعه شذاذ من العرب. واستأجر من قبائل العرب رجالا. فسار بهم إلى (بني أسد) . وظفر بهم. مطاردة المنذر لامرئ القيس ثم إن المنذر وجه الجيوش في طلب (امرئ القيس) . وأمده (كسرى أنو شروان) بجيش من (الأساورة) . فسرحهم في طلبه. فتفرقت (حمير) ومن معه. فنجا (امرؤ القيس) في عصبة من رهطه. فما زال في حل وترحال، ينتقل من قبيلة إلى قبيلة، حتى نزل برجل من (بني فزارة) يقال له (عمرو بن جابر بن مازن) . فطلب منه الجوار-. فقال له الفزاري: "يا ابن حجر، إني أراك في خلل من قومك، وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف، وقد كدت بالأمس تؤكل في ديار (طيء) (وكان امرؤ القيس قد نزل بهم بعد (فزارة) فانتهب قوم إبله) . وأهل البادية أهل وبر، لا أهل حصون تمنعهم. وبينك وبين أهل (اليمن) ذؤبان من (قيس) . أفلا أدلك على بلد؟، فقد جئت قيصر وجئت النعمان، فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ومثل صاحبه". قال امرؤ القيس: "فمن هو؟ وأين منزله؟ ". قال: "هو (السموأل) ، ومنزله (بتيماء) . وسوف أضرب لك مثله: هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك. وهو في حصن حصين، وحسب كبير" فقال: "وكيف لي به؟ " قال: "أوصلك إلى من يوصلك إليه". نزوله على السموأل ثم أصحبه (عمرو بن جابر) رجلا من (فزارة) يقال له (الربيع بن ضبع) (وكان ممن يأتي (السموأل) فيحمله ويعطيه) فلما صار إلى (السموأل) أكرمه، وأنزل من معه من النساء في قبة أدم، وأنزل القوم في مجلس له براح. فكان عنده ما شاء. سفره إلى (فروق) مستنجدا بقيصر ثم إنه طلب إلى (السموأل) أن يكتب له إلى (الحارث بن أبي شمر الغساني) بالشام ليوصله إلى (قيصر) . فأجابه إلى ذلك. وترك (امرؤ القيس) عنده بنيه والدروع وابن عمه (يزيد بن الحارث) . ومضى إلى (قيصر) في (قسطنطينية) ومعه (عمرو بن قبصة) الشاعر. فلما انتهوا إلى الحد الفاصل بين بلاد العرب وبلاد الروم (وهو يفصل بلاد حلب عن الأناضول) جزع (قبصة) وبكى. وفي ذلك يقول امرؤ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك، إنما ... نحاول ملكا، أو نموت فنعذرا وهذان البيتان من قصيدة له يقول فيها: فلما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا فدع ذا، وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول، إذا صام النهار وهجرا

رجوعه من عند قيصر

عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبر بميثاق، وأوفى، وأصبرا ولو شاء كان الغزو من آل حمير، ... ولكنه عمدا إلى الروم أنفرا لقد أنكرتني بعلبك وأهلها، ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان، بدلت آخرا كذلك جدي ما أصاحب صاحبا ... من الناس، إلا خانني وتغيرا وقال في آخرها: ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا ... نقادا، وحتى نحسب الجون أشقرا فلما كان عند قيصر قبله وأكرمه، وصارت له عنده منزلة. قيل: وقد رأى امرؤ القيس بنت قيصر فشغفها وشغفته حبا، دون أن يعلم أبوها بالأمر. رجوعه من عند قيصر ثم إن (قيصر) ضم إليه جيشا كثيفا، وفيه جماعة من أبناء الملوك فاندس رجل من بني أسد يقال له (الطماح) (وكان امرؤ القيس قد قتل أخا له) . فجاء (الطماح) هذا إلى بلاد الروم مستخفيا فوشى به إلى قيصر، بعد أن فصل بالجيش. فقال له: "إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك وتراسله، وهو قائل فيها في ذلك أشعارا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك". فلما سمع ذلك (قيصر) بعث إلى (امرئ القيس) بحلة مسمومة منسوجة بالذهب. وقال له: "قد أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها، تكرمة لك. فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة. واكتب إلى بخبرك من منزل منز. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد بها سروره. وكان يوما صائفا شديد الحر، فأسرع فيه السم، وسقط جلده فلذلك سمي (ذا القروح) . وفي حالته هذه يقول: وبدلت قرحا داميا بعد صحة ... فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا ومن هذه القصيدة قوله: فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل، إلا أن أكب فأنعسا فيا رب مكروب كررت وراءه، ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا وما خلت تبريح الحياة كما أرى، ... تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا فلو أنها نفس تموت جميعة، ... ولكنها نفس تساقط أنفسا فيا رب مكروب كررت وراءه، ... وعان فككت الغل عنه ففداني وفي هذه القصيدة يقول: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان وغيث كألوان الفنا قد هبطته، ... تعاور فيه كل أوطف حنان على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري، غير كز ولا واني يدافع أعطاف المطايا بركنه ... كما مال غصن ناعم بين أغصان ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو، ذي زهاء وأركان مطوت بهم حتى تكل مطيهم، ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان موت امرئ القيس فلما صار في بلدة من بلاد الروم تدعى (أنقرة) احتضر بها. فقال: "رب خطبة محبرة، وطعنة مسحنفرة، وجفنة مثعنجرة، تبقى غدا بأنقرة". قالوا: ورأى امرؤ القيس قبر امرأة من بنات الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له (عسيب) . فسأل عنها فأخبر بقصتها. فقال: أجارتنا، إن الخطوب تنوب، ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا، إنا غريبان ههنا، ... وكل غريب للغريب نسيب وهذا آخر شيء تكلم به. ثم مات، فدفن إلى جنب المرأة. فقبره هناك. مما يؤثر عنه قبل وفاته بسفح جبل (عسيب) قوله: ألا أبلغ بني حجر بن عمرو، ... وأبلغ ذل الحي الحديدا بأني قد هلكت بأرض قوم، ... سحيقا من دياركم بعيدا الكلام على شعره كان امرؤ القيس فصيح الألفاظ، جيد السبك، كثير المعاني، مقدما على شعراء الجاهلية. وهو أول من سبق إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء. وذلك كتلطيفه المعاني، ورقة النسب، وقرب المأخذ، واستيقاف الأطلال، ووصف النساء بالظباء والمها، وتشبيه الخيل بالعقبان، والتفريق بين النسيب وما سواه في القصيدة، وإحكام التشبيه، وتجويد الاستعارة. وقد شهد له بذلك كثير من الشعراء كلبيد وغيره. وروى (الجمحي) أن سائلا سأل (الفرزدق) : من أشعر الناس؟. قال: ذو القروح حيث يقول: وقاهم جدهم ببني أبيهم، ... وبالأشقين ما كان العقاب

ومر (لبيد) بالكوفة في بني (نهد) فسألوه: من أشعر الناس؟. قال: "الملك الضليل" (يعني امرأ القيس) . قيل: ثم من؟. قال: "الغلام القتيل" (يعني طرفة بن العبد) . قيل "ثم من؟ ". قال: "الشيخ أبو عقيل الجليل" (يعني نفسه) . وكان (امرؤ القيس) مقلا من الشعر، كثير المعاني والتصرف. ولا يصح له إلا عشرون شعرا ونيف بين طويل وقطعة. وسأل العباس بن عبد المطلب عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - عن الشعراء. فقال "امرؤ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر". وامرؤ القيس يماني النسب، نزاري الدار والمنشأ. وفضله (علي) - رضي الله عنه - بأن قال: "رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وإنه لم يقل رغبة أو رهبة". وكان كثير الإجادة في وصف الفرس حتى لا تكاد تجد قصيدة من قصائده تخلو من وصفه. ومن أحسن وصفه به قوله: وقد أغتدي، والطير في وكناتها ... بمنجرد، قيد الأوابد هيكل مكر، مفر، مقبل مدبر معا، ... كجلمود صخر حطه السيل من عل له أيطلا ظبي، وساقا نعامة، ... وإرخاء سرحان، وتقريب تنقل فقوله: "قيد الأوابد" في البيت الأول هو من الألفاظ الشريفة البالغة نهاية الحسن. وعنى بذلك أنه إذا أرسل فرسه على الصيد صار قيدا له وكان الصيد بحالة المقيد، وذلك من شدة عدو هذا الفرس. وقد اقتدى به الناس واتبعه الشعراء، فقيل: "قيد النواظر" و"قيد الألحاظ" و"قيد الكلام" و"قيد الحديث" و"قيد الرهان". وذكر الأصمعي وأبو عبيدة أنه أحسن في هذه اللفظة، وأنه اتبع فيها فلم يلحق. وذكرها أهل البيان في باب (التشبيه البليغ) . وجعلها بعضهم من باب (الرداف) وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ تابع له وردف. وذلك هو الكناية. قالوا: ومنه قوله أيضا: ويضحي فتيت المسك فوق فراشها، ... نؤوم الضحى، لم تنطق عن تفضل أراد بقوله: "نؤوم الضحى" أنها مترفهة، عندها من يقضي لها حاجات بيتها: فلا تحتاج إلى النهوض ضحى. ومنه قول الآخر: بعيدة مهوى القرط. إما لنوفل ... أبوها، وإما عبد شمس وهاشم أراد أن يصف طول جيدها فأتى بردفه. وقوله "له أيطلا ظبي" في البيت الثالث هو من التشبيه البديع، وذلك أنه شبه أربعة أشياء بأربعة أشياء، أحسن فيها ما شاء. وقد أمتاز امرؤ القيس عن شعراء الجاهلية - إلا أقلهم - برقة الألفاظ وحسن التشبيه ورقته. قال (بشار بن برد) : لو أزل أجهد الخيال منذ سمعت قوله: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي حتى قلت: كأن مثار النقع ... فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وفي بيتي امرئ القيس وبشار تشبيه شيئين بشيئين. غير أن امرأ القيس قد سبق إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى، دون صحة التقسيم والتفصيل. ومما استحسن من تشبيهه قوله: كأني غداة البين حين ترحلوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل وقوله: كأن عيون الوحش ... حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وقوله في وصف الليل: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه، ... وأردف أعجازا، وناء بكلكل: ألا أيها الليل الطويل، ألا انجل ... بصبح. وما الأصباح منك بأمثل وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة: كليني لهم ... يا أميمة ناصب وليل أقاسيه، بطيء الكواكب وصدر أراح الليل عازب همه، ... بضاعف فيه الحزن من كل جانب تقاعس، حتى قلت: ليس بمنقض، ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس واستحسنت استعارتها: فقد جعل لليل صدرا يثقل تنحية، ويبطئ تقضيه. وجعل له أردافا كثيرة. وجعل له صلبا يمتد ويتطاول. ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة. ورأوا أن الألفاظ جميلة.

معلقته وسبب نظمها

وقد طرق كثيرا من المعاني فأجاد، حتى عد من فحول الطبقة الأولى. فأحسن مطالع الجاهليين مطالعه، وأجود التشابيه تشبيهه، وأحسن الغزل غزله. ومما بلغ حد النهاية في الرقة واللطف قوله: أفاطم، مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي أغرك مني أن حبك قاتلي، ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل وله أبيات كثيرة جرت مجرى المثل. منها قوله: وقد طوفت في الآفاق، حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وقوله: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان وكان واسع الخيال، يجيد الوصف يدلك على ذلك قوله: ديمة هطلاء ... فيها وطف طبق الأرض تحرى وتدر وترى الضب خفيفا ماهرا، ... ثانيا برثنه ما ينعفر وترى الشجراء في ريقها ... كرؤوس قطعت، فيها الخمر ساعة، ثم انتحاها وابل، ... ساقط الأكناف، واه، منهمر راح تمريه الصبا. ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منفجر ثج، حتى ضاق عن آذيه ... عرض خيم فخفاف فيسر قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الاطلين محبوك ممر ومن ذلك وصفه زيارة حبيبته خلسة بحيث لا يشعر به أحد. قال: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حبات الماء، حالا على حال وله من أمثال ما قدمناه كثير من الشعر. وسترى كثيرا منه في معلقته. وإنا نختم هذا الفصل بشيء من قصيدة له أبدع فيها ما شاءت شاعريته. قال: أحار بن عمرو، كأني خمر، ... ويعدو على المرء ما يأتمر فلا ... وأبيك ابنة المامري لا يدعي القوم أني أفر تميم بن مر وأشياعها، ... وكندة حولي جميعا صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض، واليوم قر ومنها: رمتني بسهم أصاب الفؤاد ... غداة الرحيل، فلم أنتصر فأسبل دمعي كفض الجمان ... أو الدر رقراقه المنحدر فبت أكابد ليل التمام ... القلب من خشية مقشعر فلما دنوت تسديتها، ... فثوبا لبست، وثوبا أجر ولم يرنا كاليء كاشح، ... ولم يفش منا لدى البيت سر ومنها في وصف فرسه: لها غدر كقرون النساء ... ركبن في يوم ريح وصر لها جبهة كسراة المجن ... حذقه الصانع المقتدر لها منخر كوجار السباع، ... فمنه تريح إذا تنبهر إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر، مغموسة في الغدر وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة، ليس فيها أثر وإن أعرضت قل سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر لها وثبات كصوب السحاب: ... فواد خطيط، وواد مطر معلقته وسبب نظمها أما معلقته فهي أحسن شعره بلا ريب. وقد ذكروا أن سبب نظمها واقعته مع معشوقته بنت عمة (عنيزة) بنت (شرحبيل) . وكان قد منع من الاجتماع بها على عادة العرب من عدم تمكين العاشق من الاجتماع بمن يعشق وعدم تزويجه بها. وقد كان (امرؤ القيس) يتحين الفرص لملاقاتها. وقد اتفق أن لاحت له فرصة. وذلك أن الحي قد ظعنوا (وكان من عاداتهم إذا ظعنوا أن الرجال تمشي أول ثم النساء) فتخلف (امرؤ القيس) عن الرجال، وتربص يترقب النساء. فلما ظعن مشى خلفهن بحيث لا يشعرن به. وكان في الطريق غدير، وهو غدير (دارة جلجل) في منازل (كندة) بنجد. فسبقهن إليه. فلما وصلن إلى الغدير نزعن ثيابهن ونزلن إلى الماء - وكان فيهن عنيزة - فبرز (امرؤ القيس) من مكمنه، وجمع ثيابهن وجلس عليها. فلما شعرن بمكيدته تلطفن في المقال، وضرعن إليه أن يعطيهن الثياب، فآلى أن لا يعطي واحدة منهن ثوبها حتى تخرج إليه عارية فتأخذه. فخرجن إليه إلا (عنيزة) معشوقته. وأقسمت عليه أن يعدل عن شرطة، فأبى. وما زال بها حتى خرجت. فدفع إليها ثوبها فلبسته. ثم اجتمع عليه النساء وأنبنه على فعلته الشنعاء. ثم عقر لهن ناقته وأطعمهن من لحمها حتى شبعن. وكان معه ركوة خمر فسقاهن. ثم حمل أمتعته وكور ناقته على رواحلهن. وفي ذلك يقول في معلقته: ألا رب يوم لك منهن صالح، ... ولا سيما يوم بدارة جلجل

نخبة من معلقته

ويوم عقرت للعذارى مطيتي، ... فواعجبا من كورها المتحمل! فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل ثم إنه طلب من (عنيزة) أن تحمله على راحلتها، فأبت. فضرع إليها وساعدته صواحبها، فجعل يدخل رأسه في الهودج ويغازلها ويقبلها. وفي ذلك يقول في معلقته: ويوم دخلت الخدر: خدر عنيزة، ... فقالت: لك الويلات، إنك مرجلي تقول ... وقد مال الغبيط بنا معا : عقرت بعيري يا امرأ القيس. فانزل فقلت لها: سيري، وأرخي زمامه، ... ولا تحرميني من جناك المعلل نخبة من معلقته قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى، بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة، لم يعف رسمها، ... لما نسجتها من جنوب وشمأل كأني غداة البين حين ترحلوا ... لدى سمرات الحي ناقف حمظل وقوفا بها صحبي على مطيهم، ... يقولون: لاتهلك أسى وتجمل وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معول؟ كدأبك من أم الحويرث قلبها ... وجارتها أم الرباب، بمأسل إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر، حتى بل دمعي محملي ألا رب يوم لك منهن صالح، ... ولا سيما يوم بدارة جلجل ويوم دخلت الخدر ... خدر عنيزة فقالت: لك الويلات، إنك مرجلي تقول ... وقد مال الغبيط بنا معا : عقرت بعيري يا أمرأ القيس، فانزل فقلت لها: سيري، وأرخي زمامه، ... ولا تبعديني من جنال المعلل أفاطم، مهلا بعض هذا التدلل، ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي أغرك مني أن حبك قاتلي، ... وأنك مهما تأمري القلي يفعل وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهمك في أعشار قلب مقتل وبيضة خدر ... لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل تصد وتبدي عن أسيل، وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل وتضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل تسلت عمايات الرجال عن الصبا، ... وليس فؤادي عن هوال بمنسل وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له "لما تمطى بصلبه، ... وأردف أعجازا، وناء بكلكل" ألا أيها الليل الطويل، ألا انجل ... بصبح، وما الأصباح منك بأمثل فيا لك من ليل! كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل وقد أغتدي، والطير في وكناتها ... بمنجرد، قيد الأوابد، هيكل مكر، مفر، مقبل مدبر معا، ... كجلمود صخر حطه السيل من عل درير، كخدروف الوليد أمره ... تتابع كفيه بخيط موصل له أيطلا ظبي، وساقا نعامة، ... وإرخاء سرحان، وتقريب تنفل أصاح، ترى برقا ... أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل يضئ سناه، أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل وتيماء لم يترك بها جذع نخلة، ... ولا أطما، إلا مشيدا بجندل كأن ثبيرا ... في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل كأن مكاكي الجواء غدية ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل كأن السباع فيه ... غرقى عشية بأرجائه القصوى أنابيش عنصل طرفة بن العبد توفي سنة (550) أو (552) م. وسنة (70) قبل الهجرة هو (طرفة بن العبد بن سفيان البكري) من (بكر بن وائل) . وينتهي نسبه إلى (عدنان) . هو ابن أخت (جرير بن عبد المسيح) المعروف بالمتلمس. و (طرفة) لقب غلب عليه، واسمه (عمرو) . والطرفة في اللغة واحدة الطرفاء وهي الشجر المعروف. ولم يعش إلا ستا وعشرين سنة. وقيل: "بل عشرين". وبلغ مع ذلك ما لم يبلغه القوم في طول أعمارهم. وكان هجاء جريئا على قومه وغيرهم. وكان في حسب من عشيرته. وهذا هو الذي جرأه على هجائهم.

سبب غضب عمرو بن هند على طرفة

وله المثل: "استنوق الجمل". قيل: قاله لما وفد مع خاله (المتلمس) على (عمرو بن هند) ملك الحيرة، وكان الشعراء يأتونه وينشدونه الشعر. فلما دخلا عليه كان (المسيب بن علس) ينشد شعرا في وصف جمل فوسمه بسمة من سمات النوق. ويقال: أن المنشد كان (المتلمس) ، أنشد في مجلس لبني (قيس بن ثعلبة) وكان طرفة يلعب مع الصبيان ويتسمع، فدعاه المتلمس وقال: أخرج لسانك، فأخرجه، فقال: "ويل لهذا من هذا". وهذا المثل يضرب للرجل الواهن الرأي المخلط في كلامه. ولما شب (طرفة) أعجب (عمرو بن هند) بشعره فنادمه مع المتلمس. وبقي عنده زمانا. وكان طرفة غلاما معجبا. فكان يوما يشرب بين يدي الملك (عمرو) ، فجعل يتخلج في مشيته، فنظر إليه (عمرو بن هند) نظرة كادت تقتلعه من مجلسه, فقال (المتلمس) له حين قاما: "إني أخاف من نظرته إليك". فقال طرفة: "كلا". وكان (عمرو) ذا هيبة شديدة، لا يضحك، ولا يبتسم. فأسر السوء لطرفة على إعجابه به. وقيل بل غضب لن أخته أشرفت وهم في مجلس الشراب، فرآها طرفة، فقال فيها شعرا، فحقد عليه، فعزم على قتله وعلى قتل (المتلمس) أيضا خوف هجائه، لكنه خاف أن تجتمع عليه (بكر بن وائل) إن قتلهما ظاهرا. فعزم أن يكيد لهما مكيدة. وكانت أخت (طرفة) تحت (عبد عمرو بن بشر بن مرثد) . وكان (عبد عمرو) هذا سيد أهل زمانه، مقدما عند (عمرو بن هند) ملك الحيرة. فشكت أخت (طرفة) إليه يوما شيئا من أمر زوجها. فقال بهجوه: لقد علم الأقوام أنا بنجوة، ... علت شرفا من أن تضام وتشتما لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها، ... ويأوي إليها المستجير فيعصما وأرعن مثل الليل مجر يقوده ... أريب، إذا ما ساور الأمر أبرما شديد القوى ضخم الدسيعة مقول، ... أبي، إذا ما هم بالأمر ألحما فأي خميس ... لا أبانا نهابه؟، وأسيافنا يقطرن من كبشه دما أبي أنزل الجبار عامل رمحه، ... وعمي الذي أردى الرئيس المعمما فواعجبا من عبد عمرو وبغيه!، ... لقد رام ظلمي عبد عمرو، فأنعما ولا عيب فيه غير أن له غنى، ... وأن له كشحا إذا قام أهضما، وأن نساء الحي يعكفن حوله، ... يقلن عسيب من سرارة ملهما فبلغ الشعر (عمرو بن هند) الملك. وكان (طرفة) قد هجاه قبل ذلك إلا أنه لم يبلغه هجوه، لأنه لم يكن أحد يجسر أن يرفع إليه ذلك. سبب غضب عمرو بن هند على طرفة ذلك أن (عمرو بن هند) خرج يوما يتصيد ومعه (عبد عمرو) . فأمعن في الطلب، فانقطع بنفر من أصحابه حتى أصاب حمارا وحشيا فعقره. فقال لعبد عمرو: إنزل إليه. فنزل فأعياه، فضحك (عمرو بن هند) . ثم قال لأصحابه: إجمعوا حطبا وأوقدوا. فأوقدوا نارا وشوى. فبينما (عمرو بن هند) يأكل من شوائه و (عبد عمرو) يقدم إليه. إذ نظر إلى قميصه متخرقا فأبصر كشحه (وكان من أحسن أهل زمانه جسما) ، فقال له: "لقد أبصر (طرفة) حسن كشحك حين قال: ولا عيب فيه، غير أن له غنى،_وأن له كشحا - إذا قام - أهضما فغضب (عبد عمرو) من ذلك وأنف. وقال له: "أبيت اللعن، لقد قال فيك ما هو شر من ذلك وأقبح" قال: "أو قد بلغ من أمره هذا" قال: "نعم". قال: "فما قال؟ ". فندم (عبد عمرو) على ما كان منه، وأبى أن يسمعه. فقال (عمرو بن هند) : "اسمعنيه وطرفة آمن". فأسمعه القصيدة التي هجاه بها (طرفة) . وهي: أمن ليلي بناظرة خدور؟ ... يؤم بهن خبت أو ضفير فكيف صبوت؟، أو ترجو مهاة ... منعمة، تزار ولا تزور جلت بردا فهش له فؤادي، ... فكدت إليه من شوق أطير فدعها وانحل النعمان قولا ... كنحت الفأس، ينجد أو يغور فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تدور من الزمرات أسبل قادماها، ... وضرتها مركنة درور لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم: يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم، ... تطير البائسات، وما نطير فأما يومهن فيوم سوء، ... تطاردهن بالحدب الصقور وأما يومنا فنظل ركبا، ... وقوفا، ما نحل وما نسير أراني كلما عاديت قوما ... أتيح لهم من الأدنى نكير

قتل طرفة وموته

وهل يخشى وعيد الناس إلا ... كبير السن أو ضرع صغير ومثلي ... فاعلمي يا أم عمرو، إذا ما اعتاده السفه النعور يطير على مذكرة تسور، ... ومفرجة لها نسع وكور فلما أن أنخت على مليك، ... مساكنه الخورنق والسدير لينجزني مواعد كاذبات ... بطي صحيفة فيها غرور فأوعدني، وأخلف ثم ظني، ... وبئس خليقة الملك الفجور وكان السبب في القصيدة على ما حكى (المفضل بن سلمة) أن عمرو بن المنذر (هو عمرو بن الهند نفسه) كان يرشح أخاه (قابوس بن المنذر) ليملك بعده. فقدم عليه (المتلمس) و (طرفة) فجعلهما في صحابة (قابوس) وأمرهما بلزومه. وكان (قابوس) شابا يعجبه اللهو. وكان يركب يوما في الصيد، فيركض يتصيد، وهما معه يركضان، حتى يرجعا عشية وقد تعبا. فيكون (قابوس) من الغد في الشراب فيقفان بباب سرادقه إلى العشي. فكان (قابوس) يوما على الشراب، فوقفا ببابه النهار كله ولم يصلا إليه. فضجر (طرفة) ، فقال هذه القصيدة. وقال (يعقوب بن السكيت) و (الأعلم الشنتمري) في شرحهما لديوان طرفة: "أن عمرو بن هند المذكور كان شريرا. وكان له يوم بؤس ويوم نعمة. فيوم يركب في صيده يقتل من يلقى. ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له. فكان هذا دهره كله. فهجاه طرفة". والقصيدة المذكورة هي هجاء لعمرو وأخيه قابوس. قالوا: فلما سمع القصيدة (عمرو بن هند) سكت على ما وقر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه، فأضرب عنه. وبلغ ذلك (طرفة) فخاف على نفسه. غير أنه قد أمن لما علم أنه رضي عنه وغفر له جريرته. وكان (عمرو بن هند) بطاشا جبارا. وكان لا يبتسم ولا يضحك. وقد ملك ثلاثا وخمسين سنة. وكانت العرب تهابه هيبة شديدة. وفيه يقول (الدهاب العجلي) : أبى القلب أن يهوى السدير وأهله، ... وإن قيل: عيش بالسدير غرير لقد أنذروا الحي الذي نزلوا به، ... وإني لمن لن يأته لنذير به البق، والحمى، وأسد خفية، ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور وسيأتي ذكر قتل (عمرو بن هند) وموته عند الكلام على ترجمة (عمرو بن كلثوم) . قتل طرفة وموته وكان (المتلمس) خال (طرفة) قد قال قصيدة يهجو بها (عمرو بن هند) أيضا. وكان في نفس (عمرو) من ذلك موجدة عليه يكتمها عنه. فاتفق أن قدم (طرفة) و (المتلمس) على (عمرو بن هند) يتعرضان لفضله ومعروفه. فكتب لهما كتابا إلى عامله على (البحرين وهجر) وكان عليهما (المعكبر) . وقيل بل (ربيعة بن حارث العبدي) . وقال لهما: "انطلقا فخذا جوائزكما منه". فخرجا. قال المتلمس: فلما هبطنا بذي الركاب من (النجف) إذا أنا بشيخ على يساري يتبرز ومعه كسرة يأكلها وهو يقصع القمل. فقلت: "تالله ما رأيت شيخا أحمق وأضعف وأقل عقلا". قال: "وما تنكر علي من حمقي؟ ". قلت: "تتبرز وتأكل وتقصع القمل". قال: "أدخل طيبا، وأخرج خبيثا، وأقتل عدوا. وأحمق مني الذي يحمل حتفه بيده لا يدري ما فيه". قال المتلمس: "فنبهني، وكأنما كنت نائما". ثم إن المتلمس قال لطرفة: "إنك غلام حديث السن، والملك من عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمن أن يكون قد أمر فينا بشر. فهلم، فلننظر في كتبنا هذه، فإن يكن قد أمر لنا بخير مضينا، وإن تكن الأخرى لم نهلك أنفسنا". فأبى (طرفة) أن يفك خاتم الملك. فحرضه (المتلمس) على ذلك فأبى. وعدل (المتلمس) إلى غلام من غلمان الحيرة فأعطاه الصحيفة فقرأها، ولم يكد يصل إلى ما أمر به في (المتلمس) حتى جاء آخر فأشرف على الصحيفة لا يدري من هو (المتلمس) ، فقرأها فقال: "ثكلت المتلمس أمه". فانتزع (المتلمس) الصحيفة من يد الغلام، واكتفى بذلك من قوله. وكان في الصحيفة: "باسمك اللهم. من (عمرو بن هند) إلى (المعكبر) : إذا جاءك كتابي هذا مع (المتلمس) فاقطع يده ورجله وادفنه حيا". ثم إنه اتبع (طرفة) فلم يدركه. وقد قيل: بل أدركه وقال له: "تعلم إن ما في صحيفتك لمثل ما في صحيفتي". فقال طرفة: "إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي ولا ليغرني ولا ليقدم علي". فلما غلب المتلمس على أمره ألقى الصحيفة في نهر الحيرة، ثم خرج هاربا إلى الشام. وفي ذلك قوله: وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل

الكلام على شعره

رضيت لها بالماء لما رأيتها ... يجول بها التيار في كل جدول وفي هذه الواقعة يقول أيضا: من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... نبأ، فتصدقهم بذاك الأنفس: أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حبائه المتلمس ألق الصحيفة ... لا أبالك إنه يخشى عليك من الحباء النقرس وقد ضرب المثل بصحيفة المتلمس، وذلك لمن يسعى إلى حتفه بيده. وفي ذلك يقول الفرزدق لمروان: يا مرو، إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء، وربها لم ييأس وحبوتني بصحييفة مختومة، ... يخشى علي بها حباء النقرس ألق الصحيفة يا فرزدق، لا تكن ... نكداء، مثل صحيفة المتلمس أما (طرفة) فإنه قد سار حتى قدم على عامل (البحرين) وهو في (هجر) . فدفع إليه كتاب (عمرو بن هند) . فقرأه. فقال له: "تعلم ما أمرت به فيك؟ " قال: نعم، أمرت أن تجيزني وتحسن إلي". فقال لطرفة: "إن بيني وبينك لخؤولة أنا لها راع. فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك. فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس". فقال (طرفة) : "قد استدت عليك جائزتي، وأحببت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند علي سبيلا، كأني قد أذنبت. والله لا أفعل ذلك أبدا". فلما أصبح أمر بحبسه، وتكرم عن قتله. وكتب إلى (عمرو بن هند) أن "ابعث إلى عملك رجلا غيري، فإني غير قاتل الرجل". فبعث إليه عمرو رجلا من (بني تغلب) يقال له (عبد هند) . واستعمله على (البحرين) - وكان رجلا شجاعا - وأمره أن يقتل (طرفة) . فلما وصل إليها قال لطرفة: "إني قاتلك لا محالة، فاختر لنفسك منية تهواها". فقال: "إن كان ولا بد فاسقني خمرا وافصد أكحلي". ففعل به ذلك. فما زال ينزف حتى مات. وله من العمر ست وعشرون سنة. كما قالت أخته في رثائه: عددنا له ستا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدا ضخما فجعنا به لما رجونا إيابه ... على غير حال، لا وليدا ولا قحما ولما بلغ المتلمس مقبله قال: عصاني فما لاقى رشادا، وإنما ... يبين من الأمر الغوي عواقبه فأصبح محمولا على ظهر آلة، ... تمج نجيع الجوف منه ترائبه وكان موته في أواسط القرن السادس للميلاد. الكلام على شعره كان (طرفة) لطيف التخيل شاعرا مطبوعا. وهو أجودهم طويلة. كلما طالت قصيدته حسنت. وقد بلغ من الشعر مبلغا لم يبلغه الفحول، وهو حديث السن، حتى عد من شعراء الجاهلية المبرزين. وشعره يجمع بين الجزالة، والرونق، ونباهة الأغراض، وعذوبة المشرب، وصباحة الفصاحة. وقد صحح شعرا للمتلمس وهو يرسف في قيد غلوميته. وقد شهد له (لبيد) و (جرير) و (الأخطل) بأنه الشاعر غير مدافع. وهو القائل: ولا أغير على الأشعار أسرقها ... غنيت عنها وشر الناس من سرقا إن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا انشدته: صدقا وله شعر جميل، ومعان بديعة. وأشهر شعره معلقته. ومنها يذكر مجده وخلاعته: ولست بحلال التلاع مخافة، ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد فإن تبغني في حلقة القوم تلقني، ... وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الشريف المصمد ومنها قوله في انقضاء الأيام: أرى الموت يعتام الكرام، ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ومنها في الخبرة التامة والتجربة الصادقة: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند ومن حكمه التي حملت (لبيدا) على الاعتراف بفضله وتقدمه قوله فيها: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقد أنشد هذا البيت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هو من كلام النبوة".وأخرج الإمام (حنبل بن حنبل) في مسنده بسند ضحيح عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل ببت طرفة: "ويأتيك بالأخبار من لم تزود". ومن شعره قوله مخاطبا أعمامه. وكان أبوه قد مات وهو صغير، فهضموا حق أمه (وردة) : ما تنظرون بمال وردة فيكم؟، ... صغر البنون، ورهط وردة غيب قد يبعث الأمر العظيم صغيره، ... حتى تظل له الدماء تصبب والظلم فرق بين حيي وائل: ... بكر تساقيها المنايا تغلب

معلقته وسبب نظمها

والصدق يألفه الكريم المرتجى، ... والكذب يألفه الدني الأخيب والإثم داء ليس يرجى برؤه، ... والبر برء ليس فيه معطب أدوا الحقوق تفر لكم أعراضكم، ... إن الكريم إذا يحرب يغضب ومما يتمثل به من شعره قوله: لنا يوم وللكروان يوم، ... تطير البائسات، وما نطير وقوله: وترد عنك مخيلة الرجل ... العريض، موضحة عن العظم بحسام سيفك، أو لسانك ... والكلم الأصيل كأرغب الكلم ومن شعره قوله يهجو (عبد عمرو) الذي تقدم ذكره: وفرق عن بيتيك سعد بن مالك ... وعمرا وعوفا ما تشي وتقول وأنت على الأدنى شمال عريه، ... شآمية، تزوي الوجوه، بليل وأنت على الأقصى صبا غير قرة، ... بذائب منها مرزع ومسيل وأعلم علما ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل وأن لسان المرء ... ما لم تكن له حصاة على عوراته لدليل وأن امرأ لم يعف يوما ... فكاهة لمن لم يرد سوءا به لجهول والبيت الذي قبل الأخير وعجز ما قبله مما يتمثل به. ومن شعره قوله في هجاء قومه: أسلمني قومي ... ولم يغضبوا لسوءة حلت بهم فادحة وكلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة وصدر البيت الثاني مما يتمثل به أيضا. وكذا عجزه. وقوله في وصف الخيل: ولقد شهدت الخيل وهي مغيرة، ... ولقد طعنت مجامع الربلات ربلات جودت تحت قد بارع، ... حلو الشمائل، خير الكلكات ربلات خيل ما تزال مغيرة، ... يقطرن من علق على الثنات وقوله: وتقول عاذلتي ... وليس لها بغد ولا ما بعده علم : إن الثراء هو الخلود، ... وإن المرء يكرب يومه العدم ولئن بنيب إلى المشقر في ... هضب تقصر دونها العصم لتنقبن عني المنية، ... إن الله ليس لحكمه حكم وله البيت المشهور الذي جرى مجرى المثل وليس هو من معلقته: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه، ... فكل قرين بالمقارن يقتدي ومن جيد شعره قوله: ألخير أبقى، وإن طال الزمان به، ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد ومن شعره قوله - وهو في السجن - يخاطب (عمرو بن هند) ، من قصيدة: أبا منذر كانت غرورا صحيفتي، ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي أبا منذر، أفنيت. فاستبق بعضنا ... حنانيك، بعض الشر أهون من بعض وقوله: "بعض الشر أهون من بعض" مما يتمثل به. وله البيت المشهور: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله فاعل وقد قال (طرفة) الشعر وهو صغير. وقد روي عنه أنه خرج مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين. فنزلوا على ماء فذهب (طرفة) بفخ له إلى مكان يقال له (معمر) . فنصبه للقنابر. وبقي عامة يومه. فلم يصد شيئا. ثم حمل فخه وعاد إلى عمه. فحملوا ورحلوا من ذلك المكان، فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال، وهو أول شعره قاله: يا لك من قبرة بمعمر!، ... خلا لك الجو، فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ... قد ذهب الصياد عنك، فابشري ورفع الفخ، فماذا تحذري؟ ... لا بد يوما أن تصادي، فاصبري معلقته وسبب نظمها معلقته أحسن سعره بلا ريب، فقد أتى فيها بالمبدع من الوصف والحكمة والموعظة والعتاب، وفيها حدوج حبيبته بالسفن السابحة، ويصف ناقته وصفا جميلا دقيقا يوهم السامع أنه يصف حبيبته ثم لا يلبث أن يعدل عما توهم. وقد وصف كل عضو من أعضائها حتى ذيلها وقلبها، ثم انتقل إلى الحكمة والموعظة والعتاب. وقد ذكروا في سبب نظمها أن أخاه (معبدا) كانت له إبل ضلت فذهب (طرفة) إلى ابن عمه (مالك) ورغب إليه أن يعينه في طلبها. فقال له: "فرطت فيها ثم أقبلت تتعب في طلبها". فهاجت قريحته لذلك وقال معلقته. وفيها يعاتبه على تعنيفه وعذله، ويأسف لأنه لا يقدر على أن يرد عليه ملامته وتعنيفه لمكانته عنده. وقد ندد فيها أيضا بأعمامه لأنهم كانوا قد ظلموا حقه، وأبوا قسمة ماله بعد وفاة أبيه وهو صغير. ولما بلغت القصيدة ابن عمه (عمرو بن مرثد) وسمع قوله فيها:

نخبة من معلقته

ولو شاء ربي كنت قيس بن خالد، ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد وجه إلى (طرفة) يقول له: "أما الولد فالله يعطيكم، وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا". ودعا ولده - وكانوا سبعة - فأمرهم فدفع كل منهم إلى (طرفة) عشرة من الإبل، ثم أمر ثلاثة من بني بنيه فدفعوا له مثل ذلك. نخبة من معلقته لخولة أطلال ببرقة ثهمد، ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفا بها صحبي علي مطيهم، ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد كأن حدوج المالكية ... غدوة خلايا سفين بالنواصف من دد عدولية، أو من سفين ابن يامن، ... يجور بها الملاح طورا، ويهتدي يشق حباب الماء حيزومها بها، ... كما قسم الترب المفايل باليد وإني لأمضي الهم عند احتضاره ... بعوجاء مرقال، تروح وتغتدي تباري عتاقا ناجيات، وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد صهابية الثنون، موجدة القرا، ... بعيدة وخد الرجل، موارة اليد وأتلع نهاض (إذا صعدت به) ... كسكان بوصي بدجلة مصعد إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني ... عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد ولست بحلال التلاع مخافة، ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد فإن تبغني في حلقة القوم تلقني، ... وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الشريف المصمد ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد ألا أيها الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات، هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد: ترى جثوتين من تراب، عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد أرى الموت يعتام الكرام، ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد لعمرك إن الموت ... ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد متى ما يشأ يوما يقده لحتفه ... ومن يك في حبل المنية ينقد فمالي أراني وابن عمي مالكا؟، ... متى أدن منه ينأ عني ويبعد يلوم، وما أدري علام يلومني؟، ... كما لامني في الحي قرط بن أعبد وأيأسني من كل خير طلبته، ... كأنا وضعناه إلى رمس ملحد على غير شيء قلته، غير أنني ... نشدت فلم أغفل حمولة معبد وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه، ... خشاش كرأس الحية المتوقد فآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب، رقيق الشفرتين، مهند حسام، إذا ما قمت منتصرا به ... كفى العود منه البدء، ليس بمعضد أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة، ... إذا قيل: مهلا، قال حاجزه: قدي إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعا، إذا بلت بقائمه يدي فإن مت فانعيني بما أهله ... وشقي علي الجيب، يا ابنة معبد ولا تجعليني كامرئ ليس همه ... كهمي، ولا يغني غنائي ومشهدي بطيء عن الجلى، سريع إلى الخنا، ... ذلول بأجماع الرجال، ملهد فلو كنت وغلا في الرجال لضرني ... عداوة ذي الأصحاب والمتوحد ولكن نفى عني الرجال جراءتي ... عليهم، وإقدامي، وصدقي، ومحتدي لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري، ولا ليلي علي بسرمد أرى الموت أعداد النفوس، ولا أرى ... بعيدا غدا، ما أقرب اليوم من غد! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا، ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتا، ولم تضرب له وقت موعد زهير بن أبي سلمى توفي سنة (631) لميلاد المسيح عليه السلام

هو (زهير بن أبي سلمى) ، واسم أبي سلمى (ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن) ، وينتهي نسبه إلى (مضر بن نزار بن معد ابن عدنان) . وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وإنما اختلفوا في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه. وأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم (امرؤ القيس) و (زهير) و (النابغة الذبياني) . حدث (عكرمة بن جرير) قال: "قلت لأبي: يا أبتي، من أشعر الناس؟ ". قال: "أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ "، قلت: "ما أردت إلا الإسلام، فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها"، قال: "زهير أشعر أهلها". قلت: "فالإسلام؟ "، قال: "الفرزدق نبعة الشعر". قلت: "فالأخطل"، قال: "يجيد مدح الملوك، ويصيب صفة الخمر". قلت: "ما تركت لنفسك؟ "، قال: "نحرت الشعر نحرا". وسئل (العباس بن الأحنف بن قيس) عن أشعر الشعراء فقال "زهير". قيل: "وكيف؟ "، قال: "ألقى عن المادحين فضول الكلام". قيل: "مثل ماذا؟ " قال مثل قوله: فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل قال (ابن عباس) : خرجت مع (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنهما - في أول غزاة غزاها. فقال لي: "أنشدني لشاعر الشعراء" قلت: "ومن هو يا أمير المؤمنين؟ " قال: "ابن أبي سلمى" قلت: وبم صار كذلك؟، قال: "لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح أحدا إلا بما فيه. أليس هو الذي يقول: إذا ابتدرت قيس بن غيلان غاية ... من المجد (من يسبق إليها يسود) سبقت إليها كل طلق، مبرز، ... سبوق إلى الغايات، غير مزند فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد أنشدني. فأنشدته حتى برق الفجر. فقال: "حسبك الآن. فاقرأ القرآن". قلت: "وما أقرأ؟ "، قال: "اقرأ الواقعة". فقرأتها، ونزل فأذن وصلى. وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى (زهير) وله مئة سنة، فقال: "اللهم أعذني من شيطانه" فما لاك بعدها بيتا حتى مات. وكان (زهير) سيدا كثير المال حليما معروفا بالورع. وكان من حديث (زهير) وأهل بيته أنهم كانوا من (مزينة) إحدى قبائل مضر. وكان يقيم هو وأبوه وولده في منازل بني (عبد الله بن غطفان) بالحاجز من (نجد) . وأول من نزل هناك منهم أبوه (أبو سلمى) لأنه تزوج امرأة من بني (فهر بن مرة من ذبيان بن غطفان) فولدت له (زهيرا) و (أوسا) وتزوج (زهير) امرأة من (سحيم بن مرة) ولذلك كان يذكر في شعره بني (مرة وغطفان) ويمدحهم. وكان من أمر أبيه (أبي سلمى) أنه خرج وخاله (أسعد بن الغرير ابن مرة الذبياني) وابنه (كعب بن أسعد) في ناس من (بن مرة) يغيرون على (طيء) . فأصابوا نعما كثيرا وأموالا، فرجعوا حتى انتهوا إلى أرضهم. فقال (أبو سلمى) لخاله (أسعد) وابن خاله (كعب) : افردا لي سهمي، فأبيا عليه ومنعاه حقه، فكف عنهما. حتى إذا كان الليل أتى أمه، فقال لها: "والذي أحلف به لتقومن إلى بعير من هذه الإبل فلتقعدن عليه، أو لأضربن بسيفي تحت قرطيك". فقامت أمه إلى بعير منها فانتقت سنامه. وساق بها (أبو سلمى) حتى انتهى قومه (مزينة) . فلبث فيهم حينا. ثم أقبل (بمزينة) مغيرا على بني (ذبيان) حتى إذا (مزينة) أسهلت وخلفت بلادها ونظروا إلى أرض (غطفان) تطايروا عنه راجعين وتركوه وحده. وأقبل حين رأى ذلك من (مزينة) حتى دخل في أخواله (بني مرة) فلم يزل هو وولده في (بني عبد الله بن غطفان) . نشأ (زهير) فيهم، وهناك قال قصيدته المعلقة يذكر فيها قتل (ورد بن حابس) العبسي (هرم بن ضمضم) المري، ويمدح فيها (هرم ابن سنان بن أبي حارثة) و (الحارث بن عوف) و (سعد بن ذبيان) المريين لأنهما احتملا ديته من مالهما. وكان (زهير) بعد ذلك يكثر من مدح (هرم) وأبيه (سنان) وله فيهما قصائد غر. فحلف (هرم) أن لا يمدحه إلا أعطاه "ولا يسأله إلى أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا. فاستحيا (زهير) من كثرة بذله له على كل حال، وجعل يتجنب مقابلته. وكان إذا رآه في محفل قال: "عموا صباحا غير (هرم) ، وخيركم استثنيت) . وسيأتي ذكر طرف من مدائحه فيه عند الكلام على شعره.

موت زهير

وسأل (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - أحد أولاد (زهير) : "ما فعلت الحلل التي كساها (هرم) أباك؟ "، قال: "قد أبلاها الدهر". قال عمر: ولكن الحلل التي كساها أبوك (هرما) لم يبلها الدهر". ويروى عنه أيضا أنه قال لبعض ولد (هرم) : "أنشدني بعض مدح (زهير) أباك، فأنشده". فقال: "إنه كان ليحسن فيكم المدح". قال: "ونحن والله كنا لنحسن له العطية". قال: "قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم". وقيل: لم يترك (زهير) من آل (أبي حارثة) وهوجد (هرم) غنيا ولا فقيرا إلا مدحه. موت زهير كان (زهير) قد رأى في منامه في آخر عمره أن آتيا أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قص رؤياه على ولده (كعب) . ثم قال: "إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي، فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه". هم توفي قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام بسنة. فلما بعث الرسول - عليه الصلاة والسلام - خرج إليه ولده (كعب) بقصيدته (بانت سعاد) المشهورة، وأسلم. وروي أيضا أنه رأى في منامه أن سببا تدلى من السماء إلى الأرض كأن الناس يمسكونه. وكلما أراد أن يمسكه تقلص عنه. فأوله بنبي آخر الزمان، فإنه واسطة بين الله وبين الناس، وإن مدته لا تصل إلى زمن مبعثه. فأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره. وكانت وفاته سنة (631) لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام. ولما مات (زهير) قالت أخته (خنساء) ترثيه: وما يغني توقي المرء شيئا، ... وعلا عقد التميم ولا الغضار إذا لاقى منيته فأمسى ... يساق به، وقد حق الحذار ولاقاه من الأيام يوم، ... كما من قبل لم يخلد قدار الكلام على شعره هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء - كما قدمنا - وكما أن امرأ القيس امتاز بتلطيف المعاني، وابتداع الأساليب، واستنباط الأفكار، فقد امتاز (زهير) بما نظمه من منثور الحكمة البالغة، وكثرة الأمثال وسني المدح، وتجنب وحشي الكلام، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من اللفظ. وكان لزهير أخلاق عالية، ونفس كبيرة، مع سعة صدر وحلم وورع. فرفع القوم منزلته وجعلوه سيدا. وكثر ماله واتسعت ثروته. وكان مع ذلك عريقا في الشعر. قال ابن الأعرابي: "لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعرا، وخاله شاعرا، وأخته (سلمى) شاعرة، وأخته (الخنساء) شاعرة، وابناه (كعب) و (بجير) شاعرين، وابن ابنه (المضرب بن كعب) شاعرا. ولهذا قال الأخطل: "أشعر الناس قبيلة (بنو قيس) ، وأشعر الناس بيتا آل (أبي سلمى) ، وأشعر الناس رجلا ف رجل في قميصي". يعني نفسه. وكان لشعره تأثير كثير في نفوس العرب. وهو واسطة عقد الفحول من شعراء الطبقة الأولى. وكان (عمر بن الخطاب) جالسا مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل (ابن عباس) فقال عمر: "قد جاءكم أعلم الناس بالشعر". فلما جلس قال: "يا ابن عباس، من أشعر الناس؟ ". قال: "زهير بن أبي سلمى"، قال: "فهل تنشد شيئا تستدل به على ما قلت؟ "، قال: نعم، امتدح قوما من (غطفان) يقال لهم (بنو سنان) فقال: لو كان يقعد فوق الشمس من أحد ... قوم، لأولهم يوما إذا قعدوا محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا ومن محاسن شعر زهير قوله: ولا تكثر على ذي الضغن عتبا، ... ولا ذكر التجرم للذنوب ولا تسأله عما سوف يبدي، ... ولا عن عيبه لك في المغيب متى تك في صديق أو عدو ... تخبرك الوجوه عن القلوب قال ابن الأعرابي: "أم أوفى التي ذكرها (زهير) في شعره كانت امرأته فولدت منه أولادا ماتوا، ثم تزوج بعد ذلك امرأة أخرى وهي أم ابنيه (كعب) و (بجير) ، فغارت من ذلك وآذته، فطلقها، ثم ندم، فقال فيها: لعمرك (والخطوب مغيرات، ... وفي طول المعاشرة التقالي) لقد باليت مظعن أم أوفى، ... ولكن أم أوفى ما تبالي

وكان رجل من بني (عبد الله بن غطفان) أتى (بني غليب) وأكرموه لما نزل بهم وأحسنوا جواره. وكان رجلا مولعا بالقمار، فنهوه عنه فأبى على المقامرة، فقمر مرة فردوا عليه، ثم قمر أخرى فردوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه. فترحل عنهم. وشكا ما صنع به إلى (زهير) (والعرب حينئذ يتقون الشعراء اتقاء شديدا) . فقال (زهير) : "ما خرجت في ليلة ظلماء إلى خفت أن يصيبني الله بعقوبة لهجائي قوما ظلمتهم" والذي هجاهم به (زهير) قوله: عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم فالحساء لقد طلبتها، ولكل شيء ... وإن طالت لحاجته انتهاء ومنها يذمهم: وما أدري (وسوف إخال أدري) ... أقوم آل حصن أم نساء؟ فمن في كفه منهم خضاب ... كمن في كفه منهم قناء وفيها يقول: أرونا خطة لا ضيم فيها، ... يسوى بيننا فيها السواء فإن ترك السواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء فإن الحق مقطعه ثلاث: ... يمين، أو نفار، أو جلاء فذلكم مقاطع كل حق، ... ثلاث كلهن له شفاء قال بعض الرواة: لو أن (زهيراً) نظر إلى رسالة (عمر بن الخطاب) إلى (أبي موسى الأشعري) ما زال على ما قال: "فإن الحق مقطعه ثلاث إلخ". وقد لقب (زهير) بقاضي الشعراء بهذا البيت. ومما ينسب لزهير - وقد ذكره ابن هشام في أوائل شرح قصيدة (بانت سعاد) - قوله: إن كنت لا ترهب ذمي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل فاخش سكوتي إذ أنا منصت، ... فيك لمسموع خنا القائل فسامع الذم شريك له، ... ومطعم المأكول كالآكل مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل ونسب صاحب كتاب زهر (الآداب) هذه الأبيات إلى (محمد بن حازم الباهلي) وزاد عليها هذه الثلاثة: فلا تهج ... إن كنت ذا إربة حرب أخي التجربة العاقل فإن ذا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خبل خابل تبصر من عاجل شداته ... عليك غب الضرر الآجل ويستحسن قوله: هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا، فينظلم ومما حسن من تشابيهه أنه شبه امرأة بثلاثة أصناف في بيت واحد، وهو قوله: تنازعت المها شبها، ودر ... البحور، وشاكهت فيها الظباء ثم فسر فقال: فأما ما فويق العقد منها ... فمن أدماء، مرتعها الخلاء وأما المقلتان فمن مهاة، ... وللدر الملاحة والصفاء وقال (عبد الملك) لقوم من الشعراء: "أي بيت أمدح؟ ". فاتفقوا على قول (زهير) تراه ... إذا ما جئته متهللا، كأنك تعطيه الذي أنت سائله وهذا البيت من أبيات يمدح فيها (هرم بن سنان أبي حارثة المري) وفيها يقول: وأبيض فياض، يداه غمامة، ... على معتفيه ما تغب فواضله تراه ... إذا ما جئته متهللا، كأنك تعطيه الذي أنت سائله أخو ثقة، لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله ترى الجند والأعراب يغشون بابه، ... كما وردت ما (الكلاب) هوامله فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله ومن شعره الجيد قوله في مدح (سنان بن أبي حارثة وقومه) : إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح، لا ضعاف ولا عزل بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا عليها أسودت ضاريات، لبوسهم ... سوابغ بيض، لا تخرقها النبل ومنها: هم جددوا أحكام كل مضلة ... من العقم، لا يلفي لأمثالها فصل بعزمة مأمور مطيع، وآمر ... مطاع، فلا يلفي لحزمهم مثل هم خير حي من معد، علمتهم ... لهم نائل في قومهم ولهم فضل ومنها: تداركتما الأحلاف، قد ثل عرشها، ... وذبيان، قد زلت بأقدامها النعل فأصبحتما منها على خير موطن، ... سبيلكما فيه وإن أحزنوا سهل إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت، ... ونال كرام المال في الحجرة الأكل

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم، ... قطينا بها، حتى إذا نبت البقل وفيهم مقامات حسان وجوههم، ... وأندية ينتابها القول والفعل على مكتريهم رزق من يعتريهم، ... وعند المقلين السماحة والبذل وإن قام فيهم حامل قال قاعد: ... هديت، فلا غرم عليك، ولا خذل وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه؟، ... وتغرس إلا في منابتها النخل؟ والبيت الأخير مما يتمثل به. ومن محاسن شعره قوله يمدح (الحارث بن ورقاء) ويهجو قومه: أبلغ بني نوفل عني (فقد بلغوا ... مني الحفيظة لما جاءني الخبر) أن ابن ورقاء لا تخشى غوائله، ... لكن وقائعه في الحرب تنتظر لولا ابن ورقاء والمجد التليد له ... كانوا قليلا، فما عزوا ولا كثروا المجد في غيرهم، لولا مآثره، ... وصبره نفسه، والحرب تستعر أولى لهم، ثم أولى أن تصيبهم ... مني بواقر، لا تبقي ولا تذر وأن يعلل ركبان المطي بهم ... بكل قافية شنعاء تشتهر وسبب هذه الأبيات أن (الحارث بن ورقاء الصيداوي) من بني (أسد) أغار على (بني عبد الله بن غطفان) ، فغنم وأخذ إبل (زهير) وغلامه "يسارا". فهجاه "زهير" بقصيدة، فلم يلتفت إليها "الحارث". فهجاه ثانية. فقال له قومه: أقتل يسارا غلام زهير. فأبى عليهم ذلك وكساه ورده. فمدحه "زهير" بهذه الأبيات. ومن حكمته العالية قوله: إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا ... أصبت حليما، أو أصابك جاهل ومن مدائحه في (هرم بن سنان) قوله: قف بالديار التي لم يعفها القدم، ... بلى، وغيرها الأرواح والديم لا الدار غيرها بعدي الأنيس، ولا ... بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم ومنها: إن البخيل ملوم حيث كان، ولكن ... الجواد على علاته هرم هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا. ويظلم أحيانا، فيظلم وان أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم ومنها: ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيء العثرات لله والرحم مورث المجد، لا يغتال همته ... عن الرياسة لا عجز ولا سأم كالهنداواني لا يخزيك مشهده ... وسط السيوف، إذا ما تضرب البهم ومن مدائحه فيه قوله أيضا: لمن طلل برامة لا يريم، ... عفا وأحاله عهد قديم تطالعني خيالات لسلمى ... كما يتطالع الدين الغريم ومنها: لعمر أبيك ما هرم بن سلمى ... بملحي، إذا اللؤماء ليموا ولا ساهي الفؤاد ولا عيي ... اللسان إذا تشاجرت الخصوم أراه غيثنا في كل عام، ... يلوذ به المخول والعديم وعود قومه هرم عليه ... ومن عاداته الخلق الكريم كذلك خيمهم، ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم له في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم ومن محاسن شعره الذي جمع بين الحكمة والموعظة والرونق قوله: ألا ليت شعري، هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر؟، أو يبدو لهم ما بدا ليا؟: بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم، ولا أرى الدهر فانيا وأني متى أهبط من الأرض تلعة ... أجد أعثرا قبلي جديدا وعافيا أراني إذا أمسيت أمسيت ذا هوى، ... فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا إلى حفرة أهوي إليها مصمة، ... يحث إليها سائق من ورائيا بدا لي أن الله حق، فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما كان باديا بدا لي أني لست مدرك ما مضى، ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا أراني إذا ما شئت لاقيت آية، ... تذكرني بعض الذي كنت ناسيا وما إن أرى نفسي تقيها منيتي، ... وما إن تقي نفسي كرائم ماليا ألم تر أن الله أهلك تبعا، ... وأهلك لقمان بن عاد وعاديا؟ وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى، ... وفرعون جبارا طغى، والنجاشيا؟ ألم تر للنعمان كان بنجوة ... من الشر، لو أن أمرأ كان ناجيا فغير منه رشد عشرين حجة ... من الدهر يوم واحد كان غاويا

استطراد لفائدة جلة

فلم أر مسلوبا ... له مثل ملكه أقل صديقا صافيا أو مواسيا استطراد لفائدة جلة تلقيب الاسكندر المقدوني بذي القرنين قد استفاض على ألسنة كثير من الناس واللغويين والمفسرين والمؤرخين. وهو خطأ فاحش. فإن (ذو) كلمة عربية محضة، و (ذو القرنين) من ألقاب العرب ملوك اليمن. وكان منهم (ذو جدن) و (ذو كلاع) و (ذو نواس) و (ذو شناتر) و (ذو القرنين) . هو الذي مكن الله له في الأرض، وعظم ملكه، وبنى السد على (يأجوج ومأجوج) وهو (الصعب بن الرائش) واسم الرائش (الحارث بن ذي سدد بن عاد بن الماطاط بن سبأ) . وقد سئل (ابن العباس) عن (ذي القرنين) الذي ذكره الله في كتابه العزيز، فقال: "هو من حمير". وهذا مما يقوي أنه "الصعب" المذكور، لأنه كان ملكا عظيما، وكان من ولد (حمير) . فنتج من هذا التحقيق أن "ذا القرنين" هو غير "الإسكندر المقدوني" باني "الإسكندرية"، لأن هذا يوناني، وذاك عربي وكلاهما كان ملكا عظيما. فافهم ذلك فإنه الحق الذي لا محيد عنه. وقد حقق هذا الأمر أيضا "أبو الفداء" المؤرخ المشهور في تاريخه. فراجعه عند ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس. وقد اختلف العلماء في نبوة "ذي القرنين" المذكور، مع اتفاقهم على صلاحه وتقواه. وتسمى الملوك الملقبة بذو"الأذواء" وهي جمع "ذو". ومن جيد شعره قوله: وإنك إن أعطيتني ثمن الغنى ... حمدت الذي أعطيك من ثمن الشكر وإن يفن ما تعطيه في اليوم أو غد ... فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر وقوله: سألنا فأعطيتم، وعدنا فعدتم ... ومن أكثر التسآل للناس يحرم وقوله: أرانا موضعين لأمر غيب، ... ونسحر بالطعام وبالشراب كما سحرت به إرم وعاد، ... فأصبحوا مثل أحلام النيام وقوله: الود لا يخفى، وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان ومن مدائحه في "هرم بن سنان" قوله: تالله، قد علمت سراة بني ... ذبيان (عام الحبس والأصر) أن نعم مأرى القوم ... قد علموا أن عضهم جل من الأمر ولنعم حشو الدرع أنت، إذا ... دعيت نزال، ولج في الذعر حامي الذمار على محافظة ... الجلى، أمين مغيب الصدر حدب على المولى الضريك، إذا ... نابت عليه نوائب الدهر ومنها: وإذا برزت به برزت إلى ... صافي الخليقة، طيب الخبر متفرغ للمجد، معترف ... للنائبات، يراح للذكر فلأنت أوصل من سمعت به ... لشوابك الأرحام والصهر ألحامل العبء الثقيل عن ... الجاني، بغير يد ولا شكر لو كنت في شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر ومن شعره الجيد قوله: ثلاث يعز الصبر عند حلولها، ... ويذهل عنها عقل كل لبيب خروج اضطرار من بلاد تحبها، ... وفرقة إخوان، وفقد حبيب وقوله يمدح (حصن بن خذيفة بن بدر الفزاري) من قصيدة: وذي نسب ناء بعيد وصلته ... بمال، وما يدري بأنك واصله وذي نعمة تممتها وشكرتها، ... وخصم (يكاد يغلب الحق باطله) دفعت بمعروف من القول، صائب، ... إذا ما أضل الناطقين مفاصله وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب، فما يلمم به فهو قائله عبأت له حلما، وأكرمت غيره، ... وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله وكان "قدامة بن موسى" عالما بالشعر. وكان يقدم "زهيرا" على ما عداه، ويستجيد قوله في مدح (هرم بن سنان) : د جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا ن يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة فيه والندى خلقا وهذان البيتان من قصيدة. ومنها قوله: غر، أبيض، فياض، يفكك عن ... أيدي العناة وعن أعناقها الربقا ذاك أحزمهم رأيا، إذا نبأ ... من الحوادث غادى الناس أو طرقا ونال حي من الدنيا بمنزلة ... وسط السماء، لنالت كفه الأفقا قال (ابن قتيبة) : وكان (زهير) يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث، وذلك قوله: يؤخر، فيوضع في كتاب، فيدخر ... ليوم حساب، أو يعجل فينقم

معلقته وسبب نظمها

وكان (زهير) شديد العناية بتنقيح شعره، حتى ضرب به المثل، وسميت قصائده بالحوليات، نسبة إلى الحول أي السنة، وذلك لأنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها بنفسه في أربعة أشهر، ويعرضها على أصحابه الشعراء في أربعة أشهر. فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول كامل. وقيل كان ينظم القصيدة في ليلة واحدة، ويهذبها في سنة. ولعل الأول أرجح. معلقته وسبب نظمها معلقة (زهير) أشعر شعره. وقد اجتمعت ما أشبه كلام الأنبياء، وحكمة الحكماء. ففيها الحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والأخلاق الفاضلة، والمعاني العالية، والأغراض النبيلة. أضف إلى ذلك ما حوته من الأساليب البليغة، والكلام الجزل. وقد أنشأها يمدح بها (الحارث بن عوف) و (هرم بن سنان) المريين، ويذكر سعيهما بالصلح بين (عبس وذبيان) وتحملهما ديته من مالهما. وذلك أن (ورد بن حابس العبسي) قتل (هرم بن ضمضم المري) في حرب (عبس) و (ذبيان) قبل الصلح، وهي المعروفة بحرب (داحس والغبراء) . فلما اصطلح الناس ووضعت الحرب أوزارها تخلف (ضمضم) أخو (هرم) عن الدخول فيما دخل فيه الناس. وحلف أن لا يغسل رأسه حتى يقتل (ورد بن حابس) أو رجلا من (بني عبس) ثم من (بني غالب) . ولم يطلع على ذلك أحد. وكان قد حمل الحمائل وتكفل بأداء دية من قتل قبل الصلح (الحارث بن عوف بن أبي حارثة) و (هرم بن سنان) . ثم أقبل رجل من (بني عبس) ثم من (بني غالب) حتى نزل بحصن بن ضمصم. فقال له: "من أنت أيها الرجل؟ "، قال: "عبسي ". فقال: "من أي عبس؟ "، فلم يزل ينتسب حتى انتسب على (غالب) . فقتله (حصين) . وبلغ ذلك (الحارث بن عوف) و (هرم بن سنان) ، فاشتد عليهما ذلك. وبلغ الأمر (بني عبس) ، فركبوا نحو (الحارث) . فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل (الحارث) . بعث إليهم بمئة من الإبل معها ابنه. وقال للرسول: قل لهم "الإبل أحب إليكم، أم أنفسكم؟ " فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك. فقال (الربيع بن زياد) : "يا قوم، إن أخاكم قد أرسل إليكم يقول: الإبل أحب إليكم، أم ابنه تقتلونه مكان قتيلكم؟ ". فقالوا: "بل نأخذ الإبل ونصالح قومنا". وفي ذلك يقول (زهير) في معلقته: تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم فأصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنم نخبة من معلقته أمن أم أوفى دمنه لم تكلم، ... بحومانة الدراج فالمتثلم؟ ودار لها بالرقمتين، كأنها ... مراجيع وشم في نواشر معصم فلما عرفت الدار قلت لربعها: ... ألا أنعم صباحا أيها الربع، واسلم فأقسمت بالبيت (الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم) يمينا: لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال: من سحيل ومبرم تداركتما عبسا وذبيانا، بعد ما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا ... بمال ومعروف من القول، نسلم فأصبحتما منها على خير موطن، ... بعيدين فيها من عقوق ومأثم عظيمين في عليا معد ... هديتما ومن يستبح كنزا من المجد يعظم فأصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنم ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفي ومهما يكتم الله يعلم يؤخر، فيوضع في كتاب، فيدخر ... ليوم الحساب، أو يعجل، فينقم وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم، ... وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة، ... وتضر إذا ضريتموها، فتضرم لعمري، لنعم الحي جر عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم وكان طوى كشحا على مستكنة، ... فلا هو أبداها، ولم يتقدم وقال سأقضي حاجتي، ثم أتقي ... عدوي بألف من ورائي ملجم سئمت تكاليف الحياة: ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبالك يسأم وأعلم ما في اليوم والأمس قبله، ... ولكنني عن علم ما في غد عمي رأيت المنايا خبط عشواء: من تصب ... تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم

لبيد بن ربيعة

ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب، ويوطأ بمنسم ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه، يستغن عنه، ويذمم ومن يوف لا يذمم. ومن يهد قلبه ... إلى مطمئن البر، لا يتجمجم ومن هاب أسباب المنايا ينلنه، ... وإن يرق أسباب السماء بسلم ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن يغترب يحسب عدوا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم لبيد بن ربيعة توفي سنة (680) م و (60) هـ- هو (لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري) وكنيته (أبو عقيل) . وهو صحابي أدرك الجاهلية والإسلام. عاش خمسا وأربعين سنة بعد المئة (145) ، وقيل خمسا وخمسين بعد المئة (155) . وكان يقال لأبيه: (ربيعة المقترين) لجوده وسخائه. وعمه هو (أبو براء عامر بن مالك) الملقب بملاعب الأسنة. لقب بذلك لقول (أوس بن حجر) فيه: فلاعب أطراف الأسنة مالك،_فراح لها حظ الكتيبة أجمع وقد وفد وقومه (بني جعفر بن كلاب) على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه. وأسلم قومه. وكان (لبيد) و (علقمة بن علاثة) العامريان من المؤلفة قلوبهم. وهو معدود من فحول الشعراء المجيدين في الطبقة الثانية. حاله قبل الإسلام كان من شعراء الجاهلية وأجوادهم وفرسانهم. ومن سيرته أن (الحارث الغساني) وهو المعروف بالأعرج وجه إلى (المنذر بن ماء السماء) مئة فاس وأمر عليهم (لبيدا) فساروا إلى عسكر (المنذر) . وأظهروا أنهم أتوه داخلين عليه في طاعته. فلما تمكنوا من قتلوه، وركبوا خيلهم. فلحقهم القوم، فقتلوا أكثرهم، وكان فيمن نجا (لبيد) فأتى ملك (غسان) فأخبره. فحمل (الغسانيون) على عسكر (المنذر) فهزموهم في اليوم المعروف ب- (يوم حليمة) . هي بنت ملك غسان. وكانت طيبت هؤلاء الفتيان، وألبستهم الأكفان. و (يوم حليمة) هو الذي يقول فيه الشاعر: تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم، قد جربن كل التجارب قدومه على النعمان بن المنذر كانت دلائل النباهة والنجابة بادية على (لبيد) منذ حداثة سنه. يدلك على ذلك ما جرى له مع (الربيع بن زياد) عند (النعمان بن المنذر) . وذلك كما قال (ابن الأعرابي) : وفد (أبو براء ملاعب الأسنة) وهو (عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب) وإخوته (طفيل) و (معاوية) و (عبيدة) ومعهم (لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر) وهو غلام، على (النعمان بن المنذر) . فوجدوا عنده (الربيع بن زياد العبسي) . وكان (الربيع) ينادم (النعمان) مع رجل من تجار الشام يقال له (زرجون بن نوفل) . فلما قدم الجعفريون "وهم لبيد وقومه" كانوا يحضرون (النعمان) لحاجتهم. فإذا خلا (الربيع) بالنعمان طعن فيهم وذكر معايبهم. ففعل ذلك بهم مرارا. وكانت (بنو جعفر) له أعداء فصده عنهم. فدخلوا عليه يوما فرأوا منه تغيرا أو جفاء "وكان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم" فخرجوا من عنده غضابا. و (لبيد) في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم كل صباح فيرعاها. فإذا أمسى انصرف بإبلهم. فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر (الربيع) وما يلقون منه، فسألهم فكتموه، فقال لهم: "والله لا أحفظ لكم متاعا ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني فيم أنتم "وكانت أم (لبيد) امرأة من بني عبس، وكانت يتيمة في حجر الربيع" فقالوا: "خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه". فقال لهم (لبيد) : "هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول ممض، ثم لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ "، فقالوا: "هل عندك من ذلك شيء؟ ". قال: "نعم"، قالوا: "فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة". (وكان قدامهم بقلة دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة بالأرض تدعى التربة) فقال:

حاله بعد الإسلام

"هذه التربية التي لا تذكي نارا، ولا توهل دارا، ولا تسر جارا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل. أقبح البقول مرعى، وأقصرها فرعا، وأشدها قلعا، فتعسا لها وجدعا. بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع. إلقوا بي أخا عبس، أرده عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس" قالوا: "نصبح غدا ونرى فيك رأينا" فقال لهم عامر: انظروا إلى غلامكم هذا، "يعني لبدا" فإن رأيتموه نائما فليس من أمره شيء، إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، ويهذي بما يهجس به خاطره. وإذا رأيتموه ساهرا فهو صاحبه" فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلا فهو يكدم وسطه. حتى أصبح. فقالوا: "أنت صاحبه". فعمدوا إليه، فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته وألبسوه حلة. ثم غدوا به معهم على (النعمان) . فوجدوه يتغدى، ومعه (الربيع) ، وهما يأكلان لا ثالث لهما. والدار والمجالس مملوءة من الوفود. فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين، فدخلوا عليه: "وكان أمرهم قد تقارب" فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم. فاعترض "الربيع بن زياد" في كلامهم. فقام "لبيد" يرتجز ويقول: أكل يوم هامتى مقزعه؟ ... يا رب هيجا هي خير من دعه يا واهب الخير الكثير من سعة، ... إليك جاوزنا بلادا مسبعه نحن بنو أم البنين الأربعة، ... سيوف حق، وجفان مترعه نحن خيار عامر بن صعصعة، ... والضاربون الهام تحت الخيضعه والمطعمون الجفنة المدعدعه ... مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه ثم ذكر بعدها بيتين رأينا الأدب يجبهنا دون ذكرهما. فلما سمع "النعمان" كلام "لبيد" رفع يده من الطعام، وقال "خبثت - والله - علي طعامي يا غلام. وما رأيت كاليوم". ثم التفت إلى "الربيع" شزرا فقال: "أكذا أنت؟ ". قال: لا والله، لقد كذب علي ابن الأحمق اللئيم". ثم قضى "النعمان" حوائج "الجعفريين" من وقته وصرفهم. ومضى "الربيع" إلى منزله. فبعث إليه "النعمان" بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله. فكتب إليه "الربيع": إني تخوفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله "لبيد"، ولست برائم حتى تبعث من يبحث عن الأمر، فيعلم من حضرك إني لست كما قال فأرسل إليه (النعمان) : "إنك لست صانعا باتقائك مما قال "لبيد" شيئا، ولا قادرا على ما زلت به الألسن. فالحق بأهلك" فلحق بأهله. ثم أرسل إلى "النعمان" بأبيات شعر قالها. ومنها هذا البيت: لئن رحلت جمالي إن لي سعة، ... ما مثلها سعة، عرضا ولا طولا فكتب إليه (النعمان) : شرد برحلك عني حيث شئت، ولا ... تكثر علي، ودع عنك الأباطيلا قد قيل ما قيل ... إن صدقا وإن كذبا فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟ فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة، ... وانشر بها الطرف، إن عرضا وإن طولا حاله بعد الإسلام أسلم "لبيد" قبل الفتح، وحسن إسلامه، وهاجر، ولم يصح عنه إنه قال شيئا من الشعر بعد الإسلام إلا قوله: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح قيل وقوله أيضا: الحمد لله: إذ لم يأتني أجلي، ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا والصحيح أن البيت الثاني ليس له، وإنما هو لرجل سلولي من المعمرين. والسبب في عدم قوله الشعر أنه لما أسلم وقرأ القرآن شغل بما فيه من حكمة رائعة، وموعظة حسنة، وبلاغة مدهشة، صرفته عن الشعر. يدلك إلى عامله (المغيرة بن شعبة) بالكوفة: "أن استنشد من عندك من شعراء مصرك ما قالوه في الإسلام" (أي بعد دخلوا فيه) فأرسل إلى (الأغلب العجلي) : أن أنشدني. فقال: لقد طلبت هينا موجودا ... أرجزا تريد أم قصيدا ثم أرسل إلى (لبيد) : أن أنشدني. فقال: "إن شئت ما عفي عنه (يعني الجاهلية) . فقال: "لا. أنشدني ما قلت في الإسلام". فانطلق إلى بيته. فكتب (سورة البقرة) في صحيفة، ثم أتى بها، فقال "أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر". فكتب بذلك (المغيرة) إلى (عمر) فنقص من عطاء (الأغلب) خمس مئة وزادها في عطاء (لبيد) ، فكان عطاؤه ألفين وخمس مئة فكتب (الأغلب) إلى (عمر) : "يا أمير المؤمنين، تنقص عطائي إن أطعتك؟ " فرد عليه ما نقصه وأقر (لبيدا) على الألفين والخمس مئة.

وفاة لبيد

فلما كان زمن (معاوية) أراد معاوية أن ينقصه من عطائه. فقال له: هذان الفودان (يعني الألفين) فما هذه العلاوة؟ (يعني الخمسمائة) . فقال له (لبيد) : "أموت ويبقى لك الفوادان والعلاوة. وإنما أنا هامة اليوم أو الغد ولعلي لا أقبضها". فرق له (معاوية) وترك له عطاءه على حاله. فمات ولم يقبضها. وكان (لبيد) من الأجواد المشهورين. وكان شريفا في الجاهلية والإسلام. وكان قدت نذر أن لا تهب الصبا إلا نحر وأطعم. وكانت له جفنتان يغدو بهما ويروح كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم. فهبت الصبا يوما وهو بالكوفة مقتر مملق. فعلم بذلك (الوليد بن عقبة) - وكان أميرا عليها - فصعد المنبر، فخطب الناس، فقال: قد عرفتم أن أخاكم (لبيد بن ربيعة) قد نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم. وهذا اليوم من أيامه. وقد هبت الصبا، فأعينوه. وأنا أول من فعل". ثم نزل عن المنبر. فأرسل إليه بمئة ناقة. وبعث إليه الناس حتى اجتمع لديه شيء كثير. فقضى نذره وأطعم الناس. وبعث إليه (الوليد) مع النوق بأبيات شعر قالها وهي: أرى الجزار يشحذ شفرتيه ... إذا هبت رياح أبي عقيل أغر الوجه، أصيد عامري، ... طويل الباع، كالسيف الصقيل وفى ابن الجعفري بحلقتيه، ... على العلات والمال القليل بنحر الكوم إذ سحبت عليه ... ذيول صبا تجاوب بالأصيل فلما أتاه الشعر (وكان قد ترك قوله) قال لابنته: "أجيبيه. فلقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر". فقالت: إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا أشم الأنف، أروع، عبشميا ... أعان على مروءته لبيدا بأمثال الهضاب، كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا أبا وهب ... جزاك الله خيرا ، نحرناها وأطعمنا الثريدا فعد، إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا فقال لها (لبيد) : "أحسنت، لولا أنك استطعمته". فقالت: "والله ما استزدته، إلا أنه ملك، والملوك لا يستحيا من مسألتهم. ولو كان سوقة لم أفعل "فقال: وأنت يا بنية في هذه أشعر". وفاة لبيد بعد أن وفد (لبيد) هو وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم هو وإياهم، رجع قومه إلى بلادهم. وقدم هو (الكوفة) فأقام بها إلى أن مات، وله من العمر مئة وخمس وأربعون سنة (145) على الصحيح. ويقال أن وفاته كانت في أول مدة (معاوية بن أبي سفيان) . وهو المشهور. وقيل: بل في أيام (الوليد بن عقبة) في خلافة (عثمان بن عفان) - رضي الله عنه - فبعث (الوليد) إلى منزله عشرين جزورا فنحرت عنه وأكلها الناس. و (لبيد) مذكور في طبقات المعمرين. وروى (أبو حاتم السجستاني) في (كتاب المعمرين) أن (الشعبي) قال: "أرسل إلي (عبد الملك بن مروان) في حياته. فدخلت عليه فقلت: "كيف أصبحت يا أمير المؤمنين فقال أصبحت كما قال (عمرو بن قميئة) الشاعر: كأني وقد جاوزت سبعين حجة، ... (خلعت بها عني عذار لجامي) رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى، ... فكيف بمن يرمي وليس برام فلو أنها نبل، إذن لاتقيتها، ... ولكنني أرمى بغير سهام إذا ما رآني الناس قالوا: ألم تكن ... جليدا، شديد البطش، غير كهام؟ فقلت: "لا يا أمير المؤمنين، ولكنك كما قال (لبيد بن ربيعة) ، وذلك لما بلغ سبعا وسبعين سنة. أنشأ يقول: باتت تشكي إلى النفس مجهشة: ... لقد حملتك سبعا بعد سبعينا فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا، ... وفي الثلاث وفاء للثمانيا ثم عاش حتى بلغ تسعين سنة، فقال: كأني ... وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عن منكبي ردائيا ثم عاش حتى بلغ مئة حجة وعشرا، فأنشأ يقول: أليس في مئة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر؟ ثم عاش حتى بلغ مئة وعشرين سنة، فأنشأ يقول: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟ غلب الرجال، وكان غير مغلب ... دهر جديد دائم ممدود يوم أرى يأتي علي وليلة، ... وكلاهما بعد المضاء يعود فقال عبد الملك: "والله ما بي من بأس. اقعد وحدثني ما بينك وبين الليل. فقعدت فحدثته حتى أمسيت. ثم فارقته. فمات في ليلته.

الكلام على شعره

ولما حضرت (لبيدا) الوفاة قال مخاطبا لابنتيه: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر؟ إذا حان يوما أن يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها، ولا تحلقا شعر وقولا: هو المرء الذي ليس جاره ... مضاعا، ولا خان الصديق، ولا غدر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر فكانتا تذهبان إلى قبره كل يوم، وتترحمان عليه، وتبكيان من غير ندب ولا صياح ولا لطم، ثم تأتيان نادي (بني كلاب) فتذكران مآثره: ثم تنصرفان. فأقامتا على ذلك إلى أن تم الحول. وقال لابن أخيه لما حضرته الوفاة (ولم يكن له ولد ذكر) : يا بني، إن أباك لم يمت ولكنه فني. فإذا قبض أبوك فأقبله القبلة، وسجه بثوبه، ولا تصرخن عليه صارخة. وأنظر جفنتي اللتين كنت اصنعهما فاصنهما، ثم احملهما إلى المسجد. فإذا سلم الإمام فقدمهما إليهم. فإذا طعموا فقل لهم: فليحضروا جنازة أخيهم". ففعل ابن أخيه ما أمره (لبيد) به. وكانت وفاته سنة (60) للهجرة. وقال (ابن عفير) : "مات (لبيد) سنة إحدى وأربعين من الهجرة يوم دخل معاوية (الكوفة) ونزل "النخيلة". وقد قضى من عمره تسعين سنة في الجاهلية وسائرها في الإسلام. رحمه الله". الكلام على شعره كان رحمه الله - من فحول الشعراء المخضرمين. وقد شهد له النابغة بأنه أشعر العرب، لأنه كان يغوص على المعنى الغريب والحكمة البليغة. وذلك أن "النابغة الذبياني" نظر إليه - وهو صبي - مع أعمامه على باب "النعمان بن المنذر"، فسأل عنه، فنسب إليه. فقال له: "يا غلام، إن عينيك لعيني شاعر. أفتقرض من الشعر شيئا؟ " قال: "نعم". قال: "فأنشدني". فأنشده قوله: ألم تلمم على الدمن الخوالي ... لسلمى، بالمذائب فالقفال؟ فقال له النابغة: "أنت أشعر بني عامر. زدني". فأنشده: طلل لخولة بالرسيس قديم، ... بمعاقل فالأنعمين، وشوم فقال: "أنت أشعر هوازن. زدني". فأنشده معلقته: عفت الديار، محلها فمقامها ... بمنى. تأبد غولها فرجامها روي أن الفرزدق مر بمسجد "بني أقيصر" بالكوفة وعليه رجل ينشد: وجلا السيول عن الطلول، كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها فسجد. فقيل له: "ما هذا يا أبا فراس؟ ". فقال: "أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر". وبالجملة فمحل لبيد في الشعر مشهور. وقال من قدمه على غيره: "إنه أقل الشعراء لغوا في شعره، وحكمه في الشعر كثيرة". ومن شعره قوله من قصيدة: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله، ولا ند له، ... بيديه الخير، ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل وفي هذه القصيدة يقول - وهو من خير ما قال: واكذب النفس إذا حدثتها: ... إن صدق النفس يزري بالأمل وقال مادحا: وبنو الريان لا يأتون (لا) ... وعلى ألسنتهم خفت (نعم) زينت أحلامهم أحسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم وكان "المعتصم" يعجب بشعر "لبيد". فقال: من منكم يروي قوله: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع. فقال بعض الجلساء: "أنا" فقال: "أنشدنيها". فأنشد: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع وقد كنت في أكناف دار مضنة، ... ففارقني جار بأربة نافع فبكى (المعتصم) حتى جرت دموعه. وترحم على المأمون. وقال: "هكذا كان، رحمة الله عليه". ثم اندفع وهو ينشد باقيها، ويقول: فلا جزع إن فرق الدهر بيننا، ... فكل امرئ يوما له الدهر فاجع وما المرء إلا كالشهاب وضوئه: ... يحور رمادا بعد ما هو ساطع وما المرء إلا مضمرات من التقى ... وما المال والأهلون إلا ودائع وما الناس إلا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبني، وآخر رافع فمنهم سعيد آخذ بنصيبه، ... ومنهم شقي بالمعيشة قانع أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنو عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي مضت، ... أدب كأني كلما قمت راكع فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين، والنصل قاطع

معلقته وسبب نظمها

فلا تبعدن، إن المنية موعد ... علينا: فدان للطلوع وطالع أعاذل ما يدريك ... إلا تظنيا إذا رحل السفار من هو راجع أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى؟ ... وأي كريم لم تصبه القوارع لعمرك، ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع وقصيدته هذه قالها يرثي أخاه (أربد) . وكان أخاه لأمه. وذلك أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم هو و (عامر بن الطفيل) في وفد (بني عامر بن صعصعة) فأضمر هو و (عامر) الشر للنبي عليه الصلاة والسلام. فرد الله كيدهما في نحرهما. ثم رجعا إلى بلادهما. حتى إذا كانا ببعض الطريق بعث الله على (عامر بن الطفيل) الطاعون في عنقه. فقتله الله. فلما قدم (أربد) إلى قومه. قالوا: "ما وراءك يا أربد؟ ". فقال: "لقد دعانا (يعني النبي) إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله". ثم خرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه. فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. ويقال: هو الذي نزلت فيه الآية: (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) . وفيه أيضا يقول أخوه (لبيد) راثيا: أخشى على (أربد) الحتوف، ولا ... أرهب نوء السماك والأسد فجعني الرعد والصواعق ... بالفارس يوم الكريهة النجد ياعين، هلا بكيت (أربد) إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد إن يشغبوا لا يبال شغبهم، ... أو يقصدوا في الخصام يقتصد ومن جيد شعره البالغ النهاية في الحسن والرونق والحكمة وبليغ المعنى قوله: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى؟ أم ضلال وباطل حبائله مبثوثة في سبيله ... ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل إذا المرء أسرى ليلة خال أنه ... قضى عملا، والمرء ما عاش عامل فقولا له إن كان يقسم أمره: ... ألما يعظك الدهر؟ أمك هابل فتعلم أن لا أنت مدرك ما مضى، ... ولا أنت مما تحذر النفس وائل فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب ... لعلك تهديك القرون الأوائل فإن لم تجد من دون (عدنان) باقيا ... ودون (معد) فلتزعك العواذل أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى، كل ذي رأي إلى الله واسل ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية، تصفر منها الأنامل وكل امرئ يوما سيعلم سعيه، ... إذا كشفت عند الإله الحصائل وقد روي أن النبي صلى الله عليله وسلم قال: "أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطلا" وللبيد أخبار كثيرة وشعر أكثر من أن يحصى. فقد روي عن (عائشة) أم المؤمنين أنها قالت: رويت للبيد اثني عشر ألف بيت" معلقته وسبب نظمها الحق أن معلقة (لبيد) لم تحو ما حواه غيرها من الحكمة والمعاني الاجتماعية. إلا أنها حوت سبكا متينا، وتشابيه لطيفة، ووصفا رائعا، سوى أبيات يسيرة من الحكمة الجليلة. وقد افتخر فيها بمآثر قومه. ولم نظفر بالسبب الذي دعاه إل نظمها. نخبة من معلقته عفت الديار، محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها فمدافع الريان عري رسمها ... خلقا، كما ضمن الوحي سلامها دمن تجرم بعد عهد أنيسها ... حجح خلون، حلالها وحرامها وجلا السيول عن الطلول، كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها فوقفت أسألها، وكيف سؤالنا ... صما خوالد، يبين كلامها؟ عريت، وكان بها الجميع، فأبكروا ... منها، وغودر نؤيها وثمامها شاقتك ظعن الحي حين تحملوا، ... فتكنسوا قطنا، تصر خيامها بل ما تذكر من نوار، وقد نأت، ... وتقطعت أسبابها ورمامها؟ مرية، حلت بفيد، وجاورت ... أهل الحجاز، فأين منك مرامها؟ فاقطع لبانه من تعرض وصله، ... ولشر واصل خلة صرامها أفتلك؟ أم وحشية مسبوعة ... خذلت، وهادية الصوار قوامها خنساء، ضيعت الفرير، فلم يرم ... عرض الشقائق طوفها وبغامها لمعفر قهد، تنازع شلوه ... غبس، كواسب، لا يمن طعامها

عمرو بن كلثوم

صادفن منها غرة فأصبنها ... إن المنايا لا تطيش سهامها باتت، وأسبل واكف من ديمة، ... يروي الخمائل دائما تسجامها يعلو طريقة متنها متواتر، ... في ليلة كفر النجوم ظلامها فبتلك (إذ رقص اللوامع بالضحى ... واجتاب أردية السراب إكامها) أقضي اللبانة، لا أفرط ريبة، ... أو أن يلوم بحاجة لوامها أولم تكن تدري نوار بأنني ... وصال عقد حبائل، جذامها؟ تراك أمكنة إذا لم أرضها، ... أو يعتقي بعض النفوس حمامها بل أنت لا تدرين كم من ليلة ... طلق، لذيذ لهوها وندامها قد بت سامرها، وغاية تاجر ... وافيت، إذ رفعت وعز مدامها ولقد حميت الحي، تحمل شكتي ... فرط، وشاحي إذ غدوت لجامها فعلوت مرتقيا على ذي هبوة، ... حرج إلى أعلامهن قتامها حتى إذا ألقت يدا في كافر، ... وأجن عورات الثغور ظلامها أسهلت، وانتصبت كجذع منيفة، ... جرداء، يحصر دونها جرامها وكثيرة غرباؤها، مجهولة، ... ترجى نوافلها، ويخشى ذامها أنكرت باطلها، وبؤت بحقها ... عندي، ولم يفخر على كرامها إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة، جشامها من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها لا يطبعون، ولا يبور فعالهم: ... إذ لا يميل مع الهوى أحلامها فاقنع بما قسم المليك، فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه، ... فسما إليه كهلها وغلامها وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت ... وهم فوارسها وهم حكامها وهم ربيع للمجاور فيهم، ... والمرملات إذا تطاول عامها عمرو بن كلثوم توفي سنة (600) م (52) قبل الهجرة هو (عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن زهير التغلبي) من (تغلب بن وائل) ونتهي نسبة على (معد بن عدنان) . وأمه هي (ليلى) بنت (مهلهل) الذي هو أخو (كليب) المشهور. وقد ساد (عمرو بن كلثوم) قومه وهو ابن خمسة عشر عاما. ومات وله من العمر مئة وخمسون سنة (150) . وكان فارسا أبيا جريئا، حتى بلغ من أمره أن فتك بالطاغية (عمرو بن هند) في بلاط سلطانة. كما سيأتي تفصيل ذلك. وكان له أخ يقال له (مرة بن كلثوم) وهو الذي قتل المنذر بن النعمان. وأخاه. وإياهما عني (الأخطل) بقوله: أبني كليب، إن عمي اللذا ... قتلا الملوك، وفككا الأغلال وقال (الفرزدق) يرد على (جرير) في هجائه (الأخطل) : ماضر تغلب وائل؟ أهجوتها؟، ... أم بلت حيث تناطح البحران؟ قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا، وهم قسطوا على النعمان وكان له ابن يقال له (عباد) وهو قاتل (بشر بن عمرو بن عدس) وكان (عمرو بن كلثوم) شجاعا مظفرا مقداما فتاكا. وبه يضرب المثل في الفتك، فيقال: أفتك من (عمرو بن كلثوم) ، لفتكه بعمرو بن هند. وكان من حديث (عمرو بن كلثوم) أنه أغار على (بني تميم) . ثم مر من غزوه ذلك على حي من (بني قيس بن ثعلبة) ، فملأ يديه منهم، وأصاب أسارى وسبايا. وكان فيمن أصاب (أحمد بن جندل السعدي) . ثم انتهى إلى بني (حنيفة) باليمامة وفيهم أناس من (عجل) . فسمع به أهل (حجر) فكان أول من أتاه من بني حنيفة (بنو سحيم) عليهم (يزيد بن عمرو بن شمر) . فلما رآهم (عمرو بن كلثوم) ارتجز فقال: من عاذ مني بعدها فلا اجتبر، ... ولا سقى الماء ولا أرعى الشجر بنو لجيم وجعاسيس مضر ... بجانب الدو، يديهون العكر فانتهى إليه (يزيد بن عمرو) فطعنه فصرعه عن فرسه وأسره. وكان (يزيد) شديدا جسيما فشده في القد، وقال له: أنت الذي تقول؟: متى تعقد قرينتنا بحبل ... تجذ الحبل أو تقص القرينا أما إن سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعا. فنادى (عمرو بن كلثوم) : "يا لربيعة، أمثلة؟ ". فاجتمعت فنهوه (ولم يكن يريد ذلك به) فسار به حتى أتى قصرا في (حجر) من قصورهم. وضرب عليه قبة ونحر له وكساه وحمله على نجيبه وسقاه الخمر فلما أخذت الخمر برأسه تغنى فقال: أأجمع صحبتي السحر ارتحالا، ... ولم أشعر ببين منك هالا

وفاة عمرو بن كلثوم

ولم أر مثل هالة في معد ... أشبه حسنها إلا الهلالا ألا أبلغ بني جشم بن بكر ... وتغلب (كلما أتيا حلالا) بأن الماجد القرم بن عمرو ... غداة نطاع قد صدق القتالا كتيبته ململمة رداح، ... إذا يرمونها تفني النبالا جزى الله الأغر يزيد خيرا، ... ولقاه المسرة والجمالا قيل: إن أمه (ليلى) لما حملت به قالت: أتاني آت في المنام فقال: يا لك ليلى من ولد، ... يقدم إقدام الأسد من جشم، فيه العدد ... أقول قولا لا فند فولدت غلاما وسمته (عمرا) . فلما أتت عليه سنة قالت: "أتاني ذلك الآتي في الليل فأشار إلى الصبي" وقال: إني زعيم لك، أم عمرو، ... بماجد الجد كريم النجر أشجع من ذي لبدة هزبر، ... وقاص آداب، شديد الأسر يسودهم في خمسة وعشر فكان كما قال، ساد وهو ابن خمسة عشر عاما. قتله (عمرو بن هند) الملك: كانت (بنو تغلب بن وائل) قوم (عمرو بن كلثوم) من أشد الناس في الجاهلية. ولو أبطأ الإسلام قليلا لأكلت (بنو تغلب الناس) . وقد قال (عمرو بن هند) الملك ذات يوم لندمائه: "هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي". قالوا: "نعم، أم عمرو بن كلثوم" قال: "ولم؟ ". قالوا: "لأن أباها (مهلهل بن ربيعة) وعمها (كليب بن وائل) أعز العرب، وبعلها (كلثوم بن مالك) أفرس العرب، وابنها (عمرو) وهو سيد قومه". فأرسل (عمرو بن هند) إلى (عمرو بن كلثوم) يستزيره، ويسأله أن يزير أمه أمه. فأقبل (عمرو) من (الجزيرة) إلى (الحيرة) في جماعة من (بني تغلب) . وأقبلت (ليلى بنت المهلهل) في ظعن من (بني تغلب) . فأمر (عمرو بن هند) برواقه فضرب فيما بين (الحيرة) و (الفرات) وأرسل إلى جوه أهل مملكته فحضروا، فدخل (عمرو بن كلثوم) على (عمرو بن هند) في رواقه. ودخلت (ليلى أم عمرو بن كلثوم) و (هندام عمرو بن هند) في قبة من جانب الرواق. وقد كان (عمرو بن هند) قد أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم (ليلى) . فدعا (عمرو بن هند) بمائدة، ثم دعا بالطرف. فقالت (هند) "ناوليني يا ليلى ذاك الطبق". فقالت ليلى: "لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها". فأعادت إليها وألحت. فصاحت (ليلى) : "وا ذلاه، يا لتغلب". فسمعها ولدها (عمرو) فثار الدم في وجهه. ونظر إليه (عمرو بن هند) فعرف الشر في وجهه. فوثب (عمرو بن كلثوم) إلى سيف (عمرو بن هند) معلق بالرواق - ليس هنالك سيفا غيره - فضرب به رأس (عمرو بن هند) . ونادى في (تغلب) . فانتبهوا ما في الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة. ففي ذلك يقول "عمرو بن كلثوم" في معلقته: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا بأي مشيئة ... عمرو بن هند نكون لقيلكم فيها قطينا تهددنا وتوعدنا؟ رويدا، ... متى كنا لأمك مقتوينا؟ فإن قناتنا ... يا عمرو أعيت على الأعداء قبلك أن تلينا وفي ذلك يقول "أفنون بن صريم التغلبي" يفخر بفعل "عمرو بن كلثوم": لعمرك ما عمرو بن هند ... وقد دعا لتخدم أمي أمه بموفق فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا، ... فأمسك من ندمانه بالمخنق وجلله عمرو على الرأس ضربة ... بذي شطب، صافي الحديدة، رونق وفاة عمرو بن كلثوم عمرو بن كلثوم مذكور في طبقات المعمرين الذين بلغوا من الكبر عتيا. وقد ذكروا أنه لما حضرته الوفاة جمع بنيه، فقال: "يا بني، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي. ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقا فحقا، وإن كان باطلا فباطلا. ومن سب سب، فكفوا عن الشتم، فإنه أسلم لكم. وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم. وامنعوا من ضيم الغريب، فرب رجل خير من ألف، ورد خير من خلف. وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا، فإنه مع الإكثار يكون الإهذار. وأشجع القوم العطوف بعد الكر، كما أن أكرم المنايا القتل. ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب. ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكؤه خير من دره، وعقوقه خير من بره. ولا تتزوجوا في حيكم، فإنه يؤدي إلى قبيح البغض".

الكلام على شعره

وكانت وفاته سنة (600) لميلاد المسيح عليه السلام، وسنة (52) قبل الهجرة النبوية. وله من العمر خمسون سنة ومئة (150) . الكلام على شعره كان شاعرا فحلا مطبوعا، صافي الديباجة، كثير الطلاوة، حسن السبك، واضح المعاني. شديد الفخر، قوي الشكيمة في الحماسة. ولم أر بين شعراء المعلقات وغيرهم من شعراء الجاهلية من يدانيه في فخرياته إلا (الحارث بن حلزة اليشكري) صاحب المعلقة السابعة، وفي حماسياته إلا (عنترة بن شداد) صاحب المعلقة السادسة. فهو في شعره مهبط الحماسة، وموحى الفخر. مع لفظ جزل وأسلوب رائع. ومن شعره قوله يخاطب أحد أمراء (غسان) : ألا فاعلم ... أبيت اللعن أنا على عمد سنأتي ما نريد تعلم أن محملنا ثقيل، ... وأن زناد كبتنا شديد وأنا ليس حي من معد ... يوازينا إذا لبس الحديد وهجا (النعمان بن المنذر) هجاء كثيرا. منه قوله يعيره بأمه: حلت سليمى بخبت بعد فرناج ... وقد تكون قديما في بني تاج إذ لا ترجى سليمى أن يكون لها ... من بالخورنق من قين ونساج وأن يكون على أبوابها حرس، ... كما تلفف قبطي بديباج تمشي بعدلين من لؤم ومنقصة ... مشي المقيد في الينبوت والحاج وقال فيه: لحا لله أدنانا إلى اللؤم زلفة، ... وألأمنا خالا، وأعجزنا أبا أجدرنا أن ينفخ الكير خاله، ... يصوغ القروط والشنوف بيثربا ومن شعره قوله: معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالك، أو أن تضج من القتل قراع السيوف بالسيوف أحلنا ... بأرض براح ذي أراك وذي أثل فما أبقت الأيام ملمال عندنا ... سوى جذم أذواد محذفة النسل ثلاثة أثلاث: فأثمان خيلنا، ... وأقواتنا، وما نسوق إلى القتل معلقته وسبب نظمها معلقة (عمرو بن كلثوم) أشهر شعره وأشعره. وهي حماسية فخرية. قيل: أنها كانت ألف بيت ونيف. وما وصل إلينا هو جزء يسير منها. قال (معاوية بن أبي سفيان) : "قصيدة (عمرو بن كلثوم) وقصيدة (الحارث ابن حلزة) من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة". وقد قام (عمرو) بها خطيبا في (سوق عكاظ) ، وقام بها في موسم (مكة) . و (بنو تغلب) تعظمها جدا، ويرويها صغارهم وكبارهم. حتى هجوا بذلك. قال بعض شعراء (بكر بن وائل) : ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يروونها أبدا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسؤوم والخطب الذي دعا إلى نظمها ليس واحدا على ما يتراءى لمن يتتبع أبيات القصيدة. ويفهم ذلك من اختلاف الرواة في سبب نظمها. ففي (كتاب الأغاني) يصرح أنه قالها على أثر ما جرى لأمه عند (عمرو بن هند) كما ذكرنا ذلك في ترجمته. وفي كتاب (خزانة الأدب) للبغدادي نقلا عن (الخطب التبريزي) أنه أنشدها بحضرة الملك (عمرو بن هند) . فلعله نظمها في واقعتين: الأولى كانت على أثر الخلاف الذي كان بين قومه (التغلبيين) وبين بني أعمامهم (البكريين) ، وتقاضيهم إلى (عمرو بن هند) وكان قد أصلح بينهما بعد حرب (البسوس) الشهيرة. وشرط عليهما شروطا إذا اختصما. فلما جاؤوه للتقاضي كان (ابن كلثوم) سيد (تغلب) . (النعمان بن هرم) سيد (بكر) فجرى بينهما جدال بين يدي (عمرو بن هند) ملك (الحيرة) . وكان (ابن هند) يؤثر (بني تغلب) على (بني بكر) فغضب فضبا شديدا حتى هم بطرد (النعمان) . فأنشد إذ ذاك (عمرو بن كلثوم) قصيدته. (كما سيأتي تفصيل الحادثة بأوسع من هذا الكلام على ترجمة (الحارث بن حلزة) إن شاء الله تعالى) . والواقعة الثانية كانت على أثر احتقار (أم عمرو بن هند) لأم (عمرو بن كلثوم) كما فصلنا ذلك من قبل. ثم أتم قصيدته مفصلا فيها هذه الواقعة الثانية. نخبة من معلقته ألا هبي بصحنك، فاصبحينا ... (ولا تبقي خمور الأندرينا) مشعشعة، كأن الحص فيها، ... إذا ما الماء خالطها سخينا تجور بذي اللبانة عن هواه ... (إذا ما ذاقها) حتى يلينا ترى اللحز الشحيح إذا أمرت ... عليه لماله فيها مهينا وإنا سوف تدركنا المنايا ... مقدرة لنا، ومقدرينا قفي قبل التفرق ... يا ظعينا نخبرك اليقين، وتخبرينا

عنترة بن شداد

بيوم كريهة ضربا وطعنا ... أقر به مواليك العيونا قفي نسألك: هل أحدثت صرما ... لوشك البين، أو خنت الأمينا وإن غدا وإن اليوم رهن ... وبعد غد بما لا تعلمينا أبا هند، فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا بأنا نورد الرايات بيضا، ... ونصدرهن حمرا قد روينا وأيام لنا غر طوال، ... عصينا الملك فيها أن ندينا وسيد معشر قد توجوه ... بتاج الملك، يحمي المجحرينا تركنا الخيل عاكفة عليه، ... مقلدة أعنتها صفونا متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا نزلتم منزل الأضياف منا، ... فأعجلنا القرى أن تشتمونا: قريناكم ... فعجلنا عراكم قبيل الصبح مرداة طحونا نطاعن ما تراخى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا نشق بها رؤوس القوم شقا، ... ونخليها الرقاب فتختلينا كأن جماجم الأبطال فيها ... وسوق، بالأماعز يرتمينا وإن الضغن بعد الضغن يبدو ... عليك، ويخرج الداء الدفينا ورثنا المجد ... قد علمت معد نطاعن دونه، حتى يبينا نجذ رؤوسهم في غير بر، ... فما يدرون ماذا يتقونا كأن سيوفنا ... فينا وفيهم مخاريق بأيدي لاعبينا كأن ثيابنا ... منا ومنهم خضبن بأرجوان، أو طلينا إذا ما عي بالإسناف حي ... (من الهول المشبه أن يكونا) نصبنا مثل رهوة ذات حد، ... محافظة، وكنا السابقينا بشبان يرون القتل مجدا، ... وشيب في الحروب مجربينا ألا لا يعلم الأقوام أنا ... تضعضعنا، وأنا قد ونينا ألا لا يجهلن أحد علينا، ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا بأي مشيئة ... عمرو به هند نكون لقيلكم فيها قطينا بأي مشيئة ... عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة، وتزدرينا تهددنا وتوعدنا؟ رويدا، ... متى كنا لأمك مقتوينا؟ فإن قناتنا ... يا عمرو أعيت على الأعداء قبلك أن تلينا متى نعقد قرينتنا بحبل ... تجذ الحبل أو تقص القرينا ونوجد نحن أمنعهم ذمارا، ... وأوفاهم إذا عقدوا يمينا ونحن غداة أوقد في خزارى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا وكنا الأيمنين إذ التقينا، ... وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولة فيمن يليهم، ... وصلنا صولة فيمن يلينا فآبوا بالنهاب وبالسبايا، ... وأبنا بالملوك مصفدينا إليكم ... يا بني بكر إليكم ألما تعرفوا من اليقينا؟ ألما تعرفوا ... منا ومنكم كتائب يطعن، ويرتمينا علينا البيض، واليلب اليماني، ... وأسياف يقمن، وينحنينا علينا كل سابغة دلاص، ... ترى فوق النطاق لها غضوبا على آثارنا بيض حسان، ... (نحاذر أن تقسم، أو تهونا) يقتن جيادنا. ويقلن: لستم ... بعولتنا، إذا لم تمنعونا إذا لم نحمهن فلا بقينا ... لشيء بعدهن، ولا حيينا كأنا ... والسيوف مسللات ولدنا الناس طرا، أجمعينا وقد علم القبائل من معد ... (إذا قبب بأبطحها بنينا) بأنا المطعمون بكل كحل، ... وأنا المهلكون إذا ابتلينا وأنا المانعون لما أردنا، ... وأنا النازلون بحيث شينا وأنا التاركون إذا سخطنا، ... وأنا الآخذون إذا رضينا وأنا العاصمون إذا أطعنا، ... وأنا العارمون إذا عصينا ونشرب إن وردنا الماء صفوا، ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الذل فينا ملأنا البر، حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ... تخر له الجبابر ساجدينا عنترة بن شداد توفي سنة (600) أو (615) وسنة (22) قبل الهجرة هو (عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي) من أهل نجد وينتهي نسبه إلى مضر، قال الكلبي:

أخلاقه وشجاعته

"شداد جده غلب على اسم أبيه، وإنما هو عنترة بن عمرو بن شداد". وقال غيره "شداد عمه تكفاه بعد موت أبيه ونشأ في حجره فنسب إليه". ويلقب (عنترة) بالفلحاء، فيقال (عنترة الفلحاء) . وكنت أمه أمة حبشية يقال لها (زبيبة) وكان لها أولاد عبيد عن غير شداد، وكانوا أخوة عنترة لأمه. وكان أبوه قد نفاه (وكان العرب في الجاهلية إذا كان لأحدهم ولد من أمة استعبده) ثم ادعاه بعد الكبر واعترف به وألحقه بنسبه. وكانت العرب تفعل ذلك: تستعبد بني الإماء، فإن أنجبوا اعترفوا بهم، وإلا بقوا عبيدا. وكان سبب ادعاء أبيه إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على (بني عبس) فأصابوا منهم واستاقوا إبلا فتبعهم (العبسيون) فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم، و (عنترة) يرمئذ فيهم، فقال له أبوه: "كر يا عنترة" فقال عنترة: "العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر" فقال: "كر وأنت حر. فكر، وقاتل يومئذ قتالا حسنا فادعاه أبوه بعد ذلك وألحقه بنسبه. وقيل: إن السبب في هذا أن عبسا أغاروا على طيء فأصابوا نعما، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا، لأنك عبد. فلما طال بينهم الخطب كرت عليهم طيء فاعتزلهم عنترة، وقال: "دونكم القوم، فإنكم عددهم". واستنقذت طيء الإبل، فقال له أبوه: "كر يا عنترة" فقال: "أو يحسن العبد الكر؟ " فقال له أبوه: "العبد غيرك" فاعترف به، فكر واستنقذ النعم. وكان عنترة أحد أغربة العرب في الجاهلية، وهم ثلاثة: (عنترة وخفاف ابن ندبة السلمي (وندبة أمه) والسليك بن سلكة) . أخلاقه وشجاعته هو من الشعراء الفرسان. وكان شاعر بني عبس وفارسهم المشهور. وكان جريئا شديد البطش. وكان مع شدة بطشه لين الطباع، حليما، سهل الأخلاق، لطيف الحاضرة. وكان من أشد أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يداه. وكان سمحا، أبي النفس، لا يقر على ضيم ولا يغمض على قذى. ولما أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل قال عليه الصلاة والسلام: "ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة"-. قال (الهيثم بن عدي) : قيل لعنترة: أنت أشجع العرب وأشدها. قال: لا. قيل: فبماذا شاع لك هذا في الناس؟. قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما. ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا. وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله". وحدث (عمر بن شبة) قال: قال عمر بن الخطاب للحطيئة: "كيف كنتم في حربكم. قال: كنا ألف فارس حازم. قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: كان (قيس بن زهير) فينا وكان حازما فكنا لا نعصيه، وكان فارسنا (عنترة) فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم، وكان فينا (الربيع بن زياد) وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه، وكان فينا (عروة بن الورد) فكنا نأتم بشعره. فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت". وقد بلغ من الشجاعته أن قومه (بني عبس) غزوا (بني تميم) وعليهم (قيس بن زهير) ، فانهزمت بنو عبس، وطلبتهم بنو تميم، فوقف لهم عنترة، ولحقتهم كوكبة من الخيل، فحامى عنترة عن الناس، فلم يصب مدبر. وكان (قيس بن زهير) سيدهم، فساءه ما صنع (عنترة) يومئذ فقال حين رجع: "ما حمى الناس إلا ابن السوداء" وكان (قيس) أكولا فبلغ (عنترة) ما قال قيس بن زهير، فقال يعرض به: بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها: إن المنية منهل، ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك ... لا أبالك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي، إذا نزلوا بضنك المنزل إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري، وأحمي سائري بالمنصل وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيرا من معم مخول والخيل تعلم والفوارس أنني ... فرقت جمعهم بضربة فيصلي إذ لا أبادر في المضيق فوارسي، ... ولا أوكل بالرعيل الأول إن يلحعوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضيق أنزل والخيل ساهمة الوجوه، كأنما ... تسقى فوارسها نقيع الحنظل ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل

موت عنترة

وكان قد حضر (حرب داحس والغبراء) وحسن فيها بلاؤه وحمدت مشاهده. وحدثت حروب بين (جديلة) و (ثعل) وكان عنترة مع (جديلة) فنصرهم فانتصروا. فشكاه (الثعلبيون) إلى (غطفان) . ووقائعه كثيرة يشتبه فيها الصحيح بالموضوع. وكان (عمرو بن معد يكرب) معاصرا لعنترة، وقد روي عنه أنه قال: "لو سرت بظعينه وحدي على مياه (معد) كلها ما خفت أن أغلب عليها، ما لم يلقني حراها أو عبداها. فأما الحران (فعامر بن الطفيل) و (عتيبة بن الحارث بن شهاب) ، وأما العبدان فأسود بني عبس (يعني عنترة) و (السليك بن سلكة) ، وكلهم قد لقيت، فأما (عامر بن الطفيل) فسريع الطعن على الصوت، وأما (عتيبة) فأول الخيل إذا أغارت وآخرها إذا آبت، وأما (عنترة) فقليل الكبوة شديد الجلب، وأما (السليك) فبعيد الغارة كالليث الضاري. موت عنترة ذكروا لموته أسبابا: فقال (ابن حبيب) و (ابن الكلبي) : "أغار (عنترة) على (بني نبهان) من طيء، فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز وهو يطردها. وكان (وزر ابن جابر النبهاني) في فتوة فرماه وقال خذها وأنا ابن سلمى، فقطع مطاه. فتحامل بالرمية حتى أتى أهله، فقال وهو مجروح: وإن ابن سلمى عنده ... فاعلموا دمي وهيهات لا يرجى ابن سلمى ولا دمي إذا ما تمشى بين أجيال طيء ... مكان الثريا، ليس بالمتهضم رماني ... ولم يدهش بأزرق لهذم، عشية حلوا بين نعف ومخرم قال ابن الكلبي: وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص. وذكر (أبو عمرو الشيباني) أنه غزا (طيئا) مع قومه، فانهزمت (عبس) فخر (عنترة) عن فرسه، ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلا. وأبصره ربيئة طيء، فنزل إليه، وهاب أن يأخذه أسيرا، فرماه وقتله. وذكر أبو عبيدة أنه كان قد أسن واحتاج وعجز بكبر سنه عن الغارات. وكان له على رجل من (غطفان) دين. فخرج يتقاضاه إياه. فهاجت عليه ريح من صيف، وهو بين (شرج) و (ناظرة) فأصابته وقتلته. والله أعلم. قصته لم يشتهر أحد من الجاهلية وكثير من أهل الإسلام بين العامة والخاصة اشتهار عنترة، فلا تكاد ترى رجلا أو امرأة أو صبيا أو صبية، عالما أو جاهلا، فقيرا أو غنيا، إلا وهو يعرف اسمه أو يسمع شيئا عنه. وسبب اشتهاره قصته المشهورة التي لم يعب أحد سماعها. والقصة عبارة عن رواية تاريخية وضعت بعد صدر الإسلام، ولم يعرف واضعها، غير أنهم ينسبونه إلى (الأصمعي) - في أوائل القرن الثالث للهجرة - لنه قد ورد اسمه فيها رواية عنه. وأكثر ما ورد عنه إنما هو من قبيل الروايات الخيالية وكثيرا ما تنسب وقائع جرت لغيره له. لذلك قد التبس الصحيح منها بالموضوع. غير أن بعضها صحيح لأنه يقويه ما ورد في كتب التاريخ والأدب. والقصة لم تؤلف دفعة واحدة على ما يظهر، وإنما وضعت شيئا فشيئا حتى بلغت ما هي عليه الآن. وقد جمعت بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري في زمن الخليفة الفاطمي (العزيز بالله) . وقد رووا في سبب جمعها وتدوينها أن رجلا يقال له (الشيخ يوسف بن إسماعيل) كان له اتصال بباب (العزيز بالله) . فاتفق أن حدثت ريبة في دار العزيز فلهج بها الناس، فساء العزيز ذلك، فأشار على (الشيخ يوسف) هذا أن يضع للناس ما يلهيهم عما حدث، وكان (الشيخ يوسف) كثير الرواية لأخبار العرب واسع التحديث بها كثير النوادر، وهو يروي روايات كثيرة عن (أبي عبيدة) و (نجد بن هشام) و (جهينة الأخبار) و (الأصمعي) وغيرهم من الرواة المشهورين. فجمع شتات هذه القصة وزاد فيها كثيرا من أخبار العرب ووقائعهم، وأسند روايتها إلى الأصمعي، ووزعها على الناس فأعجبوا بها حتى شغلتهم عن ذلك. وقد قسمها إلى اثنين وسبعين كتابا، وكان يقطع الكلام حيث يشوق القارئ إلى ما بعده، فيضطر إلى البحث عن الكتاب التالي. فإذا وقف عليه انتهى به إلى مثل ما انتهى في الأول، وهكذا حتى يحدوه الشوق إلى إتمام القصة. الكلام على شعره

كانت (عنترة) شاعرا مجيدا فصيح الألفاظ، بين المعاني نبيلها. كان كأنما الحماسة أنزلت عليه آياتها. وكان رقيق الشعر، لا يؤخذ مأخذ الجاهلية في ضخامة الألفاظ وخشونة المعاني. وكان يهوى ابنة عمه (عبلة بنت مالك بن قراد) ، فهاجت شاعريته لذلك، وكان كثيرا ما يذكرها في شعره، وكان أبوها يمنعه من زواجه بها، فهام بها حتى اشتد وجده، وقيل: إنه قد تزوجها بعد جهد وعناء. ومن رقيق شعره فيها: يا عبل لا أخشى الحمام وإنما ... أخشى على عينيك وقت بكاك وله شعر سار مسير الركبان. ومن جيد شعره قوله: بكرت تخوفني كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل إلى آخر القصيدة التي ذكرناها قبل هذا الفصل. وقوله يفتخر بأخواله السودان: إني لتعرف في الحروب مواقفي، ... من آل عبس منصبي وفعالي منهم أبي شداد أكرم والد ... والأم من حام، فهم أخوالي وأنا المنية في المواطن كلها، ... والطعن مني سابق الآجال ومن تشابيهه قوله يصف النجوم: أراعي نجوم الليل، وهي كأنها ... قوارير، فيها زئبق يترجرج وقوله يصف روضة: وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا، كفعل الشارب المترنم هزجا يحك ذراعه بذراعه، ... قدح المكب على الزناد الأجذم ومما ينسب إليه وليس له: أحبك يا ظلوم، فأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان ولو أنني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان وكان (عنترة) قبل أن يدعيه أبوه شكته امرأة أبيه. قالت: "إنه يراودني عن نفسي". فغضب أبوه من ذلك غضبا شديدا، وضربه ضربا مبرحا، وضربه بالسيف. فوقعت عليه امرأة أبيه، وكفته عنه. فلما رأت ما به من الجراح بكت. وكان اسمها (سمية) فقال (عنترة) : أمن (سمية) دمع العين مذروف؟، ... لو أن فيك قبل اليوم معروف كأنها ... يوم صدرت ما تكلمني ظبي بعسفان، ساجي العين، مطروف تجللتني ... إذ أهوى العصا قلبي كأنها صنم يعتاد، معكوف ألعبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف؟ تنسى بلائي إذا ما غارة لحقت، ... تخرج منها الطوالات السراعيف يخرجن منها ... وقد بلت رحائلها بالماء يقدمها الشم الغطاريف من جيد ما ينسب إليه قوله: سيذكرني قومي إذا الخيل أقبلت ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر يعيبون لوني بالسواد جهالة ... ولولا سواد الليل ما طلع الفجر وإن كان لوني أسودا ففعائلي ... بياض، ومن كفي يستنزل القطر وقوله: لقد وجدنا زبيدا غير صابرة ... يوم التقينا، وخيل الموت تستبق إذ أدبروا، فعملنا في ظهورهم ... ما تعمل النار في الحلفى فتحترق خلقت للحرب أحميها إذا بردت، ... وأصطلي بلظاها حيث أخترق وألتقي الطعن تحت النقع مبتسما ... والخيل عابسة قد بلها العرق لو سابقتني المنايا وهي طالبة ... قبض النفوس أتاني قبلها السبق أنا الهزبر إذا خيل العدى طلعت ... يوم الوغى، ودماء الشوس تندفق ما عبست حومه الهيجاء وجه فتى، ... إلا ووجهي إليها باسم طلق وقوله: قف بالمنازل إن شجتك ربوعها، ... فلعل عينك تستهل دموعها واسأل عن الأظعان: أين سرت بها ... آباؤها؟. ومتى يكون رجوعها دار لعبلة شط عنك مزارها، ... ونأت، ففارق مقلتيك هجوعها فسقتك يا أرض الشربة مزنة ... منهلة، يروي ثراك هموعها وكسا الربيع رباك من أزهاره ... حللا، إذا ما الأرض فاح ربيعها يا عبل لا تخشي علي من العدى ... يوما، إذا اجتمعت علي جموعها: إن المنية يا عبيلة دوحة، ... وأنا ورمحي أصلها وفروعها وقوله سلوا صرف هذا الدهر كم شن غارة، ... ففرجتها والموت فيها مشمر بصارم عزم لو ضربت بحده ... دجى الليل ولى وهو بالنجم يعثر وقوله (وكان قد أخذ أسيرا في حرب بين العرب والعجم، وكانت عبلة في جملة السبايا) : لهفي عليك إذا بقيت سبية، ... تدعين عنتر وهو عنك بعيد

معلقته وسبب نظمها

ولقد لقيت الفرس يا ابنة مالك، ... وجيوشها قد ضاق عنها البيد وتموج موج البحر، إلا أنها ... لاقت أسودا فوقهن حديد جاروا، فحكمنا الصوارم بيننا، ... فقضت، وأطراف الرماح شهود يا عبل كم جحفل فرقته، ... والجو أسود، والجبال تميد فسطا علي الدهر سطوة غادر ... والدهر يبخل تارة، ويجود وقوله يخاطب امرأة من بجيلة كانت تلومه في فرس كان مولعا به (وهذا الشعر من الثابت له) : لا تذكري فرسي وما أطعمته، ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب إن الرجال لهم إليك وسيلة: ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي وأنا امرؤ، إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى قد الركاب وأجنب ويكون مركبك القعود ورحله ... وابن النعامة عند ذلك مركبي وقوله يتوعد (النعمان بن المنذر) ملك العرب ويفتخر بقومه: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب، ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب قد كنت فيما مضى أرعى جمالهم، ... واليوم أحمي حماهم كلما نكبوا لله در بني عبس: لقد نسلوا ... من الأكارم ما قد تنسل العرب لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب ... يوم النزال، إذا ما فاتني النسب إن كنت تعلم يا نعمان أن يدي ... قصيرة عنك، فالأيام تنقلب إن الأفاعي ... وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب والخيل تشهد لي أني أكفكفها، ... والطعن مثل شرار النار يلتهب إذا التقيت الأعادي يوم معركة، ... تركت جمعهم المغرور ينتهب لي النفوس، وللطير اللحوم ... وللوحش العظام، وللخيالة السلب وهذا الشعر لو ثبت له لكان له الفخر أبد الدهر. معلقته وسبب نظمها معلقته هي الشعر الثابت له بلا اختلاف. أما غيرها فمنها ما هو ثابت له، ومنها ما هو مختلف فيه، ومنها ما ليس له قطعا. كأكثر ما في ديوانه المشهور. وسبب نظمها ما حكوا من أنه جلس يوما في مجلس (بعد ما كان قد أبلى وحسنت وقائعه واعترف به أبوه وأعتقه) فسابه رجل من (بني عبس) وعاب عليه سوادت أمه وإخوته وأنه لا يقول الشعر. فسبه (عنترة) وفخر عليه وقال له: "والله إن الناس ليترافدون للطعمة، فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك مرافد الناس قط وإن الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم، فما رأيتك في خيل مغيرة في أوائل الناس قط. وإن اللبس ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك خطة فصل. وإنما أنت فقع بقرقر. وأني لأحتضر البأس، وأوافي المغنم، وأعف عند المسألة، وأجود بما ملكت يدي، وأفصل الخطة الصماء. وأما الشعر فستعلم". فكان أول ما قال معلقته. وكان قبل ذلك ينظم البيت والبيتين. وقد استهل معلقته بالغرام وشكوى البعد وغير ذلك من أنواع النسيب. ثم تخلص إلى الفخر والحماسة وذكر وقائعه ومشاهده. نخبة من معلقته هل غادر الشعراء من متردم؟، ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟ يا دار عبلة بالجواء، تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي فوقفت فيها ناقتي ... وكأنها فدن لأقضي حاجة المتلوم حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم ولقد نزلت ... فلا تظني غيره مني بمزلة المحب المكرم إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستسلم أثني علي بما علمت، فإنني ... سمح مخالطتي، إذا لم أظلم فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل، ... مر مذاقته، كطعم العلقم ولقد شربت من المدامة (بعدما ... ركد الهواجر، بالمشوف المعلم) بزجاجة صفراء ذات أسرة، ... قرنت بأزهر في الشمال مفدم فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر، لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى، ... وكما علمت شمائلي وتكرمي وحليل غانية تركت مجدلا، ... تمكو فريضته كشدق الأعلم سبقت يداي له بعاجل طعنة، ... ورشاش نافذة كلون العندم هلا سألت الخيل يا ابنة مالك، ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي (إذ لا أزال على رحالة سابح ... نهد، تعاوره الكمأة مكلم

الحارث بن حلزة اليشكري

يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى، وأعف عند المغنم ومدجج (كره الكمأة نزاله ... لا ممعن هربا ولا مستسلم جادت له كفي بعاجل طعنة ... بمثقف، صدق الكعوب، مقوم فشككت بالرمح الأصم ثيابه، ... (ليس الكريم على القنا بمحرم) فتركته جزر السباع ينشنه، ... يقضمن حسن بنانه والمعصم نبئت عمرا غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى، ... إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم في حومة الحرب التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال، غير تغمغم إذ يتقون بي الأسنة، لم أخم ... عنها، ولكني تضايق مقدمي لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون، كررت غير مذمم يدعون عنتر، والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه، حتى تسربل بالدم فازور من وقع القنا بلبانه، ... وشكا إلأى بعبرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة اشتكى، ... ولكان لو علم الكلام مكلمي ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قبل الفوارس: ويك عنتر أقدم والخيل تقتحم الخبار عوابسا، ... من بين شيظمة وأجرد شيظم ذلل ركاب، حيث شئت مشايعي ... لبي، وأحفزه بأمر مبرم إني عداني أن أزورك ... فاعلمي ما قد علمت، وبعض ما لم تعلمي حالت رماح ابني بغيض دونكم، ... وزوت جواني الحرب من لم يجرم ولقد خشيت بأن أموت، ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم الشاتمي عرضي، ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لقيتهما دمي إن يفعلا، فلقد تركت أباهما ... جزر السباع، وكل نسر قشعم الحارث بن حلزة اليشكري توفي سنة (520) وقيل سنة (650) وقيل سنة (580) م وسنة (52) قبل الهجرة هو (أبر عبيدة الحارث بن حلزة بن مكروه) من أهل العراق. وينتهي نسبه (يشكر بن بكر بن وائل) وينتهي نسب (وائل) إلى (نزار بن معد بن عدنان) . وقد شهد (الحارث بن حلزة حرب "البسوس") . معلقته وشيء من أخباره وشعره كان (الحارث بن حلزة) خبيرا بقرض الشعر ومذاهب الكلام، ومعلقته قد جمعت طائفة من أيام العرب وأخبارها، ووعت ضروبا من المفاخر يقام لها ويقعد. وقد ارتجلها بين يدي (عمرو بن هند) الملك وهو غضبان متوكئ على عنزة أو على قوسه. وقيل "بل كان قد أعدها قبل ذلك". وليس ببعيد عن الصواب. لما سترى من اختلاف الرواية في ذلك. وسبب هذه المعلقة أن (عمرو بن هند) كان قد جمع (بني تغلب) و (بني بكر) ابني (وائل) عنده وأصلح بينهما بعد حرب (البسوس) . وأخذ من كل حي منهما مئة غلام رهنا، ليكف بعضهم عن بعض. فكان أولئك الرهن يسيرون ويغزون معه. فأصابتهم في بعض مسيرهم ريح سموم. فهلك عامة التغلبيين. وسلم البكريون. فقالت (بنو تغلب) لبني (بكر بن وائل) : "أعطونا ديات أبنائنا، فإن ذلك لازم لكم". فأبت (بكر) . فاجتمعت (تغلب) إلى (عمرو بن كلثوم) - صاحب المعلقة الخامسة - فقال (عمرو) لتغلب: "بمن ترون (بكرا) تعصب أمرها اليوم؟ " قالوا: "بمن عسى إلا برجل من بني ثعلبة". قال (عمرو) : "وأرى الأمر والله سنجلي عن أحمر أصلع أصم من بني يشكر". ثم إن (بكرا) جاءت ومعها (النعمان بن هرم) أحد (بني ثعلبة بن غنم بن يشكر) وهو خطيبها، و (الحارث بن حلزة) وهو شاعرها. وجاءت (بنو تغلب) بفارسها وشاعرها (عمرو بن كلثوم) . فلما اجتمعوا عند الملك (عمرو بن هند) قال (عمرو بن كلثوم) للنعمان بن هرم: "يا أصم، جاءت بك أولاد (ثعلبة) تناضل عنهم، وقد يفخرون عليك". فقال (النعمان بن هرم) : "وعلى من أظلت السماء يفخرون ولا ينكر عليهم ذلك". قال (عمرو بن كلثوم) : "والله لو أني لطمتك لطمة ماخذوا لك بها". قال: "والله ولو فعلت ما أفلت بها قيس بن أبيك". فغضب (عمرو بن هند) الملك (وكان يؤثر بن تغلب على بني بكر) فقال: "يا نعمان، أيسرك أني أبوك؟ " قال: لا. ولكني وددت أن تكون أمي". فغضب (عمرو بن هند) حتى هم بالنعمان.

ثم تحاكموا. فقال (عمرو بن هند) الملك: ما كنت لأحكم بينكم حتى تأتوني بسبعين رجلا من أشراف (بكر بن وائل) ، فأجعلهم في وثاق عندي. فإن كان الحق لبني (تغلب) دفعتهم إليهم. وإن لم يكن لهم حق خليت سبيلهم" ففعلوا ذلك وتواعدوا يوما بعينه يجتمعون فيه. وفي أثناء الهدنة جاء أناس من (بني تغلب) إلى (بني بكر) يستسقونهم. فطردتهم (بكر) للحقد الذي كان بينهم. فرجعوا. فمات منهم سبعون رجلا عطشا. ثم إن (بني تغلب) اجتمعوا لحرب (بني بكر) واستعدت لهم (بكر) . حتى إذا التقوا كرهوا الحرب وخافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت. فدعا بعضهم بعضا إلى الصلح. فلما كان اليوم الذي ضربوه موعد للاجتماع عند (عمرو بن هند) جاءت (تغلب) في ذلك اليوم يقودها (عمرو بن كلثوم) حتى جلس إلى الملك. وقال (الحارث بن حلزة لقومه "وهو رئيس بكر بن وائل") : "إني قد قلت قصيدة فمن قام بها ظفر بحجته وفلح على خصمه" فرواها أناسا منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضه إنشادهم. فحين علم (الحارث) أنه لا يقوم بها أحد مقامه قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور وينضح أثري بالماء إذا انصرفت. غير أني لا أرى أحدا يقوم بها مقامي، وإني محتمل ذلك لكم". (وكان بالحارث وضح. وكانوا يفعلون ذلك بمن به برص. وقيل: "بل كان (عمرو بن هند) يفعل ذلك لعظم سلطانة وكبريائه، ولا ينظر إلى به سوء) ". فانطلق (الحارث) حتى أتى الملك. فقيل للملك: "إن به وضحا". فأمر أن دونهما سبع ستور. فجعلت. فلما نظر (عمرو بن كلثوم) إلى (الحارث) قال للملك (عمرو بن هند) : "أهذا يناطقني؟ وهو لا يطيق صدر راحلته". فأجابه الملك حتى أفحمه. وأنشد (الحارث) معلقته. وهو من وراء سبعة ستور. وكانت (هند) أم الملك تسمع. فلما سمعتها قالت: "تالله ما رأيت كاليوم قط رجلا يقول مثل هذا القول، يكلم من وراء سبعة ستور". فقال الملك: ارفعوا سترا. ودنا. فما زالت تقول ويرفع ستر وستر حتى صار مع الملك على مجلسه. ثم أطعمه في جفنته. وأمر أن لا ينضح أثره بالماء. وجز نواصي السبعين الذين كانوا في يديه من (بكر) ودفعها إلى (الحارث) . وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئا. فلم تزل تلك النواصي في (بني يشكر) بعد (الحارث) يفتخرون بها. ثم إن (عمرو بن هند) حكم أنه لا يلزم (بني بكر) ما حدث على رهائن (بني تغلب) . فتفرقوا على هذه الحال. ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتى هم باستخدام (أم عمرو بن كلثوم) تعرضا لهم وإذلالا، فكان من ذلك أن قتله (عمرو بن كلثوم) . كما تقدم في خبره. وقد ضرب (بالحارث) المثل بالفخر فقيل: "أفخر من الحارث بن حلزة". والمشهور من الروايات أن (الحارث) قال معلقته ارتجالا وهو متوكئ على قوسه. وقد زعموا أنه اقتطم كفه من الغضب وهولا يشعر حين إنشادها. وقال (ابن السيد) في (أدب الكاتب) : "كان متوكئا على عنزة فارتزت في جسده وهو لا يشعر". قال (يعقوب بن السكيت) : كان (أبو عمر الشيباني) يعجب لارتجال (الحارث) هذه القصيدة في موقف واحد. ويقول: لو قالها في حول لم يلم" قال: "وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضا (بني تغلب) تصريحا، وعرض ببعضها (لعمرو بن هند) . غير أن الرواية التي رويناها هناك تدل على أنه لم يرتجلها، وإنما كان قد أعدها قبل إنشادها. والله أعلم بالصواب. أما شعره فهو قليل جدا لأنه كان من المقلين. وإنما اشتهر بمعلقته هذه التي رفعت من قدره، وجعلته في صف شعراء الجاهلية المجيدين. ومن شعره قوله يمدح رجلا يقال له (قيس بن شراحيل) وكان هذا في جملة من سعى بالصلح: فهلا سعيت لصلح الصديق ... كصلح ابن مارية الأقصم وقيس تدارك بكر العراق ... وتغلب من شرها الأعظم وبيت شراحيل في وائل ... مكان الثريا من الأنجم فأصلح ما أفسدوا بينهم ... كذلك فعل الفتى الأكرم قال (يعقوب بن السكيت) أنشدني (النضر بن شميل) للحارث بن حلزة، وكان يستحسنها ويستجيدها. وذلك قوله: من حاكم بيني وبين ... الدهر مال علي عمدا أودى بسادتنا، وقد ... تركوا لنا حلقا وجردا خيلي وفارسها ... ورب أبيك كان أعز فقدا فلو أن ما يأوي إلى ... أصاب من ثهلان فندا

نخبة من معلقته

أو رأس رهوة أو رؤوس ... شمارخ، لهددن هدا فضعي قناعك، إن ريب ... الدهر قد أفنى معدا فلكم رأيت معاشرا ... قد جمعوا مالا وولد وهم رباب حائر، ... لا يسمع الآذان رعدا فعش بجد لا يضرك ... النوك ما لاقيت جدا والنوك خير في ظلال ... العيش ممن عاش كدا والبيت الأخير فيه إيجاز مخل لأن ألفاظه لا تفي بمراد الشاعر. إذ يريد أن يقول: "إن العيش الرغد مع الحمق خير من العيش الشاق مع العقل". نخبة من معلقته تنبيه - الرواة مختلفون في ترتيب أبيات هذه القصيدة. وقد رتبنا ما اخترناه منها ترتيبا متسقا، فجعلنا الأبيات منظمة الحوادث. لتكون المعاني آخذا بعضها برقاب بعض. آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء لا أرى من عهدت فيها، فأبكي ... اليوم دلها وما يحير البكاء؟ وبعينيك أوقدت هند النار ... أخيرا، تلوي بها العلياء فتنورت نارها من بعيد ... بحزازى، هيهات منك الصلاء أوقدتها ... بين العقيق فشخصين بعود، كما يلوح الضياء وأتانا من الحوادث والأنباء ... خطب، نعنى به، ونساء إن إخواننا الأراقم يغلون ... علينا، في قيلهم إحفاء يخلطون البرئ منا بذي الذنب ... (ولا ينفع الخلي الخلاء) أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء أيها الناطق المرقش عنا ... عند عمرو (وهل لذاك بقاء) لا تخلنا على غراتك إنا ... قبل ما قد وشى بنا الأعداء فبقينا ... على الشناءة تنمينا جدود، وعزة قعساء ملك مقسط، وأفضل من يمشي، ... ومن دون ما لديه الثناء ملك أضرع البرية، لا ... يوجد فيها لما لديه كفاء أيما خطة أردتم فأدوها ... إلينا، تمشي بها الأملاء لا يقيم العزيز بالبلد السهل ... ولا ينفع الذليل النجاء ليس ينجي موائلا من حذار ... راس طود، وحرة رجلاء أيها الناطق المبلغ عنا ... عند عمرو (وهل لذاك انتهاء) من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث، في كلهن القضاء آية شارق الشقيقة إذ جاءوا ... جميعا، لكل حي لواء حول قيس، مستلمئين بكبش ... قرظي، كأنه عبلاء فرددناهم بطعن، كما يخرج ... من خربة المزاد الماء ثم حجرا، أعني ابن أم قطام ... وله فارسية خضراء أسد في اللقاء، ورد هموس ... وربيع إن شمرت غبراء قد جبهناهم بطعن، كما تنهز ... في جمة الطوي الدلاء وفعلنا بهم، كما علم الله ... وما إن للمائنين دماء وأتيناكم بتسعة أملاك ... كرام أسلابهم أغلاء وفككنا غل امرئ القيس عنه، ... بعد ما طال حبسه والعناء وأقدناه رب غسان بالمنذر ... كرها، إذ لا تكال الدماء فاتركوا الطيخ والتعاشي وإما ... تتعاشوا ففي التعاشي الداء أعلينا جناح كندة: أن يغنم ... غازيهم، ومن الجزاء؟ أم علينا جرى إياد؟ كما قيل ... لطسم: أخوكم الأباء أم علينا جرى حنيفة؟، أو ما ... جمعت من محارب غبراء أم علينا جرى قضاعة؟ أم ليس ... علينا فيما جنوا أنداء؟ ثم خيل من بعد ذاك مع الغلاق ... لا رأفة ولا إبقاء ما أصابوا من تغلبي فمطلول ... عليه إذا أصيب العفاء كتكاليف قومنا إذ غزا المنذر: ... هل نحن لابن هند رعاء إذ تمنونهم غرورا، فساقتهم ... إليكم أمنية أشراء لم يغروكم غرورا، ولكن ... رفع الآل شخصهم والضحاء الأعشى ميمون توفي سنة (629) م. وسنة (7) هـ- هو (الأعشى بن قيس بن جندل بن شراحيل) وينتهي نسب شراحيل إلى (بكر بن وائل) وينتهي نسب وائل إلى (معد بن عدنان) . وكان يكنى (أبا بصير) . وكانوا يسمونه (صناجة العرب) لجودة شعره، أو لأنه كان يتغنى به. ويقال لأبيه (قتيل الجوع) لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدت فم الغار، فمات فيه جوعا. شيء من أخباره كان قد مدح (سلامة ذا فائش الحميري) بقصيدته التي مطلعها:

الشعر قلدته سلامة ذا ... فائش. الشيء حيث ما جعلا فلما أنشده هذا الشعر قال: "صدقت، الشيء حيث ما جعل". وأعطاه مئة من الإبل وكساه حللا كرشا مدبوغة مملوءة عنبر. وقال: "إياك أن تخدع عنها. فانصرف عنه حتى أتى (الحيرة) فباعها بثلاث مئة ناقة حمراء. فخاف أن ينتهب ماله، فستجار (بعلقمة بن علاثة العامري) فقال له: "أجيرك من الأسود والأحمر" فقال: "ومن الموت". قال: "لا" فأتى (عامر بن الطفيل) فقال له مثل مقالة (علقمة) . فقال له (الأعشى) : ومن الموت. قال: نعم. قال: "وكيف؟ ". قال: "إن مت في جواري وديتك". فلما سمع (علقمة) جواب (عامر) قال: "لو علمت أن ذلك مراده لهان علي. وكان ذلك في أوان منافرة عامر وعلقمة المشهور. (ولهذه المنافرة قصة طويلة مذكورة في الجزء الخامس عشر من كتاب الأغاني) وكان العرب تهاب أن تنفر أحدهما على الآخر. ثم إن الأعشى ركب ناقته ونفر (عامرا) وفضله عل (علقمة) بقصيدة سيأتي بعض أبياتها. فهدر علقمة دمه. وجعل على كل طريق رصدا. فهجاه الأعشى أيضا بقصيدة يقول فيها: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وقد كذب في هجوه لعلقمة، فإنه كان من أجواد العرب. وقد أسلم وحسن إسلامه. ولما بلغ ذلك علقمة رفع يده وقال: "لعنه الله. أنحن نفعل هذا بجاراتنا؟ ". ثم إن (الأعشى) سافر ومعه دليل، فأخطأ به الطريق، فألقاه في ديار (بني عامر بن صعصعة) فأخذ رهط (علقمة بن علاثة) فأتوه به. فقال: "الحمد لله الذي أمكنني منك". فقال (الأعشى) : أعلقم، قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص فهب لي نفسي فدتك النفوس، ... ولا زلت تنمو ولا تنقص فقال قوم علقمة: "اقتله وأرحنا والعرب من شر لسانه". فقال علقمة: "إذن تطلبوا بدمه، ولا ينغسل عني ما قاله، ولا يعرف فضلي عند القدرة" وقيل: بل دخل (علقمة) على أمه وقال لها: "لقد أمكنني الله من هذا الأعمى الخبيث". قالت: "فما تراك فاعلا به؟ ". قال: "سأقتله شر قتلة". فقالت: "يا بني، لقد كنت أرجوك لقومك عامة، وإني اليوم لا أرجوك إلا لنفسك خاصة. وإنما الرأي أن تكسوه وتحمله وتسيره إلأى بلاده، فإنه لا يمحو عنك ما قاله إلا هو". ففعل ما أمرته به، وحل وثاقه، وألقى عليه حلة، وحمله على ناقة، وأحسن عطاءه. وقال له: "انج حيث شئت". وأخرج معه من (بني كلاب) من يبلغه مأمنه. فجعل بعد ذلك يمدحه. ومن ذلك قوله فيه: علقم، يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر والضاحك السن على همه، ... والغافر العثرة للعاثر

ومن حديثه أنه كان لأبي المحلق شرف وكان قد أتلف ماله. وبقي (المحلق) وثلاث أخوات له. ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة كان يسد بها الحقوق. فأقبل (الأعشى) من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة. فنزل الماء الذي به (المحلق) . فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه. فأقبلت عمة المحلق، فقالت له: "يا ابن أخي" هذا الأعشى قد نزل بمائنا، وقد قراه أهل الماء. والعرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلا رفعهم، ولم يهج قوما إلا وضعهم. فانظر ما أقول لك: احتل في زق من خمر من عند بعض التجار، فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردتي أبيك. فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردتين ليقولن فيك شعرا يرفعك به". قال: "ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها". فأقبل يدخل ويخرج، ويهم ولا يفعل. فكلما دخل على عمته حضته. حتى دخل عليها فقال: "قد ارتحل الرجل ومضى". قالت: "الآن والله أحسن كان القرى: تتبعه ذلك مع مولى أبيك (وكان لأبيه مولى أسود شيخ) فحيثما لحقه أخبره عنك كنت غائبا عن الماء عند نزوله إياه، وإنك لما وردت الماء فعلمت أنه به كرهت أن يفوتك قراه. فإن هذا هو أحسن لموقعه عنده". فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه. فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه. فخرج يتبعه. فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه. حتى صار إلى منزل (الأعشى) في (منفوحة) باليمامة. فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيخاً. فهم يشربون منه إذ قرع الباب، فقال: "انظروا من هذا؟ " فخرجوا فإذا رسول (المحلق) يقول كذا وكذا. فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: "ويحكم، أعرابي، والذي أرسل إلي لا قدر له. والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعر لم أقل قط مثله". ثم أذن للرسول فدخل وأناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. فقال له: "أقره السلام وقل له: وصلتك رحم. سيأتيك ثناؤنا". وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها وجلدها عن سنامها، ث جاءوا بهما. فأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوه. وأكل معهم (الأعشى) وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول: أرقت، وما هذا السهاد المؤرق؟. ... وما بي من سقم، وما بي من معشق ومنها: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع، تحرق تشب لمقررين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق إلى أن يقول: أبا مسمع، سار الذي قد فعلتم، ... فانجد أقوام به، ثم أعرقوا به تعقد الأجمال في كل منزل، ... وتعقد أطراف الحبال، وتطلق فسار الشعر وذاع في العرب. فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث، كلك واحدة على مئة ناقة. فأيسر وشرف. وقد رويت هذه القصة على غير هذا الوجه. وفي إحدى الروايات أنه أنشد الشعر بسوق عكاظ وقد اجتمعت عليه الناس، وإنه حض القوم على زواج بناته، وإنه ناداه بقوله: "مرحبا بسيدي وسيد قومه". وفي هذه الرواية: إن العوانس كن بناته لا أخواته، وكن ثمانية. والله أعلم. ومن أخباره أنه هجا رجلا من (بني كلب) فقال: بنو الشهر الحرام فلست منهم ... ولست من الكرام: بني عبيد ولا من رهط جبار بن قرط ... ولا من رهط حارثة بن زيد فقال له: "لا أبا لك. أنا أشرف من هؤلاء كلهم". وقد سبه الناس بهجاء الأعشى إياه.

وفاة الأعشى ميمون

ثم اتفق أن الكلبي أغار على قوم قد بات فيهم الأعشى. فأسر منه نفرا وكان الأعشى أحد المأسورين وهو لا يعرفه. ثم جاء الكلبي حتى نزل على (شريح بن السموأل بن عادياء الغساني) صاحب (تيماء) بحصنه (الأبلق الفرد) فمر شريح بالأعشى فناداه الأعشى وأنشده قصيدة قد ارتجلها يستجير به. فجاء شريح بالأعشى إلى الكلبي وقال له: "هب لي هذا الأسير المضرور". فقال: "هو لك". فأطلقه. وقال له أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك". فقال له الأعشى: "إن من تمام صنيعك أن تعطيني ناقة نجيبة وتخليني الساعة" فأعطاه ناقة فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى. فأرسل إلى شريح أن "ابعث إلي الأسير الذي وهبته لك حتى أحبوه وأعطيه". فقال: "قد مضى" فأرسل الكلبي في إثره فلم يلحقه. والقصيدة التي ارتجلها الأعشى مستجيرا بشريح هي قوله: شريح، لا تتركني بعد ما علقت ... حيالك اليوم بعد القد أظفاري قد جلت ما بين بانقيا إلى عدن، ... وطال في العجم تردادي وتسياري فكان أكرمهم عهدا، وأوثقهم ... مجدا، أبوك، بعرف غير إنكار كالغيث، ما استمطروه جاد وابله، ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري كن كالسموأل، إذ طاف الهمام به ... في جحفل، كهزيع الليل، جرار إذ سامه خطتي خسف فقال له: ... قل ما تشاء، فإني سامع، حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر (وما فيهما حظ لمختار) فشك غير طويل، ثم قال له: ... أقتل أسيرك. إني مانع جاري وسوف يعقبنيه ... إن ظفرت به رب كريم، وبيض ذات أطهار لا سرهن لدينا ذاهب هدرا، ... وحافظات إذا استودعهن أسراري فاختار أدراعه كي لا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار وكان (امرؤ القيس بن حجر) قد أودع عند (السموأل) دروعه وأهله. (كما قدمنا ذلك في ترجمته) . فأتاه (الحارث ابن ظالم المري) ليأخذها منه عنوة فتحصن منه السموأل. فأخذ الحارث ابنا للسموأل (وكان في الصيد) فقال: إما سلمت إلى الأدرع، وإما قتلت ابنك. فأبى أن يسلمها إليه. فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه قطعتين. فقال (السموأل) في ذلك: فبنى لي عادياً حصناً حصيناً، ... وبئرا كلما شئت استقيت وأوصى عاديا يوما: بأن لا ... تهدم يا سموأل ما بنيت وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وبالسموأل هذا يضرب المثل بالوفاء. فيقال "أوفى من السموأل". وفاة الأعشى ميمون كان (الأعشى) جاهليا قديما وقد أدرك الإسلام في آخر عمره. وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وما يأمر به من الأخلاق الفاضلة، والشمائل الزاهرة وما ينهي عنه من المنكر والشرك، وغير ذلك من نقائص الأمور. فقال قصيدة يمدحه فيها ورحل إليه يريد لقاءه والإسلام على يديه. فبلغ قريشا خبره وما قد عزمه (وكان إذ ذاك صلح الحديبية بين الرسول وبين مشركي مكة) فرصدوا الأعشى على طريقه (وكان فيهم أبو سفيان بن حرب) وقالوا: "هذه صناجة العرب، وما مدح أحدا قط إلا رفع قدره". فلما ورد عليهم قالوا: "أين أردت يا أبا بصير؟ ". قال: "أردت صاحبكم هذا (يعني النبي عليه السلام) لأسلم". قالوا: "ينهالك هم خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق". قال: "وما هي؟ " قالوا: "الزنا والقمار والربا والخمر" قال: "أما الزنا فلقد تركني، وما تركته، وأما القمار فلعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار، وأما الربا فما دنت وما أدنت، وأما الخمر - أوه - فأرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها". فقال (أبو سفيان) "هل لك في خير مما هممت به؟ ". فقال: "وما هو؟ ". قال: "نحن الآن وهو في هدنة، فتأخذ مئة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا: فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته". فقال: "ما أكره ذلك". فقال (أبو سفيان) : "يا معشر قريش، هذا الأعشى، والله لئن أتى محمد واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مئة من الإبل". ففعلوا. فأخذها (الأعشى) وانطلق إلى بلده فلما كان قريبا من بلده (منفوحة) باليمامة رمى به بعيره فقتله.

الكلام على شعره

وكان موته سنة (629) لميلاد المسيح، وسنة (7) لهجرة الرسول. صلوات الله عليهما. الكلام على شعره هو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم. وقد تقدم على سائرهم. وليس ذلك بمجمع عليه لا فيه ولا في غيره. وقد سئل (أبو يونس النحوي) : من أشعر الناس؟ فقال: "لا أومئ إلى رجل بعينه"، ولكني أقول: "امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب" قال (أبو عبيدة) : "من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره". ويقال: هو أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد. وقدم على (كسرى) مرة فسمعه ينشد قوله: أرقت وما هذا لسهاد المؤرق؟، ... وما بي من سقم، وما بي من معشق فقال: "ما يقول هذا العربي؟ " ففسروا له قوله. فقال: إذن فهو لص". وقد روي عنه أنه قال: "أتيت (النعمان) فأنشدته: إليك ... أبيت اللعن كان كلالها، تروح مع الليل البهيم، وتغتدي حتى أتيت على آخرها. فخرج إلى ظهر (النجف) فرآه قد اعتم بنباته من أصفر وأحمر وأخضر، وإذا فيه من هذه الشقائق ما لم ير مثله. فقال: ما أحسن هذا. احموه". فسمي بشقائق النعمان. وكان (أبو عمرو بن العلاء) يعظم محل الأعشى ويقول: شاعر مجيد كثير الأعاريض والافتتان، وإذا سئل عنه وعن (لببيد) قال: "لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر" وروي أن (عبد الملك) قال لمؤدب أولاده: "أدبهم بشعر الأعشى، فإنه - قاتله الله - ما كان أعذب بحره وأصلب صخره". وقال (المفضل) : "من زعم أن أحدا أشعر من الأعشى فليس يشعر الشعر". وقال (أبو عبيدة) : "الأعشى رابع الشعراء المتقدمين: امرئ القيس والنابغة وزهير". وقال (يحيى بن الجون العبدي) رواية (بشار) "نحن حاكة الشعر في الجاهلية والإسلام. ونحن أعلم الناس به: أعشى بني قيس أستاذ الشعراء في الجاهلية، و (جرير الخطفي) أستاذهم في الإسلام". وروي عن (الشعبي) أنه قال: "الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت. فأما أغزل بيت فقوله: غراء، فرعاء، مصعول عوارضها. ... تمشي الهوينا، كما يمشي الوجي الوحل وأما أخنث بيت فقوله: قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك، وويلي منك، يارجل وأما أشجع بيت فقوله: قالوا: الطراد، فقلنا: تلك عادتنا، ... أو تنزلون، فإنا معشر نزل حدث (يحيى بن متى) رواية الأعشى (وكان نصرانيا عباديا معمرا) قال: كان (الأعشى) قدريا، وكان (لبيد) مثبتا. قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل وقال الأعشى: - إستأثر الله بالوفاء ... وبالعدل، وولى الملامة الرجلا قال: وقد أخذ الأعشى مذهبه هذا من العباديين نصارى الحيرة: كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك. وكان (الأعشى) فحلا من فحول الشعراء. وكان العرب لا تعد الشاعر فحلا حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره. فلم يعدوا امرأ القيس فحلا حتى قال: والله أنجح ما طلبت به، ... والبر خير حقيبة الرحل وكانوا لا يعدون النابغة فحلا حتى قال: نبئت أن أبا فراس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد وكانوا لا يعدون زهيراً فحلا حتى قال: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكانوا لا يعدون الأعشى فحلا حتى قال: قلدتك الشعر يا سلامة ذا ... فائش والشيء حيث ما جعلا ومن شعره قوله يهجو (علقمة بن علاثة) الذي تقدم ذكره: علقم، ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار، والواتر إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر ساد وألفى قومه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر ومن شعره قوله يفتخر بيوم ذي قار (وكان يوما للعرب على الفرس) : لو أن كل معد كان شاركنا ... في يوم ذي قار، ما أخطاهم الشرف لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض، فظل الهام تقتطف وخيل بكر فما تنفك تطحنهم ... حتى تولوا، وكاد اليوم ينتصف أما قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم فمطلعها:

معلقته وسبب نظمها

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟ ... وبت كما بات السليم مسهدا ولكن، هو الدهر (الذي هو خائن) ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا ومنها يقول في ناقته: فآليت لا أرثي لها من كلالة، ... ولا من حفى، حتى تزور محمدا متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... ترحي، وتلقي من فواصله يدا نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد، وأنجدا له صدقات ما تغب، ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك، لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله، حين أوصى وأشهدا: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى، ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله، ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا وللأعشى أخبار كثيرة وشعر غزير. وقد اكتفينا من ذلك بما قدمناه - وسترى في معلقته من الشعر ما يدهش ويعجب. معلقته وسبب نظمها معلقته قد جمعت رقة التشبيب، ورونق التشبيه، وروائع الفخر، وشديد الحماسة، في لفظ جزل، وأسلوب رائع. وهي قصيدة غراء، تملك القلوب، وتسترق الأسماع، وتأسر الأفهام. وذكروا في سبب نظمها أن رجلا من (بني كعب بن سعد بن مالك) يقال له (ضبيع) قتل رجلا من (بني همام) يقال له (زاهر بن سيار) من (بني ذهل بن شيبان) فهم قومه بقتل (ضبيع) فنهاهم (يزيد ابن مسهر) . أن يقتلوه به (وكان ضبيع مطروقا ضعيف العقل) وقال: اقتلوا به (سعيدا) من (بني سعد بن مالك) وحض (بني سيار) على ذلك وأمرهم به. وبلغ (بني قيس) - وهم عشيرة سعيد - ما قاله (يزيد بن مسهر) . فقال (الأعشى) هذه القصيدة يأمره أن يدع (بني سيار) و (بني كعب) ، ولا يعين (بني سيار) . فإنه إن أعانهم أعانت بنو قيس بني كعب. نخبة من معلقته ودع هريرة، إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟ غراء، فرعاء، مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا، كما يمشي الوجي الوحل كأن مشيتها من بيت جارتها مر ... السحابة: لا ريث ولا عجل ليست كمن يكره الجيران طلعتها ... ولا تراها لسر الجار تختتل يكاد يصرعها ... لولا تشددها، إذا تقوم إلى جاراتها الكسل إذا تقوم يضوع المسك أصورة ... والزنبق الورد من أردانها شمل ما روضة من رياض الحزن معشبة، ... خضراء، جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب شرق، ... مؤزر بعميم النبت، مكتهل يوما بأطيب منها نشر رائحة، ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك، وويلي منك يا رجل إما ترينا حفاة لا نعال لنا، ... إنا كذلك ما: نحفى وننتعل وبلدة مثل ظهر الترس، موحشة، ... للجن بالليل في حافاتها زجل جاوزتها بطليح، جسرة، سرح، ... في مرفقيها إذا استعرضتها فتل بل هل ترى عارضا قد بت أرمقه،=كأنما البرق في حافاته شعل له رداف، وجوز مفأم عمل، ... منطق بسجال الماء، متصل لم يلهني اللهو عنه ... حين أرقبه ولا اللذاذة في كأس، ولا شغل فقلت للشرب في درنا ... وقد ثملوا : شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل أبلغ يزيد بني شيبان مألكة: ... أبا ثبيت، أما تنفك تأتكل؟ ألست منتهيا عن نحت أثلتنا؟ ... ولست ضائرها ما أطت الإبل: كناطح صخرة يوما ليوهنها، ... فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل تغري بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء، فتردي ثم تعتزل لا تقعدن وقد أكلتها حطبا، ... تعوذ من شرها يوما، وتبتهل سائل بني أسد عنا، فقد علموا ... أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل وأسأل قشيرا وعبد الله كلهم ... واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل؟ إنا نقاتلهم، حتى نقتلهم ... عند اللقاء، فهم جاروا، وهم جهلوا لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا ... لنقتلن مثله منكم، فنمتثل لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل لا تنتهون (ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل) حتى يظل عميد القوم مرتفقا، ... يدفع بالراح عنه نسوة عجل

النابغة الذبياني

أصابه هندواني فأقصده، ... أو ذابل من رماح الخط معتدل كلا، زعمتم بأنا لا نقاتلكم ... إنا لأمثالكم يا قومنا قتل نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية ... جنبي فطيمة، لا ميل، ولا عزل قالوا: الصراد، فقلنا: تلك عادتنا، ... أو تنزلون، فإنا معشر نزل النابغة الذبياني توفي سنة (604) م. وسنة (18) قبل الهجرة هو (زياد بن معاوية بن ضباب) وينتهي نسبه إلى (سعد بن ذبيان) . ثم إلى (مضر بن نزار بن معد بن عدنان) . وكنيته (أبو أمامة) وإنما لقب بالنابغة لنبوغه في الشعر وبلوغه منه مبلغ الفحول. وقيل: بل لغير ذلك وما ذكرناه هو أقرب إلى الحق. وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم. وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء. وكان يضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ. فتأتيه الشعراء. فتعرض عليه أشعارها. فكان أول من أنشده في أحد المواسم (الأعشى) ثم (حسان بن ثابت) ثم أنشدته الشعراء. هم أتته (الخنساء) أخت (صخر) فأنشدته قصيدة. منها قولها في أخيها صخر: وإن صخرا لتأتم الهداة به، ... كأنه علم في رأسه نار فقال: "والله لولا أن أبا بصير (يعني الأعشى) أنشدني آنفا لقلت أنك أشعر الجن والإنس". فقام إليه حسان، فقال: "والله لأنا أشعر منك ومن أبيك" فقال له النابغة: "يا ابن أخي، إنك لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل الذي هو مدركي، ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع فخنس حسان لقوله: ما جرى للنابغة مع النعمان بن المنذر كان (النابغة) كبيرا عند (النعمان بن المنذر) . وكان من ندمائه وأهل أنسه. وكان مقدما لديه على كل ما يتقرب منه. فكثر ماله، ووفرت نعمته لذلك. حتى إنه لم يكن يأكل إلا في آنية الذهب والفضة من عطاياه وعطايا أبيه وجده، ولا يستعمل غير ذلك. غير أن الوشاية والحسد كالنار تصيب الخشب فتلتهمه التهاما. فقد غضب النعمان على النابغة بوشاية (المنخل بن عبيد اليشكري) . وذلك: أن النابغة والمنخل كانا جالسين عند النعمان (وكان النعمان دميماً أبرش قبيح المنظر. وكان المنخل من أجمل العرب وكان يرمي بالمتجردة زوجة النعمان. فقال النعمان للنابغة: "يا أبا أمامة صف المتجردة في شعرك". فقال قصيدته التي وصفها فيها. (وسيأتي ذكر نبذة منها) وقد وصف فيها كل أعضائها حتى ما يستقبح ذكره. وكان المنخل فاسقا. وكان النابغة عفيفا تقيل. فلحقت المنخل من ذلك غيرة. فقال للنعمان: "ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من جرب". فوقر ذلك في نفس النعمان. فخافه النابغة فهرب إلى ملوك غسان بالشام. فلما صار النابغة إلى غسان نزل على (عمرو بن الحارث الأصغر ابن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر) . فمدحه ومدح أخاه (النعمان) ولم يزل مقيما مع (عمرو) حتى مات. وملك أخوه (النعمان) فصار معه. وكان في أثناء ذلك يمدح النعمان بن المنذر ويعتذر إليه. ويتبرأ مما وشى به المنخل. فقال في ذلك قصائد هي قلائد العقيان، وكانت هي أشعر شعره. ثم أتى إلى النعمان بعد هربه منه. وقد سئل (عمرو بن العلاء) فقيل له: (أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه، أم لغير ذلك؟ ". فقال: "لا لعمر الله، لا لمخافته فعل. إن كان لآمنا من أن يوجه إليه جيشا. وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة. ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره". وقد حدث (حسان بن ثابت) أنه قدم على النعمان بن المنذر وقد امتدحه. فأمر له بجائزة سنية. وبقي ببابه إلى أن قدم (النابغة) بعد هربه من النعمان وهو في جوار رجلين من (فزارة) كان بينهما وبين النعمان خاصة فضرب عليهما قبة أدم. ولم يشعر بأن النابغة معهما. وقد دس النابغة قينة لتغني النعمان بشعره: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت، وطال عليها سالف الأبد فلما سمع الشعر قال: "أقسم بالله إنه لشعر النابغة". وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين. فخرج إليه فعارضه الفزاريان، وقالا له: "أبيت اللعن. لا تثرب. قد أجرناه والعفو أجمل". فأمنه واستنشده أشعاره. قال حسان: "فحسدته على ثلاث، لا أدري على أيتهن كنت له أشد حسدا: على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه؟، أم على جودة شعره؟، أم عل مئة بعير من عصافيرة أمر له بها؟ ".

موت النابغة

وقيل: إن السبب في رجوعه إلى النعمان أنه بلغه مرضه وأنه لا يرجى فأقلقه ذلك. ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته. فصار إليه. وألفاه محموما على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة. فقال لحاجبه (عصام بن شهبرة) : ألم أقسم عليك، لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام فإني لا ألومك في دخولي ... ولكن، ما وراءك يا عصام فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس، والشهر الحرام ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر، ليس له سنام موت النابغة قالوا: نبغ النابغة بالشعر بعد ما احتنك. وهلك قبل أن يهتر. ولم أر من ذكر ما بلغ من العمر. غير أنهم قالوا: قد أسن وكبر توفي السنة التي قتل فيها (النعمان بن المنذر) وكان وفاته سنة (604) لميلاد المسيح عليه السلام. وسنة (18) قبل الهجرة. الكلام على شعره هو أحد فحول شعراء الجاهلية، ومن أعيانهم المذكورين. ويقال: أنه كان أحسن الناس ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتا. كان شعره كلاما ليس فيه تكلف. وقد عده (الجمحي) في الطبقة الأولى بعد امرئ القيس. وكان لا ينسج كلامه إلا على منوال الفصاحة، ولا يخيطه إلا بخياط البلاغة. فشعره متين السبك، جيد الحبك، صافي الديباجة، واضح المعاني. وقد شهد له عمر بن الخطاب وأبو الأسود الدؤلي وحماد الرواية والأخطل وجميع صاغة الشعر. ويكفيه أنه كانت تضرب له القبة في سوق عكاظ لتعرض عليه الشعراء أشعارها. روى (الشعبي) أن عمر بن الخطاب قال: من أشعر الناس؟. قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال من الذي يقول: ألا سليمان، إذ قال الإله له: ... قم في البرية، فاحددها عن الفند وخيس الجن، إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد قالوا: هو النابغة. فقال: فمن الذي يقول: حلفت، فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب؟ قالوا: هو النابغة. قال: فمن الذي يقول: أتيتك عاريا، خلقا ثيابي، ... على وجل، تظن بي الظنون قالوا: هو النابغة. قال: فهو أشعر العرب وقام رجل إلى (ابن عباس) فقال: أي الناس أشعر؟ فقال ابن عباس: أخبره يا أبا الأسود. قال: الذي يقول: فإنك كالليل الذي هو مدركي، ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وروي عن الأصمعي أنه قال: "سألت بشارا الأعمى: من أشعر الناس؟. فقال: اختلف الناس في ذلك. فأجمع أهل البصرة على امرئ القيس وطرفة بن العبد، وأجمع أهل الكوفة على بشر بن أبي حازم والأعشى الهمداني، وأجمع أهل الحجاز على النابغة الذبياني، وأجمع أهل الحجاز على جرير والفرزدق والأخطل". وروي عنه أيضا أنه قال: "أول ما تكلم به النابغة من الشعر أنه حضر مع عمه عند رجل. وكان عمه يشاهد به الناس، ويخاف أن يكون عييا. فوضع الرجل كأسا في يده، وقال: تطيب كؤوسنا، لولا قذاها، ... ويحتمل الجليس على أذاها فقال النابغة وقد حمي لذلك: قذاها أن شاربها بخيل ... يحاسب نفسه، بكم اشتراها قالوا: وكان النابغة يقوي في شعره. وكان مهيبا لا يستطيع أحد أن يقول له: أقويت. فقدم المدينة فأنشد الناس قصيدة له كان قد أقوى فيها: فما تجاسر أحد أن ينبهه إلى ذلك. فأتوه بقينة فغنت بهذين البيتين أمامه: سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه ... فتناولته، وأتقتنا باليد بمخضب رخص، كأن بنانه ... عنم، يكاد من اللطافة يعقد فمدت القينة صوتها باليد فصارت الكسرة ياء، ومدت يعقد فصارت الضمة واوا. فتنبه. ولم يعد إلى الإقواء. وغير الشطر الأخير، وجعله: "غنم على أغصانه لم يعقد". وقد قال: "دخلت (يثرب) وفي شعري بعض العاهة، فخرجت منها وأنا أشعر الناس". من غرار شعره قصيدته التي يصف بها المتجردة. وقد تقدم خبر ذلك. ومطلعها: أمن آل مية رائح أو مغتد؟ ... عجلان، ذا راد، وغير مزود زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود لا مرحبا بغد، ولا أهلا به، ... إن كان تفريق الأحبة في غد أزف الترحل، غير ركابنا ... لما تزل برحالنا، وكأن قد

في إثر غانية رمتك بسهمها، ... فأصاب قلبك غير أن لم تقصد كمضيئة صدفية، غواصها ... بهج، متى ينظر إليها يسجد لو أنها عرضت لأشمط راهب، ... يخشى الإله، صرورة، متعبد لرنا لبهجتها وحسن حديثها، ... ولخاله رشدا، وإن لم يرشد قامت تراءى ... بين سجفي كلةٍ كالشمس، يوم طلوعها بالأسعد سقط النصيف ... ولم ترد إسقاطه فتناولته، واتقتنا باليد بمخضب رخص، كأن بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد وبفاحم رجل، أثيث نبته، ... كالكرم، مال على الدعام المسند نظرت إليك بحاجة لم تقضها، ... نظر السقيم إلى وجوه العود وتخالها في البيت ... إذ فاجأتها قد كان محجوبا سراج الموقد ومن شعره (يمدح عمرو بن الحارث الأعرج الغساني) قوله: كليني لهم ... يا أميمة ناصب، وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول، حتى قلت: ليس بمنقض، ... وليس الذي يهدي النجوم بآيب وصدر أراح الليل عازب همه، ... تضاعف فيه الحزن من كل جائب علي لعمرو نعمة ... بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الناس والأحلام غير عوازب مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير، تهتدي بعصائب على عارفات للطعان، عوابس، ... بهن كلوم، بين دام وجالب إذا استنزلوا للطعن عنهن أرقلوا ... إلى الموت، إرقال الجمال المصاعب ولا عيب فيهم، غير أن سيوفهم ... بهن فلول، من قراع الكتائب تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب تجذ السلوقي المضاعف نسجه، ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب رقاق النعال، طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب حبوت بها غسان، إذ كنت لاحقا ... بأهلي، وإذ ضاقت علي مذاهبي وقد اشتهرت اعتذاريات النابغة (وهي القصائد التي اعتذر بها للنعمان بن المنذر) اشتهارا عظيما. فمنها قوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا، ... وقلت: ألما تصح؟، والشيب وازع وقد حال هم دون ذلك، والج ... مكان الشغاف، تبتغيه الأصابع: وعيد أبي قابوس ... في غير كنهه أتاني، ودوني راكس فالضواجع فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش، في أنيابها السم ناقع أتاني ... أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع أتاك امرؤ مستبطن لي بغضة، ... له من عدو مثل ذلك شافع أتاك بقول هلهل النسج، كاذبا ... ولم يأت بالحق الذي هو ناصع حلفت، فلم أترك لنفسك ريبة، ... وهل يأثمن أمة وهو طائع فإنك كالليل الذي هو مدركي، ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وأنت ربيع ينعش الناس سيبه، ... وسيف أعيرته المنية قاطع أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف، ولا العرف ضائع ومن اعتذارياته إليه قوله: أتاني ... أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي أهتم منها وأنصب حلفت، فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب لئن كنت قد بلغت عني خيانة، ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولكنني، كنت امرأ لي جانب ... من الأرض، فيه مستراد ومذهب: ملوك وإخوان، إذا ما لقيتهم ... أحكم في أموالهم، وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم ... فلم ترهم في مثل ذلك أذنبوا ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب؟ فإن أك مظلوما، فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى، فمثلك يعتب ألم تر أن الله أعطاك سورة، ... ترى كل ملك دونها يتذبذب بأنك شمس، والملوك كواكب: ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقال (يهجو زرعة بن عمرو، وقد بلغه أنه يتوعده) :

معلقته وسبب نظمها

نبئت زرعة ... والسفاهة كاسمها يهدي إلى غرائب الأشعار فحلفت ... يا زرع بن عمرو أنني مما يشق على العدو ضراري أرأيت يوم عكاظ ... حين لقيتني تحت العجاج فما شققت غباري إنا أقتسمنا خطتينا بيننا: ... فحملت بره، واحتملت فجار ومن شعره قوله: من يطلب الدهر تدرك مخالبه ... والدهر بالوتر ناج، غير مطلوب ما من أناس ذوي مجد ومكرمة ... إلا يشد عليهم شدة الذيب حتى يبيد ... على عمد سراتهم بالنافذات، من النيل المصاييب إني رأيت سهام الموت معرضة ... بكل حتف من الآجال مكتوب وقوله: لا خير في عزم بغير روية ... والشط وهن، إن أردت سراحا واستبق ودك للصديق، ولا تكن ... قتبا، يعض بغارب ملحاحا فالرفق يمن، والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا واليأس مما فات يعقب راحة ... ولرب مطعمة تعود ذباحا وقال (وفيما قال لباب الحكمة) : المرء يأمل أن يعش ... وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته ويبقى ... بعد حلوالعيش مرة وتصرم الأيام حتى ... لا يرى شيئا يسره كم شامت بي إن هلكت ... وقائل: له درة وللنابغة شعر كثير جيد. وقد اكتفينا منه بما ذكرناه، عملا بما اختططناه في تنسيق الكتاب. معلقته وسبب نظمها معلقة النابغة من عيون شعره. وقد اشتملت على ضروب من الوصف والقصص والحكمة والاعتذار. وقد قالها يمدح فيها (النعمان بن المنذر) بعدما جفاه، ويعتذر إليه عما وقع، ويذكر له سابق أياديه عليه، وإدناء منزلته لديه. ويثبت له خيانة الواشين به عنده. كل ذلك بكلام جزل، ومعان تؤثر في النفس. وقد ذكرنا قبل ذلك سبب غضب النعمان عليه. نخبة من معلقته يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت، وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيت جوابا، وما بالربع من أحد أضحت خلاء، وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد فعد عما مضى، إذ لا ارتجاع له ... وانم القتود على عيرانة أجد كأن رحلي ... وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة، موشي أكارعه، ... طاوي المصير، كسيف الصيقل الفرد فتلك تبلغني النعمان، إن له ... فضلا على الناس، في الأدنى وفي البعد ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد إلا سليمان، إذ قال الإله له: ... قم في البرية، فاحددها عن الفند وخيس الجن، إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك، وادلل هـ على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهي الظلوم، ولا تقعد على ضمد واحكم كحكم فتاة الحي، إذ نظرت ... إلى حمام سراع، وارد الثمد يحفه جانبا نيق، وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتها ونصفه فقد فحبسوه، فألقوه كما زعمت، ... تسعا وتسعين، لم تنقص، ولم تزد فكملت مئة فيها حمامتها، ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد فلا لعمر الذي مسحت كعبته، ... وما هريق على الأنصاب من جسد والمؤمن العائذات الطير، تمسحها ... ركبان مكة، بين الغيل والسعد ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا، فلا رفعت سوطي إلى يدي إذا، فعاقبني ربي معاقبة ... قرت بها عين من يأتيك بالحسد هذا، لأبرأ من قول قذفت به، ... طارت نوافذه حرا على كبدي أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد مهلا فداء لك الأقوام كلهم، ... وما أثمر من مال ومن ولد فما الفرات إذا هب الرياح له، ... ترمي أواذيه العبرين بالزبد يمده كل واد مترع لجب، ... فيه ركام من الينبوت والخصد يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة، بعد الأين والنجد

عبيد بن الأبرص

يوما بأجود منه سيب نافلة ... ولا يحول عطاء اليوم دون غذ هذا الثناء فإن تسمع لقائله، ... فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد عبيد بن الأبرص توفي سنة (555) وقيل سنة (605) للميلاد هو (عبيد بن الأبرص الأسدي) وينتهي نسبه إلى دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان) . وهو شاعر فحل فصيح الألفاظ، من شعراء الجاهلية. وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية وحكمائها ودهاتها، وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد، وكان شاعر بن أسد غير مدافع، قديم الذكر، طائر الشهرة، شهما، كريما مع ضيق ذات يده. شيء من أخباره كان معاصرا لامرئ القيس بن حجر الكندي. وله معه مناظرات كثيرة. وكان من حديثه أنه كان رجلا محتاجا. ولم يكن معه مال. فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له. ومعه أخته ماوية، ليوردا غنمهما. فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهه. فانطلق حزينا مهموما للذي صنع به المالكي حتى أتى شجرات، فاستظل تحتها. فنام هو وأخته. فزعموا أن المالكي نظر إليه إلى أخته إلى جنبه، فقال: ذاك عبيد قد أصاب ميا ... يا ليته ألقحها صبيا فحملت، فوضعت ضاويا فسمعه (عبيد) فرفع يديه، ثم ابتهل، فقال: اللهم إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه ووضع رأسه ونام. ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر. فذكر أنه أتاه في آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه. ثم قال: قم. فقام وهو شاعر، فهجا المالكي. ثم استمر بعد ذلك يقول الشعر. فكان شاعر بني أسد. ولما اجتمعت (بنو أسد) بعد (قتلهم حجر بن عمرو) والد امرئ القيس إلى (امرئ القيس) على أن يعطوه ألف بعير دية أبيه، أو يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد، أو يمهلهم حولا - قال لهم امرؤ القيس: "أما الدية فما ظننت أنكم تعرضونها على مثلي، وأما القود فلو قيد إلي ألف من بني أسد ما رضيتهم، ولا رأيتهم كفؤا لحجر، وأما النظرة فلكم. ثم ستعرفونني في فرسان قحطان، أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة، حتى أشفي نفسي، وأنال ثأري". فلما سمع عبيد كلام امرئ القيس أنشد: يا ذا المخوفنا بقتل ... أبيه إذلالا وحينا أزعمت أنك فاتك ... بسراتنا، كذبا ومينا هلا على حجر ابن أم ... قطام تبكي لا علينا إنا إذا عض الشقاف ... برأس صعدتنا لوينا نحمي حقيقتنا، وبعض ... القوم يسقط بين بينا هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا؟ أيام نضرب هامهم ... بنواتر، حتى انحنينا نحن الألى فاجمع جموعك ... ثم وجههم إلينا لا يبلغ الباني ... ولو رفع الدعائم ما بنينا كم من رئيس قد قتلناه ... وضيم قد أبينا إنا لعمرك لا يضام ... حليفنا أبدا لدينا ولما عصى بنو أسد حجرا أبا امرئ القيس وامتنعوا عن دفع الإتاوة وضربوا جابيه وأدموه - جاءهم حجر فقتل منهم وأسر سراتهم. وكان في الأسرى عبيد بن الأبرص. وقد أنشد قصيدة كانت سبب عفوه عنهم. ثم قتلوا حجرا، وشدوا على أمواله نهبا. وقد قدمنا تفصيل الخبر والقصيدة. موت عبيد عمر (عبيد) طويلا. حتى قتله المنذر بن ماء السماء اللخمي. وقيل: قتله (النعمان بن المنذر) وذلك أنه قد وفد عليه وهو لا يعلم في أحد أيام بؤسه التي كان يقتل المنذر فيها كل من يراه. فقال المنذر: "من هذا الشقي؟ " فقيل له: عبيد بن الأبرص الشاعر. فقال بعض من حضر المنذر: "أبيت اللعن. أظن أن عنده من حسن القريض أفضل مما تدرك من قتله. فاسمع منه. فإن سمعت حسنا استزدته. وإن لم يعجبك فما أقدرك على قتله". فقال المنذر: "هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد". فقال: "أتتك بحائن رجلاه". فأرسلها مثلا. فقال: "ما ترى يا عبيد؟ " قال: "المنايا على الحوايا" فأرسلها مثلا. فقال: "أنشدني فقد كان يعجبني شعرك" فقال: "حال الجريض دون القريض". فأرسلها مثلا. فقال: "أنشدني: أقفر من أهله ملحوب". فقال: أقفر من أهله عبيد: ... فليس يبدي ولا يعيد عنت له خطة نكود، ... وحان منها له ورود

الكلام على شعره

فقال المنذر: "ما أشد جزعك من الموت! " فقال: "لا يرحل رحلك من ليس معك" فأرسلها مثلا. فقال له النعمان: "لا بد من الموت. ولو أن النعمان (يعنى أباه) عرض لي يوم بؤسي لذبحته. فاختر: إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت الوريد". فقال عبيد: "ثلاث خصال كسحابات عاد، واردها شر وراد، وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيه لمرتاد. وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر، حتى إذا ماتت مفاصلي، وذهلت ذواهلي، فشأنك وما تريد". فأمر المنذر بحاجته من الخمر. حتى إذا أخذت منه وطابت نفسه، دعا به المنذر. ليقتله فلما مثل بين يديه أنشأ يقول: ألا أبلغ بني وأعمامهم: ... بأن المنايا هي الواردة لها مدة، فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصدة فلا تجزعوا لحمام دنا، ... فللموت ما تلد الوالدة فأمر به المنذر ففصد. فلما مات غرى بدمه الغريين. وكان موته سنة (555) أو (605) لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام. وقالوا: أنه عاش فوق مئتي سنة. وذلك قوله: حتى يقال لمن تعرق دهره: ... يا ذا الزمانة، هل رأيت عبيدا مئتى زمان كامل، أو بضعة ... عشرين عشت معمرا محمودا ما تبتغي من بعد هذا عيشة ... إلا الخلود ولن تنال خلودا وليفنين هذا وذاك كلاهما، ... إلا الإله ووجهه العبودا الكلام على شعره كان عبيد من فحول الشعراء الجاهليين. وقد جعلوه في طبقة طرفة بن العبد وأمثاله. وله شعر جميل، وحكمة عالية. ولشعره رونق وبهجة. وقد فقد أكثر شعره. ولكن في القليل الباقي منه ما يشير إلى بلاغته وسمو كعبه في القريض. ومن ذلك قوله (وكان ممن ينادم حجرا أبا امرئ القيس. ثم تغير حجر عليه وتوعده. ثم استصلحه فقال عبيد يخاطبه) : طال الخيال علينا ليلة الوادي، ... من أم عمرو، ولم تلمم لميعاد إني اهتديت لركب طال سيرهم ... في سبسب بين دكداك وأعقاد إذهب، إليك فإني من بني أسد ... أهل القباب وأهل الجرد والنادي أبلغ أبا كرب عني، وإخوته، ... قولا سيذهب غورا بعد أنجاد: لا أعرفنك يوما أنت تندبني، ... وفي حياتي ما زودتني زادي إن أمامك يوما أنت مدركه، ... لا حاضر مفلت منه ولا باد فانظر إلى ظل ملك أنت تاركه: ... هل ترسين أواخيه بأوتاد؟ الخير يبقى، وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد ومن شعره الجيد قوله: إذا أنت لم تعبأ برأي، ولم تطع ... لنصح، ولم تصغ إلى قول مرشد فلم تتقي ذم العشيرة كلها؟ ... وتدفع عنها باللسان وباليد فلست ... وإن عللت نفسك بالمنى بذي سؤدد باد، ولا كرب سيد لعمرك ما خشي الجليس تفحشي ... عليه، ولا أنأى عن المتودد ولا أبتغي ود امرئ قل خيره، ... ولا أنا عن وصل الصديق بأصيد وإني لأطفي الحرب بعد شبوبها، ... وقد أوقدت للغي في كل موقد وإني لذو رأي يعاش برأيه ... وما أنا من علم الأمور بمبتدي: إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند ولا تظهرن ود امرئ قبل خبره ... وبعد بلاء المرء فاذمم أو احمد وإن أنت في مجد أصبت غنيمة ... فعد للذي صادفت من ذاك وازدد تمنى مريء القيس موتي، وإن مت ... فتلكت سبيل لست فيها بأوحد لعل الذي يرجو رداي وموتتي ... سفاها وجبنا، أن يكون هو الردي وللمرء أيام تعد وقد رعت ... حبال المنايا للفتى كل مرصد فمن لم يمت اليوم لا بد أنه ... سيعلقه حبل المنية في غد ومما يستجاد من شعره قوله: يا أيها السائل عن مجدنا، ... إنك عن مسعاتنا غافل إن كنت لم تسمع بآبائنا ... فسل تنبأ، أيها السائل سائل بنا حجرا غداة الوغى، ... يوم تولى جمعه الحافل قومي بني دودان أهل الندى ... يوما إذا ألحقت الحامل كم فيهم من سيد أيد، ... ذي نفحات، قائل، فاعل من قوله قول، ومن فعله ... فعل، ومن نائله نائل القائل القول الذي مثله ... يمرع منه البلد الماحل

معلقته وسبب نظمها

لا يحرم السائل أن جاءه، ... ولا يعفي سيبه العاذل الطاعن الطعنة يوم الوغى ... يذهل منها البطل الباسل معلقته وسبب نظمها معلقة عبيد بائية من مجزوء البسيط، ووزنها: "مستفعلن فاعلن مفعولن". وأكثرها جاءت على وزن مخلع هذا البحر، وذلك باستعمال "مفعولن" على وزن "فعولن" وذلك مستملح في مجزوء البسيط. غير أن جملة من أبياتها جاءت فيه "مفعولن" على وزن "مستفعلن". وذلك غير جائز في البسيط المجزوء الذي عروضه على وزن "مفعولن" وفيها كثير من الأبيات مختلة الوزن. وقد أشار (أبو العلاء المعري) إلى اختلال بائية (عبيد) بقوله: وقد يخطىء الرأي امرؤ وهو حازم، ... كما اختل في وزن القريض عبيد نقول: "والغالب أن ذلك من سوء الرواية. وإلا فعبيد أجل من أن يقع في مثل ذلك. ومعلقته هذه قد جمعت ضروبا من الحكمة والموعظة والوصف. وذلك أكثر ما فيها. وهي مسبوكة سبكا جميلا. وربما ضاع حسن سبكها، وبليغ تركيبها، وجميل حكمتها بهذا البحر الذي اختاره لتسييرها فيه. لأنه بحر ضل فيه كثير من خائضيه قديما وحديثا. أما السبب الذي دعاه إلى نظمها على ما يظهر فليس إلا خواطر من الحكمة والعظة جاشت في نفسه فظهرت على أسلة لسانه. والله أعلم. نخبة من معلقته إقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات، فالذنوب وبدلت منهم وحوشا، ... وغيرت حالها الخطوب أرض توارثها الجدوب، ... فكل من حلها محروب إما قتيلا، وإما هلكا ... والشيب شين لمن يشب عيناك دمعهما سروب، ... كأن شأنيهما شعيب واهية، أو معين معن ... من هضبة دونها لهوب تصبو، وأنى لك التصابي؟ ... أنى، وقد راعك المشيب؟ فكل ذي نعمة مخلوس ... وكل ذي أمل مكذوب وكل ذي إبل موروث ... وكل ذي سلب مسلوب وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب أعاقر مثل ذات رحم؟ ... أو غانم مثل من يخيب؟ من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب والله ليس له شريك، ... علام ما أخفت القلوب أفلح بما شئت قد يبلغ ... بالضعيف، وقد يخدع الأريب لا يعظ الناس من لا يعظ ... الدهر ولا ينفع التلبيب ساعد بأرض تكون فيها، ... ولا تقل: إنني غريب والمرء ما عاش في تكذيب، ... طول الحياة له تعذيب

§1/1