رأس الحسين
ابن تيمية
الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تميمة
الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تميمة الحراني الدمشقي المتوفى 728 هـ ولد الإمام العلامة ابن تميمة (1) سنة 661 هـ في أيام الملك الظاهر بيبرس والذي كان حاكما على مصر والشام آنذاك، وقد كان من أقوى الملوك المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي. وقد ولد ابن تيمية بعد تدمير بغداد بخمس سنوات، ودخل التتار حلب ودمشق قبل مولده بثلاث سنوات فلما شب وكبر وحكى له معاصر وهذه الحملات الضارية الوحشية من التتار، حتى أن مسقط رأسه (حران) لم تسلم من أذى هؤلاء القوم المجرمين الذين لم يراعوا الله ولا الإنسانية في هذه البلاد الآمنة. وسمع ابن تيمية ورأى وهو صبي أنهار الدماء المسفوك المسفوح تجري حوله من كل مكان وهو ابن سبع سنين تقريبا في بلدته حران التي نشأت فيها أسرته وبيته. وفي هذا الجو المشحون بالكمد والإحن نهض لفيف من العلماء والأئمة الكبار والفقهاء أمثال ابن الصلاح والنووي والعز بن عبد السلام والمزي والذهبي، كما نبغ في عصر ابن تيمية أيضا قاضي القضاة كمال الدين
الزملكاني، والقزويني والسبكي وابن حيان التوحيدي. ورغم وجود هؤلاء العلماء الأفذاذ إلا أن العلماء كان مقسما بالبساطة والسطحية وقلة التعمق في المسائل الفقهية والشرعية. واتسم الفقه آنئذ بالجمود والتحجر وليس ثمة أضر على الإسلام والمسلمين من تحجر الفكر وجمود القرائح وهذا ما حدث إبان الحروب التترية والصليبية في عصر ابن تيمية. وإذا احتدمت الحروب لجأ الناس إلى الدين، وما أضر الناس ولا أضر المسلمين مثل القضايا الجدلية والمسائل الكلامية والفلسفة السفسطائيه التي تظهر فصاحة وبيانا وتضمر جهلا مشينا بحقائق الدين وفطرته الجميلة. وقد كانت أسرة العلامة الفقيه الحافظ ابن تيمية أسرة علم وفضل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بل كانت زعيمة للمذهب الحنبلي في تلك الديار إذ كان جده إماما للمذهب الحنبلي في عصره قال الذهبي: - (قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية بنفسه أن الشيخ ابن مالك كان يقول: لقد ألان الله الفقه لممجد الدين بن تيمية كما ألان الحديد لداود عليه السلام) ا. هـ. وقد درس ابن تيمية العلوم المعروفة في عصره وعني عناية خاصة باللغة العربية والنحو والصرف كما اهتم بدراسة الحساب والرياضية والحظ وأبدي اهتماما خاصا بالفقه وعلم الأصول والحديث والتفسير وعلم الفرائض، ولعل علم التفسير كان من أحب العلوم وآثرها عند ابن تيمية حتى قيل إنه كان يقرأ في الآية الواحدة نحو مائة تفسير، تأمل قوله في ذلك: - (ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول يا معلم آدم وابراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني) ا. هـ.
وقد كان ابن تيمية رحمه الله متوقد الذكاء كثير الزكانة والفطنة سريع الفهم والاستيعاب فقد كان يفتي في أمور الدين وهو ابن الثانية والعشرين من عمره. ومصنفاف ابن تيمية ومؤلفاته تدل على سعة اطلاعه وعمق ثقافته وقوة شخصية فهو عند ما يعرض لمسائلة من المسائل أو قضية من القضايا يحشد لك كل البراهين والأدلة العقلية والعلمية ليقوى بها حجته ويؤكد بها رأيه وهو لا ينفك يستشهد بآيات القران الكريم في كل ما يتعرض له من أدلة وأثباتات فقهية أو شرعية وهو بذلك لا يترك القارئ حتى يقنعه تماما بوجهة نظره وصلابة رأيه. ولا يخفى على أحد أن ابن تيمية حمل لواء بعث الفكر الأسلامي وتجديد العلوم الشرعية ورفع لواء التوحيد ومحاربة البدع والأهواء والردود العنيفة القوية على الفرق الهالكة التي كادت للإسلام ونقده العنيف المر للفلسفة والميتا فيزيقا وعلم الكلام وترجيح منهج الكتاب والسنة وأسلوبهما على كل أسلوب ومنهج. لقد كان ابن تيمية حربا حامية الوطيس لم يخمد لظاها وما أخبى سعيرها على رعونة المبتدعين في عصرة إنما كان سيفا مصلتا على رقاب الخارجين والمارقين المرجفين. وقد أورد الحافظ ابن كثير في كتابه التاريخي المشهور (البداية والنهاية) كثيرا من مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره. وقد كانت ثمة صراعات شتى بين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية من ناحية وبين الصوفية من ناحية أخرى وقد شدد على أقطابهم ولا سيما الذين قالوا بالحلول وبالوحدة أمثال محيى الدين بن عربي والحلاج ورماهم بالزندقة والكفر والإلحاد. ولقاء إخلاصه في دعوته كابد ابن تيمية رحمه الله وعانى من البطش والتعذيب فقد كادله خصومه وأعداؤه ودخل السجن مرات عديدة، وقد توفي وهو في السجن رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرا وألحقنا به في دار كرامته. آمين. السيد الجميلي
عملنا في هذا الكتاب
عملنا في هذا الكتاب * قمنا بتحقيق النصوص من مجموع الفتاوي لابن تيمية وقد تضمنها المجلد السابع والعشرون من ص 450 إلى ص 490. * ناقشنا آراء ابن تيمية وفي حالة عدوله عن الحقيقة - بحسن نية طبعا - رددنا عليه بآراء العلماء والمؤرخين الكبار الذين أخذ عنهم مثل الطبري والمسعودي وابن عبد ربه والقاضي ابن العربي والأمام القرطبي. * قمنا بتصويب الأخطاء الإملائية والتصحيفات والتحريفات وشرحنا معاني الألفاظ الغامضة. * خرجنا الآيات والأحاديث التي أوردها ابن تيمية رحمه الله حتى تكتمل الفائدة ويتيسر النقع. * أبدينا رأينا الشخصي في بعض المواضع التي تقتضي ذلك. * رحم الله ابن تيمية ومن نهج نهجه وحمل لواءه في نصر السنة وقمع البدعة.
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين
بسم الله الرحمن الرحيم * ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على تحقيق الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين: في المشهد المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بمدينة القاهرة: هل هو صحيح أم لا؟ وهل حمل رأس الحسين إلى دمشق، ثم إلى مصر، أم حمل إلى المدينة من جهة العراق؟. وهل لما يذكره بعض الناس من جهة المشهد الذي كان بعسقلان من صحة أم لا؟. ومن ذكر أمر رأس الحسين، ونقله إلى المدينة النبوية دون الشام ومصر؟. ومن جزم من العلماء المتقدمين والمتأخرين بأن مشهد عسقلان ومشهد القاهرة مكذوب، وليس بصحيح؟ وليبسطوا القول في ذلك، لأجل مسيس الضرورة والحاجة إليه، مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى.
الجواب
الجواب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله * بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي - رضي الله عنهما - الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك، لعلمهم وصدقهم. ولا يعرف عن عالم مسمى معروف بعلم وصدق أنه قال: إن هذا المشهد صحيح. وإنما يذكره بعض الناس قولا عمن لا يعرف، على عادة من يحكي من مقالات الرافضة (1) وأمثالهم من أهل الكذب. * فإنهم ينقلون أحاديث وحكايات، ويذكرون مذاهب ومقالات. وإذا
طالبتهم بمن قال ذلك ونقله؟ لم يكن لهم عصمة يرجعون إليها. ولم يسموا أحدا معروفا بالصدق في نقله، ولا بالعلم في قوله. بل غاية ما يعتمدون عليه. أن يقولوا: أجمعت طائفة الحقة. وهم عند أنفسهم الطائفة الحقة، الذين هم عند أنفسهم المؤمنون، وسائر الأمة كفار. * ويقولون: إنما كانوا على الحق لأن فيهم الإمام المعصوم، والمعصوم عند الرافضة الإمامية الاثنى عشرية (1) : هو الذي يزعمون أنه دخل سرداب سامرا بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري، سنة ستين ومائتين. وهو إلى الآن لم يعرف له خبر، ولا وقع له أحد على عين ولا أثر. * وأهل العلم بأنساب أهل البيت (2) يقولون: إن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب. ولا ريب أن العقلاء كلهم لا يعدون مثل هذا القول. واعتقاد الإمامة والعصمة في مثل هذا: مما لا يرصاه لنفسه إلا من هو أسفه الناس، وأضلهم وأجهلهم. وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا (3) . * والمقصود هنا: بيان جنس المقولات والمنقولات عند أهل الجهل والضلالات. فإن هذا المنتظر عند الجهال الضلال: يزعمون أنه عند موت أبيه. كان عمره إما سنتين، أو ثلاثا، أو خمسا، على اختلاف بينهم في ذلك. * وقد علم بنص القرآن والسنة المتواترة، وجماع (4) الأمة: أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله. فتكون نفسه محضونة مكفولة لمن
يستحق كفالته الشرعية، تحت من يستحق النظر في ماله من وصى أو غيره. وهو قبل السبع لا يؤمر بالصلاة. فإذا بلغ السبع أمر بها، فإذا بلغ العشر ولم يصل أدب على فعلها. فكيف يكون مثل هذا إماما معصوما، يعلم جميع الدين، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن به؟ ! * ثم بتقدير وجوده، وإمامته وعصمته، إنما يجب على الخلق أن يطيعوا من يأمرهم بما أمرهم الله به ورسوله، وينهاهم عما نهاهم عنه الله ورسوله، فإذا لم يروه ولم يسمعوا كلامه، لم يكن لهم طريق إلى العلم بما يأمر به وما ينهي عنه، فلا يجوز تكليفهم طاعته، إذ لم يأمر هم بشئ، وطاعته من لا يأمر، ممتنعة لذاتها. وإن قدر أنه يأمر، ولم يصل إليهم أمره، ولا يتمكنون من العلم بذلك، كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به، والتمكن من العلم شرط في الأمر، لا سيما عند الشيعة المتأخرين، فإنهم من أشد الناس منعا لتكليف ما لا يطاق، لموافقتهم المعتزلة في القدر والصفات أيضا. * وإن قيل: إن ذلك بسبب ذنوبهم، لأنهم أخافوه أن يظهر. قيل: هب أن أعداءه أخافو، فأي ذنب لأوليائه ومحبيه، وأي منفعة لهم من الإيمان به، وهو لا يعلمهم شيئا ولا يأمرهم بشئ؟ ثم كيف جاز له - مع وجوب الدعوة عليه - أن يغيب هذه الغيبة التي لها الآن (1) أكثر من أربعمائة وخمسين سنة. * وما الذي يسوغ له هذه الغيبة، دون آبائهم الموجودين قبل موتهم: كعلي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسين بن علي العسكري؟ ! * فإن هؤلاء كانوا موجودين يجتمعون بالناس وقد أخذ عن علي والحسن
والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد - من العلم ما هو معروف عند أهله، والباقون لهم سبر معروفة، وأخبار مشكوفة. * فما باله استحل هذا الاختفاء هذه المدة الطويلة أكثر من أربعمائة سنة، وهو إمام الأمة، بل هو على زعمهم، هاديها وداعيها ومعصومها، الذي يجب عليها الأيمان به. ومن لم يؤمن به فليس بمؤمن عندهم؟ فإن قالوا: الخوف. قيل: الخوف على آبائه كان أشد، بلا نزاع بين العلماء، وقد حبس بعضهم. ثم الخوف إنما يكن إذا حارب. فأما إذا فعل كما كان يفعل سلفه من الجلوس مع المسلمين وتعليمهم لم يكن عليه خوف. * وبيان ضلال هؤلاء طويل. وإنما المقصود بيانه هنا: أنهم يجعلون هذا أصل دينهم. ثم يقولون: إذا اختلفت الطائفة الحقة على قولين، وأحدهما يعرف قائله، والآخر، لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله الحق، وهكذا وجدته في كتب شيوخهم، وعللوا ذلك، بأن القول لا يعرف هو قائله يكون من قائليه الإمام المعصوم، وهذا نهاية الجهل والضلال. * وهكذا ما ينقلونه من هذا الباب، ينقلون سيرا وحكايات وأحاديث، إذا ما طالبتهم بإسنادها، لم يحلوك على رجل معروف بالصدق، بل حسب أحدهم أن يكون سمع ذلك من آخر مثله، أو قرأه في كتاب ليس فيه إسناد معروف، وإن سموا أحدا: كان من المشهورين بالكذب والبهتان. لا يتصور قط أن ينقلوا شيئا مما لا يعرفه علماء السنة إلا عن مجهول لا يعرف، أو عن معروف بالكذب. * ومن هذا الباب نقل الناقل: أن هذا مشهد الحسين رضي الله عنه، بل وكذلك مشاهير غير هذا مضافة إلى الحسين، بل ومشاهد مضافة إلى قبر
الحسين رضي الله عنه، فإنه باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمائة وأنه نقل من مشهد بعسقلان! وأن ذلك المشهد - بعسقلان - كان قد أحدث بعد التسعين وأربعمائة. * فأصل هذا المشهد القاهري هو ذلك المشهد العسقلاني. وذلك العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا بعد مقتله بقريب من خمسمائه سنة، وهذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، على اختلاف أصنافهم - كأهل الحديث، ومصنفي أخبار القاهره، ومصنفي التواريخ، وما نقله أهل العلم طبقة عن طبقة (1) . وهذا بينهم مشهور متواتر، سواء قيل: إن إضافته إلى الحسين صدق أو كذب - لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان في أواخر الدولة العبيدية. * وإذا كان أصل هذا المشهد القاهري هو ما نقل عن ذلك المشهد العسقلاني باتفاق الناس وبالنقل المتواتر، فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبنى على رأس الحسين رضي الله عنه: قول بلا حجة أصلا. فإن هذا لم ينقله أحد من أهل العلم الذين من شأنهم نقل هذا لا من أهل الحديث. ولا من علماء الأخبار والتواريخ، ولا من العلماء المصنفين في النسب: نسب قريش أو نسب بني هاشم ونحوه. * وذلك المشهد العسقلاني: أحدث في آخر المائة الخامسة، لم يكن قديما، ولا كان هناك مكان قبله، أو نحوه مضاف إلى الحسين، ولا حجر منقوش ولا نحوه مما يقال، إنه علامة على ذلك. * فتبين بذلك: أن إضافة المضيف مثل هذا إلى الحسين قول بلا علم أصلا. وليس مع قائل ذلك ما يصلح أن يكون معتمدا، لا نقل صحيح ولا ضعيف، بل لا فرق بين ذلك وبين أن يجئ الرجل إلى بعض القبور التي
بأمصار المسلمين، فيدعى أن في واحد منها رأس الحسين أو يدعى أنه قبر نبي من الأنبياء، أو نحو ذلك مما يدعيه كثير من أهل الكذب والضلال. * ومن المعلوم أن مثل هذا القول غير مقبول باتفاق المسلمين. * وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء: أن يدعى أنه رأى مناما، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه: إما رائحة طيبة، وإما خرق عادة ونحو ذلك، وإما حكاية عن بعض الناس: أنه كان يعظم ذلك القبر. * فأما المنامات فكثير منها، بل أكثرها كذب وقد عرفنا في زماننا بمصر والشام والعراق من يدعي أنه رأي منامات تتعلق ببعض البقاع إنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، ونحو ذلك، ويكون كاذبا. وهذا الشئ منتشر. * فرائي المنام قد يكون كاذبا، وبتقدير صدقه: فقد يكون الذي أخبره بذلك الشيطان. * ورؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شئ بالاتفاق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي (ص) أنه قال: (الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان) (1) .
* فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلا بد من تمييز نوع منها من نوع. * ومن الناس - حتى من الشيوخ الذين لهم علم وزهد - من يجعل مستنده في مثل ذلك: حكاية يحكيها عن مجهول. حتى يقول: حدثنى أخي الخضر أن قبر الحسين بمكان كذا وكذا - ومن المعلوم الذي بيناه في غير هذا الموضع أن الخضر قد مات (1) - أو رأى شخصا يقول: إني الخضر، أو ظن الرائي أنه الخضر، إن كل ذلك لا يجوز. * وأما ما يذكر من وجود رائحة طيبة، أو خرق عادة أو نحو ذلك بتعلق بالقبر: فهذا لا يدل على تعينه، وأنه فلان أو فلان، بل غاية ما يدل عليه - إذا ثبت - أن ذلك دليلا على صلاحه، وأنه قبر رجل صالح أو نبي (2) . * وقد تكون تلك الرائحة مما صنعه بعض المكتسبين من القبر، فإن هذا مما يفعله من هؤلاء، كما حدثني بعض أصحابنا: أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، كان عند أحد هما قبر تجبي عليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال، فعمد الآخر إلى قبر - زعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف - وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة. * وقد حدثني جيران القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع - الذي يقال إنه قبر نوح - وكان قد ظهر قريبا في أثناء المائة السابعة، وأصله: أنهم شموا من قبر
رائحة طيبة ووجدوا عظاما كبيرة، فقالوا: هذه تدل على كبر خلق الجنة فقالوا - بطريق الظن - هذا قبر نوح، وكان بالبقعة موتى كثيرون من جنس ذلك الميت (1) . * وكذلك هذا المشهد العسقلاني قد ذكر طائفة: أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم. * وقد يوجد عند قبور الوثنيين أشياء من جنس ما يوجد عند قبور المؤمنين من أمتنا، بل يزعم الزاعم أنه قبر الحسين ظنا وتخرصا. * وكان من الشيوخ المشهورين بالعلم والدين بالقاهرة من ذكرو عنه أنه قال: هو قبر نصراني. * وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال: إنه قبر أبي كعب. وقد اتفق أهل العلم على أن أبيا لم يقدم دمشق، وإنما مات بالمدينة، فكان بعض الناس يقولون: إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد. فإن اليهود والنصارى هم ائمة في (2) تعظيم القبور والمشاهد، ولهذا قال النبي (ص) في الحديث المتفق عليه: (لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا) (3) .
* والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: (أن النبي (ص) ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة رأرض الحبشة، وذكرنا من حسنها وتصاوير فيها. فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) . * والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم. فلا يستعبد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون، ليوافقوهم على تعظيمه. * كيف لا؟ وهم قد أضلوا كثيرا من جهال المسلمين حتى صاروا يعمدون أولادهم، ويزعمون أن ذلك يوجب طول العمر للولد (1) ، وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع، حتى صار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعضمها النصارى كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورها بينهم ونحوهم. * والذين يعظمون القبور والمشاهد: لهم شبه شديد بالنصارى، حتى إنه لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض فضلاء الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بينت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة وبلغني بعد ذلك أنه صنف كتابا في الرد على المسلمين، وإبطال نبوة محمد (ص) ، وأحضره بعض المسلمين، وجعل يقرؤه علي لأجيب عن حجج النصارى وأبين فسادها (2) . * وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني: أن قلت له: أنتم مشركون
وبينت من شركهم ما عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها، والاستغاثة بها. فقال لي: نحن ما نشرك بهم ونعبدهم: وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك. * فقلت له: وهذا أيضا من الشرك، وليس هذا من المسلمين، وإن فعله الجهال؟ فأقر أنه شرك، حتى إن قسيسا كان حاضرا في هذا المسألة، فلما قرأها قال: نعم، على هذا التقدير: نحن مشركون. * وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة، ولكن سيد وسيدة، لنا السيد المسيح والسيدة المريم، ولكم السيد حسين والسيدة نفيسة. * فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين وقسيسيهم مثل قضاة المسلمين، ويضاهؤون المسلمين، فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله. * ولهذا يسهل إظهار الإسلام على كثير من المنافقين الذين أسلموا منهم، فإن عنده: أن المسلمين والنصارى كأهل المذاهب من المسلمين، بل يسمون الملل مذاهب، ومعلوم أن أهل المذاهب - كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - دينهم واحد. وكل من عطاء الله ورسوله منهم بحسب وسعه كان مؤمنا سعيدا باتفاق المسلمين. * فإذا اعتقد النصارى مثل هذا من الملل يبقي انتقال أحدهم عن ملته كانتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب. وهذا كثيرا ما يفعله الناس لرغبة أو
رهبة. فإذا بقي عقاربه وأصدقاؤه على المذهب الأول لم ينكر ذلك، بل يحبهم ويودهم في الباطن. لأن المذهب كالوطن، والنفس تحن إلى الوطن، إذا لم تعتقد أن المقام به محرم. * فلهذا يوجد كثير ممن أظهر الإسلام من أهل الكتاب لا يفرق بين المسلمين وأهل الكتاب. * ثم منهم من يميل إلى المسلمين أكثر، ومنهم من يميل إلى ما كان عليه أكثر. ومنهم من يميل إلى أولئك من جهة الطبع والعادة، أو من جهة الجنس والقرابة والبلد، والمعاونة على المقاصد. ونحو ذلك. * وهذا كما أن الفلاسفة ومن سلك سبيلهم من القرامطة (1) والاتحادية (2) ونحوهم، يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين واليهود والنصارى. ومعلوم أن هذا كله كفر باتفاق المسلمين. * فمن لم يقر باطنا وظاهرا بأن الله لا يقبل دين سوى الإسلام (3) ،
فليس بمسلم. * ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد (ص) ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرا (1) ، فليس بمسلم. ومن لم يحرم التدين - بعد مبعثه (ص) - بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين. والمقصود هنا: أن النصارى يحبون أن يكون المسلمين ما يشابهونهم به ليقوي بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون من دينهم. * ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بمخالفة اليهود والنصارى، كما قد بسطناه في كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) . وقد حصل للنصارى من الجهال كثير من مطلوبهم، لا سيما من الغلاة من الشيعة، وجهال النساك والغلاة في المشايخ، فإن فيهم شبها قويا بالنصارى في الغو، والبدع في العبادات ونحو ذلك، فلهذا يلبسون على المسلمين في مقابر تكون من قبورهم، حتى يتوهم الجهال أنها من قبور صالحي المسلمين. وإذا كان ذلك المشهد العسقلاني قد قال طائفة: إنه قبر بعض النصارى أو بعض الحواريين - وليس معنا ما بدل أنه قبر مسلم - فضلا عن أن يكون قبرا لرأس الحسين - كان قول من قال: إنه قبرا مسلم - الحسين أو غيره - قولا مردودا على قائله. فهذا كاف في المنع من أن يقال: هذا مشهد الحسين.
فصل * ثم نقول: بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدا للحسين، من وجوه متعددة. * منها: أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة، ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة. وقد جائت خلافة بني العباس وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا. وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هنالك مشهدا. وكان ينتابه أمراء عظماء. حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة، وحتى أن المتوكل تقدم فيه بأشياء، يقال: إنه بالغ في إنكار ذلك، وزاد على الواجب. * دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون أبدا المشاهد، سواء كانت صدقا أو كذبا، كما حدث فيما بعد. لأن الإسلام كان حينئذ يغد في قوته وعنفوانه. ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في شئ في بلاد الإسلام - لا الحجاز، ولا اليمن ولا شام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب - مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولاصالح أصلا. بل عامة المشاهد محدثة بعد ذلك.
* وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثرت فيهم الزنادقة المنتسبون إلى الإسلام. وعلت فيهم كلمة أهل البدع. وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية (1) بأرض الغرب. ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر. * وقريبا من ذلك: يقال إنه حدثت المكوس (2) في الإسلام. * وقريبا من ذلك: ظهر بنو بويه الأعاجم: وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية وفي دولتهم قوى بنوا عبيد القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقيل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أنه حكى عن الرشيد. أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا هو قبر علي، وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن شعبة، والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع. * فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد - مع ما كان في الطائفين من الغلو في التشيع. حتى إنهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله، مثل تعليق المسوح على الأبواب، وأخراج النوائح بالأسواق، وكان الأمر يفضي إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه. وبسبب ذلك خرج الخرقي صاحب المختصر في الفقه من بغداد، لما ظهر بها سب السلف. وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق في تلك الأوقات: أنهم أخذوا الحجر الأسود، وبقي معهم مدة، وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم.
* فإذا كان مع هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون أعلم بذلك من المتأخرين، فإذا كان مع توفر الهمم والدواعي والتمكين والقدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب مثل من يدعي أنه شريف علوي: وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم على ذلك لو كان صحيحا، فإنه بهذا يعلم كذب هذا المعي، وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص على علي، أو غير ذلك من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها ولم ينقل. * الوجه الثاني أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله - مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، وأبي القاسم البغوي وغيرهما - لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان، ولا إلى القاهرة. * وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دحية في كتابه الملقب بالعلم المشهور في فضائل الأيام والشهور،! ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا على أن الرأس لم يغترب (1) ، وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق: وأنه لا أصل له، وبسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك. * الوجه الثالث أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين أن الرأس حمل إلى المدينة (2) ودفن عند أخيه.
* ومن المعلوم: أن الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد ابن سعد كاتب الواقدي، صاحب الطبقات ونحوهما من المعروف بالعلم والثقة والاطلاع: أعلم بهذا الباب، وأصدق فيما ينقلو به (1) من المجاهليل والكذابين، وبعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم ولا أصدقهم، بل قد يكون الرجل صادقا، ولكن لا خبرة له بالأسانيد. حتى يميز بين المقبول والمردود، أو يكون سئ الحفظ أو متهما بالكذب، أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الإخبارين والمؤرخين، ولا سيما إذا كان مثل أبي مخنف لوط بن يحيى (2) وأمثاله * ومعلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبي وأبيه محمد بن السائب وأمثالها، وقد علم كلام الناس في الواقدي، فإن ما يذكره هو وأمثاله يعتضد به، ويستأنس به. وأما الاعتماد عليه بمجرده في العلم: فهذا لا يصلح. * فإذا كان المعتمد عليهم يذكرون أنه دفن بالمدينة، وقد ذكر غيرهم: أنه إما أنه عاد إلى البدن، وإما أنه بحلب، أو بدمشق، أو نحو ذلك من الأقوال التي لا أصل لها، ولم يذكر من يعتمد عليه أنها بعسقلان - علم أن ذلك باطل، إذ يمتنع أن يكون أهل العلم والصدق: على الباطل. وأهل الجهل والكذب: على الحق في الأمور النقلية، التي تؤخذ عن أهل العلم والصدق،
لا عن أهل الجهل والكذب. * الوجه الرابع الذي ثبت في صحيح البخاري (أن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه بحضرة أنس بن مالك) (1) وفي المسند (أن ذلك كان بحضرة أبي برزة الأسلمي) (2) ولكن بعض الناس روى بإسناد منقطع (أن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية) وهذا باطل. فإن أبا برزة، وأنس بن مالك، كانا با لعراق لم يكونا بالشام، ويزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين، فمن نقل أنه نكث بالقضيب بحضرة هذين قدامه فهو كاذب قطعا، كذبا معلوما بالنقل المتواتر. * ومعلوم بالنقل المتواتر: أن عبيد الله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين، وقد ثبت بالنقل الصحيح: أنه هو الذي أرسل عمر بن سعد مقدما على الطائفة التي قاتلت الحسين، وامتنع عمر من ذلك، فأرغبه وأرهبه حتى فعل ما فعل (3) . * وقد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة: أنه لما كتب أهل العراق إلى الحسين، وهو بالحجاز: أنه يقدم عليهم، وقالوا: إنه قد أميتت السنة، وأحييت البدعة. وأنه، وأنه، حتى يقال: إنهم أرسلوا إليه كتبا ملء صندوق وأكثر، وأنه أشار عليه الأحباء الأنباء. فإنه كما قيل: وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه * وما كل مؤت نصحه بلبيب * فقد أشار عليه مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وغيرهما
بأن لا يذهب إليهم. وبذلك كان قد وصاه أخوه الحسين (1) : واتفقت كلمتهم على أن هذا لا مصلحة فيه، وأن هؤلاء يكذبونه ويخذلونه، إذ هم أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها، وأن أباه كان أفضل منه وأطوع في الناس، وجمهور الناس معه. ومع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه والخذلان له ما الله به عليم. حتى صار يطلب السلم بعد أن كان يدعو إلى الحرب. وما مات إلا وقد كرهم كراهة الله بها عظيم. وقد دعا عليهم وتبرم بهم. * فلما ذهب الحسين رضي الله عنه، وأرسل ابن عمه عقيل (2) إليهم، وتابعه طائفة. ثم لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة، قاموا مع ابن زياد، وقتل عقيل وغير هما. فبلغ الحسين ذلك، فأراد الرجوع، فوافه سرية عمر بن سعد، وطلبوا منه أن يستأسر لهم، فأبى، وطلب أن يردوه إلى يزيد بن عمه، حتى يضع يده في يده، أو يرجع من حيث جاء، أو يلحق ببعض الثغور، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك، بغيا وظلما وعدوانا. وكان من أشدهم تحريضا عليه: شمر بن الجوشن (3) . ولحق بالحسين طائفة منهم، ووقع القتل حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة، رضي الله عنهم وأرضاهم. وأهان بالبغي والظلم والعدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم، واستحله من دمائهم * (ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء) * (4) وكان ذلك من نعمة الله على الحسين، وكرامته له، لينال منازل الشهداء، حيث لم يحصل له من أول الأسلام من الابتلاء والامتحان ما حصل لسائر أهل بيته، كجده (ص) ، وأبيه وعمه، وعم أبيه رضي الله عنهم. فإن بني هاشم أفضل القريش، وقريشا أفضل العرب والعرب أفضل بني آدم، كما صح ذلك عن النبي (ص) ، قوله في الحديث الصحيح: (إن الله اصطفى
بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش) . * وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) . * وفي السنن: (أنه شكا إليه العباس: أن بعض قريش يحقرونهم، فقال: والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي) . * وإذا كانوا أفضل الخلائق فلاريب أن أعمالهم أفضل الأعمال (1) . * وكان أفضلهم رسول الله (ص) ، الذي لا عدل (2) له من البشر، ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل وبني إسرائيل وغيرهم. * ثم علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث: هم من السابقين الأولين من المهاجرين. فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل. ولهذا لما كان يوم بدر أمرهم النبي (ص) بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. فقال النبي (ص) : (قم يا حمزة. قم يا عبيدة. قم يا علي) فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من هاشم. * وقد ثبت في الصحيح: أن فيهم نزل قوله: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم - الآية) * (3) . وإن كان في الآية عموم. * ولما كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الإسلام، ولم ينلهما من الأذي والبلاء ما نال سلفهما الطيب،
فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الإبتلاء، ليرفع درجاتهما. وذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده، كما أكرم حمزة عليا وجعفرا وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة. * وفي المسند وغيره: عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي (ص) أنه قال: (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبة، وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا (1) ، إلا أعطاء الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها) . فهذا الحديث رواه الحسين، وعنه بنته فاطمة التي شهدت مصرعه. وقد علم الله أن مصيبة تذكر على طول زمان. * فالمشروع إذا ذكرت المصيبة وأمثالها أن يقال: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * (اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها) . قال تعالى: * (وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون) * قال تعالى: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون) *. * والكلام في أحوال الملوك على سبيل التفصيل: متعسر أو متعذر، لكن يعلم من حيث الجملة، وهم أنهم هم وغير هم من الناس ممن له حسنات وسيئات يدخلون بها في نصوص الوعد (2) ، أو نصوص الوعيد (3) . * وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه
الله، موافقا للسنة (1) . فإن النبي (ص) قيل له: (الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، وقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل لله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل لله) . * وكذلك شمول نصوص الوعيد له مشروط بأن لا يكون متأولا تأويلا مخطئا. فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. * وكثير من تأويلات المتقدمين ومن يعرض لها فيها من الشبهات معروفة بما يحصل بها من الهوى والشهوات، فيأتون ما يأتونه بشبهة وشهوة. * والسيئات التي يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة، وقد تزول بحسنات ماحية، ومصائب مكفرة. وقد تزول بصلاة المسلمين عليه، وبشفاعة النبي (ص) يوم القيامة في أهل الكبائر (2) . فلهذا كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر - كالحجاج وأمثاله - لأنهم لا يلعنون أحدا بعينة، بل يقولون كما قال الله تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (3) فيلعنون من لعنه الله ورسوله عاما، كقوله (ص) : (لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وساقيها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) ولا يلعنون المعين. كما ثبت في صحيح البخاري وغير: (أن رجلا - كان يدعى حمارا - وكان يشرب الخمر، وكان النبي (ص) يجلده، فأتى به مرة، فلعنه رجل، فقال النبي (ص) : (لا تلعنه. فإنه يحب الله ورسوله) . * وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، والوعيد العام قد ينتفي في حق
المعين لأحد الأسباب المذكورة، من توبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة. وغير ذلك. * وطائفة من العلماء يلعنون المعين، وطائفة بإزاء هؤلاء يقولون: بل نحبه، لما فيه من الإيمان يوالي عليه، إذ ليس كافرا. * والمختار عند الأئمة: أنا لا نلعن معينا، ولا نحب معينا، فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا إذا إجتمع فيه من حب الأمرين. * إذ كان من أصول أهل السنة، التي فارقوا بها الخوارج (1) والمعتزلة (2) والمرجئة (3) : أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب على حسناته، ويعاقب على سيئاته. ويحمد على حسناته، ويذم على سيئاته. وأنه من وجه: مرضى محبوب، ومن وجه: بغيض مسخوط، فلذا كان لأهل الأحداث: هذا الحكم. * وأما أهل التأويل المحض، الذي يسوخ تأويلها: فأولئك مجتهدون مخطئون خطؤهم مغفور لهم. وهم مثابون على ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحق وأتباعه. كما قال النبي (ص) : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) . * ولهذا كان الكلام في السابقين الأولين ومن شهد له بالجنة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم: له حكم آخر، بل ومن هو دون هؤلاء، مثل أكابر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة. وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة..* وقد ثبت في الصحيح عن النبي (ص) أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) .
* فهؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم: إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورا أو ذنبا مغفورا، أو اجتهادا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه، فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، رضي الله عنهم وأرضاهم - لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفتري، مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه أمر بقتل عثمان، أو أعان عليه، وكان بعض من يقاتله يظن ذلك فيه، وكان ذلك من شبههم التي قاتلوه بها وهي شبهة باطلة. وكان علي يحلف - وهو الصادق البار -: (إني ما قتلت عثمان، ولا أعنت على قتله) ويقول (اللهم شئت قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل) وكانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتله عثمان من شبههم في قتاله. وعلي لم يكن متمكنا من أن يعمل. كل ما يريده من إقامة الحدود، ونحو ذلك، لكون الناس مختلفين ملتاث أمرهم، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به. فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام. * ويزيد بن معاوية: قد أتى أمورا منكرة منها: وقعة الحرة، وقد جاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: (المدينة حرم ما بين عاثر إلى كذا. من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) وقال (من أراد أهل المدينة بسوء أماعه الله كما ينماع الملح في الماء) . * ولهذا قيل للإمام أحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟. وقيل له: إن قوما يقولون: إنا نحب يزيد: فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدا. انتهى.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات: فأمره إلى الله تعالى. * وهذا الذي ذكرناه: هو المتفق عليه بين الناس في مقتله رضي الله عنه. * وقد رويت زيادات: بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها كذب موضوع. * والمصنفون من أهل الحديث في ذلك - كالبغوي، وابن ابي الدنيا، ونحوهما: كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات - هم ذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم. لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة، بخلاف الإخباريين، فإن كثيرا مما يسندونه: يسندونه عن كذاب أو مجهول. أما ما يرسلونه: فظلمات بعضها فوق بعض، وهؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسندا أو مرسلا. * وإما أهل الأهواء ونحوهم: فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلا، لا ثقة ولا ضعيف، وأهون شئ عندهم الكذب المختلق، وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة، بل إلى سماعات عن المجاهيل والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين. * فقد تمن أن القصة التي يذكرون فيها حمل الرأس إلى يزيد، ونكته بالقضيب: كذبوا فيها: وإن كان الحمل إلى ابن زياد - وهو الناكت بالقضيب - ولم ينقل بإسناد معروف عن الرأس حمل إلى قدام يزيد. * ولم أر في ذلك إلا إسنادا منقطعا، قد عارضه من الروايات ما هو أثبت منها وأظهر - نقلوا فيها: أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أطهر التألم (1) من ذلك.
وقال: لعن الله أهل العراق، لقد كنت أرضى من طاعتهم بدون هذا. * وقال في ابن زياد: أما إنه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله (2) ، وأنه ظهر في داره الندب لقتل الحسين، وأنه لما قدم عليه أهله وتلاقي النساء تباكن، وأنه خبر ابنه عليا بين المقام عنده والسفر إلى المدينة، فأختار السفر إلى المدينة فجهزه إلى المدينة جهازا حسنا. * فهذا ونحوه مما نقلوه بالأسانيد التي هي أصح وأثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول: يبين أن يزيد لم يظهر الرضى بقتل الحسين، وأنه أظهر الألم لقتله. والله أعلم بسريرته. * وقد علم أنه يأمر (1) بقتله ابتداء، لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه، ولا عاقبهم على ما فعلوا، إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه، ولو قام بالواجب في الحسين وأهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، ولم يظهر له من العدل وحسن السيرة ما يوجب حمل أمره على أحسن المحامل، ولا نقل أحد أنه كان على أسوإ الطرائق التي توجب الحد، ولكن ظهر من أمره في أهل الحرة ما لا نستريب أنه عدوان محرم وكان له موقف في القسطنطينية - وهو أول جيش غزاها - ما يعد من الحسنات. * والمقصود هنا: أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد، فكيف بنقله بعد زمن يزيد؟ وإنما الثابت: هو نقله إلى أمير العراق عبد الله بن (2) زياد بالكوفة، والذي ذكر العلماء، أنه دفن بالمدينة.
* وأما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول: من أن أهل البيت سبوا، وأنهم حملوا على البخاتي، وأن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان: فهذا الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله. فإن البخاتي لا تستر امرأة، ولا سبي أهل البيت أحد، ولا سبي منهن أحد. بل هذا كما يقولون: الحجاج قتلهم. * وقد علم أهل النقل كلهم. أن الحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم، كما عهد إليه خليفته عبد الملك، وأنه لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر: شق ذلك على بني أمية وغيرهم من قريش، ورأوه ليس بكفء لها، ولم يزالوا به حتى فرقوا بينه وبينها. بل بنو مروان على الإطلاق لم يقتلوا أحدا من بني هاشم، لا آل علي، ولا آل عباس، إلا زيد بن علي (1) المطلوب بكناسة الكوفة، وابنه يحيى. * الوجه الخامس أنه لو قدر أنه حمل إلى يزيد فأي غرض لهم في دفنه بعسقلان، وكانت إذ ذاك ثغرا بقيم بها المرابطون؟ فإن كان قصدهم تعفية خبره فمثل عسقلان تظهره، لكثرة من ينتابها للرباط، وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال: إنه عدو له مستحل لدمه، ساع في قتله؟ * ثم من المعلوم: أنه دفنه قريبا عند أمه وأخيه بالبقيع أفضل له. الوجه السادس أن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتل الرجل فيهم - لم يكن منهم - سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلمه إلى أهله. * وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن زبير، وأن ما كان بينه وبينه من الحروب: أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه، فأن ابن زبير ادعاها بعد مقتل الحسين، وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد الحرة.
* ثم تولى عبد الملك غلبه على العراق مع الشام، ثم بعث إليه الحجاج ابن يوسف، فحاصره الحصار المعروف حتى قتل، ثم صلبه، ثم سلمه إلى أمه. * وقد دفن بدن الحسين في مصرعة بكربلاء، ولم ينبش، ولم يمثل به فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه إلى أهله، كما سلموا بدن ابن الزبير إلى أهله، وإذا تسلم أهله رأسه، فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه وأمه وأخيه، وقريبا من جده (ص) ، ويدفنونه بالشام، حيث لا أحد إذ ذاك ينصرهم على خصومهم؟ بل كثير منهم كان يبغضه ويبغض أباه. هذا لا يفعله أحد. * والقبة التي على العباس (1) يقال: إن مع العباس الحسن، وعلى ابن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وجعفر بن محمد. ويقال: إن فاطمة تحت الحائط، أو قريبا من ذلك وأن الرأس الحسين هناك أيضا. الوجه السابع أنه لم يعرف قط أن أحدا، لا من السنة، ولا من الشيعة، كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين، ولا يزورونه ولا يأتونه، كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التي تضاف إلى الرأس في هذا الوقت، كموضع بحلب. * فإذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها (2) ولا يقصدونها، وإنما كانوا ينتابون كربلاء، لأن البدن هناك. كان دليلا على أن الناس فيما مضى لم يكونوا يعتقدون أن الرأس في شئ من هذه البقاع، ولكن الذي اعتقدوه: هو وجود البدن بكربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى إن في مسائله: مسائل فيما يفعل عند قبره، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعة الكبير في زيارة المشاهد. * ولم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يزورون التي بالشام موضع الرأس
في شئ من هذا البقاع غير المدينة. * فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم. ولو اعتقدوا ذلك لعلموا ما جرت عادتهم بعلمه، ولأظهروا ذلك وتكلموا به، كما تكلموا في نظائره. * فلما لم يظهر عن المتقدمين - بقول ولا فعل - ما يدل على أن الرأس في هذه البقاع: علم أن ذلك الباطل. والله أعلم. الوجه الثامن أن يقال: ما زال أهل العلم في كل وقت وزمان يذكرون في هذا المشهد القاهري المنسوب إلى الحسين: أنه كذب ومين (1) ، كما يذكرون ذلك في أمثاله من المشاهد المكذوبة، مثل المشاهد المنسوبة بدمشق إلى أبي بن كعب وأويس القرني، أو هود أو نوح أو غير هما: والمشهد المنسوب بحران إلى جابر بن عبد الله (2) ، وبالجزيرة إلى عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر ونحوهما. وبالعراق إلى علي رضي الله عنه ونحوه، وكذلك ما يضاف إلى الأنبياء غير قبر نبينا محمد (ص) ، وإبراهيم الخليل عليه السلام. * فإنه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقا، كان أهل العلم في كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق، والكتب والمنصفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من ثمل هذا. يعرف ذلك من تتبعه وطلبه. * وما زال الناس في مصنفاتهم ومخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهري من المكذوبات المختلقات، ويذكرون ذلك في المنصفات، حتى من سكن هذا البلد من العلماء بذلك. فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية في كتابه (العلم المشهور) في هذا المشهد فصلا مع ما ذكره في مقتل الحسين من أخبار ثابتة وغير ثابتة، ومع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالإجماع، وبين أنه نقل من عسقلان في آخر الدولة العبيدية،
وأنه وضع لأغراض فاسدة، وأنه بعد ذلك بقليل أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض (1) قصدها. * وما زال ذلك مشهورا بين أهل العلم حتى أهل عصرنا من ساكني الديار المصرية: القاهرة، وما حولها. * فقد حدثني طائفة من الثقات، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق العيد، وطائفة عن الشيخ أبي محمد عبد المؤمن ابن خلف الدمياطي، وطائفة عن الشيخ أبي محمد بن القسطلاني، وطائفة عن الشيخ أبي عبد الله محمد القرطبي، صاحب التفسير وشرح أسماء الله الحسني، وطائفة عن الشيخ عبد العزيز الديريني - كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثه من هؤلاء: أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول: إنه كذب، وأنه ليس فيه الحسين ولا رأسه. والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إن فيه نصرانيا، بل القرطبي والقسطلاني ذكروا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما. وبينا فيها أنه كذب، كما ذكره أبو الخطاب بن دحية. * وابن دحية هو الذي بنى له الكامل دار الحديث الكاملية، وعنه أخذ أبو عمرو ابن الصلاح ونحوه كثيرا مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات، وليس الاعتماد في هذا على واحد بعينه، بل هذا إجماع من هؤلاء. * ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم وأدين (2) من هؤلاء ونحوهم * فإذا كانوا متفقين على أن هذا كذب ومين: علم أن الله قد برأ منه الحسين.
* وحدثني من حدثني من الثقات: أن من هؤلاء من كان يوصي أصحابه بأن لا يظهروا ذلك عنه، خوفا من شر العامة بهذه البلاد، لما فيهم من الظلم والفساد. إذ كانوا في الأصل رعية للقرامطة (1) الباطنيين، واستولوا عليها مائتي سنة. فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين، وأهل الجهل المبتدعين، وأهل الكذب الظالمين: ما لم يمكن أن ينقلع إلا بعد حين، فإنه قد فتحها أهل الإيمان والسنة في الدولة النورية والصلاحية، وسكنها من أهل الإسلام والسنة من سكنها، وظهرت بها كلمة الإيمان والسنة نوعا من الظهور، ولكن النفاق والبدعة فيها كثير متور، وفي كل وقت يظهر الله فيها من الإيمان والسنة ما لم يكن مذكورا، ويطغي فيها من النفاق والجهل ما كان مستورا. * والله هو المسؤول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه ويرضاه، من الهدى والسداد ويعظم على عباده الخير بظهور الإسلام والسنة. ويحقق ما وعد به في القرآن من علو كلمته، وظهور أهل الإيمان. * وكثير من الناس قد تخلق بأخلاق هي في الأصل من أخلاق الكفار والمنافقين وإن لم يكن بذلك من العارفين، كما يشارك النصارى في أعيادهم، ويعظم ما يعظمونه من الأمكنة والأزمنة والأعمال. وهو لا يقصد بذلك تعظيم الكفر، بل ولا يعرف أن ذلك من خصائصهم، فإذا عرف ذلك انتهى عنه وتاب منه. * وكذلك كثير من الناس تخلقوا من أخلاق أهل النفاق بأمور، لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين، وإذا عرف ذلك كان إلى الله من الطائبين. والله يتوبوا علينا وعلى جميع المذنبين. وهذا كله كلام في بطلان ذلك، وفي كذبه. * ثم نقول: سواء كان صحيحا أو كذبا، فإن بناء المساجد على المقابر ليس من دين المسلمين، بل هو منهى عنه بالنصوص الثابتة عن النبي (ص) واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء
المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهى عن ذلك وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غير نبي، وكل من قال: إن قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني (1) على قبر أو مشهد، أو غير ذلك: أمر مشروع، بحيث يسحب ذلك ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه: فقد مرق من الدين، وخالف إجماع المسلمين. والواجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. * بل ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي على القبور (2) ولو لم يقصد الصلاة عندها، فلا يفعل ذلك لا اتفاقا ولا ابتغا، لما في ذلك من التشبه بهم، والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. منهم من صرح
بالتحريم (1) . ومنهم من أطلق الكراهة. وليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة في المقبرة العامة. فإن تلك منهم من يعلل النهي عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين. * وأما المساجد المبنية على القبور. فقد كرهوه، ومعللين بخوف الفتنة (2) بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين. * وقد نهى النبي (ص) عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وقال (إنه حينئذ يسجد لها الكفار) فنهى عن ذلك، لما فيه من المشابهة لهم، وإن لم يقصد السجود إلا للواحد المعبود (3) .
فكيف بالصلاة في المساجد التي على القبور؟ وهذه المسألة قد بسطناها في غير هذا الجواب. * وإنما كان المقصود: تحقيق مكان رأس الحسين رضي الله عنه، وبيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر والشام: أنها مشهد الحسين، وأن فيها رأسه فهي كذب واختلاق، وإفك وبهتان. والله أعلم.