ذيل مرآة الزمان

اليونيني، أبو الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله الحمد لله مصرّف الدهور، وخالق الأزمنة عن مر الأيام والليالي والشهور، أحمده على نعمه التي شملت الأمم جيلاً بعد جيل، وعرفت أخبار من سلف في القرآن والتوراة والإنجيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبصر بعواقب الطائعين والعاصين وتقضي بنجاة من أقر بها من الدانين والقاصين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى الأمة إلى مناهج سبلهم، وندبوا على لسانه كيف نسير في الأرض فينظرون كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما بقيت الأيام والليالي، وعرفت أخبار الأمم السالفين في العصور الخوالي.

أما بعد فإنه لما كانت الأذهان مصروفة إلى معرفة أخبار من مضى، والإطلاع على أحوال من قضى الله له بما قضى، ليستفاد بذلك سيرة الطراز الأول والوقوف عند نص أحاديثهم التي بها يعتبر وعليها يعوّل، صنف الناس في ذلك كتباً، وساروا بأفكارهم فجلبوا من أخبار الأمم حطباً وذهباً، ولما وقفت على بعض ما نصوه، وتأملت ما انبأوا به عن السالفين وقصّوه، رأيت اجمعها مقصداً وأعذبها مورداً وأحسنها بياناً وأصحها روايةً يكاد خبرها يكون عياناً الكتاب المعروف بمرآة الزمان تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي المظفّر يوسف سبط الإمام الحافظ جمال الدين عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله الذي ضمّنه ما علا قدره على كل نبيه، وفاق به على من يناويه، فشرعت في اختصاره وأخذت في اقتصاره فلما أنهيته مطالعةً وحررته اختصاراً ومراجعةً وجدته انقطع إلى سنة أر بع وخمسين وستمائة - وهي السنة التي توفي فيها المصنف رحمه الله في أثنائها فأثرت أن أذيله بما يتصل به سببه إلى حيث يقدره الله تعالى من الزمان، مع أني لست من فرسان هذا الميدان، وربما ذكرت وقائع متقدمة على سنة بع وخمسين أو من تقدمت وفاته على سبيل الاستطراد أو لمعنى اقتضى ذلك ولعل بعض من يقف عليه ينتقد الإطالة في بعض الأماكن والاختصار في بعضها، وإنما جمعت هذا الذيل لنفسي وذكرت ما اتصل بعلمي وسمعته من أفواه الرجال ونقلته من خطوط الفضلاء والعمدة في ذلك لا علي واسأل من الله تعالى التوفيق والهداية إلى سواء الطريق بمنّه وكرمه وخفي لطفه.

سنة أربع وخمسين وستمائة

سنة أربع وخمسين وستمائة استهلت هذه السنة وخليفة المسلمين ببغداد دار ملكه وهو الأمام المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله أمير المؤمنين أبن الإمام المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد رحمه الله تعالى وملك الشام والبلاد الفراتية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمّد وملك الديار المصرية الملك المعز عز الدين أيبك التركماني وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل وصاحب الموصل وبلادها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي وصاحب ميافارقين وديار بكر وتلك الأعمال الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل والمستولي على أربل وأعمالها وما أضيف إليها الصاحب تاج الدين محمد ابن صلايا العلوي من جهة الخليفة والنائب في حصون الإسماعيلية الثمانيّة بالشام رضي الدين أبو المعالي وصاحب صهيون وبرزيه وبلاطنس الأمير مظفر الدين عثمان بن الأمير ناصر الدين منكورس. وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب وصاحب تلّ باشر والرحبة وتدمر وزلوبيا

الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن إبراهيم بن شيركوه - ابن محمد بن شيركوه - بن شاذي وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله على ساكنها وسلامه الأمير عز الدين أبو مالك منيف بن شيحة بن قاسم الحسيني وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف قتادة الحسيني وصاحب ماردين الملك السعيد إيلغازي الأرتقي وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدّين يوسف بن عمر وخرا سان وما وراء النهر وخوارزم وخلاط وبلد فارس ومعظم الشرق بأسره بيد التتار وصاحب الرّوم السلطان ركن الدين وأخوه عز الدين والبلاد بينهما مناصفة وهما في طاعة هولاكو ملك التتار. وفي هذه السنة ورد إلى دمشق كتب من المدينة صلوات الله على ساكنها وسلامه تاريخها خامس شهر رجب ووصلت في عاشر شعبان ونحوه تتضمن خروج نار بالمدينة وفيما تضمنته الكتب لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الأخرى سنة أربع وخمسين ظهر بالمدينة دويٌ عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت منها المدينة والحيطان والسقوف والأخشاب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور ظهرت نار عظيمة في الحرة بالقرب من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنّها عندنا وهي نار عظيم إشعالها وقد سالت أودية منها

بالنار إلى وادي شطا مسيل الماء وقد سدّت مسيل شطا وما عاد يسيل والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً وقد سدّت الحرة طريق الحاج العراقي وسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعدما أشفقنا أن تجئ إلينا ورجعت تسير في الشرق تخرج من وسطها مهود وجبال نيران تأكل الحجارة منها أنموذج عما أخبر الله في كتابه العزيز فقال عز من قائل - إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر - وقد أكلت الأرض وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين والنار في زيادة ما تغيرت وقد عادت إلى الحرارة في طريق قريظة طريق الحاج العراقي كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج، وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر والأم الكبيرة النار التي سالت النيران منها من عند قريظة وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك والله يجعل العاقبة إلى خير وما أقدر صف هذه النار. ومن كتاب أخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الأخرى وقع بالمدينة صوت يشبه الرعد البعيد تارة وتارة وأقام على هذه الحالة يومين فلما كان يوم الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلزال فتقيم على هذه الحالة ثلاثة أيام يقع في اليوم والليلة أربع عشر زلزلة فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور أنتجت الأرض من الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل

مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مرأى العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر كما قال الله تعالى وهي بموضع يقال له أجلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصفا وهي تجري على وجه الأرض وتخرج منه امهاد وجبال صغار تسير على الأرض وهو صخر يذوب حتى تبقى مثل الآنك فإذا خمد صار أسود وقبل الجمود لونه أحمر وقد حصل بطريق هذه النار إقلاع عن المعاصي والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها. ومن كتاب شمس الدين سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه لما كان ليلة الأربعاء ثالث شهر جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة النبي صلى الله علي وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذي فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف ثم طلع يوم الجمعة في طريق العنزة في رأس أجلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة وما باتت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً وطلعت إلى الأمير وكلمته وقلت له قد أحاط

بنا العذاب ارجع إلى الله فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم فلما فعل هذا قلت له أهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله علي وسلم فهبط وبتنا ليلة السبت الناس جميعهم والنسوان وأولادهم وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله علي وسلم وأشفقنا منها فظهر ضوءها إلى أن أبصرت من مكة ومن الفلاة جميعها ثم سال منها نهر من نار وأخذ في وادي أجلين وسدّت الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري سيل قط لأنها حرة تجيء قامتين وثلث علوها وبالله يا أخي إن عيشنا اليوم مكروه والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب وتمت تسير إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض البحيرة بحرة الحاج وجاء في الوادي إليها منا قتير وخفنا أنها تجئنا واجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله علي وسلم وبات عنده جميعهم ليلة الجمعة وأما قتيرها الذي يلينا فقد طفئ بقدرة الله تعالى وأنها إلى الساعة ما نقصت إلا ترمي مثل الجبال حجارة من نار لها دوى ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن سعد وجاء وغدا إليها وما أصبح يقدر يصفها من عظمها وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهي على حالها والناس منها

خائفون والشمس والقمر من يوم طلعت ما يطلان إلا كاسفين فنسأل الله العافية، ومن كتاب بعض بني القاشاني بالمدينة يقول فيه وصل إلينا في جمادى الآخرة نجّابة من العراق أخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوار بغداد إلى البلد وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة وسط البلد وانهد مت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير وعادت السفن تدخل إلى وسط البلد وتتخرق أزقة بغداد قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم لما كان ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها - بيومين - عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد ساعة بعد ساعة وما في السماء غيم حتى أنه منذ يومين إلى ليلة الأربعاء ثم ظهر الصوت حتى سمعه الناس وتزلزلت الأرض ورجفت بنا رجفة لها صوت كدوي الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى وذكر بمعنى ما تقدم ثم قال والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حدة العريض ثم سكنت ووقفت أياماً ثم عاد تخرج من النار ترمي بحجار خلفها وأمامها حتى بنت لها جبلين خلفها ما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً ثم أنها عظمت الآن وشباها إلى الآن وهي تخرج كأعظم ما يكون ولها كل يوم صوت عظيم آخر الليل إلى ضحوة ولها عجائب ما أقدر

أصفها لك على الكمال وإنما هذا منها طرف كبير يكفي والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن وكتبت هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها حتى قال فيها بعضهم يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها ... حملاً ونحن بها حقاً أحقاء زلازلاً تخشع الشم الصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شماء أقام سبعاً يرج الارض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء ترمى لها شرر كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصب هطلاء تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت ... رعباً وترعد مثل السعف أضواء منها تكاثف في الجو دخان إلى ... إن عادت الشمس منه وهي دهماء قد أثرت سعفة في البدر لفتحها ... فليلة التم بعد النور ليلاء تحدت النيران السبع ألسنها ... بما يلاقي بها تحت الثرى الماء وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ... أن كاد يلحقها بالأرض أهواء فيالها آية من معجزات رسول الل ... هـ يعقلها القوم الألباء فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء فاسمح وهب وتفضل وانج واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الحلم خطاء

فقوم يونس لما آمنوا كشف ال ... عذاب عنهم وعم القوم نعماء ونحن أمة هذا المصطفى ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعاء هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل الله بيضاء فارحم وصل على المختار ما خطبت ... على علا منبر اللأوراق ورقاء ونظم بعضهم في هذه النار وغرق بغداد سبحان من أصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار في سنة أغرق العراق وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار وفيها ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان احترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان ابتداء حريقه من زاويته - الغربية من الشمال - فعلقت في الأبواب ثم اتصلت بالسقف بسرعة ثم دبت في السقوف آخذة قبلة فاعجلت الناس عن قطعها فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع ووقع بعض أساطينه وذاب رصاصها وكل ذلك قبل أن ينام الناس واحترق سقف الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ووقع ما وقع منه في الحجر وبقي على حاله لما شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد واصبح الناس يوم الجمعة فعزلوا موضعاً للصلاة ونظم في حريق المسجد. لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار. لكنما أيدي الروافض لامست ... ذاك الجناب فطهرته النار.

وقال معين الدين بن تولوا المعزى قل للروافض بالمدينة مالكم ... يقتادكم للذم كل سفيه. ما أصبح الحرم الشريف محرقاً ... إلا لسبكم الصحابة فيه. وعلى ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات فقال شهاب الدين أبو شامة في ذلك وفيما تقدم بعد ست من المئين وخمسين ... لدى أربع جرى في العام. نار ارض الحجاز مع حرق المسجد ... معه تغريق دار السلام. ثم أخذ التتار بغداد في أو ... ل عام من بعد ذاك بعام. لم يعن أهلها والكفر أعوا ... ن عليهم يا ضيعة الإسلام. وانقضت دولة الخلافة منها ... صار مستعصم بغير اعتصام. رب سلم وصن وعاف بقايا ال ... مدن يا ذا الجلال والإكرام. فحنانا على الحجاز ومصر ... وسلام على بلاد الشآم. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة وفي ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس في غده واحمرت وقت طلوعها وقريب غروبها واتضح بذلك ما صوره الشافعي رحمة الله عليه من اجتماع الكسوف والخسوف واستبعده أهل النجامة.

وفيها تواترت الأخبار بوصول عساكر هولاكو إلى أذربيجان قاصدة بلاد الشام فوردت قصاد الديوان العزيز على الشيخ نجم الدين البادرائي وهو إذ ذاك بدمشق تأمره أن يتقدم إلى الملك الناصر بمصالحة الملك المعز صاحب مصر وأن يثني عزمه عن قصده ويتفق معه على قتال التتار وأجاب إلى ذلك وأعاد العسكر إلى دمشق بعد أن كان قد وصل إلى غزة وأقام بها صحبة الملك المعظم توران شاه ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب فدخل العسكر دمشق في العشر الأول من شوال وفي جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فاقطعه الملك الناصر مثل ما كان له بمصر من الإقطاع. وفي شوال توّجه كمال الدين بن العديم رسولاً من الملك الناصر - صلاح الدين يوسف - رحمه الله إلى الخليفة المستعصم بالله على البرية بتقدمة كبيرة فوصل بغداد في الثاني والعشرين من ذي القعدة وطلب من الخليفة خلعه لمخدومه وكان قد قدم بغداد الأمير شمس الدين سنقر الأقرع وهو في الأصل من غلمان الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن العادل رسولاً من الملك المعز صاحب مصر إلى الخليفة بسبب تعطيل الخلعة فتحير الخليفة فيما يفعل فاحضر الوزير مؤيد الدين بن العلقمي جمال الدين بن كمال الدين بن العديم وكان سافر مع أبيه وناوله سكينة كبيرة من نشم وقال له خذ هذه علامة على أنه

ذكر ما تجدد للملك الناصر داود

لابد من الخلعة للملك الناصر في وقت آخر. وفيها عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية ووليها القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز. ذكر ما تجدد للملك الناصر داود بن الملك المعظم في السنة. كان له وديعة سنية عند الخليفة من جواهر وغيرها فتوقف في ردها عليه وشرهت نفسه إليها واحتج بحجج لا معنى لها وجرى في ذلك خطوب يطول شرحها وكان الملك الناصر حج في السنة الخالية وعاد إلى العراق بسببها فانزل بالحلة وأجرى عليه راتب لا يليق به ولا يناسب محله وكان الخليفة قد عمر ببغداد قصراً فلما تم هنته الشعراء وهناه الملك الناصر بقصيدة تلطف فيها وعدد خدمه وخدم أسلافه فلم يجد ما يكافيه أن سير إليه من حاسبه على جميع ما وصل إليه طول المدة من النفقات وما أوصلوه إليه مفرقاً وما ضيفوه به في تردده وإقامته وظعنه من خبز ولحم وعليق - واصلوا بسائر.... - وقالوا قد وصل إليك قيمة وديعتك فاكتب خطك بوصوله وأنه لم يبق لك عند الديوان حق ولا مطالبة فلم يمكنه إلا الإجابة والمسارعة فكتب ولم يصله من ثمنها إلا دون العشر فانصرف ساخطاً واجتمع عليه جماعة من العرب أرادوا التوصل به إلى النهب والفساد فامتنع وأقام عند العرب وبلغ الملك الناصر صلاح الدين يوسف فأهمه مقامه عندهم فاحضر الملك الظاهر شادي أكبر أولاد الملك الناصر داود وحلف له اليمين

فصل

المغلظة أنه لا يتعرض له بأذى فوصل شادي إلى والده وعرفه ذلك فقدم دمشق ووجد الملك الناصر يوسف قد أوغر صدره عليه فنزل بتربة والده الملك المعظم بسفح قاسيون وشرط عليه أن لا يركب فرساً ثم أذن له في الركوب بشرط أنه لا يدخل البلد ولا يركب في موكب فاستمر الحال على ذلك إلى آخر السنة. فصل وفيها توفي إبراهيم بن أونبا بن عبد الله الصوابي الأمير مجاهد الدين والي دمشق وليها بعد الأمير حسام الدين عرابي بن أبي علي في سنة أربع وأربعين وستمائة وكان في بداية سعادته أمير جاندار الملك الصالح نجم الدين وكان أميراً جليلاً فاضلاً عاقلاً رئيساً كثير الصمت مقتصداً في إنفاقه وكان بينه وبين الأمير حسام الدين مصافاة كثيرة ومودة أكيدة ولما مرض مرض موته أسند نظر الخانقاه التي عمرها على شرف الميدان القبلي ظاهر دمشق إلى الأمير حسام الدين المذكور فتوقف في قبول ذلك ثم قبله على كره منه وتوفي مجاهد الدين رحمه الله تعالى في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة ثلاث وخمسين ودفن بالخانقاه المذكورة رحمه الله وله نظم فمنه. أشبهك الغصن في خصال ... القد واللين والتثني. لكن تجنّيك ما حكاه ... الغصن يجنى وأنت تجني.

وله في صبي اسمه مالك. ومليح قلت ما الاسم ... حبيبي قال مالك. قلت صف لي قدك الزا ... هي وصف حسن اعتدالك. قال كالغصن وكالبد ... روما أشبه ذلك. إبراهيم بن أيبك بن عبد الله مظفر الدين كان والده الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد قد اشتراه الملك المعظم عيسى بن العادل سنة سبع وستمائة وترقى عنده حتى جعله أستاذ داره فكان عنده في المنزلة العلياء يؤثر على أولاده أهله ولم يكن له نظير في حشمته ورياسته وكرمه وشجاعته - 10ب - وسداد رأيه وعلو همته بحيث كان يضاهي الملوك الكبار واقطعه الملك المعظم صرخد وقلعتها وأعمالها وقرى كثيرة أمهات غيرها ولما توفي الملك المعظم بقي في خدمة ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فلما حضر الملك الكامل كان الأمير عز الدين المذكور هو المدبر للحرب وأمور الحصار فلما حصل الاتفاق على تسليم دمشق كان هو المتحدث لذلك فاشترط للملك الناصر من البلاد والأموال والحواصل فوق ما أرضاه ثم اشترط لنفسه صرخد وأعمالها وسائر أملاكه بدمشق وغيرها وأن يسامح بما يأخذ من المكوس على سائر ما يباع ويبتاع له من سائر الأصناف ويفسح له في الممنوعات وأن يكون له حبس في دمشق يحبس فيه نوابه من لهم عليه حق فأجيب إلى ذلك جميعه بعد توقف وبقي على ذلك الأيام الأشرفية والكاملية والصالحية

والعمادية وإلى أوائل الدولة الصالحيه النجمية فحصل له وحشة من الملك الصالح نجم الدين وكان مع الخوارزمية لما كسروا على القصب في يوم الجمعة مستهل المحرم سنة أربع وأربعين وستمائة فمضى إلى صرخد وامتنع بها ثم أخذت منه صرخد في أوائل السنة المذكورة وأخذ إلى الديار المصرية فاعتقل بها بدار صواب فكان إبراهيم هذا قد مضى إلى الملك الصالح نجم الدين ووشى به وقال أموال أبى قد بعث بها إلى الحبلين وأول ما نزل بها صرخد كانت ثمانين خرجا فأودعها عند الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي وبلغ الأمير عز الدين اجتماعه بالملك الصالح فمرض ووقع إلى الأرض وقال هذا آخر عهدي بالدنيا ولم يتكلم بعدها حتى مات ودفن ظاهر القاهرة بباب النصر سنة خمس وأربعين ثم نقل بعد ذلك إلى القبة التي بناها برسم دفنه في المدرسة التي أنشأها على شرف الميدان ظاهر دمشق من جهة الشمال ووقفها على أًصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه وهي من أحسن المدارس وأنضرها وله مدرسة أخرى بالكشك داخل مدينة دمشق. وبالجملة فكان من سادات الأمراء كثير البر والمعروف وإنعامه يشمل الأمراء والأكابر والفقراء والصلحاء والعوام رحمه الله ورضى عنه فلقد كان من محاسن الدهر ثم أن ولده هذا سعى بحاشيته مثل البرهان كاتبه وابن الموصلي صاحب ديوانه والبدر الخادم ومسرور

وغيرهم فأمر الملك الصالح نجم الدين بحملهم إلى مصر فأما البرهان فإنه من خوفه يوم اخرج ليتوجه إلى مصر مات بمسجد النارنج والباقون حملوا إلى مصر ولم يظهر عليهم مما قيل درهم واحد فرجعوا إلى دمشق بعد وفاة الملك الصالح وقد لاقوا شدائد وأهوال - 11ب - وختم للأمير عز الدين بالشهادة رحمه الله تعالى. وذكر الشيخ شمس الدين سبط ابن جوزي رحمه الله ما يدل على أن إبراهيم هذا ولد جاريته وانه تبناه وليس بولده وهو أخبر بذلك ويدل عليه ما فعله به وبحاشيته والله أعلم بذلك. بشارة بن عبد الله أبو البدر الأرمني - الكاتب - مولى شبل الدولة المعظمى سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيره وكان يكتب خطاً حسناً وتوفي ليلة النصف من شهر رمضان بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وذريته يدعون النظر على المدرسة والخانقاه والتربة المنسوب ذلك إلى شبل الدولة رحمه الله تعالى. طغريل بن عبد الله الأمير سيف الدين أستاذ دار الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة كان من أعيان الأمراء شجاعاً حسن التدبير والسياسة للأمور ولما توفي الملك المظفر قام بتدبير أمور ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد بمراجعة والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل ناصر الدين ابن أبي المعالي محمد بن الملك العادل ومشاورتها في الأمور

وأخذ رأي الصاحب شرف الدين عبد العزيز محمد بن شيخ الشيوخ ولم يزل على ذلك وهو أتابكه إلى أن توفي في ثالث شوال رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن احمد بن الحسن بن كاتب بن عبد الرحمن أبو المعالي شرف الدين القرشي البعلبكي العدل المعروف بابن الفارقي توفي ببعلك في سادس شهر رمضان هذه السنة ومولده بدمشق في شوال سنة تسعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر الخشوعي وغيره وحدث بدمشق وكان فيه شرف وكان كاتب الحكم بعلبك وحصل بينه وبين قاضيها صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله منافرة فوقّع في حقه واشتط عليه ورماه بما برأه الله منه وكان الشرف المذكور يمت بمعرفته قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة رحمه الله تعالى فاستطال بذلك ولم يجد من القاضي صدر الدين عبد الرحيم مع ما صدر منه في حقه إلا الإحسان المتواتر إلى حيث توفي الشرف المذكور وكان القاضي صدر الدين عبد الرحيم من حسنات الزمان وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن حفاظ أبو محمد - زكي الدين - السلمي المعروف بابن الفويرة كان من أعيان عدول دمشق وتوفي بها ليلة نصف ربيع الآخر ودفن من الغد بجبل قاسيون ومولده نحو سنة إحدى وتسعين وخمسمائة تقديراً سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي - وغيره - وحدث رحمة الله تعالى.

عبد الرحمن بن نوح بن محمد أبو محمد شمس الدين - ص2 ورقة 6 ألف - المقدسي الشافعي تفقه وبرع ودرس وكان أحدا الفقهاء المشهورين بدمشق سمع من أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وغيره وحدث وتوفي بدمشق ليلة السادس عشر من شهر ربيع الآخر ودفن من الغد بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حافلة رحمه الله. عبد العزيز بن عبد الرحمن بن احمد بن هبة الله بن علي أبو بكر شرف الدين الحموي الشافعي المعروف بابن قرناص وقد كان قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله نسبه فقد هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسين ابن محمد بن جعفر بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولده في تاسع عشر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وخمسمائة كان من أعيان العلماء الفضلاء النبلاء الرؤساء المشهورين وله نظم حسن وتوفي في الثامن والعشرين من ذي القعدة بحماة وبيته - ص2 ورقة 6 ب - مشهور بالفضل والتقدم قال القاضي جمال الدين بن واصل أنه توفي في ذي الحجة وكان فاضلاً في الفقه والأدب مجيداً في النظم والنثر تزهد في صباه وامتنع من قول الشعر إلا ما يتعلق بالزهد ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صنف ديوان رسائل مبتكرة بديعة فاعرض عنها وكان يأمر بإعدامها. ومن شعره يا من غدا وجهه روض العيون لما ... أعاره الحسن من أنواع أزهار.

نعمت طرفي وأودعت الحشى حرقا ... فالطرف في جنة والقلب في نار. وله إذا لم ينر بالجد ليل شبيبتي ... سيظلم بالتقصير صبح مشيبي. وله من أبيات في أوقات طلوع منازل القمر ينتفع بها جداً وهو. إذا ما نلت بعد عشرين وقت ... لنيسان بالنطح ارتقبه مع الفجر. وسادس أيار البطين ومحتل ... حنين الثريا تسع عشر من الشهر. وللدبران من حريزان أوّل ... وهقعته تتلوه في رابع العشر. وسابع عشريه لهنع ودونه ال ... ذراع يوافى عشر تموز ذي الحر. وفي ثالث العشرين تطلع نثرة ... وخامس أن لا تنظر الطرف ذا شزر. وثامن عشر منه مطلع جبهة ... وأول أيلول به مطلع الزبر. ورابع عشر صرفة الحر والعوى ... من السبع والعشرين يأوي إلى الوكر. وتشرنينا الأول سمّاك لعاشر ... وثالث عشريه فيه مطلع الغفر. وتشرنينا الثاني زباني لخامس ... وثامن عشر منه ذلك بالزهر. ويوم ترى كانونا الأول مقبلا ... بأول يوم يحقق القلب القر. ورابع عشر شولة ونعائم ... من السبع والعشرين مجرتها تجري. وكانوننا الثاني يوافيك بلدة ... لعشر تراها وهي كالبلدة القفز.

وثالث عشريه كريح ورابع ... أتى من شباط بلعه أنزه نسرى. وثامن عشر منه سعد سعوده ... وثاني آذار لا خيبة السفر. وخامس عشر منه فرغ مقدم ... وثامن عشريه المؤخر بالأثر. وعاشر بيسان لحوت بذا انقضت ... منازل لا ينفك به آب في الكر. فسبحان لمن في طي حكمته لمن ... حباه بتوفيق دليل على الحشر. عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن حسن أبو محمد - ص 2 ورقة 7 ألف - العدواني المصري المعروف بابن أبي الإصبع كان أحد الشعراء المجيدين وله تصانيف في الأدب حسنة مفيدة ومولدة سنة خمس وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر وتوفي بها في الثالث والعشرين من شوال ودفن من يومه. ومن شعره ليطف لهيب القلب وليذهب السقم ... فقد أنعمت بالوصل بعد الجفا نعم. أشكى ظلمها قلبي فجادت بنظمها ... على ظمأ فاستعذب الظُلم والظَلم. وقالت أرسلي حين بثوا صبابتي ... إليكم فعندي من صبابته علم. أيا نعم إن شئت انعمي أو فعذبي ... فعرم الهوى عند المحب هو النعم. وله وساق إذا ما ضحك الكأس قابلت ... فواقعها من ثغره اللؤلؤ الرطبا. خشيت وقد أمسى نديمي على الدجى ... فأسدلت دون الصبح من شعره حجبا. وقسمت شمر الطاس في الكأس انجما ... ويا طول ليل قسمت شمسه شهبا.

تبسم لما أن بكيت من الهجر ... فقلت ترى دمعي فقال ترى ثغري. فديتك لما أن بكيت تنظمت ... بفيك لآلئ الدمع عقد من الدر فلا تدعي يا شاعر الثغر صنعة ... فكاتب دمعي قال ذا النظم من نثري. وله يمدح الملك الأشرف رحمه الله تعالى أيا عبلة ألا لحاظك عنتر ... وما لي على غاراته في الحشا صبر. نعم أنت ياخنساء خنساء عصرنا ... وشاهد قولي أن قلبك لي صخر. غاية قصدي بطن يمناك غاية ... بها أندى المجدى ينبت التبر. أغضت الحيا والبحر جودا فقد بكى ال ... حياء حياءً منك والنظم والبحر. عيون معانيها صحاح وأعين ال ... ملاح مراض في لواحظها كسر. أضاعت عقولا حين ضاعت فما درى ... أبابل أهدتها إليك أم السحر. وله إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق. وتذكرني من ادمعي وقوامها ... تجر عوالينا وتجر السواق. وله يهجو ولما رأيتك عند المديح ... جهم المحيا لنا تنظر. تيقنت نحلك لي بالندا ... لأن الجهامة لا تمطر.

وله في قيّم حمّام وقيّم كلمت جسمي أنامله ... بغير السنة تكليم خرصان. ص 2 ورقة 7 ب إن أمسك اليد مني كاد يخلعهاأو سرح الشعر عند الغسل أدماني. فليس يمسك إمساكا بمعرفة ... ولا يسرح تسريحا بإحسان. وله تصدق بوصل إن دمعي سائل ... وزود فؤادي نظرة فهو راحل. فخدك موجود به التبر والغنى ... وحسنك معدوم لديه الشمائل. أيا قمراً من شمس وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل. تنقلت من طرف القلب مع النوى ... وهاتيك للبدر التمام منازل. إذا ذكرت عيناك للصب درونها ... من السحر قامت بالدليل الدلائل. جعلتك بالتمييز نصباً لناظري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل. ولما أضفت السحر للجفن حسنت ... به الكسر منه غنج الجفون العوامل. أعاذل قد أبطرت حبي وحسنه ... فإن لمتني فيه فما أنت عاقل. محياه قنديل لديجور شعره ... تعلقه بالصدغ منها سلاسل. غدا القد منه غصناً تعطفه الصبا ... ولا غرو إن هاجت عليه البلابل.

عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن عبد الباقي بن محاسن أبو بكر الأنصاري المعروف بالشيخ عماد الدين - بن - النحاس الدمشقي كان من الفضلاء الصلحاء وله من المكانة العظيمة والحرمة الوافرة والكلمة المسموعة والقبول التام من الخاص والعام كان قد حصل له صمم فكان يحدث من لفظه بسبب ذلك ومولده في الثاني والعشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بمصر سمع الشيخ شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون بدمشق وسمع من غيره بحلب وأصبهان ونيسابور وكانت وفاته بدمشق في الثاني والعشرين من صفر ودفن من يومه رحمه الله تعالى. قال سعد الدين مسعود بن حمويه أنشدني عماد الدين عبد الله بن النحاس سنة إحدى وثلاثين وستمائة. أحبة قلبي إن عندي رسالة ... أحب وأهوى أن تؤدى إليكم. متى ينقضي هذا القطوع وينتهي ... وأحظى شفاها بالسلام عليكم. عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد بن خليل بن محمود بن محمد بن سالم بن الشيخ الصالح عيسى اليونيني يوسف بن خالد بن بركة بن مبارك بن داود بن شريف بن رميح بن رباح بن كرز بن - ص 2 ورقة 8 ألف - وبرة اليونيني الشيخ الصالح الزاهد العابد العارف المشهور صحب الشيخ الكبير عبد الله اليونيني رحمه الله وانتفع به وكان من أخص

أصحابه وأعيانهم وانقطع بزاويته شمال قرية يونين من أعمال بعلبك متوفراً على العبادة معرضاً عن الدنيا وأهلها يقوم الليل ويسرد الصوم وبقي على ذلك سنين كثيرة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في زاويته في قرية يونين في رابع ذي القعدة ودفن بها وهو في عشر الثمانين تقريبا وكان من الأولياء الأفراد لم يشتغل في عمره بغير العبادةً والتوجه إلى الله تعالى على الوجه المشهور الذي يشهد به الكتاب والسنة ومطالعة كتب الرقائق وما يجري مجراها ولم يتزوج في عمره لاستغراق أوقاته بذلك لكنه عقد عقدة على امرأة عجوز تدعى أم يوسف كانت تخدمه لاحتمال أنه يتناول منها شيئاً فتمس يده يدها. وقال بعض الصلحاء قد قيل أن على قلب كل ولي نبي من أولي العزم رجلا كلما مات جعل مكانه غيره فإن صح فالشيخ عيسى على قلب عيسى ابن مريم عليهما السلام لسلوكه ما يناسب طريقه من الزهد والتحلي فكان لا يتردد إلى أحد البتة وإذا حضر إلى زيارته أحد من أرباب الدنيا والمراتب الجليلة في الدول كالأمراء والوزراء وغيرهم عاملهم بما يعامل به آحاد الناس، وبلغني أن الشيخ نجم الدين البادرائي قصد زيارته فوصل إلى زاويته عند صلاة المغرب فصلى الشيخ المغرب وقام ليدخل إلى خلوته على عادته فعارضه بعض أصحابه فقال يا سيدي هذا لرجل مجتاز وقد قصد زيارتك وانفرد عن أصحابه وجاء الشيخ نجم الدين فسلم عليه وسأله الدعاء وشرع في محادثته فقال الشيخ رحمه الله

من زار وخفف وتركه ودخل إلى خلوته وكان كثير المطالعة لكتب الأحاديث النبوية وكتب الرقائق كقوت القلوب وصفوة الصفوة ومناقب الأبرار وغير ذلك وكان يستحضر من ذلك وغيره شيئاً كثيراً فإنه كان إذا طالع شيئاً علق بخاطره معناه وكانت عبارته حلوة لكن كان لفظه يناسب حديث أهل قريته فربما لحن في بعض كلامه وكان إذا كتب إلى أحد من أرباب الدول وغيرهم ورقة في حاجة سألها إما استغاثة ملهوف أو إعانة مظلوم أو تنفيس كربة أحد من المسلمين كتب من أول الورقة إلى حيث ينتهي الكلام أو يقطعها بحيث لا يكون فيها من البياض ما يكتب به كلمة واحدة اتباعا بما أمر به من عدم الإسراف فيما لا فائدة فيه فإذا وصلت ورقته سورع إلى امتثالها وحصل بها المقصود وكانت له الحرمة العظيمة عند - ص 2 ورقة 8 ب - سائر الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم والمهابة الشديدة في صدورهم مع لطف أخلاقه ولين كلمته وله الكرامات الظاهرة وإذا حضر أحد من المشايخ وأرباب القلوب إلى يونين قصد زيارته وتأدب معه غاية الأدب أما هو فلا يمشي إلى أحد البتة ومن ورد من أرباب القلوب وسلك غير ذلك سلبه حاله ولقد سلب جماعة من الفقراء أحوالهم فيما بلغني وأدركت بعضهم وكان والدي رحمه الله إذا خرج إلى يونين طلع إلى زاويته من بكرة النهار ويدخلان إلى الخلوة بمفردهما ولا يدخل أحد عليهما ولا يزالان كذلك إلى قريب الظهر وكان بينهما وداد عظيم واتحاد زائد ومحابة في الله تعالى جمع الله بينهما في دار كرامته وكنت أيام مقام والدي رحمه الله

تعالى بقرية يونين اغشاه وأزوره كثيراً فيقبل عليّ ويتلطف خلاف ما عادته أن يعامل به غيري وأما إذا كنت ببعلبك فأتردد إلى زيارته في الأحيان فلما كانت هذه السنة كان والدي رحمه الله يأمرني كل وقت بقصد زيارته كأنه استشعر قرب أجله وأحس به فكنت بعد كل يوم أتردد إليه فقصدته مرة في أول شوال من هذه السنة ومعي ناصر الدين علي بن فرقين والشمس محمد بن داود رحمهما الله فدخلنا عليه وليس عنده غيرنا وشرع يحدثنا واسترسل في الحديث وغاب واستغرق وهو يحدثنا عن غير قصد منه لذلك ثم أفاق من غيبته فقطع الحديث فسألناه إتمامه وألححنا عليه في السؤال فانشد من سارروه فأبدى السر مشتهرا؟ ... لم يأمنوا على الأسرار ما عاشا. وأبعدوه فلم يحظ بقربهم ... وبدلوه مكان الأنس أيحاشاً. وكان مضمون الحديث أنه جاءه من رجال الغيب من اخبره بدنو أجله أو ما هذا معناه وإن كنت الآن لا أحقق جميع الحديث على وجهه فاتفق مرضه في أواخر الشهر المذكور وبقي على ذلك أياماً وأهل البلد من الرجال والنساء يترددون إلى زيارته وإعادته ويغتنمون بركته إلى أن توفي رحمه الله ورضوانه في التاريخ المذكور فلما وصل خبر وفاته إلى بعلبك لم يبق في البلد إلا القليل وخرج الناس لشهود جنازته والصلاة عليه فكان الناس منتشرين والمدينة إلى يونين والمسافة فوق فرسخين أما والدي رحمه الله فأنه حصل له من الحزن والكآبة والوجوم لموته مالا مزيد عليه وأمرني بالمبادرة لحضور دفنه فبادرت

إلى ذلك ولما اجتمع - ص 2 ورقة 9 ألف - غسل وكفن وصلى عليه ودفن إلى جانب عمه الشيخ عبد الخالق رحمه الله وكان الشيخ عبد القادر المذكور من الصلحاء الأولياء الزهاد العباد وهو من أعيان أصحاب الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله تعالى وقد ذكرنا نسب الشيخ عيسى وسقناه إلى كرز بن وبرة رحمة الله عليه حسب ما كتبه لي محمد بن اسماعيل بن أحمد بن الياس بن أخي الشيخ عيسى رحمه الله وكان كرز بن وبرة الكوفي من الطبقة الرابعة من أهلها وكان زاهداً عابداً خائفاً مجتهداً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيضربونه حتى يغشى عليه وسأل الله تعالى أن يعطيه الاسم الأعظم على أن لا يسأل به من الدنيا شيئاً فأعطاه الله ذلك فسأل الله أن يقويه على ختم القرآن فكان يختمه في اليوم والليلة ثلاث مرات ولم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة حياء من الله تعالى وقال أبو سلمان المكتب صحبت كرزاً إلى مكة فكان ينزل فيصلي فرأيت يوماً سحابة تظله وكان يوما شديد الحر فقال أكتم علي فحلفت له وما حدثت به أحداً حتى مات، وروى أبو نعيم عنه أنه دخل عليه وهو يبكي فقيل له ما يبكيك فقال بابي مغلق وستري مرسل ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة وما ذاك إلا من ذنب أحدثته وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ومائة ولما رأى رجل فيما يرى النائم كأن أهل القبور جلوس على قبورهم وعليهم ثياب جدد فقيل لهم ما هذا قالوا إن أهل القبور كسوا ثيابا جددا لقدوم كرز عليهم، أسند كرز عن طاوس وعطاء والربيع بن خثيم

والقرظي وغيرهم وكان سكن جرجان رحمة الله عليه قلت والشيخ عيسى عريق في الصلاح نفع الله تعالى به وبالصالحين من سلفه، حدثني أبو طالب بن أحمد بن أبي طالب اليونيني غير مرة ما معناه أن الشيخ عيسى رحمه الله أخبره أن ملك بني أيوب يزول وتنقطع دولتهم قال فقلت له من يملك بعدهم قال الترك المماليك ويفتحون الساحل بحيث لا يبقى للفرنج في ساحل الشام شيء أصلاً وذكر كلاماً آخر وهذا سمعته من المذكور قبل فتوح صفد وغيرها وحكى لي المذكور ما معناه أن عبد الله بن الياس النصراني من أهل قرية الرأس قال له رحت إلى طرابلس فقال لي بعض الجبالة عندي أسير من بلادكم تشتريه فرحت معه إلى منزله فوجدت الأسير سهل من قرية رعبان فحين رآني تشبث بي وقال لا تخلي عني أشترني وأنا أعطيك ثمني حال وصولي إلى رعبان فاشتريته بستين ديناراً صورية وجبته إلى رعبان فلم يكن له ولأولاده ما - ص2 ورقة 9 ب - يأكلون تلك الليلة فندمت وحرت في أمري فقال لي أهل القرية نحن في البيدر نجمع لك ثمنه فضاق صدري واتفق أني جئت إلى يونين فرأيت الشيخ عيسى وهو خارج من الطهارة ولم أكن رأيته قبل ذلك فحين رآني قال أنت الذي اشتريت سهل قلت نعم فشرع يحدثني ويسألني عن الصورة وهو متوجه إلى زاويته وأنا معه

فلما وصل إلى السياج الذي على ظاهر الزاوية طلب فقيراً من داخل السياج وقال له أبصر في الزاوية ورقة تحت اللباد الذي لي أحضرها قال النصراني فتوهمت أنها كتاب كتبه إلى من يعطيني شيئاً من وقف الأسرى أو غيره فأحضر ذلك الفقير ورقة ناولها الشيخ فناولني إياها فوجدتها ثقيلة فقال خذ هذا فأبعدت عنه وفتحت الورقة فوجدت فيها الستين ديناراً التي وجدتها في الأسير بعينها فتحيرت وأخذتها وانصرفت قال أبو طالب لم لا أسلمت فقال ما أراد الله وحكى لي الشيخ عمران حمل رحمه الله بقرية برصونا من حبل الطينين في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وست مائة بعد منصرفي من ظاهر طرابلس بعد فتحها وقد بت عنده وجرى حديث التفاح وقد أكلته الدودة ويبست معظم أشجاره عندهم فقال ما معناه كانت الدودة قد ركبت أشجار التفاح عندنا بحيث أعطبتها فشكونا ذلك إلى الشيخ عيسى رحمه الله وسألناه أن يكتب لنا حرزاً فأعطانا ورقة مطوية صورة حرز فشمعناها وعلقناها على بعض الأشجار فزالت الدودة عن الوادي بأسره وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها وحملت حملاً مفرطاً وبقينا على ذلك سنين في حياة الشيخ وبعد وفاته ثم خشينا ضياع الحرز وقلنا ننسخه فأزلنا عنه الشمع وفتحناه فإذا هو قطعة من كتاب ورد على الشيخ من بعض أهل حماة فندمنا على فتحه ثم شمعناه وأعدناه إلى مكانه فجاءت الدودة وركبت الأشجار وأعطبتها واستمر الحال على ذلك وحكى لي الحاج علي بن أبي بكر بن دلفة اليونيني ما معناه قال كان والدي وابن عمك نور الدولة علي بن عمر بن نيار رحمه الله قد اتفقنا على عمارة حمام بقرية يونين وحصلوا بعض آلاته وهيئوا المكان الذي يعمر فيه واهتموا بذلك واتفق أنهما طلعا إلى عند الشيخ عيسى وأنا معهما فقال لهما الشيخ رحمه الله بلغني أنكم تريدون تعمرون حماماً في هذه القرية وهذا لا تفعلوه واتركوا - ص 2 ورقة عشرة ألف - عمارته فما وسعهم إلا أن قالوا السمع والطاعة وقاموا من عنده فلما بعدوا عنه قال أحدهما للآخر كيف نعمل بهذه الآلات فقال له صاحبه الشيخ عيسى رجل كبير ما يخلد نصبر فمتى مات عمرناه فطلبهما الشيخ إليه وقال كأني بكم قد قلتم كذا وكذا وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي وهذا لا يصير ولا يعمر في القرية حمام لا في حياتي ولا بعد موتي فاعتذروا إليه مما قالوه وفارقوا على ذلك قلت فأنا والله رأيت الأمير جمال الدين التجيبي رحمه الله نائب السلطنة في الشام في أوائل الدولة الظاهرية وكان معهم مقطع معظم يونين قد اهتم بعمارة حمام في القرية واشترى القدور وسائر الآلات ولم يبق إلا عمارته ثم اتفق ما صرفه عن ذلك ثم انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده فشرع في ذلك واهتم به كهمة الأمير جمال الدين أو أكثر وحفر الأساس ثم بطل ذلك بموانع سماوية وأظن أميراً آخر غيرهما اقطع في القرية فعزم على مثل ذلك فلم يتم وصح قول الشيخ رحمه الله تعالى وحدثني المغربي عامر بن يحيى بنى ريان بمنزلي بقرية يونين في ثاني وعشرين ذي قعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة ما معناه قال قدم الشيخ عثمان رحمه الله من دير ناعر إلى بعلبك ووالدك رحمه الله في يونين وقصده وخرجت في خدمته فطرقت باب هذه الدار واستأذنت على والدك رحمه الله ودخلت إليه وقلت يا سيدي الشيخ عثمان قد حضر إلى خدمتك قال يدخل فلما دخل تلقاه والدك ورحب به وجلسا يتحدثان وحضر شيء للأكل فأكلا ومن عندهما فلما شيل السماط قال والدك للشيخ عثمان ما تطلع تزور أخاك الشيخ عيسى قال اطلع في خفارتك قال نعم في خفارتي قال وطلع وأنا معه فلما وصل إلى زاوية الشيخ عيسى تلقاه واعتنقه وبالغ في الترحيب به وجلسا يتحدثان زمنا طويلا وودعه الشيخ عثمان ونزل إلى عند والدك إلى هذه الدار فلما دخل عليه قال له والدك كيف رأيت قال له يا سيدي كل خير قال عامر فسألت الشيخ عثمان بعد ذلك عن توقفه عن الطلوع إلى الشيخ عيسى حتى أجاره والدك قال يا ولدي قدمت هذه القرية من سنين بعد وفاة الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله بسنيات ونمت في المرح الذي في الزوايا فلما مضى بعض الليل قمت لأجدد الوضوء في الطهارة فحين خرجت إلى الطريق وجدت ثعباناً عظيماً فتح فاه وكاد يبتلعني فصرخت - ص 2 ورقة 10 ب - وقلت يا سيدي الشيخ عبد الله أنا في جيرتك وفي حسبك فلم أستتم كلامي إلا والشيخ عبد الله واقف بيني وبين الثعبان وبيده حربة وضرب الثعبان بين كتفيه بيده وقال مالك يا نحيس ضيف وارد عليك تفعل معه هذا وإذا بذلك الثعبان هو الشيخ عيسى فطلع إلى زاويته فهذا سبب قولي الذي سمعت ولو لم يجرني سيدي الشيخ الفقيه منه لما طلعت إليه وكرامات الشيخ عيسى كثيرة رحمه الله ورضي عنه. عيسى بن ظاهر بن نصر الله بن جميل أبو محمد الحلبي الحاجب - 12ب - وأظن لقبه القطب كان قيّماً بالفرائض والحساب والأوقاف وله مشاركة في غير ذلك من العلوم ولد بحلب في سادس محرم سنة أربع وثمانين وخمسمائة وانتقل إلى القدس الشريف وأقام به مدة ثم عاد إلى مدينة دمشق وأقام بها إلى سنة أربع وأربعين وستمائة ثم انتقل إلى مدينة حلب وأقام بها إلى أن توفي بها في ليلة الخميس مستهل شهر رمضان هذه السنة رحمه الله تعالى. بتها فشكونا ذلك إلى الشيخ عيسى رحمه الله وسألناه أن يكتب لنا حرزاً فأعطانا ورقة مطوية صورة حرز فشمعناها وعلقناها على بعض الأشجار فزالت الدودة عن الوادي بأسره وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها وحملت حملاً مفرطاً وبقينا على ذلك سنين في حياة الشيخ وبعد وفاته ثم خشينا ضياع الحرز وقلنا ننسخه فأزلنا عنه الشمع وفتحناه فإذا هو قطعة من كتاب ورد على الشيخ من بعض أهل حماة فندمنا على فتحه ثم شمعناه وأعدناه إلى مكانه فجاءت الدودة وركبت الأشجار وأعطبتها واستمر الحال على ذلك وحكى لي الحاج علي بن أبي بكر بن دلفة

اليونيني ما معناه قال كان والدي وابن عمك نور الدولة علي بن عمر بن نيار رحمه الله قد اتفقنا على عمارة حمام بقرية يونين وحصلوا بعض آلاته وهيئوا المكان الذي يعمر فيه واهتموا بذلك واتفق أنهما طلعا إلى عند الشيخ عيسى وأنا معهما فقال لهما الشيخ رحمه الله بلغني أنكم تريدون تعمرون حماماً في هذه القرية وهذا لا تفعلوه واتركوا - ص 2 ورقة عشرة ألف - عمارته فما وسعهم إلا أن قالوا السمع والطاعة وقاموا من عنده فلما بعدوا عنه قال أحدهما للآخر كيف نعمل بهذه الآلات فقال له صاحبه الشيخ عيسى رجل كبير ما يخلد نصبر فمتى مات عمرناه فطلبهما الشيخ إليه وقال كأني بكم قد قلتم كذا وكذا وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي وهذا لا يصير ولا يعمر في القرية حمام لا في حياتي ولا بعد موتي فاعتذروا إليه مما قالوه وفارقوا على ذلك قلت فأنا والله رأيت الأمير جمال الدين التجيبي رحمه الله نائب السلطنة في الشام في أوائل الدولة الظاهرية وكان معهم مقطع معظم يونين قد اهتم بعمارة حمام في القرية واشترى القدور وسائر الآلات ولم يبق إلا عمارته ثم اتفق ما صرفه عن ذلك ثم انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده فشرع في ذلك واهتم به كهمة الأمير جمال الدين أو أكثر وحفر الأساس ثم بطل ذلك بموانع سماوية وأظن أميراً آخر غيرهما اقطع في القرية فعزم على مثل ذلك فلم يتم وصح قول الشيخ رحمه الله تعالى وحدثني المغربي عامر بن يحيى بنى ريان بمنزلي بقرية يونين في ثاني

وعشرين ذي قعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة ما معناه قال قدم الشيخ عثمان رحمه الله من دير ناعر إلى بعلبك ووالدك رحمه الله في يونين وقصده وخرجت في خدمته فطرقت باب هذه الدار واستأذنت على والدك رحمه الله ودخلت إليه وقلت يا سيدي الشيخ عثمان قد حضر إلى خدمتك قال يدخل فلما دخل تلقاه والدك ورحب به وجلسا يتحدثان وحضر شيء للأكل فأكلا ومن عندهما فلما شيل السماط قال والدك للشيخ عثمان ما تطلع تزور أخاك الشيخ عيسى قال اطلع في خفارتك قال نعم في خفارتي قال وطلع وأنا معه فلما وصل إلى زاوية الشيخ عيسى تلقاه واعتنقه وبالغ في الترحيب به وجلسا يتحدثان زمنا طويلا وودعه الشيخ عثمان ونزل إلى عند والدك إلى هذه الدار فلما دخل عليه قال له والدك كيف رأيت قال له يا سيدي كل خير قال عامر فسألت الشيخ عثمان بعد ذلك عن توقفه عن الطلوع إلى الشيخ عيسى حتى أجاره والدك قال يا ولدي قدمت هذه القرية من سنين بعد وفاة الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله بسنيات ونمت في المرح الذي في الزوايا فلما مضى بعض الليل قمت لأجدد الوضوء في الطهارة فحين خرجت إلى الطريق وجدت ثعباناً عظيماً فتح فاه وكاد يبتلعني فصرخت - ص 2 ورقة 10 ب - وقلت يا سيدي الشيخ عبد الله أنا في جيرتك وفي حسبك فلم أستتم كلامي إلا والشيخ عبد الله واقف بيني وبين الثعبان وبيده حربة وضرب الثعبان بين كتفيه بيده وقال مالك يا نحيس ضيف وارد عليك تفعل معه هذا وإذا بذلك الثعبان هو الشيخ عيسى فطلع إلى

زاويته فهذا سبب قولي الذي سمعت ولو لم يجرني سيدي الشيخ الفقيه منه لما طلعت إليه وكرامات الشيخ عيسى كثيرة رحمه الله ورضي عنه. عيسى بن ظاهر بن نصر الله بن جميل أبو محمد الحلبي الحاجب - 12ب - وأظن لقبه القطب كان قيّماً بالفرائض والحساب والأوقاف وله مشاركة في غير ذلك من العلوم ولد بحلب في سادس محرم سنة أربع وثمانين وخمسمائة وانتقل إلى القدس الشريف وأقام به مدة ثم عاد إلى مدينة دمشق وأقام بها إلى سنة أربع وأربعين وستمائة ثم انتقل إلى مدينة حلب وأقام بها إلى أن توفي بها في ليلة الخميس مستهل شهر رمضان هذه السنة رحمه الله تعالى. المبارك بن أبي بكر بن أحمد بن حمدان بن غلبون بن ماجد بن الحسين بن علي بن حامد أبو البركات جمال الدين المعروف بابن الشعار المؤرخ الموصلي مولده بالموصل في مستهل صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وتوفي بحلب يوم الأحد سابع جمادى الآخرة هذه السنة وهو مؤلف عقود الجمان في شعراء هذا الزمان رحمه الله تعالى. محمد بن الحسن بن عبد السلام بن عتيق بن محمد بن محمد أبو بكر التميمي السفافي الإسكندري المولد والدار المالكي العدل المعروف بابن المقدسية ولد في نصف المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وحضر

الحافظ أبا طاهر بن محمد السلفي وسمع من أبي القاسم هبة الله ابن البوصيري وغيره وهو آخر من بقي من أصحاب السلف وناب في الحكم بالإسكندرية مدة وتوفي بها في ثالث جمادى الأولى ودفن بمقبرة دعلة رحمه الله تعالى. محمد بن خزرج بن ضحاك بن خزرج أبو السرايا الأنصاري الخزرجي الدمشقي الكاتب سمع من أبي اليمن الكندي وأبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وحدث وتوفي بتل باشر في الثاني والعشرين من جمادى الأولى ويسمى سرايا أيضاً رحمه الله تعالى. محمد بن الفضل بن عقيل بن عثمان بن عبد القاهر بن الربيع بن سليمان بن حمزة بن طاهر بن محمد بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو طالب الهاشمي العباسي سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وحدث ولد في إحدى الجماديين سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق وتوفي بها في سادس عشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى. محمد بن يونس بن بدران بن فيروز بن صاعد بن غالي بن محمد بن علي أبو حامد بن أبي الوليد القرشي العيدي السبتي المصري أبوه الدمشقي سمع من أبي علي الحسن بن عبد الله المكبر وحدث وحكم بدمشق نيابة عن أبيه ودرس بالمدرسة الشامية وكان والده قاضي القضاة جمال الدين أبو الفضائل المصري رحمه الله من أعيان الحكام وأماثلهم

مشكور السيرة محمود الطريقة لين الجانب كثير التقوى والديانة وكان يباشر وكالة بيت المال بدمشق أولاً ثم ولي الحكم فيها بعد ذلك توفي أبو حامد في نصف شهر رجب بدمشق ودفن بجبل قاسيون ومولده في العشرين من صفر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة قال شرف الدين عمر بن خواجا إمام الفارسي أنشدني تاج الدين أبو حامد - محمد - ابن يونس لنفسه دو بيت. لما هجروا واصل جفني سهري ... قوم غدروا وأورثوني فكري. عاتبتهم قالوا تعشق بدلا ... واختر عوضا فقلت ردوا عمري. وله أيضا يا عيسهم إن جزت وادي العلمي ... بالله قفي عساك تبري سقمي. ورقى لصب ما كان يرضى أبداً ... بالوصل غدا يرقب طيف الحلم. وله أيضاً سحت بدموعها وسحت بدمعي ... أجفان ظنن اللبس ثوب السقم. راض بغرامه ينادي أبداً ... في محنته يا نعمة الحب دمي. وله ما تم على المجنون ما تم على ... لما بعث الحبيب العتب على. يا من عتبوا على كئيب دنف ... هل ينفع عتبكم إذا لم اك حي.

وقال اروي خبرا يعرفه كل فقيه ... الخمر حلال من ثناياه وفيه. قد أرشدني الحاكم في عشقه ... إن اتركه يقال لي أنت سفيه. وقال بابي وبي طيف طرق ... عذب اللمى والمعتنق. ما إن مددت يدي إل ... يه معانقا حتى أبق. ثم انتبهت فما وجد ... ت سوى الصبابة والحرق. فلأي عقل ما سبا ... ولأي قلب ما سرق. وطفقت انشد بعده ... ولواء قلبي قد خفق. أوحشت جفني يا كرى ... وحرمت انسك يا أرق. يا شمس قلبي في هواك ... عطارد وقد احترق. في نون صدغك حرف أي ... الكاتبين لها مشق. أخجلت خد الورد من ... ك بوجنة مثل الشفق. حتى تقطر دائبا ... وعلامة الخجل العرق. يا قوم من لمتيم ... فتكت به سود الحدق. وبقلبه من لم يدع ... رمقا له لما رمق. شتان ما اشتملت لوا ... حظه عليه وما امتشق. ملك الملاح ترى العيو ... ن عليه دائرة نطق. ومخيم بين الجفو ... ن وفي الفؤاد له سبق.

14 - ب فاز الوشاح بضمهوخليت أنا في القلق. قيدت قلبي في هواه ... فخاف دمعي مانطلق. يعقوب بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي أبو إسحاق الملك المعز محي الدين بن الملك العادل سيف الدين كان شقيق الملك المظفر شهاب الدين غازي وله الحرمة العظيمة في الدول وكان بخلاط لما أخذها خوارزم شاه من الملك الأشرف رحمه الله تعالى فأخذه أسيراً ثم أطلقه بعد ذلك وأجاز له جماعة من الحفاظ منهم أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وغيره وحدث وتوفي بدمشق في سادس عشر ذي القعدة ودفن من يومه بقبر والده الملك العادل بمدينة مشق رحمه الله تعالى قال سيف الدين مسعود بن حمويه أنشدني الملك المظفر نجم الدين يعقوب المذكور سنة تسع وعشرين وستمائة. إذا ما جرى من جفن غيري أدمع ... جرت من جفوني أبحر وسيول. ووالله ما ضاعت دموعي فيكم ... ولو أن روحي في الدموع تسيل. اتفق أهل التاريخ على أن نجم الدين أيوب رحمه الله من دوين وهي في آخر عمل أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج وأنهم أكراد رواديه والروادية بطن من الهذبانية وهي قبيلة كبيرة وقيل أن على باب دوين قرية يقال لها أجدا يقال وجميع أهلها أكراد رواديه ومولد نجم الدين بها وكان شادي أخذ ولديه نجم الدين أيوب

وأسد الدين شيركوه وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا تكريت ومات شادي بتكريت وعلى قبره قبة داخل البلد وقال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله لقد تتبعت نسبهم كثيراً فلم أجد أحد ذكر بعد شادي أباً آخر حتى أني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شادي وأيوب بن شادي لا غير ورأيت مدرجاً رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحوشي وقد سمعه عليه الملك المعظم عيسى وولده الملك الناصر داود رحمهما الله وهو يتضمن أن أيوب بن شادي بن مرون ابن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن - أبي - علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن - بيهس - بن الحارث صاحب الحمالة بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ثم رفع في النسب إلى آدم عليه السلام ثم ذكر أن علي بن أحمد بن - أبي - علي بن عبد العزيز يقال أنه ممدوح المتنبي ويعرف بالخراساني وفيه يقول من قصيدة. شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام. وأما حارثة بن عوف بن أبى حارثة صاحب الحمالة فهو الذي حمل

الدماء بين عيسى..... وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان وفيهما يقول زهير بن أبي سلمى المدني قصائد منها قوله. على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبدل. وهل ينبت الخطى الأوشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل. قلت وقد كان المعز فتح الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب بن شادي ملك اليمن أدعى نسباً في بني أمية وادعى الخلافة وبلغ ذلك عمه الملك العادل رحمه الله فأنكر ذلك وقال ليس لهذا أصل وسمعت الملك الأمجد تقي الدين عباس بن العادل رحمه الله وقد جرى ذكر نسبهم وقول بعض الناس أنهم من بني أمية ينكر أن يكون لهم نسب في بني أمية وقال ما معناه لو كان عمي صلاح الدين رحمه الله قرشياً لولي الخلافة فإن شروطها اجتمعت فيه ماعدا النسب وكان نجم الدين ِأيوب رحمه الله قد جعله عماد الدين زنكي دوادار ببعلبك لما فتحها وفي قلعة بعلبك ولد له الملك سيف الدين أبو بكر رحمه الله والد صاحب هذه الترجمة والله أعلم. يوسف بن قزأوغلي بن عبد الله أبو المظفر شمس الدين البغدادي الواعظ المشهور سبط أبي الفرج بن عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله كان والده حسام الدين قزعلي من مماليك الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة رحمه الله وكان عنده بمنزلة الولد فاعتقه وخطب له ابنة الحافظ

جمال الدين وكانت قد تأيمت بوفاة زوجها - لبى عددها - فلم يمكن الشيخ جمال الدين إلا إجابة الوزير إلى ذلك فزوجها منه فأولدها شمس الدين المذكور فلما ترعرع اجتذبه جده إليه واشغله وتفقه واسمعه الكثير عليه وعلى غيره وكان أوحد زمانه في الوعظ حسن الإيراد ترق لرؤيته القلوب وتذرف لسماع كلامه العيون وتفرد بهذا الفن وحصل له فيه القبول التام وفاق فيه من عاصره وكثيراً ممن تقدمه حتى أنه كان يتكلم في المجلس الكلمات اليسيرة المعدودة أو ينشد البيت الواحد من الشعر فيحصل لأهل المجلس من الخشوع والاضطراب والبكاء ما لا مزيد عليه فيقتصر على ذلك القدر اليسير وينزل فكانت مجالسه نزهة القلوب والأبصار يحضرها الصلحاء والعلماء والملوك والأمراء والوزراء وغيرهم ولا يخلو المجلس من جماعة يتوبون ويرجعون إلى الله تعالى وفي كثير من المجالس يحضر من يسلم من أهل الذمة فانتفع بحضور مجالسه خلق كثير وكان الناس يبيتون ليلة المجلس في جامع دمشق ويتسابقون على مواضع يجلسون فيها لكثرة من يحضر مجالسه وكان يجري فيها من الطرف والوقائع المستحسنة والملح الغريبة ما لا يجري في مجالس غيره ممن عاصره وتقدم عصره أيضاً وكان له الحرمة الوافرة والوجاهة العظيمة عند الملوك وغيرهم من الأمراء والأكابر ولا ينقطعون عن التردد إليه وهو يعاملهم بالفراغ منهم ومما في أيديهم وينكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعين فيها الإنكار وهم يتطفلون عليه

وكان في أول أمره حنبلي المذهب فلما تكرر اجتماعه بالملك المعظم عيسى بن الملك العادل رحمهما الله اجتذبه إليه ونقله إلى مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه وكان الملك المعظم شديد التغالي في مذهب أبي حنيفة فغض ذلك الشيخ شمس الدين عند كثير من الناس وانتقدوه عليه حكى لي بعض الفقراء أرباب الأحوال قال له وهو على المنبر إذا كان الرجل كبيراً ما يرجع عنه إلا لعيب ظهر له فيه وأي شيء ظهر لك في الإمام أحمد حتى رجعت عنه فقال له اسكت فقال أما أنا فقد سكت وأما أنت فتكلم فرام الكلام فلم يستطعه ولا قدر عليه فنزل عن المنبر ومع ذلك كان يعظم الإمام أحمد رحمة الله عليه ويبالغ في المغالاة فيه وتوفيته بعض ما يستحق وعندي أنه لم ينتقل عن مذهبه إلا في الصورة الظاهرة والله اعلم - ومع هذا فكان له القبول التام من الخاص والعام من وأهل الدنيا أهل الآخرة وكان لطيف الشمائل، ظريف الحركات، حسن المعاملة لسائر الناس محبوباً إليهم معظماً في صدورهم وكان عنده فضيلة تامة ومشاركة في العلوم جمة ولو لم يكن من ذلك إلا التاريخ الذي ألفه وسماه بمرآة الزمان وهو بخطه في سبع وثلاثين مجلدا جمع فيه أشياء مليحة جداً وأودعه كثيرا من الأحاديث النبوية الشريفة صلوات الله وسلامه على قائلها - وجملة من أخبار الصالحين وقطعة من الأشعار المستحسنة وسلك في جمعه مسلكاً غريباً وهو من أول الزمان إلى أوائل سنة أربع

وخمسين وستمائة هذه السنة التي توفي فيها إلى رحمة الله تعالى، وكنت اختصرته كما ذكرت في خطبة هذا المذيل ثم خطر لي أن أذيل عليه فشرعت في تعليق الحوادث والوفيات حسب ما نمى إلى علمي لاستقبال هذه السنة، وبالله التوفيق والله المستعان. وللشيخ شمس الدين المذكور رحمه الله - 16ب - تصانيف آخر مفيدة في أنواع من علوم شتى ومولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تقريباً وذكر قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله عنه أنه قال ذكرت والدتي أن مولدي في سنة أثنين وثمانين وخمسمائة وقال لي خالي محي الدين يوسف أنه في سنة إحدى وثمانين قال وكان مولدي في رجب سمع ببغداد من جده الإمام أبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب وأبي محمد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد وأبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد والحافظ أبي محمد عبد العزيز بن محمود بن الأخضر وغيرهم وبالموصل من أبي طاهر أحمد وأبي القاسم عبد المحسن ابني عبد الله الطوسي وغيرهما وبدمشق من شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ومن العلامة أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهما وسمع بغير هذه البلاد من جماعة من المشايخ وحدث بدمشق وبالديار المصرية وغيرها وكان أحد العلماء المشهورين محمود الفضائل وتوفي ليلة الثلاثاء ثلث الليل العشر من ذي الحجة أوالحادي والعشرين منه بمنزله بجبل الصالحية ظاهر دمشق ودفن هناك وحضر

جنازته الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله سلطان الشام إذ ذاك وسائر الأمراء والأكابر وغيرهم من الناس ودرس بالمدرسة الشبلية مدة وبالمدرسة - البدرية - الحسنية وبالمدرسة المعزية التي على شرف الميدان من جهة الشمال وكان إماماً عالماً فاضلاً منقطعاً عن الناس والتردد إليهم متواضعاً لين الكلمة لزم في آخر عمره ركوب الحمار من منزله بالجبل إلى مدرسته وإلى غيرها مقتصداً في لباسه مواظباً على المطالعة والاشتغال والتصنيف مصنفاً لأهل العلم والفضل مبايناً لأهل الزيغ والجهل ويأتي الملوك وأرباب الدول إلى بابه زائرين وقاصدين ومتأنسين بمحادثته والاقتباس من فوائده وعاش طول عمره في جاه طويل عريض وعيش رقيق الحواشي جعل الله ذلك مواصلاً بنعيم الآخرة وسعادتها السرمدية وولده عز الدين كان عنده فضيلة ووعظ بعده فلم يكن يدانيه في ذلك فبقي سنيات يسيرة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وخلف ولداً صغيراً فلم يكن له من يربيه ويقوم بأمره فنشأ على غير طريقة سلفه وخدم بعض ذرية الملك المعظم عيسى رحمه الله كاتباً وغيرهم وهو إلى الآن على ذلك. أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك الأمير سيف الدين القيمري واقف الماستان بجبل الصالحية ومدفنه في القبة المقابلة له من جهة الشمال بينهما الطريق كان أكبر الأمراء في آخر

عمره وأعظمهم مكانة وأعلاهم همة وجميع أمراء الأكراد من القيمرية وغيرهم يتأدبون معه ويقفون في خدمته وهم بين يديه كالأتباع مطاعاً فيهم ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث شعبان من هذه السنة أعني سنة أربع وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى وكان كثير البر والمعروف والصدقة ولو لم يكن له من ذلك إلا المارستان الذي ضاهى به مارستان نور الدين رحمه الله تعالى لكفاه. حكى لي شجاع الدين محمد بن شهري رحمه الله ما معناه أن الأمير سيف الدين المذكور رحمه الله كان تزوج ابنة الأمير عز الدين بن المحلي رحمه الله على صداق كبير وجهزت بجهاز كثير واستصحبها معه إلى الديار المصرية فتوفيت هناك عن غير ولد فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما الله تعالى دمشق والشام حضر الأمير سيف الدين من الديار المصرية إلى خدمته وأخذ قماش زوجته المتوفاة وجهازها ومالها من الفضيات والمصاغ وغير ذلك وحمله على عشرين بغلاً ووزن باقي صداقها ومائتي ألف درهم وجعلها في صناديق وحملها على البغال وسير الجميع إلى الأمير نور الدين علي بن المحلي بحكم أنه وارثها مع زوجها فلما وصل ذلك إلى الأمير نور الدين أنكره غاية الإنكار ورده وقال لرسوله الأكراد ما جرت عادتهم يأخذون صداقاً ولا ميراثاً فلما عاد ذلك إلى الأمير سيف الدين قال هذا شيء خرجت عنه

سنة خمس وخمسين وستمائة

وما يعود إلى ملكي وصرفه جميعه في بناء المارستان وأوقافه وتصدق به. سنة خمس وخمسين وستمائة استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية وفي شهر رمضان منها توجه الملك العزيز بن الملك الناصر إلى هولاكو بهديةٍ سنيةٍ جليلةٍ وكان في خدمته الأمير سيف الدين إبراهيم الجاكي والحافظي وغيرهما وفيها أشتهر أن الملك المعز صاحب مصر قد عزم على أن يتزوج ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأن قد تردد بينهما الرسائل في ذلك وبلغ زوجته شجر الدر وكانت جارية الملك الصالح نجم الدين أيوب وأم ولده خليل فعظم ذلك عليها وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك فطلبت صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وكان مقيماً في الديار المصرية وله تقدم في الدول ووجاهة عند الملوك فاستشارته في ذلك ووعدته أن يكون الوزير والحاكم في الدولة فأنكر عليها ذلك ونهاها عنه فلم تصغ إلى ذلك وطلبت مملوكها الطواشي محسن الجوجري الصالحي وعرفته ما عزمت عليه ووعدته الوعد الجميل إن قتله واستدعت جماعة من الخدام الصالحية وأطلعتهم على هذا الأمر واتفقت معهم عليه فلما كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول لعب الملك المعز بالكرة في ميدان اللوق إلى آخر النهار ثم صعد إلى قلعة الجبل

والأمراء في خدمته والوزير شرف الدين الفائزي والقاضي بدر الدين السنجاري فلما دخل القلعة وفارقه الموكب وصار إلى داره أتى إلى حمام الدار ليغتسل فيه فلما خلع ثيابه وثب عليه سنجر مملوك الجوجري والخدام فرموه إلى الأرض وخنقوه وطلبت شجر الدر الصفي بن مرزوق على لسان الملك المعز فركب حماره وبادر وكانت عادته يركب الحمار في الموكب السلطاني وغيره مع عظم مكانته وكثرة أمواله ودخل القلعة من باب سر فتح له وادخل الدار فرأى شجر الدر جالسة والملك المعز بين يديها ميتاً فأخبرته الخبر فعظم عليه وخاف خوفاً شديداً فاستشارته فيما تفعل فقال ما أعرف ما أقول وقد وقعت في أمر عظيم ما لك منه من مخلص وكان الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي معتقلاً في بعض الآدر مكرماً فأحضرته في تلك الليلة وطلبت منه أن يقوم بالأمر فامتنع وسيرت في تلك الليلة إصبع الملك المعز وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة ولما كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين منه ركب الأمراء والأكابر إلى القلعة على عادتهم وليس عندهم خبر بما جرى ولم يركب الفائزي في ذلك اليوم وتحيرت شجر الدر فيما تفعل فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز تقول له عن أبيه أنه ينزل إلى البحر في جمع من الأمراء لإصلاح الشواني التي تجهزت للمضي إلى دمياط ففعل وقصدت بذلك أن يقل من على الباب لتتمكن مما

تريد فلم يتم مرادها. ولما تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعز واضطربت الناس في البلد واختلفت أقاويلهم ولم يتفقوا على حقيقة الأمر وركب العسكر إلى جهة القلعة وأحد قوابها ودخلها مماليك الملك المعز والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وطمع الأمير عز الدين الحلبي في التقدم وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحية فلم يتم لهم مرادهم ثم استحضر الذين في القلعة الوزير شرف الدين الفائزي واتفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علي بن الملك العز وعمره يومئذ نحو خمس عشر سنة فرتبوه في الملك ونودي في البلد بشعاره وسكن الناس وتفرقت الأمراء الصالحية إلى دورهم ولما كان يوم الخميس خامس وعشرين الشهر وقع في البلد خبط عظيم وركب العسكر إلى القلعة واتفق رأي الذين في القلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبي المعروف بالمشد أتابكاً للملك المنصور واستحلفوا العسكر له وحلف له الأمراء الصالحية على كره من أكثرهم وامتنع الأمير عز الدين الحلبي ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وفي يوم الجمعة سادس وعشرين منه خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة وأما شجر الدر فامتنعت بدار السلطنة هي والذين قتلوا الملك المعز وطلب مماليك المعز هجوم الدار عليهم فحالت الأمراء الصالحية بينهم وبين ذلك فأمنها مماليك المعز وحلفوا أنهم لا يتعرضون لها بمساءة ولما كان يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرجت من دار السلطنة

إلى البرج الأحمر وعندها بعض جواريها وقبض على الخدام واقتسمت الجواري فكان نصر العزيزي الصالحي هو أحد الخدام القتلة قد هرب يوم ظهور الواقعة إلى الشام واحتيط على الدار وجميع من فيها وكلن يوم ظهور الواقعة احضر الصفي بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجر الدر فعرفهم صورة الحال فصدقوه وأطلقوه وحضر الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي وكان الناس قد قطعوا بموته فأمر باعتقاله ثم نقل إلى الإسكندرية فاعتقل بها وفي يوم الاثنين المذكور صلب الخدام الذين اتفقوا على قتل المعز وهرب سنجر غلام الجوجري ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن فمات سنجر وقت العصر من هذا اليوم على الخشبة وتأخر موت الباقين إلى تمام يومين. وفي يوم الخميس ثاني ربيع الآخر ركب ودخل القاهرة من باب النصر وترجل جميع الأمراء خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبي وصعد القلعة ومد السماط للأمراء وتقرر في الملك ووزر له وزير أبيه شرف الدين الفائزي وفي يوم الجمعة ثالث ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه علم الدين سنجر الحلبي. وفي مستهل ربيع الآخر فوض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضي بدر الدين السنجاري وعزل عن ذلك تاج الدين ابن بنت الأعز وأبقى عليه قضاء مصر وعملها. وفي يوم الجمعة عاشر الشهر قبض الأمير سيف الدين قطز وعلم الدين سنجر الغتمي وسيف الدين بهادر وغيرهم من المعزية على الأتابك

علم الدين سنجر الحلبي وأنزلوه إلى الجب بالقلعة لتخيلهم منه الاستيلاء على الملك فاضطرب الأمراء الصالحية وركب العسكر وخيف على البلد النهب ثم خاف الصالحية على أنفسهم فهرب أكثرهم إلى جهة الشام وتقنطر بالأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير فرسه وكذلك خاص ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وادخلا ميتين واتبع العسكر المنهزمين فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها وقبض على الأمير شرف الدين الفائزي واعتقل وفوض أمر الوزارة إلى القاضي بدر الدين يوسف السنجاري مضافاً إلى قضاء القاهرة وما معها واحتيط على موجود الفائزي وكان له مال كثير ولكن كان أكثره مودعاً وأخذ خطه الأمير سيف الدين قطز بمائة ألف دينار واحتيط على بهاء الدين علي - بن محمد بن سليم - بن حنّا وزير شجر الدر وأخذ خطه بستين ألف دينار. وفي يوم الأربعاء منتصف الشهر المذكور رتب الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا للملك المنصور. وفي رجب رفعت يد القاضي بدر الدين من الوزارة وأضيف إليه قضاء مصر وأعمالها فكمل له قضاء الإقليم بكامله وولي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز الوزارة. وفي هذه السنة وقعت وحشة في نفس الملك الناصر صلاح الدين يوسف من البحرية وأنهى إليه أنهم عزموا على اغتياله والتغلب على

الملك فتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق ففارقوها على صورة العصيان والمشاققة ونزلوا غزة ثم انتموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل صاحب الكرك وفي شعبان كثرت الأراجيف بالقاهرة بأن الأمراء والأجناد اتفقوا على إزالة أمر مماليك الملك المعز عن البلد وأن الملك المنصور تغير على الأمير سيف الدين قطز واجتمع أكثر الأمراء في دار الأمير بهاء الدين بغدي مقدم الحلقة ثم رضى الملك المنصور على قطز وخلع عليه وطيب قلبه. وفي رابع شهر رمضان ركب الأمير بهاء الدين بغدي وبدر الدين بلغان بعد أن جرح بلغان وانهزم من كان معهما وحملا إلى القلعة ودخل المعزية القاهرة فقبضوا على الأمير عز الدين أيبك الأسمر وارزن الرومي وسابق الدين توزبا الصيرفي وغيرهم من الأشرفية ونهبت دورهم ووقع في البلد اضطراب عظيم ثم نودي بالأمان لمن دخل في الطاعة وسكن الناس. وفي خامس شهر رمضان ركب الملك المنصور وفي خدمته الأمير سيف الدين قطز وباقي مماليك أبيه وشق القاهرة وفي عيد الفطر نزل الملك المنصور وصلى في المصلى ثم ركب إلى القلعة ومد السماط ووردت الأخبار إلى الديار المصرية بمفارقة البحرية للملك الناصر

صلاح الدين يوسف فظن المصريون أن ذلك خديعة من الملك الناصر وأنه قد عزم على قصد البلاد فأخذوا في التحرز. وفي ثالث شوال خرج من القاهرة جماعة أمراء مقدمهم الدمياطي وخرج غد هذا اليوم آخرون ونزلت العساكر بالعباسة وما حولها ثم وردت الأخبار بأن عساكر الملك الناصر وصلت نابلس لحرب البحرية وكانوا نازلين غزة ثم ورد الخبر أن البحرية كبسوا الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة ليلاً ثم ورد الخبر أن عسكر الملك الناصر كسروا البحرية وأن البحرية انحازوا إلى ناحية زغر من الغور. وفي الثالث عشر منه دخل جماعة من البحرية إلى القاهرة منهم الأمير عز الدين أيبك الأفرم فتلقوا بالإكرام وأفرج عن أملاك الأفرم ونزل بداره بمصر وترادفت الأخبار بالديار المصرية أن البحرية رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات فاتضح من أمرهم أنهم خرجوا من دمشق على حمية وأنهم قصدوا القدس الشريف وهو مقطع الأمير سيف الدين ايبك من جهة الملك الناصر وطلبوا منه أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه وخطبوا للملك المغيث وجاءوا إلى غزة وقبضوا واليها وأخذوا حواصل الملك الناصر بغزة والقدس وغيره وقصدتهم عساكر الملك الناصر فجرى ما تقدم ذكره من كبسهم للعسكر الناصري ثم انتصر عليهم العسكر الناصري فانهزموا إلى البلقاء ثم إلى زغر ودخلوا في طاعة الملك المغيث وانفق فيهم جملة كثيرة من المال وطمعوا في أخذ مصر له

ذكر ما تجدد للملك الناصر داود

وأنزل إليهم بعض عسكره والطواشي بدر الدين الصوابي وفي الثاني عشر ذي القعدة وردت الأخبار إلى الديار المصرية بأن البحرية عازمون على قصد البلاد فخرج الأمير علم الدين الغتمي - المعزي - وبعد العسكر وفي غد هذا اليوم وقع الانزعاج الشديد وخرجت الأمراء والحلقة واجتمع العسكر المصري بالصالحية فلما كان سحر ليلة السبت منتصف ذي القعدة وصلت البحرية ومن معهم من عسكر المغيث ووقعت الحرب بين الفريقين واشتد القتال وخرج جماعة من الناس والمصريون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس ورأت البحرية كثرة المصريين فانهزموا وأستوسر منهم سيف الدين الرشيدي وبه جراحات وهرب الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وبدر الدين الصوابي إلى الكرك وبعض البحرية دخل في العسكر المصري ودخل العسكر إلى القاهرة وزين البلد لهذه الوقعة. وفيها وصل الشيخ نجم الدين محمد البادرائي رسول الخليفة المستعصم بالله إلى دمشق المحروسة وأفاض الخلعة المكملة على الملك الناصر صلاح الدين يوسف والفرس والطوق الذهب ومعه التقليد بالسلطنة فركب بالخلعة الأمامية وكان يوماً مشهوداً. ذكر ما تجدد للملك الناصر داود كنا ذكرنا وصوله إلى دمشق وأقامته بتربة والده فلما رأى

إعراض الملك الناصر صلاح الدين يوسف عنه وبلغه أنه ربما يقبض عليه مضى إلى - 22 ب - الشيخ نجم الدين البادرائي فاستجار به وسأله أن يتوجه صحبته إلى العراق فأجابه فتوجه ومعه جماعة من أولاده فلما وصلوا حلباً وكان بها الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الناصر يوسف وكان أبوه قد أرسله إلى ملك التتر فورد إلى الملك العزيز ومن معه بكتاب الملك الناصر يوسف بأن تشيروا على الشيخ نجم الدين البادرائي أن لا يستصحب الملك الناصر داود معه وانهم يتحيلون في انقطاعه عنه ويقبضون عليه فلما خرج الشيخ نجم الدين متوجهاً إلى العراق ومعه الملك الناصر داود خرج الملك العزيز وجماعة من أعيان الدولة لوداعه وتقدم إليه بعضهم وحدثه في ذلك وأحس الناصر داود بالقضية فتقدم إلى الشيخ نجم الدين وأخذ بذيله وقال معاذ الله أن يمنعني مولانا من قصد الأبواب الشريفة والاستظلال بظلها وأنا معي كتاب السلطان الملك الناصر لما كنت المرة الأولى بالعراق أنه يقرر لي كل سنة مائة ألف درهم ويأذن لي في التوجه إلى حيث شئت ولم يصل إلي منه ذلك وأخرج خط الملك الناصر يوسف فقال للبادرائي هذا قد استجار بالديوان وطلب التوجه إلى الخدمة الشريفة فما يسعني منعه ومعه خط الملك الناصر أنه لا يمنع من ذلك فرجعوا الجماعة إلى حلب وسافر الملك الناصر داود فلما وصلوا قرقيسيا خاف الشيخ نجم الدين أن يصل به إلى العراق من غير تقدم فأشار عليه أن يقيم بقرقيسيا حتى

فصل

يأخذ له دستوراً للوصول فأقام بها وأبطأ عليه الأذن فعدا الفرات إلى جهة الشام متوجهاً إلى تيه بني إسرائيل واجتمع عليه جماعة من العرب ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فصل وفيها توفى أحمد بن مكي بن المسلم بن مكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن خضر بن قر بن عبد الواحد بن علي بن غيلان أبو المظفر القيسي الدمشقي كان من أعيان الدمشقيين ومن البيوت المشهورة بها سمع من حنبل وحدث وتوفي بدمشق في السابع والعشرين من المحرم ودفن من الغد ببستانه من أرض بنيت لها رحمه الله. اسمعيل بن عبد الله بن سعيد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أبي المجد عماد الدين بن باطيش الموصلي الفقيه الشافعي كان من الأعيان الأماثل الأفاضل مولده بالموصل في السادس المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة سمع من الحافظ أبي الفرج بن الجوزي وغيره وحدث وخرج لنفسه أحاديث ودرس وأفتى وصنف تصانيف حسنة مفيدة وكان أحد العلماء المذكورين وتوفي بحلب في رابع جمادى الآخرة رحمه الله تعالى. - 23 ب - أيبك بن عبد الله الصالحي الملك المعز عز الدين المعروف بالتركماني كان في بداية أمره مملوكاً للملك الصالح نجم الدين - أيوب - اشتراه في حياة أبيه الملك الكامل وتنقلت به الأحوال عنده ولازمه في الشرق وغيره وجعله جاشنكيره ولهذا لما أمره كان

رنكه صورة خوانجا فلما قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين وبقيت الديار المصرية بلا ملك تشوف إلى السلطنة أعيان الأمراء فخيف من شرهم وكان الأمير عز الدين التركماني معروفاً بالسداد وملازمة الصلاة ولا يشرب الخمر وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب وهو من أوسط الأمراء فاتفقوا عليه وسلطنوه في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة وركب السناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه وأول من حملها الأمير حسام الدين بن أبي علي ثم تداولها أكابر الأمراء وقالوا هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته ولكونه من أوسط الأمراء ثم اجتمع الأمراء البحرية فاتفقوا على انه لابد من إقامة شخص في الملك من بني أيوب يجتمع الكل على طاعته وكان سبب ذلك أن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والأمير ركن الدين بيبرس البندقداري والأمير سيف الدين بلبان الرشيدي والأمير شمس الدين سنقر الرومي واتفقوا أن التركماني سلطاناً عليهم واختاروا أن يقيموا صبيا من بني أيوب له اسم الملك وهم يدبرونه ويأكلون الدنيا بأسمه فوقع اتفاقهم على الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك الناصر يوسف بن الملك المسعود بن الملك الكامل وكان عند عماته القطبيات وعمره نحو عشر سنين فأحضروه وسلطنوه وخطبوا له وجعلوا التركماني أتابك وذلك لخمس مضين من

جمادى الأولى بعد سلطنة الملك المعز بخمسة أيام وكانت التواقيع تخرج وصورتها - رسم بالأمر العالي المولى السلطاني الملكي الأشرفي والملكي المعزى - واستمر الحال على ذلك والملك المعز المستولي على التدبير ويعلم على التواقيع والملك الأشرف صورة فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق في سنة ثمان وأربعين خرج الأمير ركن الدين وجماعة من العسكر إلى غزة فلقيهم عساكر الملك الناصر فاندفعوا راجعين ونزلوا بالسابح وبه جماعة من الأمراء فاتفقت كلمة الجميع على مكاتبة الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن الملك الكامل صاحب الكرك والشوبك وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة لأربع مضين من جمادى الآخرة فأمر الملك المعز بالنداء بالقاهرة ومصر بأن البلاد للخليفة المستعصم بالله والملك المعز نائبه بها وذلك يوم السبت لخمس مضين من جماد الآخر سنة ثمان وأربعون ووقع الحث في خروج العساكر وجددت الأيمان للملك الأشرف بالسلطنة وللملك المعز بالأتابكية ثم قصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف الديار المصرية بالعساكر وضرب مصافاً مع العساكر المصرية وكسروا كسرة شنيعة ولم يبق إلا تملك الملك الناصر البلاد وخطب له في قلعة الجبل ومصر وغيرها من الأعمال على ما هو مشهور وتفرقوا منهزمين لا يلوون على شيء وتبعتهم عساكر الملك الناصر في شرذمة يسيرة من أعيان الأمراء والملوك تحت السناجق والكوسات تخفق وراءه وقد تحقق

النصر والظفر وأما الملك المعز فتحيز في أمره إذ ليس له جهة يلتجئ إليها فعزم بمن كان معه من الأمراء على دخول البرية والتوصل إلى مكان يأمنون فيه على أنفسهم وظهر لهم بعد ذلك عليهم فاجتازوا إلى الملك الناصر على بعد وهم في نفر يسير - وهو في نفر يسير - فرموا أنفسهم عليه وحملوا عليه حملة رجل واحد وقتل الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني مدبر الدولة وأتابك العساكر والأمير ضياء الدين القيمري وغيرهما وهرب الملك الناصر لا يلوي على شيء وكسر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل والملك الأشرف ابن صاحب حمص والملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين وغيرهم واستمرت الكسرة على عساكر الشام وبلغ خبرها الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وقد قارب بلبيس ومعه قطعة كبيرة من الجيش فقال ما علينا نحن قد ملكنا البلاد والسلطان يعود إلينا وكان بعض الأمراء قد توهم أن الملك الناصر ربما قتل فقال الأمير نجم الدين أمير حاجب لابن يغمور ياخوند جمال الدين حب الوطن من الأيمان كأنه نسبه إلى أنه أختار دخول الديار المصرية على كل حال وأنه ربما له باطن مع المصريين فغضب لذلك وثنى رأس فرسه وعاد ولو كان دخل بمن معه لملك البلاد وعاد الملك المعز إلى الديار المصرية مظفراً منصوراً وخرج الملك الأشرف من قلعة الجبل للقائه ورسخ قدم الملك المعز وعظم شأنه واستمر الحال على ذلك إلى سنة إحدى وخمسين فوقع الاتفاق بينه وبين الملك الناصر على أن يكون له وللبحرية الديار المصرية وغزة والقدس وما في البلاد الشامية للملك الناصر وأفرج عن الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخيه نصرة الدين والملك الأشرف بن صاحب حمص وغيرهم - 25ب - من الاعتقال وتوجهوا إلى الشام وعظم شأن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والتفت عليه البحرية وصار يركب بالشاويش وحدثته نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد فيما بينهم وخطب بنت الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة وهي أخت الملك المنصور صاحبها وتحدث مع الملك المعز أنه يريد يسكنها في قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك ولا يليق سكناها بالبلد فاستشعر الملك المعز منه - بما عزم عليه - وعمل على قتله ولم يقدم على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره في الفتك به فلم يجبه في ذلك بشيء مع كونه يؤثر ذلك لكنه علم أنه مقتول على كل حال وسير الأمير فارس الدين ليحضر بنت حماة إليه فخرجت من حماة ووصلت دمشق في تجمل عظيم وعدة محفاة مغشاة بالأطلس وغيره من فاخر القماش وعليها الحلي والجواهر ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجهة إلى الديار المصرية، وأما الملك المعز فانه لما أبطأ عليه جواب الملك الناصر وتحقق أن بنت صاحب حماة في الطريق بقي بين خطتي خسف إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكلية وإن سكنه قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكن من إخراجه ويترتب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين بالملك فعمل على معالجته فدخل إليه على عادته وقد رتب له الملك المعز جماعة للفتك به منهم الأمير سيف الدين قطز المعزي وغيره من مماليكه المعزية فقتلوه في دار السلطنة بقلعة الجبل في سنة اثنتين وخمسين ثم خلع بعد قتله الملك الأشرف من السلطنة وأنزله من قلعة الجبل إلى عماته القطبيات وركب الملك المعز بالسناجق السلطانية وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقل بالملك بمفرده استقلالا تاما ثم أن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم ثم تقرر الصلح بينه وبين الملك الناصر على أن يكون الشام جميعه للملك الناصر يوسف وديار مصر للملك المعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو فيما بين الواردة والعريش وذلك بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي وتزوج الملك المعز بشجر الدر في سنة ثلاث وخمسين فكان ذلك سببا لقتله وقد ذكرنا كيفية ذلك وما جرى عند ذلك وسلطنة ولده المنصور نور الدين فأغنى عن إعادته وكان الملك المعز كثير الكرم والبذل لا يمنع طالب حاجة إلا في النادر وأطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة وكان عفيفا طاهر - 26ب - الذيل لا يشرب مسكراً ولا يرى العسف والجور كثير المداراة لخشداشيته والاحتمال لتجنيهم وشراسة أخلاقهم وخلف عدة أولاد منهم الملك المنصور نور الدين علي وناصر الدين قاآن ورأيت له ولداً آخر بالديار المصرية سنة تسع وثمانين وهو في زي الفقراء الحريرية وكان للملك المعز رحمه الله عدة مماليك أمراء نجباء منهم الملك المظفر قطز رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى وغيره، ومعظمهم كرماء على سجيته وكان قتل الملك المعز بقلعة الجبل عشية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وقيل السادس وعشرين منه، وكان له بر ومعروف وبنى المدرسة المعزية بمصر على النيل وهي من أحسن المدارس ووقف عليها وقفاً جيداً ولها دهليز عظيم متسع طويل مفرط في السعة والطول بلغني أن بعض الكبراء دخلها فرآها صغيرة بالنسبة إلى مجازها فقال هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة وكان يلي تدريسها القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري رحمه الله إلى أن مات وهو على تدريسها وملك الملك المعز الديار المصرية نحو سبع سنين وتوفي وقد ناهز الستين سنة رحمه الله تعالى. سه وعاد ولو كان دخل بمن معه لملك البلاد وعاد الملك المعز إلى الديار المصرية مظفراً منصوراً وخرج الملك الأشرف من قلعة الجبل للقائه ورسخ قدم الملك المعز وعظم شأنه واستمر الحال على ذلك إلى سنة إحدى وخمسين فوقع الاتفاق بينه

وبين الملك الناصر على أن يكون له وللبحرية الديار المصرية وغزة والقدس وما في البلاد الشامية للملك الناصر وأفرج عن الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخيه نصرة الدين والملك الأشرف بن صاحب حمص وغيرهم - 25ب - من الاعتقال وتوجهوا إلى الشام وعظم شأن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والتفت عليه البحرية وصار يركب بالشاويش وحدثته نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد فيما بينهم وخطب بنت الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة وهي أخت الملك المنصور صاحبها وتحدث مع الملك المعز أنه يريد يسكنها في قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك ولا يليق سكناها بالبلد فاستشعر الملك المعز منه - بما عزم عليه - وعمل على قتله ولم يقدم على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره في الفتك به فلم يجبه في ذلك بشيء مع كونه يؤثر ذلك لكنه علم أنه مقتول على كل حال وسير الأمير فارس الدين ليحضر بنت حماة إليه فخرجت من حماة ووصلت دمشق في تجمل عظيم وعدة محفاة مغشاة بالأطلس وغيره من فاخر القماش وعليها الحلي والجواهر ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجهة إلى الديار المصرية، وأما الملك المعز فانه لما أبطأ عليه جواب الملك الناصر وتحقق أن بنت صاحب حماة في الطريق بقي بين خطتي خسف إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكلية وإن سكنه

قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكن من إخراجه ويترتب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين بالملك فعمل على معالجته فدخل إليه على عادته وقد رتب له الملك المعز جماعة للفتك به منهم الأمير سيف الدين قطز المعزي وغيره من مماليكه المعزية فقتلوه في دار السلطنة بقلعة الجبل في سنة اثنتين وخمسين ثم خلع بعد قتله الملك الأشرف من السلطنة وأنزله من قلعة الجبل إلى عماته القطبيات وركب الملك المعز بالسناجق السلطانية وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقل بالملك بمفرده استقلالا تاما ثم أن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم ثم تقرر الصلح بينه وبين الملك الناصر على أن يكون الشام جميعه للملك الناصر يوسف وديار مصر للملك المعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو فيما بين الواردة والعريش وذلك بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي وتزوج الملك المعز بشجر الدر في سنة ثلاث وخمسين فكان ذلك سببا لقتله وقد ذكرنا كيفية ذلك وما جرى عند ذلك وسلطنة ولده المنصور نور الدين فأغنى عن إعادته وكان الملك المعز كثير الكرم والبذل لا يمنع طالب حاجة إلا في النادر وأطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة وكان عفيفا طاهر - 26ب - الذيل لا يشرب مسكراً ولا يرى العسف والجور كثير المداراة لخشداشيته

والاحتمال لتجنيهم وشراسة أخلاقهم وخلف عدة أولاد منهم الملك المنصور نور الدين علي وناصر الدين قاآن ورأيت له ولداً آخر بالديار المصرية سنة تسع وثمانين وهو في زي الفقراء الحريرية وكان للملك المعز رحمه الله عدة مماليك أمراء نجباء منهم الملك المظفر قطز رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى وغيره، ومعظمهم كرماء على سجيته وكان قتل الملك المعز بقلعة الجبل عشية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وقيل السادس وعشرين منه، وكان له بر ومعروف وبنى المدرسة المعزية بمصر على النيل وهي من أحسن المدارس ووقف عليها وقفاً جيداً ولها دهليز عظيم متسع طويل مفرط في السعة والطول بلغني أن بعض الكبراء دخلها فرآها صغيرة بالنسبة إلى مجازها فقال هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة وكان يلي تدريسها القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري رحمه الله إلى أن مات وهو على تدريسها وملك الملك المعز الديار المصرية نحو سبع سنين وتوفي وقد ناهز الستين سنة رحمه الله تعالى. ايبك بن عبد الله الأمير عز الدين الحلبي الكبير كان من أعيان الأمراء الصالحية النجمية وقدمائهم وممن يضاهي الملك المعز وله المكانة العظيمة في الدولة والمحل الكبير بين الأمراء يعترفون له بالتقدم عليهم والرياسة وكان له عدة مماليك أعيان نجباء صاروا بعده أمراء أكابر منهم ركن الدين أتاجي أمير حاجب وبدر الدين بيليك

الجاشنكير وصارم الدين أزبك الحلبي وغيرهم ولما قتل الملك المعز على ما قدمنا ذكره حلف الأمراء لولده الملك المنصور وتوقف الأمير عز الدين المذكور وأراد القيام بالأمر ثم خاف على نفسه فحلف ووافق الأمراء في ذلك فلما كان يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر وقبض الأمير سيف الدين قطز والمعزية على الأمير علم الدين سنجر الحلبي واعتقلوه ركب الأمراء الصالحية ومنهم الأمير عز الدين المذكور فتقنطر به فرسه فهلك خارج القاهرة وادخل إليها ميتاً وكذلك ركن الدين خاص ترك الصغير رحمهما الله تعالى. شجرة الدر بنت عبد الله جارية الملك الصالح نجم الدين وأم ولده خليل كانت حظية عنده أثيرة لديه وكانت في صحبته لما كان بالكرك ولده خليلاً وحمل معها إلى الديار المصرية وبقي مديدة يسيرة يركب مع الخدام وتوفي صغيراً ولما قتل الملك المعظم توران شاه فملكت الديار المصرية وخطب لها على المنابر وكانت تعلم على المناشير وغيرها والدة خليل وبقيت على ذلك مدة ثلاثة شهور ثم استقر الأشرف والمعز على ما ذكرنا ثم تزوجها الملك المعز حسب ما شرحناه وكانت مستولية عليه ليس له معها كلام وكانت تركية ذات شهامة ونفس قوية وسيرة حسنة شديدة الغيرة فلما بلغها أن الملك المعز يريد أن يتزوج بنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وقد عمل على ذلك وتخيلت منه أنه ربما عزم على إبعادها أو إعدامها لأنه

سأم من تحجرها عليه واستطالتها فعاجلته وقتلته على ما ذكرنا فأخذها مماليكه بعد آن أمنوها واعتقلوها بالبرج الأحمر بقلعة الجبل وعندها بعض جواريها والملك المنصور ووالدته يحرضان المعزية على قتلها لأنها كانت غير مجملة في أمرهما وكان الملك المعز لا يجسر أن يجتمع بوالدة الملك المنصور ولده خوفاً من شجر الدر. فلما كان يوم السبت حادي عشر ربيع الآخر وجدت مسلوبة مقتولة خارج القلعة فحملت إلى تربة كانت بنتها لنفسها بقرب مشهد السيدة نفيسة رحمة الله عليها فدفنت بها وكان الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا وزيرها ووزارته لها أول درجة يرقى إليها من المناصب الجليلة ولما قتلت الملك المعز وأحيط بها وتيقنت أنها مقتولة أودعت جملة من المال فذهب وأعدمت جواهر نفيسة سحقتها في الهاون، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد أبو حامد عز الدين المدايني ولد بالمداين يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة وتوفي ببغداد هذه السنة وكان فقيهاً أديباً فاضلاً وله أشعار حسنة فيها يمدح الإمام الناصر وهي هذه قد بدا ما يسر فيما تقول ... إنما أنت عاشق لا عذول رابني منك في ملامك تكث ... ير لصبري ببعضه تقليل وحديث ملجلج فيه للقل ... ب على السر آية ودليل قاتل الله شادنا أمست الأض ... داد فيه الحسين وهي شكول

قسم البدر بيننا فله الن ... ور وعندي محاقه والذبول أجد الناس ذا يماثل ذاك ... وفيه قد أعوز التمثيل وارى الخلق عرضة لزوال ... وارى حسنه لا يزول يا حميد الجفاء وهو ذميم ... وخفيف الدلال وهو ثقيل هذه مهجتي بكفك فافعل ... ما ترى لست عن هواك احول اسمح الناس ناصح مستخان ... ومحب على الحبيب بخيل وتراني أروم عنك بديلا ... أنت أحلى وغيرك المملول 28ب - إنما أنت مهجتي واتخاذيبدلا عن حشاشتي مستحيل لا تظنن جفوتي عن سلو ... عز ما خلته وسد السبيل كم وصول هو القطوع نفاقا ... وقطوع هو المحب الوصول لست أرضى بأن تجود بوصل ... وانتيابي عليك نزر قليل إن يوماً أن يطلب العاشق الوصل ... ولم تسبق العيون الذيول في التبرعات قبيح عند مثلي ... وفي القبيح جميل ثروتي دون همتي وفراقي ... فوق طوقي وساعدي مغلول فألام الرضا بما أنا فيه ... مشرع ميت وحي دليل في نهوضي لها وترك اقتناعي ... مطلب منفس وكسب جليل وانتجاع الإمام احمد عندي ... احمد الفعل والركام محيل أنشدني أخي من أبيات رحمه الله تعالى لعز الدين عبد الحميد المذكور

وحقك إن أدخلتني النار قلت لل ... ذين بها قد كنت ممن يحبه وأفنيت عمري في علوم دقيقة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه هبوني مسيئا أوقع الحلم جهله ... وأوبقه دون البرية ذنبه أما يقتضي شرع التكرم عتقه ... أيحسن أن ينسى هواه وحبه أما قلتم من كان فينا مجاهدا ... سيكرم مثواه ويعذب شربه أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه ... وتمويهه إذ جل في الدين خطبه أما كان ينوي الحق فيما يقوله ... ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه فإن تصفحوا نغنم وإن تتجرموا ... فتعذيبكم حلو المذاق عذبه وآية صدق الصب أن يعذب الأذى إذا كان من يهوى عليه يصبه ولما صنف ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري ومولده بجزيرة ابن عمر ونشأ بها وانتقل إلى الموصل مع والده في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة واشتغل بها وحصل العلوم وصنف التصانيف الدالة على غزارة علمه وفضله منها المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر جمع فيه فأوعب فلما فرغ من تأليفه كتبه الناس عنه فوصل إلى بغداد منه نسخة فانتدب له عز الدين عبد الحميد المذكور وتصدى لمؤاخذته والرد عليه وجمع هذه المؤاخذة في كتاب سماه الفلك الدائر على المثل السائر فلما

أكمله وقف عليه أخوه موفق الدين أبو المعالي أحمد بن هبة الله فكتب إلى أخيه عز الدين المذكور يقول المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا لكن هذا فلك دائر ... أصبحت فيه المثل السائرا قال ابن المستوفي كانت ولادة ضياء الدين بجزيرة ابن عمر يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وتوفي في إحدى الجماديين سنة سبع وثلاثين وستمائة ببغداد وقد توجه إليها رسولاً من جهة صاحب الموصل وصلى عليه بجامع القصر ودفن بمقبرة قريش في الجانب الغربي بمشهد موسى بن جعفر عليهما السلام وقال أبو عبد الله محمد بن النجار البغدادي في تاريخه لبغداد أنه توفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين رحمه الله تعالى كان له تصانيف كثيرة وتواليف حسنة وترسل كثير أجاد فيه فمن رسائله ما كتبه عن مخدومه إلى الديوان من جملة رسالة - هي - ودولته هي الضاحكة وان كان نسبتها إلى العباس فهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم وأنها لا تزال محبوة من أبكار السعادة بالحب الذي لايسلى والوصل الذي لا يصرم وهذا معنى اخترعه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لم تخطه الأقلام في صحفها ولا أجالته

الخواطر في أفكارها وله من رسالة في ذكر العصا التي يتوكأ عليها الشيخ الكبير وهذا لمبتدأ ضعفي الخبر ولقوس ظهري وتر وإن كان إلقاؤها دليلا على الإقامة فإن في حملها دليل على السفر وله في وصف المسلوبين من جملة كتاب يتضمن البشرى بهزيمة الكفار فسلبوا وعاضتهم الدماء عن اللباس فهم في صورة عار وزيهم زي كاس وما أسرع ما خيط لهم لباسها المحمر غير أنه لم يحط عليهم ولم يزر وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر الباقي على الدهر وهو شعار نسخه السنان الخارق لا الصنع الحاذق ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض في الطلى والهام وألّف الطعن بين ألف الخط واللام.... وله يصف نيل مصر عند زيادته عذب رضى به فضاهى جنى النحل واحمر صفيحة فعلمت أنه قد قتل المحل وهذا مأخوذ من قول القائل لله قلب لا يزال يروعه ... برق الغمامة منجدا أو مغورا ما احمر في الليل البهيم صفيحة ... متجردا إلا وقد قتل الكرى وكتب إلى مخدومه وقد سافر في زمن الشتاء وينهى أنه سافر عن الخدمة وقد ضرب الدجن فيه مضاربه وأسبل عليه ذوائبه وجعل كل قرارة حفيراً وكل ربوة غديراً وخط كل أرض خطاً وغادر كل جانب شطاً كأنه يوازي يد مولانا في شيمة كرمها والتياث

صوب..... يستغفر الله من هذا التمثيل العاري عن فائدة التحصيل - 30ب - وفرق بين ما يملأ الوادي بمائه وما يملأ النادي بنعمائه وليس ما ينبت زهرا يذهبه المصيف، أو ثمرا يأكله الخريف، كمن ينبت ثروة تغوص الأعطاف ويأكل المرتبع منها والمصطاف ثم استمر على مسير بقاسي الأرض ووحلها والسما ووبلها ولقد جاد حتى أكثر وواصل حتى أضجر أسرف حتى أتصل بره بالعقوق وما خاف المملوك لمع البوارق كما خاف لمع البروق ولم يزل من مواقع قطره في حرب ومن شدة برده في كرب، والسلام. ومن إنشائه في وصف دمشق اصدر هذه الخدمة من دمشق حرسها الله تعالى وعمرها وقد نزل بأرض خضراء ومدينة غراء وتربة زكية ونفحة ذكية وظل ظليل وماء سلسبيل ذات قرار ومعين وظباء عين فهي محل الرياض الناضرة وجنة الدنيا الزاهية على خير الآخرة تتبرج في ملابس عبقرية وتتأرج بأنفاس عنبرية فزمانها ربيع وجنابها مريع ونسيمها وان وجناها دان وقاطنها بحبها عان وليس لها في مزية الحسن ثان تطرب الحان أطيارها وتعجب ببنيان ديارها وبها قوم صميمة أنسابهم كريمة أحسابهم منيفة مناقبهم شريفة ضرائبهم فهم سحب الكرم وشهب الظلم ومعادن الحكم وعليهم من نعم الله

السرية الأقدار العزية من الأكدار الفائضة فيض الغمام المذكور ما لا يفرق بين رئيسهم ومرؤسهم في زيهم وملبوسهم ولا يميز بين أماثلهم وأراذلهم في مشاربهم ومآكلهم وفيهم ظبيات وجآذر يلقى الإنسان في حبهم ما يحاذر في أعطافهم هيف وفي خصورهم ديف ينظرن من عقد سحر ويبتسمن عن عقود در فقد ودهم أغصان مثمرة وعيونهم سيوف مشهرة فإذا شنت عليهم غارة ... اغمدوا البيض وسلوا الأعينا وفي بلدهم من عجائب الآثار التي سارت بها شوارد الأخبار ما استفاض بين المنجد والمغور واستغرق وصف الواصف المكثر فمن ذلك بناء المسجد الجامع ذي العمارات الروائع والصنائع البدائع الذي حوى سعة الفناء وحسن البناء وكأنما فرشت أرضه بألوان الأزهار ونقشت سقوفه بخالص اللجين والنضار وبظاهر البلدة من أصناف الجواسق بين ألفاف الحدائق ما يلوح للموفي على مرابعها والمطل على مراتعها كأنها كواكب السماء ومراكب الداماء وكأنها غدران البرائك المتبرجة في وشائع الحبائك فلو جاز الرضا بجنابها الأنيق لم يتغزل برامة والعقيق ولو بظبائها الخفرات ... لم يذكر يوما ظباء السمرات بلدة قد خصها الل ... هـ بطيب الثمرات وبها سرب ظباء ... لا ظباء السمرات

يتهادين اختيالا ... بضروب الحبرات 31ب - ويذودن محبيهن فيض العبرات وقد وافيتها في زمن المشمش الذي له الذكر الدائر والمثل السائر فرأيت منظرا بهياً ومخبراً شهياً ذا لون ذهبي وشكل كوكبي وعرف مندل وطعم عسل كأنما تألف من نسيم، وتجمع من تسنيم فهو يتمزق للطافة جلده ويزهو بلذة طعمه وعظم قده ولما حللت بمغناها واكتحلت بسناها سرت بين نضير الأشجار وخرير الأنهار من طلوع الشمس إلى انتصاف النهار فظللت بين ملعب ومرتع ومرأى ومسمع. هذه المنازل لا وادي العقيق ولا ... رمل المصلى ولا أكناف يبرين ومما لقيته بها من المسار العظيمة وشهدته فيها من المشاهد الكريمة أن جاءني بعض خواصها في يوم صفا ورده وأشرق سعده وتهلل بشره وغفل عنه دهره يقدم عصبة يعرف في وجههم نضرة النعيم ويهتدي بأنوار شيمهم في الليل البهيم فداني بإحسانه ودعاني إلى بستانه فنهضت معهم كأني أساير بدورا وأجاور بحورا حتى انتهينا إلى جنة معروشة وروضة مفروشة تنفجر عيونها وتتهادى غصونها يحيط بها نهر حصباؤه من الجوهر وماؤه من الكوثر. أرض حصاها جوهر وترابها مسك ... وماء المد فيها قرقف وبها قصر رفيع الذرى وسيع المذرى مفرق الشرفات مزخرف الغرفات وبعوته بركة مرصوفة الجدر بأنواع الصور فمن

أشجار مائلة وأطيار غير هادلة ومن غزلان خلفها فهود وفيول عليها أسود وعلى جنباتها ألسنة من الماء مختلفة الصفات لا الأسماء فهي أعذب من حب الغمام وارق من فيض المدام فلما نزلنا بساحتها الفسيحة الأقطار وأخذنا بحظ الأسماع والأبصار سرحنا تحت الأشجار لاقتطاف الثمار فظللت اجتني من الغصون ثمرا واجتلي من أخلاق تلك العصبة درراً حتى حزت من أحديهما لذة هنيئة ونظمت من الأخرى عقوداً سنية وكان ذلك اليوم مما يعد بالأعمار الطوال ولا يأتي على وصفه جوامع الأقوال وورد بغداد معوناً بالإمام الناصر ومهنياً بولده الإمام الظاهر فقال العبد. عبد الرحمن بن أبي الفهم أبو محمد تقي الدين اليلداني كان رجلا صالحا مشتغلا بالحديث سمّاعاً وكتابة وإسماعاً إلى أن توفي بقرية يلدا من غوطة دمشق في ثامن ربيع الأول وقد ناهز مائة سنة من العمر ذكر انه كان مراهقاً سنة سبع وستين وخمسمائة حين طهر الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي رحمه الله ولده وانه حضر مع صبيان قريته الطهور ولعب الأمراء بالميدان وقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وانه قال له يا رسول الله بالله ما أنا رجل جيد فقال بلى أنت رجل جيد رحمه الله. - 32ب - عبد الله بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عثمان

أبو محمد بن أبي الوفاء بن أبي محمد بن أبي سعد نجم الدين البغدادي البادرائي الشيخ الإمام العلامة مولده في أخر محرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة سمع من جماعة وحدث ببغداد وحلب ودمشق ومصر وغيرها من البلاد وأفتى ودرّس بالمدرسة النظامية ببغداد وترسل عن الديوان إلى الشام ومصر وغيرها من البلاد إلى ملوك الأطراف ولم يزل يتردد في المهمات والرسائل إلى هذه السنة فعاد من الشام إلى بغداد فلما قدمها ولي قضاء القضاة بها وبجميع البلاد الإسلامية وتقلد ذلك وهو متمرض وتوفي بعد ذلك بأيام يسيرة قيل سبعة عشر يوماً وكانت وفاته في مستهل ذي القعدة وقيل في أواخر ذي الحجة والأول أصح وكان فاضلاً ديناً متواضعاً حسن المقاصد كثير التأني في بلوغ الآمال على أحسن وجه وحصل في ترسله إلى الملوك جملاً طائلة فابتاع من ذلك دار أسامة بدمشق وعمرها مدرسة للشافعية ووقف عليها أوقافاً كثيرة وذكر بها الدرس بنفسه أول ما فتحت وحضر درسه الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسائر أرباب الدولة والعلماء والقضاة ومد بها سماطاً عظيماً في ذلك اليوم ثم رتب بها معيدين أحدهما الشيخ كمال الدين رسلان بن الحسن الأربلي والآخر الشيخ نجم الدين الموقاتي وجعلها محصورة على عدد معلوم وعين مقدار ما يصرف إلى كل نفر منهم من الجامكية والخبز وشرط - أن لا يكون الفقيه بها بمدرسة أخرى ولا يكون متأهلاً وشرط - عليه السكنى بها وشرط على

المدرس أن لا يكون له مدرسة أخرى ثم ولي تدريسها بعد وفاته ولده جمال الدين عبد الرحمن فدرس بها مدة سنين وتوفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق وهي من أحسن مدارس دمشق لا بل أحسنها على الإطلاق وكان المتحدث في نظرها وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي ثم القاضي عز الدين محمد بن الصائغ ثم اثبت أن الوجيه جعل النظر لزوجته والمباشر لنظرها الآن حال تسطير هذه الأسطر ولدها نصر الدين ولد وجيه الدين المذكور. وخلف جمال الدين ولداً ذكراً بقي بعده مدة يسيرة ومات وكان الشيخ نجم الدين حسن الاعتقاد في الصلحاء والفقراء يزورهم ويبرهم ويقضي حوائجهم وكان دمث الأخلاق حسن المحاضرة كثير المباسطة بلغني أنه قال للزين خالد النابلسي تذكر ونحن في النظامية والفقهاء يلقبونك خولتا قال نعم وكانوا يلقبونك بالدعشوش فضحك الشيخ نجم الدين واعجبه منه هذه المباسطة وكان يسلم على كل من يمر به وهو راكب يشير بإصبعه بالسلام وبلغني في موجب ترسله أن الملك الصالح نجم الدين سير إلى الديوان القاضي نجم الدين قاضي نابلس وكان عنده رياسة وفضيلة وله مكانة عند الملك الصالح نجم الدين وأمره أن يخاطب الخليفة في أداء الرسالة عنه بما كان السلطان صلاح الدين رحمه الله يخاطب به الإمام الناصر في كتبه ورسائله وهو الخادم فلما أدى قاضي نابلس الرسالة كما أمره مخدومه أنكر عليه ذلك وترك في المكان الذي وقف فيه لأداء الرسالة على حالته قائماً وبلغته الشمس فكاد

يهلك فأدى الرسالة على ما أرضى الديوان وحصل عند الخليفة تأثر من ذلك وقال من هذا الرسول قالوا هو فقيه من أهل نابلس قال وما هي نابلس قيل بلدة لطيفة من أعمال دمشق فقال أبصروا لنا فقيهاً يكون من قرية ولقبه نجم الدين ليتوجه بجواب الرسالة فطلبوا بالمدرسة المستنصرية والمدرسة النظامية شخصاً بهذه الصفة فلم يجدوا سوى الشيخ نجم الدين فأحضروه وجهزوه وأرسلوه وصحبته قاضي نابلس فلما صارا في الطريق قيل لقاضي نابلس ينبغي أن تغير لقبك تأدبا مع رسول الديوان العزيز ومع مخدومك فأن لقبه نجم الدين فغير لقبه مسافة الطريق وكان ذلك بداية سعادة الشيخ نجم الدين وظهر منه كفاية تامة في ذلك وشكر أثره وجميل اعتماده وأما الملك الصالح فغضب على قاضي نابلس وقال كنت بقيت مكانك إلى أن مت ولا أديت عني ما لم أمرك به وانحطت رتبته عنده لذلك وقال شهاب الدين عبد الرحمن في يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة عمل عزاء الشيخ نجم الدين المذكور بمدرسته التي أنشأها بدمشق وقال القاضي جمال الدين بن واصل أنه ولي القضاء ببغداد في ثالث عشر ذي القعدة واستمر فيه مريضاً سبعة عشر يوما وتوفي وظاهر الحال أنه توفي في سلخ شهر ذي القعدة رحمه الله. علي بن محمد بن الرضا بن محمد بن حمزة بن أميركا أبو الحسن الحسيني الموسوي الطوسي المعروف بابن دمير خان مولده في رابع صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بحماة وله شعر حسن وتصانيف كثيرة وكان

فاضلاً متفنناً توفي في رابع شهر ربيع الآخر كان ورد أربل في شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وستمائة من بغداد وذكر انه مدح الإمام المستنصر بالله وأجازه جائزة سنية وأول القصيدة المشار إليها. البيض أخلق بالفتى والأسمر ... إن خانه البيض الدمى والأسمر إن المهند والمثقف ملجأ ... لمسهد لسوى العلي لا يسهر أيسومني سلطان حبك ذلة ... وبي المهامة والمهاوى اجدر ولأن قتلت بسهم لحظك طالما ... قتل الضراغمة الغزال الأحور كم زرت حيك واللهاذم والظبي ... في النقع من مهج الفوارس تقطر وخفيت سقماً عنهم وكأنني ... في خاطر الظلماء وهم يخطر 34ب - كم ذأ مني النفس عنك تجلداوالعاذلون بسر وجدي أخبر كذب التجلد والعواذل والمنى ... لا كان صب عن حماك يصبر من لي بوصلك والزمان مساعدي ... والعيش في سود الذوائب أخضر والليل في عرس الوصال قميصه ... بالزاهرات مدرهم ومدنر قد شد منطقة المجرة وامتطى ... بالتاج والإكليل فيها خنجر - من أبيات مدحه بها - وقال أعاتب عيني وهي أول من جنى ... وأزجر قلبي كي يحيد عن الحب فإن قلت قلبي قال عيناك قد جنت ... وإن قلت يا عيني تحيل على القلب وقد حرت بين اثنين كل بجهده ... يسوق بليات الغرام إلى لبي

وقال شرف الدين ابن المستوفي وزير أربل رحمه الله أغار بهذه الأبيات على أبيات حفظها في المكتب وهي. إذا لمت قلبي قال عيناك أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب فعيني وقلبي قد تشاركن في دمي ... فيارب كن عوني على العين والقلب غازية خاتون بنت الملك الكامل محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب بن شادي والدة الملك المنصور صاحب حماة كانت صالحة دينة تحب الخير وأهله وأقامت منار العدل بحماة وهي المدبرة للأمور منذ توفي زوجها الملك - 35 ألف - المظفر ونصب مكانه ولده الملك المنصور والمرجع إلى ما ترسم به في الجليل والحقير وكانت وصلت إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة وولد لها من الملك المظفر ابنان وثلاث بنات أما الابنان فالملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة والأفضل نور الدين أبو الحسن علي ومولده سنة خمس وثلاثين وأما البنات فتوفيت الكبرى منهن قبل وفاة والدتها بقليل فدفنتها بقلعة حماة ولما توفيت الصاحبة دفنت إلى جانبها ثم لما توفيت الصاحبة عائشة خاتون بنت الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر زوجة الملك المنصور ووالدة ولده الملك المظفر دفنت في التربة المذكورة ثم لما توفي الملك المنصور دفن في تربة عملت - له - إلى جانب الجامع الأعلى بحماة ونقل المدفونون بالقلعة ِإلى التربة المذكورة وكانت وفاة غازية خاتون ليلة الأحد تاسع عشر ذي القعدة أوذي الحجة هذه السنة

رحمها الله تعالى. محمد بن سيف بن مهدي أبو عبد الله اليونيني الشيخ الصالح كان صحب الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه وأخذ عنه وانتفع به ثم انقطع في زاوية اتخذها في كرم له قبلي قرية يونين متوفراً على العبادة ويتردد إلى القرية في بعض الأوقات وكان حلو العبارة حسن الحديث والمذاكرة - 35ب - بأخبار الصالحين رحمهم الله تعالى وعنده كرم وسعة صدر وإيثار ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمه الله تعالى في هذه السنة بقرية يونين وقد جاوز السبعين سنة من العمر ودفن في زاويته المذكورة رحمه الله تعالى وخلف عدة أولاد لم يقم أحد منهم مقامه بل أقام في الزاوية المشار إليها ابن أخيه وهو أبن زوجته أيضاً الشيخ سليمان بن علي بن سيف بن مهدي نفع الله به وهو من الصلحاء الأعيان العباد يسرد الصوم ويقوم معظم الليل ويبادر إلى السعي في قضاء حوائج الناس ويتجشم في ذلك المشاق وهو من ألطف الناس وأكرمهم وأكثرهم بشراً بمن يرد عليه مع شدة التواضع وملازمة الذكر والتلاوة وللكتاب العزيز وعدم الغيبة لأحد من خلق الله تعالى وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. محمد بن عبد الله بن محمد بن ِأبي الفضل أبو عبد الله شرف الدين السلمى الأندلسي المرسي المغربي النحوي المتكلم الأصولي الفقيه المالكي صاحب التصانيف المشهورة في التفسير وغيره مولده بمرسية في ذي الحجة سنة تسع وستين وقيل سنة سبعين وقيل سنة إحدى وسبعين

وخمسمائة قرأ القرآن الكريم ببلده على أبى محمد غلبون بن محمد بن غلبون النحوي والنحو على أبى على الشلوبين وسمع - 36 ألف - بالمغرب والحجاز والشام والعراق وخراسان وحصل الأصول والنسخ وكان مكثراً شيوخاً وسماعاً وحدث بالكثير مدة بالحجاز وديار مصر والشام والعراق وجاور بمكة زمناً طويلاً وكان من أعيان العلماء الأئمة الفضلاء ذا معارف متعددة بارعاً في علم العربية وتفسير القرآن الكريم وله مصنفات مفيدة ونظم حسن وهو مع ذلك متزهد تارك الرياسة حسن الطريقة قليل المخالطة للناس كثير الصلاح والعبادة والحج مقتصد في أموره محقق البحث، محصل الكتب العلمية، مفتن بها، له قبول بسائر البلاد الإسلامية لا يحل ببلد إلا ويكرمه رؤساؤه وأهله وكان أكثر مقامه بالحجاز ومصر والشام وتوفي في منتصف ربيع الأول بين الزعقة والعريش وهو متوجه من مصر إلى دمشق ودفن بتل الزعقة رحمه الله تعالى، ومن شعره قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان أنشدني لنفسه بحلب ملغزا باسم يحيى. أتبكى وما بالقلب من لوعة الحب ... وما قد جنت تلك اللحاظ على لبى أعارتني السقم الذي بجفونها ... ولكن عذا سقمي على سقمها يربى على أنني في بثك الحب مثل ما ... يبوح بما في الصدر منه إلى القلب أما وهواك المذهبي إن مهجتي ... تقسمه بين الصبابة والكرب وإني ما ذقت الكرى مذ سلبتني ... وما حال من يصبو إذا صد من يسبي

36ب - كتمت الذي في من هواك عن الورىعلى أن دمعي ذو ولوع بأن ينبي ولكن سأبديه إليك لأنني ... أرى ذلك الإبداء من سنة الحب صبا بفؤادي نحوك اثنان سودد ... وحسن فعذر واحد منهما يصبي فديتك من قاض على لو انه ... تعدى أسمه لي ما قضيت أسى نحى ودونكها بكرا لها وحيائها ... ردايت فيع مروعة السرب ؟ فمر لها كفا فمنك حياؤها ولا تبدنيها فهي من ذاك في رعب وقال أنشدني وقد تماروا عنده في الصفات. من كان يرغب في النجاة فما له ... غير أتباع المصطفى فيما أتى ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى ودع السؤال ... وكيف فإنه ... من باب بحر ذوي البصيرة للعمى الدين ما قال الرسول وصحبه ... والتابعون فمن منا هجهم قفا وقال تقبل أبا بكر كتابا وهبته ... كقلبي لا أبقي إلى إيابه وطبت به نفسا فخذه بمثل ما ... عذا أحدا يجني النبي كتابه وقال قالوا محمد قد كبرت وقد أتى ... داعي الحمام وما اهتممت بزاد

وقال الشيخ سعد الدين مسعود بن حمويه أنشدني الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله لنفسه في سنة خمسين وستمائة. أيجهل قدري في الورى ومكانتي ... تزيد على مرقى السماكين والنسر ولي حسب لو انه متقسم ... على أهل هذا العصر تاهوا على العصر كما أن فضلي باهر لذوي النهي ... وهل يختفي عند البدور سنا البدر وأعجب أن الغرب تبكي لفرقتي ... دما ومحيا الشرق يلقى بلا بشر محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله بن حمويه أبو جعفر التيمي البكري السهوردي المولد البغدادي الدار الصوفي ومولده بسهر ورد سنة سبع وثمانين وخمسمائة في صفر سمع من الإمام أبي الفرج بن الجوزي وغيره وكان والده الشيخ شهاب الدين شيخ وفقيه في الطريقة وتربية المريدين رحمه الله تعالى وكانت وفاة ولده أبي جعفر المذكور في عاشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى. محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر أبو نصر الحلبي الحاسب ويلقب بالمهذب كان والده يعرف بالبرهان المنجم الطبري ولد المهذب بحلب سنة ثمانين وخمسمائة وكان فاضلاً أديباً وله تواليف مفيدة وصنف زيجاً ومقدمة في الحساب وغير ذلك وله ديوان شعر في مجلدين واستوطن صرخد وتوفي بها ليلة السبت ودفن يوم السبت الظهر ثاني عشر شهر ذي الحجة في هذه السنة. محمد بن أبى القاسم - قاسم - بن فيره بن خلف بن أحمد أبو عبد الل

هـ - 37ب - الشاطبي الرعيني الأصل المصري المولد والدار المقرئ العدل ومولده في حادي عشر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وخمسمائة بمصر وتوفي بالقاهرة في حادي عشر شوال ودفن من يومه بسفح المقطم سمع من أبيه وغيره وحدث وأبوه الإمام أبو القاسم أحد القراء المجودين والعلماء المشهورين والصلحاء المتورعين قرأ القرآن العزيز بالروايات وسمع من جماعة واقرأ وحدث وصنف القصيدة المشهورة في القراءات التي لم يسبق إلى مثلها ولم يكن في مصر في زمانه مثله في تعدد فنونه وكثرة محفوظه رحمه الله تعالى. هبة الله بن صاعد الفائزي الملقب شرف الدين كان في صباه نصرانياً ويلقب بالأسعد وهو منسوب إلى الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب لأنه خدمه أولا وفي الفائزي يقول جمال الدين يحيى بن مطروح وقيل بهاء الدين زهير. لعن الله صاعداً ... وأباه فصاعداً وبنيه فنازلاً ... واحدا ثم واحداً ثم أسلم الفائزي وتوفي وكان عنده رياسة ومكارم ونفسه تسمو إلى الرتب العالية وخدم الملك الكامل بعد موت الفائز ثم خدم ولده الملك الصالح وغيرهما من الملوك - 38 ألف - وتنقلت به الأحوال حتى استوزره الملك المعز في أوائل ما تملك بعد أن صرف القاضي تاج الدين

عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز وكان قد ولي الوزارة أول دولة الملك المعز فصرف بشرف الدين الفائزي فلما ولي الفائزي تمكن من الملك المعز تمكناً كثيراً بحيث تقدم على الجيش في الحرب وكان الملك المعز يكاتبه بالمملوك وكان في الفائزي كرم طباع وأريحية وحسن نظر في حق من يصحبه وينتمي إليه ولم تزل منزلته عند الملك المعز في تزيد إلى أن قتل وتملك ولده كما ذكرنا فباشر وزارة الملك المنصور ابن المعز أياماً يسيرة وهو مضطرب فتخيل توقع النكبة فقبض عليه الأمير سيف الدين قطز مدبر دولة الملك المنصور واخذ خطه بمائة ألف دينار لنفسه وبقي معتقلاً وكان يتهم بأموال كثيرة قال القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري دخلت إليه في مجلسه فسألني أن أتحدث في إطلاقه على أن يحمل في كل صباح ألف دينار فقلت له كيف تقدر على هذا فقال أقدر عليه إلى تمام سنة وإلى سنة يفرج الله عني فلم تلتفت مماليك المعز إلى ذلك وعجلوا هلاكه فخنق وحمل إلى القرافة فدفن بها رحمه الله تعالى وكانت ابنته زوجة فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين وبطريق هذه المصاهرة ترقى الصاحب بهاء الدين وولده فخر الدين فأولدها فخر الدين المذكور تاج الدين - المذكور - 38ب - محمدا وشهاب الدين أحمد وبنتاً أخرى هي زوجة عز الدين ابن محيي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين المذكور ونالت ابنة الفائزي من السعادة في الأيام الظاهرية ما لا يوصف وتوفيت إلى رحمة الله وكانت

كثيرة البر والمعروف مفرطة في السمن وبهاء الدين الفائزي اجتمعت به بمكة شرفها الله تعالى في آخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة ورافقني إلى المدينة صلوات الله على ساكنها وسلامه في سنة خمس وسبعين - وسنة ست وسبعين - وهو معرض عن الخدم يظهر التزهد وينفق من بقايا بقيت. له ثم رأيته بالقاهرة في سنة تسع وثمانين وقد ظهر عليه الفقر والاحتياح بحيث رغب أن يخدم في بعض الفروع بالإسكندرية فلمته على ذلك فذكر أن عنده عائلة كثيرة وليس له ما يقوم ببلغتهم فعذرته والله يلطف به وبنا. وفي شرف الدين الفائزي يقول الشاعر. خلف الأسعد ما خان وقد ... شهدت أفعاله المشتبهه نقده ستون نقدا عدداً ... عن سسات الرشى منزهه فالبغال الشهب من أين له ... والجوار الترك من أي جهة وكانت وفاته في ربيع الآخر أو جمادى الآخرة رحمه الله تعالى كتب إليه ناصر الدين بن المنير قاضي الإسكندرية أبياتاً مدحه بها منها ألا أيها البدر المنير وأنني ... لأخجل إن شبهت وجهك بالبدر لأن غبت عن عيني وشطت بك النوى ... فما زلت أستجليك بالوهم في فكري وحق زمان المذكور لي بطويلع ... وأنت معي ما سر من بعدكم سرى

- ومنها - ويا سيدا تأتي الوفود لبابه ... فيلقاهم بالبشر والنائل الغمر ويا من له في الجود ضرب بلاغة ... يقابل منظوم المدايح بالنثر متى ما أقمت العبد في الخمس نائبا ... غدا مستقلا بالدعاء وبالشكر وقال يرثيه عيل صبري وعز عندي عزائي ... بعد فقدي لسيد الوزراء شرف الدين والذي شرف الد ... ين بفضل وعفة وتقاء والوزير الذي أقام منار ال ... عدل في حال شدة ورخاء جهل العلم بعده واستخف الح ... لم يا طول حسرة العلماء كان فيه لله سر خفي ... دق معنى عن فطنة الأذكياء والبليغ الذي إذا عم خطب ... ناب عنه اليراع عن خطباء والفصيح الذي إذا ما امتطى القر ... طاس أزرى بسائر الفصحاء - ومنها - قلت لمن سره مصابك يوما ... قد كفى ما جرى على الخلفاء وإذا ما عدا على الأعادي ... فالهنا إن أعد في الشهداء - ومنها - يا قريبا دفن الأقارب مني ... وولي من سائر الأولياء خذ عروس الثريا مني تجلى ... في ثياب من صفوتي وولاء - 39ب - يحيى بن سليمان بن هادي أبو زكريا السبتي كان أحد الأشيايخ المشهورين والصلحاء المذكورين سكن القرافة مدة وله بها زاوية

معروفة وقيل أنه كان لا يأكل الخبز وكان له قبول من الخاصة والعامة توفي في منتصف شوال بالقاهرة ودفن من الغد بها رحمه الله تعالى. أبو الحسن المغربي المورقي نور الدين الأمير هو من أقارب المورقي الملك المشهور ببلاد المغرب توفي نور الدين في أول ربيع الأول بدمشق ودفن بجبل قاسيون بمقبرة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله تعالى وكان فاضلاً فمن المنسوب إليه من أبيات. القضب راقصة والطير صادحة ... والشر مرتفع والماء منحدر وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوح تستتر فكل وادٍ به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر ومن المنسوب إليه أيضاً. وذي هيف راق العيون أنتباره ... بقد كريان من البان مورق كتبت إليه هل تجود بزورة ... فوقع لا خوف الرقيب المصدق فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلا ... كما اعتنقت لاثم لم تتفرق وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان. إني لأحسد لافي أول الصحف ... إذ رأيت اعتناق اللام للألف وأحسن من هذا قول القيسراني أستشعر الناس من لاثم يطمعني ... إشارة في اعتناق اللام للألف

سنة ست وخمسين وستمائة

؟ سنة ست وخمسين وستمائة دخلت هذه السنة والملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بدمشق والبحرية ومن انضم إليهم من الأمراء الصالحية وعلى بن الملك المغيث صاحب الكرك متفقون عل قصد الديار المصرية ووصل إليهم الملك المغيث ونزل بدهليزه بغزة وأمر البحرية كله راجع إلى الأمير ركن الدين البندقداري ووصل الأمير سيف الدين قطز وعساكر مصر ونزلوا حول العباسة مستعدين لقتالهم. وفيها استولى التتار على بغداد والعراق بمكيدة دبرت مع وزير الخليفة قبل ذلك وآل الأمر إلى هلاك الخليفة وأرباب دولته وقتل معظم أهل بغداد ونهبوا وذلك في يوم الأربعاء عاشر صفر قصد هولاكو بغداد وملكها وقتل الخليفة المستعصم بالله رحمه الله وما دهى الإسلام بداهية أعظم من هذه الداهية ولا أفضع وسنذكر خبرها مجملاً إن شاء الله تعالى. قد علم تملك التتر أكثر المماليك الإسلامية وما فعلوه من خراب البلاد وسفك الدماء وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال وكانوا قبل هذه السنة قد قصدوا إلا لموت بلد الباطنية ومعقلهم المشهور وكان صاحب إلا لموت وبلادها علاء الدين محمد بن جلال الدين حسن المنتسب - 40ب - إلى نزار بن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر وتوفي وقام مقامه ولده الملقب شمس الشموس وكان الذي قصد الالموت هولاكو وهو من ذرية جنكيز خان الذي قصد بلاد الإسلام سنة ستة عشر وستمائة

واندفع بين يديه السلطان علاء الدين محمد بن تكش وفعل تلك الأفاعيل العجيبة المسطورة في التواريخ وهو صاحب أمة التتر التي مرجعهن إليها وكان جنكيز خان عندهم بمنزلة النبي لهم ولما نازل هولاكو الالموت نزل ِإليه صاحبها ابن علاء الدين بشارة نصير الدين الطوسي عليه بذلك وكان الطوسي عنده وعند أبيه قبله فقتل هولاكو ابن علاء الدين وفتح الألموت وما معها من البلاد التي في تلك الناحية وكان لهم بالشام معاقل ولصاحب الالموت فيها أبدا نائب من قبله وسنذكر ما آل إليه أمرها فيما بعد إن شاء الله تعالى واستولى هولاكو على بلاد الروم وأبقى ركن الدين ين غياث الدين كيخسرو فيها له اسم السلطنة صورة وليس له من الأمر شيء وفي سنة أربع وخمسين وستمائة تهيأ هولاكو لقصد العراق وسبب ذلك أن مؤيد الدين بن العلقمي وزير الخليفة كان رافضياً وأهل الكرخ روافض وفيه جماعة من الأشراف والفتن لا تزال بينهم وبين أهل البصرة فانه لسبب التعصب في المذاهب فاتفق أنه وقع بين الفريقين محاربة فشكى أهل باب البصرة وهم سنية إلى ركن الدين الداودار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم فشكى أهل الكرخ ذلك إلى الوزير فأمرهم بالكف والتغاضي وأضمر هذا الأمر في نفسه وحصل عنده بسبب ذلك الضغن على الخليفة وكان المستنصر بالله رحمه الله قد استكثر من الجند حتى قيل أنه بلغ عدة عسكره نحو مائة ألف وكان منهم

أمراء أكابر يطلق على كل منهم لفظ الملك وكان مع ذلك يصانع التتار ويهاديهم فلما ولي المستعصم أشير عليه بقطع أكثر الجند وإن مصانعة التتر وحمل المال إليهم يحصل به المقصود ففعل ذلك وقلل من الجند وكاتب الوزير ابن العلقم التتر وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهل عليهم ملك العراق وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد فوعدوه بذلك واخذوا في التجهيز لقصد العراق وكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في أن يسير إليهم ما يطلبونه من آلات الحرب فسير إليهم ذلك ولما تحقق قصدهم علم أنهم إن ملكوا العراق لا يبقون عليه فكاتب الخليفة سرا في التحذير منهم وأنه يعتد لحربهم فكان الوزير لا يوصل رسله إلى الخليفة ومن وصل إلى الخليفة منهم بغير علم الوزير أطلع الخليفة وزيره على أمره فكان الشريف تاج الدين ابن - 41ب - صلايا نائب الخليفة بإربل فسير إلى الخليفة من يحذره من التتر وهو غافل لا يجدي فيه التحذير ولا يوقظه التنبيه لما يريده الله تعالى فلما تحقق الخليفة حركت التتر نحوه سير شرف الدين بن محي الدين الجوزي رسولاً إليهم يعدهم بأموال يبذلها لهم ثم سير نحو مائة رجل إلى الدربند الذي يسلكه التتر إلى العراق ليكونوا فيه ويطالعوه بالأخبار فتوجهوا ولم يأت منهم خبر لأن الأكراد الذين كانوا عند الدربند دلوا التتر عليهم على ما قيل فقتلوهم كلهم وتوجه التتر إلى العراق وجاء بانجونوين في جحفل عظيم وفيه خلق من الكرخ

ومن عسكر بركة - خان - ابن عم هولاكو ومدد من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح من جهة البر الغربي عن دجلة وخرج معظم العسكر من بغداد للقائهم ومقدمهم ركن الدين الدوادار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد واقتتلواُ قتالاً كثيراً وفتقت فتوق من نهر الملك على البر الذي القتال فيه ووقعت الكسرة على عسكر بغداد فوقع بعضهم في الماء الذي خرج من تلك الفتوق فارتطمت خيلهم وأخذتهم السيوف فهلكوا وبعضهم رجع إلى بغداد هزيماً وقصد بعضهم جهة الشام قيل كانوا نحو ألف فارس ثم توجه بانجونوين ومن معه فنزل القرية مقابل دور الخلافة وبينه وبينها دجلة وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي عن دجلة وهو البر الذي فيه مدينة بغداد ودور الخلافة وضرب سوراً على عسكره وأحاط ببغداد فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال إنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير آبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم لا يؤثر إلا أن يكون الطاعة له كما كان أجدادك من السلاطين السلجوقية وينصرف بعساكره عنك فتجيبه ِإلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد وحسن له الخروج غليه فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا

عقد النكاح فيما أظهره فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة ثم مد الجسر وغدا بانجونوين ومن معه وبذل السيف في بغداد فقتل كل من ظهر ولم يسلم منها إلا من هرب أو كان صغيراً فإنه أخذ أسيراً واستمر القتل والنهب نحو أربعين يوما ثم نودي بالأمان فظهر من كان اختفى وقتل سائر الذين خرجوا إلى هولاكو من القضاة والأكابر والمدرسين وأما الوزير ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد ومات بعد - 42ب - مدة يسيرة ولقاه الله تعالى ما فعله بالمسلمين ورأى قبل موته في نفسه العبر والهوان والذل ما لا يعبر عنه ثم ضرب هولاكو عنق بانجونوين لأنه قيل عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي وأما الخليفة فقتل ولكن لم يتحقق كيفية قتلته فقيل أنه خنق وقيل رفس إلى أن مات وقيل غرق وقيل لف في بساط فغطس والله أعلم بحقيقة الحال، ونعود إلى أخبار الشام ومصر كنا ذكرنا أن العساكر المصرية نزلوا حول العباسة لما بلغهم اجتماع البحرية وبعض أمراء مصر مع الملك المغيث ولما جاءهم الخبر بمحاصرة التتر لبغداد كتبوا بذلك إلى الديار المصرية وتقدموا بأن يدعى للمسلمين بالنصر فأمر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله الأئمة والخطباء أن يقنتوا في الصلوات الخمس ثم ورد الخبر أن بغداد ملكت فاشتد أسف المسلمين وحزنهم. الى ما فعله بالمسلمين ورأى قبل موته في نفسه العبر والهوان والذل ما لا يعبر عنه ثم ضرب هولاكو عنق بانجونوين لأنه قيل عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي وأما الخليفة فقتل ولكن لم يتحقق كيفية قتلته فقيل أنه خنق وقيل رفس إلى أن مات وقيل غرق وقيل لف في بساط فغطس والله أعلم بحقيقة الحال، ونعود إلى أخبار الشام ومصر كنا ذكرنا أن العساكر المصرية نزلوا حول العباسة لما بلغهم اجتماع البحرية وبعض أمراء مصر مع الملك المغيث ولما جاءهم الخبر بمحاصرة التتر لبغداد كتبوا بذلك إلى الديار المصرية وتقدموا بأن يدعى للمسلمين بالنصر فأمر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله الأئمة والخطباء أن يقنتوا في الصلوات الخمس ثم ورد الخبر أن بغداد ملكت فاشتد أسف المسلمين وحزنهم.

ذكر الوقعة بين الملك المغيث وعسكر مصر

ذكر الوقعة بين الملك المغيث وعسكر مصر لما تكامل العسكر مع الملك المغيث دخل بهم إلى الرمل والتقى بعسكر المصريين فكانت الكسرة على المغيث ومن معه وقبض يومئذ على عز الدين ايبك الرومي وعز الدين ايبك الحموي الكبير وركن الدين الصرفي وبن أطلس خان الخوارزمي وأحضروا بين يدي الأمير سيف الدين قطز الغتمي وبهادر المعزية فأمروا بضرب أعناقهم فضربت وحملت رؤوسهم إلى القاهرة وعلقت بباب زويلة ثم أنزلت من يومها ودفنت لما أنكر على المعزية هذا الفعل الشنيع وهرب الملك المغيث والصوابي بدر الدين والأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ومن معهم ووصلوا الكرك في أسوأ حال ونهب ما كان معهم من الثقل ودهليز الملك المغيث ودخل العسكر القاهرة بما حازوه وزين لذلك البلدان وكان المصاف يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر. ذكر ما تجدد للتتر بعد أخذ بغداد لما ملكوها نادوا بالأمان لأهل العراق كلهم وولوا في ولاتهم وكان الوزير ابن العلقمي قد أطمعته نفسه بأن الأمور تكون مفوضة إليه وكان قد عزم على أن يحسن لهولاكو أن يقيم ببغداد خليفة فاطمياً فلم يتم له ذلك واطرحه التتر وبقي معهم على صورة بعض

ذكر ما تجدد للبحرية بعد كسرتهم بمصر

الغلمان فمات بعد قرب كمداً وندم حيث لا ينفعه الندم ولقاه الله فعله ورحل التترعن بغداد إلى بلاد اذربيجان ثم رحل إليهم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل والشريف تاج الدين بن صلايا صاحب أربل فأكرم بدر الدين ورده إلى بلاده وأما ابن صلايا فقتل وقد ذكر والله اعلم أن بدر الدين لؤلؤ قال لهولاكو هذا شريف علوي وربما نطاول أن يكون خليفة ويبايعه على ذلك خلق عظيم فتقدم هولاكو لقتله ولما رجع بدر الدين إلى الموصل لم يطل مقامه - 43ب - وبها توفي. وفيها قصد التتر ميافارقين فنازلوها وحصروها وكان المتولي لحصرها اشموط بن هولاكو وكان صاحبها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل قد قصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف مستنجداً به على التتر فوعده بذلك ولم يتمكن من إنجاده وفيها وردت رسل التتر إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف فوصلهم منه جملة كثيرة من المال. وفيها اشتد الوباء بالشام وفني من أهل دمشق خلق لا يحصى وعزت الفراريج وغيرها مما يستعمل المرضى وبيع الرطل الدمشقي من التمر الهندي بستين درهما والحزة من البطيخ الأخضر بدرهم. ذكر ما تجدد للبحرية بعد كسرتهم بمصر لما رجعوا مع الملك المغيث مفلولين سير إليهم الملك الناصر جيشاً مقدمه الأمير محي الدين إبراهيم - بن أبي بكر - زكرى والأمير

نور الدين عسلي بن الشجاع الأكتع والتقوا بغزة فكسرتهم البحرية وقبضوا على فخر الدين ونور الدين وحملوهما إلى الكرك فلم يزالا بها معتقلين إلى أن أخرجهما الملك المغيث فسيرهما إلى الملك الناصر لما اصطلحا كما سنذكره إن شاء الله تعالى فقوى عند هذه الكسرة أمر البحرية وامتدوا في البلاد فعند ذلك برز الملك الناصر للقائهم وضرب دهليزه قبلي دمشق وقربت البحرية من دمشق وجاء الأمير ركن الدين البندقداري مقدمهم في بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة وكثر الأرجاف بهم في دمشق. وفيها توفي إبراهيم بن يحيى بن أبي المجد أبو إسحاق الأسيوطي الفقيه الشافعي مولده سنة سبع وخمسون تقريباً وتولى الحكم ببعض البلاد من الأعمال المصرية ودرس بالجامع الظافري بالقاهرة مدةً وأفتى وكان مشهوراً بمعرفة المذهب وحسن الفتوى وسعة الفضل كثير الإيثار مع الإقتار، والأفضال مع الإقلال، كريم الأخلاق لطيف الشمائل وله شعر فائق في توفي سابع ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله. أحمد بن أسعد بن حلوان أبو العباس نجم الدين الطبيب المشهور الحاذق المعروف بابن العالمة ولد بدمشق سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقرأ الطب على الحكيم صدقة السامري وبرع فيه وصنف مصنفات كثيرة وخدم الملك المسعود صاحب آمد وتقدم عنده فلما فتح الملك

الكامل أمد استخدامه مدة ثم خدم صاحب صهيون وغزة وانتقل إلى بعلبك وأقام بها مدة وله ترسل حسن، وتوفى بدمشق في هذه السنة أعني سنة ست وخمسين رحمه الله تعالى، وقد ذكره الحكيم موفق الدين أحمد بن أبي القاسم بن خليفة الخزرجي في طبقات الأطباء فقال هو الحكيم الأجل العالم الفاضل نجم الدين أبو العباس أحمد بن أبي الفضل أسعد بن حلوان ويعرف بابن العالمة لأن أمه كانت عالمة دمشق وتعرف ببنت دهين اللوز ومولده بدمشق في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة كان أسمر اللون نحيف البدن حاد الذهن مفرط الذكاء فصيح اللسان كثير البراعة لا يجاريه أحد في البحث ولا يلحقه في الجدل واشتغل على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحمن بصناعة الطب حتى أتقنها وكان متميزاً في العلوم الحكمية قوياً في علم المنطق مليح التصنيف جيد التأليف فاضلاً في العلوم الأدبية ويترسل ويشعر وله معرفة بالضرب بالعود حسن الحظ وخدم بصناعة الطب الملك المسعود صاحب أمد وحظي عنده واستوزره ثم بعد ذلك نقم عليه وأخذ جميع موجوده وأتى إلى دمشق واشتغل عليه جماعة بصناعة الطب وكان متميزاً في الدولة وكتب إليه الصاحب كمال الدين يحيى بن مطروح في جواب كان منه يقول. لله در أنامل شرفت وسمت ... فأهدت أنجماً زهرا وكتابة لو أنها نزلت على ... الملكين ما ادعيا إذاً سحرا

لم أقرأ سطراً من بلاغتها ... إلا رأيت الآية الكبرى فأعجب لنجم في فضائله ... أنسى الأنام الشمس والبدرا وكان نجم الدين لحدة مزاجه قليل الاحتمال والمداراة وكان جماعة يحسدونه لفضله ويقصدونه بالأذية وأنشدني يوماً متمثلاً وكنت سمعت أن الجن عند اس ... تراق السمع ترجم بالنجوم فلما أن علوت وصرت نجما ... رميت بكل شيطان رجيم وفي آخر عمره خدم الملك الأشرف ابن الملك المنصور صاحب حمص بتل باشر وأقام عنده مديدة يسيرة وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر القعدة سنة اثنين وخمسين وستمائة، أنشدني عز الدين أبو بكر المقدمي له يمدح الملك الأشرف وأظنه ابن صاحب حمص. يا ريم حتى كم اكتم دائي ... أنت الحبيب وفي يديك دوائي هذاهواك أذاب جسمي كم لنا ... أخفيه حتى فت في أحشائي قلبكم أكني عن هواك بغيره ... حتى لقد أغربت في السماء طوراً بسعدي أو بعلوة تارة ... وبنعم والسر في عفراء وكذا بنجد والعقيق وشعبه ... والمنحنى والقصر من تيماء لا أستطيع وصاله في بعده ... والوصل غاية راحتي وشفائي ومع الدنو أكون من إجلاله ... مخف هواه فهو دان نائي متقسم بين الهوى ويد النوى ... قلبي فما يخلو من البرحاء يا أيها المملك الذي إن قسته ... بالبحر فاق البحر بالإنداء إني أعيذك أن تغير عادة ... عودتها بمقالة الأعداء

45ب - يا ابن الملوك الصيد من قد أورثواشرفا على الأباء بالأبناء اشبهت يا موسى لموسى في الذي ... أوتيته كتشابه الأسماء فله اليد البيضاء كانت آية ... ولكم لجودك من يد بيضاء وحكى لي أخوه لأمه القاضي شهاب الدين محمد بن العالمة توفي مسموماً ولنجم الدين من الكتب كتاب التدقيق في الجمع والتفريق وذكر فيه الأمراض وما يتشابه في اكثر الأمر وكتاب هتك الأستار عن تمويه الدخوار وتعليق ما حصل له من تجارب وغيرها وشرح أحاديث نبوية تتعلق بالطب وكتاب المهملات في كتاب الكليات وكتاب المدخل إلى الطب وكتاب العلل والأعراض وكتاب الإشارات المرشدة في الأدوية المفردة وذكر قبله والده موفق الدين النفاح هو الحكيم العالم الأوحد أبو الفضل أسعد بن حلوان أصله من المعرة واشتغل بصناعة الطب وتميز فيها وتميز في أعمالها وخدم الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب في الشرق وبقي في خدمته سنين وانفصل أمره وكانت وفاته في حماة سنة اثنين وأربعين وستمائة. أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي العدل المعروف بابن المزين ومولده بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة سمع من خلق كثير وقدم الديار المصرية وسكن الإسكندرية وحدث بها واختصر صحيحي البخاري ومسلم اختصاراً حسناً وشرح مختصره لصحيح مسلم بكتاب سماه المفهم وصنف غير ذلك

وتوفي بالإسكندرية في الرابع عشر من ذي القعدة رحمه الله. أحمد بن محمد بن أبي الوفا بن أبي الخطاب بن محمد بن الهزبر آبي الفضل شرف الدين الربعي الموصلي المعروف بابن الحلاوي الشاعر المشهور كان من احسن الناس صورة وألطفهم أخلاقاً وأكرمهم عشرةً مع الفضيلة التامة في الأدب والمشاركة مع غيره وامتدح الخلفاء والملوك والأعيان وأقام بالموصل عند صاحبها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ ولبس زي الجند وشعره في نهاية الجزالة والرقة وجودة المعاني فمنه ما نظمه ليكتب على مشط للملك العزيز صاحب حلب رحمه الله تعالى وهو حللت من الملك العزيز براحة ... غدا لثمها عندي أجل الفرائض وأصبحت مفتر الثنايا لأنني ... حللت بكف بحرها غير غائض وقبلت سامي خده بعد كفه ... فلم أدخل في الحالين من لثم عارض وقال يمدح الملك الناصر داود رحمه الله تعالى. أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده تقمر يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده يا ليته يعد الملال فإنه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده 46ب - يفتر عن عذاب الرضاب حياتنافي ورده والموت دون وروده واعف عني عفو مقتدر ... أنا عبد مذنب وكفى برد يذيب ولا يذوب وربما ... أذكى زفير الوجد رشف بروده

لم أنسه إذ جاء يسحب برده ... والليل يخطر في فضول بروده والصبح مأسور أحد لأسره ... جنح الظلام تأسفاً لفقيده والليل يرفل في ثياب حداده ... والصبح يرسف في وثاق حديده ولذاك لم تنم النجوم مخافة ... من أن يعاني الصبح فيك قيوده بمدامة صفراء يحمل شمسها ... بدر يغير البدر عند سعوده كأس كأن مدامها من ريقه ... وحبا بها من ثغره وعقوده مازال يرشفنا شقيقة ريقه ... طيباً ويلثمنا شقيق خدوده حتى تحكم في النجوم نعاسها ... والتذ كل مسهد بهجوده ورأى الصباح تخلاً من أسره ... فأتى يكر على الدجى بعموده قمر أطاع حسن سنة وجهه ... حتى كان الحسن بعض عبيده أنا في الغرام شهيده ما ضره ... لو أن الجنة وصله لشهيده يا يوسف الحسن الذي أنا في الهوى ... يعقوبه منى آل داوده أشكو إليك من الزمان فإنه ... ملك يشيب سطاه رأس وليده ملك إذا اللاواء لاح لواؤها ... هزمت كتائبها طلائع وجوده غمرت مواهبه العفاة فأصبحت ... ترجو المواهب من وفود وفوده آراؤه تغنيه في يوم الوغى ... والسلم عن راياته وبنوده ملك يسير النصر تحت لوائه ... حتى كأن النصر بعض جنوده

وإذا العدو يحت لدن رماحه ... فبكت ثعالبها بقلب أسوده من كل أسمر في الملاحم طالما ... عاد الردى مهج الكماة بعوده غصبت عواملها ظلام نجومه ... والبان قد سلبته لين قدوده سمر إذ الجبار سام دفاعها ... وردت أسنتها نجيع وريده عذباتها صفر كوجه عدوه ... بالنصر تخفق مثل قلب حسوده ملك الآن لنا الزمان وإنما ... داود معجزه بلين حديده وقال: حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا وجنتا وريقه هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه وأسمر يحكي الأسمر اللون قده ... غدا راشقاً قلب المحب رشيقه على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه بديع التثني راح قلبي أسيره ... على أن دمعي في الغرام طليقه على سالفيه للعذار جريره ... وفي شفتيه للسلاف عتيقه يهدد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذوقه على مثله يستحسن الصب هتكه ... وفي حبه يجفو الصديق صديقه

ولا حل في حي تلوح قبابه ... ولا سار في ركب يساق وسيقه ولا بات صبا بالفريق وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوار الأقاحي بريقه 47ب - تداويت من حر الغرام ببردهفأضرم في ذاك الحريق رحيقه إذا خفق البرق اليماني موهناً ... تذكرته فاعتاد قلبي خفوقه حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه وأشبه زهر الروض حسناً وقد بدا ... على عارضيه آسه وشقيقه رآني خيالاً حين وافى خياله ... فاطرق من فرط الحياء طروقه وأشبهت منه الخصر سقماً فقد غدا ... يحملني كالخصر ما لا أطيقه فما بال قلبي كل حب يهيجه ... وحتام طرفي كل حسن يروقه فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا لبعد الدار ماجف موقه ولله قلبي ما أشد عفافه ... إن كان قلبي مستمراً فسوقه أرى الناس أضحوا جاهلية ودّه ... فما باله عن كل صبّ يعوقه فما فاز إلا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه وكتب إليه لغزاً في شبابة: وناطقة خرساء باد شحوبها ... تكنفها عشر وعنهن تخبر

يلذ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سد منها منخر جاش منخر فكتب جوابه. نهاني النهى والحلم عن وصل مثلها ... فكم مثلها فارقتها وهي تصفر وقال: كن كيف شئت فإن الله ذو كرم ... وما عليك بما تأتيه من بأس إلا اثنتين فلا تقربهما أبداً ... الكفر بالله والأضرار بالناس وقال يمدح الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي تبدي له في الخد من نبط خط ... واخجل منه القد ما ينبت الخط ولم ندر لما هز عامل قده ... وصارم جفنيه بأيهما يسطو هو البدر وافى في الدجى ليل شعره ... يرينا الثريا منه ما حمل القرط رحيقيّ ثغر بابلي لواحظ ... له سالف كالورد بالمسك مختط من الترك لا وادي إلا ذاك محله ... ولا داره رمل المصلى ولا السقط رشيق إلى خاقان يعزى نجاره ... فما مضر الحمراء يوماً له رهط كليث الشرى في الحرب بساوسطوة ... وفي السلم كالظبي الغرير إذا يعطو تحف به لين المعاطف مائساً ... فيمنعه ثقل الروادف أن يخطو حمى ثغره من مشرف القد عامل ... له ناظر ما العدل في شرعه شرط له حاجب كالنون خط ابن مقلة ... يزينها كالخال في خده نقط فللبدر ما يثنى عليه لثامه ... وللغصن منه ما حوى ذاك المرط

يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط كما شبهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا وليل كجلباب الغراب أدرعته ... إلى أن بدا للصبح في فوده وخط على محلم الأرساغ مستخضد القرى ... غدا لشواه في ظلام الدجى خبط كمثل عقاب الجو لما تسرعت ... إلى الصيد من أعلى التباريح تنحط 48ب - سريت به والليل في عنفوانهفما صدني إلا ذوائبه الشمط لكل رزين في الأمور مجرب ... خفيف على ظهر المطية إذ ينطو أقول لصحب مدلجين تدرعوا ... جلابيب ليل عن سنا الفجر ينعطو إذا جئتم أرض العواصم أو بدت ... لكم غرة الشهباء من حلب حطوا ففي ساحة الملك العزيز فعرسّوا ... فما نافع في غير أبوابه الحط مليك ينيل الدر بالجود باسماً ... فمن يديه سمط ومن لفظه شمط فراحته قبض على السيف في الوغى ... ولكن لها في يوم نائله بسط مليك سما عن كل شكل وأغربت ... مواهبه عن نائل ماله ضبط إذا أنشد الحرمان أموال غيره ... لمن خيره يسمو النوال فلم ينطوا فأمواله ما زال ينشدها الندى ... لأية حال حكموا فيك فاشتطوا وقال: وافي يخر قوامه غصن النقا ... خذلان مخذول القوام مقرطقا ومنعم لولا مرارة هجره ... وصدوده لم أدر ما نظم الشقا دقت معانيه ولكن خصره ... قد زاد في معنى النحول ودققا بمراشف منها الأماني تشتهى ... ولواحظ منها المنايا تتقى

رشأ لبارق ثغره ولشعره ... الملوى أحببت اللوى والأبرقا لا غرو أن تصبى منازل رامة ... قلبي فاطرب نحوهن تشوقا وشفاه مبسمه العقيق وريقه ... ماء العذيب وثغره جذع النقا وله في مديح قصر شعره: قصرت شعرك كي تقل ملاحة ... فكساك أبهى الحسن وهو مقصر وقطعته ليقل عنا شره ... واللائم أقتله القصير الأبتر وقال: واضيعة القلب في هوى صنم ... جار على القلب وهو كافره له عذار أقام في الخد حول ... ين وما حال منه ناضره والإنماء والعيون مصرفها ... إليه والدمع فيه ماطره وكيف يزكو نبات عارضه ... وفاتر بالسواد ناظره وكتب إلى قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل يحيى بن الزكي يصف خطه ويقول: كتبت فلولا أن ذاك محرم ... وهذا حلال قست خطك بالسحر فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان دراً فهو من لجة البحر وقال: أألقى من صدودك في جحيم ... وثغرك الصراط المستقيم

وأسهرني لديك رقيم خد ... فواعجباً أأسهر بالرقيم وحتام البكاء بكل رسم ... كأن علي رسماً للرسوم وقال في غلام اسمه حسن: لحاظ عينيك فاتنات ... جفونها الوطف فاترات فرق بيني وبين صبري ... منك ثنايا مفرقات 49ب - يا حسن صده قبيحفجمع شملي به شتات قد كنت لي واصلاً ولكن ... عداك عن وصلك العداة لم يكن منك لي وفاء ... دنت لهجرانك الوفاة حيات صدغيك قاتلات ... فما لملسوعها حياة والثغر كالثغر في امتناع ... يحميه من لحظك الرماة يا بدر تم له عذار ... بحسنه تمت الصفات منمنم الوشى في هواه ... يا طالما نمت الوشاة نبات حل حلاك حسناً ... والحلو في السكر النبات وقال: جاء غلامي فشكا ... أمر كميتي وبكا وقال لي لاش ... ك برذونك قد تشبكا قد سقته اليوم فما ... مشى ولا تحركا فقلت من غيضي له ... مجاوباً لما حكى

تريد أن تخدعني ... وأنت أصل المشتكى ابن الحلاوي أنا ... خل الرياء والبكى ولا تخادعني ودع ... حديثك المعلكا لو أنه مسير ... لما غدا مشبكا فمذ رأى حلاوة ... الألفاظ مني ضحكا اجتمع بالموصل جماعة من الأدباء منهم ابن الحلاوي - عند - شخص لقبه الشمس فقالوا له أطعمنا شيئاً فقال ما عندي شيء أطعمكم فقال أحدهم الطامع في منال قرص الشمس وارتج عليه ابن الحلاوي كالطامع في مثال قرص الشمس. ولما توجه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى بلاد العجم للاجتماع بهولاكو ملك التتر كان ابن الحلاوي المذكور في خدمته ولما وصلوا تبريز مرض بها وتوفي في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى وقد ناهز الستين سنة من العمر وقيل أنه توفي بسلماس رحمه الله تعالى. أحمد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد أبو المعالي موفق الدين ويدعى القاسم أيضاً ومولده في ربيع الأول وقيل في جمادى الأخرى سنة تسعين وخمسمائة بالمداين وتوفي ببغداد هذه السنة بعد أن أخذ التتر لها بقليل وكان أديبا فقيهاً فاضلاًَ شاعراً محسناً مترسلاً مشاركاً

في أكثر العلوم وله أشعار كثيرة منها: أسعد بدير سعيد أيها الساقي ... وامزج وخذ وأعطني من غير إشفاق من خندريس كأني حين أشربها ... ملسوع هم تحسى كأسد درياق نار ولكنها للماء عاشقةتزداد من وصله ضوءاً بإشراق 50ب شجت فألبست الساقي بصبغتها ... ثوباً وألبسنيه ذلك الساقي تجري الكؤوس فلا تجري محادثة ... مع الذي زاد في همي وأشواقي لم أقض في عمري الماضي هوى حلب ... يا ليت شعري فهل أقضيه في الباقي وذي قوام تثنى في غلائله ... مثل القضيب تثنى بين أوراق نظمت من غزل في حسن صورته ... عقداً تقوم به الدنيا على ساق يا عقرب الصدغ في الخد الأسيل أما ... لمن لبست شفاء منك أوراقي وقال وهو بدير ميخائيل بالموصل: كل الورى فيك حسادي وعذالي ... يا فاقد المثل ما العشاق أمثالي بكائي وقف عليكم بعد فرقتكم ... لا للوقوف على ربع وأطلال رضا العواذل سخطي في هواك وفي ... وفاقهم خلف أغراضي وآمالي يا ساكني دير ميخائيل لي قمر ... لكنه بشر في شكل تمثال قريب دار بعيد في مطالبه ... غريب حسن وألحان وأقوال

سكرت من صوته لما أشار به ... ما لست أسكر من صهباء جريال ما رمت أمسك نفسي عند رؤيته ... إلا تغيرت من حال إلى حال يا ليلتي بفناء الدير لست كمن ... يقول يا ليلتي بالشيح والضال قد صرت أنشد بيتاً صار لي مثلاً ... لولا وصالك لم يخطر على بالي لو اشتريت بعمري ساعة سلفت ... من عيشتي معكم ما كان بالغال وقال أيضاً: مرحباً بالخيال إذ زار وهناً ... وشفى لوعة المحب المعنى وقضى حاجة تسر وسرى ... همم القلب عن لبانا ولبنى كلما قلت قد تسليت عنه ... عادني طيفه وعن ... فعسى شادن لو بدا يفاخر بدراً ... خجل البدر بالملاحة حسناً وإذا ما انثنى رأيت كثيباً ... بند القبا يحمل غصناً ترك الرمح والحسام وأبدى ... سيف لحظ وهز بالقد لدنا ليلة الدير حيث نسمع لحناً ... حسن النظم ما يقارب لحنا سعدت ليلة رأيت بها الشم ... س وجنح الظلام ينجاب عنا بين صرعى محاجر وعيون ... بات بحيهم إذا ما تغنا أيها الشمس من يقل فيك معنى ... لم يصب فيك أنت كلك معنى قد نمت جوارح الناس طراً ... أنها صيرت لأجلك أدنا وله أيضاً: لحظات طرفك أم شفار مهند ... هزمت جيوش تصبري وتجلدي

ما رنقت عيناك من سنة الكرى ... إلا لشقوة عاشق لم يرقد عجباً لطرفي لا يزال يعوم في ... ماء الملاحة وهو كالعطش الصدي ولنور وجهك وهو قد هتك الدجى ... بضيائه إذ ضل فيه المهتدي يا قاسم العشاق من متقلقل ... سكن الفناء وساكن مستسعد 15ب - ته كيف شئت فحسن وجهك قد غدامتودداً فينا بغير تودد وكأن خط عذاره في خده ... سيح أذيب على صفيحة عسجد قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي رحمه الله تعالى أنشدني موفق الدين المذكور له: قمر عدمت عواذلي في عشقه ... بل ما عدمت تزاحم العشاق يبدو فتسبقه العيون وإنها ... مأمورة بالغض والإطراق عيناي قد شهدا بعشقك إنما ... لك أن تقول هما من الفساق قال وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى صديق له استعمل خاتماً يمينك تبغض أموالها ... وتهوى شبا القلب الذابل فكيف استقر بها خاتم ... على كثرة الجود والنائل لقد كاد يغرق في بحرها ... ولكنه كان في الساحل أراني جبلت على حبكم ... وتأبى الطباع على الناقل وقلت لمن كان لي عاذلاً ... الأم الطماعة للعاذل

وقال موفق الدين: لو يعلمون كما علمت لما لحوا ... في حبه ولأقصروا إقصارا هلا أحدثكم بسر لطيفة ... دقت إلى أن فاتت الأبصار حاذت صقال خدوده أصداغه ... فتمثلت الناظرين عذارا وله أيضاً: بيت من الشعر في تشبيه وجنته ... لما أحاط به شطر من الشعر كالظل في النور أو كالشمس عارضها ... خط من الغيم أو كالمحو في القمر وقال الصاحب جمال الدين عمر بن العديم في تاريخه أنشدني موفق الدين لنفسه على ليال حلب بعدنا ... مني سلام رائح باكر وكيف أنسى حاضراً زارني ... فيها وقد طاب لنا الخاطر قال وأنشدني لنفسه: تقاسمت بي أقطار البلاد فقد ... أصبحت مجتمعاً في زي منشعب في القدس عزمي وجسمي في دمشق بلا ... قلب وقلبي مع الأحباب في حلب وقال يمدح تاج الدين محمد بن حسين الأرموي: أردد لثامك حتى يستر اللعس ... وقف ليبعد عن أعطافك الميس أني أغار على حسن حبيت به ... أصابه العين إن العين تختلس

يا غاصب الخشف أوصافاً مكملة ... لم يبق للخشف إلا السوق والخنس وفاضح البدر إن البدر مقتبس ... في الدهن من خديك يقتبس معدل الخلق لا طول ولا قصر ... مكمل الخلق لا هين ولا شرس يصحني حبه طوراً ويمرضني ... فكم أبل من الهوى وأنتكس حموه عن كل ما يشفي العليل به ... حتى على طيفه من شكله حرس قد كنت أبصر صبحاً في محبته ... فعاد وهو بعينين كله غلس 52 - مالي وللحب يلهو القلب عن مدحأوصافها فصح أضدادها خرس كيف الذهول وتاج الدين خير فتى ... خير المديح بخير الناس يلتمس حبر تفيض به نفس بهمتها ... لم يبق للشر لا روح ولا نفس نور تلقته نفس منك طاهرة ... لولاه لم يبد فينا ذلك القبس شاركت في الروح عيسى ما استبد بها ... كلاكما في البرايا روحه قدس حكمت في العالم العلوي عن نظر ... صاف من الشك ما فكره دنس ولو رأى منك جالينوس معجزةً ... ما قال في الكل إن الأمر ملتبس وكاد يؤمن بقراط الحكيم بما ... يلقى إليه ولا يرتاب برقلس وحومة مزجت شكا جوانبها ... فما درى الحبر فيها كيف ينغمس أعيي الخواطر فيها حادث جلل ... وأستعبد النطق في أرجائها الخرس حتى إذا جاء تاج الدين فرجها ... يغضى البيادق مهما عدت الفرس وله في رجل جعل عارض الجيش بغداد وخرج من دار الوزير وعليه خلعة جديدة فعانقه موفق الدين وقبله وأنشده:

لما بدا رائق التثني ... وهو بأثوابه يميد قبلته باعتبار معنى ... لأنه عارض جديد وقال: يا هاجري لما رأى شغفي به ... ما كان حق متيم أن يهجرا إن الذي خلق الغرام هو الذي ... خلق السلو فلا يغرك ما ترى وقال: أفدي الذي زارني والخوف يقلقه ... يمشي ويكمن في العطفات والطرق قبلت أطراف كفيه على ثقة ... من منّه وخديه على فرق وكان في أخريات السمر مضطرباً ... إذا أراد انتظام اللفظ لم يطق لله ما أحسن الصهباء منعمةً ... علي إذا علمته طيبة الخلق أهدت إليه سروراً نلت معظمه ... كالفعل ينصب مفعولين في نسق وقال: لو عاد وصلك لي لما عد الزمن ... واحسرتا مضت الشبيبة والسكن لم ألق إلا من يذم زمانه ... قبل الممات فهذه الدنيا لمن وقال: معقل الحسن في محياك لا يطم ... ع فيه والثغر ثغر محصن قد حماه عن الوصول إليه ... حاجب مقفل وصدغ مزرفن وقال: اللؤم فيك لجاجة من عاشق ... وافى يخادعني بلفظ العاذل

53 - ب ما كنت مجهولا لديه فلم أقلأمط اللثام عن العذار السائل تولى موفق الدين المذكور قضاء المداين في أيام الإمام الظاهر بأمر الله رحمه الله ثم أنتقل إلى بغداد وصنف كتاباً سماه الحاكم في اصطلاح الخراسانيين والعراقيين في معرفة الجدل والمناظرة وتولي كتابة الإنشاء وغير ذلك رحمه الله. أسعد بن إبراهيم بن حسن بن علي أبو المجد مجد الدين الشيباني الأربلي النشابي ولد بأربل في صفر سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة كان في أول أمره يعمل النشاب فنسب إليه وبقيت النسبة عليه ولما كبر سافر من أربل وتنقل في بلاد الجزيرة الفراتية والشامية ثم عاد إلى أربل وتولى كتابة الإنشاء لملكها الملك المعظم مظفر الدين أبي سعيد كوكنوري ابن الأمير زين الدين علي بن بكتكين والظاهر أن ذلك كان في حدود سنة ثمان وعشرين وستمائة ولما توجه مظفر الدين إلى بغداد في سنة ثمان وعشرين وستمائة كان في خدمته ودخل مظفر الدين على الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور ابن الإمام الظاهر بأمر الله وهو بين يديه في نفر يسير من خاصته في يوم دخولهم بغداد ولما رفع الحجاب وقبلوا الأرض بين يديه تقدم المجد وقال: جلالة هيبة هذا المقام ... تحير عالم علم الكلام كأن المناجي به قائماً ... يناجي النبي عليه السلام ولو كشف الخطا لرأينا الملائكة بك حافة ووجدنا الروح الأمين يجدد تلاوة الوحي المنزل على أبن عم النبي المرسل ويقول هذا أكرم

الخلفاء وصلاة الله وسلامه يخصان الأكرم الأفضل. ولو جمع الأئمة في مكان ... وأنت به لكنت لهم إماماً فالله تعالى يؤيد هذه الدولة الشريفة بنصره ويرد كيد عدوها في نحره، ولما تولى وزارة أربل شرف الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن حرب عرف بابن الموالي الموصلي وغالب الظن أن ذلك كان في سنة ثلاث وعشرين وستمائة أو ما يقاربها عمل فيها المجد المذكور وكان إذا حضر إلى الديوان يصبح الجاويش له فرحنا وقلنا تولى الوزير ... وأفلح ديواننا بالوزارة فما زادنا غير جاويشه ... وفي كتابنا كتب بالإشارة وكان قد وقع اختلاف بين الأخوين البدر الكامل محمد والملك الأشرف موسى بن الملك العادل والكامل يومئذ صاحب مصر والأشرف صاحب بلاد الشرق وخلاط فمال ملوك الشام والشرق إلى الكامل وتحاملوا على الأشرف فقال المجد المذكور في ذلك: صاحب مصر ثنى الملوك عن الأش ... رف من كل مسعد عون واحتج كل به فقلت وهل يؤ ... خذ موسى بذنب فرعون وعمل المجد المذكور في شرف الدين أبي البركات المبارك بن أحمد بن موهوب وزير اربل وصاحب تاريخها المكين ويعرف في اربل بابن المستوفي قال: إن المبارك فيه توقف ولجاجه ... صديقه أنت ما لم تعرض إليه بحاجة وأهدى المجد المذكور إلى شرف الدين المذكور في بعض الليالي

طبقاً فيه تفاح مخضب وسفرجل على يد غلام وكان جميل الصورة فوصل إليه وعنده جماعة منهم الحسام عيسى بن سنجر الدين بهرام الحاجري فعمل كل واحد من الحاضرين في ذلك شعراً فعمل الحاجري: أهدى لنا المجد تفاحاً وأحمره ... من خد من حمل التفاح مسترق وللسفرجل من أعلاه رائحةً ... يضوع منها لمهديه ثنى وعبق فظلت أعجب من حالين كيف حوى ... وصف الغلام ووصف السيد الطبق ولم يزل المجد على رياسته وكتابته إلى أن نقم عليه مخدومه مظفر الدين فأخذه واعتقله في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وستمائة في قلعة يقال لها الكرخيني من أعمال أربل بينها وبين بغداد ولم يزل محبوساً بها إلى أن مات مظفر الدين رحمه الله في شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة وأرسل الخليفة عسكره فأخذوا أربل وأفرجوا عن المحابيس فكان المجد في جملة من خلص وذلك في شوال من السنة فخرج وتوجه إلى بغداد وتنقل في خدمها إلى أن استولى التتار عليها في صفر هذه السنة وقتلوا من ظفروا به وكان المجد في جملة من استخفى فسلم وخرج بعد سكون الفتنة ومات في بقية سنة سبع وخمسين وستمائة رحمه الله. ومن شعره: ولما رأى بالترك هتكى ورام أن ... يكتم منه بهجة لم تكتم تشبه بالأعراب عند التثامه ... بعارضه يا طيب لثم الملثم شكا خصره من ردفه فتراضيا ... بفصلهما بند القباء المكتم

ورد جيوش العاشقين لأنه ... أتاهم بخط العارض المتحكم وقال: تقلد أمر الحسن فاستبعد الورى ... وراحت له الأفكار تنظم ديوانا وعامله ولي على القلب ناظراً ... فأصبح لما حل بالقلب سلطانا غدا باحمرار الخد للحسن مالكاً ... ومن فيه أبدى للتبسم رضوانا فأبدى لنا من ثغره ورضا به ... وعارضه راحاً وروحاً وريحانا 55 - برأى خده ميدان حسن وخاله به كرة فأستعطف الصدغ جوكانا أجل نظرا في خده يا معنفي ... تجد فيه من إنسان عينك إنساناً وقل لأسيلات الخدود أتيتنا ... تخاد عننا في الحب كان الذي كانا وقال: والأفق روض زهره ... يفتح لي كمامه قبضت به كف الثريا ... فالهلال لها قلامه والقلب من طعن الشمال ... برمحه فيه علامه وأغن يشهد أن ريق ... ته الطلى عود البشامه يصمى القلوب إذا رمى ... باللحظ يا رب السلامه وقال من أبيات: والبرق يخفق في خلال سحابه ... خفق الفؤاد لموعد من زائر وقال من أبيات أيضاً: كأن ائتلاف البرق من جنباتها ... سلاسل تبر أو سيوف قواضب وكان مجد الدين المذكور من الفضلاء الرؤساء الأعيان غير أنه كان مذموم المعاملة لأهل بلده ومعارفه لا ينصفهم في الوداد ويتكبر عليهم

فهجاه غير واحد بأهاجي قبيحة أضربنا عن ذكرها كان صدر الدين بن نبهان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى صديق عارض الجيش ببغداد فعزل - 56 ألف - ثم صار صدر الدين صورة وزير الأمير شجاع الدين العزي فتوفي العزي فاتصل الصدر بعده بالملك فتح الدين ذكري رحمه الله فخرج فتح الدين من بغداد مغاضباً فعمل مجد الدين النشابي في ذلك. رجل ابن نبهان الأعيرج شؤمها معلوم ... ما دار قط بأحد الألقي المحتوم قلع ملك وعزل عارض بهذا الشؤم ... وعاد جرر زعيمه مبعراخت البوم وله يمدح الملك المنصور زنكي ابن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود ابن زنكي رحمه الله. يا لقومي قد جئتكم مستجيراً ... لا أرى منكم ولياً نصيرا أنا ما بين عاذل ورقيب ... منهما خلت منكراً ونكيرا بابي شادن تبدي فأبدي ... من محياه بهجةً وسرورً وعذار في ذلك الخد أبدى ... ببها الحسن جنةً وحريرا وثنايا كأنها من لجين ... قدروها في ثغره تقديراً لا رعى الله يوم زموا المطايا ... أنه كان شره مستطيراً أودعوا حين ودعوا الصب وجدا ... وتناءوا والقلب يصلي سعيراً واسألوا الدموع من نرجس غض على الخد لؤلؤاً منثورا فغدا الصب يرتضى الحب ديناً ... ويرى ناظر السلو حسيراً

وهدى قلبه السبيل فإما ... صابراً شاكراً وإما كفورا صم سمعي عن الكلام كما ص ... رت بمدحي زنكي سميعاً بصيرا ملك أشرقت به ظلم الده ... ر فأضحى لنا سراجاً منيرا وأرانا نواله وسطاه ... فرأينا منه بشيراً نذيرا كل ساع داع له بدوام ال ... ملك ما زال سعيه مشكورا كم سقى سيفه شراباً حميماً ... وسقى سيبه شراباً طهورا سرح الطرف في ذراه ترى ث ... م نعماء وملكاً كبيرا لم ير النازلون في ظله المغمو ... ر شمساً يوماً ولا زمهريرا ويبيح الطعام والمال كم ع ... م يتيماً بزاده وأسيرا قسم الدهر بين بأس وبذل ... فدعوناه سيداً وحصورا إذ يعفى العفاة منه أجوراً ... يقذفون العداة منه دحوراً وله في أصحاب الديوان: قد قسمنا الديوان خمسة أقسا ... م عليها لكل قول دليل رب حق فلا يطاع ومنسو ... ب إلى الظلم قوله مقبول ثم شخص كأنه الحرف في النح ... ووفلا فاعل ولا مفعول ومصر على التحيف والظلم ... بعيد عن الصواب جهول وأخو حاجة يمشي أحوا ... لاً لديه أن جاءه البرطيل أتراهم لم يعلموا أن كلاً ... منهم عن فعاله مسؤل وله وقد حبس وزير أربل جماعة الديوان لعمل الحساب.

جماعة الديوان في ... ليلة شحط مظلمه وقد غدت أيدي الوز ... ير منهم منتقمه لا رحم الله الذي ... يرحم قوماً ظلمه وقال في المعنى: جماعة ديواننا أصبحوا ... وهم في العذاب لسوء الحساب فإن يرجو الوزير الثواب ... فقتلهم من جزيل الثواب وقال لما حبس يعقوب النصراني مشرف ديوان أربل وتولى المختص النصراني مكانه. فرحنا بيعقوب اللعين وحبسه ... وقلنا أتانا ما يطيب به القلب فلما ولي المختص فالشر واحد ... إذا ما مضى كلب أتى بعده كلب وكتب إلى مؤيد الدين وزير بغداد هذه نهاية أقدام على غاية أنعام وهداية أقلام إلى أعلام، أعلام. وفاتحة حمد. إلى خاتمة مجد، يتشعب منها شعب الإرجاء، إلى ابنة شعيب الرجاء، وقد جاءت تمشي على استيحاء، إلى عصم تأوى الطريدة، يبتغي غضارة عيدان السماحة، والمجد عرض يعرضها عارض مستمطر ألوية، وحامل ألوية، وكافل أدعية، لا يلوى إلى طمع، ولايأوى إلى طبع، يعتصم من طوفان الحرض لجودي العفاف، ويرهب الخشع بسطوة الكفاف. إذا قيل هذا منهل قيل قد رأى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل سقم دليل

اللهم غفرا من دعوة تفقر إلى برهان وقول لا يترجح له ميزان إلا بعيار الامتحان زنى القوم حتى تعلمي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل فلا لا بعدها أن والت قريحة عاثرة أو تأولت بصحة قاصرة وهاهو مستدرك فارط ما أخره من حقوق خدم لو قدمتها لأضاءت شاكلة الصواب ومستغفر من زلة قهره إقدام مدح يرجو أن يدخل عليه مليكه العذر به من كل باب ولئن بقيت وإن بقيت لتسمعن مدحا تخب بها الرواة وتوجف حتى يقال صام نهار أدبه وغسق ليل هيدبه ولسعسع فم طرسه وجاء في عسه وبسه لتعدو أنفاسه علة مضغة من أرض الفلا وألوية مقاصده في الإطراء على تلك الآلاء كالعقاب العسراء يتلقى كل رائة منها عرابة مجد بيمين حمد يحف بذلك الموكب المؤيدي والنادي الندي ما لها كتيبة ثناء يقال معها جاء محمد والخميس وجحفل إطراء ينادي به الآن حمي الوطيس واعتذاري إليك فرض وإن ك ... نت بريئاً لعظم قدرك عندي وقد كان يجب على هذا العبد المقصر أن يرفعه في كل يوم بل في كل ساعة حدبه يقف بها كوقوف ابن حجر الكندي وطرفة العبدي وعمرو بن معد والنابغة في السؤال والأعشى بالأطلال والطائي ومديح للانه والشحيح الذي ضاع في الترب خاتمه بل كوقوف عبد المسيح على سطيح ووقوف وفد العرب باليمن على سيف ابن

ذي يزن وكنت جديراً حين أعرف منزلاً ... لآل سليمى أن يعنفني صحبي وما صده عن مخاطرة الخاطر واقتحام حومة أقوال العواذل والعواذر سوى التحرز من الأستمهان والتهجم بنفاق ما قد كسد في هذا الزمان. ولما تمادى قلت خذها عريقة ... فإنك من قوم جحاجة زهر ولقد ناجاه فكره بهذه المناجاة وثقة ظنه بسلوك سبيل هذا النجاة متيقناً أن تلك الألمعية التي تدرك الأشياء بعين التحقيق وتنظر المغيبات من وراء ستر رقيق لا يخفى عنها لمن أولى من ولى وجه صدق يعيده إلى شطر تلك القبلة واستمسك بالعروة الوثقى من تلك الكعبة ودخل في زمرة الداخلين للسلام وزاحم في تلك الكتاب الكريم؟ لا يكاد يخلص من كثرة الزحام ولو ظفرت بلقياه لشاهدي وكل حاجة لي في الثناء فم لكنه علم أن ظاهر أمره يغنيه عن اعتذاره وإيثاره سد باب القول يبعث ذوي المكارم على المسامحة بهذا الإيثار ومن يغو في امرأتاه فإنه ... إلى أن يصيب الرشد في الأمر جاهد وهو كالطبيب الذي يرى حفظ الصحة على وجهين أحدهما ما يوافق الإنسان والثاني ما يضر بالأبدان وكمال الطب هو العلم بحفظ الصلاح وموضوعه التحرز من الخلل قبل وقوعه وأن آخره قدر عن مثوله بجسمه فإنه يرسل كل يوم قلبه إلى ذاك الباب العالي فيعود على بينة من علمه وربما سمع النداء أو وجد على النور هدىً

ولولا أن القلوب تنتقل من مكان إلى مكان لما قيل أنها بين إصبعين من أصابع الرحمن وهذا قول له عند أخوان الصفا مثل معروف وكذلك قيل لسارية الجبل حتى كشف ما لم يكن لغيره بمكشوف وهاهو العبد يحافظ على شريعة تلك المحامل التي هي غير منسوخة ولا مبدلة ولا مستعارة ولا مهملة إذ لابد لكل شريعة من حافظ إما أن يكون معصوماً أو غير معصوم فإن كان معصوماً فهو المطلوب وإن لم يكن معصوما كان عنده القوة وأمانة وحفظ قام مقام العصمة وبيان ذلك بالامتحان والتكلف لإثبات الحكمة فإن قيل ما الواسطة أيها المدعي في إقامة البرهان على أقدار هذا الصاحب الألمعي والصدر اللوذعي حتى تعاطيت ولاء الولاء ونصبت على التمييز والإغراء ورفعت الخبر والابتداء وشاركت حمزة والكسائي في إعدام اللام في الراء ولم تواط على الإيطاء ولا أسندت إلى النادي رواية الأكفاء ولا نكلت قوة وقيل عن الإقواء ولهجت بعروض شكره في كل مكان كأنه الضرب الكامل في الأوزان هذا ولم يخرجوا ذا ملك في مضار فضله ولا ضربت معلا قداحك لدى وارف ظله ولو نسي لك ذلك لكانت حياض بلاغتك بمر لهجة مترعة ورياض فصاحتك بأوصافه بمرعة وقد وجدت مكان القول ذا سعة. وما على مادح أطراه من تعب ... فمدحه قبل نظم الشعر ينتظم وقال يمدح الإمام المستنصر بالله أبا جعفر المنصور ويشير إلى ذكر الخلفاء:

الجد يرتع في المقام الأفخر ... والعز يرتع في الجانب الأخضر والدهر من بعض القطوب بدا لنا ... يزهو كوجه الضاحك المستبشر وتجلت الدنيا على أبنائها ... تدعو بحي على الفلاح الأكبر وغدا بها الإسلام يحمل رايةً ... سوداء راية منذر ومبشر أعلى الأئمة من سلالة هاشم ... قدراً وأشرف محتداً من عنصر ورث النبوة طاهراً عن طاهر ... إرثاً ينزه عن مقالة مفتري وبحقه أرث اللواء وبرده ... وحسامه وقضيبه والمنبر وإذا رأى الراؤن نور جلاله ... لم تلق غير مهلل ومكبر أعطى إلى أن قالت الدنيا قد ... وحبا إلى أن قال سائله اقصر جمعت مكارمه الشراق جميع أو ... صاف الخلائق مفخراً عن مفخر فبكل وصف منه نعت خليفة ... كالفعل شق ثنائه عن مصدر فنوا له السفاح والمنصور كالمن ... صور سيدنا الإمام الأنور مهدي هذا العصر والهادي إلى ال ... أمر الرشيد بنور هدى مبصر وأمين أمة أحمد وإمامها ... حقاً ومأمون لها في المحشر لو بي بمعتصم به من واثق ... من فضله بأواصر لم تخفر كم مقتر أضحى على أنعامه ... متوكلاً أمسى بمال مكثر لم يرض منتصر ببعض عبيده ... أن شبهوه بتبع في حمير ما بات غير المستعين بعزه ... في جنة من جوده أوعبقري

لو شاء معتز به أن يملك ال ... دنيا رأها خاتماً في خنصر نصب الصراط المستقيم لمهتد ... وأفاض نائله العميم لمعتر ولكل معتمد يداً لم تقتر ... ولكل معتضد يداً لم تقهر والمكتفى بعزيمة من بأسه ... يطأ البلاد بكل ليث مخدر مازال مقتدر المرامي وقاهرال ... أعداء بالجد السعيد الأطهر فالله راض بالذي يرضى به ... إن قال خلق غير هذا يكفر فرضاه تقوى المتقي ولكل مس ... تكف بنائله كنور الأبجر فاز المطيع له فطائع أمره ... يوماً متى أصفى السريرة يؤجر ملك البلاد فكان اقدر قادر ... وبحكمه قد دان كل مقدر ما شأنه إذ كان قائم هديه ... متقدما في عصره المتأخر فالمحتذى من وجوده المتوفر ... كالمقتدي بعلائه المستظهر وإذا استقل بقوة مسترشد ... وجد الهداية مثل لمحة منظر هو راشد للمقتفي ومساعد للمعتفي ... ومعاند للمجتري هذا الذي أضحى الزمان بعزمه ... مستنجداً في الحادث المستكبر وإذا ادلهم الخطب كان مناره ... للمستضيء ضياء صبح مقمر لله سيف منه ناصر دينه ... وبغيره دين الهدى لم ينصر فاليوم برهان النبوة ظاهر ... بخلافة المستنصر المستبصر ومنها في ذكر الوزير مؤيد الدين:

سلطان كل معمم ومطيلس ... ومليك كل متوج ومسور ورد مجد الدين المذكور دمشق سنة أربع وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى ذكر عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله تعالى أنه شيباني ورأيت بخط كمال الدين أحمد بن العطار أنه أنصاري والله أعلم. إسماعيل بن محمد بن يوسف بن عبد الله أبو إبراهيم برهان الدين الأنصاري الأندلسي إمام الصخرة كان رجلاً صالحاً كثير الخير والعبادة أخبر عن بعض الأولياء المجاورين بيت المقدس أنه سمع هاتفاً يقول لما خرب القدس. إن يكن بالشآم قل نصيري ... ثم خربت واستمر هلوكي فلقد أتيت الغداة خرابي ... سمر العار في حياة الملوك توفي البرهان إسماعيل المذكور ليلة الخميس الثالث والعشرين من المحرم بالقدس رحمه الله تعالى. بكتوت بن عبد الله الأمير سيف الدين العزيزي أستاذ دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله كان من أكبر الأمراء بالدولة الناصرية وله الحرمة الوافرة والمكانة العالية والمهابة الشديدة ويده مبسوطة وآمره نافذ في المملكة وبيده الإقطاعات العظيمة وله الأموال الجمة والخيول والجمال والمواشي الكثيرة وغير ذلك ظاهر التجمل شجاعاً حسن السياسة والتدبير مليح الصورة بهي الشكل وكان مجرداً في الجهات التي قبلي دمشق فتوفي هناك ودخل غلمانه وحاشيته دمشق

بالأعلام المنكسة والسروج المقلبة على الخيول المهلبة ومماليكه وقد قطعوا شعورهم ولبسوا المسوح السود فكانت صورة مؤلمة مبكية ووجد له من الحواصل ما لا يوصف وسمعت أنه سم وأن الذي تولى ذلك عز الدين عبد العزيز بن وداعة وأنه سمه في بطيخة خضراء وكان سيف الدين المذكور يحب البطيخ الخضر ويجلي إليه حيث كان فاتفق أني سألت حسام الدين اتش العزي رحمه الله أستاذ دار ابن وداعة إذ كان متولياً قلعة بعلبك عن ذلك فأنكر أن يكون أستاذه فعله بل قال أن الملك الناصر سير أستاذي في بعض المهمات فلما أجتاز بالعسكر قصد خدمة الأمير سيف الدين السلام عليه فقال له الأمير سيف الدين معك بطيخ أخضر؟ قال فعاد إلى خيمته وجهز له بطيخاً أخضر وغيره من هدية دمشق فأكل البطيخ وأمعن واتفق تغير مزاجه ومرضه ووفاته فقال الناس ما قالوا والله أعلم بالجملة فكان الأمير سيف الدين جليل المقدار من أركان الدولة ومنذ توفي حصل الخلل وتغير أحوال الدولة الناصرية رحمه الله تعالى. الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك وهو عمرو بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن القاسم بن علقمة بن نصر بن معاذ بن عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه أبو علي صدر الدين القريشي التيمي البكري النيسابوري الأصل الدمشقي المولد والمنشأ مولده بدمشق بكرة الحادي والعشرين من المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة سمع من خلق كثير في بلاد متعددة وحصل كثيراً من الكتب

وكتب العالي والنازل وكان حافظاً مغرماً بهذا الشأن وخرج تخاريج عدة وشرع في جميع ذيل التاريخ الذي بدمشق وحصل منه أشياء حسنة ولم يتمه وعدم بعده وكان عنده رياسة وفضيلة تامة وولي حسبة دمشق وسيره الملك المعظم عيسى بن الملك العادل إلى الشرق برسالة إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه ملك العجم باطناً وأظهر أن توجه ليحضر ماء من عين من تلك البلاد منن خاصية ذلك الماء أنه إذا حمل في قوارير زجاج وحمل على الرماح تبعه نوع من الطير يفني الجراد وكان قد حصل بالشام جراد كثير لم يعهد مثله فتوجه وصحبه جماعة صوفية واجتمع بجلال الدين منكيرني خوارزم شاه وقرر معه الاتفاق مع الملك المعظم وتعاضد به واستحلفه له وكان سبب ذلك أن الملك الكامل والملك الأشرف اتفقا على الملك المعظم فأراد أن يحصل له من يعتضد به وكان السلطان جلال الدين مجاوراً لخلاط وبلاد الملك الأشرف في الشرق فلما أبرم صدر الدين ما توجه بسببه أحضر الماء المطلوب على الصورة المقترحة وعاد إلى دمشق وكان الجراد قد قل فلما عاد البكري كثر فعمل الناس في ذلك الأشعار وظهر الناس ما توجه بسببه في الأمر وعلم الملك الكامل والملك الأشرف ذلك ولما عاد البكري ولاه الملك المعظم مشيخة الشيوخ مضافا إلى الحسبة ولهذا صدر الدين خانكاه بدمشق تعرف قيسارية الصرف وكانت وفاته في ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة ودفن بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى. الحسين الدين إبراهيم بن الحسين بن يوسف أبو عبد الله شرف الدين

الهذباني الكوراني الأربلي الشافعي الصوفي اللغوي مولده في يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمسمائة قرأ الأدب عن جماعة منهم الشيخ تاج الدين الكندي وسمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وعمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله المهرواني اليميني الكندي وآخرين وحدث بدمشق وغيرها وكان من الفضلاء المشهورين وأهل الأدب المذكورين عارفاً بما يروم حسن الأخلاق لطيف الشمائل كثير المحاضرة بالحكايات والنوادر والأشعار وسمعت عليه كثيراً من مروياته بدمشق وبعلبك وكانت وفاته رحمه الله عصر يوم الجمعة بدمشق ثاني ذي القعدة ودفن من الغد بمقابر الصوفية ظاهر دمشق رحمه الله تعالى. داود بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن قابس بن حابس بدمشق مالك بن عمرو بن معد يكرب أبو المعالي عماد الدين زبيدي المقدسي الأصل الدمشقي الدار والوفاة الشافعي مولده بدمشق في ثاني عشر شوال سنة ثمانين وخمسمائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وخطب بجامع دمشق مدة وأم الناس وخطب بجامع بيت الآبار وكان معروفاً بالإصلاح والتعبد وتوفي في حادي عشر شعبان ودفن من الغد رحمه الله تعالى. داود بن عيسى بن أبي بكر بن محمد بن أيوب بن شادي أبو المظفر وقيل أبو المفاخر الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين ولد الملك الناصر المذكور في

جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة ولما ولد سماه الملك المعظم إبراهيم وأخبر والده الملك العادل بذلك فقال أخوك اسمه إبراهيم يشر إلى الملك الفائز فقال ما ترسم إن اسميه فقال سمه داود فسماه فلما حج الملك المعظم في سنة إحدى عشر وستمائة واجتاز بالمدينة صلوات الله وسلامه على ساكنها تلقاه أمير المدينة وخدمه خدمة بالغة وقال له يا خوند أريد أن افتح لك الحجر الشريفة لتزور زيارة خاصة لم ينلها غيرك فقال معاذ الله أن أتهجم وأقدم على هذا والله إني في طرف المسجد وأنا رجل من أساة الأدب فإني أخبر بنفسي ومثلي لا ينبغي له أن يداني هذا المقام الشريف إجلالاً له وتعظيما فرأى بعض الصلحاء النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له قل لعيسى إن الله قد قبل حجه وزيارته وغفر له ولام إبراهيم لتأدبه معي واحترامه لي وأما هذا معناه فحضر ذاك الرجل إلى الملك المعظم وقص عليه الرؤيا بمحضر من خواصه فبكى الملك المعظم لفرط السرور فلما قام من عنده قال ما أشك في صدق هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى فقال له خواصه لكن ما يعرف لك ولد اسمه إبراهيم وحكى لهم صورة تسمية الملك الناصر أولا بإبراهيم وأنه هو الاسم الذي وقع عليه أولاً ونشأ الملك الناصر في حياة أبيه ملازماً للاشتغال بالعلوم على اختلافها وشارك في كثير منها وحصل منها طرفاً جيداً وسمع بالشام والعراق من جماعة منهم محمد بن أحمد القطيعي وغيره وكانت له إجازة من أبي الحسن المؤيد ابن محمد الطوسي

وغيره وحدث وسأذكر من أحواله وأخباره وأشعاره وترسله ما يعلم به معظم أمره إن شاء الله كان الملك المعظم عيسى رحمه الله خلف من الولد عدة بنات وثلاثة بنين الملك الناصر أكبرهم فملك دمشق وسائر مملكة أبيه في عشر ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة واستقل بذلك. وفي سنة خمس وعشرين وصل عماد الدين بن الشيخ من مصر إلى دمشق ومعه ابن جلدك بالخلع والتغايير على الملك المعظم من الملك الكامل. وفي سنة ست وعشرين خرج الملك الكامل لقصده وانتزاع دمشق منه فسير الملك الناصر فخر القضاة بن بصاقة إلى الملك الأشرف يستصرخ به فحضر الملك الأشرف إلى دمشق لنصرته ونزل في بستانه بالنيرب فجرت أمور يطول شرحها لأن الملك الأشرف تغير عليه ومال إلى الملك الكامل وفارق الملك الناصر وتوجه إلى الملك الكامل ووصل إلى بيسان فلما بلغه وصول الملك الأشرف رجع إلى غزة وقال أنا ما خرجت على أن أقاتل أخي الملك الأشرف فلما بلغ ذلك الملك الأشرف قال للملك الناصر داود الملك الكامل قد رجع حردان والمصلحة أنني ألحقه وأسترضيه وأقرر القواعد معه وأما الملك الكامل فإنه نزل غزة وكان الأنبرور قد نزل الساحل بمقتضى مراسلة قديمة كانت من الملك الكامل إليه في حياة الملك المعظم فلما حضر على تلك القاعدة بجموعه بعد موت المعظم سير إلى الملك الكامل

وقال له أنا قد حضرت بقولك وعرفت أن غرضك قد فات ومعي عساكر عظيمة وخلق كثير وما بقي يمكنني الرجوع على غير شيء فحدثني حديث العقال حتى أرجع إلى بلادي فقال الملك الكامل إيش تريد قال تعطينا القدس وترددت المراسلات بينهما أشهراً فاقتضى رأي الملك الكامل تسليم القدس - 64ألف - دون عمله وحصل الرضا بذلك فلما تردد الفرنج للزيارة اغتيل منهم في الطريق من انفرد فشكوا ذلك إلى الملك الكامل فأعطاهم القرايا التي على طريقهم من عكا إلى القدس ووقع الصلح والاتفاق على ذلك وحضر بعد إبرام الصلح مع الفرنج على هذه القاعدة لحصار دمشق فحصرها وأخذها على ما سنذكر إن شاء الله تعالى ولما اجتمع الملك الأشرف والملك الكامل اتفقا على انتزاع دمشق من الملك الناصر وأن يأخذها الملك الأشرف وينزل عن بلاد في الشرق عينها الملك الكامل ووقع الاتفاق عليها فحضرا لحصاره بعساكرهما وحصراه مدة أربعة شهور وتسلما دمشق في غرة شعبان سنة ست وعشرين وأبقى عليه قطعة كثيرة من الشام منها الكرك وعجلون والصلت ونابلس والخليل وأعمال القدس لأن القدس كان سلم إلى الأنبرور قبل ذلك سوى عشر قرى على الطريق من عكا إلى القدس فإنها سلمت إلى الفرنج مع مدينة القدس وأخذ منه الشوبك فبكى بين يدي الملك الكامل عليها فقال الملك الكامل أنا مالي حصن يحمي رأسي وأفرض أنك وهبتني إياه فسكت

وخرج الملك الناصر بأمواله وذخائره جميعها وتوجه إلى الكرك والبلاد التي أبقيت عليه وعقد على عاشوراء خاتون ابنة الملك الكامل شقيقة العادل بن الكامل سنة تسع وعشرين وبقي على ذلك مدة ثم تغير عليه الملك الكامل تغيراً مفرطاً وأعرض عنه إعراضاً كلياً ووالزمه طلاق ابنته ففارقها قبل الدخول بها في سنة إحدى وثلاثين وكان سبب تغيره عليه أن الملك الكامل قصد دخول الروم والاستيلاء على ممالكه وكان ملك الروم إذ ذاك السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو فنوجه الملك الكامل وصحبته الملوك بستة عشر دهليزاً الملك الأشرف مظفر الدين موسى والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين والملك الصالح عماد الدين إسماعيل والملك الحافظ نور الدين رسلان شاه ابن صلاح الدين بعسكر حلب والملك الزاهد محيي الدين داود بن صلاح الدين صاحب البيرة وأخوه الملك المفضل قطب الدين صاحب سميساط والملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غازي صاحب عين تاب والملك المظفر تقي الدين - 65 ألف - محمود صاحب حماة والملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وغيرهم وسير صاحب الروم إلى الملك العزيز صاحب حلب يقول أنا راض بأن تمده بالرجال ولا تنزل إليه أبداً وأعفاه الملك الكامل من النزول فرضي الملكان بفعله ثم تقدم الملك الكامل بالعساكر إلى الدربند فوجد السلطان علاء الدين قد حفظ طرقاته بالرجال وهي طرق صعبة متوترة يشق سلوكها على العساكر فنزل

الملك الكامل على النهر الأزرق وهو في أوائل بلد الروم وجاءت عساكر صاحب الروم وصعدت رجالاته إلى فم الدربند وبنوا عليه سوراً وقاتلوا منه وقلت الأقوات في عسكر الملك الكامل جداً ثم نمى إلى الملك الأشرف والملك المجاهد صاحب حمص أن الملك الكامل ذكر في الباطن أنه أن ملك بلاد الروم نقل سائر الملوك من أهل بيته إليها وانفرد بملك الشام مع الديار المصرية فاستوحشا من ذلك وإطلاعاً ملوك البيت الأيوبي فتغيرت نيات الجميع واتفقوا على التخاذل وعدم النصح فلما أحس الملك الكامل منهم بذلك مع كثرة الغلاء وامتناع الدربند رحل بالعساكر إلى أطراف بلاد بهنسا وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدمه ووصل إلى خدمته صاحب - 65 ب - خرتبرت داخلاً في طاعته وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت فجهز معه الملك المظفر صاحب حماة والطواشي شمس الدين صواب العادلي وكان من أكبر الأمراء وفخر الدين البانياسي في ألفين وخمسمائة فارس فوصلوها جرائد بغير خيم فعند طلوع الفجر أقبلت عساكر الروم في اثني عشر ألف فارس مقدمهم القيمري وضربوا معهم مصافاً من أول النهار إلى آخره وظهر عسكر الروم ودخل الملك المظفر وشمس الدين صواب وفخر الدين البانياسي قلعة خرتبرت مع صحابها ونزل باقي العسكر في الربض فزحف عسكر الروم وملكوا الربض عنوة وأسروا أكثر من كان فيه من العسكر الكاملي ثم وصل السلطان علاء الدين في بقية عساكره وأحدقوا بالقلعة ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقاً وحصروها أربعة وعشرين يوماً وقل الماء والزاد من عندهم فطلبوا الأمان فأمنهم صاحب الروم وتسلم القلعة وما معها من القلاع وكانت سبعاً وتلقى الملك المظفر ومن معه أحسن ملتقى ونادمهم وخلع عليهم وقدم لهم التحف الجليلة وكان نزولهم من القلعة يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين فكان ذلك من أكد مقدمات الوحشة بين الملك الكامل والناصر وغيره من الملوك وكثر استشعار الملك الناصر من عمه الملك الكامل، فلما دخلت سنة ثلاث وثلاثين قوي عزم الملك الناصر على قصد الخليفة وهو المستنصر بالله والاستجارة به فحصل النجب والروايا وما يحتاج إليه لسفر البرية ثم توجه وصحبته فخر القضاة نصر الله بن بزاقة والشيخ شمس الدين عبد الحميد الخروشاهي والخواص من ممالكيه وإلزامه فلما قرب من بغداد أمر الخليفة بتلقيه وإكرامه ودخل بغداد ونزل بها مكرماً معظماً وقدم للخليفة ما كان استصحبه معه من الجواهر النفيسة والتحف والهدايا الجليلة وأمر الخليفة له بالإقامات الكثيرة ولأصحابه بالعطايا والخلع وكان آثر أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه فيقبل يده ومشاهدة وجهه كما فعل بمظفر الدين كوكيري ابن بهاء الدين صاحب إربل فإنه كان قدم بغداد فطال الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك فحضر وبرز له الخليفة فشاهده فرغب الملك الناصر أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتاً من مظفر الدين وأعرق منه في الملك وسأل ذلك فلم يقع في الإجابة رعاية لخاطر الملك الكامل فعمل الملك الناصر قصيدة يعرض فيها بمطلوبه وبمظفر الدين وازن فيها قصيدة أبي تمام الطائي التي منها. ناع الدربند رحل بالعساكر إلى أطراف بلاد بهنسا وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدمه ووصل إلى خدمته صاحب - 65 ب - خرتبرت داخلاً في طاعته وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت فجهز معه الملك المظفر صاحب حماة والطواشي شمس الدين صواب العادلي وكان من أكبر الأمراء وفخر الدين البانياسي في ألفين وخمسمائة فارس فوصلوها جرائد بغير خيم فعند طلوع الفجر أقبلت عساكر الروم في اثني عشر ألف فارس مقدمهم القيمري وضربوا معهم مصافاً من أول النهار إلى آخره وظهر عسكر الروم ودخل الملك المظفر وشمس الدين صواب وفخر الدين البانياسي قلعة خرتبرت مع صحابها ونزل باقي العسكر في الربض فزحف عسكر الروم وملكوا الربض عنوة وأسروا أكثر من كان فيه من العسكر الكاملي ثم وصل السلطان علاء الدين في بقية عساكره

وأحدقوا بالقلعة ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقاً وحصروها أربعة وعشرين يوماً وقل الماء والزاد من عندهم فطلبوا الأمان فأمنهم صاحب الروم وتسلم القلعة وما معها من القلاع وكانت سبعاً وتلقى الملك المظفر ومن معه أحسن ملتقى ونادمهم وخلع عليهم وقدم لهم التحف الجليلة وكان نزولهم من القلعة يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين فكان ذلك من أكد مقدمات الوحشة بين الملك الكامل والناصر وغيره من الملوك وكثر استشعار الملك الناصر من عمه الملك الكامل، فلما دخلت سنة ثلاث وثلاثين قوي عزم الملك الناصر على قصد الخليفة وهو المستنصر بالله والاستجارة به فحصل النجب والروايا وما يحتاج إليه لسفر البرية ثم توجه وصحبته فخر القضاة نصر الله بن بزاقة والشيخ شمس الدين عبد الحميد الخروشاهي والخواص من ممالكيه وإلزامه فلما قرب من بغداد أمر الخليفة بتلقيه وإكرامه ودخل بغداد ونزل بها مكرماً معظماً وقدم للخليفة ما كان استصحبه معه من الجواهر النفيسة والتحف والهدايا الجليلة وأمر الخليفة له بالإقامات الكثيرة ولأصحابه بالعطايا والخلع وكان آثر أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه فيقبل يده ومشاهدة وجهه كما فعل بمظفر الدين كوكيري ابن بهاء الدين صاحب إربل فإنه كان قدم بغداد فطال الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك فحضر وبرز له الخليفة فشاهده فرغب

الملك الناصر أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتاً من مظفر الدين وأعرق منه في الملك وسأل ذلك فلم يقع في الإجابة رعاية لخاطر الملك الكامل فعمل الملك الناصر قصيدة يعرض فيها بمطلوبه وبمظفر الدين وازن فيها قصيدة أبي تمام الطائي التي منها. 66 - ب لأمر عليهم أن تتم صدورهوليس عليهم أن تتم عواقبه والقصيدة الناصرية مطلعها. ودانٍ ألمت بالكثيب ذوائبه ... وجنح الدجى وحف تجول غيابهه تقهقه في تلك الربوع رعوده ... وتبكي على تلك الطلول سحائبه أرقت به لما توالت بروقه ... وحلت عزاليه وأسبل ساكبه إلى أن بدا من أشقر الصبح قادم ... يراع له من أدهم الليل هاربه وأصبح ثغر الأقحوانة حالكاً ... تدغدغه ريح الصبا وتداعبه تمر على نبت الرياض بليله ... تحمشه طوراً وطوراً تلا عبه فأقبل وجه الأرض طلقاً وطالما ... غدا مكفهراً موحشاة جوانبه كساه الحيا وشياً من النبت فاخراً ... فعاد قشيباً غوره وغوار به كما عاد بالمستنصر بن محمد ... نظام المعالي حين قلت كتائبه أمام تجلي الدين منه بماجد ... تحلت آثار النبي مناكبه هو العارض الهتان لا البرق مخلف ... لديه ولا أنواره وكواكبه إذا السنة الشهبا شحت بطلها ... شجن وابل منه وسحت سواكبه

فاخبأ ضياء البرق ضوء جينه ... كما نحلت جود الغوادي مواهبه له العزمات اللائي لولا نضالها ... تزعزع ركن الدين وأنهد جانبه بصير بأحوال الزمان وأهله ... حذور فما يخشى عليه نوائبه حوى قصبات السبق مذ كان يافعاً ... وأربت على زهر النجوم مناقبه تزينت الدنيا به وتشرفت ... بنوها فأضحى خافض العيش ناصبه لإن نوهت باسم الإمام خلافة ... ورفعت الزاكي النجار مناسبه فإن الإمام العدل والمعرق الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كتابه وأغنيت حتى ليس في الأرض معدم ... يجور عليه دهره ويحاربه ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه ومن جده عم النبي وخدمه ... إذ صار منه أهله وأقاربه أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليه مذاهبه وأنت الذي يعني حبيب بقوله ... ألا هكذا فليسكب المجد كاسبه بأني أخوض الدوّ والدوّ مقفر ... سباريته مغبرة وسباسبه وارتكب الهول المخوف مخاطراً ... بنفسي ولا أعي بما أنا راكبه وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه وأتيك والعضب المهند مصلت ... طرير شباه فانيات ذوائبه 67 - ب وأنزل آمالي ببابك راجياًبواهر جاه يبهر النجم ثاقبه

فتقبل مني عبد رق فيغتدي له ... الدهر عبداً طائعاً لا يغالبه وتلبسني من نسج ظلك ملبسا ... يشرف قدر النيرين من جلائبه وتنعم في حقي ما أنت أهله ... وتعلى محلي فالسها لا يقاربه وتركبني نعماء أياديك مركباً ... على الفلك الأعلى تسير مواكبه وتسمح لي بالمال والجاه بغيتي ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه وما اغتر من جوب الفلا حر وجهه ... ولا أنضيت بالسير فيها ركائبه فيلقى دنوا من لم ألق مثله ... ويحظى ولا أحظى بما أنا طالبه وينظر من آلاء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الأمامي صاحبه ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه لكنت أسلي النفس عما ترومه ... وكنت أذود العين عما تراقبه ولكنه مثلي ولو قلت إنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مأربه ولا بالذي يرضيه دفن نظيره ... ولو أنعلت بالنيرات مراكبه وبي ظمأ رؤياك منهل رئيه ... ولا غرو أن تصفو لدى مشاربه ومن عجب أني لدى البحر واقف ... وأشكو الظمأ والبحر جم عجائبه وغير ملوم من يأتيك قاصدا ... إذا عظمت أغراضه ومذاهبه. فلما وقف الخليفة المستنصر بالله على هذه القصيدة أعجبته إعجاباً

كثيراً وقصد الجمع بين المصلحتين فاستدعاه سراً إجابة لسؤاله ورعاية في عدم الجهر للملك الكامل فحكى الملك الناصر قال واستدعاني الخليفة بعد شطر من الليل فدخلت من باب السر إلى إيوان فيه ستر مضروب والخليفة من ورائه فقبلت الأرض من بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم أخذ الخليفة يدثني من خلف الستر ويؤنسني ثم أمر الخدم فرفعوا الستر فقبلت الأرض ثانية وتقدمت فقبلت يده فأمرني بالجلوس فجلست بين يديه وجاراني في أنواع من العلوم وأساليب من الشعر ثم خرجت من عنده وعدت إلى منزلي ليلاً ثم حضر الملك الناصر بعد ذلك بالمدرسة المستنصرية على شاطئ دجلة وكان الخليفة في روشن ينظر ويسمع الكلام وحضر جماعة من الفقهاء المرتبين بالمدرسة وغيرهم من المذاهب الأربعة وبحث الملك الناصر واستدل واعترض وناظر الفقهاء مناظرة حسنة وكان جيد المناظرة صحيح الذهن له في كل فن مشاركة جيدة فقام يومئذ رجل من الفقهاء يقال له وجيه الدين اليرواني ومدح الخليفة بقصيدة يقول فيها مخاطباً للخليفة. لو كنت في يوم السقيفة حاضراً ... كنت المقدم والإمام الأروعا فغضب الملك الناصر لله تعالى لكون ذلك الفقيه لأجل سحت الدنيا أساء الأدب على أبى بكر الصديق رضوان الله عليه والخلفاء الراشدين وسادات المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حاضرين يوم السقيفة وجعل المستنصر بالله مقدماً عليهم فقال لذلك الفقيه أخطأت فيما قلت كان ذلك اليوم جد سيدنا ومولانا الإمام المستنصر بالله العباس بن عبد المطلب

رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً فلم يكن مقدماً ولا الإمام الأروع إلا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فخرج المرسوم في ذلك الوقت بنفي ذلك الفقيه فنفي ثم وصل إلى القاهرة وولي بها تدريس مدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر ثم أن المستنصر بالله خلع على الملك الناصر خلعة سنيّة عمامة سوداء وفرجية سوداء مذهبه وخلع على أصحابه ومماليكه خلعاً سنية وأعطاه مالاً جليلاً وبعث في خدمته رسولاً من أكبر خواصه إلى الملك الكامل يشفع إليه في إخلاص نيته له - 69ألف - وإبقاء بلاده عليه فوصل الملك الناصر والرسول إلى دمشق وبها الملك الكامل فخرج لتلقيهما إلى القصير وأقبل على الملك الناصر إقبالاً كثيراً وقبل شفاعة الخليفة وألبسه الخلعة هناك وكان قد قدم من بغداد ومعه أعلام سود وكان الخليفة لقبه الولي المهاجر مضافاً إلى لقبه فأمر الخطباء بلاده أن يذكروا في الدعاء له ذلك ثم خلع على الرسول وأعطاه شيئا كثيرا ورجع إلى بغداد وأقام الملك الناصر مطمئناً لانتسابه إلى الخليفة فلما حصلت المباينة بين الملك الكامل والملك الأشرف وعزما على المحاربة وانضم إلى الملك الأشرف جميع ملوك الشام سير إلى الملك الناصر داود يدعوه إلى موافقته على أن يحضر إليه ليزوجه ابنته ويجعله ولي عهده ويملكه البلاد بعده وسير الملك الكامل إلى الملك الناصر أيضاً رسولاً يدعوه إلى الاتفاق معه وأنه يجدد عقده على ابنته ويفعل معه كل ما اختار وتوافى الرسولان عند الملك الناصر

بالكرك فرجع الميل إلى الملك الكامل وصرح لرسول الملك الأشرف بجواب إقناع فسير رسول الملك الكامل إليه يعرفه ميل الملك الناصر إلى جهته وكان قد حضر عند الملك الكامل بعض الأمراء الأكابر الذين مرت بهم التجارب - 69ب - ومارسوا الحروب وشهدوا المصافاة والوقائع فقال له الملك الكامل أشتهي أن تعرفني ما عندك في أمري وأمر أخي الملك الأشرف ومن يظهر لك أنه ينتصر ومن أقوى منا على لقاء صاحبه ولا تخفي ما في ضميرك من ذلك فقال أنت الآن وأخوك مثل الميزان لا يرجح عليك ولا ترجح عليه وقد بقي بينكما الملك الناصر داود فإلى أي جهة مال ترجحت وكان قد وصل الملك الكامل كتاب رسوله وهو القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل يخبره بموافقة الملك الناصر له على ما قدمنا ذكره ولم يطلع عليه أحد فسر الملك الكامل بذلك ووقع منه قول ذلك الأمير أجمل موقع ثم أن الملك الناصر حضر بنفسه إلى الملك الكامل فتلقاه وبالغ في إكرامه وأعطاه الأموال وقدم له التحف واتفق موت الملك الأشرف رحمه الله واستيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل على بلاده التي بالشام وخروج الملك الكامل لانتزاعها منه فخرج الملك الناصر وصحبته وأخذ دمشق على الصورة المشهورة واتفق موت الملك الكامل عقيب ذلك والملك الناصر بدمشق نازل في داره المعروفة بدار أسامة فتشوف إلى مملكة دمشق فوافقه جماعة من المعضمية وغيرهم وجاءه الركن الهيجاوي والركن في الليل وبينا له وجه الصواب

وأرسل له الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد يقول أخرج المال وفرقه في مماليك أيبك والعوام معك تملك البلد ويبقوا في القلعة محصورين فما فعل ثم أن الأمراء والأعيان أرباب الحل والعقد اجتمعوا بالقلعة وذكروا الملك الناصر والملك الجواد يونس بن داود بن الملك العادل فرجح عماد الدين بن شيخ الشيوخ الملك الجواد يونس بن داود بن الملك العادل وكان منحرفاً عن الملك الناصر لأنه كان يجري بينه وبينه في مجلس الملك الكامل مباحثات فيخطئه الملك الناصر فيها ويستجهله فبقي في قلبه من ذلك أثر كثير كان أقوى الأسباب في صرف السلطنة عنه وأما الأمير فخر الدين بن الشيخ فلم يكن في ذلك رأي وكان ميله إلى الملك الناصر أكثر من الجواد وأرسلوا إلى الملك الناصر الهيجاوي ليخرجه من دمشق فدخل عليه بدار أسامة وقال له أيش قعودك في بلد القوم فقام وركب وجميع من في دمشق من باب دار أسامة إلى القلعة وما شك أحد أن الملك الناصر طالع إلى القلعة وساق فلما تعدى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الزقاق عرج إلى باب الفرج صاحت العامة لا لا لا وانقلبت دمشق ونزل الملك الناصر بالقابون وفتح الجواد خزائن الكامل وفرق المال والخلع واستقر قدمه وأقام الملك الناصر أياماً بالقابون فعزم الجواد على مسكه وسير الأمير عز الدين أيبك الأشرفي ليمسكه وكان قد علم الأمير عماد الدين بن موسك بذلك فبعث إليه في السر من عرفه فسار في الليل إلى عجلون فوصل عز الدين أيبك إلى قصر أم حكيم وعاد إلى دمشق وأما الملك الناصر فإنه سار إلى الكرك وجمع وحشد ونزل إلى السواحل فاستولى عليها وخيم بعزمة طالباً للاستيلاء على مملكة والده فرحل الجواد فيمن بقي من العساكر المصرية مقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ وفي عساكر دمشق والمماليك الأشرفية وتوجه نحو الملك الناصر فرحل الملك الناصر غليه ليلقاه فوقع المصاف على ظهر حمار بين نابلس وجينين فانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة ومضى منهزماً واحتوى الجواد على خزائنه وأثقاله على سبع مائة جمل فأخذت بأحمالها وأخذوا فيها من الأموال والجواهر والجنائب ما لا يحصى واستغنوا غنى الأبد وافتقر الملك الناصر فقرا الملك يفتقره أحد ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط صغير فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة فطلبها من الجواد فأعطاه إياها وهذه الأموال هي التي كان الملك المعظم جهز بها دار مرشد ابنته لما زوجها بخوارزم شاه أخذها الملك الناصر ظناً منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد ونزل الجواد في دار المعظم بنابلس داخل البلاد واحتوى على ما فيها وولي فيها وفي أعمال القدس والأغوار من قبله ورحل عماد الدين بن الشيخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية ولم تعجب هذه الواقعة الملك العادل خوفاً من تمكن الجواد واستيلائه على البلاد فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق ورد بلاد الملك الناصر إليه ففعل ورحل عائداً وفي هذه الواقعة يقول به جمال الدين بن عسل. أن الملك الناصر طالع إلى القلعة وساق فلما تعدى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الزقاق عرج إلى باب الفرج صاحت العامة لا لا لا وانقلبت دمشق ونزل الملك الناصر بالقابون وفتح الجواد خزائن الكامل وفرق المال والخلع واستقر قدمه وأقام الملك الناصر أياماً بالقابون فعزم الجواد على مسكه وسير الأمير عز الدين أيبك الأشرفي ليمسكه وكان قد علم الأمير عماد الدين بن موسك بذلك

فبعث إليه في السر من عرفه فسار في الليل إلى عجلون فوصل عز الدين أيبك إلى قصر أم حكيم وعاد إلى دمشق وأما الملك الناصر فإنه سار إلى الكرك وجمع وحشد ونزل إلى السواحل فاستولى عليها وخيم بعزمة طالباً للاستيلاء على مملكة والده فرحل الجواد فيمن بقي من العساكر المصرية مقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ وفي عساكر دمشق والمماليك الأشرفية وتوجه نحو الملك الناصر فرحل الملك الناصر غليه ليلقاه فوقع المصاف على ظهر حمار بين نابلس وجينين فانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة ومضى منهزماً واحتوى الجواد على خزائنه وأثقاله على سبع مائة جمل فأخذت بأحمالها وأخذوا فيها من الأموال والجواهر والجنائب ما لا يحصى واستغنوا غنى الأبد وافتقر الملك الناصر فقرا الملك يفتقره أحد ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط صغير فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة فطلبها من الجواد فأعطاه إياها وهذه الأموال هي التي كان الملك المعظم جهز بها دار مرشد ابنته لما زوجها بخوارزم شاه أخذها الملك الناصر ظناً منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد ونزل الجواد في دار المعظم بنابلس داخل البلاد واحتوى على ما فيها وولي فيها وفي أعمال القدس والأغوار من قبله ورحل عماد الدين بن الشيخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية ولم تعجب هذه الواقعة الملك العادل خوفاً من تمكن الجواد واستيلائه على البلاد فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق

ورد بلاد الملك الناصر إليه ففعل ورحل عائداً وفي هذه الواقعة يقول به جمال الدين بن عسل. يا فقيهاً قد ضل سبل الرشاد ... ليس يغني الجدال يوم الجلاد كيف ينحني ظهر الحمار هزيماً ... من جواد يكر فوق الجواد ثم لما ملك الملك الصالح نجم الدين دمشق بعد الجواد ورد عليه فخر القضاة نصر الله بن بصاقة رسولاً من الملك الناصر يعده بمساعدته ومعاضدته على أخذ مصر له من العادل ويطلب منه تسليم دمشق وجميع البلاد التي كانت بيد أبيه فوعده الملك الصالح بذلك إذا ملك مصر فأبى الملك الناصر إلا أن ينجز له ذلك فلم يتفق بينهما أمر ثم أن الملك الصالح نجم الدين خرج لقصد الديار المصرية فاستولى الملك الصالح إسماعيل على دمشق وتعلل عسكر الملك الصالح نجم الدين عنه وبقي بنابلس فسير إليه الملك الناصر داود من أمسكه وطلع به إلى قلعة الكرك فاعتقله بها مكرماً على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه وكان الملك الكامل سلم القدس إلى الفرنج سنة ست وعشرين على أن يكون الحرم الشريف بما فيه من المزارات للمسلمين وكذا جميع أعمال القدس ما خلا عشر ضياع على طريق الفرنج من عكا إلى القدس وشرط أن يكون القدس خراباً ولا يجدد فيه عمارة البتة فلما مات الملك الكامل وجرى ما ذكرناه من الاختلاف بين الملوك عمر الفرنج في غربيه قلعة جعلوا برج داود عليه السلام من أبراجها وكان بقي هذا البرج لم يخرب لما خرب الملك المعظم أسوار القدس ولما اعتقل الملك الناصر داود

الملك الصالح نجم الدين بالكرك توجه الملك الناصر بعسكره ومن معه من أصحاب الملك الصالح نجم الدين إلى القدس ونازل القلعة التي بناها الفرنج ونصب عليها المجانيق ولم يزل مصابراً لها حتى سلمت إليه بالأمان فهدمها وهدم برج داود عليه السلام واستولى على القدس ومضى من كان فيه من الفرنج إلى بلادهم واتفق وصول محي الدين يوسف بن الجوزي وصحبته جمال الدين يحيى بن مطروح فقال جمال الدين المذكور. المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلاً سائرا إذا غدا بالكفر مستوطناً ... أن يبعث الله له ناصرا فناصر طهره أولاً ... وناصر طهره آخرا وكتب عن الملك الناصر داود رحمه الله بالبشائر بذلك فمن كتاب كتبه عنه فخر القضاة نصر الله بن بصاقة رحمه الله تعالى إلى الديوان المستنصري فصل منه وقابلهم العبد بصليب من الرأي لا يعجم عوده وقاتلهم بجيش المصابرة لا تفل جنوده وجرد إليهم جماعة من عسكر الديوان تشهر عليهم الصواعق من نصالها وترسل عليهم البوائق من نبالها ونصب عليهم المجانيق التي تزاحم الحصون بمناكبها وتحرق شياطينها برجوم حجارتها بدلاً من نجوم كواكبها ومن شأنها أنها إذا قابلت بلدة أخذت بكضمها وفضت برغمها وأنزلها حكمها وأزتها أن السبق للمنجنيق وصخرها لا للقوس وسهمها فرمتها بثالثة الأثافي من جبالها وسحرت

أعينهم إلا أن الله ما أبطل سحر عصبها ولا سحر حبالها وتقريبه لهم وإحسانه إليهم وإلى كل من تقدم إليه أوحد زمانه جواداً كريماً كثير العطاء ممدحاً وشعره في نهاية الجودة والفصاحة وكان في البيت الأيوبي جماعة ينظمون الشعر لم يكن فيهم من يتقدمه فيه إلا أن كان الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه صاحب بعلبك فإنه شاعر مجيد مكثر وكان قد أدركته حرمة الأدب كما أدركت عبد الله بن المعتز وغيره من الملوك الفضلاء ولم يزل منذ توفي والده رحمه الله في سنة أربع وعشرين وستمائة وإلى أن أدركته منيته في نكد وتعب ونصب لم يصف له من عمره سنة واحدة وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ولم يكن له رأي حازم في تدبير المملكة فإنه مع تقدير الله تعالى لما مات والده لو دارى الملك الكامل ونزل له عن بعض البلاد كان أبقى عليه دمشق ثم لما طلبه الملك الأشرف ليزوجه ابنته ويجعله ولي عهده على ما ذكرنا لو أجابه حضر إليه لاستقل بعد الملك الأشرف بالشام والتفت عليه المماليك الأشرفية مع المعظمية وكان قد دنا أجل الملك الكامل فاستقام أمره لما مات الملك الكامل لو قبل من رأي الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد - 73 ألف - وأنفق في المعظمية واستمالهم لملك دمشق ولم يلتفت على من بالقلعة ثم لما ضرب المصاف مع الجواد لو أحرز خزائنه وأمواله ببعض قلاعه لبقيت له وكانت عظيمة جليلة المقدار يمكنه أن يستخدم بها من العساكر جملة كثيرة ثم لما حصل الملك الصالح نجم الدين في قبضته لو أراد به أخذ الشام لأخذه وسلمه لأخيه العادل أو إلى عمه الصالح

إسماعيل ثم اعتقله لم يحسن عشرته من كل وجه وكان يبد ومنه في بعض الأوقات أمور أثرت في قلب الملك الصالح نجم الدين ولم يحرج منه وكان الملك الصالح باطن والملك الناصر سليم الصدر ثم اقتضى رائه إطلاقه ومساعدته على تمليك الديار المصرية واشترط عليه أموراً لا يمكنه القيام بها ولا تسمح بها نفس بشر لو أمكنت واستحلفه على ذلك فلما تحقق الملك الصالح نجم الدين أنه لابد له من الحنث ضرورة في البعض حنث في المجموع قال الملك الصالح حلفني على أمور لا يقدر عليها ملوك الأرض منها أنني آخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب والجزيرة والموصل وديار بكر وغيرها ونصف ديار مصر وما في الخزائن من المال والجواهر والثياب والخيول والآلات وغيرها فحلفت له - 73ب - من تحت السيف رحمه الله. قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان كنت أسمعه يقول كثيراً إذا طلب منه حاجة تتعذر عليه إذا شئت أن تطاع، فامتثل ما يستطاع ثم معاملة الملك الصالح نجم الدين بعد أن تملك بما كان يعامله به وهو عنده معتقل بقلعة الكرك إلى أن حصل من الوحشة والمباينة بينهما ما آل به إلى انتزاع بلاده منه ثم لما توجه إلى حلب واستنابته لولده المعظم دون أخوته مع تميزهم عليه حتى أوغر صدورهم فكان ذلك من أسباب خروج الكرك عنه ثم لما توجه إلى حلب ترك بالكرك إسحاق المقدم ذكره مع إفراط ميله إليه ومحبته له فلو استصحبه لأمن مما

ترتب على تركه من السبب الموجب لأخذ الكرك وحصول الوحشة والمنافرة بينه وبين ولده الملك الأمجد وكان يتسلى برؤيته وخفف عنه من أثقال همومه ثم إيداع تلك الجواهر النفيسة عند الخليفة فآل الأمر إلى كثرة تعبه ونصبه وتبذله وسفره ولم تعد إليه إلى غير ذلك من الأمور التي فارق فيها الحزم وذلك تقدير العزيز العليم وكان الملك الناصر داود رحمه الله معتنياً بالكتب النفيسة حصل منها جملة كثيرة ذهبت بعد وفاته وكان يجيز الشعراء بالجوائز السنية قدم عليه شرف الدين راجح الحلى شاعر الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين رحمه الله ومدحه بعدة قصائد فوصل إليه منه ما يزيد على أربعين ألف درهم وأجازه على قصيدة واحدة امتدحه بها وهو بنابلس بألف دينار مصرية والقصيدة من غرر القصائد وهي: أمنكم عبقت مسكية النفس ... صبا تبسمت منها برء منتكس تمت بما استودعت والفجر حمرته ... ما ذنب إيقادها من فحمة الغلس ردت على مقلتي طيب الرقاد فها ... أنسانها بلذيذ النوم في أنس فيا لها نفحة خالست نسمتها ... لما تيقنت أن العيش في الخلس وللنسيم إشارات إذا التبست ... فسرها عند مثلى غير ملتبس فما قعودك بي عن بيت وسكرة ... يغنيك آلاؤها في الليل عن قبس يديرها ثمل الأعطاف قامته ... لو مثلت لغصون البان لم تمس يسعى بها والدجى من حلى أنجمهعار ولكن بأنوار الكؤس كسى 74 ب

والسحب تضحك بغر النور أدمعها ... والجوفى مآتم والأرض في عرس بدر وقائع قلبي في محبته ... بين اللمى وفتور الجفن واللمس نبهته ونجوم الأفق تسبح في ... بحر الظلام فمن طاف ومنغمس فقام يمسح ما في الطرف من سنة ... وقد تمشى الكرى في الأعين النعس فسكنت سورة الصهباء شرته ... واستودعت بعض ما في الخلق من شرس فما ضممت الذي في العطف من هيف ... حتى استكف الذي في الطرف من شوس فلا عدمت طلا صادته كأس طُلى ... فما ثنى عطفه عن نيل ملتمس هذا وركب عفاة قد عدلت بهم ... إلى مغاني الغنى عن أربع درس عافوا وردوا عود الباخلين فما ... أجروا مطالبهم منها على يبس فقلت نصو راكاب الحمد واحدة ... إلى مقر العلى في رأرض نابلس إلى مقر تناجيني جلالته ... كأني واقف في حضرة القدس لوذوا بداود محيى الجود وانتجعوا ... عرائس على نعماه من حرس نصوا إلى الناصر السلطان عيسكم ... فهو ملك الأيادي غير منبجس لا تعدلوا عن ندى بدر أغريد ... طلق الأسرة مرهوب السطا تدمر

إن خاب فادح ملث الغيث منهمراً ... أوصال فاخش وثوب الضيغم الشرس ذو العلم يشرف والألباب مظلمة ... فاسلك مساقط ذاك النور واقتبس فارضه تلق عباب اليم ملتطماً ... والعي قد ألجم الأفواه بالخرس يضيء في ظلمات الشك مكرمة ... كما أضاء ظلام الليل بالقبس ابان من كرم ملآن من همم ... ترفعت فهي لا تدنوا إلى دنس حفت إلى بابه عيسى فأثقلها ... بأنعم أنقذت من جدبي التعس أحلني ذروة العلياء مقترعاً ... والعزا وطال من صهوة الفرس وردعني صروف الدهر حين طغت ... لها وقائع من أيامها الحمس يهمى نداه إذا استصحبت ديمته ... كأنني قلت يا أمواهه انبجسي لبيك يارئ آمالي التي ظمئت ... ويحسن الصنع عندي والزمان مُسى لبيك فالعبد ما حالت مودته ... عما عهدت ولا عاهدته فنسى تفديك نفسي وأبكار القريض وما ... مقدار نفسي وما أهديه من نفسي أنت الذي رشني إذ خصني زمني ... بالأمس وأبيسى والدهر مفترسي غرستني فاجتنيت الحمد من مدحي ... وليس يجني ثماري غير مغترسي 75 - ب فدم دوام الثريا فهي خالدةوطأ بنعليك أرقاب العدى ودس فتلك قوم متى عاينُت أوجههم ... بكيت فاغتسلت عيني من النجس

وانقطع إليه الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسرو شاهى تلميذ فخر الدين الرازي فوصل إليه منه أموال جمة وكذلك كل من انتمى إليه استفاد من ماله ومن علمه فكانوا معه كما قيل فأخذ من ماله ومن أدبه ومن نظمه رحمه الله أعني الملك الناصر داود رحمه الله تعالى. لما بدا في مروزى قبائه ... وعليه من درب النضار تبهرج مثلته قمراً عليه سحابة ... مزرورةً فيها البروق ترجرج وله أيضاً: إلى كم أخفى الوجد والدمع بائح ... وكم ارتجى صبراً وصبري نازح خلعت عناني وانطلقت مع الصبي ... وشمرت عن ساق الهوى لا أبارح وبي ظبية كحلاء قلبي كنا سها ... لذا جنحت منى إليها الجوانح ولو لم يكن ظبياً نفاراً ومقلة ... وجيداً لما تاقت إليها الجوارح على لين غصن البان منها مخايل ... وشمس الضحى منها عليها ملامح ولولا سناها ما تألق بارق ... ولولا هواها ما ترنم صادح حننت إليها والغزام يحثنى ... وقد ساقني شوق إليها يكافح ولما أتاني طيفها يخبر الهوى ... ويوهمني بالكر أني مصالح تذكرت ربع الأنس عن أيمن الحمى ... وأغصان بانٍ دونه تتناوح فكادت بظهر النفس من فرط شوقها ... إلى عالم فيه النفوس سوانح مقربة الأرواح في عالم البقا ... مقربة من ربها لا تبارح

يطاف عليهم من رحيق ختامه ... من المسك ما تحييك منه الروائح جنان عليهم دانيات قطافها ... وفي ظلها ما لا تمنى القرائح هنالك من لم يأته فهو خاسر ... ومن حل فيه فهو لا شك رابح وقال: زار الحبيب وذيل الليل منسدل ... فانجاب عن وجهه داجى غياهبه فقال لي صاحبي والضوء قد رفعت ... يداه من ليلنا مرخى جلا ببه أما ترى الضوء في ليل المحاق لقد ... جاء الزمان بضرب من عجائبه فقلت يا عاذلاً من نور طلعته ... أما ترى البدر يبدو في عقاربه وقال: لئن عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه - 76 ب - وقال: طرفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمعي على خديك منه شهيد يا أيها الرشأ الذي لحظاته ... كم دونهن صوارم وأسود من لي بطيفك بعد ما منع الكر ... عن ناظريّ البعد والتسهيد أما وحبك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي ودع الفؤاد يئيد والذ مالا قيت فيك منيتي ... وأقل ما بالنفس فيك أجود ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي والحديد الآنه داود

وقال: ما استصرخ الصبر قلبي وهو مذعور ... إلا وقد سلبته الأعين الحور ولا سبأ عن خاطري جفن له غنج ... إلا وصارمه بالسحر مشهور أفدي التي صيرت قلبي بها دنفاً ... فرق السوالف يلقى وهو مأسور وردية الخد فيها معتقة ... من سكرها نرجس الأجفان مخمور قد خيم السحر في أجفان ناظرها ... والسحر فما له في القلب تأثير يجلو هواها وان أجرت دمي عبثاً ... ولا أبالي فإن الموت مقدور لولا سناها وخداها لما عبدت ... كما تعبدتها نار ولا نور وله من جملة قصيدة: وإذا الملوك تكثرت بعد يدها ... للمقتنين بسواك لا أتكثر وإذا طغت وبغت بما خولتها ... أقبلت نحوك خاضعاً أستغفر مالي مراد في جنان زخرفت ... كلا ولا أخشى جحيماً تسعر لكنني أبغي رضاك وخشيتي ... أني تخبط بي الذنوب فاهجر وكتب إلى الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص يستدعيه إلى مجلس أنس وذلك لما كانا نازلين ببيسان حين كانا متفقين على حرب الملك الصالح نجم الدين وهما إذ ذاك معاضد أن الملك الصالح عماد الدين وذلك يوم العيد في زمن الربيع.

يا ملكاً قد جلا العصرا ... وفاق أملاك الورى طرا وفاق في نائله حاتما ... وبذ في أقدامه عمروا وباكر العلياء فاقبضها ... وكانت الناهدة البكرا أما ترى الدهر وقد جاءنا ... مستقبلا بالبشر والبشرى تجري الدنيا ما أتانا به ... أحسن وأكرم بالذي أجرى العيد والنيروز في حالة ... وطلعة المنصور والنصرا والأرض قد تاهت به واغتدت ... تختال في جدتها الحضرا عبّست السحب على نورها ... فراح ثغر النور مفترا الصوم قد ولى بالأمة وال ... فطر باللذات قد كرا فانهض بلا مطل ولا فترة ... ترتشف المشمولة الحمرا حبرية قد عتقت حقبة ... فأقبلت تخبر عن كسرى واستجلها صفراء قدسية ... تحسبها في كأسها تبرا اوذوب جمر حل في جامد ال ... سماء فألقى فوقه درا وبادر اللذة في حينها ... وقم بنا ننتهب العمرا في دوحة أترجها يانع ... يلوح في الأغصان مصفرا كأنه إذ لاح في دوحها ... وجه سماء اطلعت زهرا وأسلم ودم في عيشة رغدة ... تُبلى على جدتها الدهرا وقال: أحب الغادة الحسناء ترنو ... بمقلة جؤذر فيها فتور

ولا أصبو إلى رشأ غرير ... وإن فتن الرشأ الغرير وإني يستوى شمس وبدر ... ومنها يستمد ويستنير وهل تبدو الغزالة في سماء ... فيظهر عندها للبدر نور وقال: وإني إذا ما الغرا بدى مودتي ... خداعاً وأخفى الغل بين الأضالع لا ظهر جملاً بالذي أنا عالم ... بمكنونه فعل اللبيب المخادع وأغدو إذا ما أمكنتني فرصة ... عليه بماضي الحد أبيض قاطع بضربة مقدام ثبوت مجرب ... نعسه بين اللها والأخادع وقال في معنى قصيدة المسك بعض دم الغزال فلا ... تضع دم من بلحاظه الآراما فلعله إما يحاول نجدة ... ورداً وإما في لماه مداما وقال: صنم من الكافور بات معانقي ... في حلتين تعفف وتكرم فكرت ليلة وصله في هجره ... فجرت سوابق عبرتي كالعندم فجعلت أمسح ناظري بسحره ... إذ شيمة الكافور إمساك الدم وقال: عيون عن السحر المبين ... لها عند تحريك القلوب سكون تصول ببيض وهي سود فريدها ... ذبول فتور والجفون جفون

إذا ما رأت قلباً خلياً من الهوى ... تقول له كن مغرماً فيكون فقال: جميعي حين أذكركم شجون ... وكلى حين أبكيكم عيون وأنتم غاية الآمال عندي ... وإن بخلت تقربكم ظنون وصالكم حياة الروح مني ... وهجركم الأليم لي المنون أرى الأشواق تجذبني إليكم ... وسائقها الصبابة والحنين بذلت لكم دموع العين لكن ... هواكم في حشاشتي المصون يعز عليّ بعدكم ولكم ... مماتي في محبتكم يهون أحبتنا أذيتم بالتنائ ... فؤادي فهو مكتئب حزين هواكم لا تغيره الليالي ... وصبري عنكم قل لا يكون - 78 ب - ومن إنشائه رسالة كتبها إلى المستعصم بالله بعثها على يد فخر القضاة بن بصاقة وهي. أعز الله سلطان الديوان العزيز النبوي لا زال عزمه الشريف يستدرك فائة الأمور، وهممه العالية تصلح ما. . . الدهور، وسعيه الميمون في مصالح المسلمين هو السعي المشكور - العبد المملوك يقبل العتبة الشريفة الديوانية تقبيلاً يتقرب به إلى خالقه وخليقته ويتشرف به في حلية المساجلة على أهله وعشيرته، ويجعله في يوم المعاد من أسباب وسيلته وينهى أنه سير إلى الخدمة من ينوب عنه في آدابها، ويستنزل من كرمها مثعجر سمائها، وهو

عبد الديوان نصر الله بن بصاقة وحمله من المشافهة ما هو مليء بإعادته، ومن الأدعية الصالحة ما هو من وظائف العبد وعادته، والمسؤول من صدقات الديوان العزيز الإقبال عليه بوجه القبول، والإصغاء إليه بالسمع الذي إليه يباح مصونات الأسرار إذا عومل غيره بالإحجام والنكول، وستر ما ينهيه في الخدمة ثبوت كرمه المسدول الذيول، لا زال كرم الديوان عالماً بخدمات عبيده، فخذا من محض النصيحة منهم بعدده وعديده إن شاء الله تعالى. وكتب إلى الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم صاحب حمص أيا ملكاً يفلي الفلاة جواده ... تأيد على قلب لقاك مراده رحلت به ثم انثنيت مكلفاً ... جواب بليغ لا يرام انتقاده أتطلب أبكار المعاني وعونها ... لذي جسد قد سار عنه فؤاده ألم بجسمي مذ رحلت نحوله ... وفارق جفني مذ نأيت رقاده ولا عجب ممن نأت عنك داره ... إن اقتربت أسقامه وسهاده أيا راحلاً ولى وخلّى بمهجتي ... أجيجاً يلاقى زنده وزناده أسلت شؤون المقلتين فغادرت ... غدير دموعي لا يرجّى نفاده وخلفتني كالوحش غير مؤانس ... خليلاً ولا يلقى إليه قياده أعز الله أنصار السلطان المقام العالي الملكي المنصوري الناصري ولا أوحش مماليكه من خدمته، وأعاد لهم مشاهدته، ومن عانهم بعد

عينيه بطلوع طلعته، المملوك يقبل الأرض خدمة متى تذكرها فاضت عبراته، وتوالت حسراته، ويشكو إلى مولاه ما لقي بعده من بعده من توالي أرقه، وتواتر قلقه، وتوحشه حتى من الصديق الحميم، ونفوره حتى من الملك العقيم، فلو نزل بسير ما نزل به لزلزل حتى استوت هضابه بوهاده، أوحلّ بثبير ما حلّ به أسف كما يتأسف في معاده، فالله تعالى يجمع له بمولانا بين الجسد وقلبه ويعيد أيام الأنس بعودة قريبة. واتفقت له وقعة بالساحل مع الفرنج انتصر فيها فكتب في جملة كتاب كتب هذه الخدمة بعلمه بما من الله تعالى به من النصر والظفر ومهنيئة، باستعلاء الفئة المؤمنة على من حاد وكفر. ومن كتاب آخر كتبت حيث أثرت مدادها، بمثار نقع جيادها، وبالمكان الذي صرعت فيه كماة أمجادها، بضرب صفاحها، وطعن صعادها، وكلمتهم السن الصفاح بفصيح أقوالها، وأشارت إليهم أنامل الرماح بسلاميات نصالها، فأصبحوا شارة لما أشار إليهم آنفاً وامتطوا أنف الحرب حتى صار أنف الخطى بهم راعفاً. وكان الأمير سيف الدين علي بن فليح قد سار في خدمته واقطعه عجلون وأعمالها وكان أخوه عماد الدين قد قتل بالشرق في وقعة جرت بين الحلبيين وصاحب ماردين وصاحب الموصل في سنة سبع وأربعين

فكتب إلى الملك الناصر يعرفه بمقتله فكتب إليه الملك الناصر وفي الجواب يقول الذي إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون كتب الله اسم المولى الأمير سيف الدين في جريدة المهتدين الذي هم بهذه الأخلاق يتخلقون وصيّره من الذين هم لهذه الآيات يتدبرون وأنزل عليه عند حدوث الحوادث صبراً، وأعظم له في الدارين أجراً، وأبقاه بعد معمري زمنه دهراً، وجعل من يتقدمه منهم له ذخراً، وهجم عل الأسماع والألباب فأصمها، وأصماها، بمصاب الأمير عماد الدين أفاض الله عليه ملابس رضوانه، وبوأه دار تجاوزه وغفرانه، ثبت الله عزائمه، وأقام ببقائه من بيته الكريم دعائمه، أهدى ممن يهدى إلى محجة الصبر، وإن يعرف ما فيه من جزيل الأجر، لأنه يعلم أن هذه الدنيا دار خسران، ومنزل أتراح وأحزان، لا يصفى لأحد عيشاً إلا كدرته، ولا تعاهده عهداً إلا نقضته ألا ترى أن المرء إذا متع بحياته كثرت مصائبه في أحبابه ولذاته وإن سبقهم إلى حلول رحمته كانت مصيبته في نفسه. كن المعزى لا المعزي به ... إن كان لا بد من الواحد والله تعالى يجعل المولى وارثاً لأعمارهم معمّراً من بعدهم ربوع ديارهم وليعلم أطال الله له مدة البقاء وأفاض عليه سابغ النعماء، إن العاقل كما يختار لنفسه خير الخيرين فكذلك يشكر إذ كُفى شر الشرين

وهو ثبته الله وعمره، ووفقه للصبر الجميل وقدّره، أولى الناس أن يتصف بهذه الصفات، ويتسم بهذه السمات، ليكتب مع الصابرين، ويدّخر له إن شاء الله في أعلى عليين وعلى كل حال فالحمد لله رب العالمين ولما ملك الملك الصالح الديار المصرية وحصل بينه وبين الملك الناصر داود من الوحشة ما ذكرنا ورجع الملك الناصر إلى بلاده وأقام بالساحل مرابطاً للفرنج وقوي بسبب الخلف بين الملوك شأن العدو واهتمّوا في عمارة عسقلان وتشييد أسوارها وشنّ الغارات على ما حولها كتب الملك إلى ابن عمه الملك الصالح نجم الدين يستنجد به عليهم فلم ينجده وجمعت الفرنج جمعاً كثيراً وقصدوا نابلس فهجموها وبذلوا السيف في أهلها وأسروا من وجده بها من النساء والولدان وأقاموا بها ثلاثة أيام يسفكون وينهبون ونصبوا على المساجد صلبانهم وأعلنوا بكفرهم ومن سلم من أهلها تعلق برؤوس الجبال وبلغ الملك الناصر ذلك فقدم مسرعاً في عسكره فلما تحققت الفرنج إقباله رجعوا إلى حصونهم وقد فازوا بما استولوا عليه من القتل والأسر والنهب فكتب الملك الناصر إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وكان الملك الصالح نجم الدين قد قلده بمصر القضاء والخطابة كتاباً مضمونه أحسن الله عزاء المجلس السامي القضوى العزى في مصابه بالمسلمين وصبّرنا وإياه على ما ذهى به حوزة الدين وأثاب الذين استشهدوا بما وعد به الشهداء من رضوانه، عوضهم عن منازلهم بمنازل الأمن من قصور جنانه، وسامحنا وإياه بما أهملناه من حمية الدين وحفظ أركانه، وبما

اعتدناه من إغفاله، وخذلانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قول معترف بتقصيره، عن جهاد أعداء الله وأعداء دينه، جهراً بلسانه وسراً بيقينه، وذلك لمصيبة المسلمين بمدينة نابلس التي قتلت فيها المشايخ والشبان وسبيت الحلائل والصبيان، واستولت أيدي الكفار على ما كان فيها من خزائن الأموال، والغلال، وما جمعه المسلمون لازمتهم في السنين الطوال، فهو يوم ضرب الكفر بحرابه وتبختر بين أنصاره وأعوانه، وتزهى على الإسلام برونق زمانه، وهو اليوم الذي تقاتلا فيه فأحجم الإسلام ثم تولى، واقتسما فيه بالسهمان فكان سهم الكفر هو السهم المعلى، فيالها من فجيعة أبكت العيون، وأبكت الجفون، وهجمت على القلوب فودت لو أنها فودت لو أنها سقت بالمنون، فيا ليتني نبذت قبل سماعها مكاناً قصياً، أوليت ربي لم يجعلني بعباده حفيّا، أوليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً، ألا ليت أمي أيّم طول عمرها فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل، وياليتها لما قضاها لسيد لبيب أريب طيب الفرع والأصل، قضاها من اللاتي خلقن عواقر فما بشرت يوماً بأنثى ولا قحل، - 81 ب - ويا ليتها لما غدت بي حاملاً أصليت بما احتفت عليه من الحمل، ويا ليتني لما ولدت وأصبحت لشد إلى الشد فبات بالرجل. لحقت باسلاً في فلمت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خبل فيا أيها العز الذي كنا نظن أن الإسلام يتزيد بسعيه غداً، وأن رقّى عزائمة تكون عليه من سحر الكفار حرزاً، تيقن أن قد عمّ بالشام النفير، ووجبت

الغزاة على الحدث الطرير، والشيخ الكبير، وجاز للحرة أن تبرز للقتال بغير إذن بعلها وللأمة أن تبارز برمحها ونصلها، ووجب على المجاهدين الإسعاد، والإنجاد، وتعين في طاعة الله الجهاد، فيالسان الشريعة أين الجدال فيه وأين الجلاد، وأين مهند لسانك الماضي، إذا كلّت المهندة الحداد، بعد سيف لسانك في غمده وقد هجرت سيوف الكفار جفونها، وأجرت عيون الأنام على الإسلام شؤونها، إلا وأن الإسلام بدا غريباً وسيرجع كما بدا، وتقاصرت الهمم عن إسعاده حتى لا يرى له مسعداً فأنا لله قول من عز عزاؤه في الإسلام وذويه، وبذل في الدفاع عنه ما تملكه يده وتحويه، وصبر في الله على احتمال الأذى وعدم دونه محاميه والله سبحانه وتعالى يتلا في الإسلام بتلافيه، ويحميه بحمايته، وحسن نظره فيه، أنه قريب مجيب ونظم الملك الناصر أبياتاً وسيرها إلى وزيره فخر القضاة أبي الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الله بن عبد الباقي الغفاري المعروف بابن بصاقة لينظر فيها وهي: يا ليلة قطّعت عمر ظلامها ... بمدامة صفراء ذات تأجج بالساحل النائب روائح نشره ... عن روضة المتروح المتأرج واليمّ زاه قد هدا تياره ... من بعد طول تقلقل وتموج طوراً يدغدغه النسيم وتارةً ... يكرى فيوقظه بنان الخزرج

والبدر قد ألقى سنا أنواره ... في لجه المتجعد المتدبج فكأنه أذمدّ صفحة متنه ... بشعاعه المتوقد المتوهج نهر تكون من نضار مائع ... يجري على أرض من الفيروزج فوقف عليها فخر القضاة المذكور وكتب إليه وأما الأبيات الجيمية الجمة المعاني، المحكمة المباني، المعوذة بالسبع المثاني، فإنها والله حسنة النظام بعيدة المرام، متقدمة على شعراء من تقدمها في الجاهلية وعارضها في الإسلام، قد أخذت بمجامع القلوب في الإبداع، واستولت على المحاسن فهي نزهة الأبصار والأسماع، ولعبت بالعقول لعب الشمول إلا ان تلك خرقاء وهذه صناع، - 82 ب -. ثم أن الملك الناصر أخرج الملك الصالح نجم الدين وتوجه معه إلى الديار المصرية فملكها وكان حصل الاتفاق بينهما قبل ذلك على أمور اشترطها الملك الناصر وحلف عليها الملك الصالح وهو عنده معتقل بالكرك وكانت مشقة يتعذر الوفاء بها لكثرتها من الأموال والبلاد فلما ملك الملك الصالح الديار المصرية حصل التسويف والمغالطة فيما حصل الاتفاق عليهم فحصلت الوحشة وتأكدت وعاد الملك الناصر إلى بلاده على غضب وشرع النفور يتزايد من الجهتين وتمادى الأمر على ذلك إلى أن حصلت المباينة الكلية فقصدت عساكر الملك الصالح جمع ما وصلت إليه أيديهم من بلاد الملك الناصر فاستولوا عليه ثم توفي الأمير

سيف الدين قليج سنة أربع وأربعين وهو من أعيان الأمراء الأكابر. وكان الملك الناصر أقطعه قلعة عجلون وعملها فتسلمها عمه الملك الصالح عماد الدين واستنزل أولاده من قلعتها وكان قد سير الأمير فخر الدين بن الشيخ لقصد الملك الناصر داود فقصده وأخذ منه القدس ونابلس وبيت جبريل والصلت والبلقاء وخرب ما حول الكرك والملك الناصر بها في حكم المحصور ثم نازلها الأمير فخر الدين وحاصرها أياماً ثم رحل عنها وقل ما عند الملك الناصر من المال والذخائر واشتد عليه الأمر فنظم معاتب الملك الناصر نجم الدين ابن عمه: قولوا لمن قاسمته ملك اليد ... ونهضت فيه نهضة المستأسد واقعت عليه كل أصيد من ذوي ... رحمي عريق في العلا والسودد لا قيتم بسنان كل مثقف ... صدق الكعوب وحدّ كل مهند غاضبت فيه ذوي الحجى من أسرتي ... وأطعت فيه مكارمي وتوددي يا قاطع الرحم التي صلتي لها ... ألفت على الفلك الأثير بعسجد شددت نحوى بالعتاب مقالة ... جاءت كتبهم للنضال مسدد أتقول فيّ مقالة لك جرها ... إن انصفت أوكلها إذ يعتدى إن كنت تقدح في صريح منابتي ... فاصبر بعرضك في اللهيب الموجد عمي أبوك ووالدي عم به ... يعلو انتسابك كل ملك أصيد صالا وجالا كالأسود ضوارياً ... وأبرير تيار الفرات المزبد ورثا الحماسة والسماحة عن أب ... ورّاد حرب مورد المحتدي

العادل الملك المؤيد بالتقى ... سيف الإله على البغاة محمد دع سيف مقول البليغ يذبّ عن ... أعراضكم بفرنده المتوقد فهو الذي قد صاغ تاج فخاركم ... بمفصل من لؤلؤي وزبرجد وفلئن غدوت بما تقول مخصصي ... لأبرهنن على الصحيح المسند إني الذي اشتهرت جميل خلائقي ... لفعال معروف وقول أحمد 83 - ب الناس أجمع يعلمون بأننيمن آل شادي في صميم المحتد بيتي ونفسي في المعالي آية ... مثل السها ما أن تلامس باليد سمح إذا ما شح موسر معشر ... في حالتي بطار في وبمتلدي إني لأفضل والملوك كثيرة ... في حالتي خوف وعام أجرد بيتي إذا ألف خاف حراً ورجا ... حرم الدخيل وكعبة المسترفد حصن المطرد إن تعذر منعه ... من خوف جماع الجنود مؤيد آوى المشدد لي وأعطى ما نعى ... وأقيل أعدائي وأرحم حسّدي إن الغنى والجود من نفسي الفتى ... ليست بكثرة أنيق أوأعبد ما كل مقلال ضنين يا للمى ... ما كل مكثار بذي كفّ ندى كم من فقير كالغني بفعله ... وأخى غني كالمملق المتجدد قلد الجود ووجهه متهلل ... ولذاك يأخذ وهو كالعاني الصدى ما أمنى العافون إلا عاينوا ... بشراً بوجهى واخضلالاً في يدي ما إن ربيت ولا أرى في مهلتي ... يوماً على أهلي بفظ أنكد

إني لهم في النائبات كخادم ... والخادم الكافي لهم كالسيد وأنا المجيب دعاهم إن أرهفوا ... علناً بصوتي في الحجاج الأربد وأقيهم بحشاشتي متبرعاً ... من كل بؤس رائح أو مغتدي أفديهم أن قوتلوا وأمدهم ... إن أعسروا وارد. . . السوددي يا مخرجي بالقول والله الذي ... خضعت لعزته جبين السجّد لولا مقال الهجر منك لما بدا ... مني افتخار بالقريض المنشد إن كنت قلت خلاف ما هو شيمتي ... فالحاكمون بمسمع وبمشهد والله يا ابن العم لولا خيفتي ... لرميت ثغرك بالعداة المرّد لكنتى ممن يخاف حزامة ... ندماً تجرعني سمام الأسود فأراك ربك بالهدى ما ترتجي ... ليراك تفعل كل فعل أرشد لتعيد وجه الملك طلقاً ضاحكاً ... وترد شمل البيت غير مبدد كيلا ترى الأيام فينا فرصة ... للخارجين وضحكة للحسد لا زال هذا البيت مرتفع البنا ... يزهو بأمجد آخر أمجد يحوى البنون المجد عن آبائهم ... إرثاً على مر الزمان الأطرد حتى يكونوا للمسيح عصابة ... بهم يسوس المعتدي والمهتدي وفي سنة ست وأربعين ورد الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي على الملك الصالح وهو بدمشق رسولاً من الملك الناصر داود ومعه ولده الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك الناصر ومضمون الرسالة أن

يتسلم الملك الصالح الكرك ويعوضه عنها الشوبك وخبزاً بالديار المصرية فأجاب الملك الصالح إلى ذلك ثم رحل إلى الديار المصرية في المحفة لمرضه وسير تاج الدين بن المهاجر ليتسلم الكرك منه ويسلم الشوبك عوضها فتوجه لذلك فوجد الملك الناصر قد رجع عنه لما بلغه من حركة الفرنج إلى الديار المصرية ومرض الملك الصالح وتربص الدوائر فلما دخلت سنة سبع وأربعين ضاقت الأمور بالملك الناصر بالكرك فاستناب بها ولده الملك المعظم شرف الدين عيسى وأخذ ما يعز عليه من الجواهر ومضى في البرية إلى حلب مستجيراً بالملك الناصر صلاح الدين يوسف كما فعل عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فأنزله صاحب حلب وأكرمه وسير الملك الناصر داود ما معه من الجواهر إلى بغداد لتكون وديعه له عند الخليفة المستعصم بالله فلما وصل الجواهر إلى بغداد قبض وسير إلى الملك الناصر داود خط بقبضه وأراد أن يكون آمناً عليه لكونه مودعاً في دار الخلافة فلم ينظره بعد ذلك وكانت قيمته مائة ألف دينار إذا بيع بالهوان وكان المعظم الذي استنابه والده بالكرك أمه أم ولد تركية الملك الناصر يميل إليها ويحب ولدها أكثر من إخوته الباقين وكان للملك الناصر من ابنة عمه الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل أولاد منهم الملك الظاهر شادي أكبر أولاده والملك الأمجد مجد الدين حسن وكان فاضلاً نبيهاً مشاركاً في علوم شتى وكان للملك الناصر أيضاً أولاد أخر من أمهات أولاد شتى فلما قدم المعظم عليهم تعلموا خصوصاً الظاهر والأمجد لكبر سنهما

وتميزهما في أنفسهما ولما كان الملك الصالح نجم الدين بالكرك كانت أمهما تخدمه وتقوم بمصالحه لكونها ابنة عمه وكان والداها المذكوران يأنسان به ويلازمانه في أكثر الأوقات واتفق مع ذلك ضيق الوقت وتطاول مدة الحصر فاتفقا مع أمهما على القبض على أخيهما المعظم فقبضاه واستوليا على الكرك وعزما على تسليمها إلى الملك الصالح نجم الدين وأن يأخذا عوضاً عنها فسار الملك الأمجد إلى العسكر بالمنصورة فوصل يوم السبت لسبع مضين من جمادى الآخرى سنة سبع وأربعين واجتمع بالملك الصالح فأكرمه وأقبل عليه وتحدث مع الملك الصالح في تسليم الكرك وتوثق منه ولنفسه ولأخوته وطلب خبزاً بالديار المصرية يقوم به فأجابه إلى ذلك وسير إلى الكرك الطواشي بدر الدين بدر الصوابي متسلماً لها ونائباً عنه بها ووصل إلى العسكر أولاد الملك الناصر جميعهم وأخواه الملك القاهر عبد الملك والملك المغيث عبد العزيز ونساؤهم وجواريهم وغلمانهم وأتباعهم واقطعوا اقطاعات جليلة ورتب لهم الرواتب الكثيرة وأنزل أولاد الملك الناصر الأكابر وأخواه في الجانب الغربي قبالة المنصورة وفرح الملك الصالح بأخذ الكرك فرحاً عظيماً معما هو فيه من المرض العظيم الذي لا يرجى برؤه وزينت القاهرة ومصر وضربت البشائر بالقلعتين وكان تسلم الكرك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرى سنة سبع وأربعين وستمائة وحكى لي أن آكد الأسباب في تسليم الكرك معماً تقدم ذكره من الأسباب أن الملك الناصر كان يميل إلى شخص من أولاد غلمانه يدعى إسحاق

وكان بارع الجمال مفرط الحسن وله فيه أشعار مشهورة فلما توجه إلى حلب تركه بالكرك فمال إليه الملك الأمجد بن الملك الناصر نيلاً مفرطاً واستحوذ الشاب إلى الملك الأمجد وكلاهما جميل الصورة والأمجد أسن منه بسنين يسيرة وجرى في ذلك فصول يطول شرحها فتخيل الأمجد أن والده متى تمسكن منه فرق بينهما قطعاً وربما أعدم الشاب بالكلية لأنه كان شديد الغيرة عليه ولا يخلو الأمجد من أذية تناله ومكروه يوقعه به فكان هذا آكد الأسباب في تسليمها ولو تأخر تسليمها لبقيت لهم مع تقدير الله تعالى فإن الملك الصالح كان قد اشتغل عنهم وعن غيرهم بنفسه وما به من الأمراض العظيمة المهولة وبما دهمه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على طرق بلادها وأعقب ذلك موته ثم قدوم الملك المعظم ولده وقتله ثم تفرق المماليك وإنفراد الشام عن مصر وإشتغال الملك الناصر صلاح الدين يوسف بالمصريين واشتغالهم به ثم قصد التنر البلاد الشامية واستيلاؤهم عليها ثم كسرتهم وقصر مدتهم لله الحمد والمنة لكن إذا أراد الله أمراً بلغه. ها ثم كسرتهم وقصر مدتهم لله الحمد والمنة لكن إذا أراد الله أمراً بلغه. وأما الملك الناصر داود فبقي في حلب عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبلغه ما جرى فعظم عليه جداً فمات الملك الصالح وتملك البلاد الملك المعظم ولده وقتل وأخرج الطواشي بدر الدين الصوابي الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل وملكه الكرك والشوبك وملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق والشام على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه فلما أستقر قدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف

بدمشق في سنة ثمان وأربعين ومرض بها مرضاً يؤس منه فيه. وكان معه بدمشق في سنة ... الملك الصالح عماد الدين إسماعيل والملك الناصر داود فقيل أن الملك الناصر داود سعى في أيام مرض الملك الناصر يوسف والأرجاف في أن يتملك دمشق فلما عوفي الملك الناصر بلغه ذلك فتقدم بالقبض عليه وسيره تحت الحوطة إلى حمص فاعتقله في قلعتها فقال الملك الناصر داود أبياتناً أولها. إلهي إلهي أنت أعلى وأعلم ... بمحقوق ما تبدي الصدور تكتم وأنت الذي ترجى لكل عظيمة ... وتخشى وأنت الحاكم المتحكم 86ب - إلى علمك الفصل أشكو ظلامتيوهل بسواه ينصف المتظلم أبث جنايات العشيرة معلناً ... إلى من بمكنون السرائر يعلم أتيتهم مستصرخاً مستجرماً ... كما يفعل المستصرخ المتظلم فلما يئسنا نصرهم ونوالهم ... رمونا بإفك القول وهو مرجم وقطع مني ما أمرت بوصله ... وإحلال أبعاد القرابة يحرم مليكي أتعلوني الملوك بقهرها ... وأنت ملاذي منهم وهم هم فحسبي اعتصاماً إنني بك لائذ ... إذا هز خطى وجرد مجرم أغثنا اغثنا من عانا يكن لنا ... بك النصر حتى يخذلوا ثم يهزموا لندركهم من باسنا بكتائب ... تهد صناديد الملوك وتهدم لنسقيهم كأساً سقونا بمثلها ... ونعفو ونسخو إذ سطوا وتلوموا

طلبنا جليلاً من عظيم وإنما ... يجود على المكرمات المعظم يجدد نعماك القديمة عندنا ... حديث إياد لفظها يترنم فنصرك مجعول لنا ومعجل ... وبرك معلوم لنا فهو معلم وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه بشفاعة وردت من الديوان فتوجه إلى العراق فلم يؤذن له في دخول بغداد مراعاة لخاطر الملك الناصر صلاح الدين يوسف وطلب الوديعة فلم تحصل له وجرى له خطوب يطول شرحها وآخر الأمر وقعت شفاعة في حقه على أن يكون في خدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ويطلق له ما يقوم بكفايته فحصلت الإجابة إلى ذلك وورد دمشق وأقام بها فلما وردت سنة ثلاث وخمسين طلب من الملك الناصر دستوراً ليمضي إلى العراق ليأخذ الوديعة ثم يتوجه إلى مكة شرفها الله تعالى لقضاء فريضة الحج فأذن له وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الخليفة يشفع له في رد وديعته إليه ويخبره بالرضا عنه لينقطع بذلك ما يحتج به عليه من جهته فأجابه إلى ذلك وكتب له فسافر إلى العراق وجعل طريقه على كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام وأقام به وسير إلى الخليفة المستعصم بالله قصيدة يمدحه بها ويتلطف ويمت بقصده وخدمة وهي: مقامك أعلى في الصدور وأعظم ... وحلمك أرجى في النفوس وأكرم فلا عجب أن غص بالقول شاعر ... وفوه مصل اللها بين مفحم وأني يقول والمحل معظم ... ولم لا وما يرجى من الحلم أعظم

إليك أمير المؤمنين توجهي ... بوجه رجاء عنده منه أنعم إلى ماجد يرجوه كل ممجد ... عظيم ولا يغشاه إلا المعظم ركبت إليه ظهر تيماء قفرة ... بما تسرج الأعداء خيلاً وتلجم فأشجارها ينع وأحجارها ظبي ... وأعشابها نبل وأمواهها دم رميت فيافيها بكل نجيبةبنسبتها يعلو الجديل وشذقم 87 ب يجاذبنا فضل الأزمة بعد ما ... براهن موصول من السير مبرم تساقين من خمر الكلال مدامة ... فلا هن أيقاظ ولا هن نوم يطسن الحصى في جمرة القيظ بعد ما ... غدا يتبع الجبار كلب ومرزم تلوح سباريت الفلاة مسطر ... بأخفافها منه فصيح وأعجم تخال ابيضاض القاع تحت احمرارها ... قراطيس وراق علاهن عندم فلما توسطن المساواة واعتدت ... تلفت نحو الدار شوقاً وبرزم وأصبح أصحابي نشاوي من السرى ... يدور عليهم كوبه وهو مفعم تنكر للخريت بالبيد عرفه ... فلا علم يعلو ولا النجم ينجم فظل لا فراط الآسي متندماً ... وإن كان لا يجدي الأسى والتندم لشوف الرغامة صلة لهداية ... ومن بالرغامة يهتدي فهو يرغم يناجي فجاج الدو والدو صامت ... ولا يسمع النجوى ولا يتكلم على حين قال الظبي والظل قالص ... وأوقدت المعزاء فهي جهنم

وجف مزاد القوم فهي أشنة ... وخف لورد الموت كف ومعصم ووسع ميدان المنايا بخيله ... فضاق مجال الريق والتجم الفم فوحش الرزايا للرزية حصر ... وطيرالمنايا بالمنية حوم فلما تبدت كربلا وتبينت ... قباب بها السبط الزكي المكرم ولذت به مستشفعا متحرما ... كما يفعل المستشفع المتحرم وأصبح لي دون البرية شافعاً ... إلى من به معوج أمري يقوم أنخت ركابي حيث أيقنت أنني ... بباب أمير المؤمنين مخيم بباب يلاقي البشر آمال وفده ... بوجه إلى أرفادهم يتبسم بحيث الأماني للأماني قسيمة ... وحيث العطايا بالعواطف تقسم وحيث غصون المجد تهتز للندى ... تزعزج جواداً من سجاياه يثجم عليك أمير المؤمنين تهجمي ... بنففس على الجوزاء لا تتهجم تلوم بأن تغشى الملوك لحاجة ... وللتهابي عنك لا تتلوم تضن بماء الوجه لكن وفدكم ... له شرف ينتابه المتعظم فصن ماء وجهي عن سواك فإنه ... مصون يصوناه الحيا والتكرم الست بعيد حرمتي عن وراثة ... له عندكم عهد تقادم محكم ومثلي يحيى للفتوق ورتقها ... إذا هز خطي وجرد مخذم فلا زلت للآمال تبقى مسلما ... لتنتابك الآمال وهي تسلم فلم يجد شيئاً ثم توجه إلى مكة شرفها الله تعالى وقضى فرائض الحج

وسننه ووقعت فتنة بمكة بين أهلها والركب العراقى فركب أمير الحاج العراقي بمن معه من عسكر الخليفة وكاد يقع بينهم ملحمة عظيمة فقام الملك الناصر داود في الإصلاح حسن قيام واجتمع بالشريف قتادة أمير مكة واخضر إلى أمير الحاج مذعناً له بالطاعة وقد جعل عمامته في عنقه فرضي عنه أمير الحاج وخلع عليه وذاده على ما جرت به العادة من الرسم وقضى الناس مناسكهم وتفرقوا إلى أوطانهم وهم شاكرون لجميل صنع الملك الناصر وإصلاحه لذات البين وحفظه بما فعل لأموالهم وأرواحهم وكثر دعاؤهم له وثناؤهم عليه ثم توجه أمير الحاج العراقي فلما قدم مدينة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قام بين يدي الحجرة الشريفة وأنشد مادحاً للنبي صلى الله عليه وسلم وفرائصه ترتعد ولسانه من هيبة ذلك المقام تتلجلج عليك سلام الله يا خير مرسل ... أتاه صريح الحي من خير مرسل إليك امتطينا اليعملات رواسما ... يجبن الفلا ما بين رضوى ويذبل إلى خير من أطرته بالمدائح السن ... فصدقها نص الكتاب المنزل إليك رسول الله قمت مجمجماً ... وقد كل عن ثقل البلاغة مقولي وأدهشني نور تألق مشرقاً ... يلوح على سامي ضريحك من على ثنتني عن مدحي لمجدك هيبة ... يراع لها قلبي ويرعد مفصلي وعلمي أن الله أعطاك مدحة ... مفصلها في مجملات المفصل فماذا يقول لمادحون بمدحهم ... بمن مدحه يعلو على كل معتلي ثم أحضر شيخ الحرم وخدامه ووقف بين يدي النبي صلى الله

عليه وسلم متمسكاً بأذيال الحجرة المقدسة وقال بمشهد وإن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين في أن يرد علي وديعتي فأعظم الناس هذا المقام الشريف وجرت عبراتهم وكثر بكائهم وكتب في الحال بصورة ما جرى إلى الخليفة وحمل المكتوب إلى أمير الحاج وحدثه الحاضرون بصورة ما جرى في تلك الحضرة المقدسة وكان ذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين ثم توجه الركب العراقي وصحبتهم الملك الناصر فلما صاروا ببعض المنازل خرج عليهم جمع عظيم من العرب يريدون نهبهم وأخذ أموالهم وأشرعوا لهم الأسنة وأخذوا في مقاتلتهم ومحاربتهم واشتد القتال بينهم وكادوا يظفرون بأمير الحاج ومن معه فخرج الملك الناصر وشق الصفوف واستدعى بأمير السرية وهو أحمد بن حجي بن زيد من آل مري وكان أبوه الأمير حجي صاحب الملك الناصر داود وص والده الملك المعظم للناصر عليه أياد عظيمة فدنا أحمد من الملك الناصر فحذره سوء عاقبة فعله وإقدامه على ركب الخليفة وأخذ في محادثته تارة بالترهيب وتارة بالترغيب إلى أن انقاد له وأجاب إلى الكف ولما رجع الحاج وصحبتهم الملك الناصر إلى العراق خرج أمر الخليفة بإنزال الملك الناصر - 89ب - بالمحلة فنزل بها وقرر له راتب لا يكفيه وجرى له ما ذكرنا من محاسبته على ما وصل إليه من الضيافة وغيرها فعاد إلى الشام ولم يحصل له المقصود وأخر أمره أنه وصل

إلى قرقيسياتم عاد منها إلى تيه بني اسرائيل كما ذكرنا وانضم غليه جماعة من العرب ورام فيما قيل أن يتصل بالبحرية وذلك في أوائل سنة ست وخمسين وبلغ الملك المغيت فتح الدين عمر صاحب الكرك فخاف منه أن يكثر جمعه من العرب والترك فيقصده فراسله مخادعاً له بإظهار المودة ثم أرسل إليه عسكر فقبضوا عليه وعلى من معه من أولاده فلما وصلوا بهم إلى اللاجية من غور زغراء أفردوه منهم وأذنوا للأولاد أن ينصرفوا حيث شاؤا ومضى أصحاب الملك المغيث بالملك الناصر داود إلى بلد الشوبك وكان تقدم الملك المغيث بأن يهيئ به مطمورة يحبس فيها لينقطع خبره فلما وصلوا به إلى ذلك المكان وجدوا المطمورة لم يتم عملها فأنزلوه في طور هارون عليه السلام فلجأ إليه مستشفعاً به وبأخيه موسى صلى الله عليهما وسلم واتفق أن الخليفة لما قصده التتر في هذه السنة أعني سنة ست وخمسين كما ذكرنا اضطر إلى الانتصار بكل أحد فأرسل إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف يستمده بالرجال ويطلب منه أن يسير إليه الملك الناصر داود مقدماً على من يبعثه من العساكر الذي يستخدمهم لنصرة الإسلام فوصل الرسول من الخليفة بذلك إلى دمشق ثم توجه إلى الكرك لإحضار الملك الناصر داود لهذا المهم فأتاه الفرج من حيث لا يحتسب بعد أن أقام في طور هارون عليه السلام ثلاث ليال فقال في ذلك. تبارك الله إخلاصاً وأيماناً ... سبحانه خالقاً بالجود مناما

هو الذي يقاسي من قعر هاوية ... أقمت فيها مطار اللب حيرانا موسى بن عمران بل هارون صاحبه ... تكفلاني إشفاقاً وتحنانا هما إلى الله قاما بالشفاعة لي ... تلطفا فيهما براً وإحسانا فأفرج الملك المغيث عنه وتوجه إلى دمشق ونزل بالبويضاء شرقي دمشق وأقام بها يتجهز لنصرة الخليفة وقصر الصلاة مدة إقامته بالبويضاء وتواترت الأخبار بمضايقة التتر بغداد فأشار عله جماعة من أصحابه أن يتأنى في الحركة فقال إني قد بعت نفسي من الله تعالى وما توجهي لطلب دنيا وإنما مقصودي أن أبذل نفسي في سبيل الله لعل الله تعالى يجعل على يدي نفعاً للمسلمين - 90ب - أو تحصل لي الشهادة في سبيله وبينما هو على هذه النية وردت الأخبار بأن التتر ملكوا بغداد وشاع أيضاً خبر لا حقيقة له وهو أن الخليفة لحق بالعرب فقال لا بد لي من اللحاق به فله في عنقي بيعة وقد لزمني الوصول إليه وأخذ بغداد منه لا يسقط وجوب اتباع أمره والذي يخشاه الناس القتل وأنا لا أخشاه وعرض في هذه السنة عم الشام وديار مصر وغيرها وحكى عبد الله بن فضل أحد من كان في خدمته قال لما اشتد الوباء والطاعون عقيب أخذ التتر بغداد تسخطنا به فقال لنا الملك الناصر لا تتسخطوا به فإن الطاعون لما وقع بعمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بعض الناس هذا وجه هذا الطاعون الذي بعث على بني إسرائيل فبلغ ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه فقام في

الناس خطيباً وقال أيها الناس لا تجعلوا دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم ورحمة ربكم عذاباً وتزعمون أن الطاعون هو الطوفان الذي بعث على بني اسرئيل إن الطاعون رحمة ربكم رحمكم بها ودعوة من نبيكم لكم اللهم أدخل على معاذ منه النصيب الأوفى قال ثم افيض علينا موت معاذ وابنه وأهل بيته بالطاعون ثم ابتهل وقال اللهم اجعلنا منهم وارزقنا ما رزقتهم وأصبح من الغد أو بعده مطعونا فلما سمعت بمرضه جئت إليه وهو يشكو ألماً مثل الطعن بالسيف في جنبه الأيسر بحيث يمنعه من الأضطجاع وحكى ولده شهاب الدين غازي عنه أنه نام بين الصلاتين ثم انتبه فقال إني رأيت جنبي الأيسر يقول لجنبي الأيمن أنا قد جاءت نوبتي والليلة نوبتك فاصبر كما صبرت فلما كان عشية النهار شكى ألماً خفيفاً تحت جنبه الأيمن وأخذ في التزايد وتحققنا أن ذلك الطاعون فبينما أنا عنده بين الصلاتين وقد سقطت قواه إذ أخذته سنة فانتبه وفرائصه ترتعد فأشار إلي فدنوت منه فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والخضر عليه السلام قد جاءا إلى عندي ثم انصرفا فلما كان آخر النهار قال ما في رجاء فتهيئ في تجهيزي فبكيت وبكى الحاضرون فقال لا تكن إلا رجلاً ولا تعمل عمل النساء ولا تغير هيئتك وأوصاني بأهله وأولاده ثم اشتد به الضعف ليلاً وقمت في حاجة فحدثني بعض من كان عنده من أهله أنه افاق مرعوباً وقال بالله تقدموا إلى جانبي فإني أجد وحشة فسئل لما ذلك فقال أرى صفاً عن يميني - 91ب -

وصورهم جميلة وعليهم ثياب حسنة وصفاً عن يساري وصورهم قبيحة فيهم أبدان بلا رؤوس وهؤلاء يطلبوني وهؤلاء يطلبوني وأنا أريد أن أروح إلى أهل اليمين وكلما قال لي أهل الشمال مقالتهم قلت ما أجيئ إليكم خلوني من أيديكم ثم أغفى إغفاءة ثم استيقظ وقال الحمد لله خلصت منهم وكانت وفاته رحمه الله تعالى صباح تلك الليلة وهي ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى هذه السنة وعمره نحو ثلاث وخمسين وقد استولى عليه الشيب استيلاء كثيرا وفي صبيحة موته جاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله في أقاربه وعساكره إلى البويضاء وأظهر التأسف والحزن عليه ورأى على بعض أقاربه ملبوسا ملونا فأنكر عليه ذلك غاية الإنكار وقال هذا يوم تلبس فيه هذه الثياب وقد مات كبيرنا وشيخنا وأجلنا قدرا ومكانة ثم حمل إلى الصالحية فدفن هناك في تربة والده الملك المعظم رحمهما الله تعالى وكانت والدة الملك الناصر داود رحمه الله تعالى أم ولد خوارزميه وعمرت بعد وفاته دهراً حكى لي عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه أنه قال خرج الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله إلى البويضاء؟ لشهود جنازة الملك الناصر داود رحمه الله وكنت في من خرج في خدمته فلما وصل السلطان خرجت والدة الملك الناصر داود حاسرة وقالت اشتفيت بولدي أو هذا معناه من كلام النساء في حال الحزن وسفههن فقال الملك الناصر يا مرة مسلمة والله لقد عز علي فقده وتألمت لوفاته وهو ابن عمي وقطعة من لحمي فكيف

تقولين هذا القول ثم قعد وتأسف عليه وبكى ولم يتأثر لمقالها وعذرها لما نزل بها ولم يحضر أحد من أعيان الدمشقيين سوى قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة وولده القاضي نجم الدين رحمهم الله تعالى لا غير فالتفت السلطان إلى القاضي صدر الدين وقال ما أقل وفائكم يا دمشقيين يموت مثل الملك الناصر وهو سلطانكم وأبوه سلطانكم وجده سلطانكم وما يخرج أحد إلا أنت وولدك والله كان الواجب على أهل دمشق أن يكونوا من المدينة إلى هنا مكشفي الرؤوس يندبونه ويبكون عليه وشرع في توبيخ الدمشقيين ولومهم على ذلك بما هذا معناه وكان في الملك الناصر داود رحمه الله فضيلة وبقية في الآداب والعلوم ومحبة في العلماء فإذا اعتبرت ألفاظها كانت دراً منظوماً وإن اختبرت معانيها كانت رحيقاً مختوماً جلت بعلوها عن المعاني المطروقة والألفاظ المسروقة ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة فلو وجدها بان المعتز لاجرى زورقة الفضة في نهرها وألقى حمولة العنبر في بحرها وألقى تشبيهاته باسرها في أسرها ولو لقيها ابن حمدان لاعتم في موسى الغمام وانبرى بري السهام وتغطى من أذبال الغلائل المصبغة بذيل الظلام ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة وكرته خاسرة وأيقن أن وحوشه غير مكسورة وعقابه غير كاسرة فأين الجزع الذي لم يثقب من الذي قد تنظم وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة ويشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة. الدمشقيين سوى قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة وولده القاضي نجم الدين رحمهم الله تعالى لا غير فالتفت السلطان إلى القاضي صدر الدين وقال ما أقل وفائكم يا دمشقيين يموت مثل الملك الناصر وهو سلطانكم وأبوه سلطانكم وجده سلطانكم وما يخرج أحد إلا أنت وولدك والله كان الواجب على أهل دمشق أن يكونوا من المدينة إلى هنا مكشفي الرؤوس يندبونه ويبكون عليه وشرع في توبيخ الدمشقيين ولومهم على ذلك بما هذا معناه وكان في الملك الناصر داود رحمه الله فضيلة وبقية في الآداب والعلوم ومحبة في العلماء فإذا اعتبرت ألفاظها كانت دراً منظوماً وإن اختبرت معانيها كانت رحيقاً مختوماً جلت بعلوها عن المعاني المطروقة والألفاظ المسروقة ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة فلو وجدها بان المعتز لاجرى زورقة الفضة في نهرها وألقى حمولة العنبر في بحرها وألقى تشبيهاته باسرها في أسرها ولو لقيها ابن حمدان لاعتم في موسى الغمام وانبرى بري السهام وتغطى من أذبال الغلائل المصبغة بذيل الظلام ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة وكرته خاسرة وأيقن أن وحوشه غير مكسورة وعقابه غير كاسرة فأين الجزع الذي لم يثقب من الذي قد تنظم وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة ويشفي

القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة. قلت كان فخر القضاة صاحب هذا الكلام من أعيان الفضلاء مستقلاً بالعلم والأدب والترسل وله النظم الحسن ومشاركة في كثير من العلوم مع ما عنده من الرياسة والمكارم وحسن العشرة ودماثة الأخلاق خدم الملك المعظم ابن الملك العادل ثم ولده الملك الناصر المذكور ووزر له وترسل عنه إلى دار الخلافة وإلى جماعة من الملوك بالديار المصرية وغيرها من البلاد وسمع وحدث وجالس المشايخ والعلماء واعترفوا بغزارة علمه وكثرة فضله وتوفي في منزله بسفح قاسيون ظاهر دمشق يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة سنة خمس وستمائة ودفن هناك رحمه الله وأظنه قد نيف على الستين. ومن كلامه: قتيل الجفون الفواتر في سبيل حبه كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه إلا أن هذا يغسل بدموعه وهذا يزمل بنجيعه وهذا في حال حياته حتى يرمق وهذا في مماته حتى يرزق وقد الّم ابن الأثير الجزري بهذا المعنى فقال: دمع المحب ودمع القتيل متساويان، في التشبيه والتمثيل إلا أن بينهما بوناً، لأنهما يخلفان لوناً. ولفخر القضاة: له الراية السوداء يشرق نورها ... وتكحل عين النصر منها بأثمد وله في الملك المعظم عيسى بن العادل: غبت عن القدس فأوحشته ... وقد غدا باسمك مأنوسا

فكيف لا تلحقه وحشة ... وأنت روح القدس يا عيسى وله أيضاً: لقد عدم الفضل والمفضلون ... وأمسى مريدهما مستريحا فلا شاعر يستحق النوال ... ولا باذل يستحق المديحا وقال ملغزاً في الرمح: ولي صاحب قد كمل الله خلقه ... فليس به نقص يعاب فيذكر عصي صقيل إن أطيل عنانه ... مطيع خفيف الكل حين يقصر يسابقني يوم النزال إلى العدى ... فإن لم أؤخره فما يتأخر ويؤمن منه الشر ما دام قائماً ... ولكن إذا ما نام يخشى ويحذر أنال به في الروع مهما اعتقلته ... مراما إذا أطلقته يتعذر تعدى إلى أعدائه متنصلاً ... إليهم وما أبدى اعتذارا فيعذر ترى منه دمياً إلى الخط ينتمي ... ومغرى بغزو الروم وهو مزنر عجبت له من صامت وهو أجوف ... ومن مستطيل الشكل وهو مدور ومن طاعن في السن ليس بمنحنى ... ومن أرعن مذ عاش وهو موقر ففكر إذا ما رمت إفشاء سره ... فها أنا قد أظهرته وهو مضمر وكتب إلى شمس الدين بن النعماني كاتب الجيوش ببغداد لغزا في جميل: ولي صاحب مازال يحسن صحبتي ... وليس له في المخبتين عديل

تساوى اسمه بين الأنام وفعله ... فكل إذا فكرت فيه جميل متى تلقى حرفاً أولاً تلقه ... منيعاً يرد الطرف وهو كليل وإن تلقى منه ثانياً فهو أمة ... مقيم يقضي عمرها ويزول وإن تلق منك ثالثاً فهو صابر ... لما لد من ثقل الرجال حمول وإن تلق منه رابعاُ فارتحل إذا ... تصحف عنه ليس فيه نزول وقد رضته حتى طفا وهو راسب ... بلحج وغصّ فالبحر منه طويل فأجابه ابن النعماني والغز في اسم سعيد: أمولاي يا من فضله وبيانه ... وصاحبه كل يقال جميل ومن حاز أفكار المعاني وفضله ... لسودده بالمكرمات كفيل إنا ذلك المومى إليه ومجدكم ... يبين قياسا لي عليه دليل ولي صاحب من كان في الناس كاسمه ... يقول بحد صارم ويصول متى تلق حرفاً أولاً منه تلقه ... يهني به كل الورى ويزول وإن عد حرفاً واحد من حروفه ... فللنجم منه منزل وحلول وإن يكن المحذوف حرف انتهى به ... فليس لإنسان سواه عديل كذا جاء في التنزيل يا قوم فاعلموا ... لتأويل ما قد قلته وأقول فأجابه فخر القضاة: أمولاي شمس الدين لازلت هكذا ... تفيد الصديق والعدو تبيد ولا برحت يمناك في كل عزمة ... تجود على الراجي وأنت تسود

أبى الله أن يشقى بمثلك صاحب ... ولكنه مهما يراك سعيد فدامت ذلك النعماء في ظل مالك ... له الخلد دار والملوك عبيد سمع فخر القضاة وحدث وأجازه الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ويحيى بن سعد بن بؤس وأبو الفرج عبد المنعم بن كليب الحراني وغيرهم وكتب فخر القضاة إلى الشيخ جمال الدين بن الجوزي رحمه الله لغزاً في مقصورة ابن دريد وهو ما يقول سيدنا إمام أئمة الأنصار وصدر صدور الأقطار، وجامع مسانيد السير والأخبار، والعالي كعبه في تحبير العلوم على كعب الأحبار، في عروس جليت في ساعة على بغلين وزفت في ليلة إلى محلين خطباها بظهور السماح لا بصدور الرماح وملكاها بحل الصحاح لا بعقد النكاح وافترعاها في الملأ فلم يكن عليها ولا على أبيها من عيب ولا جناح وهي من المشهورات بين الأنام والمقصورات لا في الخيام باسقة الفرع ثابتة الأصل فائزة عند النضال بالخصل، جامعة المناقب والفضائل ساحبة ذيل الفصاحة على سحبان وائل. وكتب إلى جمال الدين يوسف بن العنائفي مشرف ديوان بغداد ما يقول سيدنا واصل جناح قاصديه وقاطع جماح معانديه في مطية صامتة جوفاء تارة بدينة وتارة هيفاء إذا كانت ضئيلة صغيرة فهي قائمة على ثلاث متنقلة تنقل الأثاث وإذا كانت عظيمة كبيرة فهي عادية الأرجل والإنبعاث دائمة الإقامة واللباث فإن قصرت وصغرت

كانت مطية صامت جاهل وإن طالت وكبرت كانت مطية ناطق فاضل على أن الصغيرة تباع وتشترى والكبيرة يحرم فيها ذلك ويمتنع ربها بأن يمتطيها ويقتنع وقد خشينا الجمع بين هاتين مع أنه حلال وظمئنا إلى رشف جوابك في ذلك لأنه زلال، فإن أسأنا في السؤال فتجاوز عنا وأحسن إلينا وإن جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وكتب إلى ابن النعماني. ومنصوبة مرفوعة عند نصبها ... ولكنه رفع يؤول إلى خفض تعين على حر الزمان وبرده ... بلا حسب ذاك ولا كرم محض ويصبح للاجي إليها وقاية ... لبعض الأذى الطاري على الجسم لا العرض تقوم على رجلين طوراً وتارةً ... تقوم على رجل بلا غرض منض إذا حضرت كانت عقيلة خدرها ... وإن تبد لم تلزم مكاناً من الأرض قصدت كريماً خيمه ليبينها ... وقصد الكريم الخيم من جملة الفرض يا رافع لواء الأدباء ودافع لأواء الغرباء هذا اللغز ممهد موطأ مكشوف لا مغطأ وقد سطر مفرداً ومجموعاً وذكر مقيساً ومرفوعاً إلا أنه

قد استخفى وهو مظهر وأستسر وهو مجهر وتعامى وهو بصير وتطاول وهو قصير وتصامم وهو سميع وتعاصى وهو مطيع ومثل مولاي من عرف وكره ولم يعمل فيه فكره والآمر له على أمره وأطال للأولياء عمره إن شاء الله تعالى. كان فخر القضاة رحمه الله كثير المباسطة لأصحابه واحتمال تبسطهم عليه طلب منه التاج عثمان الدمشقي حمارة فاشتراها له فكتب إليه يتشكر ويقول: اشترى لي فخر القضاة حماره ... ذات حسن وبهج ونضاره صان عرضي بها وعمر داري ... عمر الله بالحمير دياره فأجابه على ذلك: قال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله هو أبو الفتح نصر الله بن أبي العز هبة الله بن عبد الباقي بن أبي البركات بن الحسين بن يحيى بن علي المعروف بابن بصاقة الغفاري من كنانة المصري الملقب فخر القضاة رحمه الله. قلت قد بسطت القول في هذه الترجمة واستوفيت معظم مقاصدها وذكرت بعض المقاطيع بكمالها وذلك لتعذر حصول ديوانه فإنه قليل الوجود أما رسائله فليست كذلك لكنها مليحة من مثله

وفيها أشياء حسنة ومعاني جيدة وخلف الملك الناصر عدة أولاد ذكوراً وإناثاً وسنذكر أعيان من درج منهم إلى رحمه الله إن شاء الله تعالى. زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم أبو الفضل وقيل أبو العلاء بهاء الدين الأزدي المولد القوصي المنشأ القاهري الدار الكاتب المشهور والشاعر المجيد مولده بوادي نخلة بقرب مكة شرفها الله تعالى لخمس مضين من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وربى بصعيد مصر وقوص قرأ الأدب وسمع وحدث وله النظم الفائق والنثر الرائق وكان رئيساً فاضلاً كريم الأخلاق حسن العشرة جميل الأوصاف واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين بالقاهرة في حياة أبيه الملك الكامل فلما توجه الملك الصالح إلى الشرق سافر في خدمته وأقام معه فلما مات الملك الكامل وتسلم الملك الصالح نجم الدين دمشق من الملك الجواد كان بهاء الدين المذكور صحبته فلما اعتقل الملك الصالح بالكرك أقام بهاء الدين بنابلس عبد الملك الناصر داود فلما خرج الملك الصالح من الأعتقال وسار إلىالديار المصرية كان بهاء الدين المذكور في صحبته وأقام عنده في أعلى المنازل وأجل المراتب هو المشار إليه في كتاب الدرج والمتقدم عليهم وأكثرهم اختصاصاً بالملك الصالح واجتماعاً به وسيره رسولاً في سنة خمس وأربعين إلى الملك الصالح يوسف رحمه الله صاحب حلب يطلب منه إنقاذ الملك الصالح عماد الدين اسماعيل إليه فلم يجب الملك الناصر رحمه الله

إلى ذلك وأنكر هذه الرسالة غاية الإنكار وأعظمها واستفضعها وقال كيف يسعني أن أسير عمه إليه وهو خال أبي وكبير البيت الأيوبي ليقتله وقد استجار بي والله هذا شيء لا أفعله أبداً ورجع بهاء الدين إلى الملك الصالح نجم الدين بهذا الجواب فعظم عليه وسكت على ما في نفسه من الحنق وقبل موت الملك الصالح نجم الدين بمدة يسيرة وهو نازل بالمنصورة تغير على بهاء الدين وأبعده لأمر لم يطلع على فحواه حكى لي أنه سبب تغيره عليه أنه كتب عن الملك الصالح كتابا إلى الملك الناصر داود فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطه بين الأسطر أنت تعرف قلة عقل ابن عمي وهو يحب من يعظمه ويعطيه من يده فاكتب له ما يعجبه من ذلك وسير الكتاب إليه وهو مشغول فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأمر بختمه فخيمه وجهزه ولم يتأمله وأعطاه للنجاب فسافر به لوقته ولما استبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليلم عليه سأل عنه بهاء الدين وقال ما وقفت على ما كتبت بخطي بين الأسطر قال ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخط يده إلى ابن عمه وأخبره أنه سيره مع النجاب فسيروا في طلبه فلم يدركوه ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك فعظم عليه وتألم له وكتب إلى الملك الصالح يعتبه العتب المؤلم ويقول له والله ما بي ما يصدر منك في حقي وإنما بي أطلاع كتابك على مثل ذلك فعز على الملك الصالح وغضب على بهاء الدين زهير وبهاء الدين لكثرة مرؤته نسب ذلك إلى نفسه ولم

ينسبه إلى فخر الدين إبراهيم بن لقمان رحمه الله تعالى وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاتبة على الوهم لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يرعى سالف خدمة والسيئة عنده لا تغفر والتوسل إليه لا يقبل والشفائع لديه لا تؤثر ولا يزداد بهذه الأمور التي تسل سخائم الصدور إلا حقداً وانتقاماً وكان ملكاً جباراً متكبراً شديد السطوة كثير التجبر والتعاظم يتكبر على أصحابه وندمائه وخواصه ثقيل الوطأة لا جرم أن الله تعالى قصر مدة مملكته وابتلاه بأمراض عدم فيها صبره وقتل مماليكه ولده توران شاه من بعده لكنه كان عنده سياسة حسنة ومهابة عظيمة وسعة صدرفي إعطاء العساكر والإنفاق في مهمات الدولة لا يتوقف فيما يخرجه في هذا الوجه وكانت همته عاليةً جداً وآماله بعيدة ونفسه تحدثه بالإستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلب عليها وانتزاعها من يد ملوكها حتى لقد حدثته نفسه بالإستيلاء على بغداد والعراق وكان لا يمكن القوي من الضعيف وينصف المشروف من الشريف وهو أول من استكثر من المماليك من ملوك البيت الأيوبي ثم أقتدوا به لما آل الملك إليهم فاقتنى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله أكثر منه ثم اقتنى الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله منهم أكثر من الملك الظاهر ولما مات الملك الصالح نجم الدين لم يحزن لموته إلا القليل مع ما كان الناس فيه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على قطعة منها وسر معظم الناس

بموته حتى خواصه فإنهم لم يكونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز من كل ما ينتقده عليهم ويؤاخذهم به فإنه كان يؤاخذ على أيسر هفوة بأعظم عقوبة ولم يكن في خلقه الميل إلى أحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم والحنو عليهم على ما جرت به العادة وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا في دست السلطنة وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول رحمه الله وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود ونعود إليه إن شاء الله تعالى. ونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز من كل ما ينتقده عليهم ويؤاخذهم به فإنه كان يؤاخذ على أيسر هفوة بأعظم عقوبة ولم يكن في خلقه الميل إلى أحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم والحنو عليهم على ما جرت به العادة وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا في دست السلطنة وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول رحمه الله وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود ونعود إليه إن شاء الله تعالى. وأما بهاء الدين زهير رحمه الله فاتصل بعد موت الملك الصالح بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وله فيها مدايح حسنة يتضمنها ديوانه ثم فارقه ورجع إلى الديار المصرية ولزم بيته يبيع كتبه وموجوده وينفقه وانكشف حاله بالكلية ولما عرض بالبلاد الوباء العام عقيب أخذ التتر بغداد مرض أياماً ثم توفي إلى رحمة الله تعالى قبل المغرب من يوم الأحد رابع ذي القعدة وقيل خامسه هذه السنة عن خمس وسبعين سنة غير شهر واحد ودفن بالقرافة الصغرى وفضيلته أشهر من أن تحتاج إلى الأطناب في ذكرها وأما مروئته وكرم طباعه وعصبيته لكل من يلوذ به ويقصده فذلك أمر مشهور وكان في أول أمره كاتباً عند المكرم بن اللمطي متولي قوص والصعيد في الأيام الكاملية وله فيها مدايح حسنة منها من قصيدة:

يا منسك المعروف احرم منطقي ... زمناً وقد لباك من ميقاته هذا زهيرك لا زهير مزينة ... وافاك لا هرماً على علاته دعه وحولياته ثم استمع ... لزهير عصرك حسن ليلياه لو أنشدت في آل جفنة اضربوا ... عن ذكر حسان وعن جفناته قلت وهذه الأبيات قد يقف عليها من لا يعرف مقصوده فيها فينبغي أن نشرح ما ينبهم على بعض الناس منها قوله: زهير مزينة يعني زهير بن أبي سلمى المزني وكان يمدح كثيراً هرم بن سنان المدايح المشهورة وكان زهير أحد الشعراء الأربعة الذين فضلوا في الجاهلية على سائر الشعراء زهير إذا رغب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب وامرؤ القيس إذا ركب وكان هرم الدين سنان من المشهورين بالكرم وقوله: دعه وحولياته يعني بها القصائد التي كان زهير المزني ينظمها في سنة فقصد زهير هذا ما ينظمه في ليلة على ما كان ينظمه زهير في سنة وهذا على سبيل التجوز واللغة على عادة الشعراء لا الحقيقة فإن بهاء الدين لم يكن ممن يغالط نفسه وسره أنه أجود شعراً من زهير بن ابي سلمى، وقوله لا هرماً على علاته يشير إلى قول زهير بن أبي سلمى رحمه الله. من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة والندى خلقا معناه أن يلقه عديم المال والجدة يلقه سمحاً خلقاً لا تحلقاً فكيف إذا لقيه على غير تلك الحال، وقوله: لو أنشد ت في آل جفنة البيت معناه أن حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه كان يمدح آل

جفنة ملوك الشام القصائد المشهورة ويذكر عظم جفانهم على ما كانت العرب تمدح به في ذلك الزمان فأراد بهاء الدين بهذا البيت لو سمع آل جفنة شعره لأعرضوا عن حسان ووصفه جنفاتهم هذا خطر لي في معنى البيت ثم وثق بعض الفضلاء على ذلك فقال إنما أراد بقوله اضربوا عن ذكر حسان وعن جفناته إشارة إلى قول حسان: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ورثنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا أبنما وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وكان بهاء الدين في خدمة الملك الصالح نجم الدين بالشرق فأرسله مرة إلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فلما قدمها حضر عنده شعراؤها ومدحوه ومن جملتهم شرف الدين أبو الطيب أحمد بن الحلاوي فلما عاد بهاء الدين إلى مخدومه حضر عنده أصحابه مسلمين عليه وسألوه عن شعراء الموصل فأخبرهم بما جرى وأنشدهم البيت وكان من جملة الحاضرين جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله فلما خرجوا من عنده أرسلوا إلى كل واحد مما استصحبه من الهدية نصيباً فكتب جمال الدين مع الرسول الذي أحضر نصيبه من الهدية ورقة فيها. أقول وقد تتابع منه بر ... وأهلاً ما برحت لكل خير ألا لا تذكروا هرماً يجود ... فما هرم بأكرم من زهير وكتب إليه جمال الدين المذكور مرة يستدعي منه درج ورق.

أفلست يا سيدي من الورق ... فابعث بدرج كعرضك اليقق وإن أتى بالمداد مقترنا ... فمرحبا بالخدود والحدق فأجابه بهاء الدين: مولاي سيرت ما رسمت به ... وهو يسير المداد والورق وعز عندي تسير ذاك وقد ... شبهته بالخدود والحدق وسنذكر طرفاً من أخبار جمال الدين بعد الفراغ من هذه الترجمة إن شاء الله وإن كانت وفاته رحمه الله متقدمة لكن إذ قد جرى ذكره فلا بأس بالتنبيه عليه ولبهاء الدين أشعار كثيرة وديوان مشهور وترسل فمن شعره ملغزاً في مدينة يافا. بعيشك خبرني عن اسم مدينة ... يكون رباعياً إذا ما كتبته على أنه حرفان حين تقوله ... ويرجع حرفاً واحداً إن عكسته وله يقول حبذا نفحة من ريح ... فرجت عني غمه ضربت ثوب فتاة ... أكثرت تيها وحشمه فرأيت البطن وال ... رة والخصر وثمه وقال: أيا معشر الأصحاب ما لي أراكم ... على مذهب والله غير حميد

فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منكم ببعيد فهل أنتم من قوم لوط بقية ... فما فيكم من فعله برشيد وقال: يا روضة الحسن صلي ... فما عليك ضير فهل رأيت روضةً ... ليس بها زهير وقال: كيف خلاصي من هوى ... مازج روحي فأختلط وتائه أقبض في ... حبي له وما أنبسط يا بدر إن رمت به ... تشبهاً رمت الشطط ودعه يا غصن النقا ... ما أنت من ذلك النمط قام بعذري وجهه ... عند عذولي وبسط لله أي قلم ... لواو ذاك الصدغ خط ويا له من عجب ... في خده كيف نقط يمر بي ملتفتاً ... فهل رأيت الظبي قط ما فيه من عيب سوى ... فتور عينيه فقط يا قمر السعد الذي ... لديه نجمي قد هبط يا ما نعي حلو الرضا ... ومانحي السخط

حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غلط وقال: أغصن النقا لولا القوام المهفهف ... لما كان يهواك المعنى المعنف أيا ظبي لولا أن فيك محاسناً ... حين الذي أهوى لما كنت توصف كلفت بغصن وهو غصن ممنطق ... وهمت بظبي وهو ظبي مشنف ومما دهاني أنه من حيائه ... أقول كليل طرفه وهو مرهف وذلك أيضاً مثل بستان خده ... به الورد يدعى مضعفاً وهو مضعف فيا ظبي هلا كان فيك التفاته ... ويا غصن هلا كان فيك عطف ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف عسى عطفة للوصل يا واو صدغه ... وحقك أني أعرف الواو تعطف وقال يمدح الملك الصالح نجم الدين أيوب وعد الزيارة طيفه المتملق ... وبلاء قلبي من جفون تنطق إني لأهوى الحسن أين وجدته ... وأهيم بالقد الرشيق وأعشق وبليتي كفل عليه ذؤابة ... مثل الكثيب عليه صل مطرق يا عاذلي أنا من سمعت حديثه ... فعساك تحنو أو لعلك ترفق لو كنت منا حيث تسمع أو ترى ... لرأيت ثوب الصبر كيف يمزق ورأيت ألطف عاشقين تشاكيا ... وعجبت ممن لا يحب ويعشق أيسوموني العذال عنه تصبراً ... وحياته قلبي أرق وأشفق إن عنفوا إن سوفوا إن خوفوا ... لا أنتهي لا أنتهي لا أفرق

أبداً أزيد مع الوصال تلهفاً ... كالعقد في جيد المليحة يقلق يا قاتلي إني عليك لمشفق ... يا هاجري إني عليك لشيق وأذاع أني قد سلوتك معشر ... يا رب لا عاشوا لذاك ولا بقوا ما أطمع العذال إلا انني ... خوفا عليك إليهم أتملق وإذا وعدت الطيف منك بهجعة ... فاشهد علي بأنني لا أصدق فعلام قلبك ليس بالقلب الذي ... قد كان لي منه المحب المشفق وأظن خدك شامتا بفراقنا ... فلقد نظرت إليه وهو مخلق ولقد سعيت إلى العلى بعزيمة ... تقضي لسعيي أنه لا يخفق وسريت في ليل كأن نجومه ... من فرط غيرتها إلي تحدق حتى وصلت سرادق الملك الذي ... تقف الملوك ببابه تسترزق ووقفت من ملك الزمان بموقف ... ألفيت قلب الدهر منه يخفق فإليك يا نجم السماء فإنني ... قد لاح نجم الدين لي يتألق الصالح الملك الذي لزمانه ... حسن يتيه به الزمان ورونق

ملك يحدث عن أبيه وجده ... نسب لعمري في العلى لا يلحق سجدت له حتى العيون مهابة ... أوما تراها حين يقبل تطرق رحب الجناب خصيبة أكنافه ... فلكم سدير عنده وخورنق فالعيش إلا في ذراه منكد ... والرزق إلا من نداه مضيق يا عز من أضحى إليه ينتمي ... وعلو من أمسى به يتعلق أقسمت ما الصنع الجميل بضائع ... فيه ولا الخلق الكريم تخلق يدعو الوفود لما له فكأنما ... يدعو عليه فشمله يتفرق أبداً تحن إلى الطراد جياده ... فلها إليه تشوف وتشوق يندى لسطوته الخميس تطرباً ... فالسمر ترقص والسيوف تصفق في ثني لامته هزبر باسل ... تحت التريكة منه بدر مشرق يروي القنا بدم الأعادي في الوغى ... فلذاك تثمر بالرؤس وتورق يمضي فيقدم جيشه من هيبة ... جيش يغص به الزمان ويشرق ملأ القلوب مخافة ومحبة ... فالبأس يرهب والمكارم تعشق ستجوب آفاق البلاد جياده ... ويرى له في كل فج فيلق لبيك يا من لا مرد لأمره ... فإذا دعا العيوق لا يتعوق لبيك يا خير الملوك بأسرهم ... وأعز من تحدى إليه الأنيق

لبقيك ألفاً أيها الملك الذي ... جمع القلوب نواله المتفرق فعدلت حتى ما بها متظلم ... وأنلت حتى ما بها مسترزق أنا من دعوت وقد أجابك مسرعاً ... هذا الثناء له وهذا المنطق ألفيت سوقاً للمكارم والعلى ... فعلمت أن الفضل فيها ينفق يا من إذا وعد المنى قصاده ... قالت مواهبه يقول ويصدق يا من رفضت الناس حين لقيته ... حتى ظننت بأنهم لم يخلقوا ؟ قيدت في مصر لديك ركائبي غيري يغرب تارة ويشرق وحللت عندك إذ حللت بمعقل ... يلفي إليه مارد والأبلق وتيقن الأعداء أني بعدها ... ابداً إلى رتب العلى لا أسبق فرزقت ما لم يرزقوا ولحقت ما ... لم يلحقوا ونطقت ما لم ينطقوا وقال من أبيات: وأنت يا نرجس عينيه كم ... تشرب من قلبي وما أذبلك مالك في حسنك من مشبه ... ما تم للعالم ما تم ذلك وقال: يا من لعبت به شمول ... ما أحسن هذه الشمائل نشوان يهزه دلال ... كالغصن مع النسيم مائل لا يمكنه الكلام لكن ... قد حمل طرفه رسائل مولا ي يحق لي بأني ... عن حبك في الهوى أقاتل

لي فيك كما علمت وجد ... لا يعلم سره العواذل ذا العام مضى فليت شعري ... هل يحصل لي رضاك قابل وقال وكتب بها إلى الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله تعالى دعوتك لما أن بدت لي حاجة ... وقلت رئيس مثله من تفضلا لعلك للفضل الذي أنت ربه ... تغار فلا ترضى بأن تتبدلا إذا لم يكن إلا تحمل منة ... فمنك وأما من سواك فلا ولا ومن خلقي المشهور في الناس أنني ... لغير حبيب قط لن أتذللا وقد عشت دهراً ما شكوت لحادث ... بلى كنت أشكو الأغيد المتدللا وما هنت إلا للصبابة والهوى ... ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلا أحب من الظبي الغرير تلفتا ... وأهوى من الغصن النضير تفتلا أروح وألفاظي تذوب حلاوة ... وأغدو وأعطافي تسيل تغزلا ويا رب داع قد دعاني لحاجة ... فعلت له فوق الذي كان أملا سبقت صداه باهتمامي بكلما ... أراد ولم أحوجه أن يتمهلا سبقت له وجها حيياً ومنطفاً ... وفياً ومعروفاً هنيئاً معجلا ورحت أراه منعماً متفضلاً ... وراح يراني المنعم المتفضل وله أيضاً:

أنا ذا زهيرك ليس إلا ... جود كفك لي مزينه أهوى جميل الذكر ع ... ك كأنما هو لي بثينه وأما جمال الدين عيسى بن يحيى بن إبراهيم بن مطروح رحمه الله المقدم ذكره فكان من حسنات الدهر تام الفضيلة متنوعاً في العلوم متفنناً في الآداب مع مكارم كثيرة ودماثة أخلاق ولين جانب وحسن عشرة وكان كثير السعي في مصالح إخوانه وأصحابه ومن يلوذ به متلطفاً في قضاء حوائج الناس على الإطلاق لا يرى التوقف في صلة رزق وكان كثير الصحبة والصداقة لبهاء الدين زهير وبينهما مودة عظيمة واشتراك في الفضيلة ومكارم الأخلاق وخدمة الملك الصالح وشاركه أيضاً في تغيير الملك الصالح عليه وانحرافه عنه فإنه تغير عليه تغيراً مفرطاً قبل وفاته وأبعده إبعاداً كلياً وسبب ذلك علمه بموت الملك الصالح نجم الدين فإن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ كان يعرف محل جمال الدين وما هو عليه من الأهلية لكل شيء وأن الدول تفتقر إلى تدبيره فلما اتفق موت الملك الصالح وبقي الأمير فخر الدين يدبر الأمور وهو في مقابلة الإفرنج قرب جمال الدين المذكور وجعله في محل الوزارة وكان يستشيره في الأمور ولا يكاد يفارقه فعلم الناس بهذه القرينة موت الملك الصالح وأنه لو كان في قيد الحياة لم يقدم الأمير فخر الدين على تقريب من أبعده وكان جمال الدين اتصل بخدمة الملك الصالح حين كان ولي عهد أبيه ولما سافر إلى الشرق سافر معه ثم قدم معه دمشق حين ملكها بعد الجواد وكان ناظر

جيشه فلما أعتقل بالكرك مضى أبن مطروح إلى الخوارزمية وحرضهم على القيام بنصرة مخدومه ثم توجه إلى حماة وأقام بها لعلمه بميل صاحبها إلى الملك الصالح نجم الدين فلما خرج الملك الصالح من الاعتقال وملك الديار المصرية توجهه جمال الدين إلى خدمته وولي الخزانة ثم استنابه الملك الصالح بدمشق مع الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير وجعله صورة وزير ثم تغير عليه في سنة ست وأربعين لما قدم الشام وعزله واستصحبه معه إلى الديار المصرية في أوائل سنة سبع وأربعين فأقام بالمنصورة إلى أن توفي الملك الصالح وهو متغير عليه معرض عنه بالكلية فلما قام الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بتقدمة العساكر صحبه وقربه غاية التقريب وكان لا يصدر إلا عن رأيه في غالب الأمور فلما استشهد الأمير فخر الدين رحمه الله انتقل جمال الدين إلى مصر ونزل بدار كان بناها على النيل وكتب على بابها. دار بنيناها بإحسان من ... لم تخل دار قط من رفده الملك الصالح رب العلى ... أيوب زاد الله في مجده اليمن والتوفيق من حزبه ... والنصر والتأييد من جنده أغنى وأقنى فالذي عندنا ... من نعمة الله ومن عنده فقل لحسادي ألا هكذا ... فليصنع السيد من عبده وقد سبق جمال الدين إلى ذلك أبو الفتيان بن حيوس شاعر

بني مرداس فإنه بنى دار بحلب وكتب إلى بابها هذه الأبيات. دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من بأس قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصنع الناس مع الناس هذا كان على خاطري أن الأبيات لابن حيوس ثم وقفت على المجلد الثالث من تاريخ حلب للصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله فوجدته قد قال وجدت في كتاب نزهة الناظر وروضة الخاطر لقاضي معرة مصرين الكمال بن عبد القادر بن علوي المعري قيل امتدح أبو الفتح بن حصين المعري نصر بن صالح بحلب فقال له تمن فقال له أتمنى أن أكون أميراً فجعله أميراً يجلس مع الأمراء ويخاطب بالأمير وقربه وصار يحضر في مجلسه في زمرة الأمراء ثم وهبه أرضاً بحلب قبلي حمام الواساني فعمرها دراً وزخرفها وقرنصها وتمم بنيانها وكمل زخارفها ثم نقش على دائر الدار بزين. دار بنيناها وعشنا بها ... في دعة من آل مرداس قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من بأس قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس فلما أنهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح بن

مرداس فلما أكل الطعام رأى الدار وحسنها وحسن بنيانها ونقوشها ورأى الأبيات فقرأها فقال يا أمير كم خسرت على بناء الدار فقال والله يا مولانا ما للمملوك علم بل هذا الرجل تولى عمارتها فأحضر معمارها وقال له كم لحقكم غرامة على بناء هذه الدار فقال ألفا دينار مصرية فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية وثوب أطلس وعمامة مذهبة وحصاناً بطوق ذهب وسرج ذهب وسرفشار ذهب ودفع ذلك جميعه إلى الأمير أبي الفتح وقال له. قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس قال وبعد أيام حضر رجل من أهل المعرة يلقب بالزقوم وكان من أراذلها وفيه رحلة فطلب خبز جندي فأعطوه وجعلوه من أجناد حصن المعرة فلما وصل عمل الشيخ أبي الحسسن أحمد بن محمد بن الدويدة أهل المعرة تحت أقبح خطة ... وبهم أناخ الخطب وهو جسيم لم يكفهم أن أمر ابن الحصين ... حتى تجند بعده الزقوم يا قوم قد سئمت لذاك نفوسنا ... يا قوم أين الترك أين الروم واشتهرت الأبيات بالمعرة وحلب فسمعها الأمير أبو الفتح ابن حصينة فعبر على باب ابن الدويدة فسلم عليه أبو الحسين فقال له الأمير

ويلك يا ابن الدويدة هجوتني والله ما بي من الهجو مثل ما بي من كونك تقربني إلى الزقوم وتذكرني معه فضحك ابن الدويدة وقال والله الآن كان عندي الزقوم وقال والله ما بي من الهجو ما بي تذكرني مع ابن الحصينة وتقربني إليه فقال له ابن الحصينة قاتلك الله وهذا هجو ثان. ولجمال الدين المذكور ترسل حسن وديوان مشهور وكان لطيف الشعر جيد المعاني ومولد جمال الدين المذكور بأسيوط صعيد مصر يوم الإثنين ثامن شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وتوفي بالديار المصرية يوم الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة ودفن بسفح المقطم رحمه الله تعالى. ومن شعره: يا من إليه اتكالي ... في العسر والإملاق سؤال غيرك عندي ... شرك على الإطلاق لا تسأل الرزق إلا ... من قاسم الأرزاق وله رحمه الله تعالى: يا ملاذ المستجير به ... لا تؤاخذني بما سلفا

وله أيضا قد اثقلت ظهري أوزاري ... لي الويل إن ناقشني الباري كم ليلة أسرعت منها الخطا ... إلى الخطايا حلف إصراري وكم تجرأت على فاحش ... ولا أجير الأسد الضاري كيف يكون العذر في موقف ... يذلّ فيه كل جبار وتشخص الأبصار في حيث لا ... دار سوى الجنة والنار يا رب عفوا عن ذنوبي فما ... سألت إلا عفو غفار وقال عند قبر ابراهيم الخليل صلوات الله عليه خليل الله قد جئناك نرجو ... شفاعتك التي ليست ترد أنلنا دعوة واشفع تشفّع ... إلا من لا يخيب لديه قصد وقل يا رب أضياف ووفد ... لهم بمحمد صلة وعهد أتوا يستغفرونك من ذنوب ... عظام لا تعد ولا تحد ولكن لا يضيق العفو عنهم ... وكيف يضيق وهو لهم معد وقد سألوا رضاك على لساني ... ألهي ما أجيب وما أرد فيا مولاهم عطفاً عليهم ... فهم جمع أتوك وأنت فرد وله رحمه الله: يا مالك الملك يا من لا شبيه له ... عطفا على عبد سوء قد أساء الأدبا أحسنت مدة أيام الحياة له ... فما قضى ذلك يوما بعض ما وجبا

وله رحمه الله: ذكر الصبا فصبا وكان قد ارعوى ... صب على عرش الغرام قد استوى تجري مدامعه ويخفق قلبه ... فترى العقيق على الحقيقة واللوى وإذا تألق بارق من بارق ... طفقت تنم عليه أسرار الجوى لا يستطيع إذا جرى ذكر اللوى ... أن يطمئن فلا سقى الله اللوى وأنا نذير العاشقين فمن يرد ... طول الحياة فلا يذوقن الهوى فخذوا أحاديث الهوى عن صادق ... ما ضل في شرع الغرام ولا غوى وبمهجتي رشأ أطالت عذلى ... فيه الملام وقد حوى ما قد حوى ما أبصرته الشمس إلا واكتست ... خجلاً ولا غصن النقا إلا التوى قالوا فعيه سوى رشاقة قده ... وفتور عينيه وهل موتى سوى وروى الأراك محاسناً عن ثغره ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى ولقد يعز علي موتي ضامياً ... لمقبل منه الأراك قد التوى وله رحمه الله: قد رأيناك والغزالة تسنح ... فرأينا حلاك أحلى واملح وترنحت والقضيب ولكن ... لم يدع ناظراً إلى الغصن يطمح ولقد غض ناظر النرجس الغض ... حياء من مقلتيك وأفلح أي عين ترى له عيني ... ك فترنو من بعد ذاك وتفتح وادعى الورد أنه لون خدي ... ك ولا شك أنه كان يمزح

فلهذا صبا بحسنك قلب ... كان يدعى إلى الغرام فيجمح وعهدت الرقاد يألف جسمي ... فرأى جفنك المليح فرجح وله أيضاً رحمه الله: عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غصن رطيب بالنسيم قد اغتذى نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبذا يا ناظري أما وقد عاينته ... والله لا رمدا تخاف ولا قذا مهما اكتحلت بخده وعذاره ... لم تلق إلا عسجدا وزمردا جاء العذول يلومني من بعد ما ... أخذ الغرام علي فيه مأخذا لا أرعوى لا انثنى لا انتهى ... عن حبه فليهذ فيه من هذا والله لا خطر السلو بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا إن عشت عشت على هواه وأن أمت ... وجدا به وصبابة ياحبذا وقصد جمال الدين المذكور الأجتماع بالصاحب معين الدين ابن الشيخ فقيل له أنه يزور الشافعي رحمة الله عليه فقصده واجتمع به في قبة الشافعي فقال. زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... لزيارتي يوماً له بالتارك فوجدت مولانا الوزير يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك وقال حلفتم لنا أن لا تخونوا فخنتم ... وأن لا تميلوا للوشاة فملتم فإن كان هذا الغدر فيكم سجية ... فمن كان الجأكم إلى أن حلفتم

عفا الله عنكم ما أقل وفاكم ... ومن كرمى قولي عفا الله عنكم فيا ساكني قلبي المعنى بحبهم ... أما لكم قلب يرق ويرحم بحقكم ألا جنحتم إلى الرضا ... وقد طال هذا العتب منا ومنكم أحبكم في حالة السخط والرضا ... وأهواكم أحسنتم أو أسأتم ولي عاذل في حبكم ليس ينثني ... ولكنني عنه أصم وأبكم وله أيضا رحمه الله: ولما جفاني من أحب وخانني ... حفظت له الود الذي كان ضيعا ولو شئت قابلت الصدود بمثله ... ولكنني أبقيت للصلح موضعا وقد كان ما قد كان بيني وبينه ... أكيداً وكنت رعيت وما رعى سعى بيننا الواشي ففرق بيننا ... ذلك الذنب يا من خانني لا لمن سعى وله أيضا رحمه الله: يا قلب جاءك من تحبه ... وحنا ورقّ عليك قلبه فاغفر له ما قد جنا ... هـ وإن تعاظم منه ذنبه حب الحبيب إذا متفضلا ... يا قلب حسبه مستسلما بيساره ... كفن وفي يمناه عضبه أرضى وزاد على الرضا ... فحسيب من أغراه ربه وكتب إلى بهاء الدين زهير رحمه الله من آمد وهو محصور بها يقول سطرتها والسمهرية شرع ... من حولنا والمشرفية تلمع وعلى مكافحة العدو ففي الحشى ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع

ومن الصبا وهلم جرا شيمتي هذا الوفاء فكيف عنه أرجع وله في المعنى: أصدرتها والعو إلى شرع ترد ... في موقف فيه ينسى الوالد الولد وما نسيتك والأرواح سائلة ... على السيوف ونار الحرب تتقد وله أيضاً:؟ هي رامة فخذوا يمين الوادي وذروا السيوف تقر في الأغماد وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الآساد من كان منكم واثق بفؤاده ... فهناك ما أنا واثق بفؤادي ياصاحبي ولي بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادي سلبته من يوم رامة مقلة ... مكحولة أجفانها بسواد وبحي من أنا في هواه ميت ... عين على العشاق بالمرصاد وأغن مسكي اللمى معسوله ... لولا الرقيب بلغت منه مرادي كيف السبيل إلى وصال محجب ... ما بين بيض قنا وسمر صعاد في بيت شعر نازل من شعره ... فالحسن منه عاكف في بادي حرسوا مهفهف قده بمثقف ... فتاشبه المياس بالمياد قالت لنا ألف العذار بخده ... في ميم مبسمه شفاء الصادي

وله أيضاً: علقته من آل يعرب لحظه ... أمضى وأفتك من سيوف عريبه أسكنته بالمنحني من أضلعي ... شوقا لبارق ثغره وعذيبه يا عائبي ذاك الفتور بلحظه ... خلوه لي أنا قد رضيت بعيبه لدن وما مر النسيم بعطفه ... أرج وما نفح العبير نجيبه وقال وهو متمرض يا رب إن عجز الطبيب فداوني ... بلطيف صنعك واشفني يا شافي أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من ... شيم الكرام البر بالأضياف وله أيضا رحمه الله: من لي بغصن باللحاظ ممنطق ... حلو الشمائل واللمى والمنطق مثرى الروادف مملق من خصره ... أسمعت في الدنيا بمثر مملق وغريرة زارت على بخل بها ... لما بعثت لها زيارة مشفق لم أدر ما قالت وقد لمست يدي ... ماذا لقينا منه أو ماذا لقي خافت عواقب محنتي من أجلها ... فبكت لشمل دموعي المتفرق لا شيء أكتم من دجنة شعرها ... لو أن صامت حليها لم ينطق حتى الحنى لحسنها متوسوس ... فاعجب لحنى الجماد المنطق خد توقد إذ ترقرق ماؤه ... لهفي على المتوقد المترقرق ويروقني منها أخضرار خضابها ... والغصن ليس يروق ما لم يورق

فبحسنها هي زهرة للمشتري ... وبطيبها هي زهرة المستنشق ونظيرها الغصن النضير إذا انثنت ... في حلة حضراء من استبرق تعصى العذول عن الهوى وتطيعني ... فأنا السعيد بها وعاذلي الشقي فلكم بها من حلوه كرضا بها ... كعتا بها كتملقي وأقول يا أخت الغزالة ملاحة ... فتقول لا عاش الغزال ولا بقي يا شمس قلبي في هواك عطارد ... لولا تعلقه بها لم تحرق وأجل ذنبي عندها عدم الغنى ... فكأنه شيب ألم بمفرقي قالت سل الأملاك قلت أنا امرؤ ... يأبى السؤال خلائقي وتخلقي وإذا سألت سألت رباً رازقاً ... قطعت يد مدت إلى مسترزق لا كلفن الجرد ما لم تستطع ... صبراً عليه بيعملات الأنيق من كل ضامرة إذا سرت الصبا ... في إثرها عادت بسعي مخفق إن لم أنل بالمغرب الأقصى المنى ... حاولت ذلك ولو بأرض المشرق وكيف وكفى يسيرا من حسامك أن يرى ... قدم الفوارس وهو جد مخلق من معشر نسقوا سطوراً في العلى ... وغدا سواهم مثل دف ملحق وإذا الحديد حمي عليهم أبردوا ... بالمسح في بحر الحديد الأزرق لولا تكذبني قوائم بيضهم ... أقسمت أن أكفهم لم تطبق لم تقتطع يد السارق من مالهم ... إذ كان بيت المال ليس بمغلق

وقال وأمر أن تكتب على قبره أصبحت بعقر حفرة مرتهنا ... لا أملك من دنياي إلا كفنا يا من وسعت عباده رحمته ... من بعض عبادك المسيئين أنا وقال يمدح الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن العادل رحمه الله. وافي وأقبل في الغلالة ينثني ... فأراك خط المجتلى والمجتنى ورنا فما تغنى التمائم والرقي ... وأبيك من فتكات تلك الأعين رشأ من الإعراب مسكنه الفلا ... ولكم له في مهجتي من موطن أغناه ذابل قده عن ذابل ... وبشعره عن بيت شعر قد غنى قل للعواذل في هواه ألا انتهوا ... لاأرعوى لا انتهى لاانثنى يا لائمي في العشق غير مجرب ... أنا في الصبابة قدوة فاستفتني لا يخدعنك لفظ طرف فاتر ... أبداً ولا تأمن لعطف لين فالخمر وهي كما علمت لطيفة ... ولها من الألباب أي تمكن وبليتي من صائد لي نافر ... ومتى ينال الوصل من متلون ألبستني يا سالبي ثوب الضنى ... وأخذتني يا تاركي من مأمني حتى فؤادي خانني ووفى له ... وكذا الرقاد صبا إليه وملني سيا قلب ماآنست بعدك راحة ... فمتى أراك ويا كرى أوحشتني عهدي به ويدي مكان وشاحه ... والوجد باق والتجلد قد فنى

وشدا بشعري فافتتنت ويالها ... من فتنة شنعاء لو لم افتن شعري ومحبوبي يعنيني به ... فهناك تحسن صبوة المتدين لا شيء يطرب سامعاً لحديثه ... إلا الثناء على علام شاه أرمن الأشرف الملك الكريم المصطفى ... موسى وتمم بالكريم المحسن ملك إذا أنفقت عمرك كله ... في نظرة من وجهه لم تغبن ومتى انتخبت له دعاء صالحاً ... لم تلق غير مشارك ومؤمن يا أيها الملك الذي من فاته ... نظرإليه فما أراه بمؤمن أفنيت خيلك والصوارم والقنا ... وعداك والآمال ماذا تقتني أبقت ذلك الذكر الجميل مخلداً ... شيم لها الأملاك لم تتفطن وشجاعة رجف العدو لذكرها ... وشهامةً وبلاد عبد المؤمن ولى الخوادذمي منها هارباً ... وخلم جراً قلبه لم يسكن ودعاؤه في ليله ونهاره ... يا رب من سطوات موسى نجني ما كان أشوقني للثم بنانه ... ولقد ظفرت بلثمها فليهنني ودخلت من أبوابه في جنة ... يا ليت قومي يعلمون بأنني يا مكثري الدعوى أخفضوا أصواتكم ... ما كل رافع صوته بمؤذن أنا من تحدث عنه في أقطارها ... من كان في شك فليتقن هذا مقام لا الفرزدق ماهر ... فيه ولا نظراؤه لكنني إن شئت نظماً فالذي أمليته ... أو شئت نثراً فاقترح واستمحن

عاشت عداك ولا أشح عليهم ... عمى النواظر عنك خرس الألسن وله قصيدة يمدحه بها رحمهما الله تعالى يا شمس قلبي في هوا ... ك عطارد وقد احترق يثنى عليه عدو ... هـ فيقول حاسده صدق وقال عند اجتماعه بشمس الدين صواب العادلي بحران. ولماتيممناك قال رفاقنا ... إلىأين تبغي قلت خير جناب وقلت لصبحي شرقوا تبلغوا المنى ... فغير صواب قصد غير صواب وقال أيضاً في كتاب ورد عليه من أبيات. ولم ترى عيناي من قبله ... كتاباً حوى بعض ما قد حوى كأن المباسم ميماته ... ولاماته الصدغ لما التوى وأعينه كعيون الحسان ... تغازلنا عند ذكر الهوى كتاب نسينا بألفاظه ... زود وذكر الحمى واللوى وقال في دارا والشهاب ابن قاضيها المشهور ولا سقيت داراً ولا أهلها ... ولا ابن قاضيها الوقاح البذي ولا رعى الله له ذمة ... أعنى شهاب الدين ذاك الذي وقال وقد أمر بالسفر من دمشق. يقولون سلفر من دمشق ولا تقم ... وذلك أمر ما علي به بأس

فقلت على عيني وسمعا وطاعة ... فما جلق الدنيا ولا أنتم الناس وقال من جملة أبيات. فنعم فتى الأحيا ومستنبط الندى ... ومفرغ محزون وملجأ لاهث عباد بن عمرو بن الحليس بن صالح بن ... زيد بن منظور بن زيد بن وارث وله أيضاً رحمه الله خذوا قودى من أسير الكلل ... ويا عجبا لاسير قتل وقولوا على إذا نحتم ... طعين القدود جريح المقل وما كان يعلم أن العيون ... وأن القدود الظبا والاسل ولي جلد عند بيض الظبا ... وبالأعين السود مالي قبل وبي قمر ما بدا في الدجى ... وقابله البدر إلا أفل يضل بطرته من يشا ... ويهدي بغرّته من أضل وقد أخجل الشمس من حسنه ... ألم تر فيها اصفرار الخجل ويا فرحة الظبي لما غدا ... شبيهاً له في اللّمى والكحل لقد عدل الحسن في خلقه ... على أنه جار لما عدل فعمّ معاطفه بالنشاط ... وخص روادفه بالكسل وجاد الزمان به ليلة ... وعما جرى بيننا لا تسل فانحلت قامته بالعنا ... ق وذبلت مرشفه بالقبل وما أثرالمسك في راحتي ... وهذا فمي فيه طعم العسل وكم تهت في غور خصر له ... وأشرفت في نجد ذاك الكفل

وأذنت حين تجلّى الصبا ... ح بحى على خير هذا العمل وقد علم الناس أني امرؤ ... أحب الغزال وأهوى الغزل على. . قدرة الله سبحانه ... بإيجاد مثلك فليُستدل وله رحمه الله أجبتكم من قبل رؤياكم ... لطيب ذكر عنكم قد جرى كذلك الجنة محبوبة ... بوصفها من قبل أن تبصرا وله أيضاً بابي غزال تائه متصلف ... لانت معاطفه ولا يتعطف حلو الشمائل والتثنى واللمى ... من يجتلى من يجتنى من يرشف سكران لا يصحو وليس بمنكر ... قد صح أن الريق منه قرقف شاكي السلاح وما تكلف حمله ... اللحظ سيف والقوام مثقف هجر الكرى جفنى وواصل جفنه ... يا قوم حتى النوم لي يستضعف وسرى إلى جسدي ضنى أجفانه ... لا ياضنى جسدي أرق وأضعف لما بدا للغانيات وقد بدا ... من حسنه للعين ما لا يوصف قطعن أيديهن حين رأينه ... لما افتتن وقلن هذا يوسف اشكو إليه وما عسى أن اشتكي ... هو بالذي ألقاه مني أعرف كبد يفيض نجيعها من أدمعي ... حتى كأني من جفوني أرعف ووحقه لم يبق في بقية ... ولقلما يلقى الكئيب المدنف ولربما أخلو به متعففاً ... والنفس من وجد به تتلهف

وإذا سمعت بعاشق متعفف ... فاعلم باني العاشق المتعفف وله أيضاً ما زلت نحو لقا ... ئه متشوفا اذكى العيون عليه ... حتى زارني متخوفا فظفرت منه بزورة ... يوماً وقد برح الخفا وشكوت ما ألقى إل ... يه فرقّ لي وتعطّفا وعتبته حتى استقال ... وقال مثلك من عفا وغدا يلاطفني ولم ... أر مثله متلطفا يومى الى بخده ... فإذا هممت تصلّفا ويهز نحوى عطفه ... فإذا عزمت تأففا إني لعف في هوا ... هـ وأعشق المتعففا وقال في غرض عرض سمعتها تشتكي لدايتها شكوى ... تذيب القلوب والمهجا تقول يا دايتي بليت به ... وما أرى من هواه لي فرجا ومثل ما بي به ولا عجب ... هوى بقلبي وقلبه امتزجا أهل سبيل إلى الوصول له ... ولو ركبت القفار واللججا وان درى والدي بقصتنا ... أراق يا دايتي دمى حرجا فُرحت بما سمعت في طرب ... كشارب الراح راح مبتهجا

وله رحمه الله أهواه أسمر في اعتدال الأسمر ... يختال في روق الشباب الأخضر مترنح كالغض أو متألق ... كالبدر أو متلفت كالجؤذر من لم يشاهد شعره وجبينه ... ما فاز ناظره بليل مقمر لعبت ذوائبه على أردافه ... كالأقحوان على كثيب أعفر صدقت أن بوجنية جنة ... لما وجدت رضا به من كوثر ولقد غنيت بخده وبثغره ... ما شئت من ذهب وقل من جوهر ويقال أن الطرف مني فاسق ... صدقوا ولكني عفيف المئزر وقال واظنها في الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. يا بعيد الليل من سحره ... دائماً يبكي على قمره خل ذا واندب معي ملكاً ... ولّت الدنيا على أثره كانت الدنيا تطيب لنا ... بين باديه ومحتضره سلبته الملك أسرته ... واستووا غدراً على سُرره حسدوه حين فاتهم ... في الشباب الغض من عمره وله أيضاً سيف بجفنيك إذا ما انتضى ... فلّ شبا الأسمر والأبيض قتلاه من أكبر عشاقه ... والحب من أعجب شتى قضى

من عجب الدنيا وما تنتهي ... عجائب الدنيا ولا تنقضي توفر الرغبة في زاهد ... وشدة الميل إلى معرض تغاير الورد على خده ... فامتزج الأحمر بالأبيض وله في الملك الناصر داود ثلاثة ليس لهم رابع ... عليهم معتمد الجود الغيث والبحر وعززهما ... بالملك الناصر داود وله في بدر الدين صاحب الموصل وقد ركب في شبارة لله شبارة حوت ملكاً ... كأنما الأرض في يديه كره فاعجب لها اذجرت به ... وبها انمله وهي أبحر عشره وله أيضاً انتبه من نوم سكرك ... واسقني من خمر ثغرك فإذا ما شئت فانبذ ... ني ولكن خلف ظهرك وله رحمه الله بات في أثناء صدري ... غصن نيط ببدر بدوى نازل من شع ... ره في بيت شعر حامل نجداً وغورا ... منه في ردف وخصر ما رنا واهتزالا ... كان في بيض وسمر حبذا ليلة وصل منه ... بل ليلة قدر

أشرفت عن نور وجه ... وسنا كأس وثغر وتعانقنا فما ظن ... ك في ماء وخمر وتعاتبنا فقل ما ... شئت من ذل وسحر ثم لما أدبر اللي ... يل وجاء الفجر يجري قال إياك رقيبي بك يدري قلت يدري وله رحمه الله: وافي كتابك بعد فتره ... فنفى المساءة بالمسره وفضضته فلثمته ... لما غدا في الحسن نُدره واوية الأصداغ والألفات ... قامات به والسين طرّه فطربت حين قرأته ... وسكرت لكن ألف سكره فحسبت أن الطرس من ... هـ زجاجة واللفظ خمره وله رحمه الله قسماً بفيك وما حوى ... قسمٌ عظيم في الهوى ما ضلّ صاحب مهجةٍ ... ذابت عليك وما غوى يا أيها القمر الذي ... نجم السلوبه هوى ماذا أثرت على القلوب ... من الصبابة والجوى واغن في أعطا فه ... هزوء بأغصان اللوى أفدى الذي فاديته ... وركابه بيد النوى

مولاي حبّك نيتي ... ولكل عبد مانوى وله رحمه الله ما كنت أحسب أني بين أظهركم ... أني وأهلي مع مالي من الخدم وكان عهدي بسيف الدين يذكرني ... والسيف يقطر حدّاه عبيط دم فما له اليوم والأيام تخدمه ... أضاع حقي على ما فيه من كرم وله أيضاً وما للجمال بوجنتيك معين ... لو كان لي عندا الورود مُعين لكن حمته أسنّة واعنّة ... فلكم قتيل حولها وطعين كيف الورود حولها من تغلب ... أسدٌ لها زرق النصال عيون سقط الجياد تحاورت أجسادهم ... وتراحمت أسد الشرى والعين يفرى المهاة وما يليها ضيغم ... وترى الكناس وما يليه عرين فهناك فوق الأرض أقمار الدجى ... يسعى بها تحت البرود غصون فالليل ثم عبارة عن طرة ... إن كنت تفهم والصباح جبين من كل ضاربة اللثام وإنما ... تحت اللثام محاسن وفنون في خدها ورد ونسرينٌ ولا ... ورد حقيقي ولا نسرين ولقد يلين لي الصفا وفؤادها ... كالصخرة الصماء ليس تلين

يا قلب ويحك ما تفيق من الجوى ... أمع الزمان توله وجنون ذلك كل يوم صبوة عذرية ... أعليك نذر أم عليك يمين وبكل قلب أنت صبٌ هائم ... وبكل خد مغرم مفتون سُئل الضرائر عن حقيقة ثغرها ... يوماً فقلن اللؤلؤ المكنون وأفادني المسواك أن رضا بها ... شهد ومسك والأراك أمين وإذا تساقطك الحديث فإنما ... سحرواى نهُى هناك يكون محجوبة في خدرها محبوبة ... إن الجمال يُحب وهو مصون قارنت معترك المنايا فاتئد ... ودع التصابي عنك يا مسكين ودنا رحيلك فاتخذ زاداً ولا ... تقلل فإن الشوط منك بطين وبباب مولاك الكريم فقف ولا ... تسأم فإنك بالنجاح قمين وله رحمه الله هزوا القدود ورهّفوا سمر القنا ... واسترهفوا بدل السيوف الأعينا وتقدموا للعاشقين فكل من ... أخذ الضمان لنفسه إلا أنا لا إن لي جلداً ولكني أرى ... في الحب كل دقيقة ان افتنا لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقاً ولا جسم تحاماه الضنى وأنا الفد البابلي لحظه ... لا تستطيع الأسد تثبت إن دنا إن البدور هوت من أفقها ... حتى يرى منها أتمّ وأحسنا

لما انثنى في حُلة من سندس ... قالت غصون البان ما أبقى لنا هذا على إن الغصون تعلمت ... منه الرشاقة بينها لما أنثنى وبخده وبثغره وعذاره ... عرف العقيقى وبارق والمنحنى أقسى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير تراه خدا إلينا شبهته بالبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي والله ظلما بيننا وهذه القصيدة النونية وازن بها قصيدة القاضي ناصح الدين أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني رحمه الله وتلك من غرر القصائد فلا بأس بإيراد شيء منها ومن غيرها من شعر الأرجاني فإنه من جيد الشعر وأول القصيدة النونية المذكورة. وردُ الخدود ودونه شوك القنا ... فمن المحدث نفسه أن يجتنى لا تمدد الأيدي إليه فطالما ... شنّوا الحروب لأن مددنا الأعينا ورد تخيّر من مخافة نهبه ... باللحظ من ورق البراقع مكمنا يُلقى الكمام مع الظلام إذا دجا ... ويعود فيه مع الصباح إذا دنا ولطالما وجد الخلاف وإلفه ... دينا لعمرك للحسان وديدنا قل للتي ظلمت وكانت فتنة ... ولو أنها عدلت لكانت أفتنا لما سألت الثغر عنها لؤلؤاً ... قالت أما يكفيك جفنك معدنا

إيراد صونك بالتبرقع ضلة ... وأرى السفور لمثل حسنك أصونا كالشمس تمتنع اجتلاؤك وجههافإن اكتست برقيق غيم امكنا غدت البخيلة في حمى من بخلها ... فسلوا حماة الحيّ عمّ صدّنا رأيت طروق خيالها قالت متى ... جرّ الرماح من الفوارس نحونا هل عند حيّ العامرية قدرةٌ ... أن يفعلوا فوق الذي فعلت بنا ما هم بأعظم فتكة أو بارزوا ... من طرف ذات الخال إن برزت لنا إن كان قتلى قصدهم فليرفعوا ... كل الضغائن وليخلوا بيننا ماذا لقونا من لقاء فواتن ... لولا مراقبة العيون اربننا في ليلة حسدت مصابيح الدجى ... كلمى وقد كانت لها هي ازينا قلمى بها حتى الصباح وشمعتي ... بتنا ثلاثتنا ومدحك شغلنا حتى هزمنا للظلام جنوده ... لما تشاهرنا عليه الا اسنا أفناهما قطى وأفنيت الدجى ... سهراً وأصبحنا وأسعدهم أنا زرع الطعان فسنبلت في ساعة ... من هامهم وشعورهم سمر القنا أما الرجاء فلم يزل متغرباً ... حتى إذا وافى ذراك استوطنا يا ماجداً عبق الزمان بذكره ... والذكر في الأيام نعم المقتنى

يزداد عندك حسن ما نثني به ... كمزيد ما توليه حسناً عندنا فبلغت قاصية المدى وملكت نا ... صية العُلى وحويت عاصية المنى وبقيت من غير انقطاع ماضياً ... وبلا تغير آخر متمكناً وقال أيضاً على هذه القافية قف يا خيال وإن تساوينا ضنى ... أنا منك أولى بالزيارة موهنا وعقلت ناجيتي بفضل زمامها ... لما رأيت خيامهم بالمنحنى وتطلعت فأضاء غرة وجهها ... بالليل أيسر منهجي والإيمنا لما طرقت الحي قالت خيفة ... لا أنت إن علم الغيور ولا أنا فدنوت طوع مقالها متخفياً ... ورأيت خطب القوم عندي أهونا ومعي وليس معي سواه صاحب ... عضب أذود به الخميس الأرعنا حتى رفعت عن المليحة سجفها ... يا صاحبي فلو أن عينك بيننا سترت محياها مخافة فتنتي ... بنقابها عني فكانت أفتنا وتكاملت حسناً فلو قرنت لنا ... بالحسن إحساناً لكانت أفتنا قسماً بما زار الحجيج وما سعوا ... زُمراً وما نحروا على شطي منى ما اعتاد قلبي ذكر من سكن الحمى ... إلا استطار وملّ صدري مسكناً أما الشباب فقد تعاهدنا على ... أن لا نزال معافكان الإخونا

وتلون الأيام علّم مفرقيفعل الأحبة في الهوى فتلونا يا طالب الثأر المنيم وسيفه ... في الغمد لا تحسب مرامك هينا أتراك تملأ من غرار أجفنا ... حتى تفرغ من غرار أجفنا أوما رأيت السيف هو مُصلت ... ما زالت يحكم بالمنايا والمنى لما ادعى الأقلام فضلاً عنده ... غضب الحديد فشق منها الألسنا حتى إذا زادت بذاك فصاحة ال ... أقلام حار النصل لما إن دنا وأراد أن يُضحى لسانا كله ... حتى يقر بفضله فتلسّنا ولقلما غرى الحسود بفاضل ... متيقضاً الأوزيد تمكنا ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى وله أيضاً: صوتُ حمام الأيك عند الصباح ... جدد تذكاري عهد الصباح علمننا الشجو فيامن رأى ... عُجما يعلمن رجالاً فصاح ألحان ذات الطوق في غصنها ... تذكرني أزمان ذات الوشاح لا أشكر الطائر إن شاقني ... على نوى من سكنى وانتزاح وإنما أشكر لو أنه ... أعارني أيضاً إليه جناح

أكلما اشتقت الحمى شفني ... لاح إذا برق من الغو لاح يريد اغرائي إذا لامني ... وربما أفسد باغي الصلاح ماذا عسى الواشون أن يصنعوا ... إذا تراسلنا بإيدي الرياح وربّ ليلٍ قد تدرّعته ... رهين شوق نحوكم وارتياح يروي غليل الأرض من عبرتي ... وبي إليكم ضماً والتياح حتى بدت تطلق طير الدجى ... من شرك الأنجم كفّ الصباح لا غرو إن فاضت دماً مقلتي ... فقد غدت ملأ فؤادي جراح بل يا أخا الحي إذا زرته ... فحيّ عني ساكنات البطاح وارم بطرف من بعيد فمن ... دون صفاح اليبض يبضُ الصفاح وآخر العهد بأضعانهم ... يوم حدوا تلك المطى الطلاح وعارض الركب على رقبة ... مدير الحاظ مراض صحاح لما جلا لي عند توديعه ... رياض حسن لم تكن لي تباح جعلت مما هاج بي شوقها ... وجهي وقاحاً وجنيت الأقاح فكيف ألقى الدهر قرناً وقد ... أصبحت لا أملك ذاك السلاح يا كعبة للمجد ما هولة ... إذا غدا الوفد إليها وراح

يفديك قوم حاولوا ضلة ... تناولوا المجد بأيدٍ شحاح معاشر أموالهم في حمى ... وعرضهم من لؤمهم مستباح امّلتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح لولاك يا شمس ملوك الوري ... لم يبق في طرق الرجا انفاح إلى ذراك الرحب وجهتها ... وقد براها السير برى القداح من بلد ناء ولم اعتد ... بعد المدى إلا لقرب النجاح فاسمع ثناءً ذلك أبدعته ... كأنه المسك إذا المسك فاح من كلماتٍ كلما نُظمت ... فللآلئ عند هن افتضاح وسوف أهدى لك أمثالها ... إن كان في مدة عمري انفساح فدم لأهل الفضل تغنيهم ... فواضلاً ما شعشعت كأس راح لا عرفو غيرك مولىً لهم ... ما اتصلت منهم بنانٌ براح وقال: لولا رجائي للقائه ... ما كنت أحيا ساعة في نائه ومقرطق لو مدّ حلقة صدغه ... من قبله نمّت بعقد قبائه غصنٌ إذا ما ماد في ميدانه ... أسدٌ إذا ما هاج في هيجائه في جفن ناظره وجفن حسامه ... سيفان مختلفان في أنحائه

فبواحد يسطو على أحبابه ... وبواحد يسطو على أعدائه قمر غدا روحي وراح مفارقي ... والجسم والروح امتساك بقائه فتعجبي إن عشت بعد فراقه ... وتحسُّري إن مُت قبل لقائه وقال: إذا الحمام على الأغصان غنانا ... في الصبح هيّج للمشتاق أحزانا وُرق يُرددن لحناً واحداً أبداً ... من الغناء ولا يُحسن ألحاناً ظلم من الإلف ينسانا ونذكره ... حتام نذكر إلفا وهو ينسانا قل للبخيلة أن تهدي على عجل ... تحيّة حين نلقاها وتلقانا ماذا عليك وقد أصبحت مالكةً ... أن تخرجي من زكاة الحسن إحساناً استودع الله قوماً كيف أبعدنا ... تقلب الدهر عنهم حين أدنانا يمناه بعد من التسليم ما فرغت ... اذمدّ يسراه للتوديع عجلانا لم يملأ العين من أحبابه نظراً ... إذ غادر الدمع منه الجفن ملآنا جيراننا رحلوا والله جارهم ... مستبدلين بحكم الدهر جيرانا وإن نسر فدواعي الشوق تأمرنا ... وإن نقم فعوادي الدهر تنهانا يا من غدا مبدئاً شكوى أحبته ... لما رأى حيث يرجى الوصل هجراناً ما إن أرى سحب هذا الدمع مقلعة ... حتى تغادر في خديك غدرانا

تخاله الشمس وجهاً والسماء ندىً ... والغيث عند الرضا والليث غضباناً تعلو فناك نسور الجو آلفة ... إلف الحمام علت للأيك أغصاناً حيث الغبار يسد الجو ساطعه ... والخيل تحمل للأقران أقراناً والطعن يحفر في لبّاتها قُلُبا ... تظل فيها رماح القوم اشطانا غرٌّ تظل تبارى في أعنتها ... يحملن أغلمة في الروح غرّانا تفل كتبك إن سارت كتائبهم ... إذا العدى عاينوا منهن عنواناً وقال: وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء ثم غارت من أن يماشيها الظ ... ل فزارت في ليلة ظلماء ثم خافت لما رأت أنجم اللي ... ل شبيهات أعين الرقباء فاستعارت طيفاً يلمّ ومن ... يملك طرفاُ يهمّ بالإغفاء هكذا نيلُها إذ نوّلتنا ... وعناء تسمّح البخلاء يهدم ألا نتهاء باليأس منها ... ما بناه الرجاء في الابتداء وأرت أنها من الوجد مثلى ... ولها للفراق مثل بكائي

قتباكت ودمعها كسقيط الط ... ل في الجلنارة الحمراء وحكى كل هدبة لي فتاة ... انهرت فتق طعنة نجلاء فترى الدمعتين في حمرة الل ... ون سواء وما هما بسواء خدها يصبغ الدموع ودمعي ... يصبغ الخد قانيا بالدماء خضب الدمع خدّها باحمرار ... كاختضاب الزجاج بالصهباء وقال: قلبُ المشوق بان يساعد اجدر ... فإذا عصاه فالأحبّة اعذر لا طالب الله الأحبة أنهم ... ناموا عن الصب الكئيب واسهروا هجروا وقد وصّوا بهجري طيفهم ... يا طيف حتى أنت ممن يهجر دون الخيال ودون من تشتاقه ... ليلٌ يطول على جفون تقصر ومخيمون مع القطيعة إن دنوا ... هجروا وإن راحوا إلينا هجروا فصروا الزمان على صدود أو نوىً ... والعمر من هذا وذاك أقصر وغدوا ومن عيني لهن منيحة ... تُمرى ومن قلبي وطيس يسعر أعقيلة الحي المطنب بيتها ... حيث القنا من دونها تتكسر كالبدر إلا أنها لا تجتلى ... والظبي إلا أنها لا تذعر أخفى إذا فارقت وجهك من ضنى ... فادق عن درك العيون فاصغر

وأرى بنورك كل ما ادنيتني ... وكذا السُها ببنات نعش يبصر وغدت مودعة فقلبُ يلتظىحتى تعود ومقلة تستعبر وكأنما تركت بخدي عقدها ... ليكون تذكرة به تتذكر وقال رحمه الله: إلى خيالٍ خيالٌ في الظلام سرى ... نظيره في خفاء الشخص إن نظرا سارْ ألمّ بسارٍ كامنين معاً ... عن النواظر في ليل قد اعتكرا كلاهما غاب هذا في حجاب ضنى ... عن العيون وهذا في حجاب كرى تشابها في نحول وادراع دجى ... وخوض أهوال بيدو اعتياد سُرى فليس بينهما إلا بواحدة ... فرق إذا ما أعاد الناظر النظرا بإنه ما درا الطيف الطروق بما ... لاقى من الليل والصبر المشوق درى سرى إلى ولم يشتق ومن عجب ... إلى المشوق إذا غير المشوق سرى ظبي من الإنس مجبول على خُلُق ... للوحش فهو إذا آنسته نفرا معقرب الصدغ يحكي نور غرّته ... بدراً بدا بظلام الليل مُعتجرا مذ سافر القلب من صدري إليه هوى ... ما عاد قط ولم أعرف له خبرا

وهواً لمسيء اختيار اذنوى سفراً ... وقد رأى طالعاً في العقرب القمرا وله يقول: أقول وقد ذم الوزير زمانه ... من العجز ذمّ العاجز المتحير تذم زمان السوء يا صدر ظالماً ... ولولا زمان السوء لم تتصدر وقال أيضاً: حيث انتهيت من الهجران بي فقف ... ومن وراء دُمى سمر القنا فخف يا عابثاً بعدات الوصل يُخلفها ... حتى إذا جاء ميعاد الفراق يفي إعدل كفاتن قدّ منك معتدل ... واعطف كسائل غصن منك منعطف ويا عذول ومن يصغي إلى عذل ... إذا رنا أحمر العينين ذوهيف تلوم قلبي إن أصماه ناظره ... فيم اعتراضك بين السهم والهدف سلوا عقائل هذا الحي أي دم ... للأعين البخل عند الأعين الذرف يستوصفون لساني عن محبتهم ... وأنت أصدق يا دمعي لهم فصف ليست دموعي لنار الشوق مطفيئة ... فكيف والماء بادٍ والحريق خفى لم إنس يوم رحيل الحيّ وقفتنا ... والعيس تطلع أولاها على شرف

والعين من لفتة الغيران ما حظيت ... والدمع من رقبة الواشين لم يكف وفي الحدوج الغوادي كل آنسة ... إن ينكشف سبحفها للشمس تنكسف تبين عن معصم بالوهم ملتزم ... منها وعن مبسم باللحظ مرتشف في ذمة الله ذاك الركب إنهم ... ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف فإن أعش بعدهم فرداً يا عجبي ... وإن أمت هكذا وجدا فيا أسفي قل للذين رمت بي عن ديارهم ... أيدي الخطوب إلى هذا النوى القذف إن أبق ارجع إلى العهد القديم وإن ... الق الوزير من الأيام انتصف ملك تطوف البرايا حول سدته ... ومن يجد للأماني كعبة يطف ظل من الله ممدود سرادقه ... مدّا من الطرف الأقصى إلى الطرف تطعية الشهب في الأفلاك دائرة ... والبيض في الهام والأقلام في الصحف تلوح بين بني الدنيا فضائله ... كما تبرجت الأقمار في السدف بادى التواضع للزوار من كرم ... أن التواضع أقصى غاية الشرف في كفّه قلمٌ يعنو الزمان له ... ويسمن الخطب منه وهو ذو عجف الدين والملك منه كوكبا أفقوالجود والبأس منه درتا صدف ومن ورائي أصحاب تركتهم ... في منزل بخطوب الدهر مكتنف

لاذوا بستر رقيق من تجملهم ... إن لم ينلهم وشيك الغوث ينكشف وقد رأوني بسعد الأرض متصلاً ... وينظرون بما ذاعنه منصرفى فابسط يميناً كصوب المزن ماطرةً ... واسمع ثناءً كنشر الروضة الأنف ما في بني زمني الآك ذو كرم ... يظل يأوي الفتى منه إلى كنف فاسلم ففيك لنا ممن مضى خلف ... وليس عنك فلا نعدمك من خلف في ظل عمر كعمر الدهر متصل ... وشمل ملك كنظم العقد مؤتلف وله دوبيت: مني قلقٌ ومن سيلمى ملق ... من مفرقها دجى وفرق فلق لا غرو إذا رأيتنا نفترق ... الليل مع النهار لا يتفق وقال: هم نازلون بقلبي أيةً سلكوا ... لو أنهم رفقوا يوما؟ ً بمن ملكوا ساقوا فؤادي وابقوا في الحشا حرقاً ... حزني لما أخذوا مني وما تركوا لما بكوا لا بكوا والركب مرتحل ... من لوعة ضحك الواشون لاضحكوا زمّوا وقد سفكوا دمعي ركائبهم ... فكدت أغرق ما زمّوا بما سفكوا وراغى يوم تشييعي هوادجهم ... والعيس من عجل في السير ترتبك

ستران ستر على الأقمار منفرج ... يبدو وآخر للعشاق منهتك أضمّ جفى عليه حين يطرقني ... كما يضم على وحشية شرك ما روضة اضحكت صبحا مباسمها ... دموع قطر عليها الليل ينسفك فالنرجس الغض عينٌ كلها نظر ... والاقحوانة ثغر كله ضحك وللشقائق ذي وسطها عجب ... إذا تمايلن والأرواح تأتفك حمر الثيات تطير الريح شائلة ... إذيالها وهي بالأزرار تمتسك إذا الصبّا نبهت أحداقها سحرا؟ ً ... حسبت مسكاً على الآفاق ينفرك أنمّ طيبا؟ ً وحلياً من ترائبها ... إذا اعتنقنا وخيل الليل تعترك وللسماء نطاق من كواكبها ... عقدن منه على أعطافها حبك قد أشعل الشيب رأسي للبلى عجلاًوالشمع عند اشتعال الرأس ينسبك فإن يكن راعها من لونه يققٌ ... فطالما راقها من قبله حلك يظل ينفح من أعراضهم عبق ... وللحديد على أثوابهم سهك كأن أوجههم والروع يبذلها ... غرا دنانير لم تنقش لها سكك من كل أزهر مثل النجم يحمله ... طودٌ له الليل مسك والضحى مسكُ

حتى رأها أسودا ما بها عزل ... برزن فوق جياد ما بها صكك طرقن حي العدى في عقر دارهم ... والنوم ملء جفون القوم لو تركوا والطعن ينسج أشطان القنا ظللا ... يلقى على فرج الحجب التي هتكوا إلى ذراك قوام الدين سار بنا ... خوص كما اصطف من نخل القرى سكك قد ثوروهن أدنى خطوها سفر ... شوقا إليك وأبطأأمرها رتك تسري طوالب أيديها بأرجلها ... مد الليالي فلا فوت ولا درك حتى ترى ملكا يشفي بروئيته ... من الزمان صدوراً كلها حسك وهاكها توقر الحساد من كمد ... كأنما هي في أسماعهم سكك قوافيا بدويات وما بعثت ... بها من البدو لاعرض ولا أرك جاءت بهن يد بيضاء فانتظمت ... زهرا تلقف للأقوام ما أفكو سحر من الشعر اعجزت الفحول به ... وأعجزتني حتى بعتها الرمك لما دفعت إلى دهر تنمر لي ... برائعات فأمري بينها لبك

العقل فيه عقال والسداد سدى ... والفضل فيه فضول والنهى نهك قد بعت طرفي وهذا مطرفي وغدا ... ابيعه ولطرفي أدمع سفك مدحي الملوك وأكلي الكف مقتنعا ... هذا لعمرك في أبائكم هتك فاعطف فإن حمى العلياء منتهب ... إن لم تغث وحريم المجد منهتك وله يقول: هو ما علمت فاقصري أو فاعذلي ... وترقبي عن أي عقبى تنجلي لا عار إن عطلت يداي من الغنى ... كم سابق في الخيل غير محجل صان اللئيم وصنت وجهي ماله ... دوني فلم يبذل ولم أتبذل أبكي لهم صافني متأدبا ... إن الدموع قرى الهموم النزل لا تنكري شيبا ألم بمفرقي ... عجلاً كأن سناه سلة منصل فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني ... منها ثلاث شدائد جمعن لي أسف على ماضي الزمان وحيرة ... في الحال منه وخشيةالمستقبل ما إن وصلت إلى زمان آخر ... إلا بكيت على الزمان الأول لله عهد بالحمى لم أنسه ... أيام أعصى في الصبابة عذلي ومدلة بالحسن لا تبدي الرضا ... حتى أحكم سهمها من مقتلي رحلت وناب خيالها في ناظري ... عن وجهها فكأنها لم ترحل

وآبى خلاصي من طويل عذابها ... قلب متى يعد التسلي يمطل يعفو عن الجاني وإن لم يعتذر ... ويجود للعافي وإن لم يسال وقال: أهلا بوجهك من صباح مقبل ... وبجود كفك من سحاب مسبل وإذا الصباح مع السحاب ترافقا ... متسايرين إلى معالم منزل سعدت فأشرق كل ناد مظلم ... منها وأخصب كل واد ممحل قل للعيون وللشفاه من الورى ... لما بدا كالعارض المتهلهل السعد في ذاك الجبين فطالعي ... واليمن في تلك اليمين فقبلي أضحى قرار الدولتين بسعيه ... وبعزمه الماضي مضاء المنصل والارض ساكنة لدور دائم ... يعتاده فلك عليه يعتلي وذراه مزدحم الوفود تؤمه ... أبدا لأن نداه غدب المنهل فإذا أتى الممتاح حقق بالندى ... منه الأماني ثم قال له أسأل تلك البقية بعد باقية كما ... كانت وعقدة أمرها لم تحلل ولقد كلفت بها ورأيك وحده ... حسبي به سببا وإن لم تكفل فاعدلها نظر الكرام فليس في ... تحصيلها إلى عليك معولي فإذا أردت الجاه كنت مناولي ... وإذا أردت المال كنت منولي

وأنا الذي مالي سواك ذخيرة ... ولقد خبرتك في الزمان الأول من أي وجه كنت أقبل راغبا ... قابلت تطويلي بفرط تطولي لازلت تخطر في عراص سعادة ... وتجر أذيال البقاء الأطول وقال: هم منعوا مني الخيال المسلما ... فلا وصل إلا أن يكون توهما إذا ما سرى ركب النسيم أعترضته ... لأخبار من أحببته متنسما فياليل نجد ما صباحك عاندا ... ولكن من في الغور فيك تبسما تمزقت الظلماء عن ثغر غادة ... أضاء من الآفاق ما كان مظلما إذا وجهها والبدر لاحا بليلة ... فما أحد يدري من البدر منهما فاقسم لو لم يدن من برد ريقها ... لاوشك جمر الخد أن يتضرما وقد نسجت كف الثريا على الثرى ... من الروض وشيا بالاقاحي منمنما ورقرق فيه دمعها كل ديمة ... ولو أنه من مقلتي كان أدوما وما الجود في صوب السحاب سجية ... ولكنه من دمع عيني تعلما فياليت لا ينفك طرفي وخاطري ... مدى الدهر يلقي الدر فذاو توأما لملاك قلبي بالهوى ولمالكي ... بسالفة النعمى التي كان أنعما فاذرى لهم در البكاء مبددا ... وأهدي لهم در المديح منظما

لأعلى الورى في قنة المجد مطلعا ... وأكثرهم في قنية الحمد مغنما هلال بدا نجم سما قدر سطا ... سحاب همي طود رسا أسد حمى لاوسعت أنعاما فلا زلت منعما ... وبالغت إكراما فلا زلت مكرما ولا خفض الأقدار ما كنت رافعا ... ولا نقض الأيام ما كنت مبرما وقال رحمه الله: يامودع السرسرا عند أجفاني ... ومتبع السر إيصاء بكتماني لله بدر وأطراف القنا شهب ... يجلوه فيهن من صدغيه ليلان تقول للبدر في الظلماء طلعته ... بأي وجه إذا أقبلت تلقاني وجه السماء مرآة لي أطالعها ... والبدر وهنا خيالي فيه لا قاني لم أنسه يوم أبكاني وأضحكه ... وقوفنا حيث أرعاه ويرعاني كل رأى نفسه في عين صاحبه ... فالحسن أضحكه والحزن أبكاني قد قوس القد توديعا وقربني ... سهما فابعدني من حيث أدناني وكنت والعشق مثل الشمع معتلقا ... بالنار أبقيته جهلا فأفناني يامن بطرف وقد منه غادرني ... متعتعا بين مخمور وسكران كم فتل صدغيك طول الدهر تلبسه ... أذنيك قيدا وقلبي عندك العاني

والساحران هما العينان منك لنا ... فكم تعاقب بالتنكيس قرطان أغر يمتاح من قلب القلوب له ... خمر المياه دراك اسمر أشطان تكل إن سار عين الشمس عنه سنىً ... حتى تود لو انصانت بأجفان لكن مظلته تضحي مسدتها ... فيتقي نورها منه بأكنان إذا بدا طالعا في سرج سابقه ... في يوم هيجاء أو في يوم ميدان فالطرف حاكى رياح أربع حملت ... قصرا وفارسه حاكى سليمان يقرى الولي ويقرى بالعدو إذا ... ما ضافه جائعاً نسر وسرحان كم يفتدي كلما شاء القنيص له ... غر على الغر من خيل وغلمان وفي الكنائن منهم وفي الأكف معا ... إلى وحوش الفلا جندا خليطان من كل سهم وسهم طائر بهمامن مستعار ومملوك جناحان زرق جوارح أو زرق جوارح قد ... علقن منهم بأيسار وأيمان وكل مستردف يعدو الحصان به ... مثل السبايا قعودا خلف فرسان يقول خاطت له ثوبا أديم نقي ... من فار مسك فتيق أدم غزلان كأن في كل عضو منه من شره ... إلى التقنص مفتوحات أعيان

واغضف مثل نجم القذف من سرع ... إذا عدا لاحق الأحشاء طيان يعود في كفه خطفا وسيقته ... كأنها قبسة في كف عجلان ما بال تصوير أسد في سرادقه ... وليس يملأ خوفا منه عينان ليس السعادة إلا كالكتاب ولا ... حسن أختيار الفتى إلا كعنوان كان ناصح الدين الأرجاني ناظم هذه المقطعات من الفضلاء الأعيان تولى قضاء تستر وعسكر مكرم وسلفه من الأنصار رضي الله عنهم ومولده سنة ستين وأربعمائة وتوفي بتستر في شهور ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى وقد تقدم ذكر ابن حيوس في صدر هذه الترجمة وهو محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس بن محمد بن مرتضى بن محمد بن الهيثم بن عثمان الغنوي الملقب مصطفى الدولة ولد بدمشق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وتوفي بحلب في شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى. سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عبد الرحمن أبو المظفر عون الدين بن أبي القاسم بهاء الدين بن أبي علي بن غالب الكرابيسي الأديب الكاتب المعروف بابن العجمي الحلبي الشافعي ناظر

الجيوش في الأيام الناصرية، مولده بحلب ليلة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وقيل سنة خمس وستمائة سمع من القاضي بهاء الدين بن أبي المحاسن يوسف بن رافع بدمشق تميم المعروف بابن شداد وغيره، وحدث وتولى بحلب الأوقاف الدينية ثم حظي عند الملك الناصر رحمه الله تعالى فقربه وأدناه وكان رئسياً عالماً فاضلاً جليل القدر كريم الأخلاق حسن العشرة لطيف الشمائل جيد الكتابة خبيراً بقوانينها متأهلاً للوزارة وغيرها من الرتب الجليلة وبيته مشهور بالعلم والحديث والرياسة والكتابة والتقدم والسنة والجماعة وتوفي عون الدين المذكور بدمشق في نصف ربيع الأول ودفن من الغد بعد المغرب بسفح قاسيون رحمه الله تعالى، وله نظم جيد. حضر مجلس مخدومه الملك الناصر يوماً وأدار ظهره إلى الطراحة فقال له أستاذ الدار السترة وراءك فقال الملك الناصر سليمان من أهل البيت فأنشد عون الدين في الحال لنفسه. رعى الله ملكاً ماله من مشابه ... يمن على العافي ولم يك منانا لأحسانه أمسيت حسان مدحه ... وكنت سليمانا فاصبحت سلمانا ومن شعره: لهيب الخد حين بدا لعيني ... هفا قلبي عليه كالفرش

فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي ومن شعره: يا سائقا يقطع البيداء متعسفاً ... بظامر لم يكن في سيره وإني إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران وأقصد علالي قلاليه تلاق بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فواخجلة المران والبان وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان ورب صدغ بدا في الخد مرسله ... في فترة فتنت من حسن أجفان فليت ريقته وردى ووجنته ... وردى ومن صدغه آسى وريحاني وعج على دير متى ثم حيي به ال ... ربان بطرس فالربان رباني فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لذات ما بين قسيس ومطران واستجل راحا بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كل شيطان كم رحت في الليل اسقيها وأشربها ... حتى أنقضى ونديمي غير ندمان سألت توماس عمن كان عاصرها ... أجاب رمزاً ولم يسمح بتبيان وقال أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران

بأنها سفرت بالطور مشرقة ... أنوارها فكفوا عنها بنيران وهي المدام التي كانت معتقة ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان وهي التي عبدتها فارس فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني سكرت منها فلا صحو وجدت بها ... على الندامى وليس الشح من شأني وسوف أمنحها أهلا وأنشده ... ما قيل فيها بترجيع وألحان حتى تميل لها أعطافه طربا ... وينتشي الكون من أوصاف نشوان خير الملوك صلاح الدين ليس له ... في الجود ثان ولا عن جوده ثاني كان والده بهاء الدين من الأجواد المشهورين والأعيان المتمولين بحلب رحمه الله. عبد الرحمن بن عوض بن محبوب أبو البركات عفيف الدين الكلبي المعري روى عن أبي المعالي محمد بن عبد الواحد بن المهذب وغيره توفي رحمه الله في بعض شهور سنة ست وخمسين وستمائة، وكان أديباً فاضلاُ رئيساً ذا مكارم من بيت كبير نظم الشعر صغيراً وله فيه اليد الطولى فمنه. جميع حديثي عنكم حين أنطق ... وجملة فكري فيكم حين أطرق وعهدكم عندي على ما عهدتم ... وموثقكم في حبة القلب موثق فكل صباح لي إليكم تشوف ... وكل مساء لي إليكم تشوق وإن نحت في أفنان وجدي يحق لي ... لاني بما أوليتموني مطوق

قطعتم ولم أسرقكم الود كتبكم ... وكيف يجازي القطع من ليس يسرق صلوا واقصدوا واقربوا وتباعدوا ... وأولوا وقولوا واعتقوا وترفقوا فقلبي قلب لم يشنه تغير ... وودي ود لم يشه تملق وله أيضاً ودوحة بات بدري تحت أنجمها ... من العشاء نديما لي إلى السحر تخبر بورد ورد طول ليلته ... من خده ولماه البارد الخصر حتى إذا اسكرتني خمر ريقته ... غنى بشجو فأغناني عن الوتر ما العيش إلا اصطباح الراح أوشنب ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر عبد الرحمن بن نصر بن يوسف أبو محمد صدر الدين الشافعي قاضي بعلبك كان فقيهاً عالماُ فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً جواداً ممدحاً لا يقدم بعلبك قادم إلا ويكرمه ويضيفه وكان كثير البر والصدقة وإطعام الفقراء والمساكين مقتصراً في ملبسه ولم يقتن في عمره دابة قط إلا مرة واحدة اشترى بغلة فماتت قبل أن يركبها فكان إذا أضاف أحداً من أرباب الدنيا جعل من ذلك الطعام جزءاً وافراً يتصدق به على الفقراء فإن ضاق الطعام عن ذلك استأنف طعاماً للفقراء كأنه يكفر بذلك ما أنفقه لغير الله تعالى وكان يقوم الليل كثيراً ويصلي من المغرب إلى العشاء الآخرة نافلة ويتلو القرآن الكريم في غالب أوقاته ويصوم نافلة في

كثير من الأوقات وكان متواضعاً حتى أنه كان يحمل طبق العجين من منزله إلى الفرن بنفسه في بعض الأوقات ويلقاه من يسأله حمله عنه فيأبى ذلك ويشتري الحاجة بنفسه ويحملها إلى منزله وكانت له الحرمة الوافرة في الدولة وإذا خلع عليه كان في خلعته طيلسان وكان لا يخلع بطيلسان الأعلى قاضي القضاة وآحاد الأكابر وله المكانة العالية عند الخاص والعام وبقي في القضاء مدة إلى حين وفاته لم يؤخذ عليه في حكم وكان متحرياً عفيفاً شديد التقوى سريع الدمعة وكان لرقة حاشية طبعه يميل إلى الصور الجميلة مع شدة العفاف والشح بدينه ولا ينال من ذلك إلا الرؤية مع جمع من غير خلوة فكان من لا يعلم باطن حاله ينتقد عليه ذلك ولعل الذي يناله من الأجر بوقوع بعض الناس فيه بسبب ذلك على ما يلحقه من الإثم بسببه - وحكى لي أنه قال مرة لزوجته اعملي لي صحناً من قطائف فعملته على ما أراد وتوهمت أنه يريد إطعامه لأحد من الشباب وكانت ليلة ثالجة شديدة البرد فجاء إلى منزله بعد العشاء الآخرة وأخذ الصحن ومضى فسيرت بعض الزامها في أثره ليخبرها حقيقة الحال فذكر لها بعد عوده أنه لا زال يمشي وراءه على بعد إلى أن وصل إلى مسجد مهجور داخل باب حمص من مدينة بعلبك ففتحه وإذا فيه ثلاثة نفر فقراء غرباء من أثر مرض وهم في الظلمة فجعل الصحن بين أيديهم وبيده طوافة يريد بها الضوء عليهم وهم يأكلون إلى أن أتوا على ما في الصحن فأخذه وعاد

إلى منزله - وبالجملة فكانت مكارمه كثيرة وغالب أفعاله لله تعالى وكان صحب والدي رحمه الله من حال صغره إلى أن توفي إلى رحمة الله فوجد والدي عليه كثيراً وحزن لفقده وسمعته يثني عليه غير مرة في حال حياته وبعد وفاته وكان للقاضي صدر الدين رحمه الله يد في النظم والنثر واشتغل بالفقه على الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله وغيره وفي العربية على والدي رحمه الله وعلى غيره وسمع على الشيخ تاج الدين الكبدي وغيره ولم يخلف شيئاً من الدنيا سوى دار عمرها وكان يسكنها وحصة يسيرة في حوانيت ورثها من أبيه ولعل مجموع ذلك مع ثياب بدنه وفى بما عليه من الديون وفضل مقدار يسير لورثته رحمه الله وكانت وفاته ببعلبك في تاسع ذي القعدة ودفن ظاهر بعلبك في مقبرة الأمير شمس الدين محمود رحمه الله بباب شطجا وهو في عشر السبعين تقريباً ورثاه غير واحد من أصحابه ومعارفه فمنهم الشيخ شرف الدين أحمد بن أحمد بن نعمة المقدسي رحمه الله تعالى قال: لفقدك صدر الدين أضحت صدورنا ... تضيق وجاز الوجد غاية قدره ومن كان ذا قلب على الدين منطو ... تفتت أشجانا على فقد صدره وكتب إليه الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وكان بينهما مودة عظيمة: رب الندى عبد الرحيم استمع ... مقالةً من مغرم صب لولا بعادي عنك ما كان لي ... على صروف الدهر من عتب

والقلب في الصدر علمنا به ... وأنت صدر حل في القلب ومن شعر القاضي صدر الدين في مدح بعلبك: لله عيش في بعلبك قد مضى ... قضيت فيه مع الصبا غرضا أيام جفن السرور منتبه ... مني وجفن الهموم قد غمضا أسعى إلى رأس عينها طرباً ... أركض طرفاً للهوما ركضا ومدّ لهم الشباب يُونس ما ... أوحش مني سناه حين أضا وروضة في لجوجها أنف ... لو مُقعدٌ حلّ أرضها نهضا قصدتها والحبيب في غلس ... وبارق الثغر منه قد ومضا وسقم جفن قد صح منه لمحزو ... ن كئيب في حبه مرضا لقيت من هجره وفرقته ... ما راح جسمي به لقى حرضا ولا ثم لي محرقي رمضا ... على هواه مجرعى مضضا فقلت أنى اسلوه في زمن ... عادته السخط للأنام رضا وللأشراف الملك من به بسط الخص ... ب لدينا والجذب قد قبضا وأصبح عن مساءتنا منحرفاً ... والسرور. . . معترضا وآض ما غاض من مسرتنا ... وإيجاب غيم الغموم واندحضا ووقفت على ورقة بخطه إلى شخص من الفقهاء كان يميل إليه وفي صدرها أبيات وغالب ظني أنها من نظمه وهي: يا حبيباً جار لما ان منك ... لا تخيب قصد من قد أملك كنت لا تصبر عنا ساعة ... علموك الهجر حتى لذلك

أيها البين الذي فرّقنا ... أي ثار كان عند الصب لك لا تزدني فوق هذا ألماً ... قد بلغت اليوم فيه أملك يا لمأسور هوىً صيّره ... مع من قد مات شوقاً وهلك مستهام لم يزل يتبع ... تابع من حبكم أني سلك لم يصغ سمعاً إلى العذل فلا ... تسمع اليوم به من عذلك ما تبدّ لنا بخل بعدكم ... أترى أي خليل بدّلك ثم وقفت على مجموع بخط بعض الفضلاء وفيه مصاريع من مخمس ونسبه إلى الباسلوى منها: يا حبيبي بالذي قد أرسلك ... بشر الناس في زي ملك ساو بالوصل محباً سالك ... أيها المالك لي فيما ملك من إلى تعذيب قلبي ميّلك يا عصيّا ليس ينوي طاعة ... كنت لا تصبر عنا ساعة لا يرى لي أذناً علك سماعه ... فيك للعواذل ولأمر تاعه علموك الهجر حتى لذلك عبد الرشيد بن محمد بن أبي بكر النها وندى الصوفي ويسمى مسعود توفي بدمشق في رابع وعشرين شهر رمضان ودفن من يومه بمقابر الصوفية عن مائة وأربع عشرة سنة كما ذكر رحمه الله تعالى. عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد

أبو محمد زكي الدين المنذري الإمام الحافظ الشامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة الفقيه الشافعي مولده بمصر في غرة شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، قرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي الثناء حامد بن أحمد بن حمد الارتاحي وتفقه في مذهب الشافعي رحمة الله عليه على الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل القرشي وقرأ العربية على ابي الحسين يحيى بن عبد الله النحوي وسمع منهم ومن خلق كثير وحج وسمع بمكة شرفها الله تعالى وبمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ورحل إلى دمشق فسمع ومشائخه مذكورون في معجمه الذي خرجه لنفسه في ثمانية عشرة جزأً ودرس بالجامع الظافري بالقاهرة مدة وعلق على التنبيه في مذهب الشافعي كتاباً نفيساً يدخل في أحد عشر مجلداً وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية التي بين القصرين بالقاهرة وانقطع بها نحو العشرين سنة عاكفاً على التصنيف والتاريخ والإفادة وصنف تصانيف مفيدة وخرج تخاريج حسنة وأملى وحدث بالكثير إلى حين وفاته واختصر صحيح مسلم ابن الحجاج والسنن لأبي داود وتكلم على أحاديثها وكان عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه عالماً بصحيحه وسقيمه ومعلوله وطرق مسانيده متبحراً في معرفة أحكامه ومعانيه ومشكله قيماً بمعرفة عربيه وإعرابه واختلاف ألفاظه ماهراً في معرفة رواية جرحهم وتعديلهم ووفياتهم

ومواليدهم وإخبارهم إماماً حجة ثتا ورعا متحرياً فيما يقوله وينقله متثبتاً فيما يرويه ويتحمله عدلاً ورعا طاهر اللسان مأمون الجانب سمحاً كثير الإيثار وكانت وفاته في رابع ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله قال أنشدني الأديب الفاضل أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي النحوي الكاتب لنفسه. لعمرك ما أبكى على رسم منزل ... ودار خلت من زينب ورباب ولكنني أبكي على زمن مضى ... تسود فيه بالذنوب كتابي وأعجب شيء أنه لا يصدني ... عن اللهو شيب حال دون شبابي وقد حل بازي المشيب بعارضي ... وما طار عن وكر الذنوب غرابي فيا رب جد بالعفو منك فإنني ... مريض حريص بالذنوب لما بي ولا لي أهل في بلاد ومعشر ... يغدون أيامي لوقت إيابي وإن سرت عن دار فما من مشيّع ... ولا ملتق إن جئتها لركابي ولا سكن اعتدّه لملمة ... ولا أحد يرجى لدفع مصابي وقد رثى الشيخ زكي الدين رحمه الله صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر الأنصاري رحمه الله. بالصحيحين مذ فقدت صحاح ... صحّ معنى ولفظه. . . الام درست بعدك الدروس وصارت ... نكراتٍ لفقدك الاعلام

والمواعيد بعد ما غبت عنها ... ليس فيها كما عهدت ازدحام من سواك السماع لا يطرب السم ... ع وفيه بعد السرور وجام من لكشف النقاب عن غررال ... الفاب يجلو الوجوه وهي وسام من لضبط الأعراب جزماً عرا ... ب فصيح أن أبهم الإعجام من لفصل الخطاب يجلو به الخط ... ب ويجلو بالسمع منه كلام من لحفظ الأنساب ضاع بنوها ... يا أباها فكلهم أيتام هذه أعين المحاير تبكي ... بدموع جرت بها الأقلام يا لها من رزية ذهب الفضل ... بحذ الطروس منها سحام فالمعالي عيونهن دوام ... حيث لم يهنها لديك دوام والمواليد بعد موتك أمست ... وولود التاريخ منها عقام ووفاة الرجال بعدك فأتت ... فجدير بها البكى واللطام والفتاوى حلت عليك فروعاً ... فإنها منك حلّها والحرام والأماني مذغبت ملّت بقاها ... وهي أن تفن حسرةً ما تلام وعليك الصحاح تبدى انكساراً ... وكذا العين وحشة ما تنام وإليك الغريب زاد حنيناً ... أغراه بالفراق الغرام ولدار الحديث عهد قديم ... مستجد على البلى مستدام كم بها قد قعدت مقعد صدق ... قمت فيه يا حبذاك القيام حرباً لمحراب أصبح يشكو ... من أماليك وحشة يا إمام

لك مني الصلاة يا جامع الفض ... ل كما عن سواك عندي صيام أسند الحزن بعد موتك عني ... من رجال الحديث قوم كرام طوقتهم منك الأيادي فلولا ... نوحهم معرب لقلت حمام يا رجاي القطوع منه برغمي ... مرسل الدمع من جفوني سجام دمع عيني إن جرح الجفن جوراً ... فهو عدل وما عليه أثام وكذا اضلعي إذا أورت اليا ... رفعنها يورى اللهيب الغرام يا زكياً عقلاً ونقلاً وأصلاً ... ليس يأتي بمثله الأيام يا طراز الزهاد يا عالي الإسن ... اد يا من له الأيادي الجسام يا ظليلاً له بقلبي نار ... وهي برد بأدمعي وسلام لو أفاد الفدى فدتك نفيس ... ات نفوس لها عليك هيام إن نمتُ صورةً فذكرك حيّ ... لملم الأملا به المام طبت ذكراً وطاب تربك حتى ... حسدت مصرنا عليك الشآم كيف استمطر الغمام لقبر ... حلّ فيه يا بحر منك الغمام باكرتك الصّبا بنشر سلام ... لك تهديه في النسيم السلام ورثاه أيضاً الأديب أبو القاسم بقصيدة أولها: مصاب زكي الدين ليس يهون ... لقد سكبت فيه العيون عيون مصاب به الأجفان قرحى من البكى ... وكل كلام فيه فهو أنين لقد اقفرت منه المدارس وانفضت ... مجالس منها للحديث شجون

لك الله يا علم الحديث فقدته ... فكم لك شوق نحوه وحنين وكم حسرات للبخاري بعده ... وما مسلم إلا عليه حزين يميناً لقد ساء القلوب مصابه ... اليّة برٍ ليس فيه يمين على بعده وجدٌ بحر زفيره ... يعلم صخر الصم كيف يلين لقد حملوه والأمانات والتقى ... تزف على نعش له وتبين وراح وللإسلام في كل مهجة ... بمصرعه داء عليه دفين وقد كان للأنوار فيه طليعة ... وللمجد منه طلعة وجبين ويا حسرات للنفوس تأكدت ... لقد كان ما خفناه أن سيكون ويا عبرات للعيون اذرفي دماً ... فما كل طرف في البكاء طعين ظناه للأيام يبقى ذخيرةٌ ... على أن جود الدهر فيه ضنين لإن لم أقم حقاً بواجب حقه ... بقية عمري إنني لخؤون سقى الله صوب الغاديات ضريحه ... ورواه غيث للسحاب هتون ولو بخلت عنه السحائب بالحيا ... لروته منا بالبكاء جفون عبد الله الإمام المستعصم بالله أبو أحمد أمير المؤمنين بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد

بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي بأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الأمير الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر ابن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي بالله أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رحمه الله مولده سنة تسع وستمائة وبويع له بالخلافة لما توفي والده في العشرين من جمادى الأول سنة أربع وستمائة فكانت الخلافة خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً ومقدر عمره سبع وأربعون سنة واستجاز له ولجماعة من أهله أبو عبد الله بن النجار في رحلته إلى خراسان جماعةً كثيرة منهم أبو روح عبد المعز بن محمد الهروى وأبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأبو بكر القاسم بن عبد الله ابن الصفار وأم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن الشعري وغيرهم وحدث فسمع منه صدر الدين شيخ الشيوخ أبو الحسن علي بن محمد وحدث عنه وأجاز الإمام محي الدين أبي المظفر يوسف بن الإمام أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي والشيخ نجم الدين أبي محمد عبد الله بن محمد البادرائي وحدثا عنه بهذه الإجازة وكان المستعصم بالله متديناً متمكناً متمسكا؟ ً

بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده رحمهما الله تعالى ولم يكن على ما كانا عليه من التيقظ وعلو الهمة فإن والده المستنصر بالله كان ذا همة عالية وشجاعة وافرة ونفس أبية وعنده إقدام عظيم واستخدم من العساكر ما يزيد على مائة ألف وقصدت التتر بلاد العراق في أيامه فلقيهم عسكره وانتصف منهم وهزمهم وكان للمستنصر بالله أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لاعبرن بالعساكر نهر جيحون وأنتزع البلاد من يد التتر وأفنيهم قتلاً واسراً وسبياً فلما توفى المستنصر بالله لم ير الدوادار والشرابي وكانا غالبين على الأمر ولا بقية أرباب الدولة تقليده الخلافة خوفاً منه ولما يعلمون منه أستقلاله بالأمر واستبداده بالتدبير دونهم وآثروا أن يليها المستعصم بالله لما يعلمون من لينه وأنقياده ليكون الأمر إليهم فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه فتقلدها وأستبدوا بالتدبير ثم ركن إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي فأهلك الحرث والنسل وحسن له جمع الأموال والأقتصار على بعض العساكر وقطع الباقين فوافقه على ذلك وكان فيه شح وحب لجمع المال فوافق ما أشار به الوزير وغيره عليه من ذلك ما في نفسه فأجابهم وبذل الوزير جهده في بوار الإسلام فبلغ قصده كما ذكرنا وكان المستعصم بالله قليل التدبير والتيقظ نازل الهمة محباً لجمع المال مهملاً للأمور يتكل فيها على غيره ويقدم على فعل ما يستقبح ولا يناسب منصبه ولو لم يكن من ذلك إلا ما فعله مع الملك

الناصر داود في أمر الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً حتى لو كان الملك الناصر من بعض الشعراء وقد قصده وتردد إليه على بعد المسافة وامتدحه بعدة قصائد كان يتعين عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله فقد كان في أجداد المستعصم بالله من أستفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك إلى غير ذلك من الأمور التي كانت تصدر عنه مما لا يناسب منصب الخلافة ولم تتخلق به الخلفاء قبله فكانت هذه الأسباب كلها مقدمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله وإذا اراد الله أمراً هيأ أسبابه ومن الأتفاقات العجيبة أن أول الخلفاء من آل سفيان أسمه معاوية وآخرهم معاوية وأول الخلفاء من آل الحكم ابن أبي العاص اسمه مروان وآخرهم مروان والخلفاء العلويين بالغرب والديار المصرية اسمه عبد الله وآخرهم اسمه عبد الله وأول الخلفاء من بني العباس عبد الله السفاح وآخرهم عبد الله المستعصم بالله وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة ملكهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول سلطانه وقال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل رحمه الله أخبرني من أثق بنقله يوم ورود الخبر بتملك التتر بغداد أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته عن علي بن عبد الله بن العباس بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول أن الخلافة تصير إلى ولده فأمر به فحمل على جمل وطيف به وضرب وكان يقال عند ضربه هذا جزاء من يفتري ويقول أن الخلافة تكون في ولده فكان علي بن عبد الله رحمه الله يقول أي والله لتكون الخلافة في ولدي ولا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهو ورود هولاكو ملك التتر من خراسان وإزالة ملك بني العباس. له وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة ملكهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول سلطانه وقال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل رحمه الله أخبرني من أثق بنقله يوم ورود الخبر بتملك التتر بغداد أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته عن علي بن عبد الله بن العباس بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول أن الخلافة تصير إلى ولده فأمر به فحمل على جمل وطيف به وضرب وكان يقال

عند ضربه هذا جزاء من يفتري ويقول أن الخلافة تكون في ولده فكان علي بن عبد الله رحمه الله يقول أي والله لتكون الخلافة في ولدي ولا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهو ورود هولاكو ملك التتر من خراسان وإزالة ملك بني العباس. يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام أبو زكريا جمال الدين الصرصري الشيخ الصالح الحنبلي كان من العلماء الفضلاء الزهاد العباد وله اليد الطولى في نظم الشعر وشعره في غاية الجودة رحمة الله عليه. امدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشعار كثيرة قيل أن مدائحه فيه صلوات الله عليه وسلامه تقارب عشرين مجلداً وأضر في آخر عمره وأستشهد ببغداد في واقعة التتار بها في أوائل هذه السنة اعني سنة ست وخمسين ووستمائة وأظنه قد نيف على السبعين من العمر والله أعلم وسأذكر من مديحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التبرك وتشريف هذا الكتاب ما يتيسر إن شاء الله تعالى فمن ذلك قوله.

زار وهنا ونحن بالزوراء ... في مقام خلا من الرقباء من حبيب القلوب طيف خيال ... فجلا نوره دجى الظلماء يا لها زورة على غير وعد ... بت منها في ليلة سراء نعمت عيشتي وطابت حياتي ... في دجاها يا طلعة الغراء يا طراز الجمال يا حلة المج ... د وتاج الكمال للعلياء يا هلال السرور ياقمر الأن ... س نجم الهدى وشمس البهاء يا ربيع القلوب يا قرة العي ... ن وباب الإحسان والنعماء يا لباب المعنى ونور المعاني ... يا شفاء الصدور من كل داء إن يوماً أراك فيه ليوم ... آرج النشر ساطع اللألاء كم إلى كم أخفي الإشارة فيمن ... فضله ظاهر بغير خفاء سيد حبه فخار وتشري ... ف وعز باق لأهل الصفاء أحمد الممصطفى السراج المنير ال ... فاتح الخير خاتم الأنبياء ولعمري لولا تقدمه الأشر ... ف يرويه سادة العلماء إنه واجب على الكامل الإيم ... ان تقديم حبه والولاء لعلى الأنفس العزيزة والما ... ل جميعا والأهل والأبناء ارعدت دونه الفرائض إج ... لالا حبيب الرحمن رب السماء أكرم العالمين أصلاً وفصلاً ... وجلالا وسيد البطحاء خص بالخاتم العزيز وشرح ال ... صدر والقرب ليلة الإسراء

والكتاب المبين والنصر بالرع ... ب وريح الصبا على الأعداء ثم بالحوض والشفاعة في الح ... شر لكل الورى ورفع اللواء والمقام المحمود والسبق للنا ... س دخولاً في الجنة الفيحاء ثم يعطى وسيلة هي أعلى ... درجات الجنان دار البقاء يا نبي الهدى عليك سلام ... يبقى غضاً على الأناء وعلى صاحبيك ثمة صهري ... ك وعميك السادة النبلاء والصحاب الكرام خير صحاب ... ناصري الدين بالقنا النجباء والحسين الشهيد والحسن المس ... موم والبضعة الرضا الزهراء وجميع الأزواج والتابعين ال ... غر أهل الهداية النصحاء انت جاري وعدتي ونصيري ... وعمادي في شدتي ورخائي فاعى علي زمان فظيع الخ ... طب في أهله شديد العناء وأسأل الله حين تعرض أعما ... لي عليك الغفران لي يا رجائي وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: يا سائق الركب لا تعجل فلي إرب ... فوق الرواحل حالت دونه الحجب لعل بدر الدجى يرخى اللثام لنا ... عن عارضيه فيشفىالواله الوصب ماذا على ظاعن شط المزار به ... لو أنه في الدجى يدنو ويقترب فربما وجدت بردابه كبد ... جرى بنار الجوى والشوق تلتهب

أحبابنا إن تكن أيدي النوى عبثت ... بشملنا فهو بالتفريق منتهب فإن حبكم وسط الحشاشة لا ... تناله غير الأيام والنوب أولا عطفتم على صب بكم فعلت ... به سطا البين ما لا تفعل القضب فؤاده نازح مستأنس بكم ... وجسمه وهو بين الأهل مغترب ما هب من نحوكم في الصبح ريح صبا ... إلا وهز إليكم عطفه الطرب ولا ترنم قمري على فنن ... إلا وظل من الأشواق ينتحب يحن نحو الحمى إذ تنزلون به ... وليس بينهما لولاكم نسب وإن جرى ذكر سلع في مسامعه ... فإنه لدواعي وجده سبب سحت غمائم أنوار المزيد على ... فبابه البيض سحا دونه السحب فهي الشفاء لاسقامي وساكنها ... هو الحبيب الذي أبغى وأطلب هل تبلغني إليها جسرة أجد ... يحلو لها في الفلا الإرقال والخبب يا ناقتي لا يغشاك الضلال ولا ... مس القوائم منك الأين والنصب وأمتد خصبك من ورد ومن كلأ ... ولا تمكن من أخفافك النقب سيري إلى ان تحلي أرض أفضل من ... في الأرض شد إلى أقطاره القتب محمد خير مبعوث بمرحمة ... من خير بيت عليه أجمع العرب مهذب طاهر طابت أرومته ... وطاب بين الورى أم له وأب

هدى به الله قوماً صدهم سفهاً ... عن الهدى الخمر والأزلام والنّصُب أتاهم بكتاب صدّق الصحف ال ... أولى كما صدقت آياته الكتب فيه بيان وإيجاز وموعظة ... وهو الشفاء لقلب شفّه الوصب فاخرج الناس من ليل الضلال به ... إلى صباح رشاد ليس يحتجب دعا إلى الله رب العرش وهو على ... بصيرة لا تغطّي نورها الريب فمن أجاب فقد حاز الرضا ولمنأبى وصدّ الوها والويل والحرب وجاهد المعتدين الناكثين عن الح ... ق المبين بعزم ليس ينقضب وجنده السابقون الأولون أولو ... البأس الذي رهبته البيض واليلب وأصبحت زمر الأملاك نازلة ... لنصره والصبا الحرقاء والرعب حتى استقل عماد الدين وارتفعت ... أعلامه وانجلت عن أهله الكرب صلى عليه آله العرش ثم على ... أصحابه فهم الأعيان والنجب أزكى صلاة وأنماها وأدومها ... وأجر ذلك عند الله احتسب وارتجى بمديحي فيه مكرمة ... من دونها الفضة البيضاء والذهب لكنني لو قطعت الدهر ممتدحاً ... للمصطفى ما قضى بعض الذي يجب وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ متوجهاً إلى زيارة سلمان الفارسي رضي الله عنه فعرّض بذكره وبذكر حذيفة رضي الله عنه. خذ للحجاز إذا مررت بركبه ... مني تحيّة مخلص في حبّه

واسأله هل حيّا مرابعه الحيا ... وكسا الربيع شعابه من عشبه واستمل من خير الصبالاخ الهوى ... ما صحّ من إسناده عن هضبه فلنشر أنفاس النسيم عبارةٌ ... في رمزها معنىً يلذ لقلبه يغريه مسراها بأيام الحمى ... إذ كان منشأ عرفها من تربه ولعمرها لولا تذكر عهده ... فيها لما عبث النسيم بلبه هل لي إلى ليلات مجتمع المنى ... بمنىً رجوعٌ استلذ بقربه ويضمني وبني الوداد بجوّه ... سربال وصل لا أراع بسلبه حلو الجنى فيه الأمان لمن جنى ... وبه الكرامة والرضا لمحبه بدر الكمال على بروج قبابه ... سامٍ يجل عن المحاق وحجبه يزداد نوراً كلما طال المدى ... بمحمد فلك الجمال وقطبه نالت يداه من المراتب منصباً ... يعلو على عجم الزمان وعربه جمعت له متفرق الفضل الذي ... في المرسلين عنايةً من ربه وله الخصائص حازها من دونهم ... فاستمل من لفظي مقال منبه منها نبوته وآدم طينةٌ ... فازداد نوراً حين حلّ بصلبه ورأى بعينيه على العرش اسمه ... فدعا به حين استقل بذنبه وله المقام المرتضى وشفاعة ... تنجي المحرق من بوائق كسبه وله اللواء وحوضه العذب الذي ... يروي جميع المؤمنين بشربه وله الوسيلة ما لخلق فوقها ... نزل تفرد في علاه وقربه

لما علا عن مشبه مختاره ... أضحى وليس لفضله من مشبه هو خاتم للأنبياء وفاتح ... للأولياء وشربهم من شربه من أين للأمم الذين تقدموا ... طرّا كأمته الكرام وصحبه ما كان منهم سيد في موطن ... إلا وكان هو الزعيم لحزبه منهم حذيفة ذو الأمانة والرضا ... سليمان حلا بالعراق وشعبه فهما به نور لمن رام الهدى ... وحمىً من الحدث الملم وخطبه يا سيد البشر الذي هو غوثنا ... في حالتي جدب الزمان وخصبه زرنا صحابتك الكرام تعرضا ... لننال من فضل خصصتهم به فافض علينا نعمة من ذاقها ... أضحى معافىً آمناً في سربه وأتم عقباها بخاتمة الرضا ... والأمن في يوم يصول برعبه وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: ما بال أنفاس النسيم إذا سرت ... سحراً على ميتٍ الصبابة انشرت ما ذاك إلا أنها مرت ... على رند الحجاز وبانه فتعطرت حملت إلى المشتاق منه رسالةً ... عن عرف من تهوى بصدق اخبرت نفت الأسى عنه فيالك نفحة ... دأرت ثقيل الخطب عنه وما درت واهاً لأيام يفوق نهارها ... ليلاتها اللاتي بحيي أقمرت قضيتها بحمى تهامة آمنا ... تهم العواذل عارفاً ما أنكرت

ولّت على عجل فكم قلب سها ... بوداع جيرتها وكم عين جرت لو أنها ردت عليّ لأبرأت ... جسدا باسقام الفراق له برت أالاء في شغفى بمن شرفي بها ... جبرت بعطف أم بحتف أخبرت أوبي جناح إن سمحت بعبرة ... عما تضمنت الحوانح عبّرت وإذا القلوب أتت بصدق لم تبل ... بمقال واشٍ أظهرت أو اضمرت يا سائق البكرات ما حنّت إلى ... تحصيل بكر المجد إلا بكرت تعتاض في طلب العلى عن ريفها ... بمهامه أغبرت وبيدٍ أقفرت تتجشم الأهوال لولا نُور من ... جعلته غاية قصدها لتخيّزت تهوى إلى الحرم الشريف ركابها ... عند الصباح هوى ربد نفرت إما حللت بذلك المغنى الذي ... فيه عيون المكرمات تفجرت فقل السلام عليك يا حرم الهدى ... من مهجة بك أفلحت وتبصرت يا منزلاً عكفت به غرر النهى ... وبقدس ساكنه القلوب تطهرت هل لي بحضرتك العزيزة وقفةً ... تحيي الذي بالبعد مني اقبرت أحرزت غاية كل مجد كامل ... وزكت أصول الفضل فيك وأثمرت بمكرم شهد الملائك فضله ... هذا وطنة آدم ما صورت وتكور الشمس المنيرة جهرةً ... وشموس شرعة دينه ما كُورت

وهو الذي ينشق عنه ضريحة ... وقبور سكان الثرى ما بعثرت وهو المشفع يوم محتبس الورى ... وإذا الجحيم على بنيها سعرت هو أحمد الآتي بخير شريعة ... بيضاء عن وجه الهداية أسفرت عبدا تخيره المهيمن مرسلاً ... بشراً بطلعته السماء استبشرت تالله لو أن الوجوه بأسرها ... نظرت بإيمان إليه أبصرت لكنه من ذي المعارج رحمة ... عظمى لأمته الكرام تيسرت رأت اليهود صفاته ثم امتروا ... فيه وأمته رأته فما امترت عين رأته وما اهتدت لرشادها ... لبياض سنة وجهه ما أبصرت ومحاجر اكتحلت بنور وذاده ... قرت بنيل مرادها وتظفرت يا من ظلال المكرمات به صفت ... وصفت مشارب بالضلال تكدرت وبنور بهجته انجلى غسق الهوى ... وبه السحائب في الجدائب أمطرت والماء أصبح من أصابع كفه ... يهمى فأوردت الظلماء وأصدرت وله لواء الحمد والحوض الروى ... وله المقام ومعجزات أغزرت عطفاً على نفس إلى خلاقها ... بك في الخطوب توجهت واستنصرت ليست تشك بأن مدحك قربة ... بسناه أوزان القريض تنورت ولقد درت وتيقنت أن لو بغت ... حصراً لبعض الفصل فيك لقصرت

لكنها لعظيم جاهك ترتجى ... في حالتيها أقبلت أو أدبرت فكن الشفيع لها لتنجيها ... إذا علمت غداة معادها ما أحضرت فلأنت من أقسامها العظمى إذا ... ما نابها قتر وأما اقترت فجزيت أفضل ما يُجازى مرسل ... عن أمة رشدت به وتبررت حيت جنابك نفحة قدسية ... في كل يوم أين حلت عطرت ونمت به من ذي العلا بركاته ... وزكت به صلواته وتكررت وقال رحمه الله يمدحه صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وأزواجه. لمن طللٌ دون الربا والتنائث ... يُعفى بأيدي العاصفات العوائث ومنخرق السربال يخترق الفلا ... ويقدم أقدام الشجاع الدلاهث حسام طويل الساعدين شرنبثله بطش دلاهث هصور شرابث جريء إذا لاقى يُرى خصمه الردى ... إذا صال في أنيابه والمضابث تساوت وحوش البر في الأنس عنده ... فصيرها كالعاويات العوابث يخوض أهاويل الدجى بجلاعد ... أمون السرى بادي النشاط جثاجث يحثحثه حتى ينال مراده ... فطالب أسباب العلى ذو حثاحث نصحت له نصحاً بريئاً من القذى ... إذا شاب قوم نصحهم بالعبائث

فقلت له إن رمت أمناً وعزةً ... فعذ من عوادي النائبات الكوارث بأفضل مبعوث إلى خير أمةٍ ... بخير كتاب جاء من خير باعث وأيمن مولود وأبرك مرضع ... يدر له ثدي وأنجب مارث وأكرم مأمول لرفد توجهت ... إليه نجيبات المطايا الحثائث أبي القاسم الهادي البشير محمد ... سليل الكرام الأطيبين الملاوث أعز الورى بيتاً وأشرف عنصراً ... وأطهر عرضاً من عميرة ماعث بني لبني سام منار سموا به ... حمى آل حام في الفخار ويافث تسنم من غر المناقب ذروة ... أبى شاؤها أن يستكن لضابث تخيّره الرحمن من آل هاشم ... صفياً نبياً وارثاً خير وارث وأنزل أملاك السماء لنصره ... على كل خوان السريرة ناكث وآزره في كل هيجاء بسلةٍ ... بأصحابه الشوس الكماة الممارث بكل كريم الأصل شهم مهاجر ... وأنصاره الموفين عند النكائث هم حفظوا ميثاقه في حياته ... وفي موته لم ينقضوا عهد والث ولما أتى الأحزاب بدد شملهم ... بريح وجند باهر للولايث ويوم حنين حين جاءت هوازن ... بكل غوى ذى شذاة ملايث فولوا على الأعقاب حين رماهم ... فأغشاهم من قبضة من كثاكث

هو الأول المختار أفضل مرسل ... هو الآخر المبعوث خير المباعث أتى بصراط مستقيم من الهدى ... له نبأ بادي البيان لباحث فصادف عمياً يعمهون قلوبهم ... من الغي غلفٌ تابعي كل عائث يتيهون في ديمومة مدلهمة ... يطوفون بالأحجار تطواف عابث فاخرجهم من ظلمة الجهل نوره ... وأنقذهم من موبقات الهثاهث أحلّ لهم ما طاب من كل مطعم ... وخص بتحريم جميع الخبائث وعلّمهم سبعاً مثانى آذنت ... بمحق مثاني لهوهم والمثالث ونزّه رب العرش عن والد وعن ... قرين ومولود وثانٍ وثالث وبلغ تبليغ النصيح وجاهد ال ... عداة أولى التكذيب مأوى العثائث وأطفأ نيران الضلالة وامتحت ... معالمها وانجاب ليل الهنابث وأضحت شموس الحق مشرقة السنا ... قد اتضحت آثارها للمباحث ومازال محفوظاً رضيعاً وناشئاً ... إلى أن وقاه الله كيد النوافث وقبلُ وقاه الله في أرض مكة ... أذى كل حلاف من القوم حانث إلى أن رماهم يوم بدراً ذلة ... بقعر قليب للأساود مائث وأقبل يوم الفتح نحو ديارهم ... بجيش لا كباد المعادين فارث

سقى قبره الرحب الشريف وجاده ... سحائب للرضوان غير دثائث وزفت رياض الأنس في عرصاته ... فاربت على نبت الرياض الحثاحث وصبّحه الرحمن في كل بكرة ... بنور رضابين الصفائح ماكث وعمّ قبور الأكرمين صحابه ... بكل غمام بالمواهب غائث وعترته والطاهرات نساءه ال ... لواتي جميعاً كن غير خبائث وتابعهم من كل ازهر طاهر ... لنفع الورى والاخفياء الأشاعث وقال رحمة الله عليه يسبح الله تعالى ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثني على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. سبح لربك في الظلام الداجي ... واذكره ذكر مواظب لهاج سبحان من رفع السموات العلى ... سبعا وزان السقف بالأبراج وأطاح بالقمر المنير ظلامها ... وأضاءها بسراجها الوهاج وأحلها زمر الملائك خضعاً ... لجلاله من ساجد ومناجي والأرض مهدّها وأرسى فوقها ال ... اطواد تمنعها من الإزعاج فتذللت سُبُلاً فجاجا منةً ... منه على السّلاك بين فجاج وبدت شواهد صنعة فيها بما ... أبداه من مستحسن الأزواج والبحر سخره ولولا لطفه ... لطغا بفرط تلاطم الأمواج

وبأمره البحران يلتقيان لا ... يبغي على عذب مرور أجاج والفلك سخرها لمنفعة الورى ... فجرين فوق المُزبد العجاج والليل يخلفه النهار ويخلف ال ... ليل النهار بغيهب متداج ويطول هذا ثم يقصر ضده ... متعاقبين بحكمة الإيلاج فهما وتصريف الرياح ومنشأ ال ... سحب الثقال أدلةٌ لمناجي أعظم بها آياتٌ انقطعت بها ... أسباب كل معاند محجاج والله أحيا الأرض بعد مماتها ... بجدوبها بالوابل الثجاج فاهتز هامدها فأخرجت الذي ... قد أودعت من نبتها البهّاج فكسا الربيع بقاعها من نشره ... حللا تفوق ملابس الديباج من أحمر قانٍ وأصفر فاقعٍ ... نضرٍ وأبيض ناصع كالعاج فتبارك الله المهيمن مخرج ال ... أموات منها أحسن الإخراج واختار آدم من تراب بارئاً ... أولاده من نطفة أمشاج ثم اصطفى منهم عباداً خصّهم ... بنبوة هي عصمة للآجي واختار منهم أجمعين محمداً ... لظهور دين واضح المنهاج وكأن كل الأنبيان لسره ... تاجٌ وأحمد درة للتاج وهو المسمى في القرآن بشاهدٍ ... وبمنذر ومبشر وسراج أسرى من البيت الحرام به إلى ... أقصى مساجده بليل ساج فعلا على ظهر البراق معظماً ... ورأى عجائب ليلة المعراج

كشف الحجاب له وكلمه فما ... اشقى معارض فضله بحجاج لا زال ممتد المزيد مواصلاً ... بصلاته صلة بغير خداج فلقد شفا سقم الصدور وعالج ال ... ادواء بالتبليغ خير علاج واختار أمته وفضلها على ... ماضي القرون وسالف الأفواج واختار منها آله وصحابه ... للنصر عند كريهة وهياج واختار أربعة هم خلفاؤه ... فحموا شريعته من الأعلاج منهم أبو بكر عتيق سيد ال ... أصحاب أفضل مخبت نشاج صديقه الأتقى الوقور ومنفق ال ... مال الجزيل عليه عند الحاج واختار عائشة الطهور لوصله ... بكراً سمت شرفاً على الأزواج وأنيسه في الغار عند تتبع ال ... أعداء بالطلبات والإرهاج وأقام في يوم اليمامة دينه ... بقواضب وبعامل وزجاج وخليفة الصدق الإمام المرتضى ... عمر المفتح قفل كل رتاج جمّاع كل خليقةٍ مرضيه ... قماع كل مجاهر ومداجي ولطالما نزل الكتاب بوفق ما ... يقضيه فيما يعتر ويفاجى وبحفصة اختص النبي المصطفى ... صوامة قوامة بدياج والبر عثمان الذي في ركعة ... لله بالقرآن كان يناجي لصابر الثبت الشهيد قتيل أهل ... البغي في الإلجام والإسراج

هجموا عليه وما رعوا في قتله ... الآفاصيح شاخب الأوداج ولقد رآه لابنتيه محمد ... كفؤاً حليماً لم يعب بلجاج ثم الإمام علي العلم الرضا ... حلال مشكل كل أمر داج كشاف كل ملمة بحسامه ... أكرم به من كاشف فرّاج وسقته كفّ وداده كأس العلى ... بإخائه صرفاً بغير مزاج وحباه بالطهر البتول فزاده ... شرفاً على شرف بخير زواج وكفاه بالحسنين فخراً لم يخب ... راجيهما ولنعم ذخر الراجي ومن الصحابة ستة لم تعترض ... شبه الشكوك مقامهم بخلاج سعد وطلحة والزبير وباذل الب ... كرات بالأحمال والأحداج وأبو عبيدة وابن زيد واعتقد ... فضل ابن صخر واعص ذا ارهاج ولأهل بدر والحديبية أعترف ... بالفضل واحذر من يسيء ويداجي والفضل في كل الصحابة فاعتقد ... فلأنت إن أضمرت ذلك ناجي ثم الذي اعتقد ابن حنبل اتبع ... تأمن غداً من الحشر من إزعاج حبرٌ تمسك بالحديث فلم يزغ ... عنه إلى من عاج شر معاج واستخرج الأخبار في السنن التي ... ثبتت وصحت أحسن استخراج نصر الآله به القرآن فلم يكن ... في نصره بالعاجز اللجاج

هو في الحياة وسيلتي وذخيرتي ... لهجوم موت للأنام مفاجي وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم. ربع المنى بمنى نعمت صباحاً ... وتبلجت فيك الوجوه صباحاً وسقتك أخلاف الغمام عشية ... دراً يروي من حماك بطاحاً وعلا سحيق المسك نشرك كلما ... نشر الربيع على ثراك جناحاً ولبست من زهر الرياض ملأه ... وعقدت فوق الجيد منه وشاحاً قد طالما سامرت في جنح الدجى ... أقمار حسنك لا أخاف جناحاً وحلبت من رياك روح حشاشتي ... وشربت فيك من المحبة راحاً لله أيام مضت محمودة ... طابت بجوك غدوةً ورواحاً آنست فيها نور عطف أحبتي ... ونشقت عطر رضاهم النفاحا يا موسم الأحباب يا عيد المنى ... وهلال سعد بالبشارة لاحا هل لي عليك مع الأحبة وقفة ... وجه النهار تجدد الأفراحا بالله يا من عزمه أهدى لنا ... طرفاً إلى نيل العلى طماحا فصل السرى بعد السرى بنجائب ... يطوين أكناف الحجاز مراجا بلغ إلى ذات الستور رسالة ... عمن إذا ذكرت صبا وارتاحا يا ربة الحرم الممنع كم دمٍ ... لبني الأماني دون وصلك طاحا

كيف السبيل إلى لقائك والفلا ... قد حف دونك ذبلا وصفاحا وإذا وصلت قباب سلع جادها ... صوب المواهب هاطلاً سحاحا فاجلس بإشراف موطن علقت به ... غرر المعالي لا تروم براحا فلقد نزلت من البسيطة منزلاً ... رحب الجوانب للوفود فساحا جمع المفاخر كلها بمحمد ... أوفى الورى حلماً وأكرم راحا أضحى به علماً لكل هداية ... ولباب كل فضيلة مفتاحا طابت بأحمد طيبة فأريجها ... أذكى وأطيب من عبير فاحا وسمت به أنوارها فلقد غدت ... لمن استضاء بنورها مصباحا هو سابق الأعيان إذ كتب اسمه ... بالعرش ثمت أودع الألواحا وهو الذي ختم النبوة فهي عن ... اكتافه العطرات كن سراحا ودعا إليها الخلق لا يألوهم ... نصحاً وأوضحها لهم إيضاحا فمن استجاب له فقد حاز الرضا ... والأمن والتأييد والاصلاحا ومن اعتدى ظلماً وخالف أمره ... كانت عقوبته ظبا ورماحا ماضي الأوامر لا مردّ لحكمه ... فيما نهى عن فعله وإباحا هو طاهر الأنساب لما يجتمع ... أبوان في وقت عليه سفاحا من عهد آدم لم يكن آباؤه ... يرضون إلا بالعقود نكاحا أكرم به بشراً نبياً مرسلاً ... طلق المحيا بالندى نفاحا

ثبتا قوياً في الجهاد مؤيداً ... ثقة أميناً في البلاغ نصاحا يسمو على الشمس المنيرة وجهه ... والبدر يحسد ثغره الوضاحا ولبعض معجزه لتسبيح الحصا ... والماء من بين الأصابع ساحا والشرح والمعراج والذكر الذي ... أعيا الباء القلوب فصاحا وله اللواء وحوضه وشفاعة ... تكفي المرهق جماحاً لواحا ولسوف يعطيه الآله مقامه ال ... محمود جل مهيمناً مناحا يا خير من وقف المطى به ولو ... جعل الوجى أجسامها أشباحا وأحق من بذل الورى في حبه ... ومزاره الأموال والأرواحا إني وإن بعد المدى اشتاقه ... أهدي السلام عشية وصباحا وأود لو أني بحضرتك التي ... شرفت فامنحك السلام كفاحا أعددت مدحك في الحوادث جُنّة ... وعلى الذنوب الموبقات سلاحا فامنن عليّ بنظرة يحيي بها ... قلبي ويصبح راضياً مرتاحا فلأنت ملجؤنا الذي ما أمّه ... منا فتىً إلا ونال نجاحا وسأل لي الرحمن ثم لعترتي ... صوناً وجاهاً شاملاً وفلاحا وسلامة طول الحياة وراحة ... بعد الممات وفي المعادر باحا واسأل لأمتك الحيا غدقا فقد ... فقد المزارع ماءها السحاحا والأمن والعيش الرغيد ونضرةً ... كاماقهم ومعونة وصلاحا

واسأل الهك أن يكون بقهره ... لعدوهم مستأصلا مجتاحا فلكم تملك جيشك المنصور من ... ملك وجدك فارساً جحجاحا صلى عليك الله ما سرت الصبا ... وشدا حمام في الغصون وناحا وقال يمدحه صلوات الله عليه وسلم. وقال يمدحه صلوات الله عليه وسلم. لمن المطايا في رباها تنفخ ... كالفلك تعلو في السراب وترسخ فسل الذي لا ينثني إخفافها ... عن سريخ ألا تعوض سريخ حملت على الأكوار كل مشمر ... للمجد عن طلب العلى لا يربخ بلغت به أسباب همته إلى ... ما دونه يقف الأعز الأبلخ من دون موماة الفراة وبابل ... والقادسية والعذيب ومربخ لكن رامة والعقيق وبانة ... وقباب سلع قصده المترسخ فبماله شجن تملك قلبه في ... مثله ذو الشجو ليس يوبخ مأواه جنات القلوب فلا أبٌ ... يحتل موضعه العزيز ولا أخ هو حاكم الحسن المطاع وعنده ... للمحبة ثابت لا ينسخ شمخ الملاح جميعهم بجماله ... وجماله على الورى لا يشمخ من كل معنى عنده لذوي الحجى ... عين بمكنون الحقائق تنضخ علم وجود كالخضم عن أمره ... وتقي وحلم من ئبير أرسخ سامي المرام عزيزة أنصاره ... وافي الذمام عقوده لا تفسخ

رحب الجناب نسيمه متوضع ... فكأن ثراه بالعبير مضمخ ربع يجود على العفاة برفده ... وبه يغاث العائذ المستصرخ ولعزه التيجان تخضع ذلةً ... وبعطفه روع المخوف يفرخ يا سيد البشر الكريم نجاره ... يا من بنسبته سما متوشلخ أصبحت في رأس النبوة تاجها ... وطراز حلتها التي لا تسلخ وبجاهك الجاه المديد على المدى ... ولك المقامات التي لا تبذخ يشكو إليك مروّع قلق له ... بأدناس الهموم ملطخ يمسي ويصبح وهو يخشى فتنة ... صماء للصعب اللواتي تدنخ إذ كنت ضراماً محمود قده ... يغشى تلهبها القلوب فتطخ قد حومت منها على أهل القرى ... للعرب عقبان كواسر فنخ إبليس ملتهج بها مستبشر ... بوعيدها في كل وادٍ يصرخ هجمت على أرض العراق فأصبحت ... كالسيل يذهب بالغثاء ويلدخ قد شتت شمل الأنام فبين من ... قد كنت لكفه وبيني برزخ لولا جنودك قابلوها حجرة ... فكأنهم صبراً جبالٌ رسخ لوهت عرى الإسلام لكن وعدك ال ... ميمون واضح رسمه لا يمسخ والبيت بيتك والحريمي حريمك ال ... منصور يعلو من بغاه ويشمخ فاعطف علينا واسئل الرحمن في ... عفوٍ به عنا الذنوب تسبخ

ويكف عنا فتنة كادت لها ... منا عرى إيماننا تتفسخ أصبحت فرداً في الديار مروعاً ... وحليلتي عني نأت والأفرخ فأجز مديحي بالرضا وكفاية ... لهم ولي في كل عام يرضخ لا تلقني من بعد صوني واقفاً ... بجنابه بادي القطوب موبخ واسأل لي الله العظيم سلامة ... ولهم وستراً شاملاً لا يسلخ وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم. ماذا أثار بقلبي السائق الغرد ... لما غدت عيسه نحو الحمى تخد وددت لو أنني أصبحت متبعاً ... آثارها أرد الماء الذي ترد أهوى الحجاز ولولا حب ساكنه ... لما حلا لي به التهجير واللحد ولا لهاني برق في أبارقه ... كأنه صارم في متنه زبد هل من سبيل إلى ذات الستور ولو ... أن القنا والظبا من دونها رصد ففي هواها قليل أن يطل دمي ... وكم لها من قتيل ماله قود وبالعقيق حبيب لو بذلت له ... روحي لكان يسيراً في الذي أجد تراب مربعه الرحب المنير به ... شفاء عيني إذا ما شفها الرمد يا راكباً تطس البيد القفار به ... هو جاء عيس أمون جسرة أجد إذا وصلت حمى سلع وطاب به ... لك المقيل وزال الأين والعند فقف بتلك القباب البيض دام لها ... من ذي الجلال السنا والقرب والمدد

وأد بعد سلام نشره عطر ... عني قصيدة مثن وهو مقتصد وقل فقد أمكن التبليغ في وطن ... ما خاب عبد إليه قاصداً يفد أشكو إليك رسول الله ما أجد ... من الخطوب التي أعيا بها الجلد عمر أناف على الستين خالطه ... سقم لأعبائه وسط الحشى كمد ضعف أضيف إلى ضعف وبعضهما ... يوهي قوى الجسم مني وهو منفرد شهدت أنك خير الناس ما ولدت ... انثى نظيرك في الدنيا ولا تلد ولم ينافسك في أصل سما بشرٌ ... ولم ينل رتبة نالت يداك يد نقلت من كل صلب طاب محتده ... إلى بطون زكت ما شأنها نكد حللت صلب أبينا عند مهبطه ... وصلب نوح وقد غشي الورى الزبد وكنت في صلب إبراهيم مستتراً ... ونار نمرود أشقى الخلق تتقد وحاز نورك إسماعيل يودعه ... أبناءه الغرّ حتى حازه أدد ونال عدنان في الأنساب منزلة ... علياً بذكرك لم يخفض لها عمد ولم يزل في معد ثم في مضر ... وهاشم بك تاج الفخر ينعقد حتى تسلم عبد الله منصبه ... من شيبة الحمد لما استوسق الأمد ومذ حملت بدا في وجه آمنة ال ... أنوار وهي لثقل الحمل لا تجد وأشرقت مذ ولدت الأرض وابتهج ال ... بيت الحرام وحاز الجنة المرد وكنت خير نبي عند خالقنا ... وروح آدم لم ينهض بها الجسد

فابصر اسمك فوق العرش مكتتباً ... وتلك منزلة لم يعطها أحد فحين تاب دعا رب العباد به ... فتاب حقاً عليه الواحد الأحد وأنت يوم نشور الناس سيدهم ... أتباعك الغر لا يحصي لهم عدد وأنت فيه بشير القوم إن يئسوا ... وأنت فيه خطيب القوم إن وفدوا وفي يديك لواء الحمد ثم لك ال ... حوض الروي إذا ما أعوز الثمد لك الشفاعة عند الكرب والعرق الط ... اغي وعند جحيم حرها يقد وبالوسيلة تحظى وهي منزلة ... علياً حباك بها ذو العزة الصمد وإن حبك من إيماننا سبب ... من دونه النفس والأموال والولد فبالذي أجزل النعما عليك إلى ... يوم المعاد فلا نقص ولا بدد أنعم عليّ برؤيا منك تنعشني ... وتنقذ القلب مني فهو مضطهد واشفع إلى الله في إحسان خاتمتي ... فإنني بك بعد الله اعتضد وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: قفا بحمى سلع فساكنه الذي ... من الحادث المرهوب أصبح مُنقذي حبيب إذا ما جاد منه بنظرة ... نعمت برؤياه وطال تلذذي وإن غاب عن عيني أنكرت عيشتي ... وضاق علي الرحب من كل منفذ وكيف اصطبار القلب عن وجه سيد ... جميل بآيات الكتاب معوذ بنفسي شموس الصحو في رونق الضحى ... على غصن بالسلسل العذب قد غذى رضيت بأن يرضى بأني عبده ... وليس على ذي الصدق هذا بمأخذ

وما فخر عبد لا يكون ولاؤه ... لأكرم خلق الله حافٍ ومحتذى وأحسنهم وجهاً وأحلى شمائلاً ... إذا ما تثنى في رداء ومشوذ أبي القاسم المختار أفضل مرسل ... وأزكى أمين للأوامر منفذ هو الرحمة المهداة والنعمة التي ... بها حبر الرحمن كل موقذ وذو النقمات الموبقات عدوه ... بكل حسام ذي غرار مشحذ تعطفه برد وروح وراحة ... على كبد حرى وقلب مفلذ وأغراضه ترمى فتصمى حشى الفتى ... من الضر والبلوى بسهم مقذذ ومشربه عذب لوراده روى ... تقدس واستعلى عن المشرب القذى له الحوض يوم الحشر يفضل ماؤه ... على عسل للشارب المتلذذ وأكوابه مثل النجوم وسبقه ... لكل حفى متق متبذذ ويخرج من نار الجحيم بجاهه ... من العصب العاصين كل محنذ به سعدوا بعد الشقاء وكم له ... من النار من مستخلص متنقذ ويسكن من أضحى مطيعاً لأمره ... قباباً من الياقوت أو من زمرذ بطاعته حازوا وحسن اتباعه ... عطاءً من الرحمن غير مجذذ هو المصطفى من ولد آدم كلهم ... برغم عمٍ عن رشده حائر بذى تنقل من شيث إلى متوشلخ ... ونوح وسام نجله وارفخشذ إلى صلب إبراهيم والصادق ابنه ... وأصبح من عدنان في خير أفخذ

وخيم في علياء كنانة وانتهى ... إلى هاشم جار الفتى المتعوذ إلى شيبة الحمد المعظم وابنه ال ... ذبيح الكريم بن الكريم المنجذ مناسب في العلياء طاب نجارها ... ومن يبتذر ذا اللحد بالسبق يبذذ له معجزات ليس يدرك شأوها ... تتابع فيها كل أزهر أوحذ أتى بصريح الحق ليس بكاهن ... وليس بسحّار ولا بمؤخّذ بدعوته في المحل حُلت حيا الحيا ... فجاد بغيث مغدق غر مشحذ ولما دعا بالصحو أقلع غيها ... وأجفل أجفال النعام المفذد ولاح لكسرى القهر عند ولاده ... ومن حوله من مرزبان وهربذ فيا قلب إن رمت الغداة سلامة ... من الفتن الصم الصلاب به عذ وإن رمت عزاً شاملاً وصيانة ... وعوناً على الدنيا بجانبه لُذ وإن شئت أن تحيى سعيداً مهذباً ... بسنته الزهراء ذات الهدى خُذ عليك بها فاشدد يديك بحبلها ... ومن يطرحها نابذاً فله انبذ وذر كل شيطان يخالف أمرها ... غوى على أحزابه متحوذ وتابع على تحصيلها كل ناقد ... بصير بآفات الكلام مجرذ يؤم أحاديث الرسوم فيهتدي ... بأنوارها نحو الرشاد ويحتذى وكن مستقيماً للجماعة تابعاً ... ومن لم يتابع سنة الله يشذذ وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم. حيتك السنة الحيا من دار ... وكستك حلتها يد الأزهار

وتعطرت نفحات تربك كلما ... فض النسيم لطيمة الأسحار لله ما أبقى الأحبة مودعاً ... بثراك للمشتاق من آثار لا صرّحن اليوم فيك بلوعة ... كفلت بما في الطول ونار ما كنت بدعا في الصبابة والأسى ... حتى أواري زفرتي وأواري ما الحب إلا حرقة تلج الحشى ... أو مدمع جار لفرقة جار ومصونة حوت البهاء ستورها ... سمراء يُطرب وصفها سماري عرببية الأنساب قام بحسنها ... عذرى وطاب عليه خلع عذاري زارت على بعد المسافة بعدما ... هوت النجوم ولات حين مزار إني طوت شعب الفلا وديارها ... بحمى الحجاز وبالعراق دياري أهلاً بطيف زائر أهدى لنا ... ريا ممنعة الحمى معطار جادت بوصل وانثنت ومحبها ... عاري المعاطف من ملابس عاري هل وقفة للركب في عرصاتها ... وله جوار في أعز جوار فأقبل الحصباء منها مطفياً ... جمر الجوى مني برمي جمار فهناك لا حجر ولا عارٌ على ... ذي الحجر في التقبيل للأحجار أم عائد زمني بأجدر تربة ... بالقصد في أكناف خير جدار ربعاً؟ به غرر العلى مبذولة ... للمشتري واللاري للمشتار وبه تبين للقلوب حقائق ال ... أسرار بدر لم يُشن بسرار هو أحمد المختار أحمد مرسل ... قتّال كل معاند ختار

ندب إذا بث الجياد مغيرة؟ ... علقت بحبل للثبات مغار بيمينه في الحرب حتف الممترى ... وحياتها في السلم للممتار غمر الندى بجلاء أعمار الورى ... متكفل وهداية الأغمار جعل المهيمن في مسامع خصمه ... وقراً وزان صحابه بوقار وهو المظل بالغمائم من أذى ال ... أسفار والمنعوت في الأسفار وبه تنشر حين سار مهاجراً؟ ... للغار ذكر فاق نشر الغار وانهل إكراماً له صوب الحيا ... والقطر محتبس عن الأقطار فضل البرية كلها وسار به ... طود العلى في هاشم ونزار يا هادياً شد الإله بدينه ... أزرى وشدّ على العفاف أزاري يا من به إن عذت من سنة حمى ... أو زار في سنة محا أوزاري يا من حباء يديه محلول الحُبا ... لسناء سارٍ أو لفك إساري لو لم يكن مدحك من عددي لما ... أضحى شعاري صنعة الأشعار نشر الثناء عليك أطيب نفحة ... من مسك داري يضوع بداري ملأ المهيمن مذ قصدتك مادحاً ... يساره يمناي ثم يساري ونفى بجاهك يا أعز وسائلي ... قتر الهوى عني مع الأقتار وغدوت محروس الحمى من صفقة ال ... إعسار عند تواتر الأشعار حسبي رجاءً أنني من أمة ... بك أصبحت موضوعة الآصار

أنت الزعيم لها وأنت سفيرها ... إن أقبلت من أطول الأسفار ويزيد فيك رجاء قلبي قوةً ... أن صار بي نسب إلى الأنصار قوم حللت بدارهم فتدرعوا ... ببدارهم لرضاك ثوب فخار فاسأل الهك لي بعشر محرم ... جبراً لقلب واجف الأعشار وشهادتي حق عقيب شهادة ... فيها الوفاق لأهلك الإطهار وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم. سلوان مثلك للمحب عزيز ... وعليك لوم الصب ليس يجوز قلبي ذلول في هواك ومسمعي ... فله عن العذال فيك نشوز يا من شأى بجماله شمس الضحى ... ولقدّه دان القنا المهزوز هل للمتيم في وصالك مطمع ... فلعله بالقرب منك يفوز أنا عبدك الراضي برقي فارضني ... عبداً فلي في ذلك التمييز لا أبتغي مولى سواك من الورى ... إني وجانب من ملكت حريز لا عار يلحق في هواك لعاشق ... ومحب غيرك عرضه مغموز لا أدعي فيك الغرام مغمغماً ... في مثل حبك يكُشف المرموز يا سيد الأشراف يا من حبه ... في كل قلب صادر مغروز يا خاتم الرسل الكرام ومن به ... حلل النبوة زانها التطريز ذل الخلاف على عداتك ظاهر ... ومطيع أمرك بالقبول عزيز أبداً وليك لا يزال مقمصاً ... عزا وضدك داحض معروز

نظم القريض بمدح غيرك نقده ... زيفٌ ونظم مديحك الأبريز كل العروض بحسن مدحك كامل ... يحلى به المقصور والمهموز أنت المصفى من قبائل هاشم ... بك أصبحت للمكرمات تحوز أنت الذي رفع المهيمن قدره ... وعدوك الواهي العرى الملموز أنت الذي بصرتنا بعد العمى ... فبنور رشدك نهتدي ونميز أنت المخصص بالشفاعة للورى ... طراً وأنت على الصراط مجيز برزت في نيل المقامات العلى ... ولمثل مجدك يثبت التبريز ولقد خشيت الله أعظم خشية ... فلصدرك العطر الرحيب أزيز ونصحت إذا بلغت نصحاً شافياً ... ما فيه لا وهن ولا تعجيز حتى استقام الدين وارتفعت له ... عمدٌ لها في الخافقين بُروز فأجاب واقترب المنيب المتقي ... ونأى وصد الخاسر المحجوز كسرت جنودك قاهراً سلطانها ... كسرى وأُنفق ماله المكنوز ولحزبك الأعلون حتى يخرج ال ... طاغي ويمنع درهم وقفيز ولسوف يبعثك المهيمن مقعداً ... فيه لك التقريب والتعزيز أشكو إليك جماح نفس ترتمى ... في الغي وهي عن الرشاد ضموز مخدوعة بخداع دنيا شهدها ... سمٌ وتبدي الدر وهي عزوز فتنت قلوب الخلق وهي فتيةً ... ودهتهم بالخدع وهي عجوز

أنا في حبائلها رهين الأسراذ ... أنا للضرورة نحوها مكزوز فأعن ضعيفاً يتقي بك كيدها ... فلنبلها وسط القلوب حزوز بك أستجير وأستغيث وأرتجي ... أني بجاهك في المعاد أفوز وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم. طال في شرك المضايق حبسي ... واستقالت من العوائق نفسي إن أرادت إلى المعالي نهوضاً ... نكستها حظوظها أي نكس وبعيني للحقيقة شرب ... عز ورداً على حوائم خمس ونفيس فمن الجواهر غال ... سومه جلّ أن يباع ببخس وأرى عنه كل شيء حجاباً ... لي ولو ناظري وسمعي وحسي أي وقت تدور كأس المعاني ... في رياض البشرى بنفحة قدس ويهب القبول من جوه الرح ... ب لمستوحش بروح وأنس وتجول الأسرار في حلبة العل ... م فتجلو من الهوى كل لبس ما إلى ما وصفته من سبيل ... لأخي فطنة بحذق وحس بل بماضي عناية وبعزم ... صادق واجتناب غير الجنس واقتداء بشيخ صدق عليم ... سالك قد بنى على خير أس قلدته أيدي الولاية سيفاً ... لم تباشره كف قينٍ بمس

بعد أن ألبسته من خلع القر ... ب ملأ تعلو ملأ الدمقس هو عين السعد التي أين حلت ... من عراص الدنيا نفت كل بخس تابع سنة الرسول بها يصبح مستمسك اليدين ويمسي هي في صنجة الرجال محل ... لا يضاهي الدنيا نقداً بفلس نقد من بهرجته زيفٌ ولو كا ... ن كبشرٍ زهداً ونطقاً كقس سنة المصطفى سراج أضاءت ... فعلى نورها ضياء الشمس جاء بالنور والطهارة والشر ... ع المصفى من كل غش ورجس إن أردت الزهد الصريح فمنه ... يقبس المتقي عفاف النفس حين رد الكنوز علما بأن ال ... مال يلهي عن المعاد ويُنسي أو أردت الصبر الجميل ففيه ... للصبور الشكور حسن التأسي حين آذاه أقربوه وأقصو ... هـ وهموا بقتله أو بحبس لو جزاهم بفعلهم فلقد كا ... ن عليهم جبال مكة يرس وهو الأصل في التقى لم يباشر ... أيدياً للمبائعات بلمس وله الصوم والوصال ولا يف ... تر في الليل عن قيام ودرس وله الحلم والندى وندى القطر ... ضنينٌ في عام محل ويبس وله الفقر والتوكل إذلاً ... يوجد اليوم عنده زاد أمس

معدن الخوف والرعاية الخش ... ية والشكر والرضا والأنس وهو المؤثر الوجيه إذا قا ... ل كرام الأنام نفسي نفسي غرس الخير للورى فلقد فا ... ز محبٌ جنى ثمار الغرس فعليه من المهيمن أزكى ... صلوات برمسه خير رمس وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: قم فبادر قبيل رفع النعوش ... حلبة السبق ذا إزار كميش وتدبر خلق السماء ففيها ... عبرٌ جمةً لذي التفتيش كيف قامت بلا عماد وفكر ... في معاني ديباجها المنقوش زُينت بالنجوم تزهر فيها ... كالقناديل أو كخط رقيش جل من شادهن سبعاً طباقاً ... ليس في خلقهن من تشويش جعل النيرين فيها سراجاً ... وحماها من الرجيم الغشيش وتفكر في خلقه الأرض تنظر ... عجباً في مهادها المفروش بث فيها من كل زوج من النا ... س وما طار من ذوات الريش وصنوف الأنعام من رائحات ... سارحات ونافرات الوحوش وضروب الزروع والنخل والأعناب من مهمل ومن معروش ثم أرسا الجبال فيها إلى يو ... م تراها كعهنك المنفوش وهو المرسل اللواقح بشرىً ... بسحاب بادي الوميض خشيش

وكسا الأرض بعد محل بروداً ... من أزاهير غضةٍ وحشيش وأعدّ الفلك المواخر تجرين بنا فوق زاخر مستجيش وهدانا بعد العمي فانتعشنا ... بالنبي المبجل المنعوش والمصفى من الخليل ومن سام ... بن نوح وقينن بن أنوش وهو عند الطوفان صاحب نوح ... والخليل الرضا بنار بن كوش وله في المعاد رفع لواء الح ... مد إذ أنه زعيم الجيوش وهو للأمة المجيز على متن الصراط مزلة المخدوش كل من لم تنشه ثم يداه ... زل في النار وهو غير منوش وهو الشافع المنجي ذوي العص ... يان من قعر جاحم مخشوش أحمد الهاشمي أفضل خلق الل ... هـ عبد صفا من التغشيش جامع المنقبات ذو الخلق المح ... مود من بعضه حديث الجيوش فاتح الخير والمؤيد بالأم ... لاك وهو العزيز فوق العريش جاهد الجاحدين حتى أنابوا ... واستكانوا كالأنف المخشوش فاستنب الإسلام في الشرق والغر ... ب إلى أن علا جبال شريش يا غياث الملهوف يا كاشف الكر ... ب ويا مرشد البليد الدهيش قيدتني فأوثقتني الخطايا ... ورماني الهوى بسهم مريش حصر الكاتبان قولي وفعلي ... في كتاب محبّر مرقوش

ثم مالي وجه إليك سواه ... فاجعلن التقوى لباسي وريشي وارزقني الإخلاص في ساعة المو ... ت وأنساً في لحد قبر نبيش وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: إلام على الآثام أنت حريص ... وعن طاعة الرحمن فيك نكوص أغداً إذا أحضرتُ عريان حافياً ... وأرعد مني للحساب فريص ولائي للهادي البشير محمد ... معاداً إليه في المعاد أحيص أبي القاسم المختار أفضل من غدت ... تخب به نحو الحجيج قلوص وخير مزور في البسيطة أرقلت ... إليه تجيبات ضوامر خوص نبيٌّ له من ربه بكلامه ... ورؤيته في المرسلين خصوص وأيده الله المهيمن بالصبا ... ورعب له في الدار عين أصيص حليم عن الجاني رؤف مؤلف ... رحيم على نفع الأنام حريص سراج منير ذو بلاغ وحكمة ... لما فتقت أيدي الضلال يخوص وجاء الورى من ربه بشهادة ... فكان عليها للأنام بليص إلى أن سمعت أنوارها مستطيلة ... فكان لها في الخافقين نشوص ألا يا رسول الله يا من زكت له ... مناقب في العصر القديم وعيص فيا ليتني عاينت طيفك في الكرى ... أو اقتادني سير إليك بصيص مديحي موقوف عليك فما له ... إلى أحد إلا إليك خلوص

إذا قيل فيك الشعر جاء مهذّباً ... جلّى المعاني ليس فيه عويص ووصفك يعطي الفهم نوراً كأنه ... على الدّر في البحر الخضّم يغوص وذكرك يا مولاي ينفع غُلتي ... وللقلب من رجس الشكوك يموص ويؤنسني في وحدتي وتفردي ... إذا ضمني لحد علّي لحيص اغثني فإني في زمان خطوبه ... لها بين أحناء الرجال كصيص وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: نعم إن للبرق اليماني لوعةً ... لها بين أحناء الضلوع غموض وإن لخفاق النسيم إذا سرى ... على الزهر المطول وهو مريض لروحاً يهز الصب حتى كأنه ... يطير اشتياقاً والجناح مهيض سألتك يا من أصبحت عزماته ... لها في طلاب المكرمات نهوض تسامت مراميه فأصبحت عزماته لها ... ركاب به تجوب بحر الفلا وتخوض إذا ما وردت الماء ماء مجنة ... وطلت عليه المطى تخوض فعرض لأهليه بصبّ غرامه ... طويل بسكان الحجاز عريض وقل هل لمشتاق يهيم بذكركم ... تمادت به الأيام فهو حريض سبيل إلى عيش يقضي بقربكم ... وماضي شباب فات ليس يئيض لقد شف قلبي الوجد نحو أحبتي ... ومالي عنهم عائض فيعوض

فليت المطايا كن يممن أرضهم ... ولو بسطت دون الفلاة أروض لمن رفعت ما بين سلع إلى قبا ... قباب تغشتها المهابة بيض بها منهل يروي به كل عارف ... وروض لأرباب القلوب أريض ألا أيها الأعلام من أرض يثرب ... بها زمر الأملاك ليس تجيض حمى رسول الله أضحى معطر ال ... عراص كأن المسك فيه يميض نبي أجدّ الدين بعد دروسه ... وسدد سهم الرشد فهو رميض ولاقى الأذى من قومه فهو صابر ... ومرّ إلى ذات النخيل يُفيض فحلّ بثور غاره وعداتُه ... بكل سبيل إلى الفلاة تنوض فعمّى عليه العنكبوت بنسجه ... وظل على الباب الحمام يبيض أتى بالهدى والناس في سكرة الهوى ... وعندهم الأمر الحميد بغيض بهم لغط لا يفقهون كأنهم ... لضعف العقول الواهيات بعوض له في جهاد القوم درع حصينة ... وأجرد مأمون العثار ركوض وأسمر عسّال وأبيض قاضب ... صقيل وقوس بالسهام مروض فكم في عراص المعركات لخيله ... صريع بأطراف الرماح دحيض إلى أن ذوى الطغيان بعد شبابه ... وأصبحج روض الدين وهو غضيض كريم عظيم المعجزات بجاهه ... نمى الغيث خصباً والزمان عضوض وأصبح ماء البئر من فضل ريقه الرضا ... نهراً يجري فليس يغيض

والجيش حقاً من أصابع كفه ... تدفق ماء في الإناء غريض روى الصدى من درّ عجفاء حائل ... تمكن منها الهزل فهي رفيض وذلت له الآساد حتى أوبسا ... على باب البقيع ربوض فيا كاسر العدوى وجابر من سطت ... به غير الأيام فهو وهيض تجمع فيك الفضل والفقر كله ... فلم يغلُ في وصف لديك قريض صفاتك عقدٌ في القوافي مفصل ... تحلى به ضرب وزين عروض مديحك ذخر في حياتي وعدةٌ ... إذا حال من دون القريض جريض علوت به في رأس أرعن شامخ ... فلا يطبيني بعد ذاك حضيض وكن لي مجيراً من خطوب لذي الحجى ... الكريم إلى العمر اللئيم تؤض وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: إن بان من تهوى وأنت مثبط ... وصبرت لا تبكي فأنت مفرّط فاحلل عقود الدمع في دار الهوى ... فلها البكاء عليك حقاً يُشرط طلّ الدموع على ثرى الأطلال في ... شرع الغرام فريضةٌ لا تسقط دار عكفت بها وفودك فاحمٌ ... افتنتني عنها ورأسك اشمط وإذا تمكنت الصبابة من فتىً ... لم يلو عطفيه مزارٌ يشحط كيف التسلي عن هوى قمر له ... في القلب مني منزل متوسط

أرضي بما يختاره طوعاً ... ولو أضحى بما أرضى به يتسخّط لم أنسه يوم التقينا بأسما ... والصدر بالأشجان مني ينحط ففهمت من ذُلي لديه وعزّه ... أن الجمال على القلوب مسلّط والحسن جند لا يفكّ أسيره ... وقتيله بدم الجوى متشحط ومبكّر جدّت به عزماته ... نحو العلى فاغذ لا يتثبط ورفيقه الأدنى الموازر صعدةٌ ... يرمه أو صارم يتأبط يطوى به شعب السباسب جلعد ... أجُدُ القرى عبل السنام عملّط مرح يمور ويرتمى في سيره ... مور السحاب مرعد متخمّط يطفو به آل الضحى فكأنه ... فلك على متن الخضمّ مجلفط وإذ بدا عند الصباح لعينه ... قصرٌ بذات النخل أبيض أعيط ورأى القباب البيض دام سناؤها ... وانحلّ عنه سيره المخروط أرسى بطيبة للإقامة كلكلاً ... فلنعم مرساه ونعم المربط حلّت مطيته بأشرف منزل ... منه المكارم والتقى يستنبط فضل البقاع وشادها بمحمد ... فضلاً كبيراً سامياً لا يضبط هو أفضل الرسل الكرام وأنه ... لخطيبهم وهو الإمام المقسط هو خير مأمول وأكرم شافع ... يوم القيامة جاره لا يهمط نصبت عيون الشرك والطغيا به ... وغدا به بحر الهدى يتغطمط

وافى وشيطان الغواية فاتح ... باب الضلال لحزبه متخبط يلقي زخارفه على أشياعه ... ويلفق القول الهراء ويلغط فكأنه ولفيفه في غيّهم ... عشواء في غسق الدجنة تخبط فمحا بنور الرشد ظلمة مكره ال ... واهي فأدبر خاسيئاً يتلبط وعلا بقهر النصر شامخ كيده ... فهوى وذلّ فرينه المتحمط كم قدّ بالبتار من قدوكم ... شحطت بسهم نحو طاغ شوحط فسما به الإيمان بعد خموله ... حتى تسم ذروة لا تهبط وحباه مرسله بأزكى أمة ... اختارها النمط الأغر الأوسط ما فيهم الأولى عارف ... أو زاهد أو عالم مستنبط وغداً يكون بحوضه فرطاً لهم ... وشفيع عاص يعتدي ويفرط وهم الشهود على عيوب سواهم ... يوم المعاد وعرضهم لا يهبط وهم غداً ثلثا صفوف الجنة ال ... فيحاء في سند صحيح يُضبط أزكى الورى نسباً وأكرم عنصراً ... وأمد كفاً بالنوال وأبسط وأنمّ حلماً لا يجازي من أتى ... بالسوء عدل منصف لا يفرط ولقد تعمّق في أذاه وكاده ... بالسحر خبٌ من يهود عشنط فأعيذ من كيد النوافث فأنثني ... فكأنما هو من عقال ينشط

هذا ولم يعبس له وجهاً ولم ... يُسمع له يوماً كلام يسخط وأبثّ بعض المعجرات فنظمها ... درٌّ ثمين بالمسامع يلقط شرح الملائك صدره في أربع ... يا حبذا ما ضم منه المخيط وكذلك في عشر وفي معراجه ... نقل الثلاثة حافظ لا يغلط وانشق إكراماً له قمر الدجى ... وجموع مكة بالبطاح تعطعط بقعيقعان النصف منه ونصفه ... بأبي قبيس لا محالة يسقط ولقد شكا يوم الحديبية الصدى ... جيش فتاه صريخهم لا يوهط فسقاهم حتى رووا وتطهّروا ... بالماء من بين الأصابع ينبط وأتاه وفد فزارةٍ وبلادهم ... بالجدب أضحت تقشعر وتقحط فنفى قنوطهم بدعوته ومن ... كان الرسول سفيره لا يقنط ودعا فسحت ديمة حتى دعا ... بالصحو فانجابت كثوب تكشط وله الشفاعة في المعاد وحوضه ال ... عذب الروا وله اللواء الأحوط وله المقام الأكبر المحمود والز ... لفى به يوم القيامة تغبط هذا لعمر آلهك الفضل الذي لا ... ريب فيه والثناء الأقسط يا صفوة الرحمن من كل الورى ... يا من به في الخطب جاشى يُربط إني إلى رب العلى متوجه ... بك عند كل ملمة تتمغط بك أستجير ومن يلوذ من الورى ... بعظيم جاهك قدره لا يُغمط فسأل لأمتك الضعيفة نصرة ... ورخاء عيش ثم أمناً يبسط

وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: عُدّتي للحياة والموت والحشر ونار سوداء ذات شواظ أحمد الشافع الوجيه أبو القا ... سم ذو الحظ فوق كل الأحاظي من به بشّر المتوّج سيفٌ ... وتلاه قسٌ بسوق عكاظ وأتاهم بمحكم الذكر منه ... فنسا الوعظ حاذق الوعاظ هو محي القلوب ماحي الخطايا ... قرّة العين روضة الحفّاظ جاء بالحق والشيطان تسعى ... بين حزب الضلالة الأوشاظ دخل الشرك في قلوبهم الغلب دخول النصول في الأرعاظ فأراهم ليهتدوا معجزاتٍ ... كافيات للصبر والأيقاظ وهداهم إلى صراط سوى ... مورث زينة القلوب الفظاظ فدنا منه كل عبد منيب ... ونأى كل فاجر خواظ فلقد فاز من أناب وطالت ... حسرات المنافق الجعاظ لم يزل يحسن البلاغ إلى أن ... عُبد الله في الذرى والشناظ وشسوع الفلاة والسيف والري ... ف وبث الصفاء بعد الكظاظ فسما الدين مقبلاً وتولى ال ... كفر حيران رامقاً بلحاظ يا حبيب الرحمن يا شامخ البنيان في المجد يا منيع الحفاظ

يا جميل الأخلاق يا حسن آلاء ... راض والصفح عن ذوي الأحفاظ يا كريم الأعراق يا أفصح النا ... س لساناً يا أعذب الألفاظ يا رؤوفاً بالمؤمنين رحيماً ... ولأهل الفجور ذا إغلاظ يا شفيع الأنام يا منقذ العا ... صين من بطشه الشداد الغلاظ يا مغيث العطاش في الظمأ الأك ... أخبرنا والناس في صدىً وكظاظ في مقام فيه الحجيم اكفهرت ... ثم أبدت تنفس المغتاظ يا نبي الهدى أغث مستجيراً ... بك في الخطب دائم الألظاظ من زمان فيه القبول لذي الجه ... ل ووقتٍ لذي الحجى لفاظ فيه للغمر نعمة وثراء ... وأخو العلم عاجز عن لماظ حمل العارفون فيه كما حمّل مستوثق البُرى والشظاظ واسأل الله لطفه في حباء ... فإليه صبابتي وحفاظي وإذا ملا قبرت فرداً وحيداً ... غائب الشخص عن حديد اللحاظ وإذا النفس بالمنية فاظت ... بانتهاء الحياة أي فواظ لا عداك السلام في كل يوم ... من حبيب مواصل ملظاظ وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم ويذكر عقيدته، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال فقبلّت فاه وقلت أشهد أن هذا الفم الذي أنزل عليه الوحي، وقال لي عليه أفضل الصلاة والسلام: وأنا أشهد أنك مت على الكتاب والسنة، ذكره صلى الله عليه وسلم بلفظ الماضي.

تواضع لرب العرش علّك تُرفع ... لقد فاز عبد للمهيمن يخضع وداو بذكر الله قلبك إنه ... لأعلى دواء للقلوب وأنفع وخذ من تقى الرحمن أمناً وعُدّةً ... ليوم به غير التقى مروّع وبالسنة المثلى فكن متمسكاً ... فتلك طريق للسلامة مهيع هي العروة الوثقى وحجة مقتد ... نبُّت بها أسباب من هو مبدع رأيت رسول الله أنصح مرشد ... وأنجح ذي جاه كريم يشفع وأصدق رؤيا المرء رؤياه إنها ... لمن شبه الشيطان تُحمى وتمنع فقبّلت فاه العذب تقبيل شيّق ... وما كنت في تقبيل ممشاه أطمع وقلت له هذا الفم الصادق الذي ... بوحي آله العرش كان يمتّع فبشّرني خير الأنام بميتتي ... على سنة بيضاء بالحق تشرع فها أنا تصديقاً لبشراه ثابت ... عليها بحمد الله لا أتتعتع بمعتقد الثبت الإمام ابن حنبل ... أدين فهو الناقل المتورع لئن لم أتابع زهده وتقاءه ... فإني له في صحة العقد اتبع أمرّ أحاديث الصفات كما أتت ... على رغم غمر يعتدى ويشنع فلا يلج التعطيل قلبي ولا إلى ... زخارف ذي التأويل ما عشت أرجع أقرّ بأن الله جلّ ثناؤه آله ... قديم قاهر مترفع

سميع بصير ما له في صفاته ... شبيه يرى من فوق سبع ويسمع وخُلق الطباق السبع والأرض واسعٌ ... وكرسيّه منهن في الخلق أوسع قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه ... ومن علمه لم يخل في الأرض موضع ومن قال إن الله جلّ بذاته ... بكل مكانٍ جاهلٌ متسرع إليه الكلام الطيب الصدق صاعدٌ ... وأعمال كل الخلق تُحصى وترفع فما لم يشاه الله ليس بكائن ... وما شاءه في خلقه ليس يدفع يُضلُّ ويهدي والقضاء بأمره ... مضى نافذاً فيما يضرّ وينفع وللشر والخير المهيمن خالق ... وإبليس من أن يخلق الشرّ أوضع ولكنه للشر أخبثُ محدث ... بوسواسه في موبق الإثم يُوقع علا عن مُعين ربُنا ومظاهر ... على الملك أو كفوا على الغيب يُطلع لقد برأ الخلق ابتداء من الثرى ... بلا مسعد فيما يسوّى ويصنع وقال لهم ذرّاً ألست بربكم ... فقال بلى منهم عصىً وطيع وسوف يناديهم جميعاً إذا أتوا ... حفاةً عراةً في المعاد فيسمعوا ويسمع سكان السموات وحيه ... فهم لسماع القول صرعى وخضّع وكلم موسى والكلام حقيقة ... بتوكيده بالمصدر الخصم يقطع ومعتقدي أن القرآن كلامه ... قديم كريم في المصاحف مودع وقد سبق الوعد المصدّقُ أنه ... إذا جاءت الأشراط منها سيرفع وأودع حفظاً في الصدور وإنه ... لبالعين مرئٌ وبالأذن يُسمع

بالسنة القراء يُتلى وإنه ... بحرف وصوت ضلّ من يتنطع هو السور الهادي إلى الحق نورها ... وآيات صدق للمنيبين تنفع به نزل الروح الأمين مصدقاً ... على قلب عبد كان بالحق يصدع وليس بمخلوق ومن قال عكس ما ... ذكرتُ له في الناس بالكفر يقطع ولا محدث قد جاء عن سيد الورى ... حديث لمعناه أسوق وأوضع لقد قرأ الرحمن طه جميعها ... ويس أيضاً والملائك تسمع ولم يخلق السبع الطباق ولا الثرى ... وهذا دليل ما لهم عنه مدفع وقولهم خلق فظيع وقول من ... يشير إليه بالعبارة أفظع ومن كان فيه واقفياً محيراً ... فذلك واللفظي كل مبدّع وفي كتب الله القديمة كلها ... أقول بهذا القول لا أتفزّع ومعتقدي أن الحروف قديمة ... وإن حار في قولي غويٌّ متعتع تبارك ربي ذو الجلال صفاته ... تجلّ عن التأويل إن كنت تتبع يداه هما مبسوطتان تعالياً ... عن المثل يعطى من يشاء ويمنع وألواح موسى خطّها بيمينه ... مواعظ تشفى من ينيب ويخشع وكلتا يديه جلّ عن مشبه له ... يمين إلى خير البرية يرفع وينزل في الأسحار في كل ليلة ... كما جاء في الأخبار والناس هجّع ينادي أولي الحاجات والتوب طالباً ... فهل راهب أو راغب متضرع

ومن قال إثبات الصفات شناعة ... فجرأته إذ عارض النصّ أشنع وينظره الأبرار يوم معادهم ... ويحجب عنه من إلى النار يوزع كما ينظرون الشمس لا غيم دونها ... لقد خاب محجوب هناك ممنّع ولم يرفى الدنيا من الناس ربّه ... بعينيه إلا الهاشمي المشّفع محمد المخصوص بالرؤية التي ... غدا الطور إجلالاً لها يتقطّع وإن نعيم القبر ثم عذابه ... لحق فمسرور به ومروّع يخالف ضيقاً بين أضلع من طغى ... ويفسح فيه للتقى ويوسع ويسأل فيه الميت الملكان عن ... هداه فمرحوم وآخر يُقمع ويعرف من في القبر من زاره وإن ... يُسلم على الأموات في القبر يسمعوا ومن يقرأ القرآن للميت مهدياً ... يصله وبالإطعام والبر يُنفع وقد يسأل الأموات من مات بعدهم ... عن الأهل من منهم مقيم ومقلع وربي أحصى خلقهم ويميتهم ... ويبعثهم بعد الممات ويجمع وينفخ إسرافيل في الصور نفخةً ... فكل من الأجداث للحشر مُهطع وتدعى البرايا للحساب جميعهم ... فلا ظلم والميزان للعدل يوضع وذلك يوم فيه نور نبينا ... برفع لواء الحمد يعلو ويسطع ويظهر فيه جاهه بشفاعة ... إليها لكرب الموقف الخلق يهرع وينقذ في يوم القيامة من لظى ... من الأمة العاصين إذ هو يشفع

وينصب فيه حوضه كاشف الصدى ... وذلك حوض بالروا العذب مُترع وإن له فيه مقاماً مقرباً ... ومقعد صدق نوره يتشعشع ويسبق كل العالمين مبادراً ... لحلقة باب المنزل الرحب يقرع فيدخل والشعث الخماص كأنما ... وجوههم شمس الضحى حين تطلع وينزله الله الوسيلة رتبةً ... له ليس فيها للخلائق مطمع وقد خلق الله الجنان معدة ... لأربابها فيها ظلال ومرتع وحور حسان ناعمات كواعب ... بها كل أوّابٍ حفيظ ممتع وقد خلق الله الجحيم لأهلها ... لبأس أذاها عنهم ليس ينزع لهم ظلل منها عليهم وتحتهم ... لأمعائهم شرب الحميم يقطع وبعد التقاضي يّبح الموت بينهم ... فمستبشر زاض وآخر يجزع وأعتقد الإيمان قولاً مسدداً ... وأعمال صدق في الصحائف تودع يزيد بفعل الخير من كل مؤمن ... وينقص بالعصيان فهو ممزع وإيماننا بضع وسبعون شعبةً ... حديث صحيح النقل لا يتضعضع وإني إذا ما قلت إني مؤمن ... ولا شك عندي بالمشيئة اتبع وليس كبير الذنب مخلد مؤمن ... بنار بلى فيه النبي مشفع ولست أرى رأي الخوارج بل إذا ... رعى أمرنا والٍ أطيع وأسمع وإن جهاد المسلمين عدوهم ... لفرض وقرن الشمس في الغرب يطلع

وأمسح فوق الخفّ والمسحُ سنة ... إلى مدة معلومة ثم اخلع وللسحر تأثير ولا باس بالرقى ... بأم الكتاب أو دعاء يرفع ولست لميت المسلمين بشاهد ... أيُسقى رحيقاً أم حميماً يُجرع بلى أرتجي للمحسنين سلامة ... وأخشى على من يعتدي أو يضيّع ولا ريب عندي في ثبوت كرامة ال ... ولي ولي ولواضحي على الماء يُسرع وبالحمد لله افتتاح صلاتنا ... لما صح من نقل المحقين اتبع ولا أر في الفجر القنوت ولا أرى ... عليّ إذا أذنتُ أني أرجّع وإن مرّ في شعبان عشرون ليلة ... وتسع وغُمّ البرج بالصوم أقطع ومذهبنا الوسطى هي العصر فاستفد ... مسائل خمساً من فروع تفرّع ولست لمن فيها يخالف مانعاً ... ولكن خلاف في الأصول ممنّع وما شاع فيه من خلاف لمسلم ... فإني لمن يُفتى به لا أبدّع وأشهد أن الأنبياء جميعهم ... ومعجزهم حقٌ وذلك يُقنع وأن رسول الله أحمد خيرهم ... وأفصحهم عند البلاغ وأبرع على عرشه خطّ اسمه ولقد عفا ... لآدم إذا أضحى به يتضرع وكان صفي الله آدم طينة ... وفيه لأقمار النبوة مطلع وأودعت التوراة غرّ صفاته ... فمن نعته الأحبار آمن تبع وأودعت الرهبان سلمان وصفه ... فكان إلى أخباره يتطلع فأبصر برهان العلامات عنده ... فأضحي بجلبات الهدى يتلفع

وقد كان حملاً والجباه منيرةٌ ... به وسمت أنواره وهو مرضع تنكّست الأصنام عند ولاده ... كما نكّستها منه في الفتح إصبع وشبّ شباباً للنواظر ناضراً ... وفيه لسر المجد مرأىً ومسمع لقد شرحت منه الملائك صدره ... وكان له من أبرك العمر أربع وكان ابن خمس والغمام تظله ... وفي العشر نور الشرح في الصدر يلمع وفي الخمس والعشرين سافر تاجراً ... بمال رزان للمفاوز يقطع رأه بحيرا والغمامة فوقه ... ومسيرةٌ والحرّ للوجه يسفع وأبصرت الكبرى فتاة خويلد ... ومن فوقه ظلل الغمام مرفع إلى أن أرته الأربعون أشدّه ... فأضحى بسربال الهدى يتدرّع ولما تحلّى بالنبوة وانتهى ... إلى مستوٍ عنه الملائك توزع أتى وعلى عطفيه أفخر حلة ... وتاجٌ بدرّ المكرمات مرصّع رأى ليلة المعراج أمراً محققاً ... ومنكر هذا الأمر يخفى ويردع وفيها قُبيل الرفع أكمل صدره ... بشرح منير نشره متضوّع به أظهر الله المهيمن دينه ... فأصبح وجه الدين لا يتبرقع وأحكامه في الأمر والنهي والشرى ... وفي البيع تبقى والجبال تصدّع ومعجزة القرآن ظلت لحسنه ... وترتيله في نخلة الجن تخضع وللقمر المنشق نصفين معجزٌ ... عزيز على من رامه متمنع

ونادى فلبته بمكة دوحةٌ ... تخد إليه الأرض خداً وتسرع ولما دنا منه سراقةُ طالباً ... على فرس كادت له الأرض تبلع فعاذ به مستأمناً فأجاره ... وأطلقها حتى غدت تتقلع وحنّ إليه الجذع عند فراقه ... كما حنّ مسلوب القرين مفجع وخرّ له الناب المهدّدُ ساجداً ... وأجفانه خوفاً من النحر تدمع فأطلقه من أهله فبجاهه ... نجا من اليم الذبح هذا الجلنقع فكيف بنا إذ نحن عذنا بجاهه ... من الحادث المغرى بنا فهو مرجع وخرّ له ساني الأباعر ساجداً ... وكان شروداً فانثنى وهو طيّع وعاذت به ريمٌ فقّك إسارها ... فمرت على الخشفين تحنو وتُرضع ومدّ يديه والرّبى مقشعرّة ... فما رام إلا والسحائب تهمع فدام الحيا سبعاً فمدّ لكشفها ... يداً غمرت جوداً فظلت تقشّع ودرّت له في الجدب عجفاء حائلٌ ... وبكل على نزل الفحول تمنع وقد كان من مدّ من التمر أو من الش ... عير بجوع الجحفل الجم يشبع ومن لبن في القعب أشبع كل من ... حوت صُفة الإسلام والقوم جوّع وآض أبو هرٍ وقد كان آيساً ... من الرّي وهو الشارب المتضلع ولما اشتكوا يوم الحديبية الصدى ... غدا الماء من بين الأصابع ينبع

وقد أصبح الماء الأجاج بريقه ... يروي غليل الظامئين وينقع وساحت به بئر ومقلة حيدر ... شفاها فلم يرمد لها الدهر مدمع وكلّمة الصم الصوامت مثلما ... يكلمه بادي الفصاحة مصقع وكان على شهر له الرعب ناصر ... وريح الصبا للنصر هو جاء زعزع وإن رُمت من أخلاقه ذكر بعضها ... فتلك من المسك المعنبر أضوع اتته مقالي الكنوز فردّها ... وقال أجوع اليوم والغد أشبع فصحّ له الزهد الصريح بقدرة ... وعلم فمن ذا منه أغنى وأقنع وفي الحلم ما جاز مسيئاً بفعله ... ألم يعف عمن للسّمام تُجرع وعن ساحر جزيان رام بكيده ... أذاه فلم يجزه بما كان يصنع فقال لقوم عند دركلة لهم ... رؤوه ففروا آل أرفدة أرجعوا ليعلم أعداء الهدى أن ديننا ... هو الحق فيه الأمر سهل موسع ويستنشد الأشعار مستحسناً لها ... وقد كان من حسّان للمدح يسمع ولابن أبي سُلمى أجاز وقد دعا ... على المدح للعباس نعم المشرع وكان له حسن التواضع شيمةً ... حباه به الرحمن لا يتصنع ففي بيته قد كان يخصف نعله ... وكان إذا ما انهج الثوب يرقع

ويجلس فوق الأرض لا فرش تحته ... ومطعمه أيضاً على الأرض يُوضع دعاه يهوديٌّ أجاب دعاءه ... وعن دعوة الملوك لا يتمنّع وفي الجود فاسئل عن خباء يمينه ... أئمة أهل النقل يا متتبع ألم يهب الشاء الكثيرة عدادها ... لعافٍ أتاه يعتريه ويقنع أما فضّها سبعين ألفاً بمجلس ... فلم يبق منها درهم يتوقع وفي البأس فاسأل عنه يوم هوزان ... أما انهزموا وهو الكمّى السميدع وما التقت الأقران يوم كريهة ... على الطعن إلا وهو أقوى وأشجع لهم منه يوم السلم شرع وسنة ... وفي الحرب نصر والأسنة تشرع وأمته خير القرون وخيرهم ... صحابته أزكى الأنام وأورع وخيرهم الصدّيق إذ هو منهم ... إلى السبق في الإسلام والبرّ أسرع وفي ليلة الغار افتداه بنفسه ... حذاراً عليه من أراقم تلسع وقاه من الرقش العوادي برجله ... فبات يعاني السم والطرف تدمع واتحفه بالبكر عائشة التي ... براءتها في سور النور تُسمع وكان له صهراً وصلّى وراءه ال ... نبي صلاة الصبح والصحب أجمع وردّ فريق الردّة الزائغ الذي ... لفرض زكاة المال أصبح يمنع إلى أن أقام الدين بعد اعوجاجه ... وأضحى حمى التقوى به وهو ممرع رضينا به بعد النبي خليفة ... على عقده كل الصحابة أجمعوا ومن بعده الفاروق مظهر ديننا ... بإسلامه والأمر خافٍ مبرقع هو العدويّ العبقريّ المفهّم المبصر والباب الحديد الممنع

خلافته صحت بعقد خليفة ... على فضله حزب الصحابة مجمع ورؤيا النبي المصطفى أنه على ... قليب غزير الماء بالغرب ينزع وتأويل هذا ما سمعت فتوحه ... وعدل له بين الأنام موزع له العلم والحكم السديد وصحة التوكل وصف والتقى والتورّع وعن زهده فاسأل خبيراً ألم يقم ... خطيباً عليهم والأزار مرقّع ومن بعده عثمان من كان في الدجى ... يرتّل آيات الكتاب ويركع يرتله في ركعة وهو الذي ... له كان في رقّ المصاحف يجمع وزوجه الهادي ابنتيه كرامةً ... ولو كنّ عشراً لم يكن بعد يمنع وأعطاه سهماً يوم بدر ولم يكن ... وبايع عنه نائباً حين بُويعوا وسبّل بئراً ماؤها ينقع الصدى ... وجهّز جيشاً وهو بالعسر مدقع وقمّصه الرحمن ثوب خلافة ... بوعد النبي المصطفى ليس يخلع ومن بعده الهادي علي بقوله السديد إذا ما أشكل الأمر يقطع إذا ذكر الراوون صحب محمد ... يكون له فيهم خصائص أربع إخاءٌ مع المختار وهو ابن عمه ... وسبطاه والزهراء فضل منوّع وأعطاه خير الناس أشرف رأية ... وكان له بالفتح والنصر مرجع ولو شاء أن يرقى السموات إذ له ... على كتف الهادي البشير ترفع أمام بطين في العوم وإنه ... من الشك والشرك الخفي لأنزع ومن بعدهم خير الصحابة ستة ... لهم بالجنان المصطفى كان يقطع فذكرك منهم طلحة الخير شائع وقولك فيه طلحة الجود أشيع

ويعرف بالفياض إذ جود كفه ... أعمّ من البحر الخضم وأنفع فكم مائتي ألف على الناس فضّها ... عليهم بها في الضائقات يوسّع ويمناه شلت يوم أحد لدفعه ... بها عن نبي الله لا يتزعزع وإن الزبير الفاتك الشهم منهم ... أشد رجال الحرب بأساً وأمنع وفارس بدر وابن عمة سيد ال ... ورى والجواد المنفق المتطوّع حواريّه وهو الذي باختياره ... لرأيته العلياء في الفتح يرفع ومنهم أمير الحرب سعد بن مالك ... وأفضل من رامٍ عن القوس ينزع وثلث أرباب الهدى ودعاؤه ... إليه من الله الإجابة تسرع وكان له خالاً وأول من رمى ... بسهم له في عصبة الشرك موقع ومنهم سعيد خصّه سيد الورى ... وآخّره عذر عن الغزو يمنع بسهمٍ وأجرٍ يوم بدر وقد غدا ... كمن هو في بدر كمتىٌ مدرّع وإن ابن عوف منهم المنفق الذي ... بأنفس مال لم يزل يتبرع ومنهم أمين الأمة الثبت عامر ... فيا لفتىً فيه غناء ومقنع وأبطال بدر فضلهم غير منكر ... بأفخر ثوب في الجهاد تدرّعوا وفي بيعة الرضوان فضل لأهلها ... وتفضيل أهل البيت ما ليس يُدفع وأزواجه في جنة الخلد عنده ... بهن مع الحور الحسان يمتع وللفضل أيضاً في معاوية أعتقد ... ردافته تفضيلها لا يضيع هو الكاتب الوحي الحليم وأخته ... مع المصطفى في جنة الخلد ترتع وكل صحابي رآه ففضله ... على غيره في نيله ليس يُطمع

ولا أبتغي التفتيش في ذكر ما جرى ... لأصحابه خاب الغوى المشنع فيا طالباً أرض الحجاز إذا انطوى ... له أجرعٌ منها تعرّض أجرع يحاول أسباب العلى في طلابه ... فيوجف في البيد الركاب ويوضع إذا بلغت سلعاً مطاياك غدوةً ... ولاح لها من أرض طيبة مرتع فذلك مأوى العلم والحلم والهدى ... وفيه لمكنون الحقائق منبع لأن به خير الأنام محمداً ... له كل الفضائل تجمع فقل يا رسول الله أنت نصيرنا ... على فتن في وقتنا تتقرع بك السنة المثلى عرفنا وأنكرت ... قلوب عليها بالغباوة يطبع بتسليمنا فيها وعينا وفرقة ال ... هوى قلّدوا فيها العقول فلم يعوا فسل ربك الرحمن أن لا يزيلنا ... عن السنة المثلى وأنت مشفع عليك سلام الله ما أعقب الدجى ... صباح وما لاحت بوارق تلمع وقال رحمه الله يمدحه صلى الله عليه وسلم بالإشارة: نفسي الفداء لبدر تمّ بازغ ... سامٍ عل غصن الجمال النابغ لا يعترى نقصُ المحاق كماله ... كلاً وليس قوامه بالزائغ يهتز في حلل المواهب مائساً ... في ظل قرب للجلالة سابغ غصن النضارة نشره متعطر ... ريّان من ورد المزيد السائغ أهدى له الرحمن أحسن صبغة ... فتبارك الرحمن أحسن صابغ بلغت عنايته به ما لم يكن ... أحد إليه من الأنام ببالغ صفت القلوب بوده إذ أطفأت ... أنواره نار العدو النازغ

قمعت جيوش النصر تحت لوائه ... بالقهر كلّ مبارز ومرواغ يا من تجمعت المناقب كلها ... فيه فلم يدركه وصف مبالغ ومن اكتسى ثوب البهاء محبةً ... تباً لقلب من ودادك فارغ وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: إليك رسول الله أشكو تخلّفي ... وشدّة تقصير بقلبي مُجحف وفقد خشوع للفوائد جالب ... وأعظم من فقديه فقد تأسفي إذا لمعت للرشد في القلب لمعةٌ ... تغمدها سدفٌ الحجاب فتختفي إلام وقد أكملت ستين حجةً ... الوث على ذل النقيصة مطرفي وحتّام أنهى النفس عن شهواتها ... وتضمن لي أن لا تعود فلا تفي وأزجرها عن غيّها وجماحها ... فتخدعني منها بوعدٍ مسوّف أغالي بها في سومها فتردني ... إلى ثمنٍ بخسٍ زهيد مطفف اغثني فقد ضاقت عليّ مذاهبي ... وأنت ملاذ للمروع المخوّف أجرني أجرني يا حمى كل عائذ ... ويا ملجأ الجاني وغوث الملهّف قصدتك يا خير البرية كلها ... وأفضل مبعوث وأعدل منصف وأكرم مقصود وأنجح شافع ... وأرحم خلق الله بالمتعطف لتسأل فيّ الله فارحم تضرعي ... وذلّ خضوعي واستعار تلهفي قصدتك علماً أن جاهك كأنف ... لجارك قصد الهاتف المتخطّف

فخذ بيدي يا عُدّتي عند شدتي ... وصل وتعطف يا كريم التعطف وكن لي في الدنيا شفيعاً فإنني ... لأرجوك في الأخرى لحشري وموقفي ألست سليل الغرّ من آل هاشم ... أولى الكرم الهامي على كل معتفي بك اكتست الآباء فوق فخارهم ... فخاراً ومن يفخر بمثلك يكتف وكنت نبياً قبل آدم مصطفى ... كريماً لحقٌ أنت خيرٌ من اصطفى ومنك اكتست أعطاف طيبة حلّة ... من الفخر لا أهداب برد مفوّف فقاقت جميع الأرض نوراً وبهجةً ... وعرفاً به لولاك لم تتعرّف ولولاك ما حنّت إليها على الوجى ... ركائب تطوى نفنفاً بعد نفنف ضوامر من طول السرى برّحت بها ... البرى وبراها الحثّ من كل موجف عليا رجال فارقوا خفض عيشهم ... فما صدفتهم عنك زهرة زخرف يؤمون ربعاً منك بالنور آهلاً ... يرومون منك الفضل يا خير مُسعف وأدركت الأنصار أوسٌ وخزرج ... بك النصر لا بالسمهريّ المثقّف لك المنّة العظمى عليهم إذ اهتدوا ... بنورك للدين القويم المخفّف بدت ليلة السبعين أنجم سعدهم ... ببدر تمامٍ منك غير مكسّف وحاز بك الأعيان من نقبائهم ... مناقب عزٍّ نورها ليس يختفي دعوتهم نحو الرشاد فبادروا ... سراعاً لما تدعو بغير توقف

فأضحوا جميعاً قد تألف شملهم ... على طاعة الرحمن خير تألف وأمتك المرحومة الوسط التي ... سمت قبل اجتازت كمال التشرف أتيتك يا خير البرايا بمدحة ... أطاعت قوافيها بغير تكلّف عليها بهاءٌ من ثنائك باهر ... شهيّ إلى قلب المحب المشغف ولو لم تكن جاءت بمدحك سنةٌ ... لقصّر عنه هيبةّ نظمُ وُصف مدحتك أبغى الفضل منك وأجتدي ... نوالك فأجبر كسر يحيى بن يوسف فلي حرمة الإسلام والشيب والذي ... أدين به من سنّة لم تحرّف ورؤياك في الدنيا وأخراي يا لها ... مني إن أنل أسبابها أتشرف وحج إلى البيت المعظم في غنىً ... وعافية وأضمم عيالي وأكنف وتجديد تسليمي عليك مواجهاً ... وتعفير خدي في الثرى المترشف وخاتمة الأعمال بالفوز والرضا ... ومن يُكف عقبي السوء فيها فقد كفى عليك سلام الله غضّاً مجدداً ... منوطاً بتسليم جديد مضعّف لعترتك الغرّ الكرام وصحبك ال ... أفاضل أهل السبق في كل موقف وأزواجك اللاتي كملن طهارةً ... وبرأهن الله من إفك مُرجف وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: لولا شذاً من نشركم ينشق ... ما حنّ نحو المُهتم المُعرق ولا صبا في الصبح نحو الصبا ... ولا ثارت شجوه الأينق ما للربوع بعدكم بهجة ... ولا لروض ناضر رونق

أنتم معانيها فإن غبتموا ... فليس فيها حسن يُرمق لولاكم ما هاجني بارق ... ولا شجاني بالحمى أبرق ولا لوى لي عنقاً في الفلا ... عيسٌ إذا جدّ السرى العنق ما عرّض الحادي بذكراكم ... إل اوسمعي نحوه يسبق ولا سرى ركبٌ إلى أرضكم ... إلا تلاه قلبي الشيّق فُكّوا أسيراً لكمُ مُوثقاً ... عليه في حفظ الهوى موثق فؤاده قيّده حبّكم ... وجسمه بين الورى مطلق قد كنت من قبل النوى إن جرى ... فراقكم في خاطري أفرق وكنت نُصباً لعيني فهل ... طيفُ خيال منكمُ يطرق أحببتكم طفلاً وقد أخلقت ... شبيبتي والود لا يخلق أنّي أشوب الآن صفو الهوى ... وعارضي قد شاب والمفرق يليق بي صبري على حكمكم ... ولكن العطف بكم اليق هل عائد لي والمُنى ضلّةٌ ... ظلٌ وورد سائغ ريّق يا أرض نعمان ووادي مِنى ... والخيف لو أن المنى تصدق وهل بذاك الشعب لي وقفةً ... في حرم أنواره تُشرق وربّة الستر لنا تُجلتلى ... وعوُد وصلي مثمرٌ مورق وأكبر الآمال لو ضمّني ... بسفح سلع مربع مونق فبالقباب البيض لي مطلب ... عرف الرضا من تربه يُنشق

محجب بالعزّ لا بالظُبا ... به سناه لا القنا مُحدق تقطع بالأشواق أرواحُنا ... إليه ما لا تقطع السبّق حاز كنوز الفضل بالمصطفى ... ذاك الجناب العطر المشرق وكلّ فجٍّ أرجٍ بالتقى ... فإنه من طيبه يعبق أتى بدين قيّم واضحٍ ... بين ضلال وهدى يَفُرق يَنمى ويزداد ودينُ العدى ... أئمة الزيغ به تمحق كذلك الحق إذا ما علا ... على محالٍ باطل يزهق طوى الطباق السبع حتى انتهى ... إلى مقام قطّ لا يُلحق قام مقاماً لودنا غيره ... منه لأضحى بالسنا يُحرق وعاد ليلاً وأساريره ... بنظرةٍ قدسيةٍ تُبرق يا ويل من كذبه بعد ما ... كان أميناً فيهم يصدق لو لم يقل إني رسول أما ... شاهدُه في وجهه يَنطق سبحان من صوّره صورةً ... أكمل معناها الذي يَخلق كأن فاه باسماً ناطقاً ... بجوهر الغوّاص مستحدق فالشفة الياقوت والؤلؤ ال ... رطب الثمين الثغر والمنطق جبينه الصبحُ ومن فوقه ... الفرع الدجى والفلك المفرق كأنما قد صيغ من فضّة ... بنانه والكفّ والمرفق

وخصّه بالخُلُق المرتضى ... سمحٌ حليم خاشع مُشفق يسمو ويعلوها بهاء إذا ... ما قال والتوقير إذ يطرق كان على الأعداء ذا قوّة ... وبالذي يبغي الهُدى يَرفق في صلب نوح كان مستودعاً ... فهو على الأمواج لا يغرق وصلب إبراهيم من أجله ... له ضرام النار لا تحرق وكان من معجزه أن غدا ... ماء رواً من كفه يدفق كما حوى كفّاه تمراً به ... أشبع جيشاً ضمّه الخندق ومرود الدوسيّ فأعجب له ... إذ زودت من تمره الأوسق فرسانه أخنت على فارسٍ ... فزال عنها التاج والمنطق وجاهه متصلٌ بعد ما ... يصعق بالنفخة من يصعق غداً له الحوض وفي كفّه ... لواء حمدٍ شاملٍ يخفق وهو شفيع منقذ في غدٍ ... مَن بالخطايا في لظىً موثق يا من له في منصّات العُلى ... وفي البرايا نسبٌ مُعرق وتعرف الخضراء آثاره ... وتعرف الغبراء والمشرق ووصفُه يعجز عن حصره ... نظماً ونثراً ماهرٌ مُفلق قد مسني الضرّ وما لي سوى ... جاهك أسباب بها أعلق كن لي مجيراً في زمانٍ به ... قوارع أسهمها ترشق

واسأل لي الرحمن روحاً إذا ... ضمّ عظامي برزخ ضيّق ورحمةً توصلني جنّة ... لبأسها الفاخر استبرق لا زال في ربعك أملاكه ... سبعون ألفاً حوله تحدق تهدي إلى تربك طول المدى ... توافحُ المسك به تفتق وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: يا ربة الستر لا انجابت غواديكي ... عن جو مغناك أو يخضرّ واديكي وزدت في كل صبح عزةً وسناً ... ولا خلا من رجال الحيّ ناديكي لا زال مربعك الداني الظلال حمىً ... رحباً لعاكفك الناوي وباديكي وأنت يا عذبات الباني لا برحت ... تهيج أشواقنا ألحانُ شاديكي وماس من كل غصن منك من طرب ... عطف وتهت دلالاً في تهاديك ويا مياه الحمى لا زلت طيبة ... يروي بشرب الزلال العذب صاديكي ويا نسيم صبا بجد لقد عرفت ... روحي بمسراك وهناً عرف مهديكي وياليالينا لله عيش هوىً ... معى البدور تقضي في دياريكي ويا فوارط أيامي بخيف منىً ... لو كان يُفدى زمانٌ كنت أفديكي ويا رسائل وجدٍ لا أبوح بها ... إلى الأحبة عنّي من يؤديكي أخفيك من عّذلي صوناً ومكرمة ... بل المدامع والأنفاس تبديكي ويا ركاب الحجاز القُود لا نقبت ... من السرى أبداً أخفافُ أيديكي ولا عدلت عن النهج القويم ولا ... مالت إلى غير أحبابي هواديكي

كم ذا التمادي دعى التعليل وابتدرى ... إلى الحمى فعنائي في تماديكي ويا قباب حمى سلع حويت على ... رقى بما أسلفت عندي أياديكي فتحت بالرشد لي عيني بعد عمىً ... واسمع السر من قلبي مناديكي حق علي أوالي من بك اعتقلت ... أسبابه وأعادي من يعاديكي أني وإن تكن أضحت عنك نازحة ... داري لأرعى بظهر الغيب واديكي لا زال سكانك القطان في دعة ... وفاز رائحك الساري وغاديكي وأنت لا تجزعي يا نفس من بدع ... مضلة ورسول الله هاديكي أجارك الله لولا درع سنته ... لكان سهم الهوى الفتان مرديكي لا تخلفي موعدي في حفظ منهجها ... فلست أخلف في حفظيه وعديكي وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم يا حداة الركب الحجازي ميلوا ... فبنعمان للركاب مقيل فأريحوا فيها المطايا قليلاً ... من وجاها فقد براها النحول وانزلوا الخفيف من منىً فيه ظل ... للأماني للنازلين ظليل واستقلوا نحو الأباطح إن كا ... ن إلى ربة الستور سبيل بأبي ذلك الجناب فوجدي ... وغرامي به عريض طويل داره طال ما تبلج فيها ... للمحبين وجه عطف جميل عشت فيها مع الأحبة حيناً ... لم يرع مسمعي لديها عزول ثم غارت يد الجلال فصانت ... عزة ربعها فعز الوصول

غير أني على المودة لا الطر ... ف نسئ ولا الفؤاد ملول أتمنى الدنو منها وقد حا ... ل عن القرب وعرها والسهول أين منا سمراء دون حماها ... ذبل السمر شرعاً والنصول ذات خدر لها البهاء وشاح ... ولها العز والسنا أكليل ليس في تربها لذي العز والسل ... طان إلا الخضوع والتقبيل هل لظمأن نحو منهلها العذ ... ب ورد به يبل الغليل يوم تضحي وللنياق حنين ... في رباها وللجياد صهيل وإذا ما سرت لها نحو سلع ... خبب تارةً وطوراً ذميل ترتمي في الفلا لها الشوق حاد ... ولها نشرمن تحب دليل فلها اليمن والسعادة والنص ... رة والبشر والرضا والقبول بجناب رحب حوى كل فضل ... وفخار مذ حل فيه الرسول أحمد الهاشمي أكرم خلق ال ... له أصلاً إذا تعد الأصول شيبة الحمد جده هطل الغي ... ث به والربيع وإن كان كليل سل من هاشم بن عبد مناف ... كاسر الجوع والجدوب تصول نسب حل في قريش ذراها ... دون مرساه شامة وطفيل حاز فيه بنو كنانة من عد ... نان مجداً بناه أسمعيل ولقد طاب والمهيمن ربي ... منبت أصله الخليل الجليل ولعمري به قريش استفادت ... شرفاً لم ينله قبل قبيل

وصفع المرتضى لموسى وعيسى ... بينته التوراة والإنجيل وبه أحسن البشارة شعياً ... وعزيز وبعده حزقيل واهتدى تبع بما بين الأح ... بار من نعته الذي لا يحول وتصدى كعب لآل لؤي ... ولديه شبانها والكهول قبل خلق النبي بالحقب الخم ... س خطيباً وهو اللبيب النبيل ذاكراً مبعث النبي وود الن ... صر لو كانت الحياة تطول وجلاه لشيبة الحمد سيف ... لحلاه وما إليه يؤل ولقد قام في المواسم قس ... شاهداً أنه نبي رسول ورأى الراهب النبوة قد لا ... حت عليه كأنها قنديل إذ رأى فوقه الغمامة ظلاُ ... ويميل الظلال أنى يميل ولنعت الرهبان أفضل هاد ... كان سلمان في البلاد يجول فرأى عنده العلامات حقاً ... فاغتدى وهو قابل مقبول وكفاه من الفخار مقام ... كان في القرب دونه جبريل وهو الخاتم المخصص بالتك ... ليم والرؤية الحبيب الجليل يا حبيب الرحمن أنت المرجى ... والوجيه المشفع المأمول قد قصدناك في حوايج فاسأل ... ربك اليسر فهو نعم الوكيل وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: ألا يارسول الله يا خير مرسل ... تخيرك الرحمن للرسل خاتما

ويا من إذا المشتاق أبصر وجهه ... فأن له البشرى وإن كان نائما تعطف على ضعفي برؤية وجهك ال ... كريم فرؤياه تحط المأثما ولست بأهل لاجتلاء جماله ... ولكن فقير يسأل البر راحما وهذا ربيع أبرك الأشهر الذي ... ظهرت به في مطالع السعد قادما كساك به الله المهيمن حلة ال ... جمال وقلدت المهابة صارما فهب لي فيه خلعة الفوز والرضا ... برؤياك يامن كان بالحق حاكما وسل لي رب العرش منه معونة ... من الله تغنيني إذا كنت عادما وسل لعيالي صونهم وصلاحهم ... عسى أن يكونوا صالحين أكارما وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: إذا صار قلب العبد للسر معدنا ... تلوح على أعطافه بهجة السنا وإن فاته المعنى علته كثافة ... وأصبح في أفعاله متلونا وعدت بأمر ليس عندي ريبة ... ولا شك فيمن قاله متيقنا وكنت أظن الأربعين مظنة ... لوعدي فجازتني ولم أبلغ المنى وأربت على الستين مدة عيشتي ... كذلك لم أعرف لنفسي موطنا فإن كان ما أرجو قد أصبح واقعاً ... فكل الذي لاقيت أصبح هينا وإلا فيا حزني وطول ندامتي ... وحق لمثلي أن يهيم ويحزنا وما عاقني إلا هوىً يحجب الفتى ... عن الخطة المثلى ويورثه العنا فإن كان يمحو العذر زلتي التي ... حرمت بها الأمر الذي لي عينا

فها أنا منها تائب متنصل ... إلى الله ذو السلطان والعز والغنى وإني إليه خاضع متوجه ... بأحمد أزكى شافع لفتىً جنى محمد المختار من آل هاشم ... نبياً رسولاً للصواب مبينا له الجاه والزلفى إذا قيل من لها ... فقال مجيباً دون كل الورى أنا فينجي جميع الخلق من كرب موقف ... به كل وجه للمهيمن قد عنا وتنقذ من نار الجحيم عصاتنا ... شفاعته ممن أسر وأعلنا وفي هذه الدنيا فإن بجاهه ... علينا لظلاً شاملاً طيب الجنى وفي كل يوم اثنين يعرض كسبنا ... عليه وفي يوم الخميس مدونا فما كان من خير فيحمد ربه ... وما كان من سوء فيسأله لنا فيا خير مبعوث إلى خير أمةً ... به أصبحت في الخلق شامخة إلينا أجرني فما لي غيرك اليوم ناصر ... على كيد غاو شره قد تبينا طليعته نفسي وسلطان جيشه ... على هوىً يلقى اللبيب مفتنا فخذ بيدي يا أمنع الناس معقلا ... وأعظمهم جاهاً وأقوى تمكنا ولا تدعني نهبة لجنوده ... وكن لي بحسن الحفظ منه محصنا فأنت عمادي في حياتي وعدتي ... لموتي وذخري في المعاد إذا دنا سقى جدثاً رحباً حللت بجوه ... فأصبح للإحسان والحسن معدنا غمائم قرب تكسب الروح الرضا ... فينبت روض الأنس فيه فيجتني وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: ألا يا رسول الله المليك الذي ... هدانا به الله من كل تيه

سمعت حديثاً من المسندا ... ت يسر فؤاد الفقيه النبيه رواه ابن إدريس شيخي الذي اس ... تقام على منهج يرتضيه باسناده عن شيوخ ثقا ... ت نفوا عن حديثك زور السفيه ومعنا أنك قلت أطلبوا ال ... حوايج عند حسان الوجوه ولم أر أحسن من وجهك ال ... كريم فجد لي بما أرتجيه فجاهك جاه عظيم ولم ... يخب من رجا جاه مولى وجيه وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: أقل عثراتي واعف يا حسن العفو ... عن عمدي من مسطور ذنبي والهفو وصف من الأكدار قلبي واهدني ... من البر والتقوى إلى المورد الصفو فكم لي من سوء اجتراح نسيته ... واحصاه محروس الحفاظ من السهو شقيت به أيام أمرح في الصبا ... وأسحب أذيال البطالة واللهو فيا ملكاً زان السماء بأنجم ... على الفلك الأعلى طفت أحسن الطفو وسخر ما بين السماء وأرضه ... سحائب يخفو برقها أحسن الخفو وأبقى على شمس النهار ضياؤها ... وخص بنقص آية الليل بالمحو ولما دحى الأض اقتداراً وحكمةً ... على الماء أرسى الشم في اثر الدحو أغثني بتوفيق ينور باطني ... وينحو إلى الخيرات في أرشد النحو فأني مقر أنك الله ربنا ... تعاليت عن شرك الغطاة أولى العدو بأات جميع الكائنات بقدرة ... على غير أمثال تضاهى ولا حذو

وله لغز في فهد: ومتصف بالفتك يوم اكتسابه ... على ظفره أثر الدماء ونابه كأن مهاة الفلك لما انتهى بها ... مداه إلى سرب المها وأنتهابه رمته بشهب الجو خوف انتقامه ... فأطفأها في عسجد من إهابه الصاحب مؤيد الدين إبراهيم بن يوسف بن إبراهيمالمقدسي الشافعي تفقه وبرع ودرس وكان أحد الفقهاء المشهورين بدمشق سمع من أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وغيره وحدث وتوفي بدمشق ليلة السادس عشر من شهر ربيع الآخر ودفن من الغد بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حفله رحمه الله تعالى. عيسى بن طاهر بن نصر الله بن جهبل بن أحمد الشيباني المعروف بابن القفطي الحلبي الوزير كان من الرؤساء الأكابر الفضلاء مولده ببيت المقدس سنة أربع وتسعين وخمسمائة وسمع من الافتخار الهاشمي وغيره وحدث وتولى نظر حران في أيام وزارة أخيه القاضي الأكرم جمال الدين

عفر الخد وقبل تربة ... حل فيها أكرم الناس قبيلا حجة الرحمن مفتاح الهدى ... أحمد المبعوث بالحق رسولا جدد الأيمان اضحت جدداً ... بسنا أنواره بيضاً سهولا ونجوم الدين زهراً لا ترى ... أبد الدهر لساريها أفولا هديه يهدي التقى للمهتدي ... وهداه يورث العلم الجهولا لم تزل أنسابه ساميةً ... في قرون سلفت جيلاً فجيلا من لدن آدم حتى حتى هاشم ... فهو خير الناس إن عدوا الأصولا خصه الله بأصحاب فنوا ... بالقنا في نصرة المجد الأثيلا ذبحوا الكفر فأضحى بهم ... كل صعب من بني الشرك ذلولا لبسوا درع التقى سابغة ... وانتضوا للمجد صمصاماً ثقيلا غرر الأحياء ضاهوا بالنوا ... ل الحيا طولاً وجازوا النجم طولا منهم الصديق أولاهم به ... إذ هو السابق قوالاً فعولاً لو أراد المصطفى من صحبه ... خلا اختار أبا بكر خليلاً ثم لو كان نبياً بعده ... أصبح الفاروق بالأمر كفيلا وارتضى عثمان من أصحابه ... لابنتيه كفؤاً براً نبيلا وكسى عطفي على حلة ... لا تضاهى حين أعطاه البتولا ولأهل البيت منه شرف ... وهو في الآيات باق لن يزولا

وبه آمنة نالت من الفض ... ل والفخر منالاً مستطيلا يا رسول الله يا من مدحه ... في القوافي أقوم الألفاظ قيلا مسني ضر غطاء ساتر ... من ذنوب غادرت قلبي كليلا أنا منها تائب مستغفر ... فاسأل الرحمن لي صفحاً جميلا وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم: سرى صوب الحيا إلهامي فأحيا ... مرابع بالحمى غزت عليا مررت على رباها بالعشايا ... فيكسوها من الأزهار وشيا إذا نشرت مطارفه عليها ... طوت عنها برود الجدب طيا تعلق حبها قلبي فأضحت ... أحب الأرض في الدنيا إليا وساكنها أحب الناس طرا ... إلى قلبي وأحظاهم لديا فقل لعيشة قضيت فيها ... فداء كل شيء في يديا شربت بها من المعنى كؤوساً ... يصول بها الوقار على المحيا إذا ما خالطت سراً مصوناً ... سمت عزماته فوق الثريا وما حيا نديم الشرت ميتاً ... بها إلا غدا في الحال حيا مبرقعة المحاسن ما اجتلاها ... بخيل عد رشد الجود غيا وتأنف أن يلم بها جبان ... يرى أحجامه في الحرب بقيا ولكن من رأى الأمساك فقراً ... وعد الموت في العلياء محيا

حقائق ليس فيها من نصيب ... لمن لم يتبع السنن المهيا شرائع سنها خير البرايا ... وأحكم عقدها أمراً ونهيا فكيف يزيغ عنها ذو تقاة ... وقد نزلت من الرحمن وحيا على المختار أحمد خير هاد ... وأزكى الناس أخلاقاً وهديا؟ حوى قصب السباق إلى المعالي ... فرتبة فضله في السبق عليا تبين فضله والناس ذر ... إلى أن شاع عن موسى وشعيا وقلد فخره مضراً وأعطى ... لواء المنصب السامي لؤيا وأعلى كعب كعب في البرايا ... وأقصى الفخر بلغه قصيا وشاد لهاشم أعلى مناراً ... فأضحوا أشرف الأحياء حيا وأشرق نوره إذ كان حملاً ... على الجبهات للإبصار رئيا وزاد البيت ذو الحرمات نوراً ... به لما بدا يمتص ثديا وتم شبابه الريان يجري ... إلى حلبات أقصى الفخر جريا وسلم كل مخلوق صموت ... عليه عند مبعثه وحيا ونال بليلة المعراج شأوا ... لمن رام المصير إليه أعيا أبر الناس ف قول وفعل ... وأثبت عزمةً وتقىً ورأيا وأطول بالحسام العضب باعاً ... وأطعن بالقنا وأشد رميا حليم صابر راض وفي ... جواد باسم طلق المحيا

فلم يحدث لأمر فات لوا ... ولم يمزج بوعد منه ليا كريم طيب الأعراق سهل ... يذيق محبه بالبشر أريا فإن ظهرت بسالته لقوم ... تجرع خصمه بالبأس شريا له كف على العافين غيث ... وصاعقة على من صد بغيا وقلب من قلوب الأسد أقوى ... ووجه من ذوات الخدر أحيا يموت ببأسه في الحرب حزب ... وآخر بالندى في السلم يحيى أتى بالحق والشيطان يسعى ... بباطل كيده في الناس سعيا فاسمع بالهدى والذكر صماً ... وقاد إلى سبيل الحق عميا وأوجب طاعة ونفى خلافاً ... فتم الأمر إيجاباً ونفيا وأضحى الدين مذكوراً شهيراً ... به من بعد ما قد كان نسيا ألا يا فاتح الخيرات فتحاً ... وباني قاعدات الشرع بنيا ومن نرجوه في سر وجهر ... لكل أمورنا ديناً ودنيا سل الرحمن في يسر وحج ... أموت على تقاضيها وأحيا زيارة ربعك المعمور سقياً ... له من مربع رحب ورعيا ورؤية وجهك الميمون طوبى ... لمشغوف جلتك عليه رؤيا وخاتمة متوجةً بحسنى ... يفوز بها عبيد البر يحيى يرى نظم المدايح فيك ذخراً ... إذا حثي التراب عليه حثيا

فذكرك في قريض الشعر مسك ... ووصفك يلبس الأوزان حليا عليك من المهيمن كل وقت ... سلام لا يحاول عنك نأيا ولا زالت لك الأنوار تهدى ... وفي الآخرى لك الزلفى تهيا وقال رحمه الله وكتب بها إلى والدي رحمه الله ألا يا حليف البيد يخترق الفلا ... يخوض نواح الأحتيناب المفاوز إذا جئت أرض الشام أبرك بقعةً ... وأفتك جند بالعدو المناجز فقف بالفقيه الحنبلي محمد ... حليف المعالي والخلال والغرائر أمام الحسن البشر والبر باذل ... وللزهد والإخلاص والذكر كانز فبلغ سلام العبد يحيى بن بوسف ... ولاتك عن حمل السلام بعاجز وسلم عليه من قديم وداده ... علي بن وضاح تكن خير فائز وقال وقد بلغه أن والدي رحمه الله قد حصل له مرض وبرئ فكتب إليه: يا من غدا فهمه بالعلم مدرعاً ... وعقله برداء الحلم مقتنعا وقلبه بشمال الدين مشتملاً ... وصدره بالها والرحب متسعا ووجهه بسنا الأنوار مبتهجاً ... وكفه باللهى والجود مترعا إن ألتقى والحجى والعلم والعمل ال ... مبرور والزهد والخيرات والورعا؟ من بعض أوصاف من أخفيت ... سنن وأبديت بدع قد أخفا البدعا

وأبدأ السنة الغراء مجتهداً ... لله حين أضحى الحق منقشعا بمنصل كان شرع الله صيقله ... وما انتضى بدعة إلا لها قطعا لما سمعت بداء قد عراك إذا ... وجدته في حشائي مولماً وموجعا خوفاً على المذهب الهادي لمرتشد ... أن لا يرى بعد أهليه قد انصدعا فشتت البدعة الظلماء حين ترى ... نجماً من السنة الغراء قد وقعا؟ لأنها قمر سار وأنت لها ... فلك ومنك سنا أنوارها طلعا كذلك العلم روض زهره ثمر ... وأنت تجني المعاني منه ممترعا قد كنت من قبل نظم الشعر فيك إذا ... يممت نظماً أراني مفتحاً لكعا فحين ما جال فكري فيك خلت بأ ... ن كل نظم ونثر قد حويت معا يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن جمادي بن أحمد بن محمد بن جعفرالجوزي بن عبد الله بن القاسم بن نصر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه أبو المظفر محي الدين القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي مولده في يوم ليلة السبت ثاني عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة تفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وسمع من أبيه الإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن ومن أبي القاسم يحيى بن أسعد بن بوش وأبي الفرج عبد المنعم بن كليب وجماعة آخرين

وترسل عن الديوان إلى مصر والروم والشام والشرق والموصل والجزيرة وغير ذلك عدة دفوع في الأيام المستنصرية والأيام المستعصمية وتولى أستاذية الدار ببغداد مدة وكان إماماً عالماً فاضلاً رئيسا أحد صدور الإسلام وفضلائهم وأكابرهم أجلائهم ومن بيت الفضيلة والرواية والدراية وحدث ببغداد ومصر وغيرهما من البلاد والده الإمام جمال الدين أوحد علماء المسلمين وحفاظ المحدثين صاحب التصانيف المشهورة والفضائل المذكورة في فنون العلم وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره. وكان وصل محي الدين المذكور رسولاً من المستنصر بالله إلى حلب سنة أربع وثلاثين وملكها يومئذ الملك العزيز فتوفي في شهر ربيع الأول من السنة ثم توجه إلى الروم رسولاً فمات الملك علاء الدين سلطان الروم في شوال من السنة ثم توجه رسولا إلى الملك الأشرف ابن العادل وأخيه الملك الكامل فتوفي الأشرف في المحرم سنة خمس وثلاثين وتوفي الكامل في شهر رجب منها فعمل الأمير أبو القاسم بن محمود بن الأرشح بن الحسين بن محمود بن إبراهيم السنجاري المولد الحنفي المذهب قل الخليفة رفقاً ... لك البقاء الطويل أرسلت فيهم رسولاً ... سفيره عزرئيل لم يبق من رعا البلاد ... إلا القليل

تلقاه حيث استقلت ... به الركاب عويل فليت شعري هذا ... مغسل أم رسول سموه باسمين كانا ... صديق فيما يقول محيي تصدى مميتاً ... ويوسفاً وهوغول وللملك الناصر داود بن المعظم عيسى في هذه الواقعة: يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الطويل ما جرى من رسولك الشيخ محي ال ... دين في هذه البلاد قليل جاء والأرض بالسلاطين تزهو ... وانثنى والقصور منهم طلول أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسل أم رسول كان محي الدين المذكور قد ولاه الإمام الناصر لدين الله حسبة بغداد وأنعم عليه إنعاماً عظيماً ورزق منه حظا ولم يزل في عرق إلى أن ولي أستاذية الدار للخليفة وترسل عنه إلى ملوك الأقاليم وحصل له الوجاهة التامة ووعظ وله علم بالتفسير والحديث والفقه ونظم الشعر وله المدايح في الخلفاء خاصة قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الفرائد قدم إربل رسولاً من ديوان الخلافة إلى خوارزم شاه منكيرني بن محمد بن تكش فاجتمعت به بعد عوده من الرسالة بأربل في أواخر شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة وذكر لي أن مولده في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة وأن له عدة تصنيفات في الخلاف والجدل والمذهب والوعظ وأنه قرأ القرآن الكريم

بالقراآت على أبي بكر الباقلاني وله كتاب سماه معادن الأبريز في تفسير الكتاب العزيز ومما قرأت عليه لنفسه من قصيدة مدح بها الناصر لدين الله رحمه الله: وإذا طرف المشوق كبا ... لك تقل والله عثرته وممات الصب صدكم ... وغداة الوصل بغيته قصة المحزون سطرها ... في ظلام الليل غصته صفحة الخدين رقعتها ... ودواة الصب مقلته ويراع الوجد يعربها ... من مداد الشوق مدته وإلى المحبوب يحملها ... من صبا الأسحار نسمته وإذا حن الحزين أسى ... كحنين العيس حنته وسلاف الحب تطربه ... فتذيع السر نشرته مثل ما في النظم يطربني ... لإمام العصر مدحته لوفود الجود قد كفلت ... بالأماني أريحته من ندى كفيه تابعه ... حجة الإحسان عمرته فعلت بالحق دولته ... فعلت في الخلق دعوته يخجل الوطفاء هاميةً ... حين تهمى الجود مزنته وأسود الغاب خاسئة ... قد كساها الخوف سطوته فإذا ما البحر قيس به ... أشبه الغدران لجته ومن الطين الورى خلقوا ... ومن العلياء طينته

ولنا منه الندى وله ... من إله العرش نصرته وله رق الورى وله ... من رسول الله بردته ومنانا أن يدوم لنا ... لتنال السول دولته إن ميت الجود عاش به ... بعد ما ضمته حفرته وإذا ما الله عمره ... كملت للجود بغيته فلمن عاداه نار لظىً ... ولمن والاه جنته وقال أيضاً: يا نفس ويحك قد دهاك ... قهر الغير هداك حين دهاكي فكأنني بك قد أنال ... يلقاك منه الذل إذ يلقاكي فلئن ركنت إلى سرور زائل ... فلقد رضيت بخادع أفاك ولئن نظرة مرة لمسرةً ... فلتنظرن غداً بمقلة باكي أتراك مالك عبرة في من مضى ... ممن علمت من الورى أتراكي إن الذين بنوا مشيداً وانثنوا ... يسعون سعي القاهر الفتاك من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... وسمته همته على الأفلاك نقلوا إلى ضيق اللحود وقد غدوا ... في الأسر ليس لهم سبيل فكاك ولقد علمت بأن سبلك سبلهم ... فعلام لا تتأهبين فما أشقاك جدي فأيام الحياة قصيرة ... وكأنني بالموت قد فاجأكي العز ذل والحياة منية ... والقرب بعد هكذا دنياكي لا تحسبي المأخوذ في يوم الجزا ... أخذاً بما كسبت يداك سواك

فتزودي ما شئت من حسن ومن ... سوء فذلك كله يلقاك ويلاه من نصب الصراط ووضعه ... وشهادة الأعضاء والأملاك قد طال ما وافقت رأيك في الهوى ... وعصيت عقلي طائعاً لرضاكي ورأيت أعدا صاحب لي ناصحاً ... وأخي الموافق لي على بلواك فالآن حين مضى الشباب بشرخه ... وأتى المشيب مبادراً ينعاكي وأبيض من فودي ما لو يفتدى ... لفديته بكرائم الأملاك أدعوك للأمر الرشيد فتنفري ... بدلت غيرك قبل يوم هلاكي لا تجعليني قائلاً لك في غد ... كم كنت من هذا البلا أنهاكي وأرى شقياً من أطاعك جاهلاً ... ولو أهتدى لرشاده لعصاك فاستغفري بالله العظيم لما مضى ... وعليك فيما فات باستدراك وذكر ابن المستوفي في تاريخ أربل أن محي الدين المذكور تولى حسبة بغداد وعقد بها مجالس الوعظ وقيل أنه كان يعمل في كل أسبوع قصيدة يمدح بها الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وقال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان رحمه الله تعالى في كتابه الموسوم بوفيات الأعيان حكى لي الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن سويد التاجر التكريتي قال كان الشيخ محي الدين أبو المظفر يوسف بن الجوزي رحمه الله قد توجه رسولاً من بغداد إلى الملك العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب سلطان مصر في ذلك الوقت وكان أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محبوساً في قلعة الكرك يومئذ

فلما عاد محي الدين راجعاً إلى بغداد وقدم دمشق وكنت بها فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفضل عباس بن عثمان بن نبهان الأربلي وكان رئيس التجار في عصره وجلسنا نتحدث معه فقال حلفت الملك الناصر داود صاحب الكرك أن لا يخرج الملك الصالح نجم الدين من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل قال فقال له الأصيل يا مولانا هذا بأمر الديوان العزيز فقال محي الدين وهل هذا يحتاج إلى أذن؟ هذا أقتضته المصلحة لكن أنت تاريخ يا أصيل الدين فقال يعني مولانا أني قد كبرت وما أدري ما أقول وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات قال هات فقال كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كل شهر حملاً من واسط وهو ثلاثون ألف دينار لا يمكن أن يتأخر يوماً عن العادة فتعذر في بعض الأشهر كمال الحمل فضاق صدره لذلك وذكره لنوابه فقالوا له يا مولانا هذا ابن زيادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة فاستدعاه وقال له أنت لم لا تؤدي كما يؤدي الناس فقال أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة قال فهل معك خط مولانا الإمام الناصر قال لا قال قم واحمل ما يجب عليك قال ما ألتفت إلى أحد وما أحمل شيئاً ونهض من المجلس فقال النواب لابن رئيس الرؤساء أنت صاحب الوسادتين

وناظر النظار وما علي يدك يد ومن هو هذا حتى يقابلك بمثل هذا القول ولو كسبت داره وأخذت ما فيها لما قال لك أحد شيئاً وحملوه عليه حتى ركب بنفسه وأجناده وكان ابن زيادة يسكن قبالة واسط وقدموا لابن رئيس الرؤساء السفن حتى يعبر إليه وإذا بزبزب قد قدم من بغداد فقال ما قدم هذا إلا في مهم ننظر ماهو ثم نعود إلى ما نحن بسببه فلما دنا من الزبزب فإذا فيه خدم من خدام الخليفة فصاحوا به الأرض الأرض فقبل الأرض وناولوه مطالعة وفيها قد بعثنا خلعة ودواة لابن زيادة فتحمل الخلعة على رأسك والدواة على صدرك وتمشي إليه راجلاً وتلبسه الخلعة وتجهزه إلينا وزيراً فحمل الخلعة على رأسه والدواة على صدره ومشى إليه راجلاً فلما رأه ابن زبادة انتشده ابن رئيس الرؤساء إذا المرء حي فهو يرجى ويتقى ... وما يعلم الإنسان ما في المغيب وأخذ يعتذر إليه فقال له ابن زبادة لا تثريب عليكم اليوم وركب في الزبزب إلى بغداد وما علم أن أحداً أرسلت إليه الوزارة غيره فلما وصل إلى بغداد أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن واسط وقال هذا ما يصلح لهذا المنصب ثم قال الأصيل المصلحة يا مولانا أن تخرج الملك الصالح وتملك وتعود إليه ويقع وجهك في وجهه وتستحي منه فأنشده محي الدين: وحتى يؤب القارظان كلاهما ... وينشر في الموتى كليب لوائل

فما كان إلا مديدة حنتى خرج الملك الصالح من حبس الكرك وملك مصر وقبض على العادل فخرج محي الدين للقائه وكان بها رسولاً إلى العادل. قلت ومولد قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زبادة الشيباني يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة ببغداد رحمه الله. وأما جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محي الدين يوسف المذكور فمولده سنة ست وستمائة سمع ووعظ وترسل عن الديوان إلى مصر وولي الحسبة ببغداد ودرس بالمدرسة المستنصرية على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى وكان رئيساً معظماً من أعيان الدولة وأماثلها وله ديوان شعر حدث بمصر وببغداد وقتل ببغداد شهيداً في صفر سنة ست وخمسين وكان والده بكر به فأسمعه من الشيخ أبي محمد عبد العزيز وغيره من شيوخ بغداد ومن شعره في النبي صلى الله عليه وسلم من أبيات: فضل النبيين الرسول محمد ... شرفا يزيد وزادهم تعظيما در يتيم في الفخار وإنما ... خير اللآلي ما يكون يتيما

ولقد شاي الرسل الكرام فكلهم ... قد سلموا لجلاله تسليما وأما أخوه شرف الدين فهو الذي كان أرسله المستعصم بالله إلى هولاكو لما قصد بغداد يبذل له الأموال وكان من الرؤساء الأعيان الفضلاء وأما أخوه تاج الدين فكان رئيساً فاضلاً عالماً متديناً من أعيان رؤساء بغداد فقتل الجميع شهداء على يد التتر ببغداد في شهر صفر رحمهم الله.

السنة السابعة والخمسين وستمائة

السنة السابعة والخمسين وستمائة دخلت هذه السنة والملك الناصر صاحب الشام وغيره ففي أوائلها رحل بالعساكر متتبعاً آثار البحرية فاندفعوا بين يديه إلى الكرك فنزل بركة زيزاء ليحاصر الكرك وصحبته الملك المنصور صاحب حماة فجاء إلى الملك الناصر رسل المغيث ودار القطبية ابنة الملك المفضل قطب الدين بن العادل يتضرعون إليه ويطلبون رضاه عن المغيث فشرط عليه أن يقبض على من معه من البحرية فأجاب إلى ذلك وقبض عليهم وجهزهم إلى الملك الناصر على الجمال وهو نازل ببركة زيزاء فحملوه إلى حلب واعتقلوا بها ولما أحس الأمير ركن الدين البندقداري بما وقع عليه الإتفاق هرب من الكرك في جماعة من البحرية ووصل إلى خدمة الملك الناصر فتلقاهم وأحسن إليهم وعفا عنهم ولما تم الصلح رجع الملك الناصر إلى دمشق وصحبته الأمير ركن الدين البندقداري وتوجه صاحب حماة إليها. وفيها دخل هولاكو ديار بكر قاصداً حلب ونزل على آمد وبعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين أيلغازي صاحب ماردين يستدعيه فسير إليه الملك المظفر قرا أرسلان وقاضي القضاة مهذب الدين محمد بن مجلي والأمير سابق الدين بلبان وكان أكبر أمرائه وعلى أيديهم

هدية وحملهم رسالة تتضمن الإعتذار عن الحضور بمرض منعه من الحركة ووافق وصولهم إليه أخذه لقلعة اليمانية وإنزاله من بها من حريم الملك صاحب ميافارقين رحمه الله وأولاده وأقاربه وهم ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاي والملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وابن تاج الملوك علي بن الملك العادل وينعت بالصالح نجم الدين أيوب فلما رأوهم هلعوا وجزعوا وأدوا الرسالة فقال ليس مرضه بصحيح وإنما هو متمارض مخافة الملك الناصر فإن انتصرت عليه اعتذر إلى بزيادة المرض وإن انتصر على كانت له اليد البيضاء عنده إذ لم يجتمع بي فلو كان للملك الناصر قوة يدفعني لم يمكني من دخول بلاده وقد بلغني أنه بعث حريمه وحريم أمرائه وكبراء رعيته إلى مصر ولو نزل صاحبكم إلى رعيت له ذلك ثم أمر برد القاضي وحده فعاد وأخبر الملك السعيد بصورة الحال وعرفه أنه رأى عند هولاكو عز الدين وركن الدين ملوك الروم فتألم وندم على إرسال ولده وبعث رسلاً إلى البرية إلى الملك الناصر يستحثه على الحركة إلى حلب ويعرفه أنه متى وصل إليها رحل إليه برجاله وماله وسير الأمير عز الدين يوسف السماع رسولاً في الظاهر إلى هولاكو بهدية وإلى ولده وإلى ولدي غياث الدين صاحب الروم باطناً يحرض ولده على الهروب وينكر على ولدي صاحب الروم في مجيئهما

فيكما فأوسعا الحيلة في الإنفصال عنه والحذر منه فشكراه وقال عز الدين والله ما خرجت البلاد عن أيدينا إلا بتخاذل بعضنا عن بعض فلو كانت الكلمة مجتمعة لم يجر علينا ما جرى. وفيها توفي محمد بن ملي بن محمد بن الحسن بن عبد الله أبو عبد الله بهاء الدين القرشي الدمشقي العدل المعروف بابن الدجاجية الصالحي مولده في ثاني شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وتوفي في ثاني المحرم وقيل في رابعه من هذه السنة بدمشق ودفن من الغد بمقابر الباب الصغير كان فاضلاً شاعراً حسناً مطبوع الشعر ووالده يلقب حفظ الدين كان فقيهاً شافعياً نظم المهذب قصيدة ودرس ببصرى ومولده ثامن المحرم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بدمشق ومات لها ليلة الخميس ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وستمائة رحمه الله وللبهاء المذكور يقول: عن حبكم قط لا أحول ... ولو برى جسمي النحول جمالكم قال أني ... مهما فعلتم بي هو الجميل دلالكم ما خفي علينا ... بأنه للجفا دليل يا كاحلاً بالسهاد طرفي ... يتمنى طرفك الكحيل تنكسف الشمس حين تبدو ... ويخجل الغصن إذ تميل لا تسمعوا في المحب قولاً ... زوره المبغض العذول واحيرتي وانقطاع ظهري ... إن لم يكن لي بكم وصول

وله أيضاً: من أين لقدك ذا الهيف ... قد حار الواصف ما يصف الرمح الأسمر يحسده ... والغصن الأخضر والألف فتبارك من أنشاك لقد ... في الخلق تفاضلت الطيف قسماً بهواك وما أحلا ... قسم العشاق إذا حلفوا وبمن خاضوا غمرات منىً ... وحصى الجمرات بها حذفوا لا حلت عن المشتاق ولو ... أودى بحشاشتي التلف يلحاني قوم ما فهموا ... ما شأني فيك ولا عرفوا وله يمدح الملك الناصر يوسف: دعوا دماً ضيعه أهله ... لا ستمر الجزع ولا أثله ولا لبيناه ولا مية ... ولا سليماه ولا جمله لو غض طرفاً ما ارتقت ... له ثم دماً ورى قتله أحبابنا لئن توسعوا ... عذراً لمن ضاقت به سبله وطرفه إن كان لما رنا ... جنى فقد حاق به فعله ويلاه يا أهل الحمى لم يكن ... يعهد منكم ذا الجفا كله صار طفيلياً على وصلكم ... من شاب في حبكم طفله لم يك يوم الضال جمعي بكم ... إلا خيالاً زائلاً ظله حلو التثني والتجني لوى ... عني ديناً لم يجز مطله

إن كان قد أحزنني هجره ... فطالما أفرحني وصله كفرحة الدينا بسلطانها ال ... ناصر من عم الورى عدله وله دوبيت: بالله قفوا بعيسكم في الربع ... كي نسأل عن سكان وادي الجزع إن لم أرهم أو أستمع ذكرهم ... لا حاجة لي في بصري أو سمعي وقال: يا أيها الصاحب الصدر الكبير ومن ... إليه قد طال إيرادي وإصداري تركت قولي ومحض الشرع فهو معي ... وملت عني إلى قول ابن بندار ما أنت إلا كما قد قال بعضهم ... وما علي بهذا القول من عار المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار وله دوبيت: ما عذر فتىً ما مد للهو يداً ... والروح قد اكتسى ثيابا جددا مالت طرباً أغصانه راقصةً ... لما صدح الطير عليها وشدا عرته غرته لما سرى ... ظن بأن الصبح قد أسفرا اقبل يسعى خفراً خائفاً ... على ذمام الوعد أن يخفرا زار محبا بات مستطولاً ... من ليله ما راح مستصغرا يحق يا قوم لمن قده ال ... خطاران لا يرهب إلا خطرا ضمته إذ قد نام سماره ... كما يضم البطل الأسمرا بتنا وما في ليلنا من كرى ... كأنما النوم غدا مسكرا

وقال: إلى سلم الجرعاء أهدى سلامه ... فماذا علي من قد لحاه ولامه غريم الأسى أمسى فلا تمنعوه أن ... يبث إذ ذكر الحبيب غرامه تجلد حتى لم يدع معظم الجوى ... لرائيه إلا جلده وعظامه ولا عجب من فرط سقم بجسمه ... وصحة ود المرء يبدي سقامها أاحبابنا الشاكين جدب وهادهم ... وعهدي به يروي العهاد إكامه إذا لم يجد قطراً على منحناكم ... دمعا يقوم مقامه ترى هل يعيد الله للصب وصلكم ... بذاك الحمى من قبل يلقى حمامه ليهدي بكم قلب أطلتم خفوقه ... وينظركم طرف سلبتم منامه وبي ظالم في الحكم لو أن وجهه ... تجلى بجنح الليل جلى ظلامه يقوم بعذري فيه عند عواذلي ... إذا ما انثنى تيهاً يهز قوامه تزرد خوفاً سالفاه للحظه ... بأنهما لا يِأمنان سهامه وقال: إلا مالقى قلبي وياما بكم لقي ... فيا ليتني ما عشت لم أعرف العشقا نأت داركم من بعد قرب عن الغضا ... فلي دمع عين لا يفيض ولا يرقى وقال الأعادي إنني قد سلوتكم ... لعمري لقد قال العدو وما أبقا هوى من كساني السقم غير هواكم ... وفرقه من قد شبيت منى الفرقا

ووالله لو لم ينزلوا برق الحمى ... لما شمت من تلقاء ساحته برقا المظفر بن محمد بن ألياس بن علي بن أحمد بن عبد الله بن علي أبو غالب نجم الدين الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الشيرجي مولده بدمشق في شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة وسمع من أبي طاهر الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وكان من العدول الأكابر الأعيان الرؤساء ولي الحسبة بدمشق ونزل الجامع بها وتوفي ليلة سلخ ذي الحجة رحمه الله وبيته مشهور بالرئاسة والتقدم والعدالة. يوسف القميني كان مأواه القمامين والمزابل بدمشق وغالب أوقاته يكون بقمين حمام نور الدين رحمه الله بسوق القمح ويلبس ثيابا طوالا تكنس الأرض وهو حاف مكشوف الرأس طويل الصمت قليل استعمال الماء ولكثير من الناس فيه عقيدة جميلة ويحكون عنه أنه كان يكاشفهم في كثير من الأوقات وكان بعض من يعتقد فيه يحضر له شيئاً من المأكول والمشروب ويجتهد به فيتناول منه قدراً يسيراً ولازم هذه الطريقة الشاقة إلى أن توفي في سادس شعبان بدمشق ودفن بسفح قاسيون في تربة المولعين رحمه الله، وكانت له جنازة حافلة لم يتخلف عنها إلا القليل وكان من غرائب العالم يترنح في مشيته ولا يلتفت إلى أحد ولا يعبأ به.

السنة الثامنة والخمسون والستمائة

أبو بكر بن الملك الأشرف أبي الفتح محمد بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الدين شاذي رحمه الله مولده بمصر في النصف الآخر من شعبان سنة سبع وتسعين وخمسمائة سمع من حلب من ابن طبرزد وحنبل ودخل بغداد وسمع بها من أصحاب أبي الوقت السجزي وحدث بدمشق وغيرها وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة بالياروقية بحلب رحمه الله. ؟؟ السنة الثامنة والخمسون والستمائة أولها يوم الخميس فيها كثر الإرجاف بوصول التتار إلى البلاد العربية فجفل الناس من بين أيديهم إلى الديار المصرية والجبال والأماكن المتوعرة وفي منتصف صفر ورد الخبر إلى دمشق باستيلاء التتار على بلاد حلب بالسيف وكان نزولهم على حلب في ثاني صفر واستولوا عليها في تاسعه وأمنوا أهلها ثم غدروا بهم فقتلوهم ولما اتصل ذلك بالملك الناصر رحمه الله سار عن دمشق بأمرائه نحو القبلة وكان رسل التتار بقرية حرستا فدخلوا دمشق ليلة الأثنين سابع عشر صفر وقرئ في يوم الأثنين بعد صلاة الظهر فرمان جاء من عند ملكهم يتضمن الأمان لأهل دمشق وما حولها وشرع أكابر البلد في تدبير أمرهم معهم وفي سابع عشر ربيع الأول وصل إلى دمشق نواب التتار فلقيهم كبراء البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمن الأمان بالميدان الأخضر ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة مارين وراء

الضياع إلى جهة الكسوة وأهلكوا في ممرهم جماعة كانوا قد تجمعوا وتخرموا وعدم بسبب ذلك جماعة من غيرهم وفي السادس والعشرين منه جاء منشور من هولاكو للقاضي كمال الدين عمر بن العديم بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام والموصل ومارين وميافارقين والأكراد وغير ذلك وتفويض جميع الأوقاف إلى نظيره ووقف الجامع وغيره وكان القاضي قبله صدر الدين أحمد بن سنى الدولة من جمادى سنة ثلاث وأربعين وكان كمال الدين ينوب عنه في الحكم بدمشق وفي ربيع الآخر رجعت عساكر التتار التي كانت عبرت على دمشق بعد ما عاثت في بلاد حوران وأرض نابلس وما حولها وكان الأمير محي الدين إبراهيم بن أبي زكري بنابلس فقاتلهم قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً بحيث قتل بيده منهم عشرة نفر ثم قتل رحمه الله فلما بلغ الملك الناصر رحمه الله ذلك وهو بغزة توجه نحو الديار المصرية فنزل العريش ثم قطيا ثم تفرق عسكره عنه فتوجه معظم العسكر إلى الديار المصرية مع الأثقال وعاد الملك الناصر في طائفة من خواصه لشئ بلغه عم ملك مصر ونزل بوادي موسى ثم نزل بركة زيزاء فكبسه التتار بها وتفرق عنه معظم أصحابه ثم

أستأمن له بعض أصحابه وصار إليهم فكان معهم في ذل وهوان إلى أن قتل على ما نذكر إن شاء الله تعالى. وأما العساكر التترية فبلغت غارتهم أرض غزة وبلد الخليل صلوات الله عليه والصلت وبركة زيزاء وموجب الكرك ونحو ذلك فقتلوا الرجال وسبوا النساء والصبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئاً كثيراًَ وأخذوا من الأسلاب والأثاث ما لا يحصى فلما وصلوا دمشق اشترى من الأسرى شئ كثير وأطلقوا وهرب بعضهم واستصحبوا معهم من بقي وقد كانت قلعة دمشق امتنع بها الأمير بدر الدين محمد بن فريجار واليها وجمال الدين بن الصيرفي نقيبها في جمع كثير بها واحتيج إلى حصارها فجاءها من التتر خلق كثير وصلوا يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى فما يأتوا تلك الليلة حتى قطعوا من الأخشاب ما احتاجوا إليه فكانوا أستصحبوا معهم أكثر من عشرين منجنيقاً تجرها الخيل وهم ركاب عليها وقدموا قبل ذلك بأسلحة تجرها البقر على العجل وأصبحوا يوم الاثنين يجمعون الحجارة لرمي المجانيق فاخربوا حيطاناً كثيرةً وأخذوا حجارتها من أساسها وأخربوا طرفاً من القنوات بسبب الحجارة وهيؤها للرمي ونصبت المجانيق ليلة الثلاثاء وأصبحوا يرمون بها رمياً فأخربوا كثيراً من القلعة من غربيها فما أمسوا حتى طلبوا الأمان فأمنوهم وخرجوا من الغد ونهب ما في القلعة وأحرق

فيها مواضع كثيرة وهدم من أبراجها وأعاليها ثم ساروا إلى بعلبك وكان قبل ذلك حضر عند هولاكو تقي الدين الحديثي الحشائشي وكان هذا تقي الدين أصله من قرية حديثا من بقاع بعلبك وربي ببعلبك بين أهلها كأحدهم ثم سافر إلى الديار المصرية وفاق أهل عصره في معرفة الحشائش والأعشاب وخواصها ومنافعها ومضارها وتقدم عند الملك المعز أيبك التركماني وأعطاه أقطاعاً جيداً ثم جهزه إلى الملك الناصر في بعض مهماته فاتفق قتل الملك المعز وهو بالشام فأقام بدمشق فورد كتاب هولاكو على الملك الناصر رحمه الله يطلب جماعة التقى أحدهم فسيرهم إليه فحصل له منه إقبال فلما حصل الإستيلاء على حلب سأل من هولاكو فرمان لأهل بعلبك وشحنة من التتر فأجابه إلى ذلك فوصل المذكور ومعه الفرمان والشحنة ودخل بعلبك واجتمع به أهلها وكلهم معارفه ومعظم أصحابه وتحدث معهم في الدخول في الطاعة وقبول الأمان وكان سائر أهل البلاد إلا القليل قد صعدوا إلى القلعة بأموالهم وحريمهم مصممين على العصيان وكان نائب السلطنة بالأعمال البعلبكية الأمير ناصر الدين محمد بن البتيني رحمه الله فعندما بلغ أهل البلد منازلة التتر لحلب سألوه المقام عندهم والذب عنهم وتدبير أمورهم فأجابهم وأصعد إلى القلعة شيئاً كثيراً فلما بلغه أخذ حلب وتوجه إلى الملك الناصر من دمشق رجع عن الصعود إلى القلعة وسافر من جهة بانياس والصبيبة وكانت تحت نظره وولايته وسافر معه جماعة من أهل بعلبك فلما اتفق بعد ذلك قدوم التقى

تحللت العزائم وجنحت إلى قبول الأمان فقال لهم ينزل معي جماعة من أعيان البلد إلى دمشق لأحضرهم عند نواب الملك وأعرفهم بدخولهم في الطاعة فتعوجه صحبته جماعة من الأعيان قريب خمسة عشر نفراً فلما وصلوا دمشق أنزلوا في مدرسة الأمير ناصر الدين القيمري ورتب لهم راتب متوفر من الطعام والحلواء والفاكهة وغير ذلك وأحسن إليهم غايةالإحسان وخلع عليهم خلع سنية وهذا لم يجر لغيرهم مع التتر فرجعوا إلى بعلبك صحبة التقى على أن تسلموا القلعة وينزل الناس إلى بيوتهم فاتفق يوم وصولهم إلى بعلبك وصول بدر الدين يوسف الخوارزمي إلى بعلبك من عند هولاكو ومعه فرمان بولاية بعلبك وأعمالها، وكان هذا بدر الدين رحمه الله قد ولي مدينة بعلبك في الأيام الناصرية ورفق بأهلها وعاملهم أجمل معاملة وصادق كثيراً منهم وعاشرهم ثم عزل وولي ولايات أخر ثم عزل عنها واعتقل بدمشق وأنقضت الدولة الناصرية وهو بالاعتقال فخرج من الحبس وقصد هولاكو وكان عنده وتوصل ومعرفة بسائر الألسن، وهو مقبول الصورة وله معرفة بابن كشلوخان وكان ابن كشلوخان مع التتر وله صورة عندهم فلما حضر بدر الدين المذكور عند هولاكو ذكر معرفته ببعلبك وأهلها وتكفل بتسهيل ما تعسر منها وكان لبعلبك عند التتر صورة كبيرة لحصانة قلعتها ونجدة رجالها فكتب له فرمان بولايتها واتفق وصوله على ما تقدم فتحلل لقدومه معظم العزائم ودخل

البلد وأمر ونهى وأنس به الناس لقديم المعرفة وتمسك بالعصيان شجاع الدين إبراهيم والي القلعة ومن عنده من المستخدمين وقريب نصف أهل البلد وقد كتب شجاع الدين إلى الملك الناصر رحمه الله يعرفه صورة الحال واستأذنه في ما يفعل وسير الكتاب مع شخص يعرف بالمقرئ إبراهيم فوجده ببركة زيزاء فأعطاه المطالعة فقرأها وقال داروا عن أنفسكم وكتب الجواب بمثل ذلك. كتب شجاع الدين إلى الملك الناصر رحمه الله يعرفه صورة الحال واستأذنه في ما يفعل وسير الكتاب مع شخص يعرف بالمقرئ إبراهيم فوجده ببركة زيزاء فأعطاه المطالعة فقرأها وقال داروا عن أنفسكم وكتب الجواب بمثل ذلك. حكى لي المقرئ إبراهيم المذكور قال لما قرأ المطالعة وأمر بكتب الجواب حصل له في خلال ذلك رعاف يسير فمسح أنفه بمنديل كان في يده ورماه وطلب غيره فلم يكن عنده غيره فغسل بيده موضع الدم منه وحمله قال ولم أجد معه إلا نفراً يسيراً جداً إن في ذلك لعبرة. وأما أهل القلعة فتمسكوا بالعصيان وأنتظار ما يرد به جواب الملك الناصر فعاد كتبغا نوين بالعساكر وكان عند توجهه إلى دمشق اجتاز بعلبك ولم يتعرض لقتالها فلما عاد بعد أخذ قلعة دمشق أحضر معه بدر الدين محمد بن قريجار وجمال الدين بن الصيرفي ليتحدثا مع أهل القلعة فتحدثوا فلم يفد وحضر إبراهيم بجواب الملك الناصر فحلل ما بقي من العزائم غير أن الوثوق بأمان التتر غير محقق فلما رأى كتبغا أصرارهم نازل القلعة ونصب عليها عدة مجانيق في يوم الأحد وجميعها تضرب في برج واحد لعله من أحصن الأبراج بحيث فتحت فيه المجانيق طاقة كبيرة كالباب الكبير فِأذعن أهل القلعة بتسليمها وطلبوا

الأمان فأمنهم كتبغا على أنفسهم وأن يخرج كل أنسان بما يستطيع أن يحمله من ماله فخرجوا على هذه الصورة بعد عصيان يوم واحد ووفي لهم بذلك ولم يرق لأحد محجمة دم ثم بعد خروج الناس من القلعة دخلها كتبغا فرآها وصعد قلتها ونهبها التتر وأخذوا ما وجدوا فيها ورحلوا وقد بقي فيها من القمح والشعير والحبوب والدبس واللبن وغير ذلك من الطعومات شئ كثير فتلطف بدر الدين يوسف الخوارزمي وأحسن السياسة فيه بحيث شاور كتبغا وتلطف به حتى أجاب إلى أن يقرر عن هذا الطعم درهم معلوم فقرر على ذلك قريب خمسين ألف درهم بحيث ناب غرارة القمح عشرين درهما وغرارة الشعير عشرة دراهم وقنطار الدبس الشديد عشرين وقنطار اللبن ثلاثون درهما فحصل للناس بذلك رفق كثير. ثم أن كتبغا أمر باعتقال شجاع الدين إبراهيم والي القلعة ببعلبك وديوانها فاعتقلوا خلا شاهد القلعة فإنه كان خرج منها قبل حصرها وطلع إلى جبل الكسروانيين فاعتقلوا ثم أستدعوا إلى مرج يرغوث وضربت رقابهم وضربت رقبة ولد الشجاع وصهره معه ولذلك ضرب هناك رقبة بدر الدين محمد بن فريجار وابن الصيرفي نقيب قلعة دمشق وجرى بألطاف الله تعالى بأهل بعلبك ما لم يكن في الحساب فلله الحمد على ذلك. وفي غرة شعبان حضر الملك الأشرف موسى بن صاحب حمص

إلى بعلبك وقد استقر نائب هولاكو في الشام وسلم إليه حمص والرحبة وتدمر وتل باشر بقلاعها فأقام بظاهر بعلبك يومين فتوجه إلى دمشق. وفيها توجه قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكي وأولاده وأخوه لأمه شهاب الدين وقاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سنى الدولة إلى أرد وهولاكو فأدركوه دون الفرات قبل قطعها ثم عادوا إلى طريق بعلبك فوصلوها سادس جمادى الآخرة أو سابعها بكرة الخميس ومحي الدين في تجمل عظيم وهو راكب في محفة ومعه من الحشم والغلمان والأولاد والحاشية ما لا مزيد عليه وصلى الجمعة في شباك قبة المدرسة الأمينية المجاورة جامع بعلبك وأحضر منبر إلى صحن الجامع قبالة الشباك المشار إليه وقرأ عليه تقليده وهو تقليد عظيم جدا بسط فيه القول والمبالغة في تفحيم القاضي محي الدين بحيث لا يخاطب فيه إلا بمولانا وهو يتضمن فيه تفويض القضاء إليه بسائر البلاد والشامية من قنسرين إلى العريش ونائبه أخوه لأمه شهاب الدين اسماعيل بن أسعد بن وحيس وكذلك الأوقاف وغيرها وأن يشارك النواب في أمورهم بحيث لا يخرج عن رأيه ولا يستبدون دونه بأمر وكان عليه حال قعوده في الشباك فرجية عظيمة سوداء منسوجة بالذهب قيل أنها الخلعة التي خلعت على الملك الناصر يوسف رحمه الله من جهة الخليفة أخذت من قلعة حلب وعلى رأسه بقيار صوف بغير طيلسان ثم توجه

إلى دمشق وأقام القاضي صدر الدين ببعلبك في منزل إلى حين توفي رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى. ثم وصل محي الدين إلى دمشق وقرأ الفرمان بتوليته يوم الأربعاء أربع عشر جمادى الآخرة تحت النسر بجامع دمشق وحضر قرائته إيلبان نائب ملك التتر وكان من المغل وحضرت زوجته معه وقعدت على طراحة بسطت لها بين زوجها والقاضي إلى جانب العمود الشرقي في الباب الكبير الأوسط من باب أبواب النسر بالجامع ثم أضاف القاضي محي الدين إلى نفسه وأولاده عدة مدارس كالعذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والكلاسية والصالحية وولاها عماد الدين بن عزى والأمينية ولاها ولده عماد الدين عيسى مع مشيخة الشيوخ وباشر أخوه شهاب الدين عنه نيابة الحكم مع التدريس الرواحية والشامية البرانية مع أن شرطها لا يجمع المدرس بينها وبين غيرها وبقي الأمر كذلك إلى أن ملك المسلمون في أواخر شهر رمضان من هذه السنة فبذل أموالاً جليلة على أن يستمر على حاله فأجيب إلى ذلك نحو شهر ثم أمر بالسفر مع السلطان الملك المظفر رحمه الله إلى مصر فتولى القاضي أبو بكر محمد بن سنى الدولة وقرئى تقليده تقليده بشباك الحكم بالجامع بدمشق يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة. وفيها لما استولى التتر على القلاع أبقوا بلاطنس على ابن واليها نجم الدين بن قايماز الظاهري فلما كسروا أستفسد

مظفر الدين عثمان بن منكورس صاحب صهيون من كان بها من الأجناد على نجم الدين واليها فسلموه إليه في العشر الأول من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وبقيت في يده إلى أن سلمها لولده عز الدين أحمد فبقيت في يده مدة حياة أبيه إلى أن سلمها إلى نواب الملك الظاهر في سنة سبع وستين وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وفيها وصل الخبر باستيلاء التتر على عدة قلاع منها الصلت وعجلون وصرخد وبصرى والصبيبة وهدموا الجميع حسب ما أمكنهم. وفيها وصل الخبر أن طائفة التتار وقعوا على العرب عند زيزاء وحسبان فهزموهم وغنموا من أولادهم ونسائهم وأنعامهم شيئاً كثيراً واستاقوا الجميع وهرب الملك الناصر إلى البراري فساقوا خلفه فأخذوه وقد بلغ شربة الماء نحو مائة دينار وأتوا به إلى كتبغانوين فوقفه بين يديه وأهانه وقرعه ثم أتوا به دمشق مع من قدم من الكرك من الدمشقيين الذين كانوا هربوا إليها وكان كتبغا سير القاضي كمال الدين التفليسي رحمه الله برسالة منه إلى الملك المغيث صاحب الكرك يلتمس منه الدخول في الطاعة فأجاب بجواب ظاهره الطاعة وباطنه المراوغة وانتظار ما تجري به المقادير فلما عاد القاضي كمال الدين إلى الكرك صحبه جماعة ممن كان ألتجأ إليها من الدمشقيين بعد مشقة شديدة وجدوها من تنردهم مع التتار كيف ما داروا نحو من خمسة وثلاثين يوما وكان وصولهم سادس شهر رجب وسار الملك الناصر رحمه الله

مع جماعة من التتار إلى هولاكو في رابع عشر شهر رجب ومعه ابنه الملك العزيز وأخوه الملك الظاهر علي والصاحب إسماعيل بن صاحب حمص وغيرهم. وفيها في يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الأولى طيف بدمشق برأس مقطوع مرفوع على رمح قصير معلق بشعره وهو في قطعة شبكة زعموا أنه رأس الملك الكامل محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب رحمه الله صاحب ميافارقين وتلك النواحي ودام في حصار التتار أكثر من سنة ونصف ولم يظاهر عليهم إلى أن فني أهل البلد لفناء زادهم فوجد مع من بقي من أصحابه موتى أو مرضى فقطع رأسه وطيف به البلاد ثم علق على باب الفراديس الخارج فقال قائل في ذلك: ابن غاز غزا وجاهد قوماً ... أثخنوا في العراق والمشرقين ظاهراً غالباً ومات شهيداً ... بعد صبر عليهم عامين لم يشنه أن طيف بالرأس منه ... فله أسوة برأس الحسين وافق السبط في الشهادة والحم ... ل لقد حاز أجره مرتين جمع الله حسن ذي الشهدي ... ن على فتح ذينك القلعتين ثم واروا في مشهد الرأس ذلك ال ... رأس فاستعجبوا من الحالين وارتجوا أنه يجئ لدى البع ... ث رفيق الحسين في الجنتين ثم وقع من الأتفاق العجيب أن دفن في مسجد الرأس داخل

باب الفراديس في المحراب في أصل الجدار وغربي المحراب في طاقة يقال أن رأس الحسين رضي الله عنه دفن بها. وفي نصف شعبان أغارت العرب على جشارات التتر بتل راهط وما حوله فاستاقوها وخرج الملك الأشرف صاحب حمص ومن بدمشق من التتار ثم رجعوا ولم يقعوا عليها وكان الملك الأشرف قد وصل قبل ذلك إلى دمشق ونزل في داره وقرئ فرمانه بأن تكون البلاد تحت نظره وفي ثاني رمضان وصل الخبر إلى دمشق باستيلاء التتار على صيداء من بلاد الفرنج ونهبها وخلاص ثلاثمائة أسير منها. وفيها خرج الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله بعساكر الديار المصرية ومن انضاف منهم من عساكر الشام إلى لقاء التتار ودفعهم عن البلاد الشامية وكان كتبغانوين بالبقاع فبلغه الخبر فاستدعى الملك الأشرف وقاضي القضاة محي الدين واستشارهم في ذلك فمنهم من أشار بعدم الملتقى والاندفاع بين يدي الملك المظفر ومن معه من العساكر إلى حيث يجيئه مدد من هولاكو ليقوى على ملتقى العساكر الإسلامية ومنهم من أشار بغير ذلك وتفرقت الآراء فاقتضى رأي كتبغانوين الملتقى وتوجه من فوره على كره ممن أشار عليه بالأندفاع لما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه فحصل

التقاء العساكر على عين جالوت في يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رمضان فانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة فحمل الملك المظفر رحمه الله في طائفة عظيمة من المسلمين أول البصائر فكسرهم كسرة عظيمة أتت على معظم أعيانهم وأصيب كتبغانوين قيل قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي فولوا الأدبار لا يلوون على شئ واعتصم منهم طائفة بالتل المجاور لمكان الوقعة فأحدقت بهم العساكر وصابروهم حتى أفنوهم قتلاً وأسراً ونجا من نجا بحشاشته وأهل البلاد يتخطفونهم وفي حال الفراغ من المصاف حضر السعيد حسن ابن الملك العزيز عماد الدين بن الملك العادل بين يدي الملك المظفر رحمه الله تعالى وكان التتار لما ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها معتقلاً فأطلقوه وأعطوه بانياس وقلعة الصبيبة وبقي معهم وقاتل يوم المصاف المسلمين قتالاً شديداً فلما أيد الله المسلمين بنصره وحضر الملوك عند الملك المظفر فحضر المذكور فلم يقبله الملك المظفر رحمه الله وأمر به فضربت عنقه صبراً وورد كتاب المظفر إلى دمشق في سابع وعشرين شهر رمضان يخبر بالفتح وكسرة العدو ويعدهم بوصوله إليهم ونشر المعدلة فيهم فثاروا العوام بدمشق وقتلوا الفخر محمد بن يوسف ابن محمد الكنجي في جامع دمشق وكان المذكور من أهل العلم لكنه كان في شر وميل إلى مذهب الشيعة وخالطه الشمس القمي الذي

كان حضر إلى دمشق من جهة هولاكو ودخل معه في أخذ أموال الغياب عن دمشق فقتل ومن نظمه في علي رضوان الله عليه: وكان علي أرمد العين يبتغي ... دواء فلما لم يحس مداويا شفاه رسول الله منه بتفلة ... فبورك مرقياً وبورك راقيا وقال سأعطي الراية اليوم فارساً ... كمياً شجاعاً في الحروب محاميا يحب الإله والإله يحبه ... به يفتح الله الحصون كما هيا فخص دون البرية كلها ... علياً وسماه الوصي المواخيا وقتل بدمشق أيضاً من أعوان التتار الشمس ابن الماكسيني وابن البغيل وغيرهما وكان النصارى بدمشق قد شمخوا وتجرؤا على المسلمين واستطالوا بتردد إيلبان وغيره من كبار التتار إلى كنائسهم وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاؤا من عنده بفرقان يتضمن الوصية بهم والاعتناء بأمرهم ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتفاع دينهم واتضاع دين الإسلام ويرشون الخمر على الناس وفي أبواب المساجد فحصل عند ذلك من المسلمين هم عظيم فلما هرب نواب التتر حين بلغهم خبر الكسرة أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها واخربوا كنيسة اليعاقبة وأحرقوا كنيسة مريم حتى بقيت كوما والحيطان حولها تعمل النيران في أخشابها وقتل منهم جماعة واختفى الباقون ولما عبر

النصارى من باب توما قاصدين درب الحجر وقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان رحمه الله ونادوا بشعارهم ورشوا الخمر في باب الرباط وفعلوا مثل ذلك على باب مسجدي الحجر الكبير والصغير وألزموا الناس في دكاكينهم بالقيام للصليب ومن لم يقم أخرقوا به وأهانوه وشقوا السوق على هذا الوجه على عند القنطرة آخر سويقة كنيسة مريم فقام بعضهم على الدكان الوسطى من الصف الغربي بين القناطر وخطب وفضل دين النصارى ووضع من دين الإسلام ثم عطفوا من خلف السوق إلى الكنيسة التي خربها الله تعالى وكان ذلك في ثاني وعشرين شهر رمضان وفي الغد صعد المسلمون مع قضاتهم وشهودهم إلى إيلبان بالقلعة فأهانوهم ورفعوا قسيس النصارى عليهم وأخرجوهم من القلعة بالضرب والإهانة وفي هذه حضر إيلبان إلى الكنيسة وفي غده كانت الكسرة ولله الحمد والمنة. وهم بعض الناس بنهب اليهود فنهب شيء يسير ثم كفوا عنهم وفي يوم الجمعة ثاني شوال خطب بجامع دمشق الأصيل الأسعردي فبقي متوليا الخطابة والإمامة بجامع دمشق إلى سلخ شوال من سنة ثمان وخمسين وستمائة. وحكى ابن الجزري في تاريخه عن والده إبراهيم بن أبي بكر الجزري رحمه الله قال خرجت من جامع دمشق بعد صلاة الجمعة وهي ثاني جمعة مرت من شهر رمضان من تحت الساعات ودخلت في

الخضراء إلى نحو دكاني بسوق الرماحين فوجدت جميع دكاكين الخضراء فيها الخمور والنصارى فيها يبيعون الخمر وبعض المسلمين القليلين الذين معهم وهم يشربون ويرشون الخمر على من عبر عليهم من المصلين وغيرهم قال فما ملكت نفسي إلا والدموع تسيل على خدي وحصل لي نحيب وبكاء كثير وما زلت كذلك إلى حيث وصلت دكاني بسوق البر بالرماحين وأنا على ذلك في البكاء والنحيب إذا قد جاء شخص يقال له الحاج عبد العزيز من أهل دمشق وقد جاء من المكان الذي جئت منه وقد حصل له حال مثل الحال الذي قد حصل لي فقعد كل واحد منا في ناحية وأخذ المنديل على وجهه يبكي وينتحب قال فبينا نحن نبكي وإذا بالشيخ محمد الخالدي قدس الله روحه قد عبر علينا وقال لي يا مليح لأجل أي شئ تبكي الذي رأيت يزول الساعة أبعث إليك محمد العطار يبشرك وأنا فما أقدر أقف ثم مشى وتركني وكان الشيخ محمد مدة مقام التتر بدمشق ليس للشيخ محمد الخالدي شغل سوى أنه يمشي من باب الجابية إلى الباب الشرقي قال فلما كان بعد ساعة إذا بالحاج محمد العطار قد جاءيني وقال لي الشيخ محمد يبشرك والمسلمين ويخبرك أن في أول ليلة الجمعة مرت من هذا الشهر وهو رمضان اجتمعت أشباح الأنبياء والأولياء جميعهم وإبراهيم الخليل وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين على صخرة بيت المقدس وسألوا الله تعالى أن يكشف عن المسلمين ما هم فيه من أمر التتار فلم يجبهم

فلما كان البارحة وهي ليلة الجمعة أجتمعوا ثانية وسألوا الله تعالى فأجابهم وما يخرج شهر رمضان إلا وهم مكسورين وما تعيد أنت والمسلمين بدمشق إلا بسلطان جديد مسلم قال والدي رحمه الله فكان الواقع كما قال الشيخ محمد قدس الله روحه. وفيها فارق الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري الملك الناصر من دمشق مهاجراً إلى مصر إلى خدمة الملك المظفر سيف الدين قطز فلما وصل إلى غزة اتفق هو والشهرزورية وتزوج منهم وبعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري إلى الملك المظفر لتحليفه له فأجابه المظفر إلى ما طلبه منه واقترحه عليه فسار إليه ودخل القاهرة يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين فركب المظفر للقائه وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قيلوب لخاصته وأشار عليه بملاقاة التتار وقوي جأشه وحرك عزائمه وحرضه على التوجه للقائهم وتكفل له بحصول الظفر من تلقائه فخرج يوم الأثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكر مصر مع ما انضاف إليهم من العرب وغيرهم لقصد التتار الذين بالشام فلما وصل إلى مرج عكا أتصل بكتبغانوين مقدم عسكر التتر بالشام خروج الملك المظفر وكان في بلد حمص فتوجه إلى الغور وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري في عسكر ليتجسس خبر التتر فلما وقعت عينه عليهم كتب إلى

الملك المظفر ليعلمه بوصولهم ثم أنتهز الفرصة في مناوشتهم ليكون له اليد البيضاء عند الإسلام فلم يزل يستدرجهم تارة بالأقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى الملك المظفر على عين جالوت فكانت الوقعة التي أيد الله بها المسلمين على التتر وأخذ بها منهم ثأر أهل الوير والمدر وحاق بهم مكر السيف وحكم فيهم الحتف بالحيف وقتلوهم وأخذوهم ومعهم ملكهم كتبغانوين فقتل وأخذ رأسه وأسر أبنه وكانت الوقعة بين المسلمين والتتر على عين جالوت يوم الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظم ووصل الخبر إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشق من التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم وتبعهم الناس وأهل الضياع ينهبونهم يقتلون من ظفروا به فلله الحمد والشكر وجرد الملك المظفر خلف التتر الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فتبعهم إلى حمص وقتل وأسر منهم خلقا كثيراً ورجع إلى دمشق ودخل السلطان الملك المظفر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال فأقام بها إلى أن خرج منها طالبا للديار المصرية ووصل إلى دمشق إلى خدمة الملك المظفر الملك الأشرف صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماة فأنعم عليهما وأكرمهما غاية الإكرام وممن قتل بعد المعركة الملك السعيد حسن بن الملك العزيز عثمان ابن العادل صاحب الصبيبة وبانياس بقي محبوساً بقلاع الشام بعد موت الملك الصالح أيوب وابنه المعظم توران شاه

وكسرت الفرنج بالديار المصرية سنين كثيرة آخرها بقلعة البيرة على الفرات فلما وصل التتر إليها أخرجوه وصار معهم ثم قدم مع مقدمهم كتبغانوين إلى دمشق وحضر فتح قلعتها وتسلم بلاده فلما قدم العسكر المصري في هذه الكرة قاتل مع التتار فلما وقعت الكسرة عليهم جاء إلى الملك المظفر فلم يقبله وقال له لولا الكسرة ما جئت إلي وأمر به فقتل ووصل كتاب السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز إلى دمشق من طبرية تاريخه يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان وهو أول كتاب وصل منه إلى أهل دمشق يخبرهم بهذه الكسرة الميمونة العظيمة وبوصوله إليهم بعدها. ومن العجائب أن التتار كسروا وأهلكوا بأبناء جنسهم من الترك وعمل الشيخ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شعراً: غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركي يجود بنفسه بالشام بددهم وفرق شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه ولبعض شعراء دمشق أيضاً: هلك الكفر في الشآم جميعاً ... واستجد الإسلام بعد دحوضه بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه

ملك جاءنا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائماً مثل واجبات فروضه ومما حكى ابن الجزري في تاريخه عن الملك المظفر قطز قال لما كان في رق ابن الزعيم بدمشق بالقصاعين اتفق أن أستاذه بعض الأيام غضب عليه ولطمه على وجهه ولعن واليه وأبوه وجده فقعد يبكي وينتحب كثيراً وحضر الطعام فلم يأكل منه شيئاً وبقي ذلك اليوم طول نهاره يبكي ثم أن استاذه ركب بين الصلاتين إلى الخدمة وأوصى به إلى الفراش وقال له أطعم قطز واعتبه واسترضه هذه صورة ما حكى الحاج على الفراش قال فجئت إليه بعد ركوب أستاذه فقلت له ما هذا البكاء العظيم من لطمة أو لطشة تعمل هذا كله لو ضربت ألف عصاة أو ألف دبوس أو جرحت بالسيف ما عملت هذا كله ولا بعضه فقال والله ما بكائي وغيظي من أجل لطشة إنما غيظي من لعنته أبواي وجدي وأبواي خير منه ومن أبوه وجده فقلت له من أنت ومن أبيك قطعة مملوك تركي كافر بن كافرين فقال والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلمين أنا محمود بن ممدود ابن اخت خوارزم شاه من أولاد الملوك قال فسكت وطايبته وتقلبت به الأحوال إلى أن ملك مصر والشام ولما ملك دمشق أحسن إلى الحاج على الفراش وأعطاه خمسمائة دينار مصرية.

وحكى المذكور أيضاً قال حكى لي الحاج أبو بكر المعروف بابن الدريهم الأسعردي الحاج زكي الدين إبراهيم الجزري المعروف بالجيلي استاذ الفارس أقطاي قال كنا عند الأمير سيف الدين قطز لما ملك أستاذه المعز فقد حضر عنده منجم ورد من بلاد الغرب وهو موصوف بالحذاقة والمعرفة في علم الرمل وعلم الفلك فأمر أكثر حاشيته بالإنصراف فانصرفوا وكنا نحن من أكابر أصحابه وأتباعه فجئنا حتى نقوم فأمرنا بالقعود وما ترك عنده إلا من يثق إليه في خواصه....... أنه صرف أكثر مماليكه وقال للمنجم أضرب فضرب وعمل صناعته وحدثه بأكثر ما كان في نفسه ثم آخر ما قال له أضرب وأبصر من يملك بعد أستاذي ومن يكسر التتر ومن يكون هلاكهم على يديه قال فضرب وبقي زماناً يحسب وهو مفكر يعد على أصابعه فقال ياخوند يطلع معي خمس حروف بلاب نقط وأبو هذا أيضاً خمس حروف بلاب نقط وأسمك يا خوند ثلاث حروف وكذلك ولد السلطان علي وفي الضرب خمسة بلا نقط فقال له لما لا تقول محمود بن ممدود فقال له المنجم يا خوند ولا يقع غير هذا الإسم فقال له أنا محمود ابن ممدود وأنا الذي أكسر التتر وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه قالوا فتعجبنا من كلامه وفرحنا وقلنا إن شاء الله تعالى يكون هذا يا خوند ثم أننا استكتمنا هذا الأمر وأعطى المنجم ثلاث مائة درهم وصرفه

ثم قدر الله تعالى تملكه وكسره للتتر خذلهم الله تعالى. وفيها توجه الملك المظفر إلى مصر وترك الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً بدمشق وبحلب الملك المظفر علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ثم رجع طالب الديار المصرية في يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال وقد نقل الصاحب عز الدين بن شداد في سيرة الملك الظاهر أن الملك المظفر لما ملك دمشق كان عازماً على التوجه إلى بلد حلب ليغسل عنها بالتفقد لها وضر التتر فوشى إليه واش أن الملك الظاهر تنكر له...... عليه وأنه عازم على مسكه فصرف وجه توجهه عن قصده وعزم للتوجه إلى مصر مضمرا للظاهر سوءاً أسره الى بعض خواصه فأطلع عليه الأمير ركن الدين البندقداري فخرجوا من دمشق يوم الثلاثاء سادس عشر من شوال ولم تزل الضغائن والحقود تتراءى في صفحات العيون والخدود وكل منهما يحترس من صاحبه بجنة الخداع ويترقب فرصة تقف الروح من الجسد بانتهازها على سنية الوداع إلى أن جمع رأي الظاهر على قتله واتفق مع الأمير سيف الدين بهادر المعزي والأمير بدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزي والأمير سيف الدين بيدغان الركني والأمير سيف الدين بلبان الهاروني والأمير علاء الدين أنس الأصبهاني فلما قارب القصير بين الغرابي والصالحية انحرف عن الدرب للصيد فلما قضى وطره وعاد إلى الدهليز سايره

الظاهر وأصحابه وطلب منه إمرأة من سبي التتر فأنعم له بها فأخذ يده ليقبلها وكنت تلك إشارة بينه وبين من اتفق معه فلما رآه قد قبض على يده بادره الأمير بدر بن بكتكوت على عاتقه بالسيف فأبانه ثم أختطفه الأمير علاء الدين أنس وألقاه عن فرسه ثم رماه الأمير سيف الدين بهادر بسهم أتى على روحه وذلك يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة ثم ساروا إلى الدهليز فأجالوا قداح الرأي بينهم فيمن يملكوه عليهم ويسلموا إليه قيادتهم ويصونوا بمواضي عزمه حريمهم وأولادهم فوقع اتفاقهم على الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فتقدم الأمير فراس الدين أقطاي المعروف بالأتابك فبايعه وحلف له ثم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم ونعت بالملك القاهر ثم في الحالة الراهنة قال له الأمير فارس الدين الأتابك لا يتم لك الملك إلا بدخولك الى قلعة الجبل فركب هو والأمير فارس الدين الأتابك والأمير بدر الدين بيسري الشمسي والأمير سيف الدين قلاوون الألفي والأمير بدر الدين بيليك الخزندار وجماعة من خواصه وقصد قلعة القاهرة ليسبق إليها من يطمع نفسه بالملك ورتب في مسيرة إلى القاهرة الأمير جمال الدين آقوش التجيبي أستاذ دار والأمير

عز الدين الأفرم أمير جندار والأمير حسام الدين لاجين الدرفيل والأمير سيف الدين بلبان الرومي في الدوادارية وأقر بهاء الدين على عادته أمير أخور ولقيه في طريقه الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة عن الملك المظفر وكان قد خرج للقاء الملك المظفر فأعلمه بصورة الحال وعرض عليه أن يحلف له فحلف ثم تقدم بين يديه إلى القلعة فلم يزل على بابها ينتظره حتى وصل إليها فدخلها وتسلمها والطالع السرطان وكانت القاهرة قد زينت لقدوم الملك المظفر والناس في جذل وسرور وفرح وحبور فلما أسفر الصبح وطلع النهار لم يشعر الناس إلا والمنادي ينادي يا معشر الناس رحمكم الله ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس فوجموا الناس لما به دهموا خوفاً من عود دولة البحرية إليهم وإلقاء كلكلها عليهم ثم سرى عنهم ما لحقهم بمواعيد برزت إليهم لأن الملك المظفر كان قد أحدث على أهل مصر حوادث كثيرة في هذه السنة سنة ثمان وخمسين منها تسقيع الأملاك وتقويمها وزكاتها وأخذ ثلث الزكاة وأخذ ثلث الترك ودينار عن كل إنسان ومضاعف الزكاة ومبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار فأطلقه لهم الملك الظاهر وكتب بذلك توقيع وفرحوا غاية الفرح ولما اسفرت الليلة التي وصل فيها عن يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة حيث تجلس الملوك وكان الوزير يومئذ زين الدين ابن زبير وكان فاضلاً في الأدب والترسل

وعلم التاريخ وغيره فأشار بتغيير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح لقب به القاهر ابن المعتضد فلم تطل إمامته وخلع وسمل ولقب به الملك القاهر بن صاحب الموصل فسم ولم تزد أيامه في المملكة على سبع سنين فأبطل اللقب الأول الملك القاهر ولقب نفسه بالملك الظاهر وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص وإلى الملك المنصور صاحب حماة وإلى الامير مظفر الدين عثمان بن منكوس صاحب صهيون وإلى الإسماعيلية وإلى المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤبن بدر الدين بحلب وإلى الأمير علم الدين الحلبي النائب بدمشق ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبي قتل المظفر وتملك الظاهر للبلاد رغبت نفسه عن الأنقياد فجمع من كان عنده من الأمراء الذين رتبهم معهم الملك المظفر وأعيان دمشق من ذوي الحل والعقد وألزمهم بالحلف له على أن يكونوا في طاعته فأجابه بعض الأمراء ظاهراً ووافقه الباقون فلما استتب له مراده نعت نفسه بالملك المجاهد فكتب إلى النواب المسلمين القلاع الشامية وطلب تسليمها منهم إليه فمنهم من أجاب ومنهم من أبى وبعث إلى الأشرف صاحب حمص وإلى المنصور صاحب حماة والي الأمراء العزيزية بحلب يستميلهم إليه ويرغبهم في طاعته. ماة وإلى الامير مظفر الدين عثمان بن منكوس صاحب صهيون وإلى الإسماعيلية وإلى المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤبن بدر الدين بحلب وإلى الأمير علم الدين الحلبي النائب بدمشق ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبي قتل المظفر وتملك الظاهر للبلاد رغبت نفسه عن الأنقياد فجمع من كان عنده من الأمراء الذين رتبهم معهم الملك المظفر وأعيان دمشق من ذوي الحل والعقد وألزمهم بالحلف له على أن يكونوا في طاعته فأجابه بعض الأمراء ظاهراً ووافقه الباقون فلما استتب له مراده نعت نفسه بالملك المجاهد فكتب إلى النواب المسلمين القلاع الشامية وطلب تسليمها منهم إليه فمنهم من أجاب ومنهم من أبى وبعث إلى الأشرف صاحب حمص وإلى المنصور صاحب حماة والي الأمراء العزيزية بحلب يستميلهم إليه ويرغبهم في طاعته. وفي العشر الأخير من ذي القعدة رسم الأمير علم الدين الحلبي بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرح أهل دمشق بذلك وحضر أمراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء

ذكر ما جرى بحلب

وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوما مشهوداً وفرحاً عظيماً لأهل دمشق. وفي سادس ذي الحجة من هذه السنة خطب على منابر الجوامع بدمشق للملك الظاهر ركن الدين بيبرس وذكر بعده الذي تولى دمشق الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي وضربت الدراهم باسمهما على الوجه الواحد الملك الظاهر ركن الدنيا والدين والآخر الملك المجاهد علم الدنيا والدين. ذكر ما جرى بحلب لما ملك الظاهر مصر والملك المظفر ابن صاحب الموصل متول حلب أساء السيرة وظلم وعسف الرعية واستجبى من أهلها خمسين ألف دينار أجحفت بهم ولما وصلت الأخبار بوفاته كان بحلب الأمير حسام الدين لاجين الجوكنداري العزيزي فاتفق من بها من العزيزية والناصرية والمصرية على قبض الملك المظفر ابن صاحب الموصل وأحذ ما أخذه في المصادرة وحبسوه في قلعة الثغر وقدم الأمير حسام الدين الجوكنداري وفوضوا إليه نيابة السلطنة وذلك في سابع ذي الحجة. وكان الأمير حسام الدين المذكور قد أخذ إذناً من الملك المظفر وتوجه إلى حلب لاستخلاص ما تبقى له من الإقطاع والودائع والذخائر من الأيام الناصرية فلما اتفق بحلب ما اتفق أجمعوا على تقدمته فلما صار إليه ما صار من أمر حلب كتب إليه الأمير علم الدين

سنجر الحلبي يرغب إليه على أن يقطعه إقطاعاً عينه له زيادة على ما كان في يده من الأيام الناصرية فأبى إلا القيام على طاعة صاحب الديار المصرية. وفيها وصلت التتر إلى حلب يوم الخميس سادس وعشرين ذي الحجة ظهراً فخرج منها الأمير حسام الدين لاجين ومن كان فيها من الأمراء بكرة اليوم المذكور وكان مقدم التتر بيدرة ونادوا في شوارع البلد وعلى المأذنة بالأمن والسلامة ونادوا في ظاهرها كذلك وأقروا أهلها في منازلهم ثم خرجوا منها وشحنوا في بلادها ولما وصلت الأمراء الذين كانوا بحلب إلى حماة بعثوا إلى الملك المنصور صاحبها فحذروه من التتر ويشيروا عليه بالخروج وموافقتهم فظن ذلك حيلة منهم عليه فلما تحقق أمرهم وما قالوه صحيح خرج إليهم ولحق بهم وسار معهم إلى حمص ووصلت غارة التتر إلى حماة وسنذكر ما تجدد من أخبارهم في حوادث سنة تسع وخمسين وستمائة. وفيها في هذه السنة كثر تغير الدول ومتولي الحكم بالشام فكان من أول السنة إلى نصف صفر في مملكة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب وهو آخر من ملك من بني أيوب رحمهم الله وأيانا ثم صار في مملكة التتار إلى الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم ثم صار في مملكة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى صاحب الديار المصرية إلى أن قتل في ذي القعدة ثم صار في مملكة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وعلم الدين سنجر الحلبي وهي أول سنة

صار أمر الشام إلى ملوك الديار المصرية فلأجل ذلك عملت الخطبة في أول سنة ثمان وخمسين وستمائة وكان القضاء في أول السنة تولاه بدمشق صدر الدين بن سني الدولة مستقلاً به من خمسة عشر سنة إلى أن ملكوا التتار فولوا كمال الدين عمر التفليسي ثم سافر محي الدين بن زكي والقاضي صدر الدين بن سني الدولة إلى هولاكو فولاهما القضاء وتوفي صدر الدين ببعلبك فاستقل محي الدين بالقضاء وحده إلى تولى الملك المظفر سيف الدين قطز الشام فولى القاضي نجم الدين بن صدر الدين بن سني الدولة. وفيها أبتلى الناس بالشام بغلاء شديد عام في جميع الأشياء منم المأكول والملبوس وغيرهما وبلغ رطل الخبز درهمين ورطل اللحمة خمسة عشر درهماً وأوقية القيبريس درهماً والجبن درهماً ونصفاً والثوم أوقية بدرهم والعنب رطلاً بدرهمين ومن أكثر أسبابه ما أحدثه الفرنج من ضرب الدراهم المعروفة باليافية وكانت كثيرة الغش قيل أنه كان في المائة نحو خمسة عشر درهماً فضة والباقي نحاس وكثرت في أيدي الناس وتحدث في إبطالها مراراً فبقي كل من عنده شيء حريص على إخراجها خوفاً من بطلانها فتراه يدب في شراء أي شيء كان فيتزايد في السلع بسبب ذلك إلى أن بطلت في آواخر هذه السنة فعادت

تباع كل أربعة دراهم منها بدرهم ناصري مغشوش وافتقر لسببها خلق كثير وأنتفع آخرون. ولما ملكوا التتار دمشق كان الملك الأشرف بن صاحب حمص توجه صحبة الملك الناصر فخلاه من بعض البلاد وراح إلى التتار إلى حلب إلى خدمة هولاكو أخذ منه فرمان فرسم له أن يكون من جملة نوابه بالشام المحروسة وأقطعه مائة فارس ومن جملة ما أقطعوه معربا والتل ومنين من حبه عسال التي كانت أقطاع الملك المجاهد جده وبقي مقيما بدمشق يعمل النيابة مع نواب التتار إلى أن كسروا فهرب مع نواب التتار إلى الرحبة فلما ملك الملك المظفر دمشق سير الملك الأشرف صارم الدين أزبك وحسام الدين لؤلؤ وطلبوا له الأمان وحلفوه أنه ما يؤذيه فحضر إليه فركب للقائه وأحسن إليه وأعطاه حمص والرحبة وزاده تل باشر وتوجه الأشرف إلى حمص وطلع القلعة وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله في الأيام الظاهرية وعند وفاته سير الأمير جمال الدين التجيبي الأمير بدر الدين بيليك العلائي الكبير وشرف الدين ابن الوزان إلى حمص احتاطوا على حواصلها وحملوا المال والجوهر والقماش الذي خلفه والخيل والبغال والجمال إلى الديار المصرية وأقاموا بها إلى أن حضر إليها الأمير علم الدين سنجر الباش قردي نائبا بها فحضروا المذكورون إلى دمشق المحروسة.

وفيها توفي السلطان الملك السعيد نجم الدين ايلغازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق أرسلان بن نجم الدين أيلغازي بن أبي تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق السلطان أبو الفتح صاحب ماردين وأعمالها وذلك في سادس عشر صفر وقيل في ذي الحجة وهو الأصح نقله الله إلى رضوانه ووفر حظه من غفرانه بسبب وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن فارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إلى التتر وهم على حصار القلعة كما تقدم ذكره ولما أتصل بهم وفاته بعثوا رسلا إلى ولده الملك المظفر وطلبوا منه الدخول في الطاعة فبعث إليهم عز الدين يوسف بن السماع ليتعرف له منهم ما أضمرت نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له إن بين الملك المظفر قرا أرسلان وبين أيل خان يعنون ملكهم هولاكو وعداً أن والده متى مات وتسلم الملك بعده دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شئ يدخل في طاعته حتى يداري عنه فقالا قد علمنا ذلك ونحن نضم له أن أيل خان متى أتصل به وفات الملك السعيد وأن ولده الملك المظفر دخل تحت طاعته على ما كان تقرر بينهما عوضه عما خرب من بلاده بلادا عامرة مما تجاوزه

فلما عاد عز الدين إلى الملك المظفر وأخبره بما دار بينهما وبينه رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعون وترددت الرسل بينه وبينهم إلى أن استقر الحال بينهم أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه فلما صعدا القلعة إلى عند الملك المظفر بعث نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهته الأمير سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغه فأديا الرسالة وكان مضمونها ما تقدم فأجاب إلى ما ضمناه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك بفرامين وبعث بها مع قصاد من جهته وأبقى الرسل عنده وأمرهما بالرحيل عن ماردين فرحلا في شهر رجب الفرد من سنة تسع وخمسين وستمائة ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداي من أكابر أمرائه ومقدميه فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين هولاكو والملك المظفر وأسلم بعد ذلك المقدم كوهداي على يد الملك المظفر وأزوجه أخته من أبيه كان الملك السعيد شهماً بطلاً جواداً كريماً حازماً أمره وعنده حسن سياسة واحتراز وافر. وفيها قتل الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله مملوك الملك المعز عز الدين أيبك بن عبد الله الصالحي التركماني بين الغرابي والصالحية كما تقدم ذكره كان بطلاً شجاعاً هماماً وله سطوة وعنده بطش وجرأة وإقدام في جميع الأمور كان مدة ملكه منذ قبض على ابن أستاذه الملك المنصور علي بن الملك المعز إلى أن قتل نحو من سنة حكى

أنه لما سافر من القاهرة إلى الشام كان في درجة سيره حيث أتجه يفتح عليه وينتصر لكنه لا يرجع إلى مستقر ملكه أبداً وتصديق ذلك ما حكاه النجم النحاس المنجم بدمشق في شهور سنة خمس وثمانين وستمائة قال كنت بالقاهرة لما أراد الملك المظفر الخروج إلى لقاء التتر قال فجمعونا فكنا خمسة عشر منجماً قال فبقينا في قلعة الجبل ثمانية أيام والراتب يجيئنا وقالوا لنا أبصروا طالع سعيد لسلامة السلطان ورجوعه سالماً قال فاتفقنا جميعاً على أن نأخذ طالعاً يكون فيه سلامة المسلمين والنصر على العدو المخذول ولم نفكر بسلامة الملك المظفر ولا رجوعه فكان من أمره ما كان. وقال الشيخ قطب الدين اليونيني كان الملك المظفر سيف الدين قطز بطلاً شجاعاً ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً وأول من أجترأ على التتر وكسرهم بعد علاء الدين خوارزم شاه كسرة عظيمة جبر بها الإسلام وذكر أيضاً قال حكى عنه أنه قتل يوم المصاف جواده بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحد من الأوشاقية الذين معهم جنائبه فبقي راجلا ورأه بعض الأمراء الشجعان فترجل عن حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك

في هذا الوقت وأمنع المسلمين الأنتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله تعالى وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيوب وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر يوم ذاك ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة ولما قدم إلى دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا آخر الأيام الناصرية في رواتبهم ومقرراتهم وإطلاقاتهم ولم يتعرض إلى مال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى الديار المصرية فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً. وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني عن المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله قال حكى لي في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبي ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف لما كان مقيماً على برزة في أواخر

سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من مصر بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن بالديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح بها إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها فخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خاني فسلم علي وقال جاءكم بريد أو قصاد من الديار المصرية فوريت عنه فقلت ما عندي علم بشئ من هذا قال قطز تسلطن وتملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجبا من حديثه فقلت أيش هذا القول ومن أين لك هذا القول قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وأياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أنني كلما أخذت منه قملة أخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قملاً كثيراً وشرعت أصفعه ثم قلت في غصون ذلك والله ما أشتهي إلا أن الله يرزقني أمرة خمسين فارساً فقال لي طيب خاطرك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت مالك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزم لك إلا إمرة خمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك

كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية ويكسر التتر كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال المولى تاج الدين فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله يكسر التتر فما مضى عن هذا الأمر إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما تقدم ذكره قال المولى تاج الدين رحمه الله فرأيت حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولانا تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائداً على ذلك قال المولى تاج الدين فتعجبت من هذه الصورة. وذكر أيضاً قال حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء ما معناه أن الأمير سيف الدين بلقاق رحمه الله حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر بيبرس ركن الدين رحمهما الله في حال الصبا

كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق إن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتار فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له وأنت أيضاً تملك الديار المصرية وغيرها فزاد الاستهزاء ثم قالا لي لابد تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب فقال لي وأنت يحصل لك أمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق أن الأمر وقع كما لم يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق. الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد باساك بن أبي علي الهذباني كان من أكابر الأمراء وله المنزلة العلية عند ملوك بني أيوب وولي مرتين نيابة السلطنة بدمشق زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان شجاعاً مهيباً وقوراً وكانت وفاته في شهر رمضان بمصر ودفن بتربة والده بالرصد بمصر مولده سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وله نظم حسن فمن ذلك قوله: أهوى رشأ من خالص الترك رشيق ... في الصحو معربد وفي السكر مفيق في فيه لعاشقيه در وعقيق ... ما أحسنه عندي عدو وصديق وله أيضاً: لبيت داعي هواكم حين ناداني ... وقلت شأن الهوى العذري من شأني

حفظي لعهد الهوى ديني مع إيماني ... وحبكم صاحبي في طي الفاني رحمه الله وإيانا. صدر الدين التغلبي أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة الشافعي المعروف بابن سنى الدولة توفي بعلبك يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة وعمل عزاؤه يوم الثلاثاء ثالث عشرجمادى الآخرة بدمشق بجامعها مولده سنة تسعين وخمس مائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل والكندي والحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بدمشق وأفتى وكان عالماً بعلوم شتى وعنده مكارم أخلاق ورياسة وعنده مداراة ويصفح عمن يسيء إليه وولي وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم عن قاضي القضاة محي الدين مدة ثم ولي مستقلاً قاضي القضاة بدمشق وأعمالها لما فتح ابن الشيخ دمشق للملك الصالح نجم الدين أيوب في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ولم يزل مستقلاً في الحكم إلى أوائل دولة التتر سنة ثمان وخمسين وستمائة. الشيخ مخلص الدين المبارك بن يحيى بن معقل الغساني الحمصي كان فاصلاً أديباً وله معرفة تامة بالأنساب وهو أحد مشايخ الشيعة توفي في ربيع الآخر بجبل لبنان وكان قد هرب من حمص من التتر فأدركه أجله وله معرفة بالأدب وله نظم فمنه:

بدا لي وقد خط العذار بوجهه ... حبيب له مني علي رقيب كمثل هلال العيد وقد دنا ... من الأفق مرماه وحان مغيب وله في غلام أهدى له تفاحة من يده: أتى يهز قضيب البان حين مشى ... من تحت طلعة البدرفوق جيد رشا حيا بتفاحة من خده اكتسبت ... لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت ... إن العليل إذا ما شمها انتعشا وله غير ذلك وكان في العلماء في فنون كثيرة رحمه الله وإيانا. الشيخ نجيب الدين محمد بن العلي الخلاطي كان عالماً بتعبير الرؤيا وغيرها من علوم شتى وتواريخ الناس وأخبارهم حكى ابن الجزري عن والده قال حكى لي الشيخ نجيب الدين حكاية عن سفيان الثوري قال دخل سفيان على جعفر بن محمد الصادق فقال يا سفيان ما جاء بك؟ فقال يا ابن رسول الله جئت أتعلم منك فقال يا سفيان أنت رجل يطلبك السلطان وأنا أهل بيت أعين الناس إلينا سراع فإذا أنعم الله عليك بنعمة فقل الحمد لله وإذا استبطأت الرزق فقل أستغفر وإذا خفت شيئاً فقل لا حول ولا قوة إلا بالله أرجع راشداً قال سفيان فلما وليت اتبعني بصره ثم قال يا سفيان ثلاثاً وأي ثلاث وروى أيضاً أنه خرج سليمان بن داود عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية رافعة قوائمها إلى السماء تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى

عن سقيك ورزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم فقال سليمان أرجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم وفي رواية قائمة على رجليها رافعة يديها تقول فأنزل علينا غيثك ولا تؤاخذنا بذنوب عبادك فرجعوا يخوضون الماء إلى الركب وتوفي في شهور سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله وإيانا ودفن بقاسيون. الأمير مجير الدين إبراهيم بن أبي بكر بن أبي زكرى توفي مقتولاً بنابلس كان من أكابر الأمراء وشجعانهم بطلاً هماماً مريناً كثير الإحسان إلى الناس وله المنزلة العلية عند الملك الصالح نجم الدين أيوب قدم في صحبته إلى الشام وترقى عند الملك الناصر وكان حظياً عنده وكلمته مسموعة وشفاعته لا ترد وعنده كرم وفضيلة وله نظم فمنه قوله: جعل العتاب إلى الصدود سبيلا ... لما رأى سقمي عليه دليلا فظللت أورده حديث مدامعي ... عن شرح جفني مسنداً منقولا وله أيضاً: قضى البارق النجدي في حالة اللمح ... بفيض دموعي إذ تراءى على السفح ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري ... فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح قيل أنه لم يقتل حتى قتل من التتر سبعة عشر نفراً وانكسر سيفه فقاتل بدبوس فتكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله وإيانا. الصدر شرف الدين عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الدمشقي الشافعي مولده

بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيساً جواداً كبير الهمة مفرطاً في الكرم يستقل الكثير في العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين. يحكى عنه في كرمه وسعة صدره غرائب كثيرة من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية معه هدية نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ وغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم أبنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور الهدية سكر عال مكرر للأمير فخر الدين بالقصد من بعض اقطاعاته فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاء السكر عمله حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منه أعجبته أعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهده في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سال الحلاوي لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فستهالها وقال هذا جنون.

حكى الشيخ قطب الدين عن المذكور قال حكى لي الجمال نصر الله وكان في خدمته قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك إلى وخلف له والده سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فأذهب الجميع بيعاً وهبة كانت وفاته في العشرين من صفر بديار مصر مغتالاً لأنه كان قد اجتمع بالملك المظفر وأراه كتاباً أن بمصر دفائن وأنها لا تحصل إلا بخراب أماكن كثيرة وأصغى إليه السلطان فكأن بعض من كان يتحصل له الضرر بخراب ملكه اغتاله والله أعلم. الشيخ الصالح محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبوعبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال مولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بها خامس شهر رمضان في هذه السنة وكان رجلاً صالحاً ديناً كثير الإيثار للأرامل والأيتام والفقراء وعمارة المساجد وبنى منارة مسجد قصر حجاج وكان لا يدخر شيئاً ولا يأكل لأحد شيئاً إلا بإجرة وكان ضريبة الصحن الحلوى خمسة دراهم وقدح الشراب خمسة دراهم والطعام فعلي مقداره عشرين درهما وثلاثين درهما إلى المائة وكذلك الملبوس. حكى ابن الجزري عن والده عن الشيخ محمد الأكال قال حكى

لي الأمير فخر الدين بن ملكيشو وزين الدين محمود الخيمي قال كنا في سماع قد عمله النقيب بهاء الدين نقيب الأشراف بداره وعنده الأمير السيفي والأمير ركن الدين البندقداري وأكثر البحرية الذين كانوا في خدمة الملك الناصر فجرى حديث الشيخ محمد الأكال فقال السيفي أنا أحضره وأطعمه فلما حضر أحضر له صحن حلاوة وقال له كل فقال ما آكل إلا بخمسين درهماً فشرع السيفي يبربس عليه فقال له الشيخ محمد والله لا أكله إلا بخمسين درهماً لك وللفقراء بخمسة دراهم فأحضر له خمسين درهماً وأكل من الصحن ثم طلب منه أن يطعمه شيئاً آخر فلم يقبل واشتغل أهل السماع به ولم يزالوا حواليه يسألوه فما أنقضى السماع حتى أخذ من السيوفي نحو ثلاثمائة درهم ومن الملك الظاهر خمسين درهما ومن باقي البحرية وأهل السماع تكملة ستمائة درهم وبقي السيفي وأكثر البحرية بعد ذلك يترددون إليه ويطلبون بركته وكان يتفقد الجيوش فوقتاً يبرهم ووقتاً يخلص بعضهم ويرضي غرمائهم ولا يبقي أحداً يبوس يده إلا بشئ وكان في شهر رجب وشعبان ورمضان يطلق يديه يبوسها الناس بلاش فيجئ بعض الناس فيكثر التقبيل فيقول أغبن وكان كثير الحج والسفر إلى الحجاز وكان إذا قدم من الحج يطلق يديه للناس يبوسوها بلاش وكان أكثر الناس ينكر على من

يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور فإذا اجتمع به أنفعل له في كل ما يختار ولا يكاد يخالفه فيما يطلب منه وكان مجاورا لابن الجزري في درب الأسدية. حكى ابن الجزري عن والده قال لما تزوجت بوالدتك أولمت وطلبت أصحابي وأهل الحارة فحضروا فقيل لي عنه فقلت للجماعة أنا ما أعطيه شيئاً وأنا جاره ونزيله وأنا رجل غريب فإن حضر فلا كلام وإن لم يحضر فلا حيلة فراح إليه زين الدين الخيمي وذكر له ما قلت فقام وحضر وقال لي أنت مشرقي غلبتني كنت أريد أن أحمل لك شيئاً لأجل أنك جاري والآن قد أطلقتك أيش عندك قلت ثلاث براني شراب فقال ثلاثين درهماً قلت والله ثلاث فلوس حمر ما أعطيك فقال هات من كل واحدة قدحاً فشرب ولعق منهم بالملعقة ثم أحضرت الحلاوة وهريسة فستق فقال والله هذا مأكول خشن يا مشرقي والله ما غلبني أحد غيرك فلا تخبر على مشتري قال وبقي بعد ذلك كل واحد يهادي صاحبه إلى أن مات رحمه الله قال وكان دائماً يبعث إلى مما يجيئه وأنا أبعث له من عير أجرة وكان لا يقبل لأحد هدية إلا بشئ فكان كثير من الناس يبعث له شيئاً فيضعوه في أسفل داره أو في الباب ويهربون فلا يدخل منه شيئاً إلى داره بل يفرقه للفقراء الحاضرين وجواره في الدرب رباطين فيسيره إليهم وإلى غيرهم من المحاجين وكان من عجائب الدهر وغرائبه لم يسبقه أحد قبله بهذا

الفعل ولا جاء بعده مثله رحمه الله وإيانا والمسلمين أجمعين. الفخر محمد بن يوسف الكنجي كان رجلاً فاضلاً أديباً وله نظم حسن قتل في جامع دمشق بسبب دخوله مع نواب التتر ومن شعره في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى آله: وكان على أرمد العين يبتغي ... دواء فلما لم يحس مداويا شفاه رسول الله منه بتفلة ... فبورك مرقياً وبورك راقيا وقال سأعطي الراية اليوم فارساً ... كمياً شجاعاً في الحروب محاميا يحب الآله والآله يحبه ... به يفتح الله الحصون كما هيا فخص به دون البرية كلها ... عليا وسماه الوصي المواخيا رحمه الله وإيانا: الشيخ الإمام الناسك الرباني العارف القدوة الزاهد العابد الورع القطب أبو بكر بن علي بن قوام بن منصور بن معلي بن حسن بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصي بن كلاب الراسبي الزاهد أحد مشايخ الشام رضي الله عنهم أجمعين ولد بمشهد صفين سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم أنتقل إلى بالس وبها ربي وكان شيخاً زاهداً عابداً قانتاً لله تعالى عارفاً بالله عديم النظير أماماً عالماً عاملاً له كرامات وأحوال حسن الأخلاق لطيف الصفات وافر الأدب والعقل

دائم البشر مخفوض الجناح كثير التواضع شديد الحياء متمسكاً بالآداب الشرعية معظماً لأهل العلم والدين كثير المتابعة للسنة محباً لسالكي طريق الآخرة مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى أن توفاه الله تعالى في سنة ثمان وخمسين وستمائة بقرية يقال لها علم بالقرب من مدينة حلب المحروسة ودفن هناك في تابوت ثم نقل منها إلى دمشق المحروسة في شهر ذي الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة وقدموا به إلى دمشق في يوم الخميس ثامن شهر المحرم سنة سبعين وستمائة ودفن من الغد بالزاوية المعروفة به بسفح قاسيون. وقد جمع له حفيده هو شيخنا الجليل أبو عبد الله محمد بن عمر بن الشيخ الجليل الكبير أبو بكر بن قوام المذكور جزأ كبيراً ذكر فيه أشياء نذكر منها بتسير إن شاء الله تعالى قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن عمر أخبرني والدي رحمه الله قال أوصاني الشيخ قدس الله روحه أن أدفنه في تابوت وقال لي يا بني أنا لابد لي أن أنقل إلى الأرض المقدسة وكان كما قال فإنه نقل بعد موته بأثنتي عشر سنة إلى جبل قاسيون وكنت في من حضر خروجه من قبره وسرت معه إلى دمشق وشهدت دفنه وذلك صبيحة يوم الجمعة تاسع المحرم سنة سبعين وستمائة ورأيت في سفري معه عجائب منها أنّا كنا لا نستطيع الليل أن نجلس عنده لكثرة تراكم الجن عليه وزيارتهم له وقدمنا في الطريق على قرية بعلاه المعرة يقال له شمسين فخرج أهلها إلى زيارته

وفيهم رجل كبير فقال من هذا فقلنا الشيخ أبو بكر بن قوام فحصل له اضطراب كثير وأنزعاج فلما أفاق قال له والدي أي شئ أوجب هذا الأنزعاج قال كنت أتردد إلى زيارة الشيخ في بلده فدعوته مرة إلى قريتي هذه فقال لا بد أن أزورك في قريتك وتوفي رحمه الله وبقي عندي من قوله شيء فلما قلتم أنه هذا ذكرت بقوله ووفاه بعهده بعد موته وقدمنا حماة فتلقانا خلق كثير من العلماء والمشايخ وجاء الناس إلى زيارته إرسالاً وقدمنا بعلبك فتلقاه جماعة من المشايخ والصالحين منخ الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ الجليل محمد بن الشيخ العارف القدوة عبد الله اليونيني وأنزلوه في مكان وعزموا أن يقيم عندهم أياماً وصنعوا طعاماً فلما أكل الطعام حضر قوال وأستأذن أن يقول شيئاً فلما قال قام المشايخ رضي الله عنهم قال ابن الجزري فحصل لوالدي انزعاج كثير فلما خرج ليتوضأ لصلاة العصر قال له بعض من حضر يا سيدي رأينا اليوم منك شيئ لم نره منك ولا نعرفه فقال رأيت الشيخ وهو واقف مع المشايخ وتقدم إلي وقال يا ولدي عجل بنا إلى الصالحية فقمنا وسافرنا من ساعتنا ولم يشعر بنا أحد من الجماعة حتى صرنا بقرية فصه فأدركنا منهم جماعة وقالوا كيف سافرتم ولم نشعر بكم فأخبرهم والدي بما رأى من الشيخ فتعجبوا لذلك وقدمنا دمشق ثامن المحرم قال وأخبرني الصاحب محي الدين بن النحاس رحمه الله قال كنت بحلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة وبها الشيخان أبو بكر بن فتيان وأبو بكر بن قوام فسير الشيخ أبو بكر بن فتيان إلى

الشيخ أبي بكر بن قوام أن اخرج بنا من هذا البلد إلى بعض القرى فإن متنا دفنا في البر فقال للرسول قل له تربتنا في أرض دير مران فكان كما قال دفن أحدهما شرقي الدير وهو الشيخ أبو بكر بن فتيان والآخر غربي الدير وهو أبو بكر بن قوام رحمهما الله وإيانا وحضر دفنه خلق كثير من المشايخ والعلماء والصالحين منهم الشيخ مجد الدين بن الخليلي والصاحب محي الدين بن النحاس والشيخ قطب الدين ابن عصرون وخلق كثير لم أعرف أسماءهم وقبل أن يوضع في قبره كشف عنه ورآه الحاضرون وحصل وقت عجيب من الرقة والبكاء وحضر في الجماعة رجل من أهل حماة حال قدومه منها وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا في حماة وقال لي يا فلان قم وامض إلى دمشق واحضر دفن رجل من الأولياء فحضر دفنه وعاد على عقبه إلى حماة ولم يدخل دمشق. ذكر بداية أمره قال رضي الله عنه كانت الأحوال تطرقني في بداية أمري فكنت أخبر بها شيخي رضي الله عنه فينهاني عن الكلام فيها وكان عنده سوط يقول متى تكلمت في شيء من هذا ضربتك بهذا السوط ويأمرني بالعمل ويقول لا تلتفت إلى شيء من هذه الأحوال فما زلت معه كذلك حتى كنت عنده في بعض الليالي وكانت لي أم ضريرة وكنت باراً بها ولم يكن لها من يخدمها غيري فاستأذنت الشيخ في المضي إليها فأذن لي وقال أنه سيحدث لك في هذه الليلة أمر عجيب فاثبت له ولا تجزع فلما خرجت من عنده وأن مار

إلى جهة أمي سمعت صوتاً من جهة السماء فرفعت رأسي فإذا نور كأنه سلسلة متداخل بعضه في بعض فالتفت على ظهري حتى أحسست ببردها في صدري فرجعت إلى الشيخ فأخبرته بما وقع لي فقال الحمد لله وقبلني بين عيني وقال يا بني الآن تمت النعمة عليك أتعلم يا بني ما هذه السلسلة فقلت لا فقال هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لي في الكلام وكان قبل ينهاني عنه. وسمعنا نحن من غير واحد من صحبه أنه كان يقول أذن لي في الكلام ولو لم يؤذن لي ما تكلمت بشيء ولا في شيء. ذكر ما أظهره الله تعالى له من الكرامات والأحوال: سمعته يوماً وقد دخل إلى البيت وهو يقول لزوجته ولدك قد أخذه قطاع الطريق في هذه الساعة وهم يريدون قتله وقتل رفاقه فراعها قول الشيخ رضي الله عنه فسمعته يقول لها لا بأس عليك فإني قد حجبتهم عن أذاه وأذى رفاقه غير أن مالهم يذهب وغداً إن شاء الله تعالى يصل هو ورفاقه فلما كان من الغد وصلوا كما ذكر الشيخ وكنت فيمن تلقاهم وأنا يومئذ ابن ست سنين وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. قال وسمعت الشيخ الصالح إسماعيل بن أبي سالم بن أبي الحسن المعروف بابن الكردي يقول حججت مع أبواي فلما كنا بأرض الحجاز وسار الركب في بعض الليالي وكان أبواي راكبين في مجادة وكنت

أمشي تحتها فحصل لي شيء من القولنج فعدلت إلى مكان وقلت لعلي أستريح ثم ألحق الركب فنمت فلم أشعر بنفسي إلا والشمس قد طلعت ولم أدر كيف أتوجه ففكرت في نفسي وفي أبواي فإنهلم يكن معهما من يخدمهما ولامن يقوم بشأنهما غيري فبكيت عليهما وعلى نفسي فبينما أنا أبكي إذ سمعت قائلاً يقول ألست من أصحاب الشيخ أبي بكر بن قوام فقلت بلى والله قال سل الله تعالى به فإنه يستجاب لك قال فسألت الله تعالى به كما قال فوالله ما استتم الكلام إلا وهو واقف عندي وقال لا بأس عليك ووضع يده في عضدي وسار بي يسيراً وقال هذا جمل أبويك فسمعتهما وهما يبكيان علي فقلت لا بأس عليكما وأخبرتهما بما وقع لي. قال وحدثني أيضاً قال كنا جلوساً مع الشيخ في تربة الشيخ رافع رضي الله عنهما ونحن ننظر إلى الفرات إذ لاح على شاطئ الفرات رجل فقال الشيخ أترون ذلك الرجل الذي على شاطئ الفرات فقلنا نعم قال إنه من أولياء الله تعالى وهو من أصحابي وقد قصد زيارتي من بلاد الهند وقد صلى العصر في منزله وقد توجه إلي وقد زويت له الأرض فخطا من منزله خطوة إلى شاطئ الفرات إلى ههناتأدباً منه معي وعلامة ما أقول لكم أنه يعلم أني في هذا المكان فيقصده ولا يدخل البلد فلما قرب من البلد

عرج عنه وقصد المكان الذي فيه الشيخ والجماعة فجاء وسلم وقال يا سيدي أسألك أن تأخذ على العهد أن أكون من أصحابك فقال له الشيخ وعزة المعبود أنت من أصحابي فقال الحمد لله لهذا قصدتك واستأذن الشيخ في الرجوع إلى أهله فقال له الشيخ وأين أهلك؟ قال في الهند قال متى خرجت من عندهم؟ قال صليت العصر وخرجت لزيارتك فقال له الشيخ أنت الليلة ضيفنا فبات عند الشيخ وبتنا عنده فلما أصبحنا من الغد طلب السفر فخرج الشيخ وخرجنا في خدمته لوداعه فلما سرنا في وداع الشيخ وضع الشيخ يده بين كتفيه ودفعه فغاب عنا ولم نره فقال الشيخ وعزة المعبود في دفعتي له وضع رجله في باب داره بالهند أو كما قال. قال وسمعت الأمير الكبير المعروف بالأخضري وكان قد أسن يحكى قال كنت مع الملك الكامل لما توجه إلى الشرق فلما نزلنا بالس قصدنا زيارة الشيخ مع فخر الدين عثمان وكنا جماعة من الأمراء فبينما نحن عنده اذ دخل رجل من الجند فقال يا سيدي كان لي بغل وعليه خمسة آلاف درهم فذهب مني وقد دليت عليك فقال له الشيخ اجلس وعزة المعبود قد حصرت على آخذه الأرض حتى ما بقي له مسلك إلا باب هذا المكان وهو الآن يدخل فغذا دخل وجلس ليشير إليك بالقيام فقم وخذ بغلك وما لك فلما سمعنا كلام الشيخ قلنا لا نقوم حتى يدخل هذا الرجل فبينما نحن جلوس إذ دخل الرجل فأشار

إليه الشيخ فقام وقمنا معه فوجدنا البغل والمال بالباب فأخذه صاحبه فلما حضرنا عند السلطان أخبرناه بما رأينا من الشيخ فقال أحب أن أزوره فقال فخر الدين عثمان أن البلد لا يحمل دخول مولانا السلطان فسير إليه فخر الدين عثمان فقال له إن السلطان يحب أن يراك وأن البلد لا يحمل دخوله فهل يرى سيدي الشيخ أن يخرج إليه ليراه فقال له الشيخ يا فخر الدين إذا رحت أنت إلى عند صاحب الروم يطيب للملك الكامل فقال لا فقال فكذلك أنا إذا رحت على عند الملك الكامل لا يطيب لأستاذي ولم يخرج إليه. قال وحدثني الشيخ الإمام الخطيب شمس الدين الخابوري قال سألت الشيخ عن قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وقد عبد عزيز وعيسى بن مريم فقال تفسيرها إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فقلت له يا سيدي أنت لا تعرف تكتب ولا تقرأ فمن أين لك هذا فقال يا أحمد وعزة المعبود لقد سمعت الجواب فيها كما سمعت سؤالك. قال وحدثني بعض التجار من أهل بلدنا قال خرجنا مسافرين إلى حماة وكان قد بلغنا أن الطريق مخيف ووافينا الشيخ في خروجنا فقلت له يا سيدي قد بلغنا أن الطريق مخيف ونشتهي أن لا تغفل عنا ولا تنام وتدعو لنا فقال إن شاء الله تعالى فلما بلغنا حماة وأنا راكب على دابة وقد أخذني النعاس وإذا أنا بشخص قد وضع يده

في عضدي وقال نحن ما نمنا فلا تنام أنت ففتحت عيني فإذا بالشيخ فسلم علي ومشى معي وقال قد بلغنا حماة وتركني ومضى وحدثني الشيخ تمام بن أبي غانم قال كنا جلوساً مع الشيخ ظاهر البلد في زمن الربيع وحوله جماعة من الناس فقال وعزة المعبود أني لأنظر إلى ساق العرش كما أني أنظر إلى وجوهكم. وسمعت الحاج مسلم بن حامد قال سئل الشيخ مرة عن الشيخ حياه وكان من خواص أصحابه وهو بمصر فقال ها هو جالس بخان مسرور وقد طبخ ليمونية وهو يأكل ورفاقه وهذه يدي معه في القصعة وهو قد أحس بها وعلم أنها يدي وسئل عنه مرة أخرى وكان بمصر فقال ها هو راكب على دابته ويتلو في سورة كذا وهذه يدي في عضده وقد رميته عن الدابة وقد علم أني أنا الذي فعلت به هذا. ذكر ما كان عليه من المجاهدة والعمل الدائم كان كثير العمل دائم المجاهدة في نفسه ويأمر أصحابه بذلك ويلزمهم بقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر دأبه لا يفتر عنه وفي كل ليلة جمعة يجعل لكل إنسان منهم وظيفة من الجمعة إلى الجمعة وكان يحثهم على الإكتساب وأكل الحلال ويقول أصل العبادة أكل الحلال والعمل لله في سننه شديد الإنكار على أهل البدع لا يأخذه في الله لومة لائم. قال وأخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ أبو طالب البطائحي قال قدمت على الشيخ فوجدته يعمل في النهر الذي استخرجه لأهل بالس

ووجدت عنده خلقاً كثيرين يعملون معه فقال لي يا إبراهيم أنت لا تطيق العمل معنا ولا أحب أن تقعد بلاب عمل فإني لا أحب أن أرى الفقير بطالاً من شغل الدنيا فاذهب إلى الزاوية وصل ما قدر لك فهو خير لك من قعودك عندنا بلا عمل ولا من عمل الآخرة وكان يحث أصحابه على التمسك بالسنة ويقول ما أفلح من أفلح ولا سعد من سعد إلا بالمتابعة فإن الله تعالى يقول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وكان يقول ما اتخذ الله ولياً صاحب بدعة قط قيل له فإن اتخذه؟ قال يصلحه، وكان يقول رجال الشام أمكن من رجال العراق وأعرف وكان لا يمر على أحد إلا ناداه بالسلام حتى على الصبيان وهم يلعبون ويداعبهم ويتنازل إليهم ويحدثهم وكنت أكون فيهم وكان يتفقد أصحابه ويعود المرضى ويسأل أصحابه من عنده مريض حتى يعوده فيتفقد الأرامل بنفسه ويقضي حوائجهم ويحمل ما عنده من نفقة وكسوة وغيرها وكان يسرع إلى إجابة دعوة الفقراء والمساكين أكثر من إجابة دعوة الأغنياء والأمراء وكان دأبه جبر قلوب الضعفاء من الناس قال وسمعت والدي رحمه الله يقول كان إذا عطش الشيخ وهو جالس في المجلس مع الناس قام فشرب بنفسه يريد بذلك تربية المريدين وكان عنده في الزاوية رجل كبير مسن وكان به قطار البول فأتخذ تحته شيئاً يقطر فيه البول فكان يقوم ويريقه بنفسه ويغسل

ما أصاب الحصير منه وكان يعلم المريدين كيفية الدخول على المشايخ والجلوس بين يديهم وكان لا يمكن أحداً من تقبيل يده ويقول إذا مكن الشيخ أحداً من تقبيل يده نقص من حاله شيء. وكان شديد الحياء لا يقطع على أحد كلامه ولا يخجل أحداً بما يقول وإذا جلس على طعام طأطأ رأسه لئلا ينظر إلى أحد ولا ينظر أحد إليه وكان كثير الورع يتحرى في مطعمه وملبسه ويقول الدين الورع وهو أصل العبادة وكان يتورع عن أموال السلاطين والجند وكان عن مال العرب أشد تورعاً لا يأكل لهم طعاماً ولا يقبل لهم هدية وكان للعرب عادة يمرون كل سنة بأرضنا مرتين فإذا مروا لا يأكل مما يباع في السوق لا لحماً ولا لبناً ولا غيرهما بل يتأدم بالزيت وما كان من الأدم في البيت وكان في بدو أمره لا يأكل إلا من المباح يجمع الأشنان بيده وتارة يحصد فلما كبر وأسن كان يأمر من حوله من الفقراء والأصحاب فيخرجون إلى الصحراء فيزرعون زرعاً ويحصدونه فإذا حصل قال لهم لا ترفعوه حتى تدفعوا إلى السلطان نصيبه منه وكانوا يفعلون ذلك قال وأخبرني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حدثني الشيخ طالب الحلي قال حضرت مع الشيخ في وليمة فلما حضر الطعام قدم بين يدي قصعة طعام وكان لي بصيرة فنظرت فإذا الطعام الذي فيها حرام فتوقفت عن أكله فقال الشيخ للخادم يا فلان امض إلى ذلك الفقير وارفع القصعة التي بين يديه فإن بينه وبينها خصومة فجاء الخادم ورفع القصعة من بين يدي وجاء بقصعة غيرها.

وصنع له بعض أصحابه في بعض الأيام طعاماً فيه جزر فلما وضعه بين يديه قال له الشيخ من أين اشتريت هذا الجزر فإنه حرام فقال من السوق فقال امض إليه واسأل عنه من أين اشتروه فمضى وسأل عنه فوجده قد اشترى من طعمة المكاسين. قال وأخبرني الشيخ معالي بن رسلان كنت عند الشيخ فدخل عليه رجل فقال له الشيخ أي شيء أكلت فذكر طعاماً فقال الشيخ إنه حرام إني أرى يخرج من فيك دخان فذهب الرجل وسأل عن ذلك الطعام فوجده كما قال الشيخ فاستغفر الله تعالى منه. وكان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا كثير التقلل منها بكل ممكن فمن ذلك ما حدثني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حضرت عند الشيخ في المرض الذي مات فيه فقال يا بني أنا في هذا المرض أموت فبكيت فقال ما يبكيك أتظن أني أجزع من الموت لا والله يا بني وذلك أني عاهدت الله عهداً وأنا ألقاه به فقلت يا سيدي ما هو؟ فقال أن لا أموت وعندي من الدنيا شيء وكان كما قال رضي الله عنه فإنه مات وليس عليه زيق ولا عمامة لكن ملتحف بعباءه وكان عندنا بعضها نتبرك به ونجد أثر بركته ولم تزل عندنا إلى فتنة التتار فذهبت فيما أذهبه الله تعالى قال وسمعت والدي رحمه الله يقول قدم على الشيخ جماعة ولم يكن عنده ما يقدم لهم وكان بعض أخوتي صغيراً وفي يده شيء من السكر يعلل به كما جرت به عادة الصغار فأخذه وذقه

ووضعه بين أيديهم وقال هذا الذي حضر عندنا في الوقت وكان من عادته لابد أن يضع للضيف ما تيسر إحضاره. قال وحمل إليه مرة الملك الكامل على يد فخر الدين عثمان خمسة عشر ألف درهم فلم يقبلها ولكن قال لا حاجة لنا بها أنفقها في جند المسلمين. وحكى لي بعض الفقراء قال حضرت مع شيخي في زاوية الشيخ إبراهيم التيمي بحلب وحضر عنده صاحب شيزر وأحضر معه أربعة آلاف درهم فلم يقبلها الشيخ قال وكنت قد أملكت على إمرأة وأمرها موقوف على ستين درهماً فمد الشيخ يده وعد ستين درهماً وقال قم يا فلان وخذ هذه الستين ودفع إلى آخر ثلاثين درهماً كانت عليه دين وقال لصاحب المال خذ مالك. قال وسمعت والدي يقول حمل بعض الأغنياء إلى الشيخ ثلاثة آلاف درهم فدعاني وقال يا بني فرقها على الفقراء والضعفاء من الناس ففرقتها كما قال ولم يبق منها شيئاً لأهله وكانوا على حاجة رضي الله عنه يؤثر الخشن من اللباس والطعام ويقول ما للفقير الطيب من الطعام واللباس إنما ذلك للأغنياء المترفهين وكان غالب قوته خبز الشعير. قال وأخبرني الشيخ عمر بن مريريك الجعبري قال عزمت على

الحج ولم يكن معي شيء فجئت إلى الشيخ لأودعه فقال لي عزمت على الحج فقلت نعم يا سيدي غير أن وقتي فقير فقال لي خذ هذين الدرهمين واجعلهما معك ولا تنفقهما فاخذتهما وفعلت كما قال وجئت إلى دمشق ففتح الله تعالى علي فيها بزاد وراحلة وبمائتي درهم فلما حججت وعدت إلى بالس بدأت بالسلام على الشيخ فلما سلمت عليه قال ما فعلت بالدرهمين فأخبرته بما فتح الله تعالى علي ببركتهما فقال قد قضيت بهما حاجتك فهاتهما فقلت لاوالله لا أدفعهما إلى أحد فتبسم وتركهماوما زالا معي ألتمس بركتهما حتى أذهبهما الله مني. قال وحدثني الشيخ سيف الدين أبو بكر الجرديكي من أصحاب الشيخ أبي الفتح الكناني قال خرجنا مع شيخنا الشيخ أبي الفتح إلى زيارة الشيخ فلما قدمنا عليه أقمنا عنده شهراً وكنا ثمانية عشر رجلاً فلما أردنا السفر استأذناه فلم يأذن لنا وقال لنا لم نجد لكم ثقلاً ولا كلفةً إنه من حين قدمتم علينا وضعت تحت السجادة فلوساً هي ثلاثة دراهم ونحن ننفق منها وهي إلى الآن لم تفرغ أو كما قال. قال وأخبرنا الصاحب محيي الدين بن النحاس قال كان لي بستان وكان فيه تين ماسوني كبار وكنت أؤخره إلى آخر السنة فقدم علينا الشيخ في آخر السنة فأهديت له من ذلك أربعين تينة وكان وزنها أربعة أرطال بالحلبي وحملها معي إليه ولدي يوسف وكان الشيخ في مشهد قرية علم والناس عنده وهم خلق كثير فقال يا محمد ما هذه الهدية؟ فقلت له تين فقال هذا اليوم طرفة وهو يشتهي وقال للخادم عد الناس

كم هم فعدهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلاً فقال للخادم أعط كل واحد منهم واحدة ولا ترفع المنديل عن الطبق فاستحييت منه لعلمي أن التين أربعون واحدة فمد يده ووضعها على فخذي قال طيب قلبك لو كانوا ما عسى أن يكونوا لكفاهم ففرقه الخادم على الناس واحدة واحدة ودفع إلى الشيخ واحدة وأخذ الخادم واحدة ودفع إلي واحدة وإلى ولدي واحدة فلم أر أكثر بركة منه. وعنه أيضاً قال بلغني أن الشيخ في قرية تريدم فخرجت إلى زيارته فمررت بسوق الفاكهة فوجدت بطيخة باكورة السنة تباع فيه فاشتريتها بسبعة دراهم وقلت لعل الشيخ يراها فيدعو لنا وللمسلمين بالبركة فلما جئت بها ورأها قال اللهم بارك لنا وللمسلمين في سنتنا وبلدنا وصاعنا ومدنا الحديث وطلب سكيناً فحزها فكنت أراها تربو بين يديه وتزيد وفرقها على أهل القرية كلهم الرجال والنساء والولدان وفضل منها وكان لا يضع يده في شيء إلا أكل منه الجم الغفير رضي الله عنه قال وحدثني الشيخ عبد الله الكفربلاطي قال دعونا الشيخ إلى قريتنا وجاء معه خلق كثير ولم يكن عندنا ما يكفي الناس فاجتمع جماعة القرية يفكرون في أمرهم فبينما هم مجتمعون في المسجد إذ جاء خادم الشيخ فقال الشيخ يدعوكم فجئنا إليه وهو في المسجد فقال امضوا وأحضروا ما عندكم فإن فيه بركة وكفاية ويكفي الناس وفضل إن شاء الله تعالى. فأحضرنا الذي كان عندنا فأكل الناس وفضل منه كما قال رضي الله عنه قال وحدثني غير واحد من أصحابه أنهم شهدوا

غير مرة الطعام يوضع بين يديه فيأكل منه الخلق الكثير ثم يرفع وهو كما كان أو أزيد مما كان وكان عندنا نحن عكازته فكنا نضعها في الشيء اليسير من مؤنتنا فنأكل منه نحن ومن يرد علينا من الفقراء وغيرهم السنة الكاملة ويفضل منه ولم تزل عندنا نلتمس بركتها إلى أن أذهبها الله تعالى في فتنة التتار سنة تسع وتسعين وست مائة. قال وأخبرني والدي قال سمعت الشيخ يقول كنت معتكفاً في مسجد في شهر رمضان فدخل علي بعض أولياء الله تعالى فلم أعرفه لعلو مقامه فلما كان وقت الإفطار لم يكن سوى خبز من شعير ولبن حامض أفطر عليه، فقلت في نفسي إذا صليت مغرب أتركع بعدها لعل بعض الجماعة يعزم عليه فيطعمه أصلح من طعامي قال فتركت طويلاً ثم إلتفت فلم أجد أحد في المسجد غيري وغيره فقلت فما بقي إلا أن أعزم عليه فقلت له يا سيدي قد حضر ههنا شيء نفطر عليه عن أذنك نحضره فقال بل أنت في ضيافتي، فلما تكلم كشف لي عن مقامه وإذا هو القطب، فنهضت وتمثلت بين يديه فقال أجلس فجلست فمد يده وتناول شيء من الغيب ووضعه بين يدي وقال كل فأكلت فإذا هو خبز حار وسمن وعسل فأكلنا وفضل منه شيء كثير خذه فقال أذهب به إلى أهلك وعد إلي بسرعة ففعلت ما قال وعدت إليه فقال لي قد أمرت في هذه الساعة بالمسير إلى العراق فقام وقمت معه فلما أقبلنا على باب البلد انفتح وخرجت معه وودعني وقال لي يا أبا بكر أبشر إنه لن

تموت حتى تبلغ هذا المقام وغاب عني فلم أره رضي الله عنه. ومما أظهره الله تعالى له من الكرامة بعد موته أن بعض التجار من أصحابه خرج مسافراً إلى مصر للتجارة في أوائل سنة اثنتين وتسعين وستمائة فقتله قطاع الطريق فبلغنا الخبر بدمشق ولم نعلم له قاتلاً فبينما نحن كذلك إذ رأى بعض الفقراء من أصحابه الشيخ في المنام فقال له يا فلان الذين قتلوا فلاناً قد جمعناهم بمكان كذا وكذا بدمشق فامضوا وخذوهم وهم أربعة نفر فمضينا إلى ذلك المكان فوجدنا منهم اثنين فأخذوا وأحضروا بين يدي نائب السلطان وهو يومئذ الأمير علم الدين الشجاعي فقال لهم أين رفاقكم قالوا دخلنا في هذا اليوم إلى هذا البلد ونحن أربعة فمضى منا اثنان إلى الصالحية وهم في مكان كذا وكذا فمضينا نحن إلى ذلك المكان فوجدنا فيه واحداً فأخذناه وكانت هذه الواقعة يوم السبت ثمان صفر من السنة المذكورة فلما كانت ليلة الأحد من الأسبوع الثاني رأى بعض الفقراء أيضاً الشيخ وهو يقول يا فلان قد جئنا بالغريم الرابع وقد حصرناه في بئر في جبل الصالحية في مكان كذا وكذا معروف بالصالحية فمضينا نحن وأعوان السلطان إلى ذلك المكان وأخذناه من البئر كما قال الشيخ رضي الله عنه وصلب الغرماء الأربعة يوم الأثنين، وكان يوماً مشهوداًمشهوراً بدمشق وكانت قصته طويلة فأختصرنا منها هذا القدر خشية التطويل وفي هذه القصة أنشد الشيخ الإمام العالم المفيد شمس الدين محمد بن عبد القوي

المقدسي لنفسه: إن كنت تهوى أن تعيش مسلماً ... وتفوز في الأخرة بدار سلام فدع التعرض للرجال ذوي النهى ... والجد والأحوال كابن قوام أو ما ترى كيف أستقص لواحد ... من صحبه من أربع بتمام لا تحسبن الموت يوهن جاههم ... كلا ولكن زيد في الإعظام ومن ذلك أن بعض أصحابه التجار كان بدمشق وقد اجتمع عنده ثلاثون ألف درهم في قيسارية فرآه بعض السراق وكان في أعلى القيسارية فأخذ حبلاً وتدلى به من أعلى المكان إلى أسفله ومعه ما يقطع به القفل فقطعه وفتح الباب وأخذ المال وربطه بحبل وصعد إلى دائر المكان وأراد أن يتقيه فانقطع الحبل بالمال وقصر عن المكان وعجز السارق عن النزول فرأى بعض أصحاب الشيخ في الساعة وهو نائم في القيسارية أن الشيخ دخل عليه وقال له يا فلان قم إلى الحاج أحمد بن صالح وقل له أن السارق قد أخذ ماله وأني تعلقت في الحبل حتى قطعته فليقم وليأخذ ماله وليتصدق منه بكذا وكذا وقال أيضاً للرائي وأنت يا فلان قد سقط منك مائة دينار منذ أيام في قيسارية المعتمد قدام دابتك ولي أيام أحجب عنها الناس لكيلا يأخذوها فقم وخذ مالك فقام الرجل من ساعته وأخبر بالرؤيا فقام الجماعة فوجدوا الأمر كما أخبر به رضي الله عنه. ومن ذلك أن بعض أصحابه سافر من مصر إلى دمشق فانقطع

له جمل بوادي نجمة وعليه حمل قماش ومضى الرفقة وتركوه فجعل يسأل الله تعالى بالشيخ فقام الجمل وسار حتى لحق بالقافلة فسألوه عن سبب قيامه فقال ما عملت غير أني سألت الله تعالى بالشيخ فقام فرأى بعض أصحاب الشيخ وهو بدمشق الشيخ في منامه وقال له يا فلان قل لفلان أنه لما سأل الله تعالى بي أوجدني الله عنده فأقمت الجمل بإذن الله تعالى وألحقت به القافلة. قال ومن ذلك ما أخبرني به الحاج علي بن حامد بن مسلم قال كنا في البحر وهاج حتى أشرفنا على الغرق فسألت الله تعالى ببركة الشيخ فبينما أنا أسأل الله تعالى إذ رأيت الشيخ وهو مار في الهواء فسكن البحربإذن الله تعالى وسلمنا والحمد لله فهذا ما شهد منه بعد الموت رحمه الله تعالى.

ذكر سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداري

بسم الله الرحمن الرحيم ذكر سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداري لما وصل الملك المظفر إلى القيصر وبينه وبين الصالحة مرحلة واحدة ورحل العسكر طالباً الصالحية وضرب الدهليز السلطاني بها وكان جماعة قد اتفقوا مع الأمير ركن الدين على قتله منهم سيف الدين أنص من غلمان الرومي الصالحي وعلم الدين صنغلي وسيف الدين بلبان الهاروني وغيرهم وكان الأمير ركن الدين قد طلب من الملك المظفر لما ملك الشام أن يستنيبه بحلب فلم يجبه فأثر ذلك عنده واتفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق الملك المظفر عليها وساق هؤلاء المتفقون على قتله معه، فلما بعدوا ولم يبق معه غيرهم تقدم إليه الأمير ركن الدين وشفع إليه في إنسان فأجابه فأهوى ليقبل يده وقبض عليها وحمل أنص عليه وقد اشغل الأمير ركن الدين يده وضربه أنص بالسيف وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنشاب فقتلوه ثم حملوا على العسكر وهم

شاهرون سيوفهم حتى وصولا إلى الدهليز السلطاني فنزلوا ودخلوا والأتابك على باب الدهليز فأخبروه بما فعلوا فقال من قتله منكم فقال الأمير ركن الدين أنا فقال يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة فجلس واستدعيت العساكر للحلف وكان القاضي برهان الدين قد وصل إلى العسكر ملتقياً للملك المظفر فاستدعي وحلف العسكر للملك الظاهر ركن الدين واستقرت قدمه في السلطنة وأطاعته العساكر ثم ركب وساق في جماعة من أصحابه ووصل إلى القلعة ففتحت له واستقر ملكه وأحسن إلى الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي وكان البلدان قد زينا لمقدم الملك المظفر فاستمرت الزينة وأحسن إلى خشداشيته البحرية وأمر أعيانهم، وكانت هذا الواقعة في ذي القعدة ولما استقر في المملكة نفى الملك المنصور نور الدين على بن المعزو أمه وأخاه نصر الدين قاآن إلى بلد الأشكرى وكانوا معتقلين بالقلعة. وكان الملك الظاهر لما ملك لقب نفسه الملك القاهر وكان الوزير بمصر زين الدين بن الزبير وكان فاضلاً في الأدب والترسل وعلم التاريخ فأشار بتغيير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح لقب به القاهر بن المعتضد فلم تطل أيامه وخلع وسمل ولقب به الملك القاهر

ذكر دخول التتر إلى الشام

ابن صاحب الموصل فسم فلم تزد أيامه في المملكة على سبع سنين فأبطل الملك الظاهر اللقب الأول ولقب نفسه الملك الظاهر. وأما حوادث الشام ففي العشر الآخر من ذي القعدة أمر الأمير علم الدين الحلبي بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرح أهل دمشق بذلك وحضر كبراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوماً مشهوداً. وفي العشر الأول من ذي الحجة دعا الأمير علم الدين الحلبي الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه وحضر الجند والأكابر وحلفوا له ولقب الملك المجاهد وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع وقال أنا مع من يملك الديار المصرية كائنا من كان. ؟ ذكر دخول التتر إلى الشام ؟ واندفاع عسكر حلب وحماة بين أيديهم ولما صح عند التتر قتل الملك المظفر رحمه الله وكان النائب بحلب ابن صاحب الموصل وقد أشرنا إلى سوء سيرته مع الجند والرعية فأجمع رأي الأمراء بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي فبينا هم على ذلك وردت عليهم بطاقة وإلى البيرة يخبر أن التتر قد قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر وكان التتر قد

هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها فجرد الملك السعيد عسكراً إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو ونخاف أن يحصل النشب بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سبباً لخروجنا منها فلم يقبل فخرجوا من عنده وهم غضبانون وسار العسكر المسير إلى البيرة من حلب فلم وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتر بجموعهم فوقع النشب معهم فتراءت الفئتان فلم يمكن سابق الدين لقاءهم فقصد البيرة واتبعه التتر وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل، وورد الخبر بذلك إلى حلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل من الناس وندم الملك السعيد على مخالفة الأمراء فيما أشاروا به عليه وقوى بسبب ذلك غضبهم عليه وقاطعوه وباينوه ووقعت بطاقة من البيرة فيها أن طائفة من التتر توجهوا إلى جهة منبج وهم على عزم كبس العسكر بحلب فانثنى عزم الأمراء عن القبض عليه لئلا يطمع العدو فيهم وأخذ يتبذلك للأمراء ويعتذر إليهم مخالفتهم وطلب أن يشيروا عليه بما يعتمده فأشاروا عليه بالخروج إلى جهة التتر وأن يضرب دهليزه ببابلا وهي شرقي حلب وأن يكون العسكر حوله وأن يجمع إليه العرب والتركمان ويكون على أهبة لقائهم فأجابهم إلى ذلك وضرب دهليزه ببابلا ونزل العسكر حوله وأخذ في تجهيز عصية وهو أحد أمراء

العرب إلى منبج للكشف واستطلاع أخبار العدو فوقع التتر عليه وقاتلوه فقتلوه وورد الخبر بذلك إلى حلب فاشتد خوف الملك السعيد من غائلة هذا الأمر وبعد يومين وصل الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي. وكان قطز رحمه الله قد رتبه نائباً باللاذقية وجبلة فقصد خشداشيته بحلب فلما قرب منها ركبت العزيزية والناصرية والتقوه فأخبرهم أن الملك المظفر قتل وأن ركن الدين البندقداري ملك الديار المصرية وتلقب بالملك الظاهر وإن الأمير علم الدين الحلبي قد خطب له بالسلطنة في دمشق وصار مالكاً لها ولبلادها قال ونحن نعمل أيضاً مثل عمل أولئك ونقيم واحداً من الجماعة مقدماً ونقبض على هذا المدبر يعني ابن صاحب الموصل ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أن حال وصولهم إلى المخيم تمضي إليه الأمراء حسام الدين الجوكندار وسيف الدين بكتمر الساقي وبدر الدين أزدمر الدوادار وكان الملك السعيد نازلاً ببابلا في دار القاضي بهاء الدين ابن الأستاذ قاضي حلب وهو فوق سطحها والعساكر حوله وكانت الإشارة بين هؤلاء الأمراء وبين باقي الأمراء أنهم متى شاهدوا هؤلاء المذكورين معه على السطح يشرعون في نهب وطاقه والذين عنده

يقبضون عليه، فلما حضر المذكورون بابه وطلبوا الإذن للدخول عليه أذن لهم فلما حضروا عنده على السطح وأعين الباقين من الخشداشية ممتدة إليهم شرعوا في نهب وطاقه وخيله وأصحابه فسمع الضجة فاعتقد أن التتر قد كبست العسكر ثم شاهد نهب العزيزية والناصرية لوطاقه ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلاً فتهددوه وقالوا أين الأموال التي حصلتها وطلبوا قتله أو المال فقام إلى ساحة بستان في الدار المذكورة وحفر تحت أشجار نارنج هناك وأخرج أموالاً كثيرة ذكر أنها كانت تزيد على أربعين ألف دينار ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم ورسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى شغر وبكاس معتقلاً وبقي في الاعتقال أياماً ثم أخرجوه بعد أن اندفعوا بين يدي التتر كما سنذكره إن شاء الله، وبعد أيام دهم العدو حلب فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندار المقدم بمن معه من العسكر إلى جهة دمشق فلما اندفعوا دخلت التتر حلب وملكوها وأخرجوا من فيها من المسلمين إلى قرنبيا قهراً بعيالاتهم وأولادهم وأحاط التتر بهم في ذلك المكان

فصل

ووضعوا السيف في بعضهم فأبادوهم وأطلقوا الباقين فدخلوا حلب في أسوأ حال. ووصل الأمير حسام الدين الجوكندار ومن معه من العسكر إلى حماة وبها صاحبها الملك المنصور فنزلوا ظاهرها من جهة القبلة وقام بضيافتهم وهو مستشعر منهم ثم تقدم التتر إلى جهة حماة فلما قربوا منها رحل الجوكندار والملك المنصور بعسكريهما إلى حمص ووصلت التتر إلى حماة ونازلوها فغلقت أبوابها فطلبوا منهم فتح الأبواب وأنهم يؤمنوهم كالمرة الأولى فلم يجيبوهم ولم يكن مع التتر خسروشاه ولم يكن أهل حماة يثقون إلا إليه وأخرجوا لهم شيئاً من المأكول واندفعوا عن حماه طالبين لقاء العسكر وجفل الناس بين أيديهم وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً. فصل فيها توفي إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى ابن حمد بن محمد بن إسحاق بن محمد أبو إسحاق الشيباني الوزير مؤيد الدين المعروف بن القفطي ومولده بالقدس في رابع عشر المحرم سنة أربع وتسعين خمسمائة سمع من أبي هاشم عند المطلب بن الفضل الهاشمي وغيره حدث بحلب ودمشق ووزر بحلب بعد أخيه القاضي الأكرم مدة

إلى أن انقضت الدولة الناصرية وملك التتر حلب فأمروه بالاستمرار في تنفيذ الأشغال وهو متمرض فباشر على كره منه وتوفى عقيب ذلك في أحد الربيعين بحلب وكان من الصدور الرؤساء الفضلاء الأعيان رحمه الله إبراهيم بن أبي بكر بن زكرى الأمير مجير الدين كان من أعيان الأمراء الأكابر كثير الخير والدين والمعروف عظيم القدر جواداً شجاعاً ممدحاً من بيت كبير في الأكراد خدم الملك الصالح نجم الدين وهو بالشرق وقدم معه إلى الشام واعتقله الملك الصالح عماد الدين إسماعيل لما أمسك الملك الصالح نجم الدين واعتقل بالكرك ثم أفرج عنه فكان في خدمة الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية وغيرها إلى أن توفي وقتل ولده الملك المعظم ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وحج بالناس من دمشق سنة ثلاث وخمسين وفعل من البر والمعروف والإنفاق في سبيل الله تعالى في تلك الحجة ما هو مشهور ومذكور، ولما ضرب البحرية وعسكر الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك المصاف مع بعض عسكر الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله أمسكوه وأمسكوا معه الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع فاعتقلا بالكرك مدة ثم أفرج عنهما عند ما تقرر الصلح بين الملك الناصر والملك المغيث وجعله الملك الناصر بعد ذلك بنابلس وأمر تلك الناحية وما حولها من البلاد عائد إليه، ثم جعل عنده قطعة من العسكر بنابلس منهم الأمير نور الدين علي بن

الشجاع الأكتع عند ما رحل الملك الناصر رحمه الله عنها إلى غزة في هذه السنة فقدم عليه جمع عظيم من التتر فهجموا نابلس فتلقاهم بوجهه وقاتلهم قتالاً شديداً وقتل منهم بيده جماعة كثيرة وأنكى فيهم نكاية عظيمة واستشهد رحمه الله تعالى مقبلاً غير مدبر وكذلك استشهد معه الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع وكان بينهما اشتراك في الكردية والإمرة وخدمة الملك الناصر والدين والفضيلة والكرم والشجاعة وأمسكا جميعاً واعتقلاً بالكرك وأفرج عنهما معاً وجردا في نابلس واستشهدا في يوم واحد وكان بينهما مصافاة واتحاد جمع الله بينهما في الفردوس الأعلى وتغمدهما برحمته ورضوانه. وكان الأمير مجير الدين من حسنات الدهر وعلى ذهنه جملة كثيرة من الشعر وعنده فضيلة حسن المحاضرة والمذاكرة كريم العشرة كثير الأدب يصل بره إلى الفقراء والأغنياء، قال القاضي جمال الدين بن واصل أنشدني في الديار المصرية مقطعات حسنة لبعض الشعراء فمنها: دنف نأى عن من يحب فشاقه ... أطلاله سحراً على أطلاله سأل الحمى عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله ناداه أين ترى محط رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله قلت أنشدني الفقيه نجم الدين موسى بن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم الشقراوي للأمير مجير الدين إبراهيم المذكور رحمه الله:

جعل العتاب إلى الصدود سبيلاً ... لما رأى سقمي عليه دليلا ظللت أورده حديث مدامعي ... عن شرح جفني مسنداً منقولا من أبيات وأنشدني نجم الدين للأمير مجير الدين المذكور رحمه الله: قضى البارق النجدي في حالة اللمح ... بفيض دموعي إذا تراءى على السفح ومنها: ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري ... فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح من أبيات وكان مقتله رحمه الله في أحد الربيعين من هذه السنة بنابلس شهيداً على أيدي التتر. أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط أبو العباس صدر الدين التغلبي الدمشقي الشافعي قاضي القضاة بدمشق وأعمالها المعروف بابن سني الدولة وسني الدولة هو الحسن ابن يحيى الكاتب كان كاتب درج لملك دمشق في ذلك الوقت وله نعمة ظاهرة وقف من عرضها أوقافاً على ذريته وهي مشهورة بدمشق وأعمالها يبيد أربابها إلى الآن وتاريخ وقفه الأوقاف المذكورة في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، والشاعر المشهور المعروف بابن الخياط وهو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى أن صدقة التغلبي هو عم سني الدولة أخو والده كان كاتباً شاعراً طاف

البلاد وامتدح الناس ودخل بلاد العجم ولما اجتمع بأبي الفتيان بن حيوس الشاعر المشهور بحلب وعرض عليه شعره قال قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي فقلما نشأ ذو صناعة ومهر فيها إلا وكان دليلاً على موت الشيخ من أبناء جنسه ودخل مرة حلب وهو رقيق الحال فكتب إلى ابن حيوس المذكور: لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك مني منظري عن مخبري ألا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري فلما وقف عليهما ابن حيوس قال لو قال وأنت نعم المشتري لكان أحسن وديوانه مشهور، ومن مشهور شعره قوله: خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه وإياكما ذاك النسيم فإنه ... إذا هب كان الوجد أيسر خطبه خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه وفي الركب مطوى الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبه ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه أغار إذا آنست في الحي أنةً ... حذارا وخوفاً أن تكون لحبه وهي طويلة ومن شعره أيضاً:

سلوا سيف ألحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحدق أما من معين ولا عاذر ... إذا عنف الشوق يوماً رفق تجلى لنا صارم المقلت؟ ... ين مضنى الموشح والمنتطق من الترك ما سهمه إذ رمى ... بأفتك من طرفه إذ رمق وليلة وافيته زائراً ... سمير السهاد ضجيع القلق دعتني المخافة من فتكه ... إليه وكم مقدم من فرق وقد راضت الكأس أخلاقه ... ووقر بالسكر منه النزق وحق العناق فقبلته ... شهي المقبل والمعتنق وبت أخالج فكري به ... أزور طرا أم خيال طرق أفكر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتفق وللحب ما عز مني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق وقال يعتب على أهله وأصحابه: يا من بمجتمع الشطين إن عصفت ... بكم رياحي فقد قدمت أعذاري لا تنكرن رحيلي عن دياركم ... ليس الكريم على ضيم بصبار وله أيضاً: أتظنني لا أستطي؟ ... ع أحيل عنك الدهر ودي من ظن أن لا بد من؟ ... ؟ هـ فإن منه ألف بد وله من جملة قصيدة: وبالجزع حي كلما عن ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤاداً وأحياه تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه

كانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة بدمشق وتوفي بها في حادي عشر شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى وقيل مات سابع عشر شهر رمضان ومولد القاضي صدر الدين سنة تسع وثمانين وخمسمائة وقيل تسعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وأبي المعالي محمد بن علي القرشي وأبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وأبي الفضل عبد الصمد ابن محمد الحرستاني وغيرهم وأجاز له جماعة كثيرة من بلاد عديدة وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى وكان فقيهاً إماماً عالماً عارفاً بالمذهب مشكور السيرة في ولاياته لين الجانب دمث الأخلاق كثير المداراة والصفح والاحتمال تنقلت به الأحوال فولى وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم بها مدة ثم ولي القضاء بها وبأعمالها استقلالاً لما فتح عماد الدين بن شيخ الشيوخ دمشق للملك الصالح نجم الدين ولم ينتقد عليه في حكم من أحكامه في جميع ولاياته ولم يزل مستمراً في الحكم إلى حيث انقضت الدولة الناصرية ففوض هولاكو الحلم بالشام وغيره إلى القاضي كمال الدين التفليسي رحمه الله وكان ينوب عن قاضي القضاة صدر الدين المذكور بدمشق فتوجه صدر الدين

صحبة القاضي محي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي إلى هولاكو واجتمعوا به ففوض هولاكو القضاء بالشام إلى القاضي صدر الدين صحبته على غير شيء من الولايات فلما وصل حماة تمرض فركب في محفة ووصل إلى بعلبك وهو مثقل بالمرض فأنزلته في منزلي لقرابة كانت بينه وبين والدتي فإنه ابن عمها وابن خالتها وزوج أختها فبقي يومين في منزلي وتوفي إلى رحمة الله تعالى وحضر والدي رحمه الله غسله فغسله الشيخ زكي الدين إبراهيم بن المعري وصلى عليه والدي ودفن بالقرب من ضريح الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه قبلي مدينة بعلبك وكانت وفاته يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف يحبه ويثني عليه كثيراً وكذلك الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل يثني على والده قاضي القضاة شمس الدين أبي البركات يحيى لما كان متولياً القضاء بالشام في أيامه ويقول عنه ما ولي دمشق مثله رحمهم الله أجمعين. الملك السعيد نجم الدين أيل غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أبي المظفر أرتق أرسلان بن نجم الدين أيل غازي بن ألبى بن تمرتاش ابن أيل غازي بن أرتق أبو الفتح صاحب ماردين كان ملكاً جليلاً كبير المقدار شجاعاً جواداً حازماً ممدحاً وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة

وقيل في سادس عشر صفر سنة تسع وخمسين والأول أصح وسبب موته وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن الفارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إليهم فبعثوا إلى ولده الملك المظفر رسولاً وطلبوا منه الدخول في الطاعة وكان قد قام مقام أبيه فأجابهم جواباً أرضاهم وأظهر لهم الدخول في طاعتهم والعمل على مداراتهم. توران شاه بن يوسف بن أيوب بن شاذي أبو المفاخر وقيل أبو منصور فخر الدين الملك المعظم بن السلطان الكبير الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله يعظمه ويحترمه ويثق به ويسكن إليه كثيراً لعلمه بسلامة جانبه وأنه لا تحدثه نفسه بالتوثب عليه فكان عنده في أعلى المنازل يتصرف في قلاعه وخزائنه وعساكره وغلمانه، ولما استولى التتر على مدينة حلب اعتصم بقلعتها ثم نزل منها بالأمان على ما شرحنا ومولده بالديار المصرية في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وخمسمائة سمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني وغيره وحدث وخرج له الحافظ أبو محمد التوني مشيخة في جزء حديثي وكانت وفاته بحلب في السابع والعشرين من ربيع الأول ودفن بدهليز داره رحمه الله تعالى.

الحسن بن عثمان بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي الملك السعيد بن الملك العزيز بن الملك العادل كان والده الملك العزيز عماد الدين عثمان قد توفي في سنة ثلاثين وستمائة وملك بانياس والصبيبه وما معها مما كان بيده من البلاد ولده الملك الظاهر فلم تطل مدته وتوفي بعد أشهر يسيرة دون السنة فملك بلاده أخوه الملك السعيد حسن المذكور ولم تزل في يده إلى أن ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية والشام فانتزعها من يده وأعطاه خبزاً بالديار المصرية وبقي في خدمته إلى أن مات وملك ولده الملك المعظم وقتل على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه فعند ذلك هرب الملك السعيد إلى غزة وأخذ ما فيها من المال وقصد قلعة الصبيبه فسلمها إليه نواب الملك الصالح نجم الدين فملكها ولما وصل الخبر بذلك إلى القاهرة احتيط على داره بها وما فيها من الأثاث الذي لم يمكنه استصحابه معه فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر رحمه الله وقد تكرر ذكره في مواضع من هذا الكتاب وكان قد بقي كبير البيت الأيوبي وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف الشام أخذ منه الصبيبه وجرت منه أسباب أوجبت اعتقاله في بعض القلاع ثم نقله إلى قلعة البيرة فلما ملكها التتر في هذه السنة أخرجوه من الاعتقال وحضر عند هولاكو يقيده فرق له وأفرج عنه وخلع عليه قباء زربفت وسراقوج ومن عادة التتر أنهم إذا خلعوا سراقوج على أحد من غيرهم يلبسه يومه ثم يقلعه ويلبس العمامة فامتنع الملك السعيد من قلعه ولزم لبسه دائماً ومال إليهم بظاهره وباطنه

وكان يقع في الملك الناصر صلاح الدين يوسف عندهم ويحرضهم عليه وعلى استئصال شأفته فأمر هولاكو لكتبغا نوين باستصحابه معه إلى الشام وتسليم بلاده إليه فاستصحبه معه وسلم إليه بلاده وبقي مع كتبغا لا يفارقه وشهد معه سائر وقائعه وحصاراته في هذه السنة ورأيته معه ظاهر بعلبك وعليه السراقوج وحضر معه المصاف بعين جالوت وقاتل قتالاً شديداً وكان شجاعاً مقداماً، فلما من الله تعالى بنصرة الإسلام أحضر بين يدي الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله فأمر به فضربت رقبته صبراً بين يديه ولم يقله عثاره وأخذت بلاده وحواصله، وكان قتله يوم المصاف بعين جالوت وهو نهار الجمعة خامس عشري شهر رمضان المعظم أو ثاني يوم المصاف. الحسين بن علي بن القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله ابن الحسين أبو حامد الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر الملقب بالحافظ ومولده في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر وستمائة بدمشق وسمعه أبوه الكثير من جماعة كثيرة واستجاز له في رحلته إلى العجم الجم الغفير وحدث بدمشق ومصر وأبوه سمع الكثير ببلده ورحل إلى بلاد عديدة وحصل كثيراً وكان فضلاً حافظاً وتوفي ولم يبلغ الأربعين وجده القاسم سمع الكثير وحدث به وكان حافظاً مشهوراً وله تخاريج وجموع وجد أبيه على أحد الأئمة المشهورين صاحب

التصانيف والفوائد من جملتها تاريخ دمشق الذي لم يسبق إلى مثله وله الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة وكانت وفاة أبي حامد المذكور في شهر شعبان من هذه السنة بنابلس وهو متوجه من مصر إلى دمشق رحمه الله. رسلان شاه بن داود بن يوسف بن أيوب بن شاذي الأمير أسد الدين كان جميل الأوصاف حسن الشكل شجاعاً كريماً واسع الصدر عالي الهمة ووالده الملك الزاهر مجير الدين داود كان صاحب البيرة وجده السلطان الملك الناصر صلاح الدين الكبير رحمه الله واستشهد الأمير أسد الدين المذكور بأيدي التتر في ثاني صفر من هذه السنة ببواشير حلب رحمه الله تعالى، وكان والده الملك الزاهر مجير الدين داود يحب الفضلاء وأهل العلم ويقصدونه من البلاد ولما ولد بالقاهرة لسبع بقين من ذي القعدة أو ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة كان والده السلطان صلاح الدين رحمه الله بالشام وكان الثاني عشر من أولاده فكتب إليه القاضي الفاضل رحمه الله رسالة يبشره بولادته من جملتها، وهذا المولود المبارك هو الموفى لاثني عشر ولداً بل لاثني عشر نجماً متقداً فقد زاد الله سبحانه في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجماً ورآهم المولى يقظة ورأى تلك الأنجم حلماً ورآهم المولى ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجوداً، وهو تعالى قادر أن يزيد في حدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدوداً. وحكى عن الملك الزاهر جماعة أنه كان يقول من أراد أن يبصر صلاح الدين فليبصرني فأنا أشبه أولاده به وكان الزاهر شقيق الملك لظاهر

صاحب حلب رحمه الله وتوفي بالبيرة في ليلة التاسع من صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ولما وصل نعيه إلى حلب توجه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى قلعة البيرة وملكها. عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن ابن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب شرف الدين الكرابيسي الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي سمع من ابن طبرزد وغيره وكان من الرؤساء المشهورين معروف بجلالة القدر ومكارم الأخلاق وله بر ومعروف وأنشأ بحلب مدرسة حسنة ووقف عليها وقفاً جيداً ودفن بها لما مات وكانت وفاته في الرابع والعشرين من صفر بعد وقعة التتر، قال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله لما هجم التتر حلب عذبوه في الشتاء بأن صبوا عليه الماء البارد ليدفع لهم المال فتشنج وأقام أياماً ثم مات رحمه الله، وكان يدرس بالمدرسة الظاهرية خارج حلب ومولده في سنة تسع وستين وخمسمائة بحلب وبيته مشهور بالتقدم والجلالة والسنة والعلم والحديث رحمه الله. عبد العزيز بن عبد القوي بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله أبو المعالي محي الدين ابن القاضي الأسعد أبي البركات بن القاضي الجليس أبي المعالي التميمي السعدي الأعلى المصري المعروف بابن الحباب مولده سلخ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة سمع من جماعة من

الشيوخ وكتب بخطه وحصل جملة من الكتب وحدث وكانت وفاته في تاسع عشر ذي القعدة بمنية ابن خصيب من صعيد مصر رحمه الله وبيته مشهور بالرياسة والتقدم. عبد الله بن بركات بن إبراهيم بن طاهر بن بركات بن إبراهيم ابن علي بن محمد بن أحمد بن ابن العباس بن هاشم أبو محمد القرشي الدمشقي المعروف بابن الخشوعي سمع جماعة وحدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وهو من بيت الحديث والرواية وأبوه أبو طاهر بركات ابن إبراهيم أحد مشايخ الشام وعنه يروي معظم المحدثين والطلبة وكان عالي السند رحمه الله وكانت وفاة أبي محمد عبد الله المذكور بدمشق في الثامن والعشرين من صفر رحمه الله. عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون أبو عمرو شرف الدين التميمي الدمشقي الشافعي مولده بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيسا جواداً كبير الهمة مفرط الكرم يستقل الكثير من العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة طائلة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين لم يخلف إلا ما قام بمؤونة تجهيزه ودفنه وهو مركوبه وثيابه بدنه لا غير، وكانت وفاته في العشر الأول من صفر هذه السنة وهو في عشر الثمانين ولما حضر نعشه إلى جامع دمشق للصلاة عليه وضع شمالي مقصورة الخطابة واتفق

في ذلك الوقت حضور نواب التتر إلى الجامع لقراءة الفرامين الواردة من هولاكو المتضمنة الأمان لأهل دمشق فقرئت وجنازته موضوعة ثم صلى عليه ودفن رحمه الله سمع من أبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وغيره وأجاز له جماعة من لشيوخ البغداديين وحدث ويحكى عنه في تكرمه وسعة صدره غرائب من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية مرة ومعه هدية جليلة نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ ولغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم ابنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور سكر مكرر غال عمل للأمير فخر الدين بالقصد من بعض الأماكن الجارية في إقطاعه فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاءه السكر عمله جميعه حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منها أعجبته إعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهد في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سأل لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة

قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فاستهالها وقال هذا جنون. وحكى لي العماد مظفر ابن سنى الدولة رحمه الله ما معناه قال خرجت معه إلى عيون الفاسريا في زمن البطيخ وكانت له فتقدم إلى أصحاب المقاث أن يجمعوها ثم جمعوها فجاءت شيئاً كثيراً فأمر أن ينقى الفجل الجيد الذي في المجموع فجاء قريب أربعمائة حمل فكتب ورقة بتفرقة ذلك جميعه على الأعيان والمعارف بدمشق وقال لي تركب وتروح إلى الدار تستدعي بالغلمان وتقف ظاهر البلد ومعك الورقة وتسير لكل إنسان ما عين باسمه فقلت يا مولانا هذا يساوي أكثر من سبعة آلاف درهم فقال وإذا أطعمنا أصحابنا بطيخ بسبعة آلاف درهم ما هو كثير ففعلت ما قال ثم إن شرف الدين المذكور أباع عيون الفاسريا وأنفق ثمنها وكان يدعي النظر على الأوقاف النورية بحلب وحماة وحمص وبعلبك وغيرها وقد أثبت مال ذلك إليه فقال بعض الناس من يبيع العيون ما يستحق النظر. حكى لي الجمال نصر الله رحمه الله وكان في خدمته ما معناه قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك

وخلف له سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فاذهب الجميع بيعاً وهبة وكان في آخر عمره قد نفد ما معه من المال والأملاك وغيرها ولم يبق له إلا ما يتناوله على سبيل النظر من الأوقاف النورية ومع هذا فنفسه وسعة صدره على ما يعهد منه لم يغيره الإقلال وخلف من الورثة ولدين أحدهما يقال له كمال الدين محمد ويلقب الجنيد ومولده في رابع عشر صفر سنة اثنتين وستمائة وكان شيخاً في حياة والده وكان والده كثير الانحراف عنه لا يلم به ويسميه الولد العاق وكان الكمال المذكور يسمي والده الشيخ الضال وبلغ ذلك الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وزير حماة فقال على سبيل المداعبة كلاهما صادق واتفق أن كمال الدين أثبت بعد وفاة والده أنه أسند النظر إليه في الأوقاف النورية وغيرها وتحدث في ذلك ثم ادعى أنه اطلع على مطالب مدفونة بالديار المصرية واتصل ذلك بالملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله فطلبه على البريد فلما وصل ذكر أنها في أماكن يحتاج في استخراجها إلى خراب آدر عظيمة وبنايات كثيرة فعزم الملك الظاهر على خراب ذلك لما أبداه له الكمال من عظم المال المدفون وجلالة قدره وشرع في ذلك فعدم الكمال عند الشروع فيه ولم يطلع له على خبر فيقال على سبيل الحدس أن بعض أرباب تلك الأملاك عمل على اغتياله والله أعلم.

وكان فقده وانقطاع خبره في أواخر سنة ستين وستمائة وخلف ابنة واحدة كانت زوجة تاج الدين عبد القادر بن السنجاري الحنفي وله منها أولاد فأثبت أن كمال الدين كان أسند إليه النظر في الأوقاف النورية وغيرها وباشر التناول منها من ذلك الوقت وأما ولد شرف الدين الصغير كان يلقب شمس الدين وكان يشهد في مركز العصرونية وتوفي إلى رحمة الله تعالى وخلف ولدا ذكراً وهو الآن في حدود العشرين سنة عند كتابة هذه الأسطر وذلك في سنة تسعين وستمائة. علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن شيبان بن الحسن بن عامر بن عبد الله أبو الحسن جلال الدين النميري المارديني المعروف بابن الصفار ولد بماردين سنة خمس وسبعين وخمسمائة كان شاعراً مجيداً وله معرفة بالعربية ويستعمل المعاني الغريبة ومن شعره: تعشقته زاهي حسن فما له ... أتى بكتاب ضمه سورة النمل وما لي والمجنون فيه وشعره ... إذا مر بالكثبان خط على الرمل وله في غريق: يا أيها الرشأ المكحول ناظره ... بالسحر حسبك قد أحرقت أحشائي إن انغماسك في التيار حقق أ ... ن الشمس تغرب في عين من الماء وله في المعنى:

غريق كأن الموت رق لحسنه ... فلان له في صفحة الماء جانبه أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه وله: وأعجب شيء أن ريقك ماؤه ... يولد دراً وهو عذب مروق وأنك صاح وهو في فيك مسكر ... وأنت جديد الحسن وهو معتق وله في فهد: ومشتهر بالفتك يوم اكتسابه ... على ظفره أثر الدماء ونابه كأنه مهاة الفلك لما انتهى به ... مداه إلى سرب المها وانتهابه رمته بشهب الجو خوف انتقابه ... فأطفأها في عسجد من إهابه وله في فحم يوقد: كأن وقيد الفحم خوف شراره ... إذا النار مست جرمه فتلونا تذكر أيام الشباب الذي جرى ... بمنبته لما ترنح أغصنا فأزهر منه الآينوس بنفسجا ... وأثمر عناباً وأورق سوسنا وله من أبيات: فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضم شملينا معاد شامل وأكون من أهل الخطايا خده ... ناري وصدغاه علي سلاسل وله في مليح اسمه إسماعيل: لحاظك إسماعيل في القلب أسهم ... فلا مفصل إلا وفيها له فعل

وكيف يرجى البرء من سيف لحظه ... وشيعته قد حل عندهم القتل وله في قصر النهار: ويوم حواشيه ملمومة ... علينا تحاذر أن تفرجا قنصت غزالته والتف؟ ... ت أريد أختها فاحتمت بالدجى وله: إذا هب النسيم بطيب نشر ... طربت وقلت: إيهٍ يا رسول سوى أني أغار لأن فيه ... شذاك وأنه مثلي عليل وله: أفدى الخيال الذي أسرى على وجل ... فصادف الحرب بين النوم والمقل يلقى الرقاد على الأجفان كلكله ... فيلتقيه من الأهداب بالأسل عوامل من جفوني ربما قطرت ... دماً فهل أحدثت في النوم من عمل ما زال يخطر بين العسكرين إلى ... أن خالط القلب فعل الفارس البطل وراح بالسبي من يريهما غزلاً ... بحال بين نشاط الجفن والكسل ومرسل صدغه في جاهليتنا ... مؤيد دعوة الأوثان بالرسل سن الهوى حسنه للناس فاتبعوا ... ما سن وانتقلوا عن سنة العذل حتى إذا اخضر من ماء الشباب عذا ... راه كما أحمر خداه من الخجل خافت زمرد خطيه ذؤابته ... فاستخبأت خلفه فهي ابنة الجبل وقال: ومن لم يكن ناسياً هوى ذاكره ... ما ينكر أن يصد عن عاذره

في الصد إشارة له تخبرني ... من حالي أنني على خاطره وقال: أسرار هواك كلها في ظني ... منك انكشفت إلى الورى لا مني ما فهت بذكرها ولكن فطنوا ... من حيث تصدون غيري عني وذكر قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله صاحب هذه الترجمة في بعض مجاميعه وساق نسبه كما ذكر وقال هو من بني كناز بن خليد بن عبد الله بن نمير بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان نشأ بماردين وحفظ القرآن الكريم ونظر في علم العربية وكتب الإنشاء للملك المنصور ناصر الدين ابن أرتق صاحب ماردين ثم عزل عن الكتابة وتولى الأشراف بديوان دنيسر ثماني عشرة سنة وهو شاعر في فنه بارع له المعاني الغريبة والألفاظ الرائقة ووصل إلى إربل في أواخر ذي الحجة سنة سبع وعشرين وستمائة مرتزقاً قلت ومن شعره: بعني بأغلى ثمن نظرة ... أحيا بها يا طلعة المشتري أمن هلال أنت يا وجهه ال؟ ... بادي بهذا المنظر المقمر وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقيل في رجب منها في سابع عشرة قتله التتر لما دخلوا ماردين رحمه الله. عمر بن أحمد أوحد الدين الدويني قاضي منبج كان من العلماء

الفضلاء الأعيان المتبحرين في العلوم واشتغل عليه جماعة كثيرة وانتفعوا به وكانت وفاته بحلب عقيب أخذ التتر لها في العشر الأوسط من صفر هذه السنة وهو في عشر التسعين رحمه الله تعالى. عيسى بن موسى بن أبي بكر خضر بن إبراهيم بن أحمد بن يوسف ابن جعفر بن عرفة بن المأمون بن المؤمل بن قاسم بن الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان الأمير شهاب الدين بن شيخ الإسلام القرشي الأموي الهكاري درس بدمشق مدة بالمدرسة الجاروخية وكان عالماً فاضلاً شجاعاً صالحاً متزهداً متديناً حديث بفوائد جمة وجده أبو بكر هو ابن أخي شيخ الإسلام وكانت وفاة الأمير شهاب الدين المذكور في ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى بقرافة مصر الصغرى ودفن بها من الغد رحمه الله. قطز بن مالك بن عبد الله المظفر سيف الدين رحمه الله كان أخص مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله به وأقربهم إليه وأوثقهم عنده وهو الذي قتل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار وكان الملك المظفر بطلاً شجاعاً مقداماً حازماً حسن التدبير ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً في ذلك وقد ذكرنا استيلاءه على السلطنة سنة واحدة وخروجه للقاء التتر وهو أول من اجترأ عليهم بعد علاء الدين خوارزم شاه وضرب معهم مصافاً فكسرهم كسرة عظيمة

مشهورة جبر بها الإسلام فرحمه الله ورضي عنه. ومما حكى عنه أنه قتل جواده في يوم المصاف بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحداً من وشاقيته الذين معهم جنائبه فبقي راجلاً ورآه بعض الأمراء الأكابر الشجعان المشهورين فترجل من حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك في هذا الوقت وأمنع المسلمين الانتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة والقصة معروفة لا تحتاج إلى شرح، ولما قدم دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا عليه إلى آخر الأيام الناصرية في رواتبهم وإطلاقاتهم وجميع أسبابهم ولم يتعرض لمال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى جهة الديار المصرية كما ذكرنا فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً بالقرب من القصير وهي المنزلة التي بقرب الصالحية من منازل الرمل وبقي ملقى بالعراء فدفنه بعض من كان في خدمته بالقصير المذكور فكان قبره يقصد للزيارة دائماً واجتزت به وترحمت عليه وزرته وكثر الترحم عليه والدعاء على من قتله، وكان

الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله قد شارك في قتله أتم مشاركة بل كان مدار ذلك كله عليه وتملك بعده فلما بلغه ذلك سير من نبشه ونقله إلى غير ذلك المكان وعفى أثره ولم يعف خبره رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً ولم يخلف ولداً ذكرا له بل سمعت أنه خلف ابنتين وكان قتله يوم السبت سادس عشر ذي القعدة. حكى لي المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير تغمده الله برحمته ورضوانه ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله لما كان على برزة في أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من الديار المصرية بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن وملك الديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال المولى تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين ابن يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها وخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خانى وسلم علي وقال جاءكم بريدي أو قاصد من الديار المصرية وريت وقلت ما عندي

علم بشيء من هذا قال قطز يتسلطن ويملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجباً من حديثه وقلت له أيش هذا القول؟ ومن أين لك هذا؟ قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وإياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أني كلما أخذت عنه قملة آخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قمل كثير وشرعت أصفعه ثم قلت في غضون ذلك والله ما اشتهى إلا أن الله يرزقني إمرة خمسين فارساً فقال لي طيب قلبك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت والك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزمك لك إلا إمرة بخمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية وأكسر التتر وأعطيك الذي طلبت قلت والك أنت مجنون أنت بقملك تملك الديار المصرية قال نعم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم

في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية مستقلاً ويكسر التتار كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. قال المولى تاج الدين رحمه الله فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله هو يكسر التتر فما مضى عن هذا إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما هو مشهور قال المولى تاج الدين فرأيت الأمير حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولاي تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا إلى الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائد على ذلك، قال المولى تاج الدين وشرعنا نتعجب من هذه الصورة. حكى لي المولى الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه أن الأمير سيف الدين يلقاق حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله في حال الصبي كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق أن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتر فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب وحسب وقال وأنت تملك أيضاً الديار المصرية

وغيرها فتزايد استهزاؤنا به ثم قالا لي لا بد أن تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب وقال لي وأنت تحصل إمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق إن وقع الأمر كما قال لما يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق! هذا مضمون ما حكاه لي الأمير عز الدين المذكور في خامس ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة بدمشق. كتبغا نوين مقدم عساكر التتر كان عظيماً عندهم يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره وكان شجاعاً بطلاً مقداماً مدبراً سائساً خبيراً بالحروب والحصارات وافتتاح الحصون والمعاقل والاستيلاء على الممالك وهو الذي افتتح معظم بلاد العجم والعراق وكان هولاكو ملك التتر يثق به ولا يخالفه فيما يشير إليه ويتبرك برأيه ويحكي عنه العجائب في حروبه وحصاراته من ذلك أنه نازل عدة حصون فكان إذا فتح حصنا ساق جميع من فيه من الناس إلى الحصن الذي يليه فإن مكنهم أهله من دخوله ضيقوا عليهم في المأكول والمشروب وإن منعوهم من الدخول هم بضرب أعناقهم فيمكنوهم وإن أصروا على المنع ضرب أعناقهم فإذا تيسر فتح الحصن الآخر فعل كذلك إلى أن استكمل فتح سائر الحصون المقصودة، ومن ذلك أنه نازل حصناً لا يرام وتحقق أن فيه مؤناً كثيرة وعدة آبار فيها من الماء قدر كفايتهم فقال لهم ما معناه أما حصنكم فمنيع والمؤنة عندكم كثيرة لكن الماء الذي عندكم على فراغ فإنا أصابركم إلى أن يفرغ وآخذكم فقالوا المياه عندنا

كثيرة والذي بلغك من قلتها باطل لا حقيقة له وسير من ثقاتك من يبصر ذلك ويكشف لك حقيقته، ويخبرك وكان قد هيأ عنده رماحاً جوفها وملأها سماً قاتلاً وسدها عليه فسير جماعة من أصحابه وبيد كل واحد رمحاً منها فكانوا يأتون إلى البئر فينزلون الرمح فيها كأنهم يخضخضون الماء وينفضون الرمح بقوة فتنفتح السدادة بحركة دبروها فينزل جميع ما في الرمح من السم في تلك البئر فسموا بهذا الفعل جميع ما عندهم من المياه ونزلوا من عندهم إلى كتبغا وأخبروه بانتهائهم إلى ما أمرهم به وأقام كتبغا ومن معه على حالهم أياماً فهلك من شرب من ذلك الماء وتسلم الحصن، وهو الذي افتتح حصون الشام، ورأيته لما حضر إلى بعلبك لحصار قلعتها وقد دخل جامع المدينة وصعد منارته ليشرف منه على القلعة ثم نزل وخرج من الباب الغربي الذي في صحن الجامع ودخل حانوتاً خراباً فقضى حاجته به والناس يشاهدونه وعورته مكشوفة ومعه بعض التتر فلما فرغ مسحه ذلك الشخص بقطن كان معه مسحة واحدة وركب وكانت لحيته شعرات يسيرة في حنكه وهي مضفورة دبوقة لطولها وربما جعل طرفها في حلقة في أذنه وربما أرسلها على صدره فتبلغ سرته وكان مهيباً مطاعاً في جنده لا يجسرون على مخالفته ولا الخروج عن أمره وكان يردعهم عن كثير من أفعالهم وكان إذا أمن أحداً وكتب له أماناً كان أقرب إلى الوفاء به من غيره من التتر وهذا على ما فيه من الغدر وكان شيخاً

مسناً أدرك جنكزخان الأخير جد هولاكو وكان عنده ميل إلى دين النصرانية لكنه لا يظهر الميل إلى النصارى لتمسكه بأحكام أسة جنكزخان وسائر أرباب الأديان عنده سواء وهذا من أحكام الأسة، وكان إذا كتب عنه كتاب يقول في أوله من كلام كيد بوقا نوين والنوين عندهم مقدم عشرة آلاف فارس فما زاد عليها ولا يقال لمن هو مقدم على من تنقص عدتهم عنها. ولما بلغه خروج العساكر مع الملك المظفر رحمه الله وكثرتها تلوم وتوقف واستشار فأشار عليه بعض الناس بالتأخر وأشار عليه بعضهم بالملتقى فحملته نفسه وشجاعته وما قد ألفه من النصر في سائر المواطن على اللقاء فتوجه لذلك ولقيهم على عين جالوت بالقرب من بيسان فكانت الوقعة المشهورة التي نصر الله تعالى فيها الإسلام وحزبه وأخزى الكفر وأهله فحمل على الميسرة فهزمها هزيمة شنيعة كادت تستمر لولا تدارك الله الإسلام بنصره ورحمته فحملوا عليهم فكسروهم كسرة لا يجرى بعدها جبر، فولوا على وجوههم والسيوف تأخذهم وأعتصم منهم طائفة بتل هناك فأحدقت بهم العساكر وقتلوا عن آخرهم وأسر من كان صغيراً أو مراهقاً، وأما كتبغا فلم يفر ولم يكن الفرار من عادته فثبت وقاتل إلى أن قتل وعجل الله بروحه إلى النار وكان الذي تولى قتله على ما قيل ولم يعرفه الأمير جمال الدين آقوش الشمس

رحمه الله وأسر ولده وكان جميل الصورة جداً ولما تمت الكسرة قيل للملك المظفر أن كتبغا هرب وكان قد أحضر إليه ولده أسيراً وهو واقف بين يديه فقال له أبوك هرب قال لا أبي ما يهرب أبصروه في القتلى فدوروا عليه في القتلى وأحضروا عدة رؤوس وعرضوها على ولده وهو يقول ما هو هذا إلى أن أحضروا رأسه فقال هذا هو وبكى ثم قال للملك المظفر ما معناه نام طيباً ما بقي لك عدو تخاف منه هذا هو كان سعادة التتر به يهزمون الجيوش وبه يفتحون الحصون وكذا كان لم يفلحوا بعده ولله الحمد والمنة، وأما ولده فقد كنت رأيته معه ببعلبك لما حضر لحصار قلعتها ثم رأيته بالديار المصرية في سنة تسع وخمسين وقد لبس زي الترك، وكان مقتل كتبغا يوم المصاف وهو يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة. لاحق بن عبد المنعم بن قاسم بن أحمد بن حمد بن حامد بن مفرج بن غياث أبو الكرم الأنصاري المصري المولد والدار والوفاة، مولده سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة تقديراً سمع من محمد بن حمد بن حامد وكانت له إجازة من أبي محمد المبارك بن علي بن الطباخ وحدث بها كثيراً ونشر بها علماً جماً وكان شيخاً صالحاً عفيفاً رحمه الله وتوفي في ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة ودفن من الغد بسفح المقطم. المبارك بن يحيى بن المبارك بن مقبل أبو الخير مخلص الدين الغساني

الحمصي كان من الفضلاء المشهورين بمعرفة الأدب والأنساب وأيام الناس سني المذهب اختصر كتاب الجمهرة في الأنساب لابن الكلبي اختصاراً حسناً دل على غزارة فضله ومعرفته وله كتاب المشجر في النسب أيضاً وغير ذلك من جموع مفيدة ولما ورد التتر إلى الشام في هذه السنة خرج من حمص مجفلاً في شهر ربيع الآخر ولجأ إلى جبل لبنان يعتصم في بعض القرى الوعرة التي بالجبل فأدركته منيته وقد نيف على الستين سنة من العمر ودفن حيث توفي رحمه الله تعالى، ومن شعره مما نقلته من خطه على ظهر مجلد: بدا لي وقد خط العذار بوجهه ... حبيب له منى على رقيب كمثل هلال العيد لاح وقد دنا ... من الأفق مرماه وحان مغيب وله في غلام أهدى تفاحة من يده: أتى يهز قضيب البان حين مشى ... من تحت طلعت بدر فوق جيد رشأ حيا بتفاحة من خده اكتسبت ... لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت ... إن العليل إذا ما شمها انتعشا وله: طرق الخيال على البعا ... د ولم يخف خطر الطريق بلوى العقيق وأين من ... دار الحبيب لوى العقيق وافى إلى الوافي بما ... أعطي من العهد الوثيق

أهدى له المسك السحي؟ ... ؟ ق وزار من بلد سحيق يا طيب من هو في حشا ... ي يطوف بالبيت العتيق لا تحسبن كرى جفو ... ني عن سلو أو عقوق صامت لهجرك بالسها ... د فأفطرت عند الطروق وله: بأبي من حوى الجمال بديعاً ... وبدا لي يوماً فقلت بديها يا حبيباً إذا تأمله طرفي ... رأى كل طرقه يشتهيها حق من كنت وجهة لهواه ... أن يرى حظه لديك وجيها فمتى الوصل قال من دون وصلي ... شقة حارت الأدلاء فيها ولعمري بحق من تاهت الألب؟ ... اب في بر حسنه أن تتيها وله: تمثلت حين لقيت الحبيب ... على غضب منه لم ينقض وقبل كفى ولم يبتسم ... وقبلته وهو كالمعرض ومن يك في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضى هذا البيت مضمن: وهو لمبارك بن يحيى بن المبارك بن مقبل بن الحسن بن يونس الغساني نقلته من خطه. محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي والدي رحمه الله مولده في السادس من شهر

رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بقرية يونين من عمل بعلبك الإمام الحافظ كان عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وأبى علي حنبل بن عبد الله المكبر وأبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة وحدث بالكثير وهو أحد الحفاظ المشهورين الجامعين بين العلم والدين وكانت وفاته ببعلبك في تاسع عشر شهر رمضان المعظم ودفن من يومه بتربة الشيخ عبد الله اليونيني ظاهر بعلبك رحمه الله صحب الشيخ عبد الله اليونيني وانتفع بصحبته وأخذ عنه علم الطريق وكان أخص أصحابه به يقدمه على جميعهم ولي الخرقة من الشيخ عبد الله البطائي رحمه الله تبركاً وهو شيخ شيخه ولم يزل ملازماً للشيخ عبد الله اليونيني سفراً وحضراً إلا أن يأمره بالتوجه إلى مكان والإقامة به فيفعل ذلك وفي حال ملازمته له يصلي به ويفتيه ويقتدي به في الأمور الشرعية ويرجع فيها إلى قوله حين توفي الشيخ عبد الله رحمه الله واشتغل بالفقه على الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله وعلى غيره واشتغل بالحديث على الحافظ عبد الغني رحمه الله وغيره وكان الحافظ يعظمه وإذا سئل عن مسألة بحضوره يقول له ما تقول في كذا وكذا فإذا أجاب بجواب قال لصاحب المسألة ذلك الجواب بعينه وتقدم

في علم الحديث على الحفاظ المبرزين في زمانه وعلى كثير ممن تقدمه وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو وكان يكرر عليه وكذلك صحيح مسلم ومعظم مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه وغير ذلك من كتب الحديث قال قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله قرئ عليه مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه فكان يعلم على أحاديث تمر به فلما انتهى قراءة المسند سئل عن ذلك فقال هذه لا أحفظها فإنا أعلمها لأحفظها فاعتبرناها فكانت مقدار مجيليد صغير وكان إذا سئل عن حديث هل هو صحيح أم لا أجاب في الوقت واشتغل في علم العربية والنحو على الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله ولازمه وكان الشيخ تاج الدين يقدمه على سائر من اشتغل عليه من الطلبة والملوك وغيرهم وسمع عليه جميع مسموعاته وكتب خطاً منسوباً قل من كان يكتب في زمنه أجود منه وهذا في حال شبابه أما لما أسن ضعفت يده واشتغل عليه خلق لا يحصون كثرة بالعلوم الشرعية والحديث والعربية وعلى الطريق وسمع ما لا يحصى كثرة وأسمع زماناً طويلاً فسمع عليه خلق كثير وانتفع به جم غفير ونال من السعادة الدنيوية والدينية ما لم ينله غيره فيما علمنا فإن الملوك كانت تحضر إلى بابه وتقف به إلى أن يؤذن لهم فإذا دخلوا عليه عاملوه بالتعظيم الخارجي عن الحد وامتثلوا إشاراته. حكى لي أن الملك الأشرف مظفر الدين شاه أرمن موسى بن

الملك العادل رحمه الله تعالى ربما قدم مداسه وأنه توضأ يوماً وأراد ما يطأ عليه فخلع عمامته وبسطها له وحلف أنها طاهرة وأقسم عليه أن يمشي عليها ففعل ذلك وكان يخدمه بنفسه وكذلك كان يفعل معه الملك الصالح إسماعيل رحمه الله ولما توجه والدي رحمه الله إلى دمشق في آخر سنة خمس وخمسين حضر عنده أولاده ومعهم إجازة وقبلوا مما عهد به إلينا والدنا أن نقصدك ونلبس منك خرقة كما لبس وتكتب لنا في هذا الإجازة أو ما هذا معناه فأخذ عليهم العهد وألبسهم الخرقة ولما قدم الملك الكامل دمشق أيام كانت للملك الأشرف رحمه الله اقترح عليه أن يجتمع بوالدي فسير بطاقة إلى بعلبك يلتمس منه الحضور فحضر وأنزله في دار السعادة لأن الملك الأشرف كان سكنها عند قوم الملك الكامل وأنزله في قلعة دمشق فلما قدم والدي رحمه الله عرف الملك الأشرف الملك الكامل بقدومه فنزل إليه واجتمع به في المكان الذي نزل فيه بدار السعادة وبلغ الملك الكامل في التأدب معه وبحثوا في فنون من العلوم منها القتل بالمثقل واستدل الملك الكامل بحديث الذي رضخ رأسه بين حجرين وأنه سأل من فعل بك هذا: الحديث ولم يذكر فيه فاعترف واحتج بأن قول المقتول يؤخذ به فقال والدي في الحديث فاعترف وهو في صحيح مسلم فقال الملك الكامل فأنا اختصرت صحيح مسلم وأمر بطلب الكتاب فأحضر في خمس مجلدات فتناول الملك الكامل

مجلداً والملك الأشرف مجدلاً والملك الصالح مجلداً وأظن عماد الدين ابن موسك مجلداً وشرعوا يتصفحون الكتاب ليظهروا الحديث وبقي مجلد فأخذه والدي وفتحه فظهر الحديث حال فتحه الكتاب وهو كما قال فأوقف عليه الملك والجماعة فتعجبوا من ذلك وعظم في عين الملك الكامل وعزم على أخذه إلى الديار المصرية وشعر الملك الأشرف بذلك فجهزه لوقته إلى بعلبك وكان الملك سير له جملة من الذهب فامتنع من قبولها وقال أنا في كفاية فلما سافر سأل عنه فأخبره الملك الأشرف بسفره وأنه لا يوافق على مفارقة الشام. حكى الملك الأشرف لوالدي رحمه الله قال لما كسرنا في الروم وخرجنا منه قال لي الملك الكامل وقد جرى ذكرك تبصر كيف نصره اله علينا في مجلسنا من كتبنا فقلت له هو رجل موفق فقال نعم وكان الملك لا مجد يتردد إليه ويكثر الاجتماع به وله في هذا عقيدة عظيمة ويعظمه غاية التعظيم وكذلك أسد الدين شيركوه وكان بين الملك الصالح نجم الدين وعمه الملك الصالح إسماعيل من الوحشة والعداوة ما هو مشهور فلما خرجت البلاد عن الملك إسماعيل وتملكها الملك الصالح أيوب حصل منه تحامل على والدي وأوقف رواتبه واتفق أنه حضر إلى بعلبك فاجتمع عند والدي جماعة من أصحابه وسألوه الركوب لتلقيه وقالوا هذا رجل جبار ومتى تأخرت عن تلقيه توهم أن ذلك كراهة فيه لأجل عمه فلا يؤمن شره وإن لم ينلك نال أصحابك فركب قبلولاً لقولهم

وتلقاه فعند ما عاينه بالغ في الإقبال والترحيب والمؤانسة ولم يشتغل عنه بغيره إلى أن فارقه قال الأمير ناصر الدين محمد بن التبنينني رحمه الله فلما فارقه شرع في شكره والثناء عليه وتعظيمه فقلت له يا خوند ألا أنه يحب عملك الملك الصالح فقال حاشى ذاك الوجه وأمر أن يحمل إليه جميع ما كان أوقف من الكسوة والرواتب وغير ذلك للمدة الماضية وأجراها في المستقبل ولما نزل إلى دمشق في آخر سنة خمس وخمسين خرج الملك الناصر صلاح الدين يوسف إلى زيارته بزاوية الشيخ علي القرشي رحمه الله فلما دخل عليه بالغ في التأدب معه والتعظيم له واستعراض حوائجه. وكان والدي رحمه الله يكره الاجتماع بهم ولا يؤثره ومما جرى له مع الملك الأشرف أنه كان إذا حضر إليه عرض عليه قصصاً كثيرة للناس ويسومه قضاء ما فيها فيفعل ذلك فاتفق حضوره إليه في بعض الأيام وعنده قصص كثيرة جداً فشرع الملك الأشرف في قراءتها فقرأ بعضها وضجر من إتمامها فقال له والدي أنا أجعل كفارة اجتماعي بكم قضاء لحوائج الناس فإن قضيتموها وإلا ما اجتمع بكم فاعتذر إليه وتلافاه وتمم قراءة تلك القصص وقضى جميع ما فيها وكانت مدة اجتماعه بالملوك وترددهم إليه ثلاثاً وأربعين سنة، وكان قبل ذلك ربما اجتمع بهم مصادفة أما ترددهم إليه بالقصد فمن ذلك التاريخ وكان يعد ذلك من كرامات شيخه الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله فإن الشيخ

عبد الله كان له زوجة ولها ابنة من غيره فقال لها زوجي ابنتك من محمد فقالت يا سيدي هو فقير ما له شيء وأنا أشتهي أن تكون بنتي سعدية فقال لها زوجيه فإني أرى له داراً مليحة وفيها بركة ماء وبنتك عنده في الليوان والملوك يترددون إلى خدمته وله كفاية تامة على الدوام فزوجته بها وهي أول زوجاته. حكى لي أن الملك الصالح استأذن عليه مرة وهو في دار القاضي الفاضل بدمشق وهو في المرحاض فأخبر بذلك فقال دعوه حتى يدخل وحده فدخل وقعد في الإيوان واتفق أن والدي حصل له ما احتاج معه إلى النزول في البركة إلى وسطه فخرج وقال له أدر ظهرك فأداره ونزل في البركة وتطهر وتوضأ وجالسه بعد ذلك وكانوا يبذلون له الكثير من الدنيا فلا يتناول إلا قدر الكفاية ويقول أنا أستحق في بيت المال أكثر من هذا القدر الذي يصلني منهم وملكه الملك الأشرف قرية يونين وكتب به كتاب وأعطاه لمحيي الدين يوسف بن الجوزي رحمه الله وكان عنده رسولاً من جهة الخليفة ليأخذ عليه خط الخليفة فبلغ والدي ذلك فطلب الكتاب ومزقه فعاتبه الملك الأشرف فقال

أنا لي قدر الكفاية ولا آخذ من بيت المال أكثر منها ولم يكن والدي رحمه الله يقبل صلة أحد من الأمراء ولا من الوزراء ولا غيرهم إلا أن أهدى له هدية من المأكول أو ما أشبهه فإنه يقبل ذلك من بعض الناس ممن يتحقق حل ما له وكان هو ربما سير للملوك هدية مختصرة من مأكول أو نحوه فيتبركون بها ويستشفون. حكى لي خادمه الشمس محمد بن داود رحمه الله قال سير الشيخ معي للملك الكامل هدية بعلبك وكان فيها كشك فلما أحضرت ذلك كان الكشك قد جعل في طبق فجعل الملك الكامل يستف منه وهو يتناثر على لحيته وثيابه وكان الصاحب فلك الدين بن المسيري حاضراً فقال يعرف الشيخ أن السلطان له سنين يحتمى عن اللبن وما يعمل منه وتراه قد أكل من هذا الكشك تبركاً بهدية الشيخ وأما أكابر الأمراء والوزراء ونواب السلطنة فكانوا يعاملونه بأضعاف ذلك من التأدب معه والامتثال لأمره واحترام أصحابه وأتباعه والمبالغة في ذلك إلى حد لا يوصف. ولما انتقل النعل الشريف النبوي صلوات الله وسلامه على صاحبه إلى الملك الأشرف ووصل إليه وهو بدمشق أراد إرساله إلى والدي ليزوره ويتبرك به ثم قال نحن قد اشتقنا إلى الشيخ والأولى أن نسير إليه نخبره ليحضر يزور هذا الأثر الشريف ويبصره وكتب إليه بذلك

وكانت جدتي في قيد الحياة فقالت لوالدي كنت أشتهي زيارة هذا الأثر الشريف فزره عني فلما قدم دمشق وزار الأثر الشريف أخبر الملك الأشرف بما قالته والدته فجهز الأثر الشريف إلى بعلبك لأجلها فزارته وقضت وطرها من ذلك وكان جرى لهذا الأثر الشريف قصة أوجبت انتقاله إلى الملك الأشرف وذلك أن صاحبه ابن أبي الحديد كان يسافر به إلى الملوك فيعطوه الأموال وانتجع للملك الأشرف رحمه الله في بعض السنين وكان يجزل له العطاء فقال له الملك الأشرف أشتهي أن تعطيني من هذا الأثر الشريف بقدر الحمصة لأجعله في كفني إذا مت فأجابه إلى ذلك وأعطاه ثلاثين ألف درهم وتقرر أنه في غد ذلك اليوم يحضر العلماء والمشايخ ويقطع من ذلك مطلوبه واغتبط ابن أبي الحديد بذلك فلما كان في الليل انثنى عزم الملك الأشرف وسير إلى ابن أبي الحديد بذلك فسقط في يده لتوقعه فوات المبلغ الذي سمح له به فلما أصبح حضر بين يديه وسأله عن السبب الموجب لذلك فقال فكرت في أنني متى أخذت من هذا الأثر الشريف هذا القدر تشبه بي الملوك فيفضي الحال إلى عدم هذا الأثر الشريف من الوجود وأكون أنا السبب فتركته لله تعالى وأما القدر الذي سمحت لك به فخذه لا أرجع فيه فاستطار فرحاً وأخذ تلك الجملة وسافر إلى بلاد الشرق فأدركه أجله أظن في حران فأوصى قبل وفاته بالأثر الشريف للملك الأشرف فصار إليه بحسن نيته فبنى لأجله دار الحديث المجاورة

للقلعة وجعله فيها يزار في عصر الاثنين والخميس وكان والدي رحمه الله إذا جمعه وعلماء عصره مثل الشيخ تقي الدين بن العز والشيخ شرف الدين ابن الشيخ أبي عمر والشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين بن الصلاح وقاضي القضاة شمس الدين بن سنى الدولة وقاضي القضاة شمس الدين الخوى والشيخ أبي عمرو بن الحاجب والشيخ الحصيري وغيرهم من تلك الطبقة بالغوا في التأدب معه ولا يترفع أحد منهم عليه في الجلوس ولا الكلام ويرجعون إلى قوله وكذلك كان حال أكابر مشايخ عصره من الزهاد يتمثلون بين يديه ويمتثلون أمره حدثني غير واحد من أعيان الفقراء أن الشيخ عثمان العدوي رحمه الله قدم مرة دمشق وكان والدي بها فدخل أمين الدولة وزير الملك الصالح على علي والدي في أنه يعمل للشيخ عثمان ومن معه من الفقراء ضيافة فأجابه والدي فعمل ضيافة احتفل لها واستدعى إليها مشايخ البلد فلما حضر والدي والشيخ عثمان ومد السماط شرع والدي يأكل وامتنع الشيخ عثمان من الأكل فقال له أمين الدولة في ذلك فقال والدي المقصود بركة الشيخ عثمان ويترك في الأكل على اختياره فلما خرج الجماعة قال بعض الفقراء للشيخ عثمان يا سيدي أنت ليس لك

من تقتدي به في أمور دنياك وآخرتك إلا الشيخ وقد رأيته أكل فلم امتنعت والله لما مد السماط شاهدته وهو نار تشتعل فكان سيدي الشيخ الفقيه يمد يده ويأخذ اللقمة من السماط ويرفعها فتستحيل وما تصل إلى فمه إلا وهي نور يتلألأ وأنا فلم يكن لي هذا التمكين فامتنعت. وحكى لي القاضي تاج الدين عبد الخالق رحمه الله ما معناه قال قدم بعلبك في الأيام الأمجدية شخص كاتب وادعى أنه من ذرية شاور وزير العاضد بمصر أو من أقاربه فولاه الملك الأمجد المواريث الحشرية ببعلبك واتفق غيبة الملك الأمجد فمات شخص وله أولاد عم فاحتاط على تركته فطلبه الشيخ وقال له هذا الرجل له وارث وأنا أعرف أنهم أولاد عمه ومستحقي ميراثه فليس لكم عليه اعتراض فقال السلطان أمرني أن من مات احتاط على تركته وأنا ما أفرج من هذه التركة فغضب الشيخ وقال له قم قطع الله يدك ويد السلطان معك فقام ذلك الشخص وتوجه إلى الملك الأمجد بالمكان الذي كان فيه وشكا إليه فقال له كنت امتثلت ما أمرك به فأنت تراني لا أخالفه وأنكر عليه فما وسعه المقام ببعلبك فتوجه إلى دمشق وأقام بها مدة وعثر عليه أنه زور توقيعاً فقطعت يده وأما الملك الأمجد فبعد أخذ بعلبك منه نزل إلى دمشق وأقام بدار السعادة وهي داره فضربه مملوك له بالسيف على يده فقطعها وجرحه جرحاً آخر وبقي يومين ومات رحمه الله ومما

يقارب هذا أن خالي تاج الدين يعقوب بن سنى الدولة رحمه الله قدم بعلبك في الأيام الناصرية زائراً ونزل في دار ابن عمه الشرف خضر وكان والدي كثير البر بأقارب والدتي فاتفق أنه قصد رؤيته وأنا معه فلما دخل قام خالي وقبل يده وقعد بين يديه وهناك فقير موله يقال له علي وقد أحسن خالي فيه الظن فلما دخل والدي قعد ذلك الفقير في الصفة فحضر الشمس محمد بن داود خادم والدي ومعه رأس مشوي ومدت السفرة وطلبوا على الفقير ليأكل فوضع يده على أنفه وقال أفوه أفوه وجعل يكرر هذا القول فلما سمعه والدي زعق فيه وقال قم قطع الله أنفك فخرج من البيت لوقته وطلب طريق الزبداني فلما كان بعد المغرب صادفه جندي سكران في الرمانة فضربه بالسيف فاصطلم أنفه بالكلية فعاد من الغد وهو على هذه الصورة وخولط في عقله فلم ينتفع بنفسه إلى أن مات. ولما قصد التتر الشام في أوائل سنة ثمان وخمسين وستمائة وكثر الإرجاف بهم قال والدي رحمه الله للشيخ محمود بن الشيخ سلطان وكان الشيخ محمود يجتمع برجال لبنان قد جمع بينه وبينهم والده فقال له والدي سلم عليهم وسلهم عن أمر هذا العدو وما يكون عاقبة الناس معهم فسألهم وحضر عند والدي فقال له ما الذي أجابوك به فقال قالوا قل له يسألنا عن مثل هذا ونحن لا نعلم إلا ما يفضل عنه وسمعت الشيخ محمود رحمه الله يقول غير مرة ما توفي سيدي الشيخ الفقيه

إلا بعد أن قطب اثنتي عشرة سنة أو قال فوق ذلك الشك مني في المدة وكان شرف الدين محمد بن عطاء حنبلي المذهب وكان يحب والدي محبة مفرطة بحيث ترك وطنه وانتقل إلى بعلبك لمحبته فيه وأقرأ ولده قاضي القضاة شمس الدين عبد الله الحنفي رحمه الله القرآن الكريم فلما فرغ منه قال له ولدي يا سيدي يقرأ المقنع أو مختصر الخرقى فقال والدي يقرأ في القدوري ويشتغل على مذهب ابن حنيفة فإنه يسود فيه فاشتغل وساد كما قال وكذلك قال لجماعة أخر من الشافعية وغيرهم فجرى الأمر كما قال رحمه الله وقال كنت عزمت على السفر إلى حران للاشتغال بالفرائض على شخص بلغني تفرده بهذا العلم وتبحره فيه وأريد السفر في غد ذلك اليوم فجاءني كتاب الشيخ عبد الله قال أو رسالته أنني أمضي إلى القدس فشق علي ذلك وأردت إمضاء ما عزمت عليه فاستفتحت في المصحف الكريم فظهر قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " فقلت هذا الشيخ لا يسألني أجراً ولا شك أنه مهتدي فسافرت إلى القدس كما أمرني وحضر عندي جماعة من أهل القدس يشتغلون علي بالفرائض وغيرها فأشغلتهم مدة وإلى جانبي رجل لا أعرفه فلما كان بعد مدة أيام سألته من أي البلاد هو فذكر أنه من حران فسألته عن ذلك الشخص الذي كنت عزمت على قصدة فوجدته هو بعينه فقلت يا سبحان الله وأنا أشغل بالفرائض بحضرتك ولا تقول لي شيئاً فقال لم تخط وإنما تسلك طريقاً بعيدة وتترك ما هو أقرب منها

فلازمته وأخذت جميع ما عنده حتى ظننت أني قد صبرت أخبر بذلك منه ثم سألته عن سبب قدومه إلى القدس فذكرانه توفي له نسيب بالقدس ومعه تجارة احتاط عليها ديوان القدس وحضر لاستخلاصها وكان ناظر القدس وتلك الأعمال المنصرف فيها جمال الدين عبد الرحيم ابن شيث رحمه الله وهو صاحبي جداً ولا ينقطع عني فلما حضر قلت له بسببه فسلم إليه التركة بكمالها فما بات في القدس تلك الليلة وسافر إلى بلده وكان جمال الدين المذكور يحب والدي محبة شديدة وله صحبة مع الشيخ عبد الله. وحكى والدي رحمه الله قال أقمت بالقدس مدة زمانية وكان ثم فقير يخدمني فلم أشعر إلا بشخص قد حضروا حضر عشرة دراهم وشرع يعتذر ويسأل الصفح فقلت له ما خبرك فقال الصاحب جمال الدين أمرني أن أعطي لهذا الشخص الذي يخدمك كل يوم عشرة دراهم برسم النفقة منذ قدمتم وكل يوم يحضر يأخذها من بكرة النهار فلما كان في هذا اليوم حضر وما معي دراهم فخاصمني وقال أنه يشكوني إلى جمال الدين فقلت له طيب قلبك ما عليك بأس وإذا عاد إليك يطلب منك شيئاً لا تعطه وقل له أنني أمرتك بذلك فأخذ الدراهم العشرة وراح وحضر ذلك الفقير عندي فلم أقل له شيئاً وعاد إلى ذلك الشخص يطلب منه الدراهم فأخبره أنه قال لي وأنني أمرته أن لا يعطيه شيئاً فسافر الفقير لوقته من القدس فكان آخر العهد به وحضر جمال الدين

فقال لمن تأمر بقبض تلك النفقة قد كفى ما تفضلت والله لا عدت تناولت منه شيئاً فتألم لذلك فلاطفته إلى أن طاب خاطره بقطعها. وكان لوالدي رحمه الله ابن عم يدعى إدريس وكان مشوه الخلق زري الشكل ليس له قوت إلا ما يعطيه والدي فركب والدي والملك الصالح إسماعيل إلى ظاهر البلد فصادفه داخلاً من قرية يونين إلى المدينة فحين رأهم تنكب الطريق وأبعد فطلبه والدي وسلم عليه ورحب به وسأله عن حاله وقال للملك الصالح هذا ابن عمي ولولا شرف العلم والتقوى لكنت مثله فتعجب الملك الصالح من ذلك وعظم في صدره وقال والدي رحمه الله مرضت في حال شبابي بذات الجنب والشقيقة ونالني من ذلك شدة عظيمة فدخل علي فقيران عاداني وسألاني عما أجد فأخبرتهما فقال أحدهما لصاحبه اختر أحد المرضين وأنا الآخر فقال أنا أحمل عنه ذات الجنب وقال صاحبه وأنا أحمل الشقيقة فتلبس كل واحد منهما لوقته بالمرض الذي اختاره وبرئت أنا بالكلية لوقتي فأما الذي أصابه ذات الجنب فبقي أياماً ومات رحمه الله وأما صاحب الشقيقة فبقي مدة وعوفى. وحكى لي العماد محمد بن عوضة رحمه الله ما معناه أنه قال كنت يوماً في خدمة سيدي الشيخ بجامع دمشق وقد أحضر شخص له دارهم قريب ثلاثمائة درهم من ضمان بستان كان له بدمشق فأخذتها وجعلتها

تحت طرف السجادة فمر في صحن الجامع رجل أعمى فقال لي يا عماد خذ هذه الدراهم أعطها لهذا الرجل فأخذت الدراهم وقمت إلى الأعمى ودفعتها إليه وجعلتها في مئزره فدعا لي وتوهم أنها فلوس فقلت له هذه الدراهم فاضطرب من السرور إلى أن كادت تسقط منه فقلت له هذه سيرها لك الشيخ الفقيه فدعا وانصرف ثم أن شخصاً أهدى للشيخ ثوب صوف نادر المثل فسألته أن أخيطه له ففصلته وخيطته وتأنقت فيه وأحضرته إليه وهو بجامع دمشق فلبسه وصلى فيه ركعتين وقعد وهو على أكتافه وذلك الأعمى مار في الجامع فقال لي يا عماد خذ هذه الفرجية أعطها لهذا الرجل ففعلت ذلك قال ثم كنت عنده يوماً آخر وذلك الأعمى عابر فأعطاني شيئاً له جنب وقال أعطه إياه فأعطيته ذلك وبقيت متعجباً من تخصيصه بذلك فلما رأيته منشرحاً سألته عن سبب ذلك فقال جئت مرة من جبل الصالحية ودخلت من باب الفراديس وأنا محتاج إلى الخلاء فدخلت الطهارة التي بين البابين عند الأزبهارية وقضيت حاجتي واغترفت غرفة من الجرن استعملتها ثم تأملت الجرن فوجدت فيه بعر فأر والماء مقطوع فورد علي ما ضيق صدري وكان هذا الرجل يسكن في المجاهدية وما كف بصره فلم أشعر به إلا وقد فتح علي باب بيت الطهارة وناولني إبريقاً مملوؤاً ماء من النهر فسررت بذلك وتطهرت بالماء وخرجت وأعطيته الإبريق ولم يكن لي في ذلك الوقت ما أعطيه فأنا لا أراه وعندي ما يمكنني أن أبره به إلا بررته مجازاة لفعله.

قال العماد فعجبت من هذه المكارم والمجازاة على ما أيسر شيء بمثل هذا، فكان والدي رحمه الله يبالغ في مجازاة من يخدمه ولو بايسر شيء بما يمكنه ولا يرى أنه وفي ذلك الشخص حقه. وسمعته رحمه الله يحكي أن الشيخ عبد الله نزل دمشق وأقام بالربوة والملك العادل غائب عن دمشق ونائبه بها المعتمد رحمه الله فجعل نساء الملك العادل وبناته وإخواته يترددن إلى زيارة الشيخ وكثر ذلك ولا يقدر المعتمد على منعهن وخشي من الملك العادل وأن ذلك يبلغه فينكر عليه تمكينهن فحضر إلى عندي وكان صديقي وهو من أصحاب الشيخ ومحبيه وعرفني الصورة وطلب مني أن أحسن للشيخ السفر فوعدته بذلك هذا والشيخ في الطهارة وقام المعتمد ركب ودخل البلد وخرج الشيخ فتوضأ للصلاة وصلى ركعتين ولبس الجمجم وقال تم بنا وسافر لوقته ولم أحدثه بشيء مما قال المعتمد وكان عادة المعتمد أن يسير للشيخ في كل سنة فرجية قرض يصلي بها في الشتاء وتوهم المعتمد أن سفر الشيخ كان لقوله فكتب إلي يسألني أن أطيب قلب الشيخ عليه وسير الفرجية القرض فأحضرتها عند الشيخ وقلت يا سيدي المبارز المعتمد يقبل يدك وقد سير هذه الفرجية فقال يا محمد أنا إذا أحسن الشخص علي في العمر مرة واحدة وأساء بقية عمره ما أراه إلا محسناً وهذا المعتمد عمره يخدمني وقد أخطأ مرة واحدة وعرفني أن طيب القلب عليه أو ما هذا معناه.

حدثني الشمس محمد بن داود رحمه الله ما معناه قال وجدت ابن الشهاب على النهر ببعلبك وهو يشتم الشيخ شتماً قبيحاً وطلعت إلى القلعة ووجدت الملك الأمجد في شباك مجلس السماط فحين رآني من بعيد طلبني فحكيت له الصورة فسير جندارية وأمرهم بإحضاره ورميه في الجب إلى بكرة النهار يوقع فيه الفعل ويشهره فأحضروه عند غلوق باب القلعة وحبسوه وحكيت للشيخ رحمه الله فخاصمني وأنكر فعلي وسير فتوح الباب إلى الملك الأمجد وطلب منه إطلاقه وأنه لا يتعرض إليه بأذية وأكد في ذلك فتألمت أنا والجماعة لذلك وظهر علينا الأذى وشرعنا نعدد ما صدر منه غير مرة وأنه يستحق غاية العقوبة والنكال فقال صدقتم وإنما له والدة عجوز ما آذتني ومتى فعل به شيء مما قلتم تألمت فأنا أترك مقابلته لذلك. دخل على الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل رحمهما الله تعالى الشيخ جمال الدين بن الحافظ المقدسي رحمه الله وبيد الملك المعظم مجلد فيه أحاديث غير معزوة فقال له أشتهي أن تعزي هذه الأحاديث إلى الكتب الصحاح وتعين ما اتفق عليه وما وقع لبعض المصنفين دون بعض ويكون ذلك بسرعة فقال له هذا يحتاج إلى مدة ويكشف من الأطراف وغيرها وأقل ما يكون ذلك في شهرين فاستطال المدة ودخل عليه في إثر ذلك الشيخ شمس الدين سبط ابن

الجوزي رحمه الله وهم في الحديث فقال للملك المعظم تعطيني هذا الكتاب والمقصود يحصل في عشرة أسام فأعطاه الكتاب فركب من وقته وحضر إلى بعلبك واجتمع بوالدي وقال له أشتهي أن تعزو هذه الأحاديث فأخذ الكتاب منه وعزاها على ما اقترح المعظم في مدة ثلاثة أيام وعثر على ألفاظ سقطت فألحقها بخطه وكان ذلك المجلد في نهاية حسن الخط، فلما فرغ منه أخذه الشيخ شمس الدين وعاد به إلى دمشق وحمله إلى الملك المعظم فسر بذلك وأثنى على الشيخ شمس الدين وفضيلته فلما عاد وحضر عنده الشيخ جمال الدين بن الحافظ عرفه أن الشيخ شمس الدين عزا تلك الأحاديث في مدة يسيرة وأوقفه على المجلد فتعجب من ذلك لأن الحديث لم يكن في الشيخ شمس الدين وتصفح المجلد فوجد تلك الإلحاقات التي بخط والدي فقال إنما عزا هذه الأحاديث الشيخ الفقيه اليونيني فقال وكيف صنع قال هو يحفظ هذه الأحاديث جميعها ويعرف مظانها فما يتعذر عليه ذلك وهذا خطه فقال اشتهى أن اجتمع به فقال ما يفعل يجئ إلى هنا. وكان والدي رحمه الله لا يتناول من وقف شيئاً ولا يقبل بر أحد ولا أكل في عمره صدقة ولا ما يجري مجراها وكان يقبل الهدية من بعض الناس ممن يتيقن حل ما له ويكافي عليها، وحدثني أخي أبو الحسن علي رحمه الله أن والده رحمه الله أخبره قبل وفاته أنه من ذرية

جعفر الصادق بن محمد الباقر رضي الله عنهما وإنما أخبره بذلك ليعلم ما يحرم عليه من الصدقة وما يترتب على ذلك وكان لا يصرح بذلك وإنما أظهره قبل وفاته لولده خاصة لهذا المعنى والله أعلم، ووقفت على ورقة بخط أخي رحمه الله يذكر فيها نسبه ومن مضمونها محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين شهيد كربلا بن علي المرتضى أمير المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف وذكره الحافظ عز الدين عمر بن الحاجب الأميني رحمه الله في معجمه فقال محمد بن أبي الحسين بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال الشيخ الفقيه الزاهد يكنى أبا عبد الله أصله ومولده بقرية يونين قرية من بعلبك وترعرع ونشأ في ستر وسلامة وصحب الشيخ الزاهد عبد الله اليونيني وأظنه نسيبه وتتلمذ له وعرف بصحبته واختص بخدمته وعادت أنوار الشيخ وبركته عليه وتخلق بأخلاقه وقرأ واشتغل بالفقه والحديث وغيرهما إلى أن صار إماماً عالماً حافظاً ثقة زاهداً ورعاً وقوراً وصار متقدم الطائفة وسالك الطريقة ولم ير في زمانه مثل نفسه في كماله وبراعته جمع بين علمي الشريعة والحقيقة وكان مليح الشيبه فصيح اللهجة حسن الوجه والشكل ظريف الشمائل مليح الحركات

والسكنات له القبول التام في تلك الديار حميد المساعي والآثار وله الصيت المشهور والأفضال على المنتابين وكان من المقبولين المعظمين عند الملوك لكماله وفضله وحسن سيرته حسن الخلق والخلق نفاعاً للخلق مطرحاً للتكلف كريم النفس بشوش الوجه وكان من جملة محفوظاته الجمع بين الصحيحين للحميدي وغيره مليح الخط وذكر غير ذلك، ثم قال حكى لي الشيخ الفقيه رحمه الله تعالى قال مكثت مدة أريد أن أسأل شيخنا الإمام العلامة موفق الدين بن قدامة رحمه الله عما يقال عن الحنابلة في التشبيه والتجسيم هل هو مجرد شناعة أو قال به بعضهم فحصلت به الشناعة على الجميع أو هو شيء يخفيه المشايخ فلا يظهره إلا لمن يثق إليه إلى أن صعدت معه إلى جبل قاسيون وخلت الطريق وهو بين يدي وأنا خلفه فقلت الآن أسأله عما في نفسي فقلت يا سيدي وما زدت على ذلك فالتفت إلي وقال التشبيه مستحيل فقلت لم قال لأن من شرط التشبيه أن ترى الشيء ثم تشبهه من الذي رأى الله تعالى ثم شبهه لنا. قال وحكى لي أيضاً قال حضرت مجلس شيخي عبد الله اليونيني رحمه الله وقد سأله ابن خاله حميد بن برق فقال زوجتي حامل إن جاءت بولد ما اسميه قال سم الواحد سليمان والآخر داود فأتت زوجته بتوأم فسمى الواحد سلميان والآخر داود قال وأنشدنا لنفسه:

خذ مليك الناس قولاً شافياً ... شافياً قولاً مليك الناس خذ ؟ لذ بباب الله صباً مغرماً مغرماً صباً بباب الله لذ إذ شباب المرء ظل زائل ... زائلاً ظل شاب المرء إذ قال وحكى لي أيضاً أنه حفظ صحيح مسلم جميعه وكرر عليه في أربعة أشهر وكان يكرر على الجمع بين الصحيحين وأكثر مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حفظه وأنه كان في الجلسة الواحدة يحفظ ما يزيد على السبعين حديثاً، انتهى ما نقلته مختصراً من معجم الأميني رحمه الله وأورد له الشيخ عز الدين أحمد بن علي بن معقل الأزدي المهلبي رحمه الله أبياتاً في الروضة في وصف بعلبك وكان نظمها في أيام الشبيبة من أولها: لله بلدة بعلبك بقعة ... رق النسيم بها وراق الماء فتغردت أطيارها وتمايدت ... أشجارها وامتدت الأفياء فالجو صاف والنسيم معطر ... والماء ناف ما جناه غذاء طابت مآكلها وقد طابت بها ... أمواههاً والترب والأهواء ؟ صحت جسوم رجالها وثمارها فتولدت عنها قوى وذكاء من أبيات، ووقفت على جزء ألفه بعض المقادسة جمع فيه شيئاً من أحوال الشيخ عبد الله الكبير اليونيني وذكر بعض أصحابه وذكر والدي رحمه الله وذكر بعض مضمون ما تقدم فلم أذكره للاستغناء عن إعادته وذكرت مختصراً بعض ما لم أذكره في هذه الأوراق. قال ومنهم يعني

ذكر بدايته

أصحاب الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه قطب الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد بن أبي الحسين الفقيه كان إماماً عالماً علامة قطب ثمان عشرة سنة وكان أحسن أهل زمانه خلقاً وخلقاً. ذكر بدايته قيل: إنه كان بين يدي الشيخ عبد الله رحمة الله عليه فقال له أنت تكون فقيهاً وأرسله إلى الشيخ موفق الدين فقرأ عليه الفقه وعلى الإمام الحافظ عبد الغني رحمه الله الحديث وقرأ القرآن الكريم على الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسي رحمه الله وجمع الله له بين الحديث والفقه وكان يكرر الجمع بين الصحيحين وأعطاه الله الحال في صغره قال أبو الحسن علي بن الإمام أبي العباس أحمد بن عبد الدائم وكان يخدمه مدة سنين كثيرة وكان للشيخ الفقيه أوراد لو جاء ملك من الملوك ما أخرها عن وقتها. نبذة من كراماته قال أبو العباس أحمد بن محمد بن سعد كان بين يدي الشيخ الفقيه جماعة فذكروا السرقة فقال الشيخ أنا سرقت كنت صغيراً وكان لوالدتي في طاقة ثلاثة عشر درهماً فحدثتني نفسي أن آخذ منها درهماً فأخذته ثم لم أزل آخذ درهماً بعد درهم حتى آخذ منها درهما فأخذته ثم لم أزل آخذ درهماً بعد درهم حتى أخذت الجميع فلما كان بعد مدة احتاجت والدتي إلى ثوب فقال لي والدي لأمك في الطاقة

ثلاثة عشر درهماً خذها واشتر لها بها ثوباً قال الشيخ فبقيت حائراً أتفكر وقمت إلى الطاقة فوجدت الخرقة وفيها ثلاثة عشر درهما أو كما قال. وقال المؤلف حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الدائم قال كنت أخدم الشيخ الفقيه فلما كان في بعض الأيام ورد الشيخ عثمان من دير ناعس وكان الشيخ عند صغاره أو في مكان آخر قال فقال الشيخ عثمان كنت اشتهى يكشف الشيخ الفقيه صدره وأعانقه بصدري ويعطيني الثوب الذي عليه قال فلما جاء الشيخ عثمان ومن معه من الفقراء وأحضر الطعام فلما أكلوا وفرغوا قال لأصحاب الشيخ عثمان قوموا الشيخ عثمان ما يخرج الساعة فلما خرجوا قال قم يا شيخ عثمان فلما قام كشف عن صدره وعانقه ونزع الثوب الذي كان عليه وأعطاه للشيخ عثمان وقال كلما تقطع أعطيتك غيره أو ما هذا معناه. قال المؤلف وأخبرني أبو الحسن علي بن أحمد المذكور قال ما كان الشيخ الفقيه يرى إظهار الكرامات ويقول كما أوجب الله على الأنبياء صلى الله عليه وسلم إظهار المعجزات أوجب على الأولياء إخفاء الكرامات قال وذكروا عنده الكرامات فقال ويلكم إيش الكرامات كنت وأنا صغير عند الشيخ عبد الله يعني ببعلبك وكان عنده بغاددة يعملوا مجاهدات وكنت أرى من يخرج من باب دمشق وأرى الدنيا قدامى مثل الوردة فكنت أقول للشيخ يا سيدي يجيء إلى عندك من دمشق أناس

ومعهم كذا وكذا ومن حمص ومن مصر فإذا جاء ما أقول يقولون يا سيدي نحن نعمل مجاهدات وما نرى وهذا يرى فيقول هذا ما هو بالمجاهدات هذا من الله تعالى أو ما هذا معناه، قال وحدثني الشيخ إسرائيل ابن إبراهيم قال كان وقع لبعض أصحاب الشيخ الفقيه أمر كره الشيخ وقوعه فلما كان بعد مدة ورد الشيخ عثمان من دير ناعس فلما حضر عند الشيخ الفقيه سأله مسألة غليظة أن يمكنه بجعل قدمه على وجهه فقال له يا شيخ عثمان إيش هذا الخاطر فقال أنا قد سألتك فلما مكنه من ذلك قال له يا شيخ عثمان أعاد الله على المسلمين بركتك أشتهي زوال كذا وكذا فلما صلى العشاء رمق الشيخ عثمان فما كان إلا قليلاً وانقضت الحاجة فلما بلغ الشيخ الفقيه قال أحسنت يا شيخ عثمان أحسنت يا شيخ عثمان فسأل بعض الجماعة الشيخ عثمان فقال له أنت ما عندك أحد مثل الشيخ الفقيه فلم لا قام هو في هذا الأمر بنفسه فقال الخليفة إذا أراد شغلاً أو قال أمراً من الأمور ما يقوم هو فيه بنفسه ولكن يأمر بعض من عنده يقوم فيه أو ما هذا معناه. قال وكان الشيخ الفقيه يكرر على الجمع بين الصحيحين وعلى أسماء الرجال فشذ عنه بعض الأسماء فنظر إلى السماء فعرفه فسأله خادمه ابن باقي فقال له يا سيدي رأيتك إذا نسيت الاسم ترفع رأسك إلى السماء فتذكره فقال له إذا نظرت إلى السماء رأيته مكتوباً في الهواء أو كما قال قال وأخبرني المعري عامر قال غضب الشيخ الفقيه على خادمه ابن باقي وروحه من خدمته فسافر إلى حلب وأقام بها مدة ورجع في

يوم عيد والشيخ يخطب للعيد عند ضريح الشيخ عبد الله اليونيني والشيخ عثمان يومئذ حاضر فسأل ابن باقي الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله والشيخ عثمان أن يشفعا فيه عند الشيخ الفقيه وكان للشيخ عادة إذا صلى العيد يأخذ الجماعة إلى منزله قال فلما صرنا في منزله غمز ابن باقي للشيخ محمد فنظر إلى الشيخ الفقيه وقال يا سيدي أشتهي تصفح عن خادمك أبي بكر وكان حاضراً وكشفنا نحن رؤوسنا فاحمر وجه الشيخ الفقيه وأطرق وقال إذا كان الإنسان نحس إيش أعمل أنا ما يدخل أحد إلى المسجد إلا وأبصر قلبه مثل هذا الثوب وأمسك كمه ونظر إلينا وصاح غطوا رؤوسكم من فعل هذا حتى تفعلوه أنتم وأما الشيخ عثمان فإنه ما تكلم والتفت إلى ابن باقي فما رايته أو ما هذا معناه. قال وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي بن عثمان بن عمر الموصلي الشافعي قال أخبرني المقرئ نصر المرداوي قال كنت أقرئ القرآن بمسجد الحنابلة ببعلبك وقد تجمع على عشرة دراهم دين ضاق منها صدري فخطر لي أخرج إلى بعض الأماكن واعمل واحصلها فلما صليت الصلح وكنت بالزاوية الغربية من المسجد والشيخ الفقيه بالشرقية فلما صلى طلبني فجئت إليه فقال روح إلى فلان وخذ منه عشرة دراهم أو ما هذا معناه، قال وأخبرني إبراهيم بن محمد بن حمدان قال أرسلت بكتاب من جهة الملك الصالح إسماعيل إلى عند الشيخ الفقيه فوصلت بعلبك ورحت إلى الشيخ وناولته الكتاب فقرأ بعضه ونظر إلي وقال ما جاءك أولاد قلت يا سيدي خليت

المرأة على ليالها وتم قراءة الكتاب وقال لا رأى لحاقن وقام وتوضأ للصلاة فلما كان العصر من يوم الاثنين والمؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله رفع يديه وقال اللهم خلصها قال فلما رجعت إلى المزة أخبروني أنني جاءني صغيرة فسألت متى جاءت قالوا يوم الاثنين ومؤذن العصر يقول أشهد أن محمداً رسول الله أو كما قال. قال وحدثني الشيخ إسماعيل بن علي بن إبراهيم قال كنت عند الشيخ الفقيه فنظر إلي وقال رحم الله والدك فلان وأمك فلانة قال فحصل عندي شيء فقلت له يا سيدي اسمع يقولون كرامات الفقراء وقد سمعتها منك وإذا إنسان ينادي على الباقلاء فقال الشيخ خذ قرطاس واشتر به باقلاء وخذه إلى حجرك وكل ما قلت لك كرامة أعطني باقلاه، ثم قال والله أيراد حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ينتفع به الناس أحب إلي من ملء الأرض كرامات أو ما هذا معناه، قال وحدثنا أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الوهاب قال جاءني فقيران من حلب يسالان الشيخ الفقيه عن أحاديث حتى استأذن لهما عليه فلما استأذنت بالدخول وكان بالزاوية التي قبلي المسجد ببعلبك فلما دخلنا عليه سلموا وتحادثوا فابتدأ الشيخ وحدثهم بمعنى الأحاديث وذكرها لهم فحصل عند أحدهما شيء فقال الشيخ لا إله إلا الله لو أراد الفقيران يكون كل كلامه كرامات فعل أو ما هذا معناه.

قال وأخبرني أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن محمد قال أخبرني الشيخ عثمان قال كان في خاطري ثلاث مسائل أريد أن اسأل الشيخ الفقيه عنها قال فأجابني عنها قبل أن أسأله أو ما هذا معناه، وقال أبو محمد عبد الرحمن المذكور طالعت في كتاب الترغيب والترهيب في باب الاستغفار ثم سألت الشيخ الفقيه عن الاستغفار فقال ذكر البخاري كذا وذكر مسلم كذا وما اتفقا عليه كذا ثم ذكر ما في الترغيب من فضائل الاستغفار قال: قال الشيخ حسن بن إبراهيم الحداد حضرت مجلس الشيخ الفقيه بجامع دمشق وقد سئل عن اختلاف الأئمة الأربعة فقال هذا الجامع الذي نحن فيه له أربعة أبواب فإذا دخل كل إنسان من باب صار فيه وهكذا الأئمة وكلهم على الحق. قال المؤلف قرأت في سيرة الشيخ موفق الدين تأليف الشيخ الضياء محمد المقدسي قال سمعت الفقيه الإمام الزاهد أبا عبد الله محمد بن أبي الحسين اليونيني قال ومع ما رأيت منه وسمعت منه يعني الشيخ موفق الدين رحمه الله ما أعلم أنه أشكل على موضع في أصول الدين وفروعه إلا رأيته في المنام ورفع عني الإشكال مرة جاءتني فتيا مشكلة في الفروع فتحيرت في الجواب فرأيته في المنام فقال لي الجواب. قال المؤلف قرأت في بعض الكتب ما صورته سمعت من لفظ شيخنا الفقيه الإمام العالم محمد بن أبي الحسين بن عبد الله اليونيني أثابه الله الجنة بكرمه ببلده بعلبك فيما رفعه إلى الجنيد رحمة الله عليه قال كان

ذكر قطبيته رحمه الله

في نفسي مسألة في التوحيد فسألت عنها جماعة من أهل العلم فما شفي أحد فؤادي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عنها فشفى فؤادي قلت يا رسول الله ما التوحيد قال كل ما حده فكرك وأحاط به علمك أو أدركه حسك أو أصبته بفهمك فالله تعالى بخلاف ذلك وإنما يسأل العبد يوم القيامة عن الشك والشرك والتشبيه والتعطيل قلت يا رسول الله فما العقل قال أدناه ترك الدنيا وأعلاه ترك التفكر في ذات الله تعالى قلت يا رسول الله ما التصوف قال ترك الدعاوى وكتمان المعاني. ؟ ذكر قطبيته رحمه الله قال المؤلف أخبرني الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ عثمان بدير ناعس قال أخبرني والدي قال قطب الشيخ الفقيه ثماني عشرة سنة أو كما قال: قال المؤلف حدثنا الشيخ محمود بن الشيخ سلطان بمنزلة ببعلبك قال: قال لي الشيخ الفقيه حاجة فلما سألت عنها أخبرت أنه قطب من اثنتي عشرة سنة فلما سألني عن الجواب قلت له من يكون قطب من اثنتي عشرة سنة يسألني عن حاجة فاحمر وجهه ولبس مداسه وخلاني وخرج أو كما قال. قال المؤلف وحدثني علي بن أحمد بن عبد الدائم قال قدم علينا فقير بغدادي اسمه عبد الله وكان إمام قرية زحلة وأخبرنا أنه رأى خلقاً وسمع نقارات فسأل إيش هذا فقيل له قد قطب الشيخ محمد الفقيه قال

ذكر أدب الملوك والوزراء بين يديه

فما كان إلا قليلاً وإذا بالشيخ عثمان قد أقبل من دير ناعس فقلنا له يا سيدي ما تسمع ما يقول هذا الفقير فقال وأيش قال قلنا قال كذا وكذا فقال الشيخ عثمان صدق لأجل هذا جئت أو ما هذا معناه، قال المؤلف وأخبرني الشيخ تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن فضل الواسطي قال رأيت للشيخ الفقيه رؤيا تدل على أنه أعطى ولاية أو كما قال. ذكر أدب الملوك والوزراء بين يديه قال المؤلف سمعت قاضي القضاة أبا المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري الشافعي يقول سأل الملك الأشرف الشيخ محمد الفقيه فقال له يا سيدي اشتهى أبصر شيئاً من كرماتك فقال له الشيخ إيش يكون هذا فلما أراد الشيخ الخروج بادر الملك الأشرف إلى مداس الشيخ وقدمه فقال له الشيخ يا فلان هذا الذي كنت تطلبه قد وقع قال كيف يا سيدي قال أنت الملك الأشرف بن الملك العادل وأنا ابن رجل من أهل يونين تقدم مداسي قال فاطرق الملك الأشرف أو ما هذا معناه. قال المؤلف حدثني إسرائيل بن إبراهيم قال كنت مرة عند الشيخ الفقيه وعنده ولده عبد القادر فإذا بأمين الدولة وزير الملك الصالح قد دخل فلم يقم له الشيخ فقال لي ولده عبد القادر ما الشيخ إلا عجيب يدخل عليه مثل هذا ما يقوم له فلما خرج أمين الدولة وانبسط الشيخ قال له ولده يا سيدي يدخل عليك مثل هذا الوزير ما تقوم له إيما

أميز هذا أو الملك الأشرف كان إذا دخل علي وأنا متكئ على جنبي يسألني أني لا أقعد ويقف يقول ما أراد ويخرج وكان ابن الملك العادل وهذا من هو أو كما قال. وقال المؤلف أخبرني الأمير سيف الدين بكتمر الساقي العزيزي قال لما عبر التتار إلى الشام قصدت زيارة الشيخ الفقيه فلما حضرت عنده ذكرت له التتار فأخبرني أنهم ينكسروا فلما أردت أودعه قلت له يا سيدي اشتهى تدعو لي قال فرفع يديه ورفعت يدي ودعا بدعاء لا هو بالعربي ولا بالتركي وقال لي ما بقيت بعدها تراني قال فلما انكسر التتار رجعت إلى دمشق وطلعت إلى بعلبك وسألت عن الشيخ قالوا توفى أو كما قال، قال المؤلف أخبرني الشيخ يوسف بن محمد بن موسى قال رأيت الشيخ الفقيه والشيخ عبد الله بن عزيز في المنام وفي حجر الشيخ الفقيه دنانير ودراهم وفلوس وفي حجر الشيخ عبد الله أيضاً قال فمست التي في حجر الشيخ الفقيه فوجدتها مسكوكة ولمست التي في حجر الشيخ عبد الله فوجدتها بلا سكة فسالت الشيخ الفقيه كما أنا من هذا في النوم فقال حالي ظاهر وباطن وحال الشيخ عبد الله باطن قال فلما رأيته في اليقظة أخبرته بما رأيت فقال صحيح أو ما هذا معناه. قال وأخبرني أحمد بن عباس قال أخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ عثمان بدير ناعس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له يا رسول الله أنا مشتاق إليك فقال لي زر قبر الشيخ الفقيه وقال

أبو الفداء إسماعيل بن علي بن إبراهيم الفراء درت أطراف الحجاز والعراق ومصر وما رأيت مثل الشيخ الفقيه وكنت مرة عنده فنظر إلي وقال يا شيخ إسماعيل أراك بعض الأوقات تؤذن على سجادتي وعلى باب المسجد وعلى باب داري وأنا قد عجزت عن الركوب فحج عني ولا تروح على البر إلا على البحر فإنك تروح طيباً فخالفته وشارطت عرباً وأعطيتهم مائة وخمسين درهماً فأخذوها وراحوا فلما طلعت إليه قال لي ما قلت لك ما تروح على البر فقلت يا سيدي وإيش أدراك فقال قولك إيش أدراك أعجب من مخالفتي قال فتجهزت ورحت على البحر فلما طلعت من البحر جئت إلى مكان فيه عين ونخل ورجل أسمر شديد السمرة فلما رآني سلم علي وقال لي طيب قلبك تروح طيباً فلما رجعت ودخلت على الشيخ سألني عن طريقي وقال إيش حسن المكان والنخل والرجل الأسود يوم فارقك جاء إلي وأخبرني إنك طيب وكان أحد الأبدال أو ما هذا معناه. قال وأرسلني الشيخ الفقيه مرة إلى مصر في حاجة فما وردت منزلة إلا وخرج إلى إنسان وخدمني إلى أن جئت إلى سفط الحنى ظاهر بلبيس فرأيت بها مسجداً وسفرة وأباريق فدخلته فقال شخص هذا مكان للصلاة ما هو للقعود فبينا

نحن كذلك وإذا شيخ قد أقبل فقال لي يا أخي من أين أنت فقلت من دمشق فقال من تعرف قلت أعرف مشايخ الصالحية فلان وفلان ومشايخ بعلبك الشيخ الفقيه فصاح وقال هذا الشيخ الذي أخذت عنه أمور دينكم فاعتذر إلي وأكرمني تلك الليلة ودخلت القاهرة وقضيت حاجتي ورجعت فلما دخلت على الشيخ سألني عن طريقي فقلت له ما جئت إلى مكان إلا وخرج إلي من يخدمني فاغرورقت عينه بالدموع وقال يا إلهي ما هذا الإحسان وأنا ابن فلان من يونين قال وقلت له يا سيدي اشتهى أبصر الشيخ فلان فقال كان فقيراً يخدم الشيخ فقال له يا سيدي اشتهى أبصر القطب فقال له القطب يحضر في المكان الفلاني في السنة مرة وعند جماعة فسافر الفقير إلى ذلك المكان ورأى أولئك الجماعة فقالوا له مالك فقال جئت أبصر القطب فقالوا له اليوم راح من ههنا فبقي عندهم سنة، فلما كانت تلك الليلة التي عادة القطب يجئ فيها قاموا فقال لهم الفقير ما لكم قالوا الساعة يجيء القطب فقام معهم وإذا به قد أقبل فتلقوه وإذا هو شيخه فقال له يا سيدي وأنت هو قال نعم لو قلت لك إني هو ما سلمت لي أو ما هذا معناه. قال المؤلف سمعت الشيخ عبد الدائم بن أحمد يقول كان الشيخ الفقيه في مبتدأه زاهداً وفي منتهاه عارفاً أو ما هذا معناه قال المؤلف وذكره سيف الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن الشيخ موفق الدين ممن سمع بقاسيون فقال محمد بن أبي الحسين اليونيني

وذكر مولده وغير ذلك وقال كان عالماً سريع الحفظ كثير المحفوظ سمعته يقول حفظت أكثر مسند الإمام أحمد رضي الله عنه وكرر على الجمع بين الصحيحين وحفظ سورة الأنعام في يوم واحد وحفظ صحيح مسلم في أربعة أشهر وحفظ ثلاث مقامات من مقامات الحريري إلى نصف نهار الظفر انتهى ما نقلته من الجزء تأليف بعض المقادسة. قلت وتزوج والدي رحمه الله في عمره ست زوجات ورزق عدة أولاد درج منهم في حياته جماعة وتوفي إلى رحمة الله تعالى وفي عقده والدتي رحمها الله تعالى أما بقية النساء فددجن إلى رحمة الله في حياته لم يفارق أحداً منهم ولا جمع بين زوجتين وخلف من الأولاد أخي أبا الحسين علي وخديجة وآمنة، أمهم ابنة الهمام تركمانية وموسى وأمة الرحيم وأمهما زين العرب بنت نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى ابن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط التغلبية وجدها الحسن ابن يحيى هو المعروف بسنى الدولة فأبو الحسين رحمه الله استشهد يوم الخميس حادي عشر شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعمائة كان وثب عليه من جرحه في رأسه بكرة يوم الجمعة خامس شهر رمضان المذكور بمسجد الحنابلة ودفن بباب سطحاً وكان سيداً كبيراً إماماً عالماً حافظاً متقناً محققاً رحمه الله ورضي عنه ومولده في شهر رجب سنة إحدى وعشرين وستمائة ببعلبك، وأما خديجة فكانت امرأة صالحة كثيرة العبادة والخير توفيت إلى رحمة الله تعالى في شهر رجب سنة ثمانين وستمائة

ببعلبك ودفنت في تربة الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله تعالى وزين العرب والدتي رحمها الله تعالى توفيت سحر ليلة الجمعة خامس عشري شوال سنة ثلاث وتسعين وستمائة بمنزلي ببعلبك ودفنت بعد صلاة الجمعة في مقابر باب سطحا وقد نيفت على الثمانين سنة من العمر وكانت امرأة صالحة كثيرة العبادة وقيام الليل. محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبو عبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال ومولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بدمشق في خامس شهر رمضان من هذه السنة رحمه الله وكان رجلاً صالحاً كثير الإيثار وحكاياته في أخذ الأجرة على ما يأكله وما يقبله من بر الأمراء والملوك وغيرهم مشهور ولم يسبقه إلى ذلك أحد ولا اقتفى أثره من بعده ولا شك أنه كان له حال ينفعل له بها ذلك وجميع ما يفتح به عليه على كثرته يصرفه إلى القرب ويفقد المحابيس وغيرهم من المحاويج والأرامل والمنقطعين وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور في فعله فإذا اتفق اجتماعه به انفعل له انفعالاً كلياً ولا يستطيع الامتناع من إعاطئه كل ما يروم وكان مع هذا حسن الشكل مليح العبارة حلو الحديث له قبول تام من سائر الناس وكان كثير المحبة في والدي رحمه الله والتردد إليه لما نزل دمشق في سنة خمس وخمسين والأكل عنده بغير أجرة وهو مطلق عنده دون غيره رحمه الله.

محمد بن عبد الله بن أبي بكر أبو عبد الله القضاعي البلنسي المعروف بابن الآبار الكاتب الأديب المحدث ذو الفضائل الجمة كان إماماً عالماً عارفاً بأنواع كثيرة من العلوم ومولده ببلنسية من شرقي بلاد الأندلس في أحد الربيعين من سنة خمس وتسعين وخمسمائة ونشر بتلك البلاد علماً كثيراً وصنف تصانيف مفيدة في علوم متعددة وتوفي بتونس في يوم الثلاثاء العشر من المحرم هذه السنة رحمه الله. محمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر أبو عبد الله شمس الدين المقدسي الصالح العالم العابد المسند سمع من محمد بن حمزة بن أبي الصقر وغيره وأجاز له أبو طاهر السلفي والكاتبة شهدة رحمهما الله وهو آخر من روى عنهما فيما علم بالإجازة المعينة واستشهد بيد التتار في قرية ساوية من عمل نابلس في شهر جمادى الأولى ودفن بها وقد نيف على المائة سنة رحمه الله تعالى. محمد بن عبد الواحد بن عبد الجليل بن علي أبو بكر زكي الدين المخزومي اللبنى الشافعي كان فقيهاً عالماً فاضلاً خبيراً بالأحكام وعنده مشاركة جيدة في الأدب وغيره وله نظم حسن ولي القضاء ببانياس مدة وببصرى وولي إعادة المدرسة الناصرية بدمشق وتدريس المدرسة القليجية الشافعية بدمشق وغير ذلك ثم ولي القضاء ببعلبك بعد وفاة صدر الدين عبد الرحيم قاضيها رحمه الله واستمر بها إلى أن

جفل الناس من التتر في أول هذه السنة فتوجه إلى قلعة الصبيبة صحبة الأمير ناصر الدين التبنيني رحمه الله فلما سلمت إلى التتر دخل دمشق وأقام بها إلى أن انقضت دولة التتر وسأل العود إلى بعلبك فأعيد إليها فتوجه نحوها وهو متمرض فأقام بها أياماً وتوفي إلى رحمة الله تعالى في ذي القعدة ودفن في مقابر باب سطحاً ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك هو في عشر الثمانين وكان كريم الأخلاق حسن العشرة لطيف المحاضرة على ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير وكان شديداً في أحكامه مشكور السيرة في ولاياته متفننا في فضائله رحمه الله وكان يزعم أنه من ذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه واللبن قربة بين القدس ونابلس وأنشدني من نظمه أشعاراً كثيرة لم يعلق بذهني الآن منها شيء وسألت ولده معين الدين عن شيء من شعره فكتب لي هذه القطعة: سل سائل العبرات في الأطلال ... كم قد خلوت بها بذات الخال وجنيت باللحظات من وجناتها ... ما غض منه الغض من عذالي وهممت ارتشف اللمى فترنحت ... فحمت جنى المعسول بالعسال لو لم تكن مثل الغزالة لم تكن ... بمنى لها عني نفور غزال صدت ولولاها تصدت لي لما ... وصل الغرام حبالها بحبالي وبروض خديها تنعم ناظري ... ولنار وجنتها فؤادي صالي فاعجب لجذوة خدها ولمائه ... ضدان مجتمعان من صلصال

أنا في هجير محرق من هجرها ... فمتى أطفيه ببرد وصالي ؟ إن كان أعرض أو تعرض طيفها فمدامعي كالعارض الهطال ومن المحال نزور من عبراته ... طوفانها قد طم طيف خيالي قلت وقد جدت العقيق بمثله ... هلا بد معك جدت وهو لآل فأجبتها ذي مهجتي من مقلتي ... سألت فكيف زعمت إني سالي فتضاحكت فبكيت من فرط الجوى ... شوقاً فما رقت لرقة حالي فعليلها ما أن يبل وغلتي ... ما أن تبل بريقها الجريال ومنها في مديح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما الله تعالى. رفعت عوامله لمجرور الظبي ... قمماً بها نصبت بحكم الحال ورماحه رقصت فنقطها الظبي ... يوم الوغى بجماجم الأبطال وسألت معين الدين المذكور عن عمر والده رحمه الله حال وفاته فقال كان نيف على ست وستين سنة من العمر وكنت أنا أتوهم أن عمره فوق ذلك بسنين عدة وولده أخبر بحاله والله أعلم. محمد بن غازي بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى أبو المعالي الملك الكامل ناصر الدين صاحب ميافارقين وتلك البلاد ملك في سنة اثنتين وأربعين وستمائة عقيب وفاة والده الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل وكان أولاً يداري التتر فلما خبر باطن أمرهم

وأن المداراة لا تفيد معهم انجذب منهم فلما علم أنهم على عزم قصده قدم على الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بدمشق مستغيثاً ومستنجداً على التتر فوعده بالنجدة بعد أن أكرمه غاية الإكرام وقدم له من التحف والخيول وغيرها ما يجل مقداره وعاد الملك الكامل إلى ميافارقين ولم يمكن الملك الناصر إنجاده لما رأى من تخاذل أصحابه وضعف قلوبهم عن مقابلة التتر لكثرتهم ولأنه لم يتفق إلى تلك الغاية من انتصف منهم وقد ملكوا العراق والعجم والروم وغير ذلك من الأقاليم والبلاد وسير هولاكو أشموط لمحاصرة الملك الكامل فحصره حصراً شديداً وبقي الملك الكامل رحمه الله مجاهداً للتتر صابراً لقتالهم حتى فني أكثر أهل ميافارقين وعمهم الموت قتلاً وفناء لكثرة الغلاء وعدم الأقوات وبقي محصوراً دون سنتين فعند ذلك ضعفت القوى عن محاربة العدو فاستولوا على ميافارقين واستشهد الملك الكامل قدس الله روحه وحمل رأسه على رمح وطيف به في البلاد فوصلوا به إلى حلب ثم إلى حماة وحمص وبعلبك وشاهدته رحمه الله وهو يطاف به بمدينة بعلبك ثم وصلوا به إلى دمشق يوم الاثنين سابع وعشرين جمادى الأولى وطافوا به بالمغاني والطبول ثم علق الرأس بسور باب الفراديس فلم يزل معلقاً في شبكة إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الرأس داخل باب الفراديس وقد ذكرنا كيفية دفنه وما قيل في ذلك فأغنى عن إعادته. وكان رحمه الله ملكاً جليلاً ديناً خيراً عادلاً عالماً محسناً إلى رعيته

وسائر من في خدمته كثير التعبد والخشوع لم يكن في البيت الأيوبي من يضاهيه في ديانته وحسن طريقته رحمه الله ورضي عنه وكان التتار قد استولوا على جميع بلاده ومعاقله ومعظم أولاده وحرمه وأهله وهو محصور بميافارقين ثم ختم له بالشهادة على هذا الوجه الجميل بعد أن أفنى في مدة الحصار من التتار ما لا يحصى كثرة رحمه الله تعالى. أبو علي بن محمد بن أبي علي بن باساك الأمير حسام الدين الهذباني كان أميراً كبيراً جليل المقدار قوي النفس حسن التدبير كثير الرياسة عنده تعاظم وتعدد حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه إن الأمير حسام الدين لما حضر إلى دمشق في الأيام الناصرية طلبه الملك الناصر لحضور مشورة فظهر عليه كراهية الحضور وقال كنت أود لو عاجلني الموت في هذه الساعة فقلت لم يا خوند فقال قد طلبني السلطان إلى مجلسه العام وعنده ناصر الدين القيمري عن يساره وجمال الدين بن يغمور عن يمينه وهما عنده في المنزلة العليا فيقتضى الحال القعود دون أحدهما وهذا أرى الموت دونه فهونت عليه ذلك وقلت يا خوند مكانتك معروفة لا ينقصها ذلك فقال لكن على كل حال إذا كان ولا بد اشتهى أن يقعدوني في جهة الأمير ناصر الدين فهو كردي ثم أمرني بالتوجه إلى باب دار السلطان لكشف الخبر فلما صرت بباب دار السلطان وجدت بعض من كان حاضراً قد خرج فحدثني إن بعد توجه الرسول لطلبه تشاوروا أين يقعدونه إذا حضر فقال

الأمير ناصر الدين هذا رجل كبير القدر وقادم على مولانا السلطان فيقعد بين مولانا السلطان وبين المملوك وتقرر أنه يقعد فوق الأمير ناصر الدين القيمري فعدت إليه مسرعاً فصادفته عند باب القلعة فعرفته ما جرى فتهلل وجهه ودخل فاحترمه الملك الناصر احتراماً كثيراً وأقعده إلى جانبه بينه وبين الأمير ناصر الدين القيمري فلما خرج قلت له يا خوند أجلسك السلطان إلى جانبه فوق الأمير ناصر الدين فقال نعم ما كان يمكن غير هذا وهذا التعاظم والمنافسة في مثل ذلك وما يجري مجراه إنما اقتبسه من مخدومه الملك الصالح نجم الدين فإنه كان اتصل بخدمته في حياة الملك الكامل ولازمه واختص به اختصاصاً كبيراً وجعله أستاذ داره وكان يعتمد عليه في مهماته ويثق به وثوقاً عظيماً ويسكن إليه بخلاف وثوقه بسائر من في خدمته ولما أمسك الملك الصالح واعتقل بالكرك أراد الأمير حسام الدين المذكور التوصل إلى آمد بإشارة من الملك الصالح إليه عند ما أمسك فعمل على ذلك فقبضه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل واعتقله في حبس الخيالة بقلعة دمشق ثم نقله إلى قلعة بعلبك فحبس في جب مظلم لا يفرق فيه بين الليل والنهار وهو مضيق عليه وينزل إليه في كل يوم قليل خبز وقليل من الماء وربما أنزل إليه مع الخبز جرزة بقل في بعض الأوقات قال الأمير حسام الدين فكنت أحسب في نفسي أنني ربما أمنع الطعام والشراب لأموت فكنت أدخر من الخبز المرتب شيئاً قليلاً وكذلك من الماء أجمعه في جرة طلبتها فاجتمع عندي من ذلك شيء كثير ثم طين على

الجب ومنعت من الطعام والشراب فارتفقت بذلك الذي جمعته مدة إلى أن فتح الجب وأنزل إلي ما كان يجري علي أولاً إلى أن فرج الله تعالى عني ولما أخرج من الجب سنة إحدى وأربعين حمل إلى دمشق ونزل في برج كان الملك المغيث بن الملك الصالح نجم الدين معتقلاً فيه ثم أذن له في الانتقال من القلعة وأن يتجهز للمسير إلى الديار المصرية فخرج من البرج ومضى إلى مدرسة الأمير عز الدين أيبك المعظمي صاحب صرخد التي على شرف الميدان وأطلق له ما كان أخذ له من القماش والخيول والمماليك وغير ذلك وخلع عليه وأطلق له مال فتوجه إلى مخدومه وحكى لي ناصر الدين علي بن قرقين أن الأمير حسام الدين المذكور لما نقل إلى قلعة بعلبك حبس في بيت مفرد ولم يكن يدخل عليه كل أحد قال ناصر الدين المذكور وكنت أدخل عليه في كثير من الأوقات وأطيل الجلوس عنده والحديث معه وهو غير مضيق عليه فاتفق أن الملك الصالح عماد الدين سير أسد الدين الزرزاري بكتاب منه إلى والي القلعة بأن يمكنه من قتل حسام الدين فعظم ذلك على والي القلعة وكان رجلاً ديناً خيراً فطلبني وعرفني ما ورد به من المرسوم فقلت له وللزرزاري إذا قتلتموه إيش في عزمكم تفعلون به بعد القتل قالوا ندفنه قلت ادفنوه وهو حي ولا تتلوثوا بدمه واجعلوه في الجب وشاوروا السلطان قال فكتبوا إلى الملك الصالح عماد الدين وشاوروه على ذلك ففسح فيه وأمر أن ينزل

إليه في كل أسبوع رغيفاً خبز وجرة ماء فامتثل المرسوم وكان ينزل له رغيفان كبيران ولم يزل على ذلك إلى أن أفرج عنه وفي سنة ثلاث وأربعين فوض إليه الملك الصالح نجم الدين النيابة بدمشق فمضى إليها وأقام بها، وفي سنة أربع وأربعين توجه إلى بعلبك بمن معه من العسكر ونازل قلعتها وضايقها وكان بها الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وإخوته فاشتد عليهم الحصار فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان فرتب أمورها وسار إلى دمشق وأولاد الملك الصالح عماد الدين معه فاعتقلهم بدمشق ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين قال الأمير حسام الدين لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا فرق بين الليل والنهار حدثتني نفسي يوماً وأنا في تلك الحال التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية أنني أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتي التي كانت لي عند الملك الصالح نجم الدين وأنه يسيرني إلى بعلبك وأفتحها واحتاط على أولاد الملك الصالح إسماعيل وأحملهم بين يدي إلى دمشق فقلت لنفسي هذا من الأماني الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون فما كان الأمد يسيرة وحصل لي ما تمنيته عياناً لم يخرم منه شيء، وفي سنة أربع وأربعين أيضاً أطلق صاحب حمص الأمير بدر الدين محمد بن أبي علي والد الأمير حسام الدين وكان الملك المجاهد حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين ابن أبي علي وجماعة الحمويين فقدم بدر الدين على والده حسام الدين وهو يومئذ نائب السلطنة بالديار المصرية في سنة خمس وأربعين ثم توفي بعد قدومه بمدة يسيرة فدفنه ولده بالرصد وبنى عليه تربة، وفي سنة ست وأربعين تقدم الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير حسام الدين المذكور بالمسير إلى الصالحية مقدماً على العساكر المتوجهة إلى الشام واستناب الملك الصالح بالديار المصرية عوضه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور فخرج وأقام بالصالحية أربعة أشهر ثم رجع إلى القاهرة ثم سار إلى الشام مقدماً على الحلقة السلطانية ومعه الدهليز السلطاني إلى حمص. بعلبك بمن معه من العسكر ونازل قلعتها وضايقها وكان بها الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وإخوته فاشتد عليهم الحصار فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان فرتب أمورها وسار إلى دمشق وأولاد الملك الصالح عماد الدين معه فاعتقلهم بدمشق ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين قال الأمير حسام الدين لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا فرق بين الليل والنهار حدثتني نفسي يوماً وأنا في تلك الحال التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية أنني أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتي التي كانت لي عند الملك الصالح نجم الدين وأنه يسيرني إلى بعلبك وأفتحها واحتاط على أولاد الملك الصالح إسماعيل وأحملهم بين يدي إلى دمشق فقلت لنفسي هذا من الأماني الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون فما كان الأمد يسيرة وحصل لي ما تمنيته عياناً لم يخرم منه شيء، وفي سنة أربع وأربعين أيضاً أطلق صاحب حمص الأمير بدر الدين محمد بن أبي علي والد الأمير حسام الدين وكان الملك المجاهد حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين ابن أبي علي وجماعة الحمويين فقدم بدر الدين على والده حسام الدين وهو يومئذ نائب السلطنة بالديار المصرية في سنة خمس وأربعين ثم

توفي بعد قدومه بمدة يسيرة فدفنه ولده بالرصد وبنى عليه تربة، وفي سنة ست وأربعين تقدم الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير حسام الدين المذكور بالمسير إلى الصالحية مقدماً على العساكر المتوجهة إلى الشام واستناب الملك الصالح بالديار المصرية عوضه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور فخرج وأقام بالصالحية أربعة أشهر ثم رجع إلى القاهرة ثم سار إلى الشام مقدماً على الحلقة السلطانية ومعه الدهليز السلطاني إلى حمص. وفي المحرم سنة سبع وأربعين دخل الأمير حسام الدين إلى الديار المصرية نائباً بها وتوجه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور إلى الشام نائباً بدمشق فالتقيا في الرمل واستمر في نيابة السلطنة بالديار المصرية إلى حيث مات الملك الصالح فبلغه أن الأمير فخر الدين بن الشيخ قد عزم استدعاء الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل بن الملك الكامل من عند عماته القطبيات ويفوض السلطنة إليه ويكون أتابكه فتقدم الأمير حسام الدين إلى شمي الدين بن باخل وإلى القاهرة إذ ذاك أن ينقل المغيث إلى قلعة الجبل وأمر بالاحتياط عليه وسير قصاده إلى حصن كيفا يستحثوا الملك المعظم توران شاه على سرعة

الوصول ويعرفوه المفاسد المترتبة على تأخره بخروج الأمر عنه إلى الملك المغيث فلما وصلت قصاده إلى الملك المعظم سار مجداً لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وترك بالحصن ولده الملك الموحد عبد الله وعمره نحو عشر سنين وعنده من يقوم بتدبيره وسار يعتسف القفار خوفاً من الملوك الذين في طريقه فوصل دمشق واستقر بقلعتها فامتدحه بعض الشعراء بقصيدة مطلعها: قل لنا كيف جئت من حصن كيفا ... حين أرغمت للأعادي أنوفاً فأجابه الملك المعظم في الوقت: الطريق الطريق يا ألف نحس ... مرة آمناً وطوراً مخوفاً فاستظرف الناس ذلك من الملك المعظم ولما توجه استصحب معه شرف الدين الفائزي ولما وصل الرمل أسلم علي يديه نشو الدولة ابن حشيش كاتب إنشائه ولقبه معين الدين ورشحه لأن يكون وزيره كما كان معين الدين بن الشيخ وزير أبيه فكان الأمير حسام الدين آكد الأسباب في حضور الملك المعظم وسلطنته بالديار المصرية والعجب منه كيف اجتهد في ذلك بعد ما سمع من الملك الصالح نجم الدين ما يقتضي العمل على خلافه فإنه قال لما ودعت الملك الصالح حين سفره إلى الشام قال لي أنا مسافر إلى الشام وأخاف أن يعرض لي موت وأخي الملك العادل بقلعة مصر فيأخذ البلاد وما يجري عليكم منه خير فإن عرض لي في سفري هذا مرض ولو أنه وجع

إصبع أو حمى فاعدمه فإنه لا خير فيه لكم وولدي توران شاه لا يصلح للملك فإن بلغك موتي لا تسلم البلاد لأحد من أهلي بل سلمها إلى الخليفة المستعصم بالله وقال الأمير حسام الدين قلت للملك الصالح وهو مريض مشرف ما يسير مولانا السلطان يطلب ولده الملك المعظم فما أجاب فلما ألححت عليه قال أجيبه إليهم يقتلوه فكان الأمر كما قال وفي جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين استأذن الأمير حسام الدين الملك المعز في الحج فأذن له وأمر له بحراقة يسافر عليها إلى قوص وبألف دينار وطلب من الملك المعز الأمير عز الدين أزدمر الجمدار ليحج صحبته فأذن له ودخلا مكة في أواخر شعبان ونزل الأمير حسام الدين بدار الضيافة التي بقرب الصفا وقضى الحج وعاد إلى المدينة صلوات الله وسلامة على ساكنها فزار وتوجه إلى ينبع وأقام بها أياماً لأمر بلغه ثم عاد إلى الديار المصرية على الهجن وفي سنة إحدى وخمسين استأذن الملك المعز في التوجه إلى الشام وكان قد ترك الخدمة فأذن له وسافر إلى دمشق فاقطعه الملك الناصر خبزاً جليلاً واحترمه غاية الاحترام وقام عنده مكرماً معظماً، ثم توجه إلى الديار المصرية فتوفي بها وورد الخبر إلى دمشق بوفاته في أواخر شهر شعبان من هذه السنة رحمه الله ودفن بالرصد عند والده رحمهما الله وكان الأمير حسام الدين قد عرض له صرع قبل وفاته بسنين ثم تزايد به وكثر فكان سبب وفاته ومولده بحلب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وأصله من إربل وكان فاضلاً وله نظم جيد قال الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله أنشدني

الأمير حسام الدين المذكور بالمدينة الشريفة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه لنفسه: بتنا على حالة ما شابها ريبه ... لم نعدما سنه المدفون في طيبه حتى بدا الصبح يرفل في ضياشيبه ... وفارق الليل مشكوراً على طيبه وأنشدني الأمير عز الدين المذكور للأمير حسام الدين أيضاً: لبيت داعي هواكم حين ناداني ... وقلت شأن الهوى العذرى من شأني حفظى لعهد الهوى ديني مع إيماني ... وحبكم صاحبي في طي أكفاني وأنشدني الأمير عز الدين للأمير حسام الدين أيضاً: ؟ أهوى رشأ من خالص الترك رشيق في الحصو معربد وفي السكر مفيق في فيه لعاشقيه در وعقيق ... ما أحسنه عندي عدو وصديق وقد تقدم في هذه الترجمة أن صاحب حمص أطلق بدر الدين محمد والد حسام الدين وأن الملك المجاهد كان حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين بن أبي علي وشرح القصة في ذلك أن الأمير سف الدين كان هو المشار إليه من بني أبي علي ولما ملك الملك المظفر تقي الدين محمود حماة سنة ثمان وعشرين وستمائة اجتذبه إليه واقطعه سلمية وزوجه أخته وجعله عديل روحه والمتصرف في جميع ما تحويه يده وكان الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص كثير التعدي على صاحب حماة وبينهما عداوة عظيمة ثم بعد موت الملك الكامل اتفق معه الملك الصالح عماد الدين على مثل ذلك فضعف عنهما فاستنجد بالفرنج وحضر إليه جماعة

من خيالتهم وبنى لهم في حماة كنيسة ولبس الغفارة تقرباً إليهم ليعتضد بهم على دفع الملك المجاهد والملك الصالح واتفق حضور الملك الصالح نجم الدين من المشرق وتسلمه دمشق من الملك الجواد على ما هو مشهور وعزم على قصد حمص وانتزاعها من صاحبها فحضر إليه جماعة من الأمراء المصريين فطلبوه ليملكوه الديار المصرية وقالوا له لا تشتغل بحمص إذا ملكت مصر كانت حمص وغيرها لك فتوجه إلى نابلس وأقام بها في انتظار عمه الملك الصالح وكان الملك الصالح والملك المجاهد قد اتفقا على أخذ دمشق وكان الملك الصالح نجم الدين مصافياً للملك المظفر صاحب حماة فسير إليه يقول أنا متوجه إلى الديار المصرية وتبقى دمشق شاغرة وأخاف من الملك الناصر داود ومن غيره من المجاورين فاحفظها كيف شئت فاقتضى رأيه أن يجهز إليها الأمير سيف الدين وخشي عليه من صاحب حمص فأظهرا منافرة وقال له سيف الدين في ملأ من الناس أنت تواطئ الفرنج وتريد تسليم البلاد إليهم وأنا ما بقيت أقيم عندك وقام خرج على غضب وتوجه في قريب أربعمائة فارس وجماعة كثيرة من أعيان الحمويين وجاؤوا إلى حمص ونزلوا على البحيرة فخرج الملك المجاهد إلى الأمير سيف الدين وهنأه بالسلامة وسير له الإقامات وسأله عن سبب حركته فأخبره فشرع صاحب حمص يشتم صاحب حماة ويلعنه بكل لسان ويشكر سيف الدين على مفارقته وصار يركب إليه كل يوم ويسيران ويتحدثان فعمل صاحب حمص حسابه ورتب له جماعة كثيرة وركب معه وسايره وأشغله بالحديث

إلى أن قربوا من المدينة فتوقف سيف الدين وقال للملك المجاهد بسم الله يدخل المولى مدينته فقال لي بك اجتماع في المدينة وأشتهي أتحدث معك في مهم لي وأطلعك على ما في نفسي منه وهذا ما يمكن إلا في المدينة ولا بد من دخولك على كل حال فرأى الأمير سيف الدين أنه مقهور معه فدخل ونزلوا في دار بالمدينة وقال له الأمير سيف الدين ما هو المهم الذي ذكره المولى قال لي شغل أريد أقضيه وأشتهي تعيرني جماعتك يجيئون معي مدة ثلاثة أيام أستعين بهم على قضاء شغلي وأعود بهم إلى خدمتك خذهم ورح قال فأنا وهم نجئ معك قال ما يمكن المولى كبير المقدار وإنما تقيم أنت هنا إلى أن نعود فما أمكنه مخالفته وقد صار في قبضته فقال له الملك المجاهد تسير إليهم وتستدعي فلان وفلان وفلان جماعة عينهم منهم الأمير بدر الدين محمد والد الأمير حسام الدين فاستدعاهم فحضروا فقال تكتب إلى بقية العسكر أن يتوجهوا صحبتي فكتب إليهم فأخذهم وتوجه بهم هو والملك الصالح عماد الدين إلى دمشق فهجموها على الصورة المشهورة، فلما عاد صاحب حمص قال لعسكر الأمير سيف الدين من أراد أن يخدمني استخدمته ومن أراد يروح فيروح حيث شاء فخدم عنده جماعة يسيرة وراح الباقون ونقل الأمير سيف الدين ومن معه إلى قلعة حمص وضيق عليهم ولم يزل الأمير سيف الدين في حبسه إلى أن مات فيه رحمه الله، ومات الملك المجاهد وجميع أصحاب الأمير سيف الدين ومن كان في صحبته من الحمويين

السنة التاسعة والخمسون وستمائة

في الحبس ثم أفرج عن الأمير بدر الدين كما ذكرنا وأفرج عن من سلم منهم بعد طول مدة ومشقة عظيمة ومصادرة نالت من هو متهم بمال وكان هذا الفعل من سوء التدبير وضعف الرأي فإنهم لو توجهوا على البرية لوصلوا دمشق وحفظوها بمشيئة الله تعالى ولو لم يغرر الأمير سيف الدين بنفسه لما قدر صاحب حمص عليه فإنه كان معه عسكر يضاهي عسكر حمص ويزيد عليه لكن إذا أراد الله أمراً لا مرد عليه وكان الشيخ شرف الدين عبد العزيز وزير صاحب حماة إذا جرى عنده ذكر الأمير سيف الدين وما تم عليه يقول دعونا من دم ضيعه أهله. ؟؟ السنة التاسعة والخمسون وستمائة أولها يوم الاثنين لأيام خلون من كانون الأول دخلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة حرسها الله تعالى نجم الدين أبو نمى بن أبي أسعد بن علي بن قتادة الحسني وعمه إدريس بن علي بن قتادة ومكة بينهما بالسوية وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب دمشق وبعلبك وبانياس والصبيبة الأمير علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد وصاحب الديار المصرية ومعظم الشام السلطان الملك الظاهر والمستولي على حلب وأعمالها الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار وهو في طاعة

الملك الظاهر وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ وصاحب جزيرة ابن عمر أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازي بن أرتق وصاحب بلاد الروم ركن الدين قليج أرسلان بن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن علاء الدين السلجوقي وأخوه عز الدين كيكاووس والبلاد بينهما مناصفة وصاحب صهيون وبرزية مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الملك الكامل وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، وصاحب حمص وتدمر والرحبة الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذى والمستولي على حصون الإسماعيلية الثمانية التي بالشام من أعمال حلب رضي الدين أبو المعالي ابن أبي المنصور ونجم الدين إسماعيل الشعراني وصاحب مراكش أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف ويلقب بالمرتضى، وصاحب تونس أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى، وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور

متجددات الأحوال في هذه السنة

نور الدين عمر، وصاحب ظفار موسى بن إدريس بن محمود بن محمد الحضرمي وصاحب دلى ناصر الدين محمود بن شمس الدين ايلتمش وصاحب كرمان تركان خاتون زوجة الحاجب براق وولدا قطب الدين براخمه وصاحب بلاد فارس أبو بكر بن أتابك سعد بن زنكى ابن دكلا. متجددات الأحوال في هذه السنة في المحرم منا جاء الخبر إلى دمشق بحفل أهل حلب وما والاها وسبب ذلك تجمع التتار الذين كانوا بحران وغيرها من بلاد الجزيرة وانضم إليهم من سلم من كسرة عين جالوت وضعفوا لشدة الغلاء عندهم فألجأتهم الضرورة إلى الغارة على بلد حلب فأجفل الناس من بين أيديهم. وفيها في أوائل المحرم كانت كسرة التتار على حمص وكانوا في ستة آلاف فارس فلما وصلوا حمص وجدوا عليها الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ومن معه والملك المنصور صاحب حماة والملك الأشرف صاحب حمص في ألف وأربعمائة فارس فحملوا على التتار حملة

رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب بيدرة في نفر يسير وأتى القتل على معظمهم وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ولما عاد فل التتار إلى حلب أخرجوا من فيها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من اختفى خوفاً على نفسه ثم نادوا من كان من أهل حلب فليعتزل فاختلط على الناس أمرهم ولم يعلموا المراد فاعتزل بعض الغرباء مع أهل حلب جماعة من أقارب الملك الناصر رحمه الله ثم عدوا من بقي من أهل حلب وسلموا كل طائفة منهم إلى رجل من الأكابر ضمنوهم له ثم أذنوا لهم في العود إلى البلد وأحاطوا بها ولم يمكنوا أحداً من الخروج منها ولا من الدخول إليها أربعة أشهر فغلت الأسعار وبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهماً ورطل السمك ثلاثين درهماً ورطل اللبن خمسة عشرة درهماً ورطل الشيرج سبعين درهماً ورطل الأرز عشرين درهماً ورطل حب الرمان ثلاثين درهماً ورطل السكر خمسين درهماً والحلواء كذلك ورطل العسل ثلاثين درهماً ورطل الشراب ستين درهماً والجدي الرضيع أربعين درهماً والدجاجة خمسة دراهم والبيضة درهماً ونصفاً والبصلة نصف درهم والحسك نصف درهم وباقة البصل درهماً والبطيخة أربعين درهماً والتفاحة خمسة دراهم حتى أكلت الميتة من شدة الغلاء.

ذكر انتزاع دمشق من يد الأمير علم الدين الحلبي

وأما الأمير حسام الدين الجوكندار والأمير نور الدين علي بن مجلى ومن معهما من الناصرية لما تحققوا عود التتر إلى حلب ساقوا على حمية وعبروا المرج ولم يقربوا دمشق وقصدوا الغور ثم إلى مصر فأقبل الملك الظاهر عليهم وكتب لهم المناشير بالأخباز بحلب ودمشق وعادوا بعد ما استولى الملك الظاهر على دمشق. وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الملك الظاهر من قلعة الجبل بأبهة الملك ونزل من وراء القاهرة ودخل من باب النصر وشق البلد وخرج من باب زويلة عائداً إلى القلعة والأمراء وأعيان الأجناد مشاة بين يديه وكان هذا أول ركوبه في دست السلطنة ثم استمر بعد ذلك على الركوب للعب بالكرة وغيره. ذكر انتزاع دمشق من يد الأمير علم الدين الحلبي كان الملك الظاهر قد كتب إلى الأمراء الذين بدمشق يستميلهم إليه ويحضهم على منابذة الأمير علم الدين والقبض عليه فأجابوه وخرجوا عن دمشق منابذين له وفيهم الأمير علاء الدين البندقدار والأمير بهاء الدين بغدى فتبعهم الأمير علم الدين الحلبي بمن بقي معه من الأمراء والجند فهزموه والجأوه إلى القلعة فأغلقها دونهم وذلك يوم السبت حادي عشر صفر ثم خرج من القلعة تلك الليلة وقصد بعلبك فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفراً من مماليكه ودخل علاء الدين البند قدار دمشق

واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر وجهز إلى بعلبك لمحاصرة الأمير علم الدين الحلبي بدر الدين محمد بن رحال والأمير ... التركماني فحال وصلوهما دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النورية وكان الأمير علم الدين الحلبي عند ما وصل جعل عنده في القلعة طائفة كبيرة من أهل نحله مقدمهم علي بن عبود فسير إليهم بدر الدين بن رحال وأفسدهم فتدلوا من القلعة ليلاً ونزلوا وترددت المراسلات بين الحلبي والبند قدار واستقر الحال على نزوله وتوجهه إلى خدمة الملك الظاهر حسبما يختار فخرج من القلعة راكباً حصانه وفي وسطه عدته وفي قربانه قوسان وهو كالأسد الهصور فحال ما بعد عن القلعة قدم له بغلة فتحول إليها وقلع العدة ووصل إلى دمشق وسار منها إلى الديار المصرية فأدخل على الملك الظاهر ليلاً بقلعة الجبل فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه وعاتبه عتاباً لطيفاً ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك. وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الأول فوض الملك الظاهر أمر الوزارة وتدبير الدولة إلى الصاحب بهاء الدين علي بن محمد. وفي ربيع الآخر حضر عند الملك الظاهر أحد أجناد الأمير عز الدين الصيقلي وأنهى إليه أنه فرق ذهباً في جماعة من حاشيته وقرر

ذكر نزوح التتار عن حلب وما حدث بعد نزوحهم

معهم الوثوب على السلطان واتفق معه الأمير علم الدين الغتمي وبهادر والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم. وفي ربيع الآخر بعث الملك الظاهر عسكراً إلى الشوبك فتسلمه من نواب الملك المغيث بباطن كان بينهم وبين الملك الظاهر. وفيه قبض الملك الظاهر على الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي بدمشق وحمل إلى قلعة الجبل فلم يزل محبوساً بها إلى أن مات. ذكر نزوح التتار عن حلب وما حدث بعد نزوحهم كان الملك الظاهر جهز الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي والأمير حسام الدين لاجين العينتابي في عسكر لترحيل التتار عن حلب فلما وصلوا غزة كتب الفرنج من عكا إلى التتار يخبرونهم فرحلوا عنها في أوائل جمادى الأولى فتغلب عليها جماعة من أحداثها وشطارها منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر وعلي بن الأنصاري وأبو الفتح ويوسف بن معالي فقتلوا ونهبوا ونالوا أغراضهم ثم وصل إليها فخر الدين الحمصي والعينتابي بمن معهما من العسكر فخرجوا هاربين ولما دخلها العينتابي صادر أهلها وعذبهم حتى استخرج منهم ألف ألف وستمائة ألف درهماً بيروتية وأقام بها إلى أن وصل إليها الأمير شمس الدين آقوش البرلي في جمادى الآخرة فخرج لتلقيه ظناً منه أنه جاء نجدة له وكان قد خرج من دمشق هارباً لما استشعر من الملك الظاهر فلما دخلها تغلب عليها فخافه فخر الدين الحمصي فأعمل الحيلة

ذكر وصول المستنصر بالله إلى القاهرة ومبايعته

في الخلاص منه بأن طلب السفر إلى الملك الظاهر ليستميله إليه فمكنه من الخروج فلما توجه أخذ البرلي في مصادرة من كان في صحبة الحمصي وأبقى على العينتابي وأمر وأقطع ووقد عليه زامل بن علي بن خذيفة في أصحابه ففرق عليهم تسعة آلاف مكوكاً مما احتاط عليه من الغلال التي كانت مطمورة بحلب وفرق في التركمان أربعة آلاف مكوكاً أخرى. وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى عرض الملك الظاهر ولاية القضاء بالديار المصرية على القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن القاضي رشيد الدين أبي الثناء محمود بن بدر العلامي فشرط شروطاً أغلظ فيها فأجابه السلطان إليها وصلى به الظهر وحكم بقية النهار وعزل القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن علي السنجاري وعوق عشرة أيام ثم أفرج عنه. وفي الثامن والعشرين منه ولي الأمير جمال الدين موسى بن يغمور ولاية البحر وشد العمائر والجيزة وولي الأمير صارم الدين قايماز المسعودي القاهرة وولي شجاع الدين جلدك الفائزي شد الدواوين. ذكر وصول المستنصر بالله إلى القاهرة ومبايعته كان هذا وهو أبو القاسم أحمد بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد محبوساً ببغداد مع جماعة من بني

باب في مبايعته

العباس فلما ملكت التتار بغداد أطلقوهم فصار المستنصر إلى عرب العراق واختلط بهم فلما ملك الملك الظاهر وفد عليه مع جماعة من بني مهارش وهم عشرة أمراء مقدمهم ابن قبيتا والأمير ناصر الدين مهنا وكان وصوله إلى القاهرة في ثامن رجب فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين وقاضي القضاة تاج الدين والشهود والرؤساء والقراء والمؤذنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل في يوم الخميس فدخل من باب النصر وشق القاهرة وكان يوماً مشهوداً، ولما كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان والخليفة في الإيوان بقلعة الجبل وحضر الصاحب بهاء الدين وولده فخر الدين وقاضي القضاة تاج الدين والأمراء والناس على طبقاتهم وقرئ نسب الخليفة على القاضي وشهد عنده بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع وركب من يومه وشق القاهرة في وجوه الدولة وأعيانها. باب في مبايعته وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس رضي الله عنه وهو الإمام المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن أبي المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين بويع بالخلافة في قلعة الجبل ظاهر القاهرة من الديار المصرية يوم

الاثنين ثالث عشر شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة وأول من بايعه قاضي الديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف الشافعي عند ما ثبت نسبه عنده ثم بايعه الملك الظاهر والشيخ عز الدين عبد العزيز ابن عبد السلام والأمراء والأعيان من أولى الحل والعقد وكانت بيعته في الأيوان الكبير بالقلعة المذكورة وكان المسلمون بغير خليفة منذ قتل التتار ابن أخيه الإمام المستعصم بالله أبا أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد رحمه الله في أوائل سنة ست وخمسين مدة ثلاث سنين ونصف وكان المستنصر بالله شديد السمرة جسيماً وسيماً عالي الهمة شديد القوى عنده شجاعة وإقدام وهو أخو المستنصر بالله أبي جعفر المنصور ونعت بنعته وهذا ما لم يجربه العادة فيما تقدم أن خليفة يلقب بلقب خليفة تقدمه من أهل بيته وقد ولى الخلافة إخوان وثلاثة إخوة إما أربعة أخوة ولوا الخلافة فأولاد عبد الملك بن مروان لا غير وثلاثة إخوة الأمين والمأمون والمعتصم أولاد هارون الرشيد والمستنصر والمعتز والمعتمد أولاد المتوكل والمكتفي والمقتدر والقاهر أولاد المعتضد والراضي والمتقي والمطيع أولاد جعفر المقتدر وإخوان فالسفاح والمنصور ولدا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه والهادي والرشيد ابنا المهدي والواثق والمتوكل ابنا المعتصم والمسترشد والمقتفي ابنا المستظهر والمستنصر منصور والمستنصر هذا ابنا الظاهر ومنه إلى العباس رضي الله عنه أربعة وعشرون نفراً وولي

الخلافة بعد ابن أخيه ولم يل أحد بعد ابن أخيه قبله إلا جده المقتفي بن المستظهر فإنه ولي أيضاً بعد الراشد بن المستظهر، وأما من ولى الخلافة بعد عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك من بني أمية ولي بعد عمه هشام ابن عبد الملك والمعتضد ابن الأمير الناصر بن المتوكل ولي بعد عمه المعتمد ابن المتوكل والراضي بالله بن المقتدر بن المعتضد ولي بعد عمه القاهر بالله ابن المعتضد ومدة خلافة المستنصر منذ بويع إلى أن فقد خمسة شهور وعشرون يوماً فمدة خلافته أقصر المدد من أهل بيته، أما من بني أمية فمعاوية بن يزيد بن معاوية رحمه الله مدة خلافته أربعون يوماً ويزيد ابن الوليد خمسة أشهر وأخوه إبراهيم بن الوليد سبعون يوماً، ومن بني العباس رضي الله عنه لم يستكملوا سنة أولهم المستنصر بن المتوكل بقي في الخلافة ستة أشهر والمهتدي بن الواثق بقي فيه أحد عشر شهراً وأياماً والحسن بن علي رضي الله عنهما بقي في الخلافة منذ بويع بعد قتل أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أن نزع نفسه وبايع معاوية رضي الله عنه سبعة شهور وأحد عشر يوماً وقيل غير ذلك. ولما كان يوم الجمعة ركب من البرج الذي كان مقيماً به في القلعة وعليه ثياب سود إلى الجامع بالقلعة للصلاة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس ثم استفتح وقرأ سورة الأنعام حتى بلغ قوله تعالى: " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ثم صلى على النبي صلى الله عليه

نسخة التقليد

وسلم وترضى عن الصحابة رضي الله عنهم ودعا للسلطان ثم نزل وصلى بالناس. وفي مستهل شعبان تقدم الخليفة بتفضيل خلعة سوداء وبعمل الطوق وقيد من ذهب وبكتب تقليد السلطنة للملك الظاهر ونصب خيمة ظاهر القاهرة، فلما كان يوم الاثنين رابعه ركب الخليفة والسلطان والوزير ووجوه الدولة والأمراء والقضاة والشهود إلى الخيمة فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه وقيده وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتاب منبراً نصب له فقرأ التقليد وهو من إنشائه وبخطه ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق والقيد ودخل من باب النصر وشق القاهرة وقد زينت له وحمل الصاحب بهاء الدين التقليد على رأسه راكباً والأمراء يمشون بين يديه وكان يوماً يقصر اللسان عن وصفه. نسخة التقليد الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشد ما وهي من علائه حتى أنسى ذكر من سلف، وقيض لنصره ملوكاً اتفق عليهم من اختلف، أمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشكر عليها فليس له عنها منصرف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمناً، وتسهل

من الأمور ما كان حزناً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فنا، صلى الله عليه وعلى آله الذين أصبحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وبعد فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعاً وساجداً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الحميد متقدماً، ودعا إلى طاعته فأجابه من كان منجد أو متهماً، وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصماً، ولا استباح بسيفه حمى وغي إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه ذكرها الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله سلطانه تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهب ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب، دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلماً بعد أن كان عليها حرباً، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعاً رحباً، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفاً، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام

بأمر البيعة أمراً لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف من حسابه، فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل إلا يأس من جمعه، وأمير المؤمنين يشكر هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية، والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجداً وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فرداً، ولا جعل منها بلداً من البلاد ولا حصناً من الحصون مستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى، فلا حظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملاً، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولاً عنها لا سائلاً، ودع لاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلاً، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالاً زائلاً، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى، فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة، وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل والإحسان، وكرر ذكره في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوباً كتبت عليه وآثاماً، وجعل يوماً واحداً منه كعبادة العابد ستين عاماً، وما سلك سبيل العدل

إلا واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمن بعد تداعي أركانه مشيد الأركان، وتحصن من حوادث الزمان فكانت أيامه في الأنام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إنما حلى بها عطل الأجياد، وهذه الأقاليم منوطة بنظرك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيباً واجعل عليه في تصرفاته رقيباً، وسل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولاً وبما اجترم مطلوباً، ولا تولى منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوباً ومرهم بالأناة في الأمور والرفق ومخالفة الهوى إذا ظهرت لهم أدلة الحق، وإن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق وإن لا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وإن يكونوا لمن تحت إيديهم من الرعية إخواناً، وأن يوسعوهم براً وإحساناً وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم وإن كان أميراً عليه وسلطاناً، فالسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله، ومما يؤمرون به أن يحمي ما أحدث من سيء السنن، وجدد من المظالم التي هي على الخلائق من أعظم المحن، وإن يشتري بإبطالها المحامد فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن، ومهما جبى منها من الأموال فإنها باقية في الذمم وإن كانت حاصلة، وأجياد الخزائن

وإن أضحت بها حالية، فإنها هي على الحقيقة عاطلة، وهل أشقى ممن احتقب إثماً، واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له خصماء وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلماً، وحقيق بالمقام الشريف السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف عن الخلائق ثقلاً لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخراً، فأحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه الأمور ينبغي أن تلاحظ وترعى، وإن يوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صيرت في الأمور أصلاً، وغيرك فرعاً، ومما يجب تقديم ذكره الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد، يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الإغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك الذي أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور، من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها ما غادره العدو متداعياً متهدماً، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراُ، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحاً ورجع خاسراً واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سائرة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تطلع في أيام وقد سبى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأس الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعم تستثمر بشكره. اخصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه الأمور ينبغي أن تلاحظ وترعى، وإن يوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صيرت في الأمور أصلاً، وغيرك فرعاً، ومما يجب تقديم ذكره الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد، يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الإغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك الذي أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن

يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور، من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها ما غادره العدو متداعياً متهدماً، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراُ، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحاً ورجع خاسراً واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سائرة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تطلع في أيام وقد سبى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأس الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعم تستثمر بشكره.

ذكر ولاية الأمير علم الدين الحلبي نيابة السلطنة بحلب

ولما تمت البيعة أخذ السلطان في تسييره إلى بغداد ورتب له الطواشي بهاء الدين صندل الصالحي شرابياً والأمير سابق الدين بوزبا أتابكا والأمير الشريف نجم الدين جعفر أستاذ دار والأمير فتح الدين ابن الشهاب أحمد أمير جاندار والأمير ناصر الدين محمد بن صرم خازندار والأمير سيف الدين بلبان والشمسي وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموري دويدارية والقاضي كمال الدين بن عز الدين السنجاري وزيراً وشرف الدين محمد بن علي بن أبي جرادة كاتباً وعين له خزانة وسلاح خاناة ومماليك كباراً وصغاراً عدتهم أربعون مملوكاً رتب منهم جمدارية وسلاح دارية وزرد كاشية ورمح دارية وأمر له بمائة فرس وعشرة قطر بغال وعشرة قطر جمال وفراش خاناة وطبل خاناة وطست خاناة وشراب خاناة وحوائج خاناة وإماماً ومؤذناً وكتب لمن وفد معه من العراق تواقيع باقطاعات، واستتب هذا الحال إلى أن تجهز الملك الظاهر إلى الشام لسبب يذكر فيما بعد، فبرز في تاسع عشر شهر رمضان إلى بركة الجب فأخرجه معه ورغب إليه في إلباسه سراويل الفتوة فألبسه ثم سافرا. ؟ ذكر ولاية الأمير علم الدين الحلبي نيابة السلطنة بحلب لما خرج فخر الدين الحمصي من حلب كما قدمنا ذكره وبلغ الرمل

ذكر أخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلب

كتب إليه الملك الظاهر يأمره بالعود وكان البرلي لما تغلب على حلب خرج منها في حشد من التركمان والعربان لشن الغارة على عيسى بن مهنأ وكان على حمص فلما مر البرلي بحماة طلب من صاحبها موافقته فأبى وأغلق دونه أبواب البلد فأحرق غلالاً للعشر بالباب الغربي وعاث في نواحيها وأفسد وذلك في نصف رجب وبلغ الملك الظاهر فولى الحلبي نيابة السلطنة بحلب وأقطعه ما يقوم بوظائف المملكة ورتب معه علاء الدين بن نصر اله مدبر الأمور وبعث معه عسكراً لمحاربة البرلي وقدم عليه الأمير جمال الدين آقوش المحمدي فسار الحلبي ومن معه وقصد الرقة ودخل الحلبي حلباً وسار المحمدي يتبع البرلي فأدركه بالرقة فركب ودخل على المحمدي خيمته وقال له أنا مملوك السلطان وما هربت إلا خوفاً منه وقد رغبت إليك في أن تستعطفه بحيث يبقى على حران فإني طردت نواب التتر عنها ووليت فيها ومتى لم يسمح بالإبقاء علي لم أجد بداً من التجائي إلى التتار فتكفل له المحمدي بما التمسه ورحل عائداً وعبر البرلي إلى حران وكان ذلك خديعة منه. ذكر أخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلب كان الحلبي قد كاتب الأسد حاجب الجوكندار والبهاء على أن يسلمها إليه وكان ولاه بها علاء الدين بن صاحب الموصل فطلب ذهباً يقرروا عينه فأجابه الحلبي وسير إليه المال ولم يسلمها ثم استدعى البرلي من حران فسار إليه وتسلمها ثم قصد حلب فلما كان بتل باشر خرج عن طاعة الحلبي أكثر من كان معه ولحقوا بالبرلي فخرج الحلبي من حلب ليلاً فلما علم البرلي بذلك بعث إليها علم الدين طقصبا الناصري

ذكر وصول ولدي صاحب الموصل إلى القاهرة

وسيف الدين كيكاري الحلبي فتسلماها ثم دخلها في أوائل شهر رمضان وبعث طائفة ممن كان معه في أثر الحلبي فلم يدركوه. ذكر وصول ولدي صاحب الموصل إلى القاهرة في العشر الأخر من شهر رجب خرج الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن صاحب الموصل منها واستخلف فيها زوجته التترية ولم يستصحب معه شيئاً من المال وسبب خروجه خوفه من التتار فإنهم كانوا قد أخذوا يختلقون له ذنوباً يريدون بذلك القبض عليه فاستشعر منهم، فلما وصل قرقيسيا كتب إلى أخيه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق وكان بالجزيرة يعرفه بحركته ويشير عليه بقصد الملك الظاهر ثم ساروا فوصل القاهرة في أواخر شهر رجب فخرج الملك الظاهر إلى لقائه وأكرمه واحترمه وأمر له بمال وثياب وأنزله في دار الفائزي خارج باب القنطرة بمصر ثم وصل أخوه الملك المجاهد في ثاني شهر رمضان فخرج السلطان للقائه وفعل معه كما فعل مع أخيه وأنزله بجواره في دار أنشأها معين الدين ابن الشيخ ورتب لمن وصل معهما من الحريم راتباً مجرى عليهم في كل شهر. ذكر توجه الخليفة والسلطان إلى الشام لما وردت الأخبار بأخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلب وخروج

وأولاد صاحب الموصل

الحلبي عنها برز السلطان بالعساكر إلى بركة الجب ومعه الخليفة وأولاد صاحب الموصل في تاسع عشر شهر رمضان بعد أن رتب الأمير عزك الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بقلعة الجبل والصاحب بهاء الدين مدبر الأمور وخرج مع السلطان الأمير بدر الدين بيليك الخزندار بعد أن فوض إليه أمور الجيوش وأقامه مقام نفسه وفخر الدين بن الصاحب بهاء الدين وزير الصحبة وأقام ببركة الجب إلى عيد الفطر وخلل هذه الأيام وصل المحمدي فأنكر عليه إبقاءه على البرلي وانخذاعه له ووصل رسول الملك المغيث صاحب الكرك بكتاب يتضمن الاعتذار وطلب الصفح عنه وإبقاء الكرك عليه وكان سبب الغضب عليه إنه كتب إلى يعقوب بن بدل وإلى جمال الدين أغل وإلى جماعة من أمراء الشهرزورية بعد أن تسلطن الملك الظاهر وهم بالقاهرة يستميلهم إليه فخرجوا عن الطاعة ثم إن العرب عثروا على قصاد منه إلى التتر وعلى أيديهم كتب مضمونها إنه مستمر على طاعتهم فلما ورد كتابه أجابه بالرضا عنه فقصر في حق الشهرزورية ففارقوه ثم رحل السلطان في ثالث شوال وفيه ولي قاضي القضاة برهان الدين الخضر السنجاري قضاء مصر وعزل عنها تاج الدين المعروف بابن بنت الأعز. ذكر مصاهرة الخزندار المواصلة لما وصل الملك الظاهر غزة في ثالث عشر شوال استدعى أولاد صاحب الموصل وعرفهم مكانة الأمير بدر الدين الخزاندار عنده ومحله منه وطلب منهم أن يزوجوه بأختهم فأجابوا فعقد عقده وملكه بانياس

ذكر وصول الخليفة والسلطان إلى

وقلعة الصبيبة بعقد البيع والشراء. ذكر وصول الخليفة والسلطان إلى دمشق وخروج الخليفة منها ثم رحل السلطان من غزة فدخل دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة وقدم عليه الملك الأشرف صاحب حمص فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثياباً وزاده من البلاد تل باشر وكان الملك المظفر رحمه الله قد حلها عنه وقدم عليه الملك المنصور صاحب حماة فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثياباً وكتب له توقيعاً ببلاده التي بيده ثم جهز الخليفة وأولاد صاحب الموصل صحبته فكان الذي غرم على تجهيز الخليفة وأولاد صاحب الموصل فوق الألف ألف دينار عيناً وجهز الأمير علاء الدين أيدكين البند قداري لنيابة السلطنة بحلب وأعمالها وبعث معه عسكراً لمحاربة البرلي وقدم عليه الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي فخرجا من دمشق في منتصف ذي القعدة فلما وصلا حماة خرج البرلي من حلب وقصد حران فتبعه الرشيدي ودخل البند قداري حلب ولما وصل الرشيد الفرات رحل البرلي عن حران وقصد قلعة القرادي فحاصرها حتى أخذها من نواب التتار عنوة ونهبها وعاد الرشيدي بعسكره إلى أنطاكية فشن الغارة على بلدها ودام ذلك سنة حتى بذلوا له مالاً في طلب المهادنة فأبى ثم بلغه أن الملك الظاهر خرج من دمشق قاصداً مصرفي سبع عشر ذي الحجة فرحل عن أنطاكية.

ذكر توجه الخليفة إلى العراق

ذكر توجه الخليفة إلى العراق وأولاد صاحب الموصل لما سير الملك الظاهر البند قداري والرشيدي كما تقدم أشار على الخليفة بالتوجه إلى العراق واعتنى بتجهيزة فرغب أولاد صاحب الموصل وهم الملك الصالح وولده علاء الملك والملك المجاهد سيف الدين صاحب الجزيرة والملك المظفر علاء الدين صاحب سنجار والملك الكامل ناصر الدين محمد في العود إلى بلادهم فخرجوا من دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة فلما وصلوا الرحبة وافوا عليها الأمير بريد بن علي بن حذيفة من آل فضل وأخاه الأخرس في أربعمائة فارس من العرب وفارق الخليفة أولاد صاحب الموصل من الرحبة وكان التمس منهم المسير معه فأبوا وقالوا ما معناه مرسوم بذلك فاستمال من مماليك والدهم نحو ستين نفراً فانضافوا إليه ولحقهم بالرحبة الأمير عز الدين ابن كر من حماة ومعه ثلاثون فارساً ثم رحل الخليفة بمن معه عن الرحبة بعد مقام ثلاثة أيام فنزلوا مشهد علي رضي الله عنه ثم رحل إلى زاوية الشيخ بري ثم إلى قائم عنقه ثم إلى عانة فوافوا الإمام

الحاكم بالله على عانة من ناحية الشرق ومعه نحو سبعمائة فارس من التركمان وكان البرلي قد جهزهم من حلب فبعث المستنصر بالله إليهم واستمالهم فلما جاوزوا الفرات فارقوا الحاكم فبعث المستنصر بالله يطلبه إليه ويؤمنه على نفسه ويرغب إليه في اجتماع الكلمة فأجاب ورحل إليه فوفى له وأنزله معه في الدهليز وكان الحاكم لما نزل على عانة امتنع أهلها منه وقالوا قد بايع الملك الظاهر خليفة وهو واصل فما نسلمها إلا إليه فلما وصل المستنصر بالله نزل إليه واليها وكريم الدين ناظرها وسلماها إليه، وحملا له إقامة فأقطعها للأمير ناصر الدين اغليش أخى الأمير علم الدين الحلبي ثم رحل الخليفة عنها إلى الحديثة ففتحها أهلها له فجعلها خاصاً له ثم رحل عنها ونزل على شط قرية الناووسة ثم رحل عنها قاصداً هيت، ولما اتصل ذلك بقرابغا مقدم عسكر المغل بالعراق وبهادر على الخوارزمي شحنة بغداد خرج قرابغا بخمسة آلاف من المغل على الشط العراقي وقصد الأنبار فدخلها إغارة وقتل جميع من فيها ثم ردفه بها در بمن بقي ببغداد من العساكر وكان قد بعث ولده إلى هيت متشوفاً لما يرد من أخبار المستنصر بالله وقرر معه إنه إذا اتصل به خبره بعث بالمراكب إلى الشط الآخر وأحرقها، فلما وصل الخليفة هيت أغلق أهلها الباب دونه فنزل عليها وحاصرها حتى

فتحها ودخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة ونهب من فيها من اليهود والنصارى ثم رحل عنها فنزل الدور وبعث طليعة من عسكره مقدمها الأمير أسد الدين محمود بن الملك المفضل موسى نائباً عن بوزبا فبات تجاه الأنبار تلك الليلة وهي ليلة الأحد ثالث المحرم سنة ستين وستمائة وكان ينبغي ذكر تتمة هذه الواقعة في حوادث سنة ستين وإنما لارتباط الحديث وسياقته ذكرتها في هذه السنة، فلما رأى قرابغا الطليعة أمر من معه من العساكر بالعبور إليها في المخائض والمراكب ليلاً، فلما أسفر الصبح أفرد قرابغا من معه من عسكر بغداد مسلماً ناحية، ورتب الخليفة اثنى عشر طلباً فجعل التركمان والعربان ميمنة وميسرة وباقي العسكر قلباً ثم حمل بنفسه مبادراً وحمل من كان معه في القلب فانكسر بهادر ووقع معظم عسكره في الفرات ثم خرج كمين من التتار فلما رآه التركمان والعرب هربوا وأحاط الكمين بعسكر الخليفة فصدق المسلمون الحملة فأفرج لهم التتر فنجا الحاكم وناصر الدين بن مهنا وناصر الدين بن صيرم وبوزبا وسيف الدين بلبان الشمسي وأسد الدين محمود وجماعة من الجند نحو الخمسين نفراً وقتل الشريف نجم الدين جعفر أستاذ الدار وفتح الدين بن الشهاب أحمد وفارس الدين أحمد بن ازدمر اليغموري ولم يوقع للخليفة على خبر فقيل قتل في الوقعة وعفى أثره وقيل نجا مجروحاً

في طائفة من العرب فمات عندهم وقيل سلم واضمرته البلاد. وفيها بعث الملك المظفر صاحب ماردين بعد موت أبيه الملك السعيد رحمه الله عز الدين يوسف بن الشماع إلى التتر ليتعرف له ما أضمرته نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له بين الملك المظفر وبين أيل خان يعنون هولاكو وعد أن والده متى مات دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شيء يدخل في طاعته حتى يدارى عنه فقالا نحن نضم له أن أيل خان يعوضه عما خرب بلاداً عامرة مما جاوره، فلما عاد عز الدين وأخبره رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعوا وترددت الرسل إلى أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه، فلما صعدا القلعة بعث الملك المظفر نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهة سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغة وادياً الرسالة فأجاب إلى ما ضمنه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك فرامين وبعث بها من جهته مع قصاد وأبقى الرسل عنده وأمر بالرحيل عن ماردين، فرحلوا في شهر رجب ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداى فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين الملك المظفر والتتر وأسلم كوهداى على يد الملك المظفر فأزوجه أخته.

ثم توجه الملك المظفر في شهر رمضان إلى هولاكو واستصحب معه هدية سنية من تحف أدخرها أبوه وأجداده من جملتها باطية مجوهرة قيمتها أربعة وثمانون ألف دينار، فاجتمع به بصحراء إدرنة بنهر الباع من أعمال سلماس فأقبل عليه وأكرمه وقال له بلغني أن أولاد صاحب الموصل هربوا إلى مصر وأنا أعلم أن أصحابهم كانوا السبب فأترك أصحابك الذين وصلوا صحبتك عندي فإني لا آمن أن يحرفوك عني ورغبوك في النزوح عن بلادك إلى مصر وإذا دخلت أنا البلاد استصحبتهم معي فأجابه إلى ذلك ثم انفصل عنه عائداً إلى بلده فلما كان في أثناء الطريق لحقته رسل تأمره بالعود فعاد وجلاً فقال له هولاكو أخبرني أصحابك أن لك باطناً مع صاحب مصر وقد رأيت أن يكون عندك من جهى من يمنعك التسحب إليه ثم عين له أميراً يدعى أحمد بغا ورده إلى ماردين وزاده نصيبين والخابو وأمره بهدم شراريف القلعة ثم ضرب بعد مفارقته له رقاب الجماعة وكانوا سبعين رجلاً منهم الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن الملك السعيد ونور الدين محمد وأسد الدين البحى وحسام الدين عزيز البحى وفخر الدين ابن جاجري وعلاء الدين والي القلعة وعلم الدين بن حيدر ولم يكن لأحد منهم ذنب لكن قصد بقتلهم قص جناح الملك المظفر. وفيها كان المصاف بين الأخوين ركن الدين وعز الدين صاحبي الروم على قوم من قونية في الخامس والعشرين من شهر رمضان فكسره

ركن الدين لأنه كان معه نجدة من التتر وخامر على عز الدين العربان واحداً مقدمي التركمان وتأخر محمد بك إلا وحي عنه وقتل من أصحاب عز الدين خلق كثير وأمسك منهم جماعة فشنقوا على الأسوار وانحاز عز الدين إلى أنطاكية وأقام بها وترك في بلاده شمس الدين أرتاش نائباً عنه. وفيها وصل رسول رضي الدين أبي المعالي ونجم الدين إسماعيل ابن الشعراني المستوليين على حصون الإسماعيلية إلى الملك الظاهر بدمشق وعلى يده هدية ومعه رسالة مضمونها التهديد والوعيد وطلب ما كان لهما من الإقطاعات في الدولة الناصرية والرسوم فأجابهما إلى ذلك فلما عزم على التوجه إلى مرسلاه وحضر لوداع الملك الظاهر قال له بلغني أن الرضا قد مات وقد رأيت أن أولئك مكانه ولم يكن اتصل به شيء من ذلك فكان ذلك سبباً لاستنزاله له عن سره ثم كتب له توقيعاً بالولاية فتوجه المذكور فوجد الرضى في عافية فكتم التوقيع ولم يلبث إلا عشرة أيام حتى مرض الرضا أياماً قلائل ثم مات فولى مكانه فلم ترض به الإسماعيلية وقتلوه فنقم عليهم الملك الظاهر قتله وشرع في أعمال الحيلة عليهم إلى أن استأصل شأفتهم واحتوى على بلادهم، قلت هذا خلاصة ما كان على خاطري وما نقلته من مسودات كانت عندي من حوادث هذه السنة وقد ذكر القاضي جمال الدين محمد ابن واصل بعض الحوادث المتقدمة على وجه آخر ربما هو أتم من

ذلك فذكرت ما قاله واثبته هنا والله أعلم. قال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل في حوادث هذه السنة لما وصل عسكر حلب وحماة إلى حمص على ما تقدم شرحه في حوادث سنة ثمان وخمسين اجمعوا بالملك الأشرف صاحبها وعزم عسكر حلب على التوجه إلى دمشق وقارب التتر حمص فلام الملك الأشرف الجوكندار على هذا الرأي وقال له ما يقال عنا في البلاد وبأي وجه نلقى صاحب مصر وأخذ في تثنيته هو وصاحب حماة وحرضاه على لقاء العدو وكان قد وقع بين الجوكندار وبعض خشداشيته منافرة من أجل الأموال التي أخذت من ابن صاحب الموصل فما زال بهم الملك الأشرف والملك المنصور حتى أصلحا بينهم، ووصل التتر فحمل عليهم المسلمون يوم الجمعة خامس المحرم ورزقهم الله النصر عليهم فبددوا شملهم وأخذتهم سيوف المسلمين وكان فيهم جماعة كثيرة من شجعان المغل، قال مبارز الدين أستاذ دار صاحب حماة كان من بهادرية المغل في هذه الوقعة أكثر من الذين كانوا منهم في وقعة عين جالوت بالغور وانهزم من سلم من التتر والمسلمون في آثارهم ومدح الصاحب شريف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ رحمه الله الملك المسعود صاحب حماة وهنأه بهذا الفتح بقصيدة مطلعها: لك في الندى وردى ذوي الأشراك ... شيم تفوق بها على الأملاك

ومنها: لما شكا دين الهدى اشكيته ... بشديد باسك والسلاح الشاكي دعت المعالي يا أباها دعوة ... لامت عليك فقلت لبي فاك جردت يوم الأربعاء عزيمة ... خفيت عواقبها عن الإدراك وأقمت في يوم الخميس مبالغاً ... في الجمع بين طوائف الأتراك ووقفت في يوم العروبة موقفاً ... أوسعت فيه الفتك بالفتاك قيدت ابطال التتار بصولة ... تركتهم كالصيد في الأشراك وأطرت منهم هام كل مدجج ... لله كل موحد سفاك فالطعن والطاعون أسلمهم إلى ... ضرب كا شداق المخاض دراك بردت أكباد الورى بقواضب ... قذفت عليهم كالضرام الذاكي أضحكت سن ثغورنا من بعد ما ... ظفروا بها فبكى عليها الباكي غادرتهم صرعى كأن كماتهم ... في المرج من سلاف جناك ثم ارتحلت إلى دمشق موضحاً ... سبل الرشاد المحض للسلاك ورجعت في غرر الجيوش معاجلاً ... منا رهان نفوسنا بفكاك فلقد أنمت المحصنات أو أمنا ... ولقد أقمت شعائر النساك سلمت مهجة كل بر مسلم ... وهزمت كل معاند أفاك نوهت باسمك في سماء مدائح ... أعلته فوق مجرة وسماك تسبي العقائل والعقول جميعها ... من صائغ لنضارها سباك فلك الهناء بما منحت ولا تزل ... يجري بسعدك دائر الأفلاك

ولما بلغ خبر هذه الوقعة إلى حماة وكان بها جماعة يميلون إلى التتر وربما أراد بعضهم أن ينقب من السور إليهم موضعاً يدخلون منه إلى البلد فثار أهل حماة عليهم فقتلوا بعضهم منهم رجل من أطراف الناس يقال له ابن دخان فقتله العامة واعتقل بعضهم ووصل الملك المنصور إلى حماة وبعد هذه الوقعة رجع التتر ونازلوا حماة وكانت قواهم تضعف لقلتهم والرعب الذي داخلهم عن المقام على حصار البلد فرحلوا ولم يقيموا إلا يوماً واحداً وأراد الملك المنصور السفر إلى دمشق ليستصحب عسكراً يتقوى به على التتر فمنعته العامة من ذلك حتى استوثقوا منه بأنه يعود إليهم عن قرب فمكنوه من السفر بطائفة قليلة من خواصه ومماليكه وترك عندهم الطواشي شجاع الدين مرشداً والعسكر وسار إلى دمشق، وتوجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق أيضاً والمتولي عليهم علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد وكان حين ورد الخبر إلى دمشق بهذا الفتح زين البلد وضربت البشائر ووصل إلى دمشق رؤوس التتر محمولة في الشرائح فرميت في الطرق ووصل الأمير حسام الدين الجوكندار ومن معه من العزيزية والناصرية ونزلوا المرج ولم يدخل دمشق خوفاً من الحلبي ثم رحل إلى الكسوة وتوجه إلى الديار المصرية بمن معه وكان يتوهم أن الملك الظاهر يقلده حلب وأعمالها نيابة عنه فلم يتم له ذلك، وأما التتر فإنهم اندفعوا إلى ناحية أفامية ونزلوا في تلك الأرض وطمع فيهم المسلمون ودخل عليهم

ذكر القبض على علم الدين الحلبي

الشتاء واشتد البرد وورد إلى أفامية الأمير سيف الدين الدبيلي الأشرفي ومعه جماعة فأقام بها وواتر الإغارة عليهم والقتل والنهب ثم رحلوا طالبين الشرق. ؟ ذكر القبض على علم الدين الحلبي في أوائل هذه السنة قدم عسكر من الديار المصرية مقدمهم الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وهو من أكابر الأمراء الصالحية وإليه ينسب الملك الظاهر قبل السلطنة وكان علاء الدين هذا مملوكاً قبل الملك الصالح نجم الدين للأمير جمال الدين بن يغمور وورد الأمر من مصر إلى الأمير شمس الدين البرلي ومن معه من العزيزية والناصرية أن يقدموا إلى دمشق فقدم بهم، فلما قدمت العساكر خرج الحلبي بأصحابه ومماليكه وحمل العسكر المصري فانهزم من مع الحلبي وجرح وقتل من مماليكه جماعة وعاد إلى القلعة فأقام بها إلى أن أجنه الليل وهرب إلى جهة بعلبك فاتبع وقبض عليه ثم حمل إلى الديار المصرية واعتقل بها ثم أطلق بعد ذلك. وكان ورود العسكر المصري إلى دمشق في ثالث عشر صفر واستقرت العساكر الظاهرية بدمشق وأقيمت الخطبة بها وببلادها وبحماة وحمص وحلب للملك الظاهر وكان قبل ورود العسكر المصري قد سير الملك المنصور صاحب حماة وهو مقيم بدمشق ابن عمه الأمير ناصر الدين محمد بن الملك المسعود عثمان بن الملك المنصور وكانت منزلته عالية عنده رسولاً إلى الملك الظاهر فأنزل باللوق وأكرم إكراماً

ذكر خروج الأمير شمي الدين البرلي والعزيزية من دمشق على حمية

كثيراً وأجيب بما طاب به قلب الملك المنصور ورجع إلى صاحبه مكرماً، وكان ناصر الدين هذا متميزاً عنده فضيلة وله نظم جيد منه: لله در عصابة تغشى الوغى ... تهوى الخياطة لا إليه تنتمى ذرعوا الفوارس بالوشيج وفصلوا ... بالمرهفات وخيطوا بالأسهم ذكر خروج الأمير شمي الدين البرلي والعزيزية من دمشق على حمية واستيلائهم على حلب لما استقرت العزيزية مع مقدمهم الأمير شمس الدين بدمشق وكان التتر قد نازلوا البيرة وضايقوها من غير محاصرة والأمير علاء الدين البندقداري مقيم بدمشق وقد جرد إلى حلب الأمير فخر الدين الحمصي مقدماً وصحبته جماعة من الأمراء فوصولا حلب وحكم الأمير فخر الدين فيها وضم بها شمل الرعية وتوجه الملك المنصور والملك الأشرف إلى بلديهما واشتدت مضايقة التتر البيرة فكتب فخر الدين الحمصي إلى الملك الظاهر وطلب إيجاده على التتر فكتب الملك الظاهر إلى البندقداري بأن يكون على أهبة المسير إلى حلب بجميع من عنده من العسكر وأن يقبض على شمس الدين البرلي وبهاء الدين بغدي وعلى جماعة من العزيزية والناصرية وبلغ ذلك هؤلاء الأمراء واتفق رأيهم على الخروج من دمشق يداً واحدة على حمية وإن يتوجهوا إلى حلب ويقبضوا على فخر الدين الحمصي ويقيموا في تلك الجهات

وتحالفوا على ذلك فتوجه بهاء الدين بغدي إلى الأمير علاء الدين البندقداري رجاء أن يسلم بذلك ويتقدم عنده فحين دخل إليه قبض عليه وقيده ورسم عليه جماعة، وورد الخبر بذلك إلى الأمير شمس الدين البرلي ومن معه من العزيزية والناصرية فركبوا وخرجوا من دمشق ليلاً ووقع بسبب هذه الحركة انزعاج شديد بدمشق ونزل البرلي بأصحابه في المرج فبعث إليه البندقداري يلومه على ذلك وحلف له أن الأمر ما ورد إلا بقبض بهاء الدين خاصة وأرسل إليه مثالاً ورد من مصر بما يرضيه وكان الأمير شمس الدين قد تحقق أن الأمر بخلاف ذلك من جهة من ورد إليه من مصر فتوجه بأصحابه طالباً حلب، ولما وصل إلى حمص راسل الملك الأشرف بأن يتفق معه فلم يجبه إلى ذلك وكان قد كاتب بعض أمراء حماة بأن يفتح له أحد أبواب حماة ليدخل إليها ويستولي عليها فأجابه إلى ذلك وكان في معسكر البرلي وهو نازل بظاهر حمص ناصر الدين ناصر الجذامي وهو من أصحاب صاحب حماة ومختص بخدمته وإنما كان في عسكر البرلي ليكشف الأخبار لصاحبه فحين بلغه ذلك سار مسرعاً إلى حماة وأخبر الملك المنصور بذلك وكان الذي كاتبوا البرلي على الباب الذي واعدوه الدخول منه فجعل الملك المنصور على الباب غيرهم، ووصل الأمير شمس الدين إلى حماة فنزل ظاهرها وقد فاته ما طلب ولم يظهر الملك المنصور تغيراً على الذين كان منهم ذلك ولا غير أخبازهم ولا أشعرهم أنه عرف شيئاً من أمرهم ولما نزل الأمير شمس الدين ظاهر حماة أرسل إلى الملك المنصور يدعوه إلى الاتفاق

معه وأنه يقيم الملك المنصور سلطاناً ويكون في خدمته. قال الملك المنصور رحمه الله أرسل إلى الأمير شمس الدين يقول ينبغي أن تقوم وتحيى بيتك الكريم فما بقي في البيت الأيوبي من يصلح لهذا الأمر سواك ونكون بين يديك ونقاتل معك ونملكك البلاد فأرسلت إليه ناصر الدين البدوي أقول له متى وفيتم أنتم لأحد من بيت أستاذكم حتى تفوا لي وأنا ما لي حاجة بالملك وإنما أنا قانع بهذه البلدة وأكون فيها مطيعاً لمن يكون مالكاً للديار المصرية، ولما يئس الأمير شمس الدين من إجابة الملك المنصور غضب وأمر بإحراق بيدر الشعير غربي البلد فاحترق وأعقب ذلك جدب وغلاء شديد ثم توجه الأمير شمس الدين ومن معه إلى شيزر ونازلوها أياماً ثم ساروا إلى حلب فلما وصلوا الوضيحى جمع الأمير شمس الدين أصحابه واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بأن يكون الدخول في صبيحة الغد وأنهم لا يلبسون لأمة الحرب ولا يظهرون إلا طاعة الملك الظاهر ويقولون أنا خفنا على أنفسنا لما سمعنا تغير خاطره علينا فالتجأنا إلى أطراف البلاد إلى أن يصلنا أمانه ونعود إلى خدمته فوافقهم على ذلك وفي صبيحة الغد رحلوا إلى حلب وقد خرج فخر الدين الحمصي ومن معه من العسكر لابسين لأمة الحرب مستعدين للقاء وجاء البرلي ومن معه ودخلوا بينهم واختلطوا جميعاً بهم ودخلوا حلب ونزل الأمير شمس الدين في دار الأمير شمس الدين لؤلؤ ونزل أمراء العزيزية والناصرية حوله ثم طلبوا من فخر الدين الحمصي أن يتوجه إلى الملك الظاهر ويطلب لهم الأمان

والرضا بشرط أن يكون الأمير شمس الدين مقدم العساكر بحلب والأمراء الذين في صحبته عنده ويصلهم المناشير من الديار المصرية بما يختاره الملك الظاهر ويكون الأمير شمس الدين مستقلاً بنيابة السلطنة ولا يكلف الاجتماع بالملك الظاهر وتوجه فخر الدين إلى مصر ليدبر هذه القاعدة فلما وصل إلى الرمل وجد الأمير جمال الدين الحمدي قد جرد معه عسكراً ليتوجهوا إلى الأمير شمس الدين البرلي حيث كان ويقاتلوه فكتب فخر الدين إلى الملك الظاهر يخبره بما قدم لأجله فورد عليه الجواب ينكر عليه غاية الإنكار ويأمره أن ينضم إلى المحمدي بمن معه من العسكر ويقصلون البرلي ثم رضي الملك الظاهر عن الأمير علم الدين الحلبي وجهزه وراءهم في جمع من العسكر ثم جهز بعدهم الأمير عز الدين الدمياطي في جمع آخر وتوجهوا كلهم إلى جهة حلب ليقبضوا على الأمير شمس الدين البرلي أو يطردوه عن حلب وكان الأمير شمس الدين لما توجه فخر الدين الحمصي علم أن الملك الظاهر لا يوافقه على ما طلب فأخرج من عنده من العسكر المصري واستبد بالأمرو جمع إليه من العربان والتركمان وأخرج ما كان مخبأ في حلب وبلادها من الغلال وفرقه على الشود وكان قصده إخلاء حلب من الغلال لئلا تبقى ميرة لعسكر مصر واستعد للقاء عسكر مصر وبلغه توجههم إلى قتاله وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك. وفي السابع من جمادى الأولى عقد عزاء بجامع دمشق للملك الناصر

ذكر بيعة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد بمصر

صلاح الدين يوسف رحمه الله وذلك لما ورد الخبر بمقتله. ذكر بيعة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد بمصر ورد إلى مصر في رجب من هذه السنة أبو القاسم أحمد ومعه جماعة من العرب وذكروا أنه ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر وهو أسود اللون وذكروا أنه خرج من دار الخلافة لما ملكها التتر فأراد الملك الظاهر أن يقلده الخلافة فعقد له مجلس بقلعة الجبل وحضر الأعيان والأكابر والشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله والقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف وكان الملك الظاهر قد عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية في أوائل هذه السنة وقلد القضاء لتاج الدين المذكور فشهد أولئك العربان بأن أبا القاسم هذا هو ابن الظاهر بأمر الله وعم المستعصم بالله وأقام القاضي تاج الدين جماعة من الشهود اجتمعوا بأولئك العرب وسمعوا شهادتهم ثم حضروا عند القاضي تاج الدين فشهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة فقام القاضي تاج الدين على قدميه وقال ثبت عندي نسب أبي القاسم هذا وأنه ابن الإمام الظاهر بأمر الله فبايعه الملك الظاهر والشيخ عز الدين والقاضي تاج الدين والحاضرون ونودي بالقاهرة ومصر بخلافته ولقب المستنصر بالله لقب أخيه ويوم الجمعة التالية لهذه البيعة حضر الملك الظاهر والأكابر والقضاة وخطب الخليفة خطبة مختصرة وصلى بالناس صلاة العصر ونثرت الدراهم والدنانير باسمه وخلع على الملك الظاهر خلعة

ذكر تبريز الملك الظاهر والخليفة للمسير إلى الشام

سوداء وعمامة مذهبة وطوق ذهب وركب بالخلعة. ذكر تبريز الملك الظاهر والخليفة للمسير إلى الشام في شهر رمضان برز الملك الظاهر وضرب دهليزه خارج باب النصر وبرزت العساكر للتوجه إلى الشام وكان قد قدم إلى خدمة الملك الظاهر الملك الصالح ابن صاحب الموصل وأخوه صاحب الجزيرة فنزلا في المخيم السلطاني خارج البلد، كنا ذكرنا أن الملك المظفر رحمه الله لما كسر التتر وقدم دمشق عزل القاضي محي الدين يحيى بن الزكي وولى عوضه القاضي نجم الدين ابن سنى الدولة واستمر إلى أثناء هذه السنة فتحدث الناس فيه بأمور نسبت إليه وبلغ الملك الظاهر ذلك فاستشار الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي فأشار عليه أن يولى القضاء بدمشق القاضي شمس الدين أحمد ابن خلكان وكان ينوب عن القاضي بدر الدين السنجاري بالديار المصرية زمن ولايته لها فأجاب الملك الظاهر إلى ذلك وتقدم بان يسافر القاضي شمس الدين صحبته. وفي هذه الأيام ولى الملك الظاهر القاضي برهان الدين الخضر ابن الحسن القضاء بمدينة مصر وعملها وهو الوجه القبلي وبقيت القاهرة وعملها وهو الوجه البحري في ولاية القاضي تاج الدين. وفي هذه الأيام والملك الظاهر مبرز بالعساكر خارج القاهرة عزم

على إنفاذ رسول إلى منفريد بن الانبرطور فرديك وكان الملك الكامل أرسل إلى أبيه الانبرطور الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ يطلب منه القدوم إلى الشام ليشغل سر أخيه الملك المعظم وذلك لما انتمى الملك المعظم إلى السلطان جلال الدين سلطان العجم فقدم إلى الشام بعد موت الملك المعظم وندم الملك الكامل على استقدامه إذ لم يبق له حاجة إليه وجرت المراسلات بينه وبين الملك الكامل واتفقا على أن يتسلم الانبرطور البيت المقدس فتسلمه ثم رحل إلى بلاده ثم توفي الملك الكامل وصارت مصر لابنه الملك العادل ثم لأخيه الملك الصالح نجم الدين بن الكامل فأرسل إليه الملك الصالح نجم الدين الشيخ سراج الدين الأرموي قريب الشيخ أفضل الدين الخونجي قاضي مصر وكان إماماً في المعقولات وكان الانبرطور محباً للفضائل والعلوم الحكمية وغيرها فأقبل على سراج الدين وأقام عنده مدة طويلة وصار بين الانبرطور وبين الملك الصالح نجم الدين مودة عظيمة كما كانت بينه وبين أبيه الملك الكامل ثم عاد سراج الدين إلى الديار المصرية ولما توفي الانبرطور ملك بعده أنبولية والأنبردية وجزيرة صقلية ولده كنراد ثم توفي وملك منفريد أخوه وكان كنراد وأخوه منفريد يريان رأي أبيهما في محبة الفضائل العلمية وبينهما وبين البابا خليفة الإفرنج العداوة الشديدة.

فصل

فصل وفيها توفي إبراهيم بن عبد الله بن هبة الله بن أحمد بن علي بن مرزوق أبو إسحاق صفي الدين العسقلاني الكاتب التاجر مولده في شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة سمع بمصر من أبي محمد عبد الله بن محمد بن بجلي وأجاز له غير واحد وحدث وكان أحد الرؤساء المعروفين بالثروة وسعة ذات اليد وله الوجاهة الوافرة والتقدم عند الملوك وأرباب الدول وله بر ومعروف وأوقاف منسوبة إليه وتوفي في ثاني عشر ذي القعدة بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله. إسحاق بن يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن علي بن المفضل أبو إبراهيم الحلبي الكاتب كان من الفضلاء الرؤساء ومولده بحلب في ثالث شهر رجب سنة إحدى وستمائة وتوفي بالقاهرة في السادس والعشرين من ربيع الآخر هذه السنة ودفن من يومه بالقرافة رحمه الله. إسماعيل بن شيركوه بن محمد بن شيركوه الملك الصالح نور الدين ابن صاحب حمص كان له اختصاص كبير بالملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وقرب منه وكان عنده حزم وعزم وسياسة وكان من رأيه مداراة التتر وعدم مشاققتهم وكان يعضد الزين الحافظي عند الملك الناصر ويثني عليه ويشكره فكان يقال إن الزين الحافظي أحضر له فرماناً من هولاكو وإن للملك الصلاح باطناً مع التتر وأنه لم

يدخل الديار المصرية مع العساكر لذلك لا محافظة للملك الناصر وتوهم أنه إذا وصل إلى هولاكو أبقى عليه ووفى له بما في الفرمان فعاد مع الملك الناصر من قطيا وحسن له قصد هولاكو وتوجه صحبته إليه فلما أمر هولاكو بقتل الملك الناصر ومن معه على ما سيأتي في ترجمة الملك الناصر رحمه الله إن شاء الله أمر بقتل الملك الصالح أيضاً فقتل في أطراف بلاد العجم وكان يلقب السيس ومولده ومرباه حمص وإنما انتقل عنها بعد موت والده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه وكان مقتله في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى وحكي أنه قال يوماً للأمير عماد الدين إبراهيم بن المحبر رحمه الله وهما في مجلس السلطان الملك الناصر نريد أن نعمل مشوراً وكان عماد الدين رأيه قتال التتر وعدم مداراتهم فقال له لم هذا المفشر فقال له الملك الصالح أنت كما قيل طويل ولحيتك طويلة فقال له عماد الدين ألا أني ما ربيت في حمص أشار الملك الصالح إلى أن الطويل القامة واللحية غالباً يكون قليل العقل وأشار عماد الدين رحمه الله إلى أن من ربى بحمص يكون أجدر بقلة العقل وهذا إنما هو على ما يقوله العوام لا على الحقيقة. إسماعيل بن عمر بن قرناص أبو العرب مخلص الدين الحموي كان فقيهاً متأدباً وله شعر حسن وعنده معرفة بطرف من العربية وكان يدرس بحماة في مدرسة نسيبة مخلص الدين بن قرناص ومدرسة الشيخ

تقي الدين ابن البققي ويقرئ العربية بالجامع ومولده سنة اثنتين وستمائة وتوفي في جمادى الآخرة هذه السنة بحماة وله أشعار حسنة منها قوله: فقد إلا حبة مولم وبنا إذا ... غاب شخصك فوق ذاك المولم إذ أنت بين الأحبة منعم ... وأحقهم بالشوق وجه المنعم وله: أما والله لو شقت قلوب ... ليعلم ما بها من فرط حبي لأرضاك الذي لك في فوأدي ... وأرضاني رضاك بشق قلبي أيل غازي الملك السعيد نجم الدين صاحب ماردين توفي في سادس عشر صفر هذه السنة وقيل في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وقد ذكرناه هناك. الحسن بن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر أبو محمد شرف الدين المقدسي الحنبلي مولده سنة خمس وستمائة سمع الكثير من أبي اليمن الكندي وغيره وكان من العلماء الفضلاء وهو من أولاد المشايخ الأئمة من بيت الحفظ والحديث حدث هو وأبوه وجده وكانت وفاة شرف الدين المذكور في ليلة الثامن من المحرم بدمشق رحمه الله وجده الإمام الحافظ عبد الغني رحمة الله عليه صاحب التصانيف والفوائد وإليه انتهى علم الحديث ومعرفة الآثار النبوية في وقته رحمه الله.

عبد الرحمن بن محمد بن عبد القاهر بن موهب أبو البركات زين الدين الحموي الشافعي خطيب الجامع الأعلى بحماة كان فاضلاً عالماً حسن الخطابة متمولاً وله وجاهة كبيرة وكرم ومعروف مشهور وكان الملك المظفر صاحب حماة يحترمه كثيراً وترسل بعد وفاة الملك المظفر إلى الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية فأكرمه واحترمه وبنى زين الدين المذكور بحماة مدرسة جليلة ووقف عليها وقفاً كثيراً ودفن بها لما توفي ومولده في سنة ثمانين وخمسمائة وتوفي بحماة صبح يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الأول وقيل توفي ليلة الثامن والعشرين منه حدث عن عمر بن أبي اليسر وغيره وكان من المشايخ المشهورين بالخير والصلاح والعلم والنبل والجلالة رحمه الله وقيل في نسبه هو عبد الرحمن بن محمد ابن عبد القاهر بن موهوب والله أعلم. عثمان بن منكورس بن خمردكين الأمير مظفر الدين صاحب صهيون وبرزية كان حازماً يقظاً مهيباً كثير السياسة والنهضة تملك صهيون وما معها بعد وفاة والده الأمير ناصر الدين منكورس في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وجده بدر الدين خمردكين كان عتيق الأمير مجاهد الدين بزان صاحب صرخد وكانت وفاة مظفر الدين المذكور في ثاني عشر ربيع الأول بقلعة صهيون ودفن بها عند والده وقد نيف على تسعين سنة رحمه الله وولى بعده الأمير سيف الدين محمد مكانه.

علي بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى الملك الظاهر سيف الدين كان جميل الأوصاف حسن الصورة كريم الأخلاق شجاعاً جواداً ممدحاً وهو شقيق الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله أمهما أم ولد تركية وكان الملك الناصر يحبه محبة شديدة ولما كان في أواخر سنة سبع وخمسين أعطاه الملك الناصر أماكن من جملتها الصلت وقلعتها واتفق أن جماعة من الناصرية والعزيزية مالوا إليه وأرادوا تمليكه والقبض على الملك الناصر فأوجب ذلك وحشة اقتضت أن الملك الظاهر فارق الملك الناصر في أوائل سنة ثمان وخمسين وتوجه بحريمه إلى قلعة الصلت تركهم بها وقصد غزة فاجتمع على طاعته الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بمن معه من البحرية وجماعة من الناصرية والعزيزية والشهرزورية وسلطنوه عليهم ثم لما بلغهم أن التتر قد دهموا البلاد وملكوا قلعة حلب اتفق هو والأمير ركن الدين أن يرسلا إلى الملك المظفر قطز رحمه الله ويقررا معه الاتفاق معهما ليكون عضداً لهما فأرسلا رسولين أما رسول الأمير ركن الدين فكان الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وحمله رسالة باطنة مضمونها أن يستوثقوا له من الملك المظفر ليقدم عليه وظاهرها ما اتفقا عليه فلما وصلا إلى الملك المظفر أجاب الملك الظاهر سيف الدين بأنه عضده وأن ألجأته ضرورة إلى دخول الديار المصرية وآواه وأحسن إليه وأجاب الأمير ركن الدين إلى ما طلب وحلف له فعند ما عاد بالجواب توجه الأمير ركن الدين

إلى الديار المصرية وقدم في أثر ذلك الملك الناصر إلى غزة فانضاف إليه أخوه الملك الظاهر ومن معه فصفح عنهم وصاروا في خدمته وتوجه الملك الظاهر مع أخيه الملك الناصر إلى قطيا وعاد معه ولولا اتسامه بالسلطنة تلك الأيام لدخل الديار المصرية لكنه خاف أن يتخيل منه الملك المظفر فيقبضه ولما توجه الملك الناصر إلى هولاكو كان معه فلما قتل قتل معه أيضاً وكان قتله في أوائل هذه السنة أو في أواخر سنة ثمان وخمسين وخلف الملك الظاهر ولداً ذكراَ اسمه زبالة كان مفرط الجمال وأمه تعرف بوجه القمر كانت من حظايا الملك الناصر فوهبها لأخيه الملك الظاهر فلما قتل تزوجها الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي فلما مات عنها تزوجها الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي ثم درج الولد زبالة المذكور رحمه الله تعالى بالديار المصرية. علي بن يوسف بن أبي المكارم بن أبي عبد الله بن عبد الجليل أبو الحسن نور الدين الأنصاري المصري العطار كان شاعراً فاضلاً وتوفي في هذه السنة ولم يبلغ الأربعين سنة من العمر، ومن شعره لغزاً في كوز الزير: وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا لب مدى الأيام في خفض ... وفي رفع وفي نصب إذا استولى على الحب ... فقل ما شئث في الحب محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر

اليعمري الأندلسي مولده في صفر سنة سبع وتسعين وخمسمائة، سمع الكثير وحصل جملة من الكتب وحدث وصنف وجمع وكان أحد حفاظ المحدثين المشهورين وفضلائهم المذكورين وبه ختم هذا الشأن بالمغرب، وكانت وفاته في الرابع والعشرين من شهر رجب بمدينة تونس رحمه الله. محمد بن صالح بن محمد بن حمزة بن محمد بن علي أبو عبد الله التنوخي الفقيه الشافعي، لقي بدمشق عمر بن طبرزد وزيد بن الحسن الكندي وعبد الصمد الحرستاني وولي نظر ثغر الإسكندرية وجميع أمورها من الأحباس والمساجد والجوامع والمدارس وحدث بالثغر وكان ذا سيرة مرضية ومولده بمدينة المحلة من غربية مصر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة قال أبو المظفر منصور بن سليم أنشدنا القاضي أبو عبد الله محمد بن صالح لنفسه بمنزله بالثغر: سلام على ذاك المقر فإنه ... مقر نعيمي وهو روحي وراحتي فإن تسمح الأيام مني بنظرة ... إليه فقد أوتيت مأمول منيتي قال وأنشدنا أيضاً لنفسه مكاتبة: لو بقدر الحنين أرسل كتبي ... كنت أفنى الأوراق والأنفاسا غير أني أرجو اللقاء قريباً ... في سرور ويبتدى الأعراسا قال أنشدنا لنفسه في ولايته الثالثة بالثغر: أصبحت من أسعد البرايا ... في نعم الله بالقناعه

مع بلغة من كفاف عيش ... وخدمة العلم كل ساعه طلقت دنياهم ثلاثاً ... بلا رجوع ولا شناعه وارتجى من ثواب ربى ... حشري مع صاحب الشفاعه قال وأنشدنا لنفسه: أقول لمن يلوم على انقطاعي ... وإيثاري ملازمة الزوايا أأطمع أن تجدد لي حياة ... وقد جاوزت معترك المنايا توفي القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بالثغر في ليلة الأحد خامس صفر سنة تسع وخمسين وستمائة ودفن في محرس سوار جوار الشيخ أبي العباس الرأس رحمهما الله تعالى. محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عيسى بن معتبر بن علي بن يوسف أبو عبد الله الإسكندري الفقيه المالكي العدل من أهل العلم والحديث كان صالحاً ثبتاً ثقة وكان ينظم، ومن شعره كتب بها في الإجازة: أجزت لهم على المهيمن قدرهم ... وحلاهم ذكراً جميلاً معطرا رواية ما أرويه شرقاً ومغرباً ... وما قلته نظماً ونثراً محبرا على شرط أهل العلم والصنعة التي ... يكون بها معنى الإجازة مظهرا وهذا جوابي ثم واسمي محمد ... عفا الله عنه ما مضى وتأخرا أقول وعبد الله اسم لوالدي ... وإبراهيم جدي قد نصصت مخبرا ويعرف بالمتيجى نسبة بلده ... وسطرت خطى بالقريض معبرا

توفي أبو عبد الله المتيجي ليلة الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وستمائة ودفن يوم الاثنين بجوار والده بمحروسة ثغر الإسكندرية رحمه الله. محمد بن عبد الله بن موسى أبو عبد الله شرف الدين الحوراني المتاني الشيخ الفاضل العارف الزاهد كان له رياضات وخلوات وانقطاع ومعرفة جيدة بفنون متعددة من العلوم وكانت وفاته في هذه السنة بمدينة حماة وعمره مقدار سبعين سنة رحمه الله، ومتان بضم الميم قرية من عمل حوران. محمد بن عبد الملك بن درباس أبو حامد كمال الدين الضرير الماراني الشافعي العدل مولده في ثاني عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وخمسمائة سمع من القاسم بن علي الدمشقي والبوصيري وغيرهما ودرس بالمدرسة السيفية بالقاهرة مدة وكان من الفضلاء ووالده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في الأيام الصلاحية كان كبير القدر وافر العلم والفضل، توفي كمال الدين المذكور في خامس شوال بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله. يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى أبو المظفر السلطان الملك الناصر صلاح الدين ومولده في يوم الأربعاء تاسع شهر

رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب بقلعتها ولما ولد زين البلد ولبس العسكر أحسن زي وأظهر من السرور والابتهاج بمولده ما جاوز الحد، وتوفي والده الملك العزيز غياث الدين أبي المعالي محمد بن الملك الظاهر في عنفوان شبابه وعمره ثلاث وعشرون سنة وشهور وكان قد توجه إلى جارم للتنزه وكان له بها جوسق تحته نهر وإلى جانبه بستان فنزل به ثم حضر الحلقة لرمي البندق واغتسل بماء بارد فحم ودخل حلب وهو موعوك ودامت به الحمى وقوي مرضه فاستحلف الناس لولده الملك الناصر وأرسل كمال الدين ابن العديم إلى أخيه الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر صاحب عين تاب فاستحلفه لابنه بعد نفسه، وكان الملك العزيز عادلاً رقيق القلب رحوماً مشفقاً على رعيته متودداً إليهم مائلاً إلى أهل الخير محباً لأهل العلم والفضل وخلف من الولد الملك الناصر المذكور والملك الظاهر علي وقد تقدم ذكره وأمهما أم ولد تركية وشقيقتهما تزوجها الملك الأمجد مجد الدين الحسن ابن الملك الناصر داود رحمه الله فمات عنها بعد أن أولدها الأمير صلاح الدين محمود ثم ماتت وخلف ابنتين غيرها إحداهما عائشة خاتون وأمها فاطمة خاتون بنت الملك الكامل تزوجها الملك المنصور صاحب حماة وأولدها الملك المظفر تقي الدين محمود والأخرى غازية خاتون أمها أم ولد فقد عقدها بحلب على السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ ملك الروم فمات ولم تحمل إليه ثم تزوجها الملك السعيد فتح الدين

عبد الملك بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فماتت عنده، وكان الملك العزيز عالي الهمة كريم الأخلاق واسع الصدر كثير الصفح والتجاوز حازم الرأي جواداً ممدحاً مدحه جماعة من الشعراء فكان يجيزهم الجوائز السنية ولما أخذ شيزر في سنة ثلاثين وستمائة من الأمير شهاب الدين يوسف بن عز الدين مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية قال شهاب الدين يحيى بن خالد بن القيسراني يهنئه: يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي لما رأت شيزر رايات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي فأعطاه حملة عظيمة وكان عمر الملك الناصر لما أفضى إليه الملك بعد وفاة والده نحو سبع سنين وقام بتدبير مملكته الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني والأمير عز الدين عمر بن مجلى ووزير الدولة جمال الدين القفطي ويحضر معهم جمال الدولة إقبال الخاتوني في المشورة فإذا اتفق رأيهم على شيء دخل جمال الدولة إلى الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل والدة الملك العزيز وعرفها ما اتفق الجماعة عليه فكانت الأمور منوطة بها، ولما تقررت هذه القواعد توجه القاضي زين الدين ابن الأستاذ وبدر الدين بدر بن أبي الهيجاء رسولين إلى الملك الكامل واستصحبا معهما كزاغند الملك العزيز وزرديته وخوذته ومركوبه فلما وصلا إلى الديار المصرية واجتمعا بالملك الكامل وأديا الرسالة وأحضرا

ما معهما أظهر الألم والحزن وقصر في إكرامهما وعطائهما وحلف للملك الناصر على الوجه الذي اقترح عليه وخاطب الرسولين بما يشير به من تقدمة الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر على العسكر وإن يقوم بتربية ابن أخيه الملك الناصر فلما رجع الرسولان إلى حلب وأنهيا إلى الصاحبة ذلك لم تره صوابا، وكذلك الجماعة القائمون بترتيب الدولة ثم بعد مدة يسيرة سير الملك الكامل خلعة للملك الناصر بغير مركوب وسير عدة خلع لأمراء الدولة وسير مع رسول آخر خلعة للملك الصالح أحمد صاحب عين تاب على أن يمضي بالخلعة إليه فاستشعرت الصاحبة وأرباب الدولة من ذلك وحصل عند الصاحبة وحشة من أخيها الملك الكامل بسبب ذلك فاتفق رأي الجماعة على أن يلبس الملك الناصر خلعة الملك الكامل ولم يخلع على أحد من الأمراء شيء مما سير إليهم ورد الرسول الوارد إلى الملك الصالح بخلعته ولم يمكنوه من الوصول إليه واستحكمت الوحشة في قلوبهم من الملك الكامل وفي سنة أربعين توفيت الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل صاحبة حلب أم الملك العزيز فاستقل ابن ابنها الملك الناصر بالسلطنة وأشهد على نفسه بالبلوغ وله نحو ثلاث عشرة سنة وأمر ونهى وقطع ووصل وجلس في دار العدل والإشارة للأمير شمس الدين لؤلؤ ولجمال الدولة إقبال الخاتوني والوزير القاضي الأكرم جمال الدين القفطي، وفي سنة ست وأربعين خرجت عساكر حلب مع الأمير شمس الدين لؤلؤ إلى حمص فنازلوها ونصبوا عليها المجانيق

وضايقوها شهرين ورسل الملك الأشرف صاحبها ووزيره مخلص الدين ابن قرناص تتردد إلى الأمير فخر الدين بن الشيح وهو بدمشق وإلى الملك الصالح نجم الدين وهو بالديار المصرية يطلب النجدة وكان الملك الصالح بأشمون طناج وقد عرض له ورم في مأبضه ثم فتح وحصل له منه ناصور تعسر بربوه وحصل في رئته بعد ذلك قرحة تيقن الأطباء أنه لا خلاص له منها لكنه لم يشعر بذلك فأشغله ما به عن أنجاد صاحب حمص ولما ضاق الأمر بصاحب حمص راسل الأمير شمس الدين لؤلؤ وطلب منه العوض فعوضه عن حمص تل باشر مضافاً إلى ما بيده من الرحبة وتدمر وتسلم حمص منه واطلع الأمير شمس الدين في أثناء ذلك على كتاب لمخلص الدين إلى الأمير فخر الدين ابن الشيخ يستعجله ليقدم ويدفع عسكر حلب وقد بسط القول في الكتاب فغضب الأمير شمس الدين وحمل الملك الأشرف على القبض على مخلص الدين فقبض عليه وعذبه حتى مات بتل باشر وتسلم الملك الأشرف تل باشر ولما بلغ ذلك الملك الصالح نجم الدين عظم عليه جداً وتوجه إلى دمشق في محفة لما به من المرض وتقدم إلى الأمير فخر الدين بالمسير بالعساكر إلى حمص لانتزاعها من يد نواب الملك الناصر فسارت العساكر ونازلوها وضايقوها ونصبوا عليها المجانيق ومنها منجنيق مغربي حجره مائة وأربعون رطلاً بالشامي

وجدوا في حصارها لأن الزمان كان شتاء وخرج الملك الناصر من حلب في منتصف رمضان فنزل بأرض كفر طاب ولم يزل الحصار مستمراً إلى أن ورد الشيخ نجم الدين الباذراني للإصلاح بين الملك الصالح نجم الدين والملك الناصر صاحب حلب على أن يقر حمص بيد الملك الناصر فوقع الاتفاق على ذلك ورحلوا عنها وكان سبب انتزاع الملك الناصر حمص من الملك الأشرف أنه سلم قلعة شميميس في سنة خمس وأربعين إلى الملك الصالح نجم الدين بسفارة مخلص الدين فعظم ذلك على الملك الناصر والأمير شمس الدين لؤلؤ وكرها مجاورة الملك الصالح لحلب وما والاها وخشياً أن تسلم إليه حمص ولهذا انتصر الملك الصالح للملك الأشرف وجهز العساكر لنجدته لكن فات الأمر فأمرهم بمحاصرة حمص وانتزاعها فجرى الأمر على ما ذكرنا. صرة حمص وانتزاعها فجرى الأمر على ما ذكرنا. وفي يوم الاثنين لعشر مضين من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين تسلم الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق صفواً عفواً بغير ممانعة ولا قتال ثم تسلم سائر الأعمال والقلاع المضافة إليها بعد ذلك. وفي سنة اثنتين وخمسين قدمت ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ ابن كيخسرو إلى دمشق وفي خدمتها الشريف عز الدين المرتضى وهي التي عقد عليها عقد الملك الناصر في بلاد الروم وكانت في تجمل عظيم يقصر عنه الوصف وأمها ابنة الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد

ذكر سيرة الملك الناصر

ابن أيوب، وفي سنة ثلاث وخمسين أولدها الملك الناصر ولده علاء الدين. ذكر سيرة الملك الناصر رحمه الله كان ملكاً جليلاً جواداً كريماً كثير المعروف غزير الإحسان حليماً صفوحاً حسن الأخلاق كامل الأوصاف جميل العشرة طيب المحادثة والمفاكهة قريباً من الرعية يؤثر العدل ويكره الظلم وزاد ملكه على ملك أبيه وجده فإنه ملك بلاد الجزيرة كحران والرها والرقة ورأس عين وما معها من البلاد وملك حمص كما ذكرنا ثم ملك الشام كما ذكرنا بعد قتل الملك المعظم فملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل والمعاقل والحصون إلى غزة وصفا له الشام والبلاد الشرقية وأطاعه صاحب الموصل وصاحب ماردين وعظم شأنه جداً، ثم دخل بعساكره إلى الديار المصرية سنة ثمان وأربعين وكسر عساكرها وخطب له بمصر وقلعة الجبل وكان يملك الإقليم ويستولي على الممالك الصلاحية كلها لولا ما قدره الله من ظهور طائفة من عسكر مصر وانهزامه إلى الشام ومقتل مدبر دولته الأمير شمس الدين لؤلؤ وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله فيما تقدم، وأقام الملك الناصر بدمشق عشر سنين حاكماً على الشام والشرق إلى أن قدر الله تعالى ما قدر من استيلاء التتر على البلاد وذهابه إليهم ومقتله رحمه الله ولم يكن لأحد من الملوك قبله مثل ما كان له من التجمل بكثرة الطعام وغيره فإنه كان يذبح فقي مطبخه كل يوم أربعمائة رأس من الغنم وأما غير ذلك من الدجاج وفراخ

الحمام والخراف الرضع والأجدية فلا يحصى فكانت تنزل فضلات السماط ويبيعها الفراشون والطباخون وأرباب النوالات والجرايات عند باب قلعة دمشق بأبخس الأثمان فكانت تعم أهل دمشق وكان أكثر الناس بدمشق يغنيهم ما يشترونه منها عن الطبخ في بيوتهم، وقال علاء الدين علي بن نصر الله جاء السلطان الملك الناصر رحمه الله إلى داري بغتة ومعه جماعة كثيرة من أصحابه فمددت له في الوقت سماطاً فيه من الأطعمة الفاخرة ومن أنواع الدجاج المحشو بالسكر والمقلوبات شيء كثير فبقي متعجباً وقال في أي وقت تهيأ لك عمل هذا كله فقلت والله هذا كله من نعمتك ومن سماطك ما صنعت لك شيئاً منه؟ وإنما اشتريته من عند باب القلعة وحكيت له ما يباع من ذلك، ومثل هذا لم يتفق لملك قبله وكان يصل إلى الرسل والوافدين إليه والقاصدين بابه من إحسانه وعطاياه وبره ما لم يصل من أحد من الملوك إلى من يقصدهم. وحكى لي بهاء الدين عبد الله بن محبوب رحمه الله وكان متولياً نظر الحوائج خاناة التي له بدمشق أن نفقة مطابخه وما يتعلق بها في كل يوم فوق عشرين ألف درهم، وكان الملك الناصر رحمه الله حليماً إلى الغاية عظيم العفو عن الزلات لا يرى المؤاخذة والانتقام بل سجيته الصفح والتجاوز تجاوز الله عنه وعفا عن سيآته، اعترضه شخص يوماً بورقة فأمر بأخذها منه وقرأها فوجد فيها الوقيعة فيه وذمه فقال لبعض غلمانه

قل له يخرج من دمشق إلى حيث شاء فأنا ما أوذيه ولا أقابله على فعله، وتقرب إليه جماعة من الأدباء والفضلاء فكان يحاضرهم أحسن محاضرة وكان على ذهنه شيء كثير من الأدب وأشعار العرب وغيرهم من المتأخرين، وينظم نظماً حسناً وله نوادر حلوة وأجوبة مسكتة ولما بنى الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله مدرسته بدمشق وذكر فيها الدرس بنفسه حضر الملك الناصر رحمه الله والأكابر من الأمراء والفقهاء وغيرهم وجرت المناظرة بين الفقهاء، وكان ممن حضر تاج الدين الإسكندري المعروف بالشحرور وكان كثير الصياح قليل الفوائد فصاح في ذلك اليوم صياحاً كثيراً والفقهاء معرضون عن جوابه فقال مالي نوبة وكرر ذلك مراراً فأشار الملك الناصر بأصابعه الثلاث يعني نوبة حمى ربع وهي المعروفة عند العوام بالمثلثة، وكان رحمه الله حسن المباسطة مع جلسائه وكان في خدمته جماعة كثيرة من الفضلاء والعلماء والأدباء والشعراء وغيرهم ولهم عليه الرواتب السنية وكان حسن العقيدة والظن بالصالحين يكرمهم ويبرهم ويجري عليهم الرواتب ولما توجه والدي رحمه الله إلى دمشق سنة خمس وخمسين قصد زيارته إلى جبل الصالحية بزاوية الشيخ علي القرشي رحمه الله ولما دخل عليه بالغ في التأدب معه وحسن الاستماع لحديثه ولم يستند إلى الحائط في جلوسه، ثم لما عزم والدي رحمه الله على العود إلى بعلبك جهز له محفة وعدة بغال وجماعة من المحفدارية وغيرهم فركب بها إلى بعلبك وأجرى للناس من

الفقراء والعلماء وأرباب البيوت من الرواتب ما يجل مقداره ويعظم مبلغه هذا أنشأه هو خارجاً عما استمر به مما أطلقه الملوك قبله وكان إذا مات من له من ذلك شيء لا يخرج به عن ولده ومن مات من أرباب المناصب وله ولد فإن كان كافياً رتبه عوض أبيه وإن كان صغيراً استناب عنه إلى حيث يتأهل للمباشرة، وكان الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصاري رحمه الله يتردد إلى دمشق في مهمات مخدومه الملك المنصور صاحب حماة وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه جداً وكان يقيم في خدمته المدة الطويلة، وبره الكثير واصل إليه ويحضر عنده في غالب الأوقات ويحاضره ويقع بينهما في حال الغيبة مكاتبات كثيرة وللشيخ شرف الدين فيه مدائح نادرة وكان سافر في خدمته إلى مصر سنة ثمان وأربعين وكتب إليه الملك الناصر رحمه الله مرة كتاباً بخط نظام الدين بن المولى وكتب الملك الناصر بخطه بين أسطر الكتاب من شعره: إن طال ليلك يا عبد العزيز لقد ... أسهرت في وصفك الشبان والشيبا وإن رميت لأجلي إن عرضك لم ... يعرض له دنس يوماً ولا شيبا وصبر يوسف أدناه إلى شرف ... فاصبر ألست من الأنصار منسوبا وأكرم به نسباً عز النبي به ... وصار في النيرات الزهر محسوبا وكتب بخطه إلى وزيره مؤيد الدين القفطي رحمه الله.

أيا راكباً يطوي الفلا بشملة ... عذافرة وجناء من نسل شدقم إذا حلبا وافيتها حي أهلها ... وقل لهم مشتاقكم لم يهوم ومن شعره رحمه الله: الأهل يعيد الله وصل الحبائب ... فقد طال حزني من دموعي السواكب كمجمر جرت في حلة الشوق من دمى ... وحرث دموعي الشهب مثل الجنائب يروم اللواحي من سواي تصبراً ... وكم خاب مني من عدو وصاحب قضى الصبر في توديع بعض ترائبي ... وأودع ناراً في سويدا ترائبي جفا النوم عيني حين فاضت مدامعي ... وخاف هلاكاً في خلال السحائب وكيف أرجى النوم بعد بعادكم ... وفي قلبي الأشواق من كل جانب وقيل إنه إنما قتل بالسيف كما قتل من معه رحمهم الله تعالى وخلف عدة أولاد ذكوراً وإناثاً درج أكثرهم بعده إلى رحمة الله تعالى وتزوج الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة لإحدى بناته، وقيل كان قتله في الخامس والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين وستمائة وعمل عزاؤه في سادس وعشرين ربيع الأول سنة تسع وخمسين وستمائة بقلعة الجبل من الديار المصرية رحمه الله، ورثاه غير واحد من شعراء دولته وغيرهم فممن رثاه أمين الدين علي بن عثمان بن علي بن سليمان بن علي السليماني رحمه الله وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى فقال حين توجه الملك الناصر إلى التتار وانقطعت أخباره والتبس أمره:

بكى الملأ الأعلى على الملك الأعلى ... وأصبحت الدنيا لفقدانه ثكلى تولى صلاح الدين يوسف وانقضت ... محاسنه الحسنى وسيرته المثلى وفارق ملك الشام والشرق عنوة ... فريداً كما جردت من غمده نصلا فأضحى أسيراً في التتار مروعاً ... فبكوا عزيزاً لم يعرف الذلا وإني لأرجو أن يكون كصارم ... يجرده قين ليحكمه صقلا تناقضت الأخبار عنه لبعده ... فيا لحديث ما أمر وما أحلى فيا ليت عيني عاينت كنه حاله ... لقد شفني حزني عليه وقد أبلى أبكيه في الأسرى وأرجو خلاصه ... رجاء بعيد أو أرثيه في القتلى ابن مخبراً يا يوسف بن محمد ... أحي ترجى أنت أم ميت تسلى ووالله يسلوك قلب ابن حرة ... جعلت له من طولك الفرض والنفلا علام ثنيت العزم عما قصدته ... ولم لا تبوأت السماوة والرملا وكنت كطير طالب غير وكره ... فحيث يحل الليل من وجهه حلا وداومت أكل الأيم والضب برهة ... وثورت في البر النعامة والصعلا إلى أن يؤوب الحظ أو ينجلي لنا ... دجى الخطب أو أن تأمن الخوف والخبلا وقد كان محض الرأي قبل عواملا ... ملا مشرعة عرصانها تسبق النبلا ترى لهم عند اللقاء تسرعاً ... إلى الطعن صعباً عاينوا الأمرا وسهلا

كما فعلت أبطال مصر وقيلها ... فيا طيب ما أبقى ويا حسن ما أبلى غزوا في سبيل الله غزوة واحد ... فما قفلوا الأوقد دمروا الكلا وجاؤا بهم قتلى وأسرى رؤوسهم ... على قصب المران تحسبها أثلا وأول ما أرضي الإله ورسله ... وكان دليل النصر أن قتل الرسلا فلو بادرت أقيالك الحرب مثلهم ... ظفرتم ولم يهتز عرش ولا ثلا لحا الله قوماً أسلموك إلى العدى ... فما حفظوا عهداً ولا راقبوا إلا جعلت إليهم أمر ملكك برهة ... فما أحسنوا قولاً ولا أحسنوا فعلا وما عذر قوم خلفوك بقفرة ... ومروا كما نفرت عن محرم رجلا وحاق بهم ما أضمروه وصادفوا ... على أثر ذاك النهب والسبي والقتلى لقد أفسدوا آراءهم وحلومهم ... وأموالهم والأرض والحرث والنسلا وما لعبيد فارقوك جهالة ... لقد واصلوا من بعدك الويل والخبلا زوى ملك مصر عنهم وجه بره ... فخابوا ولا علا أصابوا ولا نهلا وكم أهيف يبدي لنا الذل قده ... وقد كان قبل اليوم يبدي لنا الدلا وكم وجنة صفراء بعد احمرارها ... وكم مقلة قرحاء عهدي بها كحلى وكم راكب نعليه بعد مطهم ... من الجرد لا يرضى الهلال له نعلا وعلمك بالستر العلائي أنها ... مروعة من يوم فارقتها ثكلى تضم علاء الدين ضم غريبة ... زوى الدهر عنها الملك والآل والبعلا فهل رقة أو رحمة لغريبة ... غدت بعد ملك الشام كافلة طفلا فؤادي وطرفي منزلاك على النوى ... فغيرك لا يحلو لدي ولا يحلى وها أنا قد أعرضت عن كل منعم ... فلا أحد أدعوه بعدك للجلى

ضممت يميناً تعرف البذل دونه ... وما صنت محباقل ما عرف البذلا قنعت فما لي حاجة غير ما دعت ... إليه ضروراتي ومن قنع استعلى فما نازع النمل الرحال بقوة ... ذخيرته لكنهم نازعوا النملا ولما بلغه أن التتار قتلوه رحمه الله وتحقق وفاته قال يرثيه: رمت الخطوب فاقصدتك نبالها ... والأرض من بعدك زلزلت زلزالها أأبا المظفر يوسف بن محمد ... لا قلت بعدك للحوادث يا لها خذلتك أسرتك الذين ذخرتهم ... للنائبات وقد وقفت حيالها ماذا تقول جحافل ملمومة ... ملأت سهول بلادها وجبالها رهبت وما شهدت وغي فاستسلمت ... من قبل أن تضع الحروب سجالها تركوك منفرداً بقطية ذاهلا ... تسفى عليك العاصفات رمالها تبكيك ولولة الحريم حواسراً ... من كل معولة تضم عيالها ومصونة في خدريها ما شاهدت ... قبل الرزية ما يروع بالها برزت ولم تك برزة من قبلها ... كيما يشاهد ذو الحمية حالها والقوم إرسالاً يوالي بعضهم ... بعضاً كسرب مهاً رات رئبا لها حتى إذا دنت الجياد مغيرة ... ووقفت فرداً لا تطيق نزالها

أقبلت وجه الأعوجى مغارة ... تردي الملحج راكباً أهوالها ونزلتم بعد الكلال بقفرة ... عذراء يذعر جنها وغوالها صرت جنادبها وهجر يومها ... واشتف حر هجيرها أو شالها والخيل غائرة العيون من الظمأ ... صبراً يقل على الوجى أمثالها فإذا وردت بها المياه نواضبا ... جثمت تشف بركتها صلصالها وطئت سنابكها مواقد حره ... لولا الحميم إذاً لذاب نعالها حتى إذا الكرك استبان منارها ... متأمل ورأى الغلام قلالها وافيتها فرأيت أمر مليكها ... وقفاً كما سمت اليمين شمالها في حيث يطرح المروع سيفه ... أمناً وتنبذ قينة خلخالها حتى إذا ضاقت عليك برحبها ... ورأيت أبعد خطة أميالها جنح الشقي إلى مسالمة العدى ... ليريك عاجل صرعة ووبالها وطعمت في عود الممالك عامداً ... نحو التتار فكان ذاك زوالها كيف الخلاص من المنية لامرئ ... من بعد ما نصبت عليه حبالها عظم المصاب فلو رآها شامت ... لبكى لها أو حاسد لرثى لها أأبا المظفر يوسف بن محمد ... جرعت نفسي صابها وحبالها إن الملوك إذا تخاذل بعضها ... عن بعضها ففعالها أفعى لها ذكرى مصيبات الملوك تعللاً ... إذ كان حالك في المصيبة حالها إني لاجتنب المراثي طامعاً ... ببقاء نفسك بالغاً آمالها

وقال السيف الشطرنجي يرثيه: كل حي مصيره للفناء ... ثم لم يبق غير رب السماء مالك قادر رؤوف رحيم ... باسط الرزق كافل بالعطاء حامل للمقل كهف لذي الفا ... قة أرجوه عند يوم اللقاء هو ربي وراحمي ومجيري ... ومعيني في بكرتي وعشائي فالسعيد الذي يؤمل نعما ... هـ بحسن اليقين في الابتغاء فانتهز فرصة التقى غير وانٍ ... لتكن في غدٍ من الأتقياء ما الغنى السعيد والبائس المس ... كين حاليهما إذاً بسواء من له الله فهو عبد منيب ... ومن احتال فهو في الأشقياء إنما هذه الحياة غرور ... ومتاع الدنيا لنا كالهواء بينما المرء راتع في رياض ... من شباب جار على الاستواء غافل في نهاره وليال ... يه مجد في أخذه والعطاء إذ أتاه داع من الموت يدعو ... هـ إلى حفرة من الغبراء منها: أين من كان للأنام جمال ... ومعيناً على بلوغ الرجاء أين من كان جوده يخجل السحب وأين المرجو بالشهباء أين كانت الملوك لديه ... تتوارى من خيفة وحياء سلبته أيدي المنون فأمسى ... ثاوياً لا يعد في الأحياء لم ترد الجيوش عنه قضاء ... لا وما قد أعد للأنكاء

هتكت بعده وجوه نساء ... كن من قبل في حمى وخباء واستبيحت دماؤهم في ديار ... جمعتهم في ساعة السراء فلهم أسوة بآل رسول ال ... له في حال شدة ورخاء كان والله مالكاً طاب أصلاً ... وهو فرع متوج بالبهاء ناصر الحق مالك الأرض طراً ... جامع الفضل أوحد في الذكاء هو مولى أدعوه بالملك النا ... صر ملك سما على الجوزاء ما رأى الناس مثله في زمان ... نحن فيه فكيف لي بالبقاء كان والله للمقلين كنزاً ... وجواداً يغني عن الأغنياء ورؤوفاً بكل قاص ودان ... في دنو خال من الكبرياء فعليه من الإله تعالى ... رحمة أنزلت على الأولياء وله الحور في جنان أعدت ... لأولي العزم شاكر للعطاء قد سقى يوسف الناس كأس صبر ... مرة لا تقر في الأحشاء بفراق وبعد عهد وهجر ... وشتات خلا من الالتقاء فهم في محل يعقوب في الحز ... ن وأجراء جمعهم بالبكاء فسقى الله تربة هو فيها ... مزنة في صباحه والمساء كي ترى تربها عبيراً سحيقاً ... طبن نشراً عن روضة غناء لست أرجو من بعده اليوم خلقاً ... خاب سعي إذاً وقل رجائي كدت من حرقة الفؤاد عليه ... أجري دمعاً من مقلتي كالدماء فسقى عهده عهاد سحاب ... من رضا الحق لا من الأنداء

السنة الستون وستمائة

السنة الستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة المستنصر بالله المتوجه إلى العراق وملوك الأطراف على القاعدة في السنة الخالية وقد استولى الملك الظاهر على دمشق وبعلبك والصبية وحلب وأعمالها خلا البيرة فإنها بيد البرلي مع ما كان مستولياً عليه وخلا الملك السعيد صاحب ماردين فإنه توفي وولي ولده الملك المظفر قرا أرسلان وخلا مظفر الدين صاحب صهيون فإنه توفي أيضاً وولي بعده ولده سيف الدين محمد والملك الظاهر على غيثاء من أعمال الشرقية عائداً من الشام ووصل يوم السبت ثاني المحرم وفي الثالث منه خلع على الأمراء ومقدمي الحلقة والصاحب بهاء الدين وقاضي القضاة تاج الدين وأكثر الحاشية وهو اليوم الذي كان فيه المصاف بين الخليفة رحمه الله والتتار على ما تقدم في حوادث السنة الخالية. وفي الثالث والعشرين منه أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخزندار على بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأمر السلطان بعمل العرس في الميدان الأسود تحت القلعة واحتفل به احتفالاً لم ير مثله وبسط يده بعد أيام في الجيوش والإقطاعات والنظر في أمر الرعية. وفي ثالث شهر صفر استدعى الملك الظاهر القاضي برهان الدين قاضي القضاة بمصر وأعمالها وطلب منه محاققة بأرباب الودائع المختصة بالصاحب شرف الدين الفائزي فتوقف عن ذلك فغضب الملك الظاهر

ذكر عود البرلي إلى حلب وخروجه عنها

لتوقفه وعزله عن القضاء وأضاف ما كان إليه منه إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز. ذكر عود البرلي إلى حلب وخروجه عنها كان المشار إليه قد انهزم بين يدي الرشيدي وعبر الفرات إلى حران وشن الغارات على البلاد التي كانت في يد نواب التتر حتى وصل آمد، فلما عاد الرشيدي إلى مصر عاد البرلي إلى البيرة وبعث جماعة من أصحابه إلى حلب فلما اتصل بالبندقداري قربهم خرج من حلب وقصد حماة فأقام في بلدها ودخل البرلي حلب مظهراً طاعة الملك الظاهر وأقام بها إلى أن كتب إليه الملك الصالح صاحب الموصل يعلمه بنزول التتر عليه ويستنجده فكتب إلى الملك الظاهر يستأذنه في التوجه لنصرته فأجابه وأمره بالتربص بحران إلى أن يصل إليه عسكر من جهته ينجد به صاحب الموصل فلما وصل حران أقام بها ثم خاف من العسكر الواصل من مصر أن يقبض عليه فتوجه إلى سنجار وأما الملك الظاهر فتقدم إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومي بالمسير إلى حلب ثم إلى الموصل وجهز معه عسكراً وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين البندقداري يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما إذا وصل إليهما حيث توجه فلما وصلت العساكر تل السلطان واتصل بهم توجه البرلي إلى سنجار بعثوا إلى حلب من تسلمها نيابة عن

البندقداري ثم عادت العساكر إلى أنطاكية فنزلوا عليها وشنوا الغارات على نواحيها فداراهم بها بإقامة وضيافة وسألوهم أن يرحلوا عنهم وإن يحملوا إليهم ما لا مصانعة فوقع الخلف في تقرير المال بين الأمير علاء الدين طيبرس والأمير شمس الدين سنقر فرحلا بالعسكر ونزلا على تل السلطان فأتاهم أمر السلطان أن يتوجه البندقداري إلى حلب ويعود طيبرس إلى دمشق وسنقر الرومي إلى مصر فعاد الرومي في شهر رمضان فلما اجتمع بالسلطان أوغر صدره على طيبرس فكان ذلك أحد الأسباب في عزله وحبسه بقلعة القاهرة وكان ما قيل عنه اختلاق لا أصل له، وفي السابع والعشرين من ربيع الآخر وصل إلى القاهرة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي القبني ابن الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد وصحبته زين الدين صالح بن محمد بن أبي الرشيد الأسدي الحاكمي المعروف بابن البناء وأخوه شمس الدين محمد بن نجم الدين محمد بن المشاء واحتفل الملك الظاهر بلقائه وأنزل بالبرج الكبير داخل القلعة ورتب له ما تدعو حاجته إليه ووصل معه ولده. وفي ربيع الآخر عزل الأمير جمال الدين آقوش النجيبي عن أستاذ دارية الملك الظاهر وولي الأمير عز الدين أيدمر السعدي أحد مماليك الملك الظاهر.

وفي يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب حضر الملك الظاهر في محاكمة إلى قاضي القضاة تاج الدين بدار العدل وسبب ذلك أنه كان في أيام الملك المعز حفر بئراً عند زاوية الشيخ أبي السعود وبنى بعضها ثم خرج إلى الشام فاستولى عليها جمال الدين محمود أستاذ دار بهادر وأتمها وبنى حوضاً يأتي إليه الماء من البئر واتفق موت بعض مماليك الملك الظاهر فدفنه قريباً من الزاوية وذكر أمر البئر فأخبر بقصتها فاستدعى جمال الدين المذكور وقال له البئر ملكي وأنا أنشأتها فقال يا خونداني أتممتها وبنيت إلى جانبها حوضاً ووقفتهما ولا يمكنني أفعل إلا ما يقتضيه الشرع فحضر الملك الظاهر دار العدل لمحاكمة المذكور فقام من فيها وأراد القاضي القيام فقال له لا تقم فإني جئت محاكماً ووقف مع الغريم وادعى بالبئر فأنكر الغريم وأحضر الملك الظاهر من شهد له فتقدم القاضي إلى الغريم بتسليم البئر إليه. وفي شهر رجب خرج جماعة من الإسماعيلية على الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وهو راكب على جسر العاصي نهر حماة وجرحوه وسبب ذلك أنه لما خرج من حلب عند مجيء البرلي إليها مر على سرمين وكان بها وال من قبل الدعوة يدعى شرف الدين ثابت بن مدس فأخرج له ضيافة على يد نقيب الدعوة فلما حضر بين يديه قال له أين سكينك؟ قال سكاكيننا مخبأة لأعداء السلطان الملك الظاهر فأمر بضربه فضرب ضرباً مبرحاً وأمر به فرمى في مسيل ماء

فجاء أهله وأخذوه فمات من ليلته فاجتمع أقاربه وقصدوا الحصون وطلبوا من الرضا ثأرهم فدافعهم وقالوا إن لم تأخذ بثأرنا دخلنا بلاد الفرنج وتنصرنا، فسير في وثب عليه فقبض على جماعة منهم فقتلهم وحبس جماعة وأخذ أموالهم، ووصل الخبر إلى الملك الظاهر فقبض على من بمصر من نوابهم ورتب له طبردارية يركبون بين يديه فوصلت إليه كتب الرضا يستعطفه ويتضرع إليه ويتنصل فرضي عنه. وفي شوال رتب الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نائباً عن السلطنة بحلب، وفيها أغار عسكر سيس ورجالة إنطاكية على الفوعة من بلد حلب ونهبوا وأفسدوا فركب إليهم الشهابي وصحبته عسكر فكسرهم وأخذ منهم جماعة فسيرهم إلى مصر فوسطوا. وفي شوال سير الملك الظاهر الأمير عز الدين الدمياطي والأمير علي الدين الركني فقبضا على الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة وباشر الركنى النيابة بدمشق إلى أن قدم الأمير جمال الدين النجيبي متولياً. وفي ذي القعدة خرج مرسوم الملك الظاهر إلى قاضي القضاة تاج الدين أن يستنيب من المذاهب الثلاثة فاستناب صدر الدين سليمان الحنفي والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي وشرف الدين عمر السبكي المالكي.

ذكر ما آل إليه أمر أولاد صاحب الموصل

وفي يوم الخميس رابع وعشرين ذي الحجة وصلت طائفة من التتر إلى القاهرة مستأمنين وهم أول من وصل إليه منه فغير زيهم وأقطعهم أخبازاً وأنفق فيهم وأضاف كل جماعة منهم إلى مقدم ثم تواتروا بعد ذلك طائفة بعد أخرى. ذكر ما آل إليه أمر أولاد صاحب الموصل بعد فراقهم المستنصر بالله لما فارقوه وصلوا سنجار وكاتب الملك الصالح لمن بالموصل يستشيرهم فأشاروا إليه بالتوجه إليهم فسار إليهم في العشرين من ذي الحجة من السنة الخالية ومعه نحو ثلاثة مائة فارس وكان بالموصل أربعمائة فارس فدخل الموصل وبقي اخوته بسنجار، فلما اتصل بهم قتل الخليفة ونزول التتر على الموصل لحصار أخيهم الملك الصالح خرجوا من سنجار وتوجهوا إلى الملك الظاهر فأحسن إليهم واقطع الملك المجاهد سيف الدين إسحاق فوق المائة ألف درهم لخاصته ولأولاده كل منهم على انفراده إقطاعاً جزيلة ورتب لأخواته الثلاث راتباً وأقطع لمماليكه الذين معه أيضاً وأضافهم إليه وكذلك اعتمد مع أخيه الملك المظفر علاء الدين لخاصته ومماليكه أيضاً. ذكر حصار الموصل في أوائل المحرم قصدت التتر الموصل ومقدمهم صندغون ومعهم

الملك المظفر صاحب ماردين بعسكره وشمس الدين ابن يونس المشذ وسيف الدين بيبرس أمير شكار البدري ونصب عليها التتر أربعة وعشرين منجنيقاً وضايقوها أشد مضايقة ولم يكن بها سلاح يقاتلون به ولا قوت يمسك رمق من بها وغلا فيها السعر حتى بلغ المكوك بها ومقداره ربع أردب مصري أربعة وعشرين ديناراً فاستصرخ الملك الصالح بالبرلي فخرج من حلب وسار إلى سنجار فلما اتصل بالتتر وصوله عزموا على الهرب واتفق وصول الزين الحافظي إليهم من عند هولاكو يعرفهم أن الجماعة التي مع البرلي قليلة والمصلحة أن تلاقوهم فقوى عزمهم الحافظي قاتله الله فسار صندغون بطائفة ممن كان على حصار الموصل عدتها عشرة آلاف فارس وقصد سنجار وبها البرلي ومعه تسع مائة فارس غزى وأربعمائة من التركمان ومائة من العرب فخرج إليهم بعد أن تردد في ملتقاهم يوم الأحد رابع عشر جمادى الآخرة فكانت الكرة عليه فانهزم جريحاً في رجله وقتل ممن معه جماعة منهم الأمير علم الدين الوباش والأمير عز الدين أيبك السليماني من العزيزية والأمير بهاء الدين يوسف بن طرنطاي أمير جاندار الظاهري وسيف الدين كيكلدى الحلبي الناصري وعلم الدين سنجر الناصري وهؤلاء من أيعان الأمراء وشجعانهم وفرسانهم وقاتلوا في ذلك اليوم قتالاً عظيماً وأبلوا بلاء حسناً وأنكوا في العدو نكايات عظيمة ثم تكاثر التتر عليهم فاستشهدوا إلى رحمة الله تعالى واستشهد معهم من أولي البصائر جماعة يطول ذكرهم وأسر الأمير

ذكر استيلاء التتر على الموصل

علم الدين جلم الأشرفي وولده والأمير سيف الدين بكتوت الحراني الناصري وغيرهم ونجا الأمير شمس الدين البرلي في جماعة يسيرة من العزيزية والناصرية منهم الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي وعلاء الدين آق سنقر الدوادار الناصري فوصلوا إلى البيرة ففارقه أكثرهم ودخلوا الديار المصرية ولما حل بالبيرة وصله قونو بن خاله وزين الدين قراجا الجمدار الناصري وكان أخذ أسيراً من حلب رسلاً من هولاكو يطلبونه إليه ليقطعه البلاد فقال أنا مملوك السلطان الملك الظاهر وما يمكنني مفارقته واختيار هولاكو عليه ثم سير الكتب إلى الملك الظاهر وكتب يطلب منه أماناً فسير إليه كتاباً بما سأل ويأمره فيه بالمصير إلى مصر فتوجه من البيرة في تاسع عشر شهر رمضان واجتمع بالبندقداري بعد توثق كلاهما بالأمان ثم وردت كتب الملك الظاهر إلى جميع نواب الشام أن يخلوا البلاد وينضموا إلى دمشق ودخل البرلي مصر يوم الاثنين غرة ذي الحجة فأنعم عليه الملك الظاهر وعين له سبعين فارساً. ذكر استيلاء التتر على الموصل وقتل الملك الصالح صاحبها لما انهزم البرلي من التتر عاد صيدغون إلى الموصل بالأسرى فأدخلهم من النقوب إلى الملك الصالح ليعرفوه بكسرة البرلي وانهزامه

ويشيروا عليه بالدخول في الطاعة ثم استمر الحصار إلى مستهل شعبان فطلبوا علاء الملك بن الملك الصالح وأوهموا أنه وصل إليهم كتاب هولاكو مضمونه أن علاء الملك ما له عندنا ذنب وقد وهبناه ذنب أبيه فسيره إلينا لنصلح أمرك معه وكان الملك الصالح قد ضعف وغلبت المماليك على رأيه فأخرج إليهم علاء الملك ولده فلما وصل بقي عندهم اثنى عشر يوماً ووالده يظن أنهم سيروه إلى هولاكو ثم كاتبوه بعد أيام يأمرونه بتسليم البلاد وإن لم يفعل لا يلوم إلا نفسه إذا دخلنا البلد بالسيف وقتلنا من فيه فجمع الملك الصالح أهل البلد والجند وشاورهم فأشاروا إليه بالخروج فقال تقتلوا لا محالة وأقتل بعدكم فصمموا على خروجه فخرج إليهم يوم الجمعة خامس عشر شعبان بعد الصلاة وقد ودع الناس ولبس البياض فلما وصل إليهم احتاطوا به ووكلوا عليه وعلى من معه وحملوه إلى الجوسق وأمروا شمس الدين بن يونس الباعشيقي بالدخول إلى البلد فدخل ومعه الفرمان ونادى بالأمان فظهر الناس بعد اختفائهم وشرع التتر في خراب الأسوار فلما اطمأن الناس وباعوا واشتروا ودخلوا البلد وأجالوا البلد وأجالوا السيف على من فيه تسعة أيام وكان دخولهم في السادس والعشرين من شعبان وهدموا السور ووسطوا علاء الملك وعلق على باب الجسر ثم رحلوا في سلخ شوال فقتلوا الملك الصالح في طريقهم وهم متوجهون إلى بيوت هولاكو. وفي شهر ذي الحجة ظهر باب بين القصرين عند الركن المخلق

ذكر رسل الملك الظاهر إلى السلطان عز الدين

بالقرب من رحبة العيد بالقاهرة وفيه حجر مكتوب عليه هذا مسجد موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام فجددت عمارته وهو الآن يعرف بمعبد موسى صلى الله عليه وسلم. ذكر رسل الملك الظاهر إلى السلطان عز الدين صاحب الروم لما بلغ الملك الظاهر خلف السلطان عز الدين لأخيه السلطان ركن الدين وخروجه عن بلاده وانحيازه إلى أنطاكية بعث إليه عماد الدين عبد الرحيم الهاشمي والأمير شرف الدين الجاكي فوافياه بإنطاكية فأنهيا إليه رسالة الملك الظاهر ومضمونها تثبيت جنانه وترغيبه في انحيازه إليه ليعاضده ويساعده بخيله ورجله ويبذل نفسه لقصد البلاد الرومية حتى يتسخلصها كلها له فاعتذر بأعذار ظهر فيها التلوم والتوقف والتأني والتأفف ووعدانه متى لم يستتب له حال وضايقته التتر لم يكن له إلا حرم السلطان ملجأ ففارقاه على ذلك وعادا ثم اختل حاله وتلاشت أموره بمضايقة التتر بلاده وذلك أنه لما خرج عنها وقصد أنطاكية قصد التتر نائبه الأمير شمس الدين أرتاش البكلربكي مع مقدمهم على جق نوين فهزموا عسكره وقتلوه واستولوا على ما كان بيده من البلاد خلا بلاد أوج فلم ير السلطان عز الدين بداً من قصد الأشكرى فلما وصل إليه

ذكر الخلف الواقع بين هولاكو وبركة

سأله المساعدة فوعده وسوفه فتقاضاه فقال مبعداً له أن تنصرت أزوجتك ابنة أختي وساعدتك على عدوك فهم أن يفعل ذلك ليبلغ غرضه من نصرته على أخيه فأشار عليه من معه أن لا تفعل فإنه متى فعل ذلك نفرت قلوب من معه من الجند وخذلوه فأمسك وتغير باطن الأشكري عليه فبعث إليه مخادعاً له أنه قد ظهر لي رأي في معونتك ولا بد من الاجتماع بك فخرج من قسطنطينية فمر في طريقه على قلعة فنزل جانبيها منها وقبض عليه بوصية تقدمت من الأشكري فلم يزل محبوساً إلى أن أغارت طائفة من أصحاب بركة على أطراف بلاد الأشكري وحاصروا القلقة التي فيها السلطان عز الدين فوقع الاتفاق بينهم على أنهم إن سلموه لهم يرحلوا عنها فسلموه إليهم فانطلقوا به إلى بركة. ذكر الخلف الواقع بين هولاكو وبركة قال عز الدين محمد بن شداد رحمه الله حكى لي علاء الدين علي بن عبد الله البغدادي قال أخذت أسيراً من بغداد لما أخذتها التتر وكنت معهم مختلطاً بهم مطلعاً على أخبارهم فلما كانت سنة ستين ورد من عند بركة رسولان أحدهما يدعى بلاغا والآخر ططر برسالة مضمونها ما جرت به العادة من حمل ما كان يحمل إلى بيت باتو مما يفتح من البلاد وكانت العادة أن جميع ما يحصل في البلاد التي يملكونها ويستولون عليها من نهر جيحون مغرباً يقسم خمسة أقسام قسمان لا لقان وهو الملك الأعظم وقسمان للعسكر وقسم لبيت باتو فلما مات باتو وجلس

بركة على التخت بدلاً منه لم يوصل إليه هولاكو مما أخذه من العراق ولا من الشام شيئاً مما كان يوصله إلى باتو ولما بعث بركة رسله بعث معهم سحرة ليفسدوا سحرة هولاكو وكان عند هولاكو ساحر يسمى تكتا فأعطوه هدية أرسلها بركة إليه معهم فلما وصلت الرسل بعث إليهم هولاكو من يخدمهم وساحرة من الخطا يتسمى كمشتا لتطلعه على أحوالهم فتعرفت أحوالهم وأخبرته فقبض عليهم وحبسهم في قلعة تلاثم قتلهم بعد خمسة عشر يوماً وقتل ساحره تكتا معهم فلما بلغ بركة ذلك أظهر العداوة وبعث رسله إلى الملك الظاهر يحرضه على اجتماع الكلمة على قتاله وسيأتي إن شاء الله. وفي هذه السنة بعث هولاكو إلى مقدم عسكر المغل بالروم يأمره بقتل من ارتاب منه من التركمان فقصد طائفة منهم وقتل منهم خلقاً كثيراً وكان هذا سبب انحياز بقيتهم إلى الشام. وفيها اشتد الغلاء بالشام فأبيع الرطل اللحم بالدمشقي بستة دراهم وبسبعة دراهم والغرارة القمح بأربع مائة وخمسين درهماً والشعير بمائتي وخمسين درهماً والمكوك القمح بحماة وبحلب بأربعمائة درهم واللحم الرطل بالحلبي بثمانية دراهم ورطل الخبز بثلاثة دراهم ثم بلغ خمسة ثم اشتد الغلاء في جميع الأصناف ومات خلق كثير من الجوع بحلب وحماة وغيرهما. وفيها في أولها وصل إلى الديار المصرية رسول يدعى جمال الدين

فصل

حسن بن ثابت من جهة رضي الدين أبي المعالي ونجم الدين إسماعيل بن الشعراني المستوليين على حصون الإسماعيلية بالبلاد الشامية برسالة تتضمن طلب أملاك الدعوة في الديار المصرية والبلاد الشامية وطلب الإقطاعات المعروفة بهم وعلى يده هدية كجاري العادة وأحضر أيضاً السكين والثوب والأمان إلى بين يدي الملك الظاهر فأجابه إلى جميع مطلوبه وقال له قد ثبت عندي أنك من أكابر أمراء الجبل وقد بلغني أن رضي الدين قد مات وقد اخترت أن أجعلك نائباً عني في سائر حصون الدعوة وتكون في مقام الرضي فأجابه إلى ذلك وكتب له الملك الظاهر تقليداً فأخذه وعاد إلى الحصون فوجد رضي الدين مريضاً فكتم الحال إلى أن توفي الرضي في أواخر هذه السنة فأظهر التقليد وقرأه على أهله وأقاربه بحصن الكهف وعرف به ابن الشعراني فما أمكنه إلا موافقته فخالفه جمال الدين واتفق معه وفي العين قذى وسمع صارم الدين مبارك ولد رضي الدين بذلك فعصى عليهما في قلعة العليقة. فصل فيها درج إلى رحمة الله تعالى الإمام المستنصر بالله أبو القاسم أحمد أمير المؤمنين ابن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد وبقية نسبه إلى العباس بن

عبد المطلب رضي الله عنه مذكور في ترجمة ابن أخيه المستعصم بالله رحمه الله في سنة ست وخمسين وستمائة فلا حاجة إلى إعادته. وقد ذكرنا قدومه إلى الديار المصرية وثبوت نسبه ومبايعته وتجهيز الملك الظاهر له ووصلوه إلى العراق وملتقاه عسكر التتار وكسرهم لعسكره في حوادث السنة الخالية وإن كان المصاف الذي فقد فيه وقع في هذه السنة لكن ذكرته هناك لارتباط الحديث واتصاله وكان المستنصر بالله شجاعاً بطلاً مقداماً جواداً ممدحاً حسن الطريقة محمود السيرة قاتل يوم المصاف قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً وفقد فلم يطلع له على خبر ولا ذكر أحد أنه رآه بعد المصاف وظاهر أمره والله أعلم أنه استشهد إلى رحمة الله تعالى في المصاف ولحق بربه على الوجه الحسن رحمه الله وكان المصاف في ثالث المحرم من هذه السنة وقد ذكرناه ومدة خلافته خمسة أشهر وعشرون يوماً لأنه بويع له في ثالث عشر رجب سنة تسع وخمسين. إسماعيل بن لؤلؤ بن عبد الله الملك الصالح ركن الدين بن الملك الرحيم بدر الدين صاحب الموصل قد ذكرنا وفوده على الملك الظاهر وعوده صحبة الخليفة المستنصر بالله ومفاقته له وتوجه إلى بلاده ولما فرغ التتر من أمر الخليفة المستنصر بالله حصروه في هذه السنة بالموصل وضيقوا عليه إلى أن ظفروا به على ما تقدم شرحه فقتلوا ولده قبله بأيام ثم قتلوه في ذي القعدة وهم متوجهون إلى أردو هولاكو في طريقهم رحمه الله وكان ملكاً عادلاً لين الجانب لم يكن على طريقة والده في السفك

والقطع وما كان يسلكه من ذلك ورزقه الله تعالى الشهادة على أيدي التتر. بلبان بن عبد الله سيف الدين الزرد كاش كان من أعيان الأمراء بالشام وكان الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري رحمه الله نائب السلطنة بالشام إذا غاب عن دمشق في بعض المهمات استنابه عنه في دار العدل ونيابة السلطنة لكبر قدره ولما يعلم من سداده وحسن طريقته وكان ديناً خيراً يحب العدل والصلاح وتوفي بدمشق في ثامن ذي الحجة رحمه الله. الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الغنوي أبو محمد الضرير الأربلي المنشأ والملقب بالعز المشهور بعدم الدين والزندقة كان فاضلاً في العربية والنحو والأدب وعلوم الأوائل منقطعاً في منزله يتردد إليه من يشتغل عليه في تلك العلوم التي يعرفها فيتردد إليه جماعة من المسلمين وأرباب العقائد المفسودة واليهود والنصارى والسامرة وكان يصدر منه من الأقوال ما يشعر بانحلاله وفساد عقيدته ولم يكن يصلي ولا يفعل شيئاً من الفرائض فيما قيل عنه واشتهر وله مع ذلك حرمة وافرة عند كثير من الناس وإذا حضر إليه بعض الأكابر لا يعتني بهم ولا يوفيهم حقهم ويهينهم بالقول وفيما يعاملهم به وهم مع ذلك لا يرجعون عن التردد إليه وابتلى مع العمى بطلوعات وقروح في بدنه وكان قذرا زري الشكل قبيح المنظر لا يتوقى النجاسات لكنه كان ذكياً جيد الذهن

حسن المحاضرة بالحكايات والنوادر والأشعار وعلى ذهنه من ذلك شيء كثير وله نظم جيد ولما ورد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله إلى دمشق في أواخر السنة الخالية ذهب إليه للبلدية وللفضيلة فيم ينصفه وعامله بما كان يعامله في حال صغر سن القاضي شمس الدين وقبل ترقيه بالعلوم والفضائل التي بذ بها الأقران وتوليه المناصب الجليلة فأهمله القاضي شمس الدين بالكلية ولم يعد إليه لنفسه الأبية وشرفها وكانت وفاة العز الضرير في أواخر ربيع الآخر بدمشق ودفن بسفح قاسيون قال عماد الدين الخضر بن دبوقا رحمه الله أنشدني العز الضرير لنفسه: توهم واشينا بليل مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد فعانقته حتى اتحدنا تعانقاً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد وقال العماد أنشدني أيضاً لبعضهم: اصبر إذا نازلة أقبلت ... فهي سواء والتي ولت وأرهف العزم فليس الظبي ... تفري وتبري كالتي كلت وأنشدني الفقيه عز الدين أحمد الأربلي للعز الضرير المذكور: لو كان لي الصبر من الأنصار ... ما كان عليك هتكت أستاري ما ضرك يا أسمر لو كنت لنا ... في دهرك ليلة من السمار وأنشدني الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله للعز الضرير: لو يسعدني على هواه صبري ... ما كنت ألذ فيه هتك الستر حرمت على السمع سوى ذكرهم ... ما لي سمر غير حديث السعر وأنشدني أيضاً له:

إن أجف تكلفاً وفى لي طبعاً ... أو خنت عهوده عهودي يرعى يبغي لي في ذاك دوام الأسر ... هذا ضرير يحسبه لي نفا قال ومولد العز بقرية يقال لها أفشا من أعمال نصيبين في سنة ست وثمانين وخمسمائة وكان عالماً بالنحو والأدب والفقه والخلاف والأصولين والمنطق والطبيعي والألاهي والمجسطي وشعره منحط عن فضيلته أقام بإربل مدة طويلة واشتغل بها على الشيخ شرف الدين المذكور بالحكميات ثم انتقل إلى الموصل ثم سافر إلى الشام سنة أربع وعشرين وستمائة وتصدر لقراءة العلوم والحكميات والأدبيات والأصولين والخلاف وكان حسن الأخلاق طيب العشرة لا تمل مفاكهته ولما أنشدت بيتيه المشهورة: توهم واشينا بليل مزاره، بحضرة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله استحسن الحاضرون ما أشار إليه من ضيق العناق وشدته فقال الملك الناصر لا تلوموه بزمه لزوم أعمى فلما بلغ العز قول الملك الناصر قال والله هذا الكلام أحلى من شعري وقد ألم غرس الدين أبو بكر الأربلي تلميذ العز بهذا المعنى فقال: هم الرقيب ليسعى في تفرقنا ... ليلاً وقد بات من أهواه معتنقي عانقته فاتحدنا والرقيب أتى ... فمذ رأى واحداً ولى على حنق

وحكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه قال لازمت العز الضرير بوم وفاته فقال اشتهى آكل أرزاً بلبن فقال له الكمال الحكيم رحمه وابن القف ما يوافق فقال هذه البنية التي لي قد تحللت وما بقي يرجى بقاؤها فدعوني آكل ما أشتهي فعمل له ذلك وأكل منه ولما أحس بشروع خروج الروح منه قال قد خرجت الروح من رجلي ثم قال قد وصلت إلى صدري فلما أراد المفارقة بالكية تلا: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "، صدق اله العظيم وكذب ابن سينا كذب ثم خرجت روحه وكان هذا آخر كلامه قال الأمير عز الدين فحكيت ذلك فيما بعد للشيخ شمس الدين المقدسي الحنبلي رحمه الله فسر له وقال فرحتني بذلك وحكى لي الأمير عز الدين أن العز كان يصرح بتفضيل على رضوان الله عليه على الثلاثة الخفاء مع المبالغة في تعظيمهم رضي الله عنهم أجمعين وللعز يمدح عز الدين أحمد بن معقل: علا الحبر عز الدين في العلم والندى ... على قومه مع فضلهم وعلى مضر عرفنا به كيف الطريق إلى العلا ... وأنسى عظيم الخبر من أمره الخبر إذا كان بيت في القصيدة غرة ... فأشعار عز الدين أجمعها غرر هو البحر فاق الدر نظم قريضه ... ولا عجب للبحر إن قذف الدر أملي علي نسب العز على هذه الصورة الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله، ثم رأيت بخط الشيخ تاج الدين عبد الرحمن برحمة الله قصائد عدة منسوبة إليه وكتب في أولها للشيخ عز الدين الحسن بن علي النصيبيني.

ورأيت أيضاً بخط الشيخ نجم الدين أمد بن صصرى أيده الله وقد كتب شعراً منسوباً إليه وقال في أوله للشيخ عز الدين الحسن بن علي النصيبيني المكفوف والله أعلم. وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه أن العز الضرير حدثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي وهناك جماعة من العلماء منهم الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله فجري البحث في الإمامة ومن الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله فجرى البحث في الإمامة ومن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض الحاضرين قد روى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع لأبي بكر رضي الله عنه مكرهاً وإن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال له بايع وإلا قتلت فالتفت على رضى الله عنه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " قال العز فبكى السيف الآمدي فقال له ابن عبد السلام هذا لم يجر وليس بصحيح وإنما هو من اختلاق الرافضة، فقال سيف الدين الآمدي ما قلت أنه صحيح وإنما وقع في خاطري شيء أبكاني قال العز فقلت للسيف يا مولانا قد احتملوك أهل دمشق على الكفر والزندقة تريد انهم يحتملوك على محبة أهل البيت هذا ما يصير، وكان للعز المذكور هجو خبيث فمنه، في العماد بن أبي زهران: تعمم بالظرف من ظرفه ... وقام خطيباً لندمانه

وقال السلام على من زنى ... ولاط وقاد لإخوانه فردوا جميعاً عليه السلام ... وكل يترجم عن شأنه وقال يجوز التداوي بها ... وكل عليل بأشجانه فأفتى بحل الزنى واللوا ... ط فقيه الزمان ابن زهرانه وله في العماد المذكور وكان يلقب أولاً بالشجاع فلما تفقه لقب بالعماد فقال: شجاع الدين عمدتا ... فهلا كنت شمسنا خطيباً قمت سكراناً ... وبالزكوة عممتا ومن أبيات، وللعز يهجو مجد الدين الروذراوري رحمه الله تعالى: الروذراوري تلعنونه ... وما أتى في زعمه ببدعه هل نال الإجازة في حجرها ... في رمضان الظهر يوم الجمعة الخضر بن أبي بكر بن أمد أبو العباس كمال الدين الكردي قاضي المقس كان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله قد قربه وأدناه في زمن سلطنته فعلق به حب الرياسة والتقدم عند الملوك وكان عنده أقدام وهوج وقلة فكر في العواقب فصنع خاتماً وجعل تحت فصه ورقة لطيفة فيها أسماء جماعة ممن قصد أذاهم وإن عندهم ودائع لشرف الدين الفائزي وأظهر أن ذلك الخاتم كان لشرف الدين المذكور

وأنه جعل تلك الورقة فيه تذكرة بما له من الودائع ورام بذلك التقرب إلى السلطان وضرر أولئك القوم لإحن قديمة بينه وبينهم وأظهر ذلك الخاتم وجرى في أمره خطوباً آخرها أنه اتضح أمره فأهين الكمال وصفع فقال فيه بعض الأدباء: ما وفق الكمال في أفعاله ... كلا ولا سدد في أقواله يقول من أبصره يصك تأ ... ديباً على ما كان من محاله قد كان مكتوباً على جبينه ... فقلت لا بل كان في قذاله ثم حبس وكان في الحبس شخص يدعى أنه ولد الأمير الغريب وكان ورد إلى إربل في أيام الإمام الناصر شخص يسمى الأمير الغريب ويزعم أنه ولد الإمام الناصر ثم توفي في سنة أربع عشرة وستمائة فادعى هذا الشخص أنه ولده وكانت الشهرزورية أرادت مبايعته بغزة فلما تبدد شملهم للأسباب التي تقدم شرحها من استيلاء التتر على الشام وغير ذلك أمسك هذا الشخص العباسي واعتقل فلما اعتقل الكمال معه وجمعهما الحبس تحدث الكمال معه على أن يسعى له في إتمام ذلك الأمر الذي كان الشهرزورية راموا فعله ويكون الكمال وزيره فاتفق موت العباسي، فلما خرج الكمال سعى في إتمام الأمر لابنه وتحدث في ذلك مع جماعة من الأعيان وغيرهم وكتب مناشير وتواقيع واتخذ بنود أشعار الدولة فنمى الخبر إلى الملك الظاهر وكان وزيره الصاحب بهاء الدين وقاضي قضاة الديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب وله المكانة العلية والوجاهة العظيمة والكلمة المسموعة وكلاهما من أشد الناس

عداوة وبغضاً للكمال لذاته وتوثبه ولكونه من أصحاب القاضي بدر الدين السنجاري والمعروفين به فحصل التحريض عليه فشنق بالديار المصرية والتواقيع والبنود معلقة في عنقه، وذلك في ثامن عشر جمادى الآخرة من هذه السنة رحمه الله. عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب أبو محمد عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي الإمام الفقيه العلامة شيخ الإسلام ومولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، حضر أبا الحسين أحمد بن حمزة بن الموازيني وأبا طاهر الخشوعي وسمع من الحافظ أبي محمد القاسم بن علي الدمشقي وابن طبرزد وحنبل وعبد الصمد بن الحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بالشام والديار المصرية وأفتى سنين متطاولة وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار وكان في آخر عمره لا يتقيد في فتاويه بما يقتضيه مذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه بل يفتي بما يؤدي إليه اجتهاده ويترجح عنده بالدليل، وصنف التصانيف المفيدة النافعة وتولى الحكم بمصر والوجه القبلي مدة مع الخطابة بجامعها العتيق وكان ولي الخطابة بجامع دمشق مدة وكان علم عصره في العلم جامعاً لفنون متعددة عارفاً بالأصول والفروع والعربية والتفسير معاً جبل عليه من ترك التكلف والصلابة في الدين ولما كان مباشراً للخطابة والإمامة بجامع دمشق سلم الملك الصالح عماد الدين رحمه الله إلى الفرنج صفد والشقيف سنة تسع وثلاثين

وهما من الفتوحات الصلاحية ليعتضد بهم فأنكر الشيخ عز الدين هذا الفعل غاية الإنكار وبسط لسانه بالقول ووافقه على ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي رحمه الله وكن كبير القدر أيضاً في العلم والدين وبلغ الملك الصالح عماد الدين إنهما ينالان منه بسبب ذلك فغضب غضباً شديداً ففارقا دمشق فمضى الشيخ جمال الدين إلى الكرك فأقام عند الملك الناصر داود رحمه الله مدة فأقبل عليه وأحسن إليه ثم سافر إلى الديار المصرية وأقام بها إلى أن مات رحمه الله وأما الشيخ عز الدين فمضى إلى الديار المصرية فأقبل عليه الملك الصالح نجم الدين غاية الإقبال لفضيلته وديانته ومكانته ولتشنيته على عمه الملك الصالح عماد الدين واتفقت وفاة القاضي شرف الدين بن عين الدولة قاضي القاهرة والوجه البحري فنقل الملك الصالح القاضي بدر الدين إلى القاهرة وما معها وولاه قضاءها وولى الشيخ عز الدين القضاء لمصر والوجه القبلي مع الخطابة بجامع مصر وبقي على ذلك مدة واتفق أن بعض غلمان الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ وزير الملك الصالح نجم الدين بنى على سطح بعض المساجد بمصر بنياناً وجعل فيه طبلخاناة معين الدين وبلغ ذلك الشيخ عز الدين فأنكره ومضى بنفسه وأولاده فهدم ذلك البناء وأمر بنقل ما على سطح ذلك المسجد وتفريغه مما فيه وعلم الشيخ

عز الدين أن ذلك يغضب الملك الصالح ووزيره فأحضر شهوداً وأشهدهم على نفسه أنه قد اسقط عدالة معين الدين وأنه قد عزل نفيه عن القضاء بمصر وما معهما فعظم ذلك على الملك الصالح وأبقى نواب الشيخ عز الدين فقيل للملك الصلاح إن لم تعزله عن الخطابة فربما يبدو منه تشنيع على المنبر كما فعل بدمشق لما سلم الملك الصالح عماد الدين صفد والشقيف فعزله عن الخطابة فأقام في بيته بالقاهرة يشغل الناس بالعلم وقال الأمير حسام الدين ابن أبي علي رحمه الله كان عندي شهادة تتعلق بالملك الصالح نجم الدين فقال لي السلطان والشيخ عز الدين متولي القضاء بمصر تؤدي الشهادة عنده فقلت يا خوند ما يقبل شهادتي فألح علي فقلت يا خوند خذ لي منه دستوراً فبعث إلى الشيخ عز الدين في ذلك فقال ما أقبل له شهادة فتوقفت القضية إلى أن ولي القاضي بدر الدين السنجاري فذهبت إليه فتلقاني إلى الباب فشهدت عنده فقبل الشهادة وانقضى الشغل فكان الشيخ عز الدين رحمه الله لا يحابي أحداً في الحق ولما حضرته الوفاة سير إليه الملك الظاهر رحمه الله يفتقده ويقول له من تختار أن يتولى مناصبك من أولادك فقال ما في أولادي من يصلح لشيء من ذلك وهذه المدرسة يعني مدرسة الملك الصالح التي بين القصرين يصلح لتدريسها القاضي تاج الدين عبد الوهاب يعني ابن بنت الأعز ففوضت إليه بعده وكان بالديار المصرية رجل يعرف بالمبارز العارونة وهو كثير المال وكان يكثر التردد إلى الشيخ عز الدين وهو صاحبه فحكى للشيخ عز الدين

عقيب كسرة المنصورة الأخيرة وكان قد صودر قبل ذلك على قريب خمسين ألف درهم قال صودرت على ذلك المبلغ فما مضى إلا مدة يسيرة حتى كانت وقعة المنصور فحصلت من مكاسبها قريب خمسين ألف دينار فقال له الشيخ عز الدين هذا المبلغ في ذمتك لأن الغنائم لم تخمس ولا قسمت على الوجه الشرعي فلما مرض الشيخ عز الدين مرض الموت أشهد على نفسه أنه يشهد على إقرار المبارز بما أقربه من ذلك واتصل الأمر بالملك الظاهر فالزم المبارز بغرم ما أقربه فقال إنما شهد على شاهد واحد فقال الملك الظاهر الشاهد الذي شهد أكثر من ألف شاهد وكان الشيخ عز الدين رحمه الله معماً هو عليه من هذه الأوصاف عنده رقة حاشية ويحضر السماع ويرقص ويتواجد ويستحسن الصور الجميلة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار ويستشهد بها في مواضعها مر على دار من دور القصر بالقاهرة وهي خراب وانقاضها تنقل فأنشد متمثلاً: تخمس ولا قسمت على الوجه الشرعي فلما مرض الشيخ عز الدين مرض الموت أشهد على نفسه أنه يشهد على إقرار المبارز بما أقربه من ذلك واتصل الأمر بالملك الظاهر فالزم المبارز بغرم ما أقربه فقال إنما شهد على شاهد واحد فقال الملك الظاهر الشاهد الذي شهد أكثر من ألف شاهد وكان الشيخ عز الدين رحمه الله معماً هو عليه من هذه الأوصاف عنده رقة حاشية ويحضر السماع ويرقص ويتواجد ويستحسن الصور الجميلة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار ويستشهد بها في مواضعها مر على دار من دور القصر بالقاهرة وهي خراب وانقاضها تنقل فأنشد متمثلاً: أهادمها شلت يمينك خلها ... لمعتبر أو واقف أو مسايل منازل قوم حدثتنا حديثهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل وهذا البيتان لعبد الواحد بن الفرج المعري الشاعر قالهما من جملة أربعة أبيات في قصر كان بالمعرة في محلة شيات فأمر صاحب المعرة بنقضة فاجتاز عبد الواحد بالفعلة وهم بخربونه فقال بديهاً:

مررت بقصر في سيات فساءني ... به زجل الأحجار تحت المعاول تناولها عبل الذراع كأنما ... جرى الحرب فيما بينهم حرب وائل فقلت له شلت يمينك خلها البيتين المتقدمين. توفي عبد الواحد المذكور في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وكانت وفاة الشيخ عز الدين رحمه الله في العاشر من جمادى الأولى بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم ونزل الملك الظاهر لشهود جنازته وكذلك سائر أرباب الدولة والجند والعوام وغيرهم ولم يتخلف عن شهود جنازته غلا القليل من الناس وشهرته تغني عن الأطناب في ذكره رحمه الله. عبد العزيز بن يوسف بن قزأوغلى أبو محمد عز الدين الحنفي الواعظ قد أشرنا إليه في ترجمة والده الشيخ شمس الدين أبي المظفر يوسف سبط الشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمه الله في سنة أربع وخمسين وكان درس بعد أبيه بالمدرسة العزية ووعظ وكان فاضلاً عنده أهلية جيدة وتوفي في سلخ شهر شوال ودفن بمقبرة أبيه بسفح قاسيون رحمه الله. عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو الحسن تاج الدين الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر سمع الكثير من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وزيد والكندي وعبد الصمد الحرستاني وغيرهم وحدث بدمشق ومصر وغيرهما وتولى

مشيخة دار الحديث النورية وغيرهما بدمشق ومولده بدمشق ليلة عيد الفطر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته في حادي عشر جمادى الأولى بمكة شرفها الله ودفن بالحجون رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس بن الحسن بن العباس ابن الحسن بن الحسين بن علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو الحسن بهاء الدين بن أبي الجن الحسيني نقيب الأشراف بدمشق وأعمالها، مولده ليلة الثامن عشر من شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة بدمشق سمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن صدقة وأبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي وأبي الفوارس بن شافع وغيرهم وحدث بدمشق ومصر، وكان رئيساً جليل المقدار كريماً ممدحاً وتوفي بدمشق في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب ودفن بها بمنزله بدرب الديماس رحمه الله وولى النقابة بعده فخر الدين أبو محمد الحسن ابن نظام الدين أبي الحسن علي البعلبكي. عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القاسم كمال الدين العقيلي الحلبي الفقيه الحنفي الكاتب المجيد المعروف بابن العديم مولده بحلب في العشر الأول من ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة سمع من أبيه أبي الحسن وعمه ابن غانم محمد وأبي هاشم عبد المطلب

ابن الفضل الهاشمي وعمر بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وأبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وجمعة كثرة غيرهم وحدث بالكثير في بلاد متعددة ودرس وأفنى وصنف وكان إماماً عالماً فاضلاً مفنناً في العلوم جامعاً لها أحد الرؤساء المشهورين والعلماء المذكورين وترسل إلى الخليفة والملوك مراراً كثيرة وكان له الوجاهة العظيمة والحرمة الوافرة عند الخلفاء والملوك وغيرهم وهو مع الوجاهة العظيمة والحرمة الوافرة عند الخلفاء والملوك وغيرهم وهو مع ذلك كثير التواضع ولين الجانب وحسن الملتقى والبشر لسائر الناس مع ما هو منطو عليه من الديانة الوافرة والتحري في أقواله وأفعاله، وأما خطه ففي غاية الحسن والجودة باع الناس منه شيئاً كثيراً على أنه خط علي بن هلال بن البواب الكاتب المشهور، وله معرفة بالحديث والتاريخ وأيام الناس وجمع لحلب تاريخاً كبيراً أحسن فيه ما شاء ومات وبعضه مسودة لم يبيضه ولو تكمل تبييضه كان أكثر من أربعين مجلداً، وكان حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير البر لهم والإحسان إليهم وحضر عند الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وطلب منه أن يلبسه خرقة فأعطاه قميصه كأنه تفرس فيه الخير والصلاح، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى بظاهر مصر ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله، ولما وصل إلى الديار المصرية رسولاً في بعض سفراته إليها حمل إليه الشيخ أيدمر مولى وزير الجزيرة والمسمى فيما بعد بإبراهيم الصوفي ديوان شعره ليطالعه فتصفحه وطالعه وكتب عليه لنفسه:؟

وكنت أظن الترك تختص أعين لهم إن رنت بالسحر منها وأجفان إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان فكتب إليه أيدمر يشكره ويسأله أن يكتب اسمه تحت الشعر الذي كتبه على الديوان: لك الفضل أولى الناس بالحمد منعم ... تعرف بالإحسان إذ رث عرفان وبارقة من أفق علياك خبرت ... بأن سحاب الفضل عندك هتان انثنى على الديوان أبياتك التي ... يفضل منها للبلاغة ديوان فدلت وإن قلت على ما وراءها ... كما شف عن سر الصحيفة عنوان فلو عاينت عيناً ابن مقلة خطكم ... لغض أتاه أو رنا وهو خزيان فكيف يكون السحر فينا وعندنا ... وخطك هاروت ولفظك سحبان فيا مالك أبدي ندى كان متمماً ... لتشفع من يمناك بالحسن إحسان وتوجه والمأمور غيرك باسمك الكريم فأسماء الأكارم تيجان يحوك الحياوشي الرياض وينجلي ... وتبقى شهيداً عندها منه غدران على أنه الصبح المنور شهرة ... وليس بمطلوب على الصبح برهان وإن أمرأً أضحى الكمال يعينه ... فمن أين يعروه وحاشاه نقصان محمد بن داود بن ياقوت الصارمي أبو عبد الله ناصر الدين كان رجلاً صالحاً فاضلاً عالماً مفيداً لطلبة الحديث باذلاً كتبه وخطه للمشتغلين

سمع كثيراً وكتب مجلدات وأجزاء كثيرة وطباق السماع التي بخطه من أحسن الطباق وأنورها وأصحها، وكانت وفاته بدمشق في السادس والعشرين من جمادى الآخرة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. محمد بن عبد الحق بن خلف أبو عبد الله جمال الدين الحنبلي كان فاضلاً ظريفاً حسن الأخلاق يؤرخ الوقائع والمتجددات والوفيات ويتولى الحسبة بجبل الصالحية وكانت وفاته بالجبل المذكور ودفن به في سادس وعشرين جمادى الآخرة رحمه الله. يوسف بن عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد أبو الفضل شرف الدين الموصلي الأصل ويعرف بابن اللباد كان فاضلاً أديباً شاعراً مترسلاً وله معرفة بالطب وتوفي يوم الجمعة خامس ذي القعدة بالقاهرة ودفن بالقرافة وهو في حدود الخمسين سنة رحمه الله ووالده موفق الدين عبد اللطيف بغدادي المولد كان عالماً بالنحو واللغة وعلم الكلام والطب ولد بدار جده بدرب الفالوذج سنة سبع وخمسين وخمسمائة وغاب عن بغداد مقدار خمس وأربعين سنة ودخلها عازماً على الحج فأدركته منيته بها في يوم الأحد ثاني عشر المحرم سنة تسع وعشرين وستمائة ودفن بالوردية، وله نحو مائتي مصنف ما بين مطول ومختصر وطاف البلاد ودخل دمشق والبيت المقدس والديار المصرية وغير ذلك رحمه الله.

يوسف بن يوسف بن يوسف بن يوسف بن سلامة بن إبراهيم ابن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سلميان بن محمد الفأفا الزينبي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو العز وقيل أبو المحاسن محي الدين الهاشمي العباسي الموصلي المعروف بابن زيلاق مولده بالموصل قي إحدى الربيعين سنة ثلاث وستمائة وقتلوه التتر حين ملكوا الموصل بها في عاشر شعبان هذه السنة، وكان شاعراً مجيداً فاضلاً حسن المعاني رحمه الله، ومن شعره: إني لأقضي نهاري بعدكم أسفاً ... وطول ليلي بتسهيد وتعذيب جفن قريح وقلب حشوه حرق ... فمن رأى يوسفاً في حزن يعقوب وله: بدا لنا من جبينه قمر ... يضل في ليل شعره الفكر أحور يجلو الدجى تبسمه ... أسمر يحلو بذكره السمر حديث عهد الشباب ما حف بالريحان ... ورد في خده نضر ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فيحتاج عنه نعتذر جوامع الحسن فيه كاملة ... فالقلب وقف عليه والبصر خصر كما آثر التفرق في ... جسمي وثغر رضابه خصر وقامة لدنة إذا خطرت ... هان علنيا في حبها الحظر

وله: أغري جفون المحب بالسهر ... أغيد حالي الجفون بالحور رخيم لفظ جاءت شمائله ... بكل معنى في الحسن مبتكر مؤنث الدل كاسر جفنه الساجي على نصل صارم ذكر حديث عهد السباب طلعته ... محية من طلائع الشعر حياه وحدي ماء بوجنته ... ما اغترفت صفوة بذا الخضر أن يطل الفكر في توردها ... فذاك والله موضع النظر يا مالكي شافعي إليك هوى ... مذهب وردي فيه بلا صدر أفوت ليلى بالطول واشتملت ... أجفان عيني به على القصر حالين أشكو إليك بينهما ... وفاء دمع وعذر مصطبر وله: هل أنت يا وفد الصبا مخبري ... مربع أحبابي متى روضا وهل أقام الحي من بعدنا ... مخيماً بالجزع أم قوضا وأنت يا بارق نجد إذا ... أضأت جيراناً بذات الأضا فقل لهم ذاك الغريب الذي ... أمرضتموه بجفاكم قضى حاشا لذاك الوجد أن ينقضي ... وعهدنا بالخيف أن ينقضي ويا شفاء النفس لو أنه ... كان طبيب الداء من أمرضي أحبابنا منذ وداع اللوى ... لم ألق عيشاً بعدكم يرتضى ولا رأت عيناي مذ غبتم ... يوماً كأيامي بكم أيضاً

وله: يفيدك جفن بمائه شرق ... جار عليه البكاء والأرق ومهجة لم تزل حشاشتها ... منك بنار الجفاء تحترق يا رشأ أصبحت محاسنه ... تسلب ألبابنا وتسترق تجمعت فيك للورى فتن ... على تلاف النفوس تتفق طرف كحيل ووجنة كسيت ... حمرة دمعي ومبسم يقق جالت علي عطفه ذوائبه ... كالغصن زانت فروعه الورق حسن أسر الصديق لي حسداً ... على هواه وخان من أثق رأوه لي جنة معجلة ... ما وجدوا مثلها ولا رزقوا فأكثروا وافتروا كأنهم ... لغير قول المحال ما خلقوا هم حسدوني عليه فاختلفوا ... بكل زور إليه واختلقوا سعوا بتفريقنا فلا اجتمعوا ... على وصال يوماً ولا اتفقوا بمن كسا وجنتيك من حلل ال ... حسن رياضاً نسيمها عبق واطلع الصبح من جبينك محفوظاً بصدغ كأنه غسق لا تثن عطفاً إلى الوشاة فما ... سلاك قلبي لكنهم عشقوا أنت بحالي أدري وحالهم ... قد وضحت في حديثنا الطرق

ما كنت يوماً إليك معتذراً ... لو أنهم في حديثهم صدقوا وله: كذب الواشون قلبي ما سلا ... وفؤادي من هواكم ما خلا لا تظنوني إن طال المدى ... ناسياً ذاك الغرام الأولا لست ممن إن نأت دار به ... أسخط الشوق وأرضى العذلا يا ولاة الحسن ما آن لمن ... جار في عشاقه أن يعدلا أخذ الإشراق عن بدر الدجى ... وروى النفرة عن ظبي الفلا أي شهد ريقه لو يجتني ... وهلال وجهه لو يجتلي يحمد الليل إذا ولى ولا ... يعدم الصبح إذا ما أقبلا ناعم الأطراف ما أسعد من ... ضمه معتنقاً أو قبلاً ليس يأتي نعم في لفظه ... قوله في جده والمزح لا أحياة أترجى بعدما ... حكمت ألحاظه أن أقتلا وله: يريك قوام السمهر يقوامها ... ويجلو عليك النيرين لثامها ويفتنا منها جفون تضمنت ... لواحظها أن لا تطيش سهامها وليلة أعطينا المنى من وصالها ... وعهدي لا يهدي إلينا سلامها توقد ناراً خدها وحليها ... وخمرتها فأنجاب عنها ظلامها وطافت بكأسات الرحيق كأنما ... يفض عن المسك السحيق ختامها إذا ما ظللنا في غياهب شعرها ... هدانا إلى صبح الغرام ابتسامها

سألتكما أي الثلاثة درها ... أمبسمها أم عقدها أم كلامها وأي الثلاث المسكرات سلبنني ... أريقها أم لحظها أم مدامها وله: أدمشق لا زالت تجودك ديمة ... ينمي بها زهر الرياض ويؤنق أهوى لك السقيا ولو ضن الحيا ... أغناك عنه ماؤك المتدفق ويسر قلبي لو تصيح إلى المنى ... أني أنال بك المقام وأرزق وإذا امرؤ كانت ربوعك حظه ... من سائر الأمصار فهو موفق أني التفت فجدول متسلسل ... أو جنة مرضية أو جوسق يبدو لطرفك حيث ملت حديقة ... غناء نور النور منها يسرق تشدو الحمام بدوحها فكأنما ... في كل عود منه عود يخفق وإذا رأيت الغصن ترقصه الصبا ... طرباً رأيت الماء وهو يصفق لبست جنان النيرين محاسناً ... وقفت عليها كل طرف يرمق فحمامها غرد ونبت رياضها ... خضل وركب نسيمها مترفق وله: وإذا شكوت من الزمان ومسني ... ضيم ونكس صعدتي أعسار وعلمتم أني بكم متعلق ... فعلى علاكم لا على العار ومن شعره أيضاً: بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنى ... سهاداً يذود الجفن أن يألف الجفنا وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلاً ... فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى

السنة الحادية والستون وستمائة

وأبرزت وجهاً أخجل الصبح طالعاً ... ومالت بقد علم الهيف الغصنا حكيت أخاك البدر في حال تمه ... سنى وسناء إذا تشابهتما سنا أسمراء إن أطلقت بالهجر عبرتي ... فإن لقلبي من تباريحه سجنا وإن تحجبي بالبيض والسمر فالهوى ... يهون عند العاشق الضرب والطعنا وما الشوق إلا أن أزورك معلناً ... فلا مضمراً خوفاً ولا طالباً أذنا وألقاك لا أخشى الغيور فأنثني ... ولو منعت أسد الشرى ذلك المعنى السنة الحادية والستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة المستنصر بالله قد قتل وملوك الأطراف على حالهم في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة البل من الديار المصرية. فمن المتجددات فيها مبايعة الحاكم بأمر الله، باب في مبايعته وهو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس رضي الله عنه وهو الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي القبي بن الأمير علي ابن الأمير أبي كبر بن الإمام المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بويع بالخلافة في قلعة الجبل ظاهر القاهرة يوم الخميس تاسع المحرم سنة إحدى وستين وستمائة، وكان وصل إلى قلعة الجبل في السنة الخالية على ما تقدم شرحه.

فلما كان في التاريخ جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً فيه أعيان الناس من القضاة والأمراء والعلماء وجماعة من التتار الوافدين وحضر الإمام الحاكم إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل راكباً وبسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه وأمر الملك الظاهر بعمل شجرة نسب له فعملت وقرئت على الناس، ثم أقبل الملك الظاهر إليه وبايعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر والجهاد وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها والوفاء بالعهود وإقامة الحدود وما يجب على الأئمة فعله من أمور الدين وحراسة المسلمين، فعند ذلك أقبل الخليفة على الملك الظاهر وقلده أمور البلاد والعباد ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في المبايعة فلم يبق أحد ممن يشار إليه من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم إلا وبايعه، وكان المسلمون بغير خليفة منذ استشهد الإمام المستنصر بالله في أوائل السنة الخالية ولم يل الخلافة من والده وجده غير خليفة بعد السفاح والمنصور إلا الحاكم هذا فإن والده وجده وجد والده لم يلوا الخلافة أما من ولي الخلافة ولم يكن والده خليفة بعد السفاح والمنصور من بني العباس فالمستعين أحمد بن محمد بن المعتصم والمعتضد بن طلحة بن المتوكل والقادر بن أحمد بن المقتدر والمقتدى بأمر الله بن الذخيرة بن القائم وبقي اسم الخلافة على الإمام الحاكم بأمر الله المذكور ويخطب له على المنابر وتضرب السكة باسمه إلى أوائل جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعمائة درج إلى رحمة الله تعالى بالديار المصرية وصلى عليه في جامع

دمشق بالنية يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة. وكانت وفاته رحمه الله في أواخر جمادى الأولى رحمه الله تعالى فكان مدة وقوع اسم الخلافة عليه أربعين سنة وأشهر وبويع ولده أبو الربيع سليمان ولقب بالمستكفي وحصل الحديث من الإمام الحاكم في إنفاذ رسل إلى بركة فوافق على ذلك وانفصل المجلس، ولما كان يوم الجمعة ثاني ويوم المبايعة اجتمع الناس وحضر الرسل إلى الملك بركة وخطب الخليفة بالناس فقال: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبع من النعماء، واستنصره على دفع الأعداء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الإقتداء الأربعة الخلفاء وعلى العباس عمه وكاشف غمه أبي السادة الخلفاء الراشدين والأئمة المهذبين وعلى بقية الصحابة والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أيها الناس أعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام والجهاد، محتوم على جميع الأنام ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم، فول شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام واستباحوا الدماء والأموال وقتلوا الرجال والأطفال وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب

الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه فشمروا عن ساق الاجتهاد في أحياء فرض الجهاد: " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين والمحاماة عن المسلمين. وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة وأخلصوا نياتكم تنصروا وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعاقبة للمتقين والدهر يومان والآخر لمؤمنين جمع الله على التقوى أمركم وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله حمداً يقوم بشكر نعمائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة عند لقائه وأشهد أن محمداً سيد رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ما خلق في أرضه وسمائه، أوصيكم عباد الله بتقوى الله أن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الملك الديان: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر

منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً نفعنا الله وإياكم بكتابه وأجزل لنا ولكم ثوابه وغفر لي ولكن وللمسلمين أجمعين. وكتب بدعوته إلى الآفاق وتعلل بذكرها الرفاق. وكتب الله للسلطان هذه الحسنة التي يجدها يوم ينفد كل شيء وما عند الله باق، وكتب السلطان إلى الملك بركة يعلمه بذلك. وفي ليلة الأربعاء ثالث شهر رمضان سأل السلطان الخليفة هل لبس الفتوة من أحد من أهل بيته الطاهرين أو من أوليائهم المتقين فقال: لا والتمس من السلطان أن يصل سببه بهذا المقصود، وسنخ هذا الأمر الذي من بيته بدا وإليه يعود، فلم يمكن السلطان إلا طاعته المفترضة وإن يمنحه ما كان ابن عمه قرضه، وإن يحلى بالجواهر منضده، وإن يقلد بالسيف مجرده وأن يعطي القوس لباريها، ويسلم الصهوة لراقيها، ويكون في ذلك كمحبب الحلة للابسها، ويقتدح بالجذوة لقابسها، ولبس في الليلة المذكورة بحضور من يعتبر حضوره في مثل ذلك وباشر ذلك الأتابك فارس الدين أقطاي بطريق الوكالة المعتبرة عن السلطان، وقال السلطان الملك الظاهر أبا للإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ولد الإمام الظاهر وأبوه لجده الناصر لعبد الجبار لعلي بن دغيم لعبيد الله ابن القتر لعمر بن الرصاص لأبي بكر بن الجحيش لحسن بن السارمار

لبقاء بن الطباخ لنفيس العلوي لأبي القاسم بن أبي حبة لمعمر بن النن لأبي علي الصوفي لمهنا العلوي للقائد عيسى للأمير وهوان لروزبة الفارسي للملك أبي كيجيار لبي الحسن النجار لفضل الفرقاشي للقائد شبل بن المكرم لأبي الفضل القرشي للأمير حسان لجوشن الفزاري للأمير هلال النبهاني لأبي مسلم الخراساني لأبي العز النقيب لعوف القناني للحافظ الكندي لأبي علي النوى لسلمان الفارسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له صلى الله عليه وسلم سلمان من أهل البيت للإمام الظاهر التقي النقي علي سلام الله عليه وحمل إليه السلطان من الملابس لأجل ذلك ما يليق بجلاله. وفي الليلة الثانية حضر رسل الملك بركة إلى القلعة وألبسهم الخليفة تفويض الوكالة للأتابك وحمل إليهم من الملابس ما يليق بمثلهم. ولما كان يوم الجمعة ثامن عشري شعبان خطب الخليفة أيضاً بحضور رسل الملك بركة ودعا للسلطان وللملك بركة وصلى بالناس واجتمع بالسلطان وللملك بركة وصلى بالناس واجتمع بالسلطان وبالرسل وتحدثوا في مهمات الإسلام. وفي ويوم المبايعة أفرج الملك الظاهر عن الأمير علاء الدين طيبرس ثم قبض عليه لما نزل من الطور وحبسه بقلعة القاهرة ثانية. وفيها في العشر الأول من صفر جمع تكفور صاحب سيس جمعاً كبيراً خيلاً ورجلاً وخرج من سيس وأغار على بلد الجومة إلى بلد العمق وجبل ليلون ومعمرة مصرين وسرمين والفوعة، وكان دليله

ذكر توجه الملك الظاهر إلى الشام

رجل من أهل الفوعة يعرف بابن ماجد فأخذ من الفوعة ثلاثمائة وثمانين نفراً وكبس سرمين وكان بها من الأمراء المجردين بهاء الدين الخضر الحميدي وركن الدين عيسى السروي وعلم الدين قيصر الظاهري فانحازوا إلى دار الدعوة بسرمين واجتمع عليهم خلق كثير وحاصروهم بها ثم إن ركن الدين عيسى السروي ركب وأركب الأمراء المذكورين وفتح باب دار الدعوة وخرج ثم حمل فيهم فصادف في حملته صاحب سيس ولم يعرفه فرماه من جواده فتفللت لأجله عزائم أصحابه فولوا هزيمة لا يلوى أحد منهم على صاحبه وتخلص ممن كان معهم من الأسراء جماعة كبيرة. ذكر توجه الملك الظاهر إلى الشام وقبضه على الملك المغيث صاحب الكرك برز الملك الظاهر يوم السبت سابع ربيع الآخر إلى مسجد التبن وأقام به إلى عاشر الشهر ورحل يوم الخميس حادي عشرة، ولما وصل إلى غزة وفد عليه في السابع والعشرين من الشهر والدة صاحب الكرك شافعة في ولدها فأقبل عليها وأكرمها وأذن لها في العود فعادت ثم رحل إلى الطور يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى وجاء من الأمطار ما منع السابلة فغلت الأسعار ولحق العسكر مشقة عظيمة والملك الظاهر يرسل الرسل إلى صاحب الكرك يطلبه وهو

يسوف خوفاً من القبض لما أسلفه من الأفعال الذميمة منها رسالة سيرها على لسان الأمجد رسوله أساء فيها الأدب ومنها كتبه إلى التتر يحرضهم على قصد البلاد، ومما ثبطه كتب وصلت إليه من أمراء كانوا مع الملك الظاهر يحذرونه الوصول إليه يعرفونه أنه عازم على قبضه، فوقف عليها وسيرها إلى الملك الظاهر فسير إليه في الجواب أني أنا أمرتهم بذلك لأتحقق ما في نفسك، فخرج من الكرك خائفاً ولما وصل بالقرب من العسكر ركب الملك الظاهر لتلقيه فأراد أن يترجل فمنعه الملك الظاهر وسايره إلى باب الدهليز فدخل الملك الظاهر وعدل بالملك المغيث إلى خركاه واحتيط عليه وبعث به إلى قلعة القاهرة صحبة الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني السلحدار يومئذ فوصل به ليلة الأحد خامس عشر جمادى الآخرة فكان آخر العهد به. ولما قبض عليه ظهر في وجوه بعض الأمراء كراهية ذلك فاحضر الملك الظاهر الأمراء والملك الأشرف صاحب حمص وكان قد وفد عليه وقاضي القضاة بدمشق وكان قد استدعاه والشهود ورسل الفرنج وأخرج إليهم كتب الملك المغيث إلى التتر يحرضهم على قصد البلاد وكتب التتر إليه أجوبة منها مضمونها شكر هولاكو منه واعتزاؤه إليه ويعده بوعود حسنة ويقول له قد أقطعتك من بصري إلى غزة وقد عرفت ما أشرت إليه من طلب عشرين ألف فارس نسيرها تفتح بها مصر ويعده بإرسالها إليه ويوصيه بأمور جمة، ثم أخرج فتاوى الفقهاء بأنه

لا يحل إبقاؤه على هذا الوجه فعذروه حينئذ وكان أوكد الأسباب في القبض عليه أن رسولاً ورد عليه من التتر فاصل ذلك بالملك الظاهر فبعث إليه بدر الدين لؤلؤ المسعودي أحد المماليك البحرية وطلبه فأنكره فتوعده وتهدده فأظهره وحمل إلى الملك الظاهر وأخذ يعده ويمنيه حتى أخبره بما جاء فيه وهو أن هولاكو سيره إليه ليكشف حاله وكتب الجواب وأخرجه، فلما وقف لعيه الملك الظاهر أخذ خطوط الفقهاء بوجوب قتاله ثم توجه إلى الكرك وكاتب من فيه بتسليمه فوقع الاتفاق على أن يؤمر الملك العزيز عثمان بن الملك المغيث على مائة فارس وتسلم الكرك يوم الخميس ثالث عشري جمادة الآخرة ودخله ثالثه نهار الجمعة، ثم قصد الديار المصرية واستصحب أولاد الملك المغيث وحريمه فلما حل بمصر أمر ولده كما تقرر وأنزله في دار القطبية بين القصرين، وكان وصوله إلى الديار المصرية يوم السبت سادس عشر شهر رجب. وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه قبض الملك الظاهر على الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي والأمير عز الدين أيبك الدمياطي والأمير شمس الدين آقوش البرلي وحبسهم بقلعة الجبل. وفي حادي عشر شهر رجب وصل إلى الديار المصرية رسولان

من عند الملك بركة وهما جلال الدين بن قاضي دوقات والشيخ علي التركماني وكان وصولهما من الإسكندرية وصلاها من بلاد الأشكري وذلك أنهما خرجا من سقسين مدينة بكرة في نهر اتل إلى بحر سوداق وركبوا فيه إلى خليج القسطنطينية إلى البحر الكبير فسلكاه إلى الإسكندرية ومضمون الرسالة: أنت تعلم أني محب لهذا الدين وهولاكو قد تعدى على المسلمين واستولى على بلادهم وقد رأيت أن تقصده من جهتك واقصده من جهتي ونصدمه صدمة واحدة فنقتله أو نطرده عن البلاد ومتى كانت واحدة من هاتين أعطيتك ما كان في يده من البلاد التي استولى عليها فشكر له الملك الظاهر ذلك وبعث إليه هدية سنية مع رسول يستصوب هذا الرأي. وفي آواخر شهر رجب وصلت طائفة كبيرة من التتر مستأمنين وهي الطائفة الثانية ثم وصلت طائفة أخرى كبيرة منهم ومقدمها كرمون فخرج الملك الظاهر لتلقيهم وأنعم عليهم بالإقطاعات وغيرها. وفي شعبان خلع الملك الظاهر على الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وفوض إليه الأستاذ دارية. وفي سادس عشر شهر رمضان جهز الملك الظاهر من الديار المصرية لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صناعاً وآلات وأخشاباً فطيف بها مصر والقاهرة وسوفر بها في العشر الأوسط من شوال. وفي رمضان زلزلت الموصل زلزلة عظيمة بحيث انشق الشط الذي

حرب جرت بين بركة وهولاكو

يمر بضيعة دار بشا نصفين وخربت أكثر دورها. وفي سادس شوال توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية وعاد إلى مصر في ثامن عشر ذي القعدة وبعد ذلك تقدم بعزل ناصر الدين أحمد بن المنير قاضي الإسكندرية وخطيبها فولى عوضه في القضاء برهان الدين إبراهيم بن محمد بن علي اليوشي المالكي وكان خاملاً بمصر متواضعاً فقيراً فخلع عليه وأعطى بغلة فتوجه إليها. حرب جرت بين بركة وهولاكو لما قتل هولاكو رسل بركة وسحرته جمع عسكراً من سائر الآفاق التي استولى عليها ورحل من علا دار ووصل إلى دمر قانو وقطر نهر كوثا فصادف عسكراً لبركة فأوقع به وأقام خمسة عشر يوماً فجمع بركة عساكره وقصده فالتقى به وتقاتلا فكانت الدائرة على هولاكو وقتل من أصحابه خلق كثير وغرق منهم في النهر المذكور أكثر مما قتل ونجا هولاكو بنفسه في شرذمة قليلة، فلما رأى بركة كثرة القتلى بكى وقال يعز علي أن أرى المغل تقتل بسيوف بعضهم بعضاً لكن كيف الحيلة في من غير آسة جنكزخان، ولما عاد هولاكو مهزوماً مر ببلاد أران فوجد طائفة من أصحاب بركة بنواحي شروان وشماخي فأوقع بهم ولما وصل أردوه استشار كبراء دولته في جمع عسكر ليقصد به بكرة فثبطوه.

وفي شهر رمضان جهز الملك الظاهر رسل بركة وبعث معهم عماد الدين عبد الرحيم العباسي والأمير فارس الدين آقوش المسعودي وجهز معهما هدية سنية جليلة المقدار فيها من الحيوان الغريب وجوده في تلك البلاد خدام حبش وجواري طباخات وزرافة وقرود وهجن وخيل عربية وحمير مصرية وحمير وحشية وغير ذلك ومشاعل فضة وشمعدانات فضة وحصر عبدانية وأمتعة اسكندراني وثياب من عمل دار الطراز وسكر نبات وبياض وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وضمن الرسالة الدخول في الأيلية والطاعة وطلب المعاضدة على هولاكو على أن يكون له من البلاد التي تؤخذ من يده مما يلي الشام نصيب، فلما صولا القسطنطينية وجدوا الباسلوس كرميخائيل صاحبها غائباً في حرب كانت بينه وبين الفرنج فلما بلغه وصولهم طلبهم فساروا إليه عشرين يوماً في عمارة متصلة واجتمعوا به في قلعة أكشاثا فأقبل عليهم ووعدهم بالمساعدة ووافوا عنده رسلاً من هولاكو فاعتذر عن تأخير توجههم لخوفه من إطلاع هولاكو على ما وصلوا بسببه ثم أمرهم بالرجوع إلى القسطنطينية والمقام بها حتى يعود ويجهزهم ولم يزل يمطلهم سنة ثلاثة أشهر فبعثوا إليه أن لم يمكنك المساعدة على توجهنا فلنأذن في الرجوع فأذن للسيد عماد الدين بمفرده واعتذر من منعهم من التوجه لكونه بعيداً عن بلاده المجاورة لمملكة السلطان ركن الدين وأنه متى سمع أني مكنت صاحب مصر من التوجه إلى بركة توهم انتقاض الصلح بيني وبين هولاكو، فيسارع إلى نهب ما جاوره

من بلاد وأما أنا قريب منها حتى أذب عنها فعاد عماد الدين وتأخر الفارس مدة سنتين حتى هلك أكثر ما كان الحيوانات وفسد غيرها. وفي أثناء هذه المدة قصدا عساكر بركة القسطنطينية وأغارت على أطرافها وهرب الباسلوس من القلعة التي كان فيها إلى القسطنطينية وبعث بالفارس إلى مقدم عسكر بركة يعلمه أن البلاد في عهد الملك الظاهر وصلحه وإن بركة في صلح من صالحه وعهد من عاهده فطلب منه أن يكتب له خطة بذلك فكتب وكتب أيضاً أنه يقيم باختياره بمنع التوجه لأنه أنكر عليه طول المقام فرحل العسكر واستصحب معه السلطان عز الدين وكان محبوساً في قلعة من قلاع قسطنطينية فأخرجوه منها كما تقدم، ثم أن الباسلوس جهز الفارسي إلى بركة وبعث معه رسولاً من جهته برسالة ضمنها أن يقرر على نفسه مما يحمله كل سنة ثلاثمائة ثوب أطلس على أن يكون معاهداً ومصالحاً له ومدافعاً عن بلاده صاحب زعوراء فتوجه الفارس إلى بركة، فلما اجتمع به سأله عن تأخره حتى هلك أكثر ما كان معه فاعتذر أن صاحب القسطنطينية منعه فأخرج له خطه بما كتب لمقدم عسكره ثم قال أنا ما أواخذك لأجل الملك الظاهر وهو أولى من وأخذك على كذبك وإفساد ما بعثه معك. وكتب السلطان عز الدين إلى الملك الظاهر يعرفه بما صدر عن الفارس من التقصير وكونه رحل عسكر بركة عن صاحب القسطنطينية بما أوهمه من كون البلاد في عهد املك الظاهر وكان قادراً على أن

فصل وفيها توفي

يأخذ منه في مقابلة ترحيله عنه قيمة ما فسد من الهدية لاضطراره إلى ذلك فلما قفل الفارس إلى مصر واجتمع بالسلطان نقم عليه ما فعله وقبض عليه وأخذ منه ما كان وصل معه من البضائع وقيمتها أربعون ألف دينار وكان وصوله في جمادى الآخرة سنة خمس وستين. وفيها خلق المقياس وكسر الخليج يوم الاثنين ثالث عشر شوال سنة إحدى وستين وانتهت الزيادة إلى ثلاث عشرة إصبعاً من ثمان عشر ذراعاً وكان الملك الظاهر بالإسكندرية فخلف عنه الأمير عز الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بالقاهرة. فصل وفيها توفي ريدا فرنس واسمه لويس وهو من أجل ملوك الفرنج وأعظمهم قدراً وأوسعهم مملكة وأكثرهم عساكر وأموالاً وبلاداً وكان قصد الديار المصرية واستولى على طرف منها وملك دمياط في سنة سبع وأربعين واتفق موت الملك الصالح نجم الدين فقام بتدبير الأمور وتقدمة العساكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فاستشهد ثم حضر الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح فقتل على ما هو مشهور وقدر الله تعالى مع هذه الأسباب التي يوجب بعضها استيلاء الفرنج على الديار المصرية بجملتها بل على البلاد وبأسرها ثم إن الله تعالى خذل

الفرنج وأهلكهم ورزق المسلمين النصر من حيث لم يحتسبوا فأسر ريداً فرنس وبقي أياماً كثيرة بيد المسلمين ثم أطلق عبد تسلم دمياط من الفرنج وتوجه إلى بلاده وفي قلبه ما فيه مما جرى عليه من ذهاب أمواله ورجاله وأسره فبقي في بلاده ونفسه تحدثه بالعود إلى الديار المصرية وأخذ ثأره فجمع جموعاً عظيمة وأهتم اهتماماً كثيراً لذلك في مدة سنين إلى سنة ستين وستمائة عزم على التوجه إليها فقيل له إنك إن قصدت ديار مصر ربما يجري لك مثل ما جرى في المرة الأولى والأولى أن تقصد تونس من بلاد إفريقية وكان ملكها يومئذ محمد بن يحيى بن عبد الواحد ويلقب المستنصر بالله ويدعى له على منابر إفريقية بالخلافة فإنك إن ظهرت عليه وملكت إفريقية تمكنت من قصد الديار المصرية في البر والبحر فأصغي إلى هذا الرأي وقصد تونس في عالم عظيم ونازلها وكان أن يستولي عليها وكان معه جماعة من الملوك فأوقع الله تعالى في عسكره وباء عظيماً فهلك ريداً فرنس وجماعة من الملوك الذين معه بظاهر تونس في هذه السنة ورجع من بقي منهم إلى بلاهم بالخيبة ووصلت البشرى بذلك إلى الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله فكتب إلى سائر بلاده بها. وكانت نوبة المنصورة المشار إليها من أعظم الوقائع وأجلها نصر الله فيها الإسلام وتداركه بلطفه ورحمته فلا بأس بشرح الحال فيها على وجه الإجمال فقد يقف على هذه الترجمة من لم يطلع على تفصيل الحال

في ذلك فتوق نفسه إلى الإطلاع عليه وكانت الفرنج جمعوا وحشدوا وقصدوا دمياط في عدد عظيم وجماعة من ملوكهم في سنة ثماني عشرة وستمائة ونزلوا بر دمياط ونازلوها وضايقوها قريب سنة ففنيت أزواد أهلها ومات أكثرهم في الحصار من وباء حصل لهم فتسلموها والملك الكامل نازل بالمنصورة وما حولها ولا يمكنه مهاجمتهم لكثرتهم وشدة بأسهم، وكان نزول الفرنج قبالة دمياط يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة ثم نزلوا البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة المذكورة، وأخذ الثغر المذكور يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، واستعيد منهم ثغر دمياط المذكور يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة، ومدة نزولهم على دمياط وتملكهم لها وإلى أن انفصلوا عنها ثلاث سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً. ومن الاتفاق العجيب نزولهم عليها يوماً الثلاثاء وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء وملكهم لها يوم الثلاثاء وقد جاء في الآثار أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء ولما ملك الفرنج دمياط قالوا هذه البلاد ليس لنا بها خبرة ولا نعرف طرقها ومسالكها لا في البر ولا في البحر يعنون النيل وما ينبغي لنا أن نغرر بأنفسنا ونخرج إلا على بصيرة فاتفق رأيهم على أن جهزوا بعض ملوكهم الأكابر رسولاً وكان خبيراً بالحروب فطناً مجرباً وسيروا جميع من معه من الخدم والحاشية والغلمان وغيرهم خيالة من أعيان فرسانهم وأولي البصائر منهم وقد غيروا زي الجميع

وكان مقصودهم أن يكشفوا البلاد ويسلكوها ويخبروا طرقها ليبقى لهم بذلك أنسه، فجاء الرسول إلى الملك الكامل وقال له الملوك والمقدمون يسلموا عليك وقالوا مقصودهم القدس وإنما قصدوا هذه البلاد ليأخذوها ويتوصلوا بها إلى القدس فأنت تسلم إليهم القدس وتأخذ دمياط فأجابهم إلى ذلك وعادوا بالجواب بعد أن أقاموا عنده أياماً وليس قصدهم إلا كشف البلاد لا غير، ثم جاء رسول آخر بالشرح في تقرير هذه القواعد واشتراطات تقتضي المراجعة وتكرر ترداد الرسل ولم يزالوا على هذا المنوال وكل رسول يحضر لا يعود بنفسه ولا أحد ممن معه إلى أن لم يبق من أعيانهم من لا حضر ورأى البلاد وخبرها حسبما أمكن، فلما بلغوا مقصودهم من ذلك حضر رسول يطلب تسليم ما تقرر فقال الملك الكامل سيروا نوابكم يتسلموا القدس وسلموا لنا دمياط فقال الرسول والكرك قال الملك الكامل والله هذا ما سمعته إلى الآن وبعد فالكرك ليست لي ولا بحكمي الكرك لأخي الملك المعظم ولو رمت أن أراها بعيني ما مكنني منها والقدس له أيضاً ولكني استطلقه منه فانفصلوا على غير شيء وقد حصل مقصود الفرنج من رؤية البلاد وكشفها بهذه الحلية. وقال الشيخ شمس الدين أبو المظفر لما أخذت دمياط كان الملك المعظم عند الملك الكامل فبكيا بكاء شديداً وتأخرت العساكر عن تلك المنزلة ثم قال الكامل للمعظم قد فات ما ذبح وجرى المقدور بما

هو كائن وما في مقامك هاهنا فائدة والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج وتستجلب العساكر من الشرق فعاد إلى الشام ونازل قيسارية وفتحها عنوة وفتح غيرها من حصون الفرنج وهدمه وعاد إلى دمشق بعد أن أخرب بلاد الفرنج، وكان الملك الكامل كثير الحزم والتثبت والتأني لا يرى المخاطرة والمناقشة ما لم يكن على ثقة من قوته ويغلب على ظنه الظفر غلبة تقرب من اليقين فسير إلى إخوته الملك الأشرف والملك المعظم يستنجد بهم فجاؤه بالعساكر، فلما بلغ الفرنج ذلك ضعفت أنفسهم وقالوا نحن جئنا نقاتل الملك الكامل وفينا له ولعسكره أما إذا اجتمع هو وأخوته فلا واتفق أن الفرنج أرادوا مناجزته قبل وصول النجد فخرجوا بفارسهم وراجلهم وأرسوا إلى بعض الترع وكان النيل زائداً جداً ففتح المسلمون عليهم الترع من كل مكان وأحدقت بهم عساكر الملك الكامل وهم في الوحل لا يقدرون على السلوك ولم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم ومنعهم من أن تصل إليهم ميرة من دمياط وكانوا خلقاً عظيماً وانقطعت أخبارهم عن دمياط وكان فيهم مائة كند وثماني مائة من الخيالة المعروفين وملك عكا ونائب البابا وجماعة من الملوك ومن التركبلية والرجالة ما لا يحصى، فلما عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الملك الكامل يطلبون منه الصلح والرهائن ويسلمون

دمياط فقال الملك الكامل للرسول ما أفعل أصالحهم وهم في قبضتي وأخذهم برقابهم فقال له الرسول وكان من ملوكهم ما كأنك تدري ما تقول هؤلاء ملوك الفرنج وفرسانهم وشجعانهم يسلمون أنفسهم إليك إلا بعد أن يقتل كل واحد منهم واحداً من عسكرك أو كل اثنين واحداً أو كل ثلاثة واحداً أو كل أربعة واحداً أو كل خمسة واحداً، فإذا قتلوا من عسكرك بمقدار خمسهم من يبقى معك فعلم الملك الكامل أن الصواب معه مع ما كان يراه من المسالمة وعدم المغافصة والمخاطرة فأجابهم إلى الصلح، ووصل الملك الأشرف والملك الأشرف والملك المعظم في ذلك الوقت جرائد على البريد والعساكر متقطعة وراءهم فطلبوا من الملك الكامل رهائن ليسلموا دمياط ويحضر عنده ملوكهم ونصوا على الملك الأشرف في الرهينة فقال الملك الكامل الملك الأشرف أكبر مني قدراً وأكثر بلاداً وقلاعاً وعساكر وقد ترك مملكته وجاء بنفسه لنصرتي كيف يسعني أن أخاطبه في مثل ذلك ولكن أنا أسير لكم ولدي وابن أختي فسير لهم الملك الصالح نجم الدين وابن أخته شمس الملوك، وجاء سائر ملوكهم إلى الملك الكامل فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام وجلس لهم مجلساً عظيماً في خيمة عالية ودهليز هائل وأعد سماطاً عظيماً وأحضر ملوك الفرنج وكنودهم وأعيانهم ووقف الملك الأشرف والملك المعظم في خدمته وقام شرف الدين راجح الحلى الشاعر فأنشد

قصيدة امتدحه بها من جملتها: هنيئاً فإن السعد راح مخلداً ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحاً بدا لنا ... مبينا وأنعاماً وعزاً مؤبدا تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا ولما طغا البحر الخضم بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سل عزمه ... صقيلاً كما سل الحسام مجردا فلم ينج إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أمن تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً ... عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى أن عيسى وحزبه ... وموسى جميعاً يخدمون محمدا من أبيات، ووقع الصلح بين الملك الكامل والفرنج يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب وسار بعض الفرنج في البر وبعضهم في البحر إلى عكا وتسلم الملك الكامل دمياط ووصلت العساكر الشرقية والشامية بعد تسلم دمياط، فهذه خلاصة نوبة دمياط الأولى. وذكر القاضي جمال الدين محمد بن واصل أن الفرنج نازلوها سنة خمس عشرة وملكوها سنة ست عشرة وستمائة والأصح أن الواقعة سنة ثماني عشرة وستمائة والله أعلم، وأما نوبة دمياط الآخرة فإن ريدا فرنس مقدم الأفرنسيسية من الفرنج وهو المشار إليه في أول هذه الترجمة خرج من بلاده في جموع عظيمة طامعاً في الديار المصرية وتملكها وشتا بجزيرة قبرص سنة ست وأربعين، وكان أعظم ملوك الفرنج

وأشدهم بأساً متديناً بدين النصرانية مرتبطاً به فحدثته نفسه أن يستعيد البيت المقدس وعلم أن ذلك لا يتم له إلا بتملك الديار المصرية فقصدها سنة سبع وأربعين وكان جمعه يزيد على خمسين ألف وقيل كان يزيد على مائة ألف بكثير، وبلغ الملك الصالح نجم الدين ما عزم عليه من قصد الديار المصرية فأخذ في جمع الذخائر والأقوات والزرد خاناة وآلات الحرب بدمياط واستكثر من ذلك وهيأ الشواني بالصناعة وعمرها بالرجال والعدد وأمر الأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزة دمياط في العساكر مقدماً عليها فنزل بها وبينه ويبن دمياط بحر النيل، وأقام الملك الصالح بأشمون طناج فلما كان ثاني ساعة من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر سنة سبع وأربعين وصلت مراكب الفرنج وفيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل فأرسلوا بإزاء المسلمين. وفي يوم الجمعة ثاني يوم نزولهم شرعوا في الخروج إلى البر الذي فيه المسلمون وضربت خيمة عظيمة حمراء لريدا فرنس وناوشهم بعض المسلمين فاستشهد في ذلك اليوم الوزيري وهو من أمراء الديار المصرية والأمير نجم الدين بن شيخ الإسلام وكان رجلاً صالحاً رحمهما الله، فلما أمس المسلمون رحل بهم الأمير فخر الدين وقطع بهم الجسر إلى البر الشرقي الذي فيه دمياط وخلا البر الغربي للفرنج ثم رحل بالعساكر طالباً أشمون طناج وخلا البر الشرقي والغربي من عساكر المسلمين فخاف أهل دمياط على أنفسهم وكان بها جماعة شجعان

من الكنانية فألقى الله في قلوبهم الرعب فخرجوا هم وأهل دمياط على وجوههم طول الليل ولم يبق بدمياط أحد البتة، ورحلوا تحت الليل مع العسكر هاربين إلى أشمون طناج ولو غلقوا أبوابها وأقاموا بها مع مشيئة الله لم يقدر العدو عليها ولما كان صباح الأحد جاء الفرنج إلى دمياط فوجدوها صفراً من الناس وأبوابها مفتحة فملكوها صفوا عفواً واحتووا على ما فيها من العد والأسلحة والذخائر والأقوات والمجانيق، فلما وصلت العساكر وأهل دمياط إلى الملك الصالح حنق على الكنانيين فشنقهم جميعهم وكان فيهم شيخ له ابن فسأل أن يشنق قبل ولده لئلا يراه فحمل الملك الصالح ما عنده من الجبروت وقلة الرحمة والحنق على أن شنق الولد قبل والده وعينه تراه ثم شنق والده بعده وعظم على الناس شنق الكنانيين وأطلقوا لسنتهم بسبب الملك الصالح وكونه تزود بدمائهم وهو في آخر رمق وقد يئس من نفسه ولم يمكنه أن يقول للأمير فخر الدين وبقية العسكر شيئاً لقوة مرضه وعجزه، ثم رحل الملك الصالح بالعساكر إلى المنصورة وهي شرقي النيل فنزل بقصرها الذي أنشأه الملك الكامل بها وضرب دهليزه إلى جانبه وكان استقراره بالمنصورة يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر وشرعت العساكر في تجديد الأبنية وقامت بها الأسواق وأصلح السور الذي كان على البحر وستر بالستائر وجاءت الشواني والحراريق

بالعدد الكاملة والمقاتلة فأرسوا قدام السور وحضر من الرجالة والغزاة المطوعة والعربان من سائر النواحي خلق لا يحصون وشرع العربان في الإغارة على الفرنج وحصن الفرنج أسوار دمياط وشحنوها بالمقاتلة وفي كل وقت يحضر المسلمون جماعة سرى من الفرنج واتفقت وفاة الملك الصالح في حدود منتصف شعبان سنة سبع وأربعين، فلما تحقق الفرنج موته رحلوا بجملتهم من دمياط وشوانيهم تحاذيهم في البحر ونزلوا على فارس كور ثم تقدموا منها مرحلة، وذلك يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، ولما كان يوم الثلاثاء مستهل شهر رمضان وقع بين المسلمين والفرنج وقعة استشهد فيها جماعة من الجند وغيرهم، وفي يوم الأحد عشر شهر رمضان وصلت الفرنج طرف جزيرة دمياط وهي المنزلة التي نزلوها في أيام الملك الكامل وانتصر المسلمون عليهم فيها والمسلمون قبالة الفرنج وبينهم النيل وخندق الفرنج على أنفسهم وأداروا عليهم سوراً وستروه بالستائر ونصبوا المجانيق يرمون بها المسلمين وأرست شوانيهم بإزائهم في النيل وشواني المسلمين بإزاء المنصورة ونشب القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكل يوم يقتل من الفرنج ويؤسر جماعة وفي يوم الأربعاء لسبع مضين من شوال أخذ المسلمون من الفرنج شينيا فيه مائتا رجل وكند كبير، وفي يوم الخميس منتصف شوال ركبت الفرنج والمسلمون ودخل المسلمون إلى برهم واقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من الفرنج أربعون فأرسا، وفي يوم الخميس لثمان بقين من شوال أحرق

المسلمون للفرنج مرمة عظيمة في البحر واستظهر عليهم المسلمون استظهاراً بيناً. ومن غريب ما حكى أن شخصاً من المسلمين دخل عسكرهم ومعه فرس يقصد بيعه عليهم فمر بشخص في خيمة وبين يديه جماعة غلمان فطلبه إليه وقال له بلسان ترجمانه تبيع هذا الفرس قال نعم فقال لغلامه خذه منه فأخذه وأحضر جرابين ملآنة دراهم ففرغها بين يديه وقال له خذ ثمن فرسك قال ما الذي آخذ قال خذ ما تختار إلى أن ترضى، فأخذت قريب خمسة آلاف درهم ولعل فرسه لا يساوي ثماني مائة درهم فقال رضيت قال نعم قال نعم قال اذهب بمالك فلما أبعد رده وقال له نحن قد خرجنا من هذا البحر ومعنا دراهم كثيرة وذهب كثير ما لنا به حاجة وما معنا خيل ونحن محتاجون إلى الخيل فمن أحضر إلينا فرساً حكمناه في الثمن كما رأيت فخرج ذلك الرجل من عندهم، وأشهر هذا الأمر بين العربان والتركمان وغيرهم فجلب إليهم من الخيول بهذه الطريق فوق حاجتهم واشتروها بما اختاروا من الثمن فإن الخروج من عسكرهم بفرس خطر جداً والدخول أسهل فما يبقى بعد الدخول بالفرس إلى عسكرهم إلا بيعه ولو بأقل الأثمان، ولما كان بكرة الثلاثاء خامس ذي القعدة ركب الفرنج ونزلوا بخيولهم في مخاضة سلمون ببحر أشمون دلهم عليها بعض المفسدين وكبسوا عسكر المسلمين فلم يشعر بهم المسلمون إلا وقد خالطوهم وكان الأمير فخر الدين في الحمام فأتاه الصريخ فركب

دهشاً غير معتد ولا متحفظ فصادفه جماعة من الفرنج فاستشهد إلى رحمة الله تعالى، ودخل ريدا فرنس المنصورة ووصل إلى قصر السلطان الذي على البحر وتفرقت الفرنج في أزقة المنصورة وهرب كل من فيها من الجند والعامة والسوقة يميناً وشمالاً وكادت شأفة الإسلام تستأصل وأيقن الفرنج بالظفر واشتد الأمر وأعضل الخطب فانتدب لهم جماعة من فرسان المسلمين وأولي البصائر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فزعزعوا أركانهم وأخذتهم السيوف فقتل منهم خلق كثير قريب ألفي وخمس مائة من فرسانهم وصناديدهم وشجعانهم ولولا ضيق مجال القتال لاستؤصلوا ومضى من سلم إلى مكان يقال له جديلة واجتمعوا به ودخل الليل فضربوا عليهم سوراً وخندقاً وأقامت طائفة بالبر الشرقي، وكانت هذه الواقعة مقدمة النصر وورد المنهزمون من المسلمين آخر النهار من ذلك اليوم إلى القاهرة ولا علم لهم بما تجدد من النصر وأخبروا بما شاهدوا من هجوم الفرنج المنصورة فانزعج الناس، فلما طلعت الشمس من يوم الأربعاء وردت البشرى بالنصر وزين البلدان وعظم السرور. ولما استقر الفرنج بمنزلتهم كانت الميرة تأتيهم من دمياط في النيل فعمد المسلمون إلى مراكب شحنوها بالمقاتلة وكانوا قد حملوها على الجمال إلى بحر المحلة وألقوها فيه وفيه ماء من أيام زيادة النيل واقف لكنه متصل بالنيل فلما حاذت مراكب الفرنج وهي مقلعة من دمياط بحر

المحلة وفيه المراكب المكمنة للمسلمين خرجت عليها المراكب من بحر المحلة ووقع القتال بين الفريقين وجاءت أساطيل المسلمين منحدرة من جهة المنصورة والتقى الأسطول والمراكب المكمنة وأحاطوا بهم وقبضوهم أخذاً باليد، وكانت عدة المراكب المأخوذة من الفرنج اثنين وخمسين مركباً وقتل وأسر ممن فيها نحو ألف رجل وأخذ ما فيها من الميرة ثم حملت الأسى على الجمال وقد بهم العسكر وانقطعت الميرة بسبب ذلك عن الفرنج ووهنوا وهنا عظيماً هذا وحجارة مجانيقهم تقع إلى جهة أساطيل المسلمين، وكان يوماً مشهوداً أعز الله فيه الإسلام وأوهى قوى أهل الشرك واشتد من يومئذ عندهم الغلاء وعدمت الأقوات وبقوا محصورين لا يستطيعون المقام ولا الذهاب وطمع فيهم المسلمون. وفي مستهل ذي الحجة أخذ الفرنج من مراكب المسلمين التي في بحر الملحة سبع حراريق وهرب من بها من المسلمين. وفي يوم عرفة تاسع ذي الحجة خرجت شواني المسلمين على مراكب وصلت للفرنج تحمل الميرة فالتقوا عند مسجد النصر فأخذت شواني المسلمين من مراكب الفرنج اثنين وثلاثين مركباً منها تسع شواني فازداد عند ذلك ضعف الفرنج ووهنهم وقوى الغلاء عندهم وشرعوا في مراسلة المسلمين وطلب الهدنة وإن يسلموا ثغر دمياط على أن يأخذوا عوضه بيت المقدس وبعض الساحل فلم تقع الإجابة إلى ذلك. وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة أحرقت الفرنج أخشابهم كلها وأفنوا مراكبهم وعزموا على الهرب إلى دمياط ودخلت سنة

ثمان وأربعين وهم على ذلك، فلما كانت ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم رحلوا بفارسهم وراجلهم إلى دمياط ليمتنعوا بها وأخذت مراكبهم في الانحدار في النيل قبالتهم فعدا المسلمون لي برهم وركبوا أكتافهم واتبعوهم وطلع الصباح من يوم الأربعاء المذكور وقد أحاط بهم المسلمون وأخذتهم سيوفهم واستنزلوا عليهم قتلاً وأسراً ولم يسلم منهم إلا الشاذ فبلغت عدة القتلى يومئذ ثلاثين ألفاً، وانحاز الملك ريدا فرنس والأكابر من أصحابه والملوك إلى تل هناك فوقفوا مستسلمين طالبين الأمان فأتاهم الطواشي محسن الصالحي فأمنهم فنزلوا على أمانه واحتيط عليهم ومضى بريداً فرنس وبهم إلى المنصورة وضرب في رجل ريدا فرنس القيد واعتقل في الدار التي كان نازلاً بها فخر الدين إبراهيم ابن لقمان كاتب الإنشاء ووكل به الطواشي جمال الدين صبيح المعظمي وفي هذا الواقعة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال حق عن قوول فصيح آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يشوع المسيح أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح

خمسون ألفاً لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح إن كان باباكم بذا راضياً ... فرب غش قداتي من نصيح وقل لهم أن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم توران شاه والعساكر إلى جهة دمياط ونزل بفارس كور وهو متراخ عن قصد دمياط وانتزاعها وسير البشائر إلى سائر البلاد بما تسنى هذا النصر العظيم، واتفق قتل المعظم على الصورة المشهورة فلا حاجة إلى شرحه والأمر على ذلك واستقر في الأتابكية وتقدمة العساكر الأمير عز الدين أيبك التركماني كما تقدم في ترجمته والسلطنة لشجرة الدر وشرعوا في الاحديث مع ريدا فرنس في تسليم دمياط إلى المسلمين وكان المتحدث معه الأمير حسام الدين بن أبي علي باتفاق الأتابك والأمراء عليه فجرى بينه وبين ريدا فرنس محاورات ومراجعات حتى وقع الاتفاق على تسليم دمياط وإن يذهب بنفسه ومن معه من الملوك والأكابر سالمين، وحكى الأمير حسام الدين بن أبي علي باتفاق الأتابك والأمراء عليه فجرى بينه وبين ريدا فرنس محاورات ومراجعات حتى وقع الاتفاق على تسليم دمياط وإن يذهب بنفسه ومن معه من الملوك والأكابر سالمين، وحكى الأمير حسام الدين عنه أنه كان فطناً عاقلاً حازماً قال حسام الدين قلت له في بعض محاورتي له كيف خطر للملك مع ما أرى

من عقله وفضله وصحة ذهنه أن يقدم على خشب ويركب متن هذا البحر ويأتي إلى هذه البلاد المملوءة من عساكر الإسلام ويعتقد أنه يحصل له تملكها وفيما فعل غاية التغير بنفسه وأهل ملته فضحك ولم يحر جواباً فقلت له قد ذهب بعض فقهاء شريعتنا أن من ركب البحر مرة بعد أخرى مغررا بنفسه وماله أنه لا يقبل شهادته فضحك وقال لقد صدق هذا القائل وما قصر فيما حكم به. ولما وقع الاتفاق على تسليم دمياط أرسل ريدا فرنس إلى من بها من الفرنج يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين فأجابوا بعد امتناع ومراجعات بينه وبينهم ودخل السنجق السلطاني دمياط يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر سنة ثمان وأربعين ورفع على سورها وأعلن بها بكلمة الإسلام، وأفرج عن ريدا فرنس وانتقل هو وأصحابه إلى الجانب الغربي ثم ركب البحر غد هذا اليوم وأقلع هو وأصحابه إلى عكا وأقام بالساحر مدة وعمر قيسارية ثم رجع إلى بلاده، وكانت هذه النصرة أعظم من النصرة الأولى التي كانت في الأيام الكاملية لكثرة من قتل منهم وأسر في هذه المرة لله الحمد والمنة. وإذ قد جرى ذكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فلا بأس بالتنبيه عليه كان رحمه الله أميراً كبيراً جليل المقدار عالي الهمة فاضلاً عالماً متأدباً جواداً سمحاً ممدحاً خليقاً بالملك لما فيه من الأوصاف الجميلة التي قل مشاركه فيها وكان كريماً إلى العامة كبير النفس شجاعاً

حسن التدبير والسياسة محبوباً إلى الخاص والعام مطاعاً في الجند وغيرهم تعلوه الهيبة والوقار وأمه وأم أخوته ابنة شهاب الدين المطهر بن الشيخ شرف الدين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون، وكانت أرضعت الملك الكامل فكان أولادها الأربعة أخوته من الرضاعة وكان يحبهم ويعظمهم ويرى جانبهم ويقدمهم كثيراً خصوصاً الأمير فخر الدين فإنه لم يكن عنده في مكانته لا يطوي عنه سراً ويعتمد عليه في سائر أموره ويثق به وثوقاً عظيماً ويسكن إليه ظاهراً وباطناً ونال الأمير فخر الدين وأخوته من السعادة ما لا ناله غيرهم، ولما ملك الملك الصالح نجم الدين البلاد أعرض عن الأمير فخر الدين وأطرحه واعتقله ثم أفرج عنه وأمره بلزوم بيته ثم ألجأته الضرورة إلى ندبه في المهمات لما لم يجد من يقوم مقامه فجهزه إلى بلاد الملك الناصر داود رحمه الله فأخذها على ما تقدم ولم يترك بيده سوى مسور الكرك ثم جهزه لحصار حمص ثم ندبه لمقاتلة الفرنج فاستشهد على ما ذكرنا، وكان الأمير فخر الدين معماً في أول أمره فألزمه الملك الكامل أن يلبس الشربوش وزي الجند فأجابه إلى ذلك فأقطعه منية السودان بالديار المصرية ثم طلب منه أن ينادمه فأجابه إلى ذلك فأقطعه شبراً فقال ابن البطريق الشاعر: على منية السودان صار مشربشا ... وأعطوه شبراً عند ما شرب الخمرا فلو ملكت الفرنج مصر وأنعموا ... عليه ببيوس تنصر للأخرى وقال فيه وفي عماد الدين أخيه وكان يذكر الدرس بالمدرسة التي

إلى جانب ضريح الشافعي رضي الله عنه: ولد الشيخ في العلوم وفي الإمرة بالمال وحده والجاه فأمير ولا قبال عليه ... وفقيه والعلم عند الله وقال في عماد الدين: جاءني الشافعي عند رقادي ... وهو يبكي بحرقة وينادي عمر قبتي لعمري ولكن ... هدموا مذهبي بفقه العماد وقال فيهم ابن عنين: أولاد شيخ الشيوخ قالوا ... ألقابنا كلها محال لا فخر فينا ولا عماد ... ولا معين ولا كمال ولقد قالا غير الحق فإن أولاد الشيخ رحمهم الله كانوا سادات زمانهم وكان لهم مع الإقطاعات مناصب دينية منها المدرسة التي بالقرافة إلى جانب قبة الشافعي رحمة الله عليه، ومنها المدرسة التي إلى جانب مشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة ومنها خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة، ولم تزل هذه المناصب بأيديهم إلى أن ماتوا كلهم وكانت بعد ذلك لولدي عماد الدين وكمال الدين مدة ثم انتزعت منهما ولم يكن للأمير فخر الدين إلا بنت واحدة وكان الأمير فخر الدين ينظم ومن شعره:

عصيت هوى نفسي صغير فعندما ... رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر اطلعت الهوى عكس القضية ليتني ... خلقت كبيراً وانتقلت إلى الصغر وله: إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فذاك القدر يكفيه أنتم سلبتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أدري بالذي فيه وقال في مملوك له توفي: لا رغبة في الحياة من بعدك لي ... يا من ببعاده تداني أجلي إن مت ولم أمت أسىً وأخجلي ... من عتبك لي في يوم عرض العمل وكان قدم دمشق فنزل في دار أسامة وكان يعاني الشراب فدخل عليه الشيخ عماد الدين بن النحاس وكان يدل عليه وله عنده مكانة كبيرة وقال له يا فخر الدين إلى كم تشير إلى تناول الشراب فقال له يا عماد الدين والله لأسبقنك إلى الجنة إن شاء الله تعالى فكان والله أعلم كما قال استشهد فخر الدين في سنة سبع وأربعين وتوفي عماد الدين في سنة أربع وخمسين وقد ذكرناه هناك وكان للأمير فخر الدين يوم استشهد ست وستون سنة رحمه الله وكان قد رأى قبل مقتله بأيام والدته في المنام وهي تقول له قد أوحشتني وحملته على كتفها فاستشعر من ذلك فقتل ثم حمل من المعركة بقميص واحد وجعل في حراقة إلى القاهرة وحمل من المقياس إلى الشافعي رضي الله عنه فدفن عند والدته وبكى عليه الناس وكان يوماً مشهوداً وعمل له العزاء العظيم

رحمه الله تعالى ورثاه غير واحد فممن رثاه الصاخب جمال الدين يحيى ابن مطروح قال: أأبا المظفر يوسف بن محمد ... أودى مصابك بالندى والسودد آليت لا أنساك ما هب الصبا ... حتى أوسد في صفيح الملحد ومنها: فتكوا يوم الثلاثا فتكة ... فجمع الخميس بها ولك موحد وخلا الندى من المكارم والعلا ... بخلوه من مثل ذاك السيد قل ما بدا لك يا حسود فطالما ... فقأت معاليه عيون الحسد فعليك مني ما حييت تحية ... كالمسك طيبة تروح وتغتدي وقال لما بلغه نعيه: فض فما نعى لنا ... يوم الخميس يوسفا وا أسفي من بعده ... على العلا وإذا أسفا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور ابن رافع بن حسن ابن جعفر أبو الفرج عز الدين المقدسي الدمشقي الحنبلي ومولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وستمائة وكان عالماً فاضلاً صالحاً ثقة حسن الطريقة له رحلة سمع فيها من جماعة من المتأخرين وهو من بيت الحفظ والحديث وانتفع به جماعة وجده الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني المشهور صاحب التصانيف النافعة والعلوم الواسعة

وكانت وفاة عز الدين المذكور في النصف من ذي الحجة بجبل قاسيون ودفن به رحمه الله. عبد الرحمن بن أبي الليث بن عيسى بن أبي الليث تقي الدين الحموي توفي بحماة في سبع عشري ربيع الآخر من هذه السنة ولم يبلغ من العمر خمسين سنة وكان من أولاد المشايخ حسن الطريقة رضي الأفعال وله زاوية بجامع حماة مشرفة على نهر العاص وهي من أحسن الأماكن وأنضرها يرد عليها الفقراء وغيرهم ووالده الشيخ أبو الليث رحمه الله من الصلحاء الأعيان وهو من جملة أصحاب سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله ومن المنتمين إليه. عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف أبو محمد عز الدين المحدث الرسعني مولده يوم الأحد بين الظهر والعصر الثالث والعشرين من شهر رجب سنة تسع وثمانين وخمسمائة برأس عين وتوفي ليلة الجمعة عشاء الآخرة المسفرة من ثاني عشر ربيع الآخر هذه السنة بسنجار ودفن بظاهرها شرقي البلد سمع وحدث وكان فاضلاً عالماً أديباً شاعراً جميل الأوصاف رئيساً من صدور تلك البلاد وأعيان أهلها وكانت له مكانة عند بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وغيره ومن شعره: يا من يرينا كل وقت وجهه ... بشراً ويبدي كفه معروفا أصبحت في الدنيا سرياً بعد ما ... أمسيت فيها بالتقى معروفا وقال: نعب الغراب فدلنا بنعيبه ... أن الحبيب دنا أوان مغيبه

يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ... جدلي بعيش ثم سل عن طيبه وقال: ولو أن إنساناً يبلغ لو عتى ... وشوقي وأشجاني إلى ذلك الرشأ لا سكنته عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا علي بن شجاع بن سالم بن علي بن موسى بن حسان بن طوق واسمه عبيد الله بن سند بن علي بن الفضل بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو الحسن كمال الدين العباسي الضرير المصري الشافعي المقرئ مولده في سابع شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بالمعتمدية قرية من قرى الجيزية قرأ القرآن بالروايات وتفقه وقرأ الأدب والنحو وسمع الكثير من جماعة من أهل البلاد والقادمين عليه وحدث بالكثير مدة وتصدر بالجامع التعتيق بمصر وبمسجد موسك بالقاهرة مدة لإقراء القرآن الكريم فقرأ عليه جماعة كثيرة وانتفع الناس به انتفاعاً كثيراً وإليه انتهت رياسة الإقراء بالديار المصرية وكان أحد الأئمة المشهورين والفضلاء المذكورين مع ما جبل عليه من حسن الخلق ولين الجانب وكثرة التواضع وتوفي بالديار المصرية في سابع ذي الحجة ودفن من الغد بسفع المقطم رحمه الله. محمد بن أحمد بن عنتر أبو عبد الله شرف الدين السلمي الدمشقي كان من أعيان أهل دمشق وعدولها وأولي الثروة بها وولي الحسبة بها

في أيام التتر فطلب لذلك إلى الديار المصرية فأدركته المنية بها في أوائل صفر رحمه الله. محمد بن أحمد بن الموفق بن جعفر أبو القاسم علم الدين الأندلسي المرسي اللورقي مولده سنة خمس وسبعين وخمسمائة سمع من عبد العزيز ابن الأخضر وأبي اليمن الكندي وغيرهما واشتغل بالقرآت والنحو والعربية وبرع في ذلك وشرح كتاب المفصل ومقدمة الجزولي وقصيدة الشاطبي وكان إماماً عالماً فاضلاً أحد المشايخ الصلحاء الجامعين بين العلم والعمل وكانت وفاته في سابع شهر رجب بدمشق ودفن من الغد بمقابر باب توما رحمه الله وكان يسمى القاسم أيضاً. محمد بن عبد الرحيم بن.... أبو عبد الله شهاب الدين المعروف بابن الضياء ويعرف بأجير البهاء كاتب الشروط كان قد فاق كتاب عصره في ذلك وكان الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله يفضله في ذلك على غيره فصار له بذلك شأن عظيم وهو أخذ هذه الصناعة عن الشريف بهاء الدين عبد القاهر بن عقيل العباسي رحمه الله لكنه فاق عليه وتوفي في السابع والعشرين من شهر رجب هذه السنة بدمشق ولم يكن يشهد على الحكام ولا يتعاطى ذلك لاستغنائه بصناعته وبما يتحصل له من الأجر الوافرة قيل أنه كان يكتب في اليوم الواحد ما يتحصل له فيه من الأجرة فوق المائة درهم ولعل هذا كان يقع له

في غالب الأوقات ومات وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى. محمد بن نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي ابن حمزة أبو الفضل جمال الدين التميمي الدمشقي المعروف بابن القلانسي مولده بدمشق في ذي الحجة سنة ست وستمائة سمع من أبي اليمن الكندي وغيره وحدث هو وغير واحد من أهل بيته وكان من العدول الرؤساء الأعيان ومن أولي الثروة والوجاهة بدمشق وتوفي في الرابع والعشرين من جمادى الأولى ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. إلياس بن عيسى بن محمد الأربلي الشيخ الصالح الفاضل كان مقيماً بدمشق وأكثر نهاره بالجامع في رواق الحنابلة وكان على ذهنه من الحكايات والنوادر والوقائع شيء كثير من حسن الحديث والمحاضرة وكان مليح الشكل ظريفاً لطيفاً وكان والدي رحمه الله يحبه ويؤثر سماع حديثه فكان لا يكاد يفارقه إذا كان والدي بدمشق وله على والدي رسم من النفقة يسيره إليه في كل سنة وكان يجلس عليه الأعيان والصدور لصلاحه وحسن شكله وسمته وحديثه ثم سكن جبل قاسيون في آخر عمره وبه توفي في ثالث عشر شعبان وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى. أبو الهيجاء بن عيسى بن خشترين الأمير مجير الدين الأزكشي الكردي الأموي كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وشجعانهم وكان له في مصاف التتار بعين جالوت اليد البيضاء والأثر العظيم ولما قدم الملك المظفر

قطن رحمه الله دمشق بعد الوقعة رتب الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً عنه وجعل الأمير مجير الدين المذكور مشاركاً له في الرأي والتدبير ويجلس معه في دار العدل وأقطعه بالشام خبزاً جليلاً فبقي مقيماً بالشام إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى في تاسع عشري شعبان بدمشق ودفن بجبل قاسيون رحمه الله قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله ووالده مات في حبس الملك الأشرف بن الملك العادل ببلاد الشرق هو وعماد الدين أحمد بن المشطوب رحمهما الله. وإذ قد جرى ذكر هما فلا بأس بشرح شيء من خبرهما كان الأمير حسام الدين عيسى بن خشترين من أعظم أمراء الملك الظاهر بحلب فلما توفي الملك الظاهر وترك ولده الملك العزيز صغيراً حصل الطمع في بلاده لصغر سنه فسيرت والدته الصاحبة بنت الملك العادل باتفاق الأتابك شهاب الدين طغريل إلى الملك الأشرف واستدعته فحضر إلى حلب واجتمع بأخته وبالأتابك شهاب الدين فقررا معه القيام بنصرة الملك العزيز فأجاب إلى ذلك وأقام بحلب مدة وصار الحاكم المنصرف فخاف الأمراء الظاهرية من استيلائه واستقلاله وقالوا كيف العمل فقل حسام الدين دعوني وإياه فركب يوماً وهم في خدمته على العادة فلما عادوا إلى ظاهر البلد ترجل حسام الدين بن خشترين ووقف

بين يديه وقال يا خوند هذا اليتيم قد ضيقت عليه بمقامك في حلب ونشتهي أن تتوجه إلى بلادك فما تحملك هذه البلاد ومنعه من دخول حلب وظهر للملك الأشرف أن ذلك باتفاق من سائر الأمراء فلم يسعه إلا التروح عن حلب وبقي في قلبه من حسام الدين كونه تجاسر عليه بهذه المخاطبة وأوجهه بها واتفق أنه ظفر به بعد ذلك بمدة فحبسه وضيق عليه فمات في حبسه رحمه الله. وأما عماد الدين أبو العباس أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن أبي الهيجاء بن عبد الله بن أبي الخليل بن مرزبان الهكاري فكان أميراً كبيراً جليلاً شجاعاً جواداً واس العطاء عالي الهمة يضاهي كبار الملوك في كثرة الحشم والغلمان والأتباع تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج علهم وكان ولده يعرف بالأمير الكبير ذلك علماً عليه لا يشاركه فيه غيره وجده أبو الهيجاء صاحب العمادية وعدة قلاع من بلاد الهكارية وكان سيف الدين كبير القدر عند السلطان صلاح الدين رحمه الله وكتب إليه يخبره بولادة عماد الدين وان عنده امرأة أخرى حاملاً فكتب القاضي الفاضل عن السلطان جوابه وصل كتاب الأمير الأعلى الخبر بالولدين الحال على التوفيق، والسائر كتب الله سلامته في الطريق، فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في كمامها، وكان سيف الدين في عكا لما حاصرها الفرنج فلما أخذوها وخلص وصل إلى صلاح الدين وهو بالقدس يوم الخميس

مستهل جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فدخل عليه بغتة وعنده الملك العادل فنهض إليه صلاح الدين واعتنقه وسر به سروراً عظيماً وأخلى المكان وتحدث معه طويلاً، وقال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله رأيت بخط القاضي الفاضل ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب أمير الأكراد وكبيرهم وكان وفاته يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالقدس وخبزه يوم وفاته نابلس وعبرتها ثلاثمائة ألف دينار وكان بين خلاصه من أسره وحضور أجله دون مائة يوم، فسبحان الحي الذي لا يموت وتهدم به بنيان قوم، والدهر قاض ما عليه لوم، وقوله تهدم به بنيان قوم حل به بيت عبدة بن الطبيب في مرثية قيس بن عاصم المنقري سيد أهل الوبر من ثلاثة أبيات وهو الآخر منها: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وأما الأمير عماد الدين فكان السلطان صلاح الدين أقطعه معظم خبز والده بعد وفاته وبقي إلى سنة ست عشرة وستمائة فاتفق مع الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل على الملك الكامل واستحلف جماعة من العسكر وكان مطاعاً فيهم وعرف الملك الكامل فرحل إلى أشمون وعزم على التوجه إلى اليمن ويئس من البلاد واطلع على ذلك

الملك المعظم فقال له لا بأس عليك وركب آخر النهار وجاء إلى خيمة ابن المشطوب وقال قولوا لعماد الدين يركب حتى نسير فأخبروه فخرج من الخيمة بغير صباغات وركب ولحق الملك المعظم فأبعد به عن العسكر وقال له الملك الأشرف قد طلبك وهو محتاج إليك فتسير إليه الساعة فقال ما في رجلي صباغات فقلع الملك المعظم صباغاته وأعطاه إياها ووكل به جماعة وأعطاه خمس مائة دينار وقال كل مالك يلحقك والله ما يضيع لك خيط واحد وسار به الموكلون ورجع الملك المعظم إلى خيمته فوقف حتى جهز خيله وغلمانه وثقله ولم يبق له خيطاً واحداً وساروا خلفه وعاد الملك المعظم إلى دهليزه فحضر إليه الملك الكامل وقبل رجله وشكره على ما فعل، وأما عماد الدين فوصل إلى حماة فأقام بها فبعث له الملك الأشرف منشوراً بأرجيش وغيرها وسير إليه الخلع والإنعام فسار إليه فأكرمه وأحسن إليه فصار يركب بالشبابة ويعمل في السلطنة أعظم مما يعمل الملك الأشرف ثم خامر على الملك الأشرف وعاث في بلاده وساعده صاحب ماردين ثم اتفق الملك الشرف وصاحب ماردين واصطلحا فدخل عماد الدين تل أعفر فسار إليه فارس الدين بن صبرة من نصيبين وبد الدين لؤلؤ من الموصل فحصراه وأنزله بدر الدين لؤلؤ بالأمان وحمله إلى الموصل ثم بعد مدة قريبة قيده وحمله إلى الملك الأشرف فألقاه في الجب وبقي فيه إلى أن مات رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة بحران ونبت له ابنته قبة على باب مدينة رأس عين ونقلته

من حران إليها ودفنته بها رحمه الله، وكانت ولادته في سنة خمس وسبعين وخمسمائة تقديراً ولما كان في السجن كتب بعض من كان متعلقاً بخدمته إلى الملك الأشرف دوبيت وهو. يا من بدوام سعده دار الفلك ... ما أنت من الملوك بل أنت ملك مملوكك ابن المشطوب في السجن هلك ... أطلقه فإن الأمر لله ولك ولما كان في السجن كتب إليه بعض الأدباء: يا أحمد ما زلت عماد للدين ... يا أشجع من أمسك رمحاً بيمين لا تيأسن أن جعلت في سجنهم ... ها يوسف قد أقام في السجن بضع سنين وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات. أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والأفك قام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك وقد رثي الأمير جمال الدين أبو الطيب خشترين بن تليل الحكمي الأميرين المشار إليهما عماد الدين وحسام الدين رحمهما الله بقصيدة طويلة مطلعها: نعى الناعي فاعلن في النحيب ... ففت كبود شبان وشيب نعى عيسى وأحمد فاستهلت ... غريبات الدموع من الغروب

نعى كسرى الملوك بكل أرض ... وقيصر في الجلالة والمهيب نعى قس بن ساعدة الأيادي ... وقيس الرأي في دفع الكروب من أبيات طويلة، وهذا الشاعر هو خشترين بن تليل بن أبي الهيجاء ابن أفشين بن خشترين الكردي الحكمي الأربلي من بني مروان بن الحكم ولد بمصر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وتوفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع عشرة وستمائة بإربل وتخرج على المهذب سالم بن سعادة الحمصي، وله أشعار حسنة، فمنها قصيدة مدح بها نسيبه الأمير حسام الدين عيسى بن خشترين: شاقني بالغوير ربع يباب ... ظعنت عنه زينب والرباب منزل طالما سقاه سحاب ... من جفوني إن ضن عنه السحاب وغدا في ربوعه كل يوم ... للغوادي وللدموع انسكاب شمرت نحوه الخطوب فأضحى ... لذيول السحاب فيه انسحاب ولعهدي به وفيه شموس ... مشرقات أفلاكهن القباب كل مرتجة الروادفقد رف عليها الصباوراق الشباب لست أدري وقد رشفت لماها ... أمدام بثغرها أم رضاب وشقيق زها على وجنتيها ... عند وقت العتاب أم عناب أظهرت ساعة السلام بنانا ... قد نمى من دمي عليه الخضاب حجبوها وما دروا أن من أسياف أجفانها عليها حجاب فلم ذا أعلل القلب منها ... بغرور الوعود وهي سراب

السنة الثانية والستون وستمائة

بعد أن حط باز شيب عذاري ... في ربوع الصبا وطار الغراب وإذا أول الشبيبة أخطأ ... فبعيد على الأخير الصواب لا زمان الشباب يبقى على العهد مقيماً ولا الحسان الكعاب وإذا جارت النوائب وامتد لدهري إلى ظفر وناب ؟ حسم النائبات عني حسام حكمي له القلوب قراب من أيبات، وله من جملة قصيدة: خليلي إن العيش في الدهر عارة ... فناهبه الدهر الذي هو ناهبه وبادر إلى يوم ترن قيانه ... فلا بد من يوم ترن نوادبه وقال من أبيات: ضحكت ثغور البيض لما إن بكت ... حدق السوابغ بالنجيع القاني أبداً تريك من الأسنة ألسناً ... تتلو عليك مقاتل الفرسان ؟؟ السنة الثانية والستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله وملوك الطوائف على القاعدة المستقرة في السنة الخالية خلا الملك الصالح ركن الدين إسماعيل صاحب الموصل فإن التتر قتلوه واستولوا على الموصل. متجددات السنة في أولها انتهت عمارة المدرسة الظاهرية التي بين القصرين بالقاهرة ورتب في تدريس الإيوان القبلي القاضي تقي الدين محمد بن الحسين

ابن رزين الشافعي وفي تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضي مجد الدين عبد الرحمن ابن العديم والشيخ شرف الدين الدمياطي لتدريس الحديث في الإيوان الشرقي والمقرئ كمال الدين المحلى في الإيوان الذي يقابله لإقراء القرآن بالروايات والطرق ورتب جماعة يقرؤون السبع بهذا الإيوان أيضاً بعد صلاة الصبح ووقف بها خزانة كتب وبنى إلى جانبها مكتباً لتعليم الأيتام وأجرى عليهم الخبز في كل يوم وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطهارة وجلس للتدريس بهذه المدرسة يوم الأحد سادس عشر صفر وحضر الصاحب بهاء الدين بن حنا والأمر جمال الدين بن يغمور والأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وغيرهم. وفي صفر لما توفي الملك الأشرف صاحب حمص تسلم الأمير بدر الدين بيليك العلائي حمص عشية الاثنين رابع عشرة ثم وصل بعد يومين بدر الدين يونس بن دلدرم الياروقي متولياً لها ومعه كمال الدين إبراهيم بن شيث وللرحبة وكان بها علاء الدين على الكرجاوي وتدمر سلمت بعد شهرين من وفاة الملك الأشرف. وفي صفر فوض الملك الظاهر قضاء القضاة بحلب وأعمالها إلى

القاضي كمال الدين بن الأستاذ علي ما كان عليه فتوجه من القاهرة يوم الجمعة السابع والعشرين منه ولم يطل مقامه بحلب وتوفي رحمه الله. وفيها سمر جماعة من المعربين بالقاهرة فتكوا في المسلمين، ومما جرى لهم أنهم طلبوا طبيباً حسن الملبس فقتلوه فلما سمر أحدهم للنجار أرفق بي فإني مريض فقال له النجار فآتيك بطبيب آخر. وفي يوم الثلاثاء العشرين من ربيع الآخر جاءت بالقاهرة زلزلة عظيمة جداً. وفيها استدعى الملك الظاهر لعلاء الدين أيدكين الشهابي إليه وأمره أن يرتب الأمير نور الدين علي بن مجلى نائباً عنه في حلب فلما وصل علاء الدين إلى القاهرة عزله وأقر ابن مجلى في نيابة السلطنة فأحسن السيرة وعمر البلاد ورفق بالرعية وأفرد الخاص على ما كان عليه في الأيام الناصرية. وفيها أمر الملك الظاهر بإنشاء خان بالقدس الشريف لابن السبيل وفوض بناءه ونظره إلى جمال الدين محمد بن نهار ونقل إليه من القاهرة باباً كان على دهليز بعض قصور الخلفاء ولم تم أوقف عليه قيراطاً ونصفاً بالطرة وثلث وربع قرية المشيرفة من بلد بصري ونصف

فصل

قرية لفيا من أعمال القدس يصرف ربع ذلك في خبز وفلوس وإصلاح نعال من يرد عليه من المسافرين وبنى به طاحوناً وفرناً. وفيها اشتد الغلاء بمصر وأعمالها فبلغ الأردب القمح مائة وخمسة دراهم نقرة والشعير وسبعين درهماً وثلاثة أرطال خبز بالمصري بدرهم نقرة ورطل اللحم بالمصري وهو مائة وأربعة وأربعون درهماً بدرهم وثلث نقرة ففرق الملك الظاهر الصعاليك على الأغنياء والأمراء وألزمهم بإطعامهم وفرق من شونة القمح على أرباب الزوايا ورتب أن يفرق كل يوم في الفقراء مائة أردب مخبوزة بجامع ابن طولون ودام ذلك إلى أن دخلت الغلال الجديدة في شهر رمضان وبيع القمح بالإسكندرية الأردب بثلاثمائة وعشرين درهماً ورقاً وانحط في يوم واحد إلى أربعين درهماً ورقاً. وفيها أحضر إلى بين يدي الملك الظاهر طفل ميت له رأسان وأربع أعين وأربع أيد وأربع أرجل فأمر بدفنه. وفي آخر هذه السنة قتل الزين سليمان الحافظي وسنذكره إن شاء الله تعالى. ؟ فصل وفيها توفي أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو العباس كمال الدين الأسدي الحلبي الشافعي

المعروف بابن الأستاذ قاضي القضاة بحلب وأعمالها مولده ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وستمائة سمع من أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي ومن جماعة كثيرة غيره وحدث ودرس وولى الحكم بحلب وأعمالها سنة ثمان وثلاثين وستمائة وهو في عنفوان شبابه فحمدت سيرته وشكرت طريقته كان سديد الإحكام وله المكانة العظيمة عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وسائر أرباب الدولة وكلمته نافذة وحرمته وافرة ومكارمه مشهورة ومناقبه مذكورة ولم يزل على ذلك حتى تملك التتر حلب وقلعتها في سنة ثمان وخمسين ومن الله تعالى بكسرهم في رمضان من السنة المذكورة، وكان قاضي القضاة كمال الدين قد نكب وأصيب بأهله وماله بولده فقدم الديار المصرية ودرس بالمدرسة المعزية بمصر وبالمدرسة الكهارية بالقاهرة وأقام على ذلك إلى أول هذه السنة ففوض إليه الحكم بحلب على عادته فحمله حب الوطن على إجابة فعاد إلى حلب وأقام بها مدة أشهر وتوفي بها في نصف شوال ودفن من الغد رحمه الله، وكان رئيساً جليلاً عظيم المقدار جواداً سمحاً ديناً تقياً نقياً حسن الاعتقاد بالفقراء والصالحين كثير المحبة لهم والميل إليهم والبر لهم والإيمان بكراماتهم لا ينكر ما يحكى عنهم مما يخرق العادات وكان أحد المشايخ الإجلاء المشهورين بالفضل والدين وحسن الطريقة ولين الجانب وكثرة التواضع

وجمال الشكل وحلاوة المنطق حضر إلى زيارة والدي رحمه الله ببعلبك فترجل عن بغلته من أول الدرب، ولما دخل الدار قعد بين يدي واليد متأدباً إلى الطرف الأقصى ولم يستند إلى الحائط وسمع عليه شيئاً من الحديث النبوي، وكان من حسنات الدولة الناصرية بل من محاسن الدهر وهو من بيت معروف بالعلم والدين والحديث، وأبوه القاضي زين الدين أبو محمد عبد الله تولى القضاء بحلب وأعمالها مدة وسمع من غير واحد وحدث وكان من العملاء الفضلاء الصدور الرؤساء، وجده عبد الرحمن أحد المشايخ المعروفين بالزهد والدين رحمهم الله تعالى وبيتهم أحد البيوت المشهورة في حلب بالسنة والجماعة. أحمد بن محمد بن صابر بن محمد بن صابر بن منذر أبو العباس ضياء الدين القيسي المالقي مولده في المحرم سنة خمس وعشرين وستمائة، وتوفي يوم الخميس ثامن شعبان ودفن يوم موته بالقرافة، وكان إماماً عالماً فاضلاً رحمه الله. سليمان بن المؤيد بن عامر زين الدين العقرباني المعروف بالحافظي قد ذكرنا فيما تقدم طرفاً يسيراً من خبره وتوجهه إلى التتر وأقامته عندهم، فلما كان في أواخر هذه السنة أحضره هولاكو إلى بين يديه وقال له ما معناه أنت قد ثبت عندي خيانتك وتلاعبك بالدول فإنك خدمت صاحب بعلبك طبيباً فخنته واتفقت مع غلمانه على قتله حتى قتل، ثم انتقلت إلى خدمة الملك الحافظ الذي عرفت به فلم تلبث أن خنته

وباطنت عليه الملك الناصر حتى أخرجت قلعة جعبر من يده ثم انتقلت إلى خدمة الملك الناصر ففعل معك من الخير ما فعل فخنته معي حتى جرى عليه ما جرى ثم انتقلت إلي فأحسنت إليك إحساناً لم يخطر ببالك فأخذت تكافيني بالأفعال الردية وتعاملني بما كانت تعامل به الملك الناصر وشرعت في مكاتبة صاحب مصر فأنت معي في الظاهر خارجاً عني في الباطن وعدد له ذنوباً كثيرة من خيانته في الأموال التي كان سيرها لاستجبابها من البلاد ثم أمر بقتله وقتل إخوته وأولاده وأقاربه ومن يلوذ به، فكان مجموعهم نحو الخمسين نفراً ضربت أعناقهم صبراً ولم ينج منهم إلا ولده مجير الدين محمد وولد لأخيه شهاب الدين اختفيا في السوق. فمن الأسباب المؤكدة لقتله أن الملك الظاهر استدعى أخاه العماد أحمد المعروف بالأشتر من دمشق إلى الديار المصرية وعوقه أياماً ثم أفرج عنه وأنعم عليه وقرر له في الشهر خمسمائة درهم ورتب له خبزاً ولحماً وغير ذلك وأمره أن يكتب إلى أخيه المذكور كتاباً يعرفه فيه نية الملك الظاهر له وشكره منه ونه يعرفه أن ما له ذنب وأنه برئ مما نسب إليه وأن الملك الظاهر عالم بأن مقامه عند التتر على غير اختيار منه بل خوفاً لما شاع عنه ويضمن له عنه أنه متى وافق الملك الظاهر على ما في نفسه من المواطأة على التتر فله ما يقترحه من الإقطاع ويكون بعد ذلك على حسب اختياره في التوجه إلينا والإقامة عند

هولاكو فكتب إليه فلما وصلته الكتب حملها إلى هولاكو وقال هل أن صاحب مصر إنما يكتب إلي بمثل هذا النقع ليقع في يديك فيكون سبباً لقتلي وقد عزمت أن أكاتب أعيان دولته ورعيته بمثل ما كاتبني لأكيده كما كادني فلم ير هولاكو ذلك صواباً فعاوده مراراً فأذن له فكتب كتباً لجماعة فوقعت في يد الملك الظاهر فعلم أنها مكيدة فكتب إليه يشكره على عرض الكتب على هولاكو واستصوب رأيه في ذلك لنزول التهمة عنه وبعث هذه الكتب مع قصاد وقرر معهم إذا وصولا شاطئ جزيرة ابن عمر يتجردون من ثيابهم على أنهم يسبحون ويختالون في إخفاء أنفسهم ليظن أنهم غرقوا وتكون الكتب ففي ثيابهم ففعلوا ذلك ورأى نواب التتر فأخذوها فوجدوا فيها الكتب فحملت إلى هولاكو فوقف عليها وأسرها في نفسه وأضمر قتله. والسبب الآخر أن هولاكو كان سيره لكشف الموصل وأعمالها وماردين والجزيرة وكان نائب هولاكو بالموصل شمس الدين الباعشيقي فدفع للحافظي ستة عشر ألف دينار رشوة لترك محاققته والكشف عنه وكذلك اعتمد نواب الجزيرة وماردين وديار بكر كلها، وكان الزكي الإربلي مقيماً بالموصل وعلم بما أخذه من الرشا فتوجه إلى هولاكو ورفع إليه وعلى الباعشيقي فعقد لهم مجلساً فظهر صدق الإربلي فقتل الباعشيقي وزادت هذه الحالة هولاكو الإغراء بقتل الحافظي فقتله ومن معه كما تقدم ومخازي الحافظي وخياناته على الإسلام أكثر من

أن تحصر منها إغراء التتر بالمسلمين وتطميعهم في بلادهم وممالكهم بحيث أن كل دم سفكوه في الشام هو شريكهم فيه، ولما توجه الملك العزيز ابن الملك الناصر إلى هولاكو في أواخر سنة خمس وخمسين انفرد الحافظي بهولاكو وقال له من جملة ما قال بعد أن أخذت بغداد، بغداد قد أخذتها والشام بلا ملك ومتى قصدته أخذته وأنا المساعد فيه فإن أكثر من بدمشق أهلي وأقاربي فأعطاه هولاكو سكاكيناً وقال متى جاءني أحد ومعه من الهدية لهولاكو شيئاً كثيراً وأخذ يغلغا للصالح إسماعيل ابن صاحب حمص بحمص، وكذلك لأمير حاجب وللوجيه ابن سويد ولغيرهم. وقرر مع الملك الناصر أن هولاكو قال له أن وصل الملك الصالح إلى أبقيت عليه بلاده وإن تعذر وصوله خوفاً من عسكره فليهرب بني يدي إلى أن يتفرق عسكره ويعود فإني أبقى عليه بلاده، فلما أخذت حلب وخرج الملك الناصر من دمشق لم يصحبه الحافظي فبعث إليه يطلبه فلم يجب فسير وراءه الأمير سابق الدين بيبرس أمير مجلس ومعه عسكر لإخراجه فغلق أبواب البلد وعصى فيه ورحل الملك الناصر على ما تقدم شرحه وتفرقت جموعه فكتب إليه الحافظي إن الذي قررته معك أنا بلق عليه ومتى عدت عادت البلاد إليك وقصده بذلك إيقاعه في يد التتر، فلما عاد الملك الناصر إلى دمشق سير إليه من استدعاه فقال لرسوله قل له ما اقدر أحضر عندك فإني كنت

بالأمس غلامك وأنا اليوم غلام هولاكو وأنت عدوه. ولما خرج الملك الناصر من دمشق أولاً واستولى عليها الحافظي قصد القلعة فامتنع وإليها بدر الدين محمد بن قزلجا ونقيبها جمال الدين محمد بن الصيرفي من تسليمها إليه وكذلك امتنع الشجاع إبراهيم والي قلعة بعلبك من تسليمها إليه ولم يزالوا كذلك إلى أن وصل كتبغا بالعساكر فتحققوا العجز بعد أن قاتلوه فضمن لهم كتبغا سلامتهم وسلامة من بالقلعتين من المسلمين وأموالهم أن سلموا فسلموا وأمنهم ووفي لهم بالأمان، فحملت الحافظي نفسه الكافرة كونهم لم يسلموا القلعتين إليه على أن كتب إلى هولاكو يغريه بهم فوصله الجواب بقتلهم فحضر مجلس كتبغا بالمرج وأوقفه على الكتاب فاستدعى بدر الدين محمد بن قزلجا وجمال الدين محمد بن الصيرفي وشجاع الدين إبراهيم وولده ونسيباً له فلما حضروا قال كتبغا للحافظي كيف قدمت على أن تكاتب في حق من أمنتهم ومع هذا فلا يسعني مخالفة مرسوم هولاكو فقم أنت اقتلهم وإلا صار لك عندنا ذنب نقتلك به فقام إليهم وضرب رقابهم ولم يزل الحافظي بدمشق إلى أن كسروا التتر على عين جالوت فهرب وتوجه إلى حلب واستصحب معه اخوته وأولاد أخيه وتحدث معهم في الطريق فكان من جملة الكلام أن قال ما كنت أظن أن الإسلا بقي يقوم له قائمة فقال له أخوه شرف الدين ما تعلم أن اله غار على الإسلام وقد أصبحت وإن أحماك من الملوك

وكان عند الحافظي فضيلة ومشاركة ولم تكن الإمرة لا ثقة به وقتل وهو في عشر السبعين وقدم على ما قدم وما ربك بظلام للعبيد. صالح بن أبي بك بن أبي الشبل بن سلامة بن شب لبن سلامة أبو البقاء تقي الدين الفقيه الشافعي الحاكم بمدينة حمص مولده بمصر في ذي القعدة سنة سبعين وخمسمائة سمع ببغداد من الحسين بن سعيد بن شنيق وغيره وبدمشق من أبي اليمن الكندي وغيره وحدث بحمص مدة وولي القضاء بها وكان حس السيرة محمود الطريقة فقيها عالماً فاضلاً توفي صفر رحمه الله تعالى. عابدة بنت الشيخة الصالحة كانت مقيمة برباط زهرة خاتون بدمشق وهي شيخة وكانت امرأة كبيرة وهي عذراء مقعدة عمياء مشهورة بالخير والصلاح والعبادة وكانت وفاتها بدمشق في جمادى الأولى رحمها الله. عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف أبو محمد الصاحب شرف الدين الأنصاري الأوسي الدمشقي الأصل والمولد الحموي الدار والوفاة الإمام العلامة مجموع الفضائل شيخ الشيوخ قرأ القرآن الكريم بالروايات واشتغل بالأدب على أبي

اليمن زيد بن الحسن الكندي وسمع منه كثيراً وسمع ببغداد من أبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب وغيره وحدث بحماة ودمشق ومصر وغير ذلك ومولده ضاحي نهار يوم الأربعاء ثاني وعشرين جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة بدمشق بدرب كشك وكان أحد الفضلاء المعروفين وذوي الأدب المشهورين جامعاً لفنون من العلوم ومعارف حسنة ذا سمت ووقار وجد وحسن خلق وإقبال على أهل العلم وطلبته وتقدم عند الملوك وترس عنهم غير مرة وكانت له الوجاهة التامة والمكانة المكينة وله النظم الفائق واليد الطولى في الترسل والأصالة في الرأي مع الدين المتين ومكارم الأخلاق ولين الجانب وحسن المحاضرة والمباسطة والإفضال على سائر من يعرفه والكرم على من يقصده، وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة أكيدة وصحبة كثيرة وسمعت عليه بدمشق وكان لي من إقباله وبشره أوفر نصيب لما بينه وبين والدي رحمهما الله من الاتحاد، وتوفي بحماة ليلة الجمعة الثامن من شهر رمضان ودفن من الغد ظاهر حماة في تربة كان أعدها لدفنه، ومن شعره: عاتبت أنسان عيني في تسرعه ... فقال لي: خلق الإنسان من عجل يا عاذلي ليس مثلي من تخادعه ... وليس مثلك مأمونا على عذلي

ما دمت خلواً فلا تنفك متهما ... فاعشق وقولك مقبول علي ولي ؟ وقال: لها معاطف تغريي برقتها ... ولينها أن أقاسي قلبها القاسي باتت موسدة رأسي على يدها ... عطفاً وكانت يدي منها على رأسي ؟ وقال: أتطمعني سلمى بتقبيل خالها ... غروراً وقد ضنت بطيف خيالها ؟ وإني وما أرجوه منها بوعدهات كراق إلى شمس الضحى ليناها وقال: أعني في المحبة وأعدني ... من العذل الذي يغري ودعني أفرق بين أجفاني وغمضي ... واجمع بين أحشائي وحزني على عيش تقضي لي حميداً ... نعمت به وزايلني كأني رأيت الوصل منه في منام ... تصرم وقته وفتحت جفني فلم أر غير وجدي واشتياقي ... وأشجاني التي تتقي وتفني قراري واصطباري فاعتراني ... نفيك في الوقار فإن فنى ملازمة الخلاعة في غزال ... أغن إذا نظرت إليه يغني عن القمر المنير على قضيب ... تمايل في كثيب فهو يثني إليه عنان قلبي بالتثني ... ويسلب لبه لولا تمني وصال منه زادت نار شوقي ... إلى فوزي به فبللت ردني

بدمع كان خوف الهجردرا ... فصيره عقيقاً بالتجني علي وما جنيت إليه ذنباً ... سوى إفراط حبي فليزدني عذاباً مرة في القلب عذب ... يباعد سلوتي عني ويدني غراماً لا يغيره ملام ... فإن قلدتني فالعم بأني صديقك إن عذرت على هواه ... وإلا فاطرحني واتخذني وقد ألم بقول القائل: فأما أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثى من سميني وإلا فاطرحني واتخذني ... عدواً أتقيك وتتقيني وقال: أعجم السكر لفظه ... فغدا معرياً عن ال عذر لي في تهتكي ... بهواه فقلت لل عاذب المستطيل وي ... حك ماذا صنعت بال ؟ مستهام الذي يزيد به الوجد عند إل حاح لوامه فلا ... يلزم العذل بعد إل ؟ زامك الحجة التي لاح برهانها لذل عقل فاعذر فلا تلم ... أو فلم أن أردت في أل ؟ حب للشادن الذي شفني طرفه الثمل وقال: شيطان عذل نزغا ... في بدر تم بزغا

بالغ لكن ساءني ... فسؤله ما بلغا أفتى الهوى باثمه ... لما تعدى ولغا هيهات أن يشغل عن ... إلف لصبري فرغا ذي ملح أوصافها ... تعجز أصناف اللغا الثغ أضحى عند ... كل فصيح الثغا إن قلت يا ظبي الفلا ... قال أنا ليث الشغا أو قلت صلني قال لي ... أين الثغيا والثغا أو قلت أسلو بسوا ... ك قال مثلي ماتغا سبحان من بلغه ... من دله ما بلغا وجل عن أضفي برو ... د حسنه وأسبغا وعقرب العقرب إذ ... صدغ منه الصدغا فاعجب لها لذيغها ال ... آمن من أن تلدغا تيمني بمقلة ... أصمت فؤادي فصغا فقرى إلى إنسانها ... أبدي غناه فطغا ذو وجنة في صحتها ... ماء الشباب أفرغا دون اقتباس نارها ... تشب نيران الوغى لاطفني حتى إذا ... أصلح شأني أوتغا وما بدا لي نه ... يسر حسواً في ارتغا

مولاي وجدي فيك ما ... أشده وأبلغا وعيني العبرا فما ... أغزرها وأرزغا فاحكم بما أوجبه ... شرع الهوى وسوغا إن كان في قتلك لي ... رضاك فهو المبتغى وقال: لا تنسى وجدي بك يا شادنا ... بحبه أنسيت أحبابي مالي إلى هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب وقال: شكوت إليها أليم الجوى ... فأصغت له أدنا واعيه وقالت بعيني ما قد لقي ... ت فقلب على عينك الواقيه وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى: لنأمن ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصول تاره تؤانسني وتنفر عن قريب ... وتعرض ثم تقبل في الحراره وتقلتني بما يحلي سلوي ... ولكن ليس في جوفي حراره ومالي في الغرام بها شبيه ... وليس لها نظير في النضاره وفي الوصفين من كُحل وكَحل ... حوت حسن البداوة والحضاره وفي خلخالها خرس ولكن ... إذا أومأت تفهم بالإشاره وقتل العمد قد قتلته عمداً ... وما وصلت إلى باب الإجاره وقالوا قد خسرت الروح فيها ... فقلت الربح في تلك الخساره بأيسر نظرة أسرت فؤادي ... كما نشأ اللهيب من الشراره

أطارت شمل حسن الصبر مني ... بأحسن شمله من فوق طاره وقلت لها قفي أن لم تزوري ... فقالت والوقوف من الزياره شمرت إزارها عنها فصدت ... فقلت تقدمي ودعي الشماره جسرت فتلت ما أملت منها ... وما نيل المنى إلا جساره أدرت على مزررها عناقي ... فبت ومعصمي للبدر داره ترى في خدها آثار عضي ... كغصن بنفسج في جلناره إذا استشفى بريقتها ند ... أزالت خمرها عنه خماره ويهتك ستر صبر الصب عنها ... إذا أعنته من خلف الستاره ويفتك طرفها فيقول قلبي ... أشن ترى صلاح الدين غاره ومنها: إذا ما حج بيت نداه وفد ... رمى في قلب حاسده جماره ؟ قال: يعرض براجح الحلى وعز الدين بن معقل من أبيات: وما زال جود ابن المعز يمدني ... فيرحل في ركبي وينزل منزلي إلى أن غما مالي كنقصان راجح ... وأعهده قدماً كعقل بن معقل وقال في الزهد: نل فوق ما ناله سيف بن ذي يزن ... وأفخر بما شئت من قيس ومن يمن

وأعط نفسك أقصى ما تلذ به ... من مركب فاره أو ملبس حسن أليس غاية هذا قعر مظلمة ... تفري أديمك بين القطن والكفن فابتت علائق دنياً أنت منتقل ... عنها ولا تسكنن منها إلى سكن لا تغلون في تمني رتبة عظمت ... قدواً فكم منح أنكى من المحن وأثبت على سنن الأخلاص منتهياً ... إلى الفرائض تقفوهن بالسنن واحلم ولا تستشر في حالة غضباً ... فإنه مستشار غير مؤتمن واركن إلى واجب التفويض متكلاً ... ولا تفيضن في عتب على الزمن وقال في مغني رومي يلقب بالموزون: نفسي فداؤك يا موزون من قمر ... تهتكي فيه معدود من الفرص ظبي من الروم نسج العنكبوت له ... عهد فكم زمر قد ساق في غصص أضللت أحزابنا يا سين غرته ... فأعجب لمقتبس للنور مقتنص سبحان مورثه من حسن يوسف ما ... لم يبق في الحجر لي والصبر من حصص أقام للشعراء العذر عارضه ... فكم لهم في دبيب النمل من قصص قال الشيخ شرف الدين رحمه الله ونشدت والدي الأبيات فاستحسنها وقال بديها: بادر إلى توبة عنه تنيلك من ... ذي الطول في الحشر جر أغير منتقص وقال: قم فاصطبحنا. وأرح سركا ... صبحك الله بما سركا وعاطني منها المدام التي ... أشرب منها دائماً سركا يا يوسف الحسن الذي وصفه ... إن يملك الناس ولا يملكا

يا بدر تم منذ سايرته ... لم ألق لي في سلوتي مسلكاً يا من رمى لما رنا مقلتي ... إليك من ألحاظك المشتكي إن دمعت عيني فمن أجلها ... أبكي على قلبي من لا بكى أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا وقال: بعين الله أحباب جفوني ... وعهد هم على الأيام عوني فإن أنكر بهم أفراح قلبي ... فليس بغيرهم قرار عيني وقالوا كيف يصبح من يراناً ... ونعرض عنه قلت كما تروني فيا مولى أراه بعين قلبي ... وآمل أن أراه بقلب عيني كملت إذا انفردت بكل زين ... وأنت منزه عن كل شين د عدمت لك الشبيه فما احتفالي ... بوجه البدر أو قد الرديني غلوت تعززاً ورخصت ذلاً ... فبعتك مهجتي نقداً بدين وثبتني على خفقان قلبي ... غرام طار بي في الخافقين ألا فابسط يديك إلى وصالي ... فما لي بالقطيعة من يدين وقال رحمه الله: أحبابنا هل علمتم ... من بعد كم كيف حالي قلبي وطرفي جميعاً ... لبينكم في قتال لأن قلبي خال ... بكم وطرفي خالي فخففوا عن جفوني ... من دمعها الهطال

في يقظتي بكتاب ... وفي الكرى بخيال وقال رحمه الله ملغزاً في حمزة: من لي بمن سميه ... سما به سفك دمه تصحيفه في خده ... وفي فؤادي وفمه وقال: إن دام حبيكم على بغضكم ... فإننا في منصب واحد ما الأم الزاهد في راغب ... ومثله الراغب في الزاهد وقال كتب إلى الأمير سيف الدين أبو الحسن علي بن محمد الهذباني رقعة في مهم وطلب جوابها في ظهرها فكتبت إليه الجواب في غيرها وسيرت ورقته عطف الجواب وكان في صدر جوابي له: يا مالكاً ملكته ... من رق حمدي ما أحب وأنالني رتباً أنل ... ت بها المناصب والرتب أحللت لي ظهر الكتا ... ب ولم أخل بما وجب فكتبت في درج ورا ... قبت الذي لك من إرب فدرجت خطك طيه ... وخلصت من سوء الأدب وقال في شاعر ردئ النظم قبيح الوجه: وجهم الوجه رذل الشعر منه ... رجوت النفع حيث يخاف ضير بدا لي وجهه فخشيت شراً ... وأنشدني فقلت خرا وخير

وأخذه من قول دعبل الخزاعي: وكنت مبكراً من سر من رى ... أبادر حاجة فإذا عمير فلم أدع الطريق وقلت أمضي ... فإنك يا عمير خرا وخير وقال الشيخ شرف الدين: لعيني كل يوم فيك عبره ... تصيرني لأهل العشق عبره فعسجد جفنها لا نقص فيه ... وكم جهزت منه جيش عسره اغفل الوشاة أسلت دمعي ... فيغدو مرسلاً في وقت فتره وزيادة صبوتي نقصت ملامي ... وكفت زيده عني وعمره علامة شقوتي في الحب أني ... ثقلت عليك لا عن طول عشره ووتر الوصل لم يشفع بثان ... وهجرك زمرة من بعد زمره وجفنك أكحل من غير كحل ... وخدك أحمر من غير حمره وصبري عنك ليس له وجود ... ووجدي فيك لا أحصيه كثره وبيت الحزن بيتي حين تنأى ... وحين تزوره دار المسره وقالوا كم ترى غضبان راض ... فقلت رضيت زنبوراً وتمره سألزم باب.... الثنايا ... ليطلق لي ولو في العمر سكره وقدماً كنت مستوراً إلى أن ... لبست من الخلاعة ثوب شهره اطلعت غوايتي وعصيت رشد المناصح ... مرة من بعد مره وما تنقى من الأدناس نفسي ... ولو غسلت بصابون المعره

وأعجب حادثات الدهراني ... أحاول طاعة فتعود حسره وأطمع في خلاصي يوم بعثي ... وما أخلصت في مثقال ذره وهذه الأبيات على وزن أبيات القاضي الفاضل رحمه الله مطلعها: لعينيه على العشاق أمره ... وليس لهم إذا ما جار نصره إذا ما سره قتلي فأهلاً ... بما قد ساءني إن كان سره ولم أره على الأيام إلا ... عقدت بوده وحللت صره صببت عليه لما زار دمعي ... فأنكره فقلت الماء نشره بكيت عليك يا مولاي حتى ... وقعت وليس في عيني قطره أيا قمر الكناس بقيت إني ... بقبيت بأدمعي في الشمس عصره فلو قبلتني وقبلت مني ... فقال أخاف بعد الحج عمره ومنها: وأما سوء حظي من صديقي ... فذاك من الأمور المستقره وللقاضي الفاضل رحمه الله في كحال وكله رجل: توكل لي وكحلني ... فذهبت في عيني وفي عيني قال الشيخ شرف الدين رحمه الله يمدح سيدنا النبي المصطفى: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول مدحة قالها فيه وأنشده إياها تجاه حجرته الشريفة بكرة الجمع خامس عشري ذي القعدة سنة تسع عشرة وستمائة وفي طرتها مدحة العبد الضعيف عن حسن تدبيره القوي

في سوء تقصيه. المستوحش من انفراده، بذنبه، المستأنس إلى شفاعة نبيه المشفوعة برحمة ربه، عبد العزيز بن محمد الأنصاري جعل الله عاجل جائزته مواصلة صالح العمل، ومقاطعة كاذب الأمل، والغني عن الضارعة بالقناعة، والتوفيق لتلقي أوامره بالسمع والطاعة، وآجله استقامته على الصراط المستقيم، وأقامته في جنات النعيم، وإدخاله برحمته في عباده الصالحين، والمغفرة له ولوالديه ولجميع المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وعلى التابعين. لهم بإحسان إلى يوم الدين آمنين اللهم آمين. هو موطن الشرف العريض الأطول ... فأرح قلوصك من ركوبك وانزل يا صاح ها بحر الهدى فتمل من ... ري وها بدر الهدى فتأمل فلطالما أرسلت دمعك سافحاً ... شوقاً إلى هذا النبي المرسل عفر جبينك في صعيد وصيده ... فثراه أطيب من رطيب المندل واحطط ذنوبك في رحيب جنابه ... وارحل وأيقن أنها لم ترحل ودع القنوط فقد سألت شفاعة ... من ليس يهمل أمر من لم يسأل أمرتني الهمم الرفاع بقصده ... فأطعتها وعصيت عذل العذل وغريرة باتت تغمغم رأيها ... فتركته وأخذت بالأمر الجلي بكرت تخوفني أعاريب الفلا ... وتخال أرجافاً تشين توكلي وتقول لي أني لاؤجل أن تسر ... عنا فقلت الأمن لي أن توجلي لا بد من حرم الآله ولو بدا ... من دون ذاك الشهد مر الحنظل

أني وقد قطعت إليه عقلها ... خوص الركاب ومثلها لم يعقل تحدي بأوصاف النبي محمد ... فتكاد تسبق أيديا بالأرجل وتبيت يهديها سناه سبيلها ... والليل اليلُ كالرداء المسبل ويعيرها الحادي بذكر حبيبها ... فتظل تقذفه بصم الجندل قبلت أخفاف المطي كرامة ... لما نزلت بهن أكرم منزل وشفي سراها غلتي فشغلتني ... عن كل ذات مسور ومخلخل إني لأصفيها الوداد وربما ... غادرت منها معلماً في مجهل وبسرعتي في قصده أوردتها ... من منهل وعللتها من منهل يا ناظم الدر الثمين ومهدي ال ... نظم الرصين لفاضل أو مفضل جانب مخادعة الملوك عن اللهي ... فالمال يذهب والخصاصة تنجلي وأصرف مديحك عن كثير تطاول ... بزخارف الدنيا قليل تطول وأمدح نبياً آخراً فخرت به الش ... مّ الأنوف من الطراز الأول من جوده وافٍ بكل مؤمل ... ورجاؤه كافٍ لكل مؤمل من اصطفاه الله من دون الورى ... فأحله فوق الكواكب من على وحباه بالقرب الذي أضحى له ... جبريل عن حجب الجلال بمعزل وعلا عن الأمثال فهو لمن علا ... في الوصف أقصى غاية المتمثل وغزا العدى من نفسه وصحابه ... ومن الملائكة الكرام بجحفل كم لمة صبغ الحذار سوادها ... يققا فانصل صبغها بالمنصل

ولكم أباد نكاله في مأزق ... ولكم أفاد نواله في محفل ولكم أبان هدى بخطبة فيصل ... ولكم أبار عدي بطعنة فيصل ما زال فوق المنبر السامي الذري ... يبري الضنا ويبير تحت القسطل حتى استقام الدين وانتصر الهدى ... فنهى الكمي عن اضطهاد الأعزل يا خاتم الرسل الكرام وفارج ال ... كرب العظام بفعله والمقول بك أكمل الله النبيين الأولى ... كملوا وخصك بالفخار الأكمل أظهرت فينا المعجزات فحققت ... صدق الرسول بلطف صنع المرسل فأطاع من سبقت له الحسنى ومن ... جاد القبول له بجد مقبل وعصاك من كبت الآله شقاءه ... فطغى وأمهله ولما يهمل زحزحت عن طرق المظالم عادلاً ... فينا ومن للعدل إن لم تعدل وقرنت بالشرس الليان فأتربت ... كف المحق وخاب سعى المبطل تلك النبوة لأسيادة مالك ... أمر الأنام بمشرب أو مأكل ولطالما ملك البسيطة معشر ... خملوا وذكرك نابه لم يخمل سرنا نشق إليك أجواز الفلا ... ونسوق نحوك كل حرف معمل فالعيس بين مجعجع ومجرجر ... والقوم بين مكبر ومهلل حتى وردنا من ضريحك مورداً ... نشفي به من كل داء معضل أدعوك للجلي وتلك شفاعة ... لم ترض لي أني أخاف وأنت لي إن لم يكن عملي زكياً فارع لي ... قطع الفلا وتلذذي بتذلل أحسن واحمل بي لعلي أنني ... في الفعل لم أحسن ولما أجمل

وانظر إلي بعين عونك نظرة ... أهدي بها سنن الطريق الأمثل فلقد ضلت عن الرشاد وأنني ... بك أستنير وأنت هادي الضلل وإليك من دون الأنام توجهي ... وعليك من بين الكرام معولي ولقد أتيتك مادحاً لتجزني ... في الحشر كأسات الرحيق السلسل وإذا مدحتك مجملاً قصرت في ... وصفي فكيف تعرضى لمفصل فلان غدوت ببعض وصفك قائماً ... فهداك والتوفيق انطق مقولي ولأن عجزت فإن فضلك مكتف ... بثناء آيات الكتاب المنزل وقال أيضاً من قصيدة طويلة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر بعض معجزاته وأولها: تشرف بذكر حميد الثناء ... على أحمد أشرف الأنبياء على موضع الرشد بعد العمى ... على مظهر الحق بعد الخفاء على خاتم الرسل السابقين ... وأولهم في قديم الفضاء فكان نبياً نبيه المقام ... وآدم بين الطين والماء تشفع به فهو نعم الشفيع ... وسله المنى فهو بحر السخاء وقل عبدك القن عبد العزيز ... رهين البلا وقرين البلاء أمت العمى قلبه فاغتدى ... دليل المقام عزيز العراء فعطفا على من تناهت به ال ... خطايا وعطفت لانتهاء بتحقيق إخلاصه في رجاء ... علاك وتحقيق ذاك الرجاء وبالعفو عنه وعن والدي ... هـ وأعقابهم من أليم الشفاء

فأنت النبي الوجيه الذي ... حوى في الشفاعة خضل الجزاء فشرفه الله مختاره ... بخير صلاة وأزكى ثناء وصلى الإله على الأكرمين ... وأصحابه الصفوة الأتقياء وخص ضجيعيه من بينهم ... بألطاف رضوانه الأتقياء وخص ضجيعيه من بينهم ... بألطاف رضوانه والحباء ومن لهما كان ملكاً مطاعاً ... وكانا لديه خليلي صفاء وحيا ابن عفان صهر النبي ... وخدن السماح وترب الحياء وزاد أبا حسن زلفة ... على مجده الهاشمي البناء شقيق الرسول وزوج البتول ... ومردي العدى ومزيل العداء وأعفى ابن عوف بإحسانه ... والحف مبغضه بالعفاء وصلى على طلحة والزبير ... كما أغنيا عنه حين الغناء وأولى سعيداً وسعداً يدا ... على بسط أيديهما بالولاء وأرضى أمين البرايا أبا ... عبيدة رب التقى والوفاء وأعقب عميه أصفى النعيم ... بما أسلفا من جميل البلاء وسبطيه عم وأمهما ... وازواجه منه أنسى عطاء سيرفع عني عبء الذنوب ... هوى الخمسة الغر أهل العباء أعد ولاءهم عدتي ... وأبرأ من قائل بالبراء وإن أنا قصرت في مدحهم ... فقد بالغت همتي في هجائي وقال: يا رب أن سؤال الباخلين ثني ... وجهي وكفى بلا ماء ولا مال

فاصرف بلطفك قلبي عن رجائهم ... ولا تصل بسوى نعماك آمالي وقال رحمه الله تعالى: حتام تعذلني وحتى ... هو ما علمت وما جهلتا حب لو أنك ذقته ... لعذرت فيه وما عذلتا فدع السفاهة لي أنا ... وخذ الرشاد إليك أننا أو لا فاسعدني على ... شوقي سهرت به وبمتا وتأت للراحات وانتهب ... السرور فقد تأنى أدن المدام لعلني ... أنسى به البين المشتا راح هويت صريحاً ... فمنحت ماء المزن مقتا فإذا شربت مشوبها ... لا تسقني مما شربتا إن التي ناولتني ... فرددتها قتلت قتلتا أرح المزاج من المزا ... ج وهات صرف الراح بحتا عمل القاضي تاج الدين يحيى بن الشهرزوري في بعض ولاة الجور وقد سقط من الفرس: إلى النار يا ولد الزانية ... وهذا الهوى إلى الهاوية وقعت فيا بردها في القلوب ... فيا ليتها كانت القاضية فنظم الشيخ شرف الدين رحمه الله أبياتاً ألم فيها بهذه القافية وإن كان معنى الأبيات غير متحد وهي: سروري بساقية حاريه ... ووجدي بحارية ساقيه أهز بها تيك عطف القريض ... ليثنى على هذه الثانية

مهاة نشأت على حبها ... كما هي في حسنها ناشئه على الجسم حاكمة بالضنا ... وفي القلب آمرة ناهيه سبتني كاسية بالجمال ... فروحي عندي لها عاريه تعالى عن الند نشر لها ... يطيب به الند والغاليه وأولت من الوصل أضعاف ما ... رجوت ولم تكفني كافيه فؤادي علي رقيب لها ... تطالعها عينه الصافيه تراني إذا لم أزر بيتها ... كأني بيت بلاد قافيه تقربني فأجوز الفلا ... وأجلس في بيت بلاد قافيه تقربني فأجوز الفلا ... وأجلس في الدست والحاشيه وتنأى فأخنس في مسجدي ... وحيداً والتف في البارية فطوراً بخفي حنين أعود ... وطوراً بقرطين من ماريه فهل من معين على عاذلي ... فيأخذه أخذهة رابيه تجسر إذ لم أطع أمره ... فيا ليتها كانت القاضيه ولست أبالي بسخط العذول ... إذا أنا ألفيتها راضيه ولما شكوت خفي الجوى ... وعته لها أذن واعيه وقالت بعيني ما قد لقيت ... فقلت على عينك الواقيه أضاحكة السن لو زرتين ... عجبت لمقلتي الباكيه وانقذتني من أسى زادني ... فلم تبق في جلدي باقيه وإني وإن نال مني الأذى ... معافي إذا كنت في عافيه

أنشد الشيخ شرف الدين عبد العزيز رحمه الله لضياء الدين علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن رواحة رحمه الله: مولاي عبدك ذو انقباض يرتجى ... من لطف صنعتك أن تمن ببسطه ليجوز من شرف التأنس قسمه ... ويفوز من شكر العبيد بقسطه وأنشد للمذكور أيضاً: لا حظ في الدينا لمسيتقظ ... يلمحها بالفكرة الباصره إن كدرت مشربه ملها ... وإن صفت كدرت الآخره وقال من قصدية يمدح بها الملك الأمجد رحمه الله وأولها: رفقاً بصب يرى سلوانكم عاراً ... ما كان منحرفاً عنكم ولا صارا لم ينسه البعد روح الأنس عندكم ... فلم يجدد لعهد القرب تذكارا أقصاه صرف النوى منكم إلى نوب ... أقلها أنه ما سر مذ سارا سنا هواكم إلى لبنان أرشده ... ولم يقل يا لبيني أو قدي النارا وإن يزركم على قرب فذو كلف ... لو أفرط البعد لم يستبعد الدارا يا ربة الخدر لو غادرتني شبحاً ... ما سمت حلقاً ولا سميت غدارا عاقبتني بجحيم الشوق واجدة ... وأنت حملتني للبين أوزارا ؟ وضقت ذرعاً بحبي واعتذرت به ذنباً فأوسعت ذاك الذنب إصرارا إذا اجتنى بك من روض الرضا زهراً ... أو اجتلى في سماء العز أقمارا لله وصلك ما أغلاه يوم شرى ... وشهد ريقك ما أحلاه مشتارا

فيك الغنى لي عن طيب وعن سكر ... كأن في فيك عطاراً وخمارا وهبت روحي لآلام الغرام كما ... أنهبت قلبي طرفاً منك سحارا عيناك للقتل لا نصل ولا ظبة ... والأمجد الملك لا كسرى ولا دارا وقال: ألا يا مالكي مالي ... إلى غيرك من ميل أما تنظر في حالي ... فقد اضعفت من حيلي ووجدى فيك لا يحصى ... بميزان ولا كيل وأما دمع أجفاني ... فلا تسأل عن السيل وما نس فلا أنسى ... مراحي ساحباً ذيلي وإجلابي على اللذا ... ت بالرجل وبالخيل من الليل إلى الليل ... إلى الليل إلى الليل وقال: تثعلبت ذلا ً في غزال تأسدت ... له لحظات بصرت بالتغزل وكم نظرة في نضرة من نعيمه ... رأيت بها من مقلتي عين مقتلي وقال الشيخ شرف الدين رحمه الله قال ظهير الدين المبارك بن يحيى الشهرزوري ممازحاً لابن الحكيم وقد جلس في الشتاء إلى جانب بكرة علها سبع من ثلج: وسبع كوعظ ابن الحكيم رأيته ... على بركة تحكيه عند مجونه يصففها مر النسيم إذا سرى ... ورق عليها مثل رقة دينه

وأحسن من هذا الاستطراد قول الخباز البلدي: وليل كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه على أولق فيه إعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه وقال: ما لطرفي حين أعذل ... يطلق الدمع المسلسل أدبر العاذل عني ... موقناً أن لست أقبل وجد الصبر جميلاً ... ووجدت الوجد أجمل ؟ فتنتي عين غزال بصرت من يتغزل منع العاشق خدا ... يتعالى أن يقبل حسد الصدغ عليه ... فتلوى وتبلبل خلت فيه الخال قلبي إن ... غدا في النار يشعل كيف أسلوه وليلي ... جعل الآخر أول

فاعذروا فيه عذولي ... فهو من باب محول وقال رحمه الله: دعني وشأني من وجدي ومن تعبي ... فراحتي في الذي أنكرت من نصبي أضنى فؤادي فتان الجمال إذا ... طلبت شبهاً له في الناس لم أصب قرأت خط عذاريه فأطمعني ... بواو عطف ووصل منه عن كثب وأعربت لي نون الصدغ معجمة ... بالخال عن نجح مقصودي ومطلبي حتى رنا فسبت قلبي لواحظه ... والسيف أصدق أنباء من الكتب لم أنس ليلة طافت بي عواطفه ... فزارني طيفه صدقاً بلا كذب حيا بما شئت من ورد بوجنته ... نهبته بالتثامي وهو منتهبي وكان ثغر شهي منذ فزت به ... قلت العفاء على كأس ابنة العنب ورحت لم أدر عقلي هل فجعت به ... من نخوة العز أم من نشوة الطرب أقسمت ما في ضروب السكر أبلغ من ... سكري بريق له أحلى من الضرب نشوان أسأل عن قلبي فينكره ... تيهاً ويسأل عني وهو أعرف بي وكلما قال ممن أنت قلت له ... ممن إذا عشقوا جاؤك بالعجب لا تسألوا ميتكم عن حيه فله ... من الإضافة ما يغني عن النسب وراقبوا منه حالاً غير حائلة ... عما عهدتم وقلباً غير منقلب قال الشيخ شرف الدين رحمه الله من طريق الاتفاق أنني نظمت أبياتاً في زمن الصبا في بعض رحلي عن حماة منها: أمل كتمان الهوى وهو واضح ... ودمعي يوم البين بالسر بائح

لعمري لقد حاولت مالاً أناله ... كما حاولت إمساك قلبي الجوارح لعل بعادي عن حماة يعيدني ... تخاف السطي مني وترجى المنائح لأهزم جيش المال وهو عرمرم ... وأدفع صدر الخطب والخطب فادح على أني قد كنت فيها مكرماً ... تراع لكراتي القروم الجحاجح مقيماً بربع الدير جسمي وصحبتي ... وقلبي بربع القصر غاد ورائح يهيج أشجاني به كل ليلة ... وتصرفني عما تقول النواصح ؟ بدور من الباب المصرع طلع ومسك من الباب المصرع فائح فحفظ الأبيات بعض السفارة وحفظت عنه في الشرق، ثم قدم شاعر من أهل الموصل يقال له البدر محمد بن روضة وكانت والدته تتردد إلى دارنا أيام مقامنا بالموصل فأنزله والدي وأكرمه وكن يجلس على حانوت الفخر عبد الرحمن بن الصياد بسوق العطر في كثير من أوقاته يذاكره ويناشده ويخرج معه في آخر النهار إلى ظاهر البلد للتنزه والرياضة فاتفق أنه خرج معه يوماً يريدان المصلى فاجتازا بباب ذي مصراعين وقد ولد في الدار مولود والطيب ينفح والبخور يتضوع وفي الباب صبيات كالبدور الطلع وأصوات القيان في باطن الدار وظاهرها يطرب السامع فوقفا مع النظارة، فلما رأى ابن روضة ذلك أنشد متمثلاً:؟ بدور من الباب المصرع طلع البيت، فضحك الفخر بن الصياد وقال له أتعرف هذا الشعر لمن؟

فقال لا والله بل هذه الأبيات سمعتها في الشرق لا أعرف قائلها، فلما رأيت الصورة تمثلت بالبيت فقال له إن البيت لفلان الذي أنت نزيله ونزيل والده وهذا البيت بعينه هو الذي عناه بهذا البيت فتعجب من ذلك وأطرفاني بالقصة فعجبت من هذا الاتفاق. وقال الشيخ شرف الدين حدثني بعض خلاني قال أبتليت بهوى بعض أبناء الأماثل ولم يكن من أبناء جنسي ولا لي به سابقة خلطة فأعملت الحيلة في التعرف إليه وبذلت البذول السنية لمن جمع بيني وبينه بتوصلات متعته إلى أن التقينا راكبين في خلوة بمكان مشرق على أنهار حماة وبساتينها فتسالمنا ثم حرصت على أن أباسطه بشيء من النظم والنثر أو بث وجد واستجلاب ود فحصرت عن المنطق بكلمة واحدة ولم أزد على أن قلت له أنت ما تصلي فقال بلى ويكون مسلم ما يصلي ثم افترقنا، قال الشيخ شرف الدين فحكيت هذه القصة للملك المظفر صاحب حماة رحمه الله فاستظرفها، ثم أشار إلى بعض فتيانه ممن له معه هوى وقال أيش تقول في هذا يصلي فقلت سيماهم في وجوههم من أثر السجود فاستطار طرباً بقولي من أثر السجود وقال أيضاً رحمه الله: ملكت رقي غلاماً ... به سلوت الغلامه عاملت فيه عذولي ... بالكيد لا بالكرامه وقال رحمه الله في الزهد: كل داء لك داء ... ما لبواك انتهاء

طول آمال وحرص ... ونفاق ورياء وذنوب جل فيها ال ... خطب إذ عز العزاء فتنصل من خطيا ... ت لها النار جزاء واسل عن دنيا يقضي ... ها صباح ومساء وابغ أخرى دائم ... فيها نعيم وشقاء لا يقطنك ولا يؤ ... منك خوف ورجاء سابق الفوت إلى ال ... فوز فقد جد الجزاء وانفرد فهو على دين ... ك والعرض وقاء واعف عن كل الورى أن ... احسنوا أو إن أساؤا فبنو حواء فيما دو ... ن تقواهم سواء فاز بالراحة ذو ألف ... هم وللغز العناء وإذا صح لك القو ... ت على الدنيا العفاء جفت الأقلام بالكا ... ئن ونبت الفضاء كل ما في هذه الدن ... يا قصاراه الفناء ولأهل الخلد في الخل ... د ولله البقاء وقال الشيخ شرف الدين رحمه الله: هي الدنيا تحب ولا تحابي ... وتصحب ثم تغدر بالصحاب دهتني في شباب خولته ... ولم يفجع بمنع مثل حاب

فلا تعجب من الأضداد وانظر ... إلى ضحك المشيب مع انتحابي فلا تثقن وأقل بنيها ... جرائم ضيقت سعة الرحاب وعاشرهم بأخلاق عذاب ... طواهر مثل أمواه السحاب وقال: دخلت حمامكم فجاشت ... بألف كرب لكشف كربه فقلت تباً لحب دنيا ... نعيمها بالشقاء أشبه وقال: رفقاً بروحي فهي لك ... وعلى السخي بما ملك أفضل بحق من اصطفا ... ك على الملاح وفضلك فكأن ربك بالجما ... ل على اقتراحي مثلك أحظاك منه بمنصب ... سواك فيه وعدلك من فر من ذل السؤا ... ل فعزتي أن أسألك إن يحم طرفي أن يرا ... ك جعلت قلبي منزلك إني أغار إذا أرا ... ك دنا إليك فقبلك ويروعني واشي النس ... يم إذا ثناك وميلك ما أقبح الصبر الجميل ... بعاشقيك وأجملك ما انقص اللوام في ... ولهي عليك وأكملك قال الشيخ شرف الدين حدثني شمس الدين حسن بن صالح السلمي خادم ملك النحاة أبي نزار رحمه الله ببعلبك قال رأيته في المنام بعد

موته فقلت له ما لقيت من ربك فقال لي ويك ارفع صوتك ما أسمع ما تقول فقلت يا مولانا ما لقيت من ربك فقال ويك ارفع صوتك ما أسمع فأعدت عليه القول ثالثاً فقال ليه ويك وما ذكرته لك فقلت لا فقال والله أنشدته قصيدة ما في الجنة مثلها ثم أنشد: يا هذه أقصري عن العذل ... فلست في الحل ويك من قبلي إلى أن قال فيها: يا رب ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زلل ملآن كف بكل مأثمة ... صفر يد من محاسن العمل فكيف أخشى ناراً مسعرة ... وأنت يا رب في القيامة لي وقال رحمه الله ملغزاً في اسم عبد القادر ثم قال والله ما سمعت حسيس النار ما اسم تعلقته مضافاً ... إلى انفرادي وطول فكري فشطره عند من بغاه ... مصحفاً باله بخبر فلا تظننه وصف جمع ... من سنح في الفلاة عفر ولا نظيراً ليوم وصل ... أمنت فيه عناد دهري وشطره الآخر المرجى ... لكل عفو وكل غفر قسمان فعل ماض وحال ... بغير أمر وفعل أمر رأيته جائزاً لقلبي ... إذ قلبه مثل قلب هجري

وإن تلخص فالشطر وصفي ... والشطر وصف عليه تجري وقال: أهلاً بطيفكم وسهلاً ... لو كنت للإغفاء أهلاً لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي إلا إن لم تزوروا فاجمعوا ... بخيالكم في النوم شملا ولقد قنعت بوعدكم ... فبرى أفوز بذاك أم لا ؟ أطوى الزمان تعللاً عنكم بليت ولو وعلا وأكرر الشكوى عسا ... ي يعينني من كان إبلا قالوا سلوتهم فقل ... ت كذبتم حاشي وكلا إني فطرت على النهى ... وتفطر العذال جهلا راموا فطامى عن هوى ... عذيته طفلاً وكهلا فوضعت في جيبي يد ... ي وقلت خلوني وإلا يا من يتيه بناظر ... عز التصبر إذ تولى يا حاكماً في صبوتي ... وتصبري عقداً وحلا ؟ قلبي لديك ومهجتي تفنيهما أسراً وقتلا خاطبتني ولحظتني ... فسحرتني قولاً وفعلا الغصن أنت إذا تثنى ... والبدر أنت إذا تجلى بهرت محاسنك العقو ... ل فعز خالقنا وجل وقال كتبت إلى والدي رحمه الله ملغزاً للثلج في أوائل ما نظمت:

ما بالكم في مأكل طيب ... ومشرب عذب يزيل الأوام نضربه من فرط إشفاقنا ... عليه أن يسلب ثواب الدوام ودفنه فيه صلاح له ... مع إنه من نجل قوم كرام وإن تصحفه فتصحيه ... مدينة من بعدها لا ترام وهو إذا صفحته ثانياً ... جنس من الأثمار قبل التمام وعكسه من بعد تصحيفه ... بلدة ملك من بلاد الشام فكتب تحتها وأعادها إلي ولم يجف الخطان لسرعة النظم وقرب المكان: يا ملغزاً في شعره شعره ... حسبك قد أثلجتنا يا غلام وقد فطنا وأجبناك عن ... تفسيره فافطن لهذا الكلام وقال كتبت إلى والدي ملغزاً للباب: يا قائم في مخرج ... يذهب طوراً ويجي لست تخاف شره ... ما كان غير مرتج فكتب لي في ظهر الورقة ذهاب ومجئ وخوف شر هذا باب خصومة ولو قلت يخاف منعه كان أجود وأليق وخيراً من الشر وأصدق. وقال رحمه الله: صب لخديه بالدموع يشي ... من جور واشٍ بكم عليه يشى ومولع تنطوي أضالعه ... على حشى من جوى الغرام حشى تيمه الواصل القطوع فقد ... هيمه بين ما رجا وخشى

ظبي من الأنس كم لنفرته ... والأنس من مدنف ومنتعش لا يطمع البدر أن يقاس به ... وهو معيب بالنقص والنمش بدا فأبديت غير معتمد ... هواه لكن دهيت من دهشى عقرب صدغاً كالنون عرقها ... في آخر السطر كف مرتعش ويعين الشعر كي أراع فلا ... وقيت من لسع ذلك الحنش راق جمالاً ورق محتضناً ... فكدت أشتفه من العطش ضممت أعطافه فبات على ... موسد من يدي ومفترش وافى على أدهم الدجى ومضى ... ركضاً على أشهب من الغبش طاش وقارى له وأي فتى ... فإز بما نلته فلم يطش مولاي عش وادعاً فعبدك إن ... دام به ذا السقام لم يعش وأنشد الشيخ شرف الدين لضياء الدين محمد بن المنصور بن الشهرزوري كتب بها إلى ضياء الدين القاسم بن يحيى الشهرزوري ضمن هدية سيرها إليه: أيا من حوى سبل المكارم كلها ... وزف إليه الصعب منها واسناها وأصبح فرداً في المعالي فلن أرى ... نظيراً له في العالمين وأشبالها بحكم انبساطي قد بعثت هدية ... وما كنت لولاه لمثلك أرضاها بقيت ودامت لي حياتك أنها ... بقية آمالي التي أتمناها وأنشد الشيخ شرف الدين المذكور لابن التلميذ في ولده: أشكو إلى الله صاحباً شرساً ... تسعفه النفس وهو يسعفها

كأننا الشمس والهلال معاً ... تكسبه النور وهو يكسفها وأنشد لشرف الدين عبد الله بن أبي عصرون: ومروحة تفرد كل كرب ... ثلاثة أشهر لا بد منها حزيران وتموز وآب ... ويغني الله في إيلول عنها وله: أومل أن أحيا وفي كل ساعة ... تمر بي الموتى تهز نعوشها وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي ... بقايا ليال في الزمان أعيشها وقال رحمه الله الشيخ شرف الدين عبد العزيز: قفا نبك من ذكرى هوى ذلك الخشف ... وإن كانت الذكرى تشف وتشفي غزال غزا الآساد في جيش حسنه ... فصادهم بين السوالف والشنف وبدر دجى لم ينتقل كسميه ... ولكنه ما زال في القلب والطرف يلوح لعيني ما شقا نون صدغه ... فأعبد خلاقي على ذلك الحرف تعرى ولم ينصف فؤادي إذ غلا ... بحبيه والمغلي يرد إلى النصف وأقدم زحفاً خارجي عذاره ... فهل عنده أني أفر من الزحف ولي ثوب سقم محرق من جفونه ... معار وأثواب العواري لا تدفي ألأم ولي كف لو أكف مدمعي ... تكف وأخرى من ملامي تستعفي وأنفي أساءات الوشاة بحسنه ... فيرجع كل منهم راغم الأنف

ويرجو فلاحاً عذلي فأحيلهم ... على آخر العشرين من سروة الكهف وقال كتبت إلى والدي ملغزاً للسراج: ولي صاحب أختاره وأجالس ... يؤانسني إن أوحشتني الوساوس يدين بطوعي منه رب هداية ... على العرش والكرسي للخلق جالس أراجعه محض الفوائد جاهداً ... فأقبسه طوراً ولي منه قابس له من يدي جود ولي من لسانه ... هدى كلما التفت علينا المجالس أغار من الأنفاس صوناً لنفسه ... فأحرص في إحرازه وأنافس إذا نام عني أسرتي فهو ساهر ... وإن ضيعتني صحبتي فهو حارس فصحفه وأعكسه تجده مفسراً ... وفي الوصف كاف أن تفطن حادس فكتب إلي جواباً: فديتك يا وتراً لشافعه عما ... فلم أبق خالاً في الفداء ولا عما تقارنتما نجمي ضياء شركته ... بما خص منه وانفردت بما عما أتتركه نهباً لفهمي بحارس ... يبيح حماه ثم تسألني عما فإن عبس الإظلام عند ابتسامه ... كفاك بإيضاح لمشكله عما يريد عم يتساءلون لما في السورة من ذكر السراج وقال: لا تبخلن بدمع منه مدرار ... من فارق الإلف قسرا غير مختار ولا يروي ذو جهل تصبره ... ليس المشوق على بعد بصبار استودع الله في الغادين بدر دجى ... ودعت منه لباناتي وأوطاري ظبي يقنص من طرفي كراه ولم ... أحفل بمسراه لولا طيفه الساري

إذا تثنى عن طوع لائمتي ... خواطري بقوام منه خطار وإن رنا قيل يا لله صنعت ... عين الغزال بقلب الضيغم الضاري كمن نلت في وصله من فرحة ذهبت ... عني ودام لها حزني وتذكاري وغض ورد بخديه لعزته ... لم يجن إلا بأسماع وأبصار وقبلة لم يطرق نحوها دنس ... إذا لم يكن غير تقدير وإضمار وخلوة في التقى والأنس مخلية ... جفني من الماء وقلبي من النار أحبابنا كيف حلت من حبالكم ... حبالنا بعد إحكام وإمرار وكيف ضيعتم عهداً حفظت له ... ودائع الحب في جهر وأسرار أبان غدركم هجري وما عرفت ... عصابة البغي لولا قتل عمار وخان عهدي نصيح لج في عذلي ... فقلت دعني وإيرادي وإصداري فما بقلبك أشجاني ولا ذرفت ... عيناك دمعي ولا حملت أوزاري الأم فيكم ولا تجدي الملامة في ... وجدي بكم غير إغرائي وإصراري إن كنت لم أفتقد غمضي لفقدكم ... فلا وجدت من الأنصار أنصاري أو كنت أجرمت جرماً أستحق به ... بعداً فلا قربت من داركم داري أو كان ما ضيقوه من مسالكنا ... ظلماً فلا وسعتهم رحمة الباري عابوا خلالي واغتابوا فوقرني ... علمي بأنهم ليسوا بأنظاري إن يفعلوا فكفاهم شاهداً لهم ... بالنقص جهلهم في الفضل مقداري لولا هواكم لما عاثت ذئابهم ... في سرح عرضي ولا مروا بأفكاري

وقال رحمه الله: إذا رمت أمراً فاعتمد في بلوغه ... على صاحب ذي حكمة وتجارب ولا تتخذ فيما ينوبك مسعداً ... سوى عزمات كالنجوم الثواقب وكن كأبي الأشبال غير مصاحب ... صحاباً سوى أنيابه والمخالب ولا تغترر بالخل إن لاح بشره ... فإن الأفاعي لينات الجوانب وقال أيضاً رحمه الله: عن ملامك قد أكثرت تعذالي ... ليست شعاب الهوى من طرق أمثالي بارية الخال كفى عن عتاب فتى ... جم الوفاء كريم العم والخال لم يثنه عنك بأن من حديث هوى ... ولا مغاداة غزلان بأغزال لكن أنار زناد الشيب مفرقة ... بشعلة بصرته يقظة السالي وأصلنه قاطعات عن وصالكم ... واعتاض عن شغله فيكم بإشغالي فقر ما جاش من عذر ومن عذل ... وما يعارض من قيل ومن قال ولو أنست إلى لهو لنفرني ... ما نفر الغيد من شيب وإقلال خذي إليك ابنة البكري معذرتي ... أودي شبابي وحالت بعدكم حالي لولا ثلاثون يحدوها ثمانية ... لكان مثلك من مثلي على بال أصبوة بعدان أضربت عن طربي ... وقارع الموت اضرابي وإشكالي طول التفكر في التقصير أقعدني ... عنكم وسكن بالإقصار بلبالي فالآن فليعتزل هزلي مصاحبتي ... وليكثر الجد في إصلاح أعمالي

وقال رحمه الله: ونادمت من أهوى على قهوة ... خلت سرور القلب في أسر بدر لشمس الراح في وجهه ... أضعاف نور الشمس في البدر وريقه العذب إذا صح لي ... سلوت عن رائقها المر وقال: أسرفت في ذا الصدود فاقتصد ... إن لم تعدني يا مسقمي فعد لا تبخلن بالمقال منك إذا ... كنت ببعض الفعال لم تجد وقل غدا موعد الوصال ولا ... تقصد لإنجازه ولا ت كد علك تحنو علي بعد غد ... أو فلعلي أموت قبل غد وقال: ومعرب اللفظ لي من نحونه أبداً ... حذف وصرف وأعلال وتنكير وجدي به وافر والدمع منسرح ... والصبر والغمض منقوص ومقصور وحسنه كامل والعهد مقتضب ... والوصل والصد مقطوع وموفور ولحظه ساكن والقد منتصب ... والقرط مرتفع والمرط مجرور وقال رحمه الله: إلا موت يباع إلا حمام ... فابذل فيه ما ملكت يميني فإن الموت خير من حياة ... تواضع رتبتي فيها قريني إذا ما نال من دوني مراداً ... أحاول دونه فيحال دوني وأنشد الشيخ شرف الدين للعماد الكاتب رحمهما الله ملغزاً

في غلبك: لي حبيب نصف اسمه غل قلبي ... وأميري باقيه بالتركيه أنا في ذلة العبودة منه ... وهو مني في عزة ملكيه وأنشد للعماد أيضاً: مرضى من هوى اللحاظ المراض ... أنا راض به وما أنت راضي أنت يا عاذلي خلى من الوج ... د وقلبي شج فخلى اعتراض حويت خلالاً على المخزيات ... جمعن وأخلاق ذا الخلق شتى اما أمرت بخير صددت ... وإن تنه عن ورد شر وردتا وما قيل تنشط إلا كسلت ... ولا قيل تصلح إلا فسدتا يخالف قولك منك الفعال ... ويكثر ذا عند ذي العرش مقتا أتفعل والذر يحصى عليك ... فليتك في الذر لا كنت كنتا جعلت البطالة شغلاً لديك ... تقضي بها الدهر وقتاً فوقتا إذا قيل جاف الخنا قلت قد ... وإن قيل ناف الدنا قلت حتى وهبك تركت زمان الحيا ... ة فأين المفر إذا أنت متا وكيف الفرار إذا ما الجبا ... ل نسفن فلم ترفيهن أمتا سرى المتقين لكسب الفلاح ... ففيمن أقمت وفيما أقمتا تضرع إلى الله في توبة ... نصوح مكفرة ما اقترفتا وقلبك فاستفته مخلصاً ... مطيعاً إذا غيره الغر أفتى

متى يتجلى ظلم الظلم عنك ... إذا لم تناد نداء ابن متى فيا رب أنت الغني الحليم ... أجرني من النار فيمن أجرتا فما بك ضر إذا ما عصيت ... ولا بك نفع إذا ما أطعتا وإن كنت أسرفت فيما عملت ... فعفوك والصفح عما عملتا وقال: أغراه إفراط إقبالي بجفوته ... وما درى أن أعراضي كإقبالي إن الصدود لعذب مر مورده ... عندي لمن لم يوافق حاله حالي وقال: مولاي لا بت مبيتي على ... أخلاف ميعادك بالأمس فأسعف اليوم بإنجازه ... فديت بالمال وبالنفس فإن مضى حين على جفوتي ... مضى بي الحين إلى رمس ما لي سوى هجرك من مأتم ... ولا سوى وصلك من عرس سلطك الحسن على مهجتي ... والقلب في الإطلاق والحبس فكيف تلبيس على عاذلي ... وليس في حالي من لبس ما نور عيني في الدجى والضحى ... غيرك يا بدري ويا شمسي يخرسني خوفك عن حجتي ... وإنني أفصح من قس وتظهر الحبسة في منطقي ... حتى كأني حسن البرسي

وقال: ربع اصطباري دمنه ... وسيوف عذالي كليه فارعى جملي يا بثين ... وأسلفي عندي جميله وللشيخ شرف الدين رحمه الله أشعار كثيرة لا يجمعها ديوان وكان من حسنات الدهر ومحاسنه وكان والده من الأعيان إلا فاضل العلماء الرؤساء متفننا في العلوم وله معرفة بالفقه والإحكام ولي القضاء غير مرة نيابة واستقلالاً وصحب القاضي ضياء الدين محمد بن المنصور بن الشهرزوري وكن له به اختصاص كثير وناب عنه في الحكم وفي نظر الأوقاف وغير ذلك، ووقفت على كتاب جمع فيه الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله أشياء من أخبار والده القاضي زين الدين محمد بن عبد المحسن المشار إليه رحمه الله، فمما علقت منه: قال الشيخ شرف الدين حضرت بني يدي والدي رحمه الله وقد قاربت خمس عشرة سنة فسألته عن عمره فقال خذ في شأنك هكذا ورد في حديث مسلسل فالححت عليه فأمرني فأحضرت كتاباً من كتب القراآت فأراني صفحة في آخره مكتوب عليه بخط جدي رحمه الله ولد الولد المبارك محمد في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة وتحته بخط والدي رحمه الله ولد الولد المبارك عبد العزيز ضحوة نهار الأربعاء ثاني وعشرين جمادة الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة فأخذنا نتعجب من هذا الاتفاق في السنة والشهر والجزء من الشهر، ثم انصرفت من بين يديه إلى حجرة كنت أخلو فيها بنفسي ففكرت أنه في يوم

مولدي كان قد أكمل والدي عشرين سنة فنظمت بيتين وكتبت بهما إليه وهما: يا رب قد أوجدت قبلي أبي ... في هذه الدنيا بعشرينا فاجعله بعدي باقياً مثلها ... وارحم محباً قال آمينا فكتب إلي في الحال: لا بل أموت وتحيا ... في غبطة وخير محيا حتى تصرف صرف ال ... زمان أمراً ونهيا ثم كتب إلي بعدها. لا بل أموت وتبقى ... من الخطوب موفى ويرحم الله خلاً ... يقول آمين حقا وما عهدك ممن ... أراد براً فعقا وكتب تحتها إنما أردت بقافية البيت الثاني دعائ حقيقة بخلاف دعائك وجعلت قدحي في إدعائك عقوبة على اعتدائك ثم بات تلك الليلة فلما أصبح كتب إلي ليعلم الولد، أسلكه الله الجدد، وهيأ له الرشد، أني فرقت الليلة وفارقت واستشعرت من مضمون شعره فنظمت: أيها النجل الشفيق ... كيف أخطاك الطريق راعني منك دعاء ... لم يسغ لي منه ريق قدك قد كلفت سمعي ... منه ما ليس يطيق لم أخلك الدهر تلقا ... ني بشيء لا يليق

أعدو أنت أخبر ... ني بصدق أم صديق سني من شعرك البا ... رد حر بل حريق ما له لفظ جليل ... لا ولا معنى دقيق لم يصح لي منه ... الأمقة منك وموق اعف من برك هذا ... فمن البر عقوق قال الشيخ شرف الدين رحمه الله حفظ والدي القرآن العظيم وعمره تسع سنين وصلى التراويح بجامع دمشق برواق الحنابلة وتلقنه من صالح المقرئ وتأدب على الشيخ يوسف البوني ثم على الشيخ العالم الحكيم أبي محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان الغساني الأندلسي ثم على شيخنا تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وتفقه على الشيخ شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون ثم على الشيخ ضياء الدين الدولعي ونظم الشعر وأنشأ الرسائل وعمره عشر سنين وما حولها ومما نظمه في صباه: وذات قوام إذا ما انثنى ... رأيت القلوب به في عنا تراءت لنا كهلال السماء ... وظبي الفلاة إذا ما رنا كشفنا لها بلسان الجفون ... ونطق الحواجب ما عندنا فأفهمنا لحظها أنها ... تروم التواصل لو أمكنا ولازمنا طرفها ناظراً ... يخبر أن بها مثلنا

ولولا محاذرة الكاشح ... حين وشرهم نولتنا المنا ألم بها ما بنا من هوى ... ألم فيتمنا كلنا ومن ذلك: كأن الهلالي هلال السماء ... وقد لاح في قمص من سواد حبيب أمات بهجرانه ... محباً وداري بلبس الحداد وقال ملغزاً للبيضة: ها أنا السابق أو واضعتي ... خبروا سابقنا بالتبديه إن تكن مني فمن أين أنا ... أو أكن منها فمن أين هيه وقال في السواك: ومصحوب به أمر الرسول ... له لوني المغير والتحول تنعم في مكان ما لخلق ... سواه إلى تقحمه سبيل وقال الشيخ شرف الدين أنشدني شيخنا تاج الدين الكندي في التضمين: يا ذا الذي في الحب يلحي أما ... والله لو حملت منه كما حملت من حب رخيم لما ... لمت على الحب فذرني وما أطلب أني لست أدري بما ... قتلت إلا أنني بينما أنا بباب القصر في بعض ما ... أطلب من قصرهم إذ رما شبه غزال بسهام فما ... أخطأ سهماه ولكنما

عيناه سهمان له كلما ... أراد قتلي بهما سلما قال فأنشدتها والدي فقال أحسن منها أبيات حفظتها من أبيات من شعر ابن المعتز وهي: يا نفس ويحك طالما ... أبصرت موعظة وما نفعتك فأخشى وانتهي ... وعليك بالتقوى كما فعل الأناس الصالحو ... ن وبادرى فلربما سالم المبادر فاحذري ... يا نفس من سوف فما خدع الشقي بمثلها ... إياك منها كلما باحت مكايدها ضمير ... ك إنما هي إنما خطر وكم قتلت واه؟؟ ... لكت النفوس وقلما تغنى أما نيهاً إذا ... حضر الردى وكأنما لم يجي من لاقى منيته فيا عجباً أما في ذاك معتبر ولا ... شاف يقصر من عما يا ذى المنى يا ذى المنى ... عش ما بدا لك ثم ما ولجمال الدين همام الدولة الحسن بن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد ابن علي العبدي الأمير الموصلي: وهب المدامة للمى ... واعتاض عن كأس فما ظام إلى رشفات ما ... لولاه ما عرف الظما

يا برد ما أذكى الجوى ... بين الضلوع وأضرما وكتب زين الدين محمد بن عبد المحسن المذكور إلى شمس الدولة ابن جميل وقد أهدى له ورقاً: حبذا يا ابن جميل حبذا ... ورق أهديته لكن إذا كان من خطك موشياً بما ... معتدي الطف شيء يعتذا لنفوس تتمارى فيه هل ... يحتذى أو يحتدى أو يحتذا وكتب إلى الشيخ تقي الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي الخراط الموصلي نزيل حلب يطلب منه ثوباً من ملبوسه يتبرك به فأنفذه إليه وكتب معه: قميص عبد مذنب غافل ... زمانه في صفقة خاسره فابك على من ظل في غفلة ... قد خسر الدنيا مع الآخره ثم كتب الهروي إلى زين الدين يطلب منه ثوباً فأنقذه إليه وكتب معه: قل لتقي الدين يا من هدى ... إلى العلى منهاجه الواضح وافاك ثوبي فاطرحه فما ... يجتمع الصالح والطالح ألبسه أدنى خادم مثلما ... يطعم كسب الحاجم الناصح وقال زين الدين المذكور: اقنع بأيسر ميسور من الزمن ... واشكر لربك ما أولاك من منن واذكر ملابس من عدن يخص بها ... ذوو التقى واهجر الأبراد من عدن

إن شئت أن تدخل الجنات مجتنياً ... قطوفها فتوق النار بالجنن وعاشر الناس بالمعروف مجتهداً ... وراقب الله في سر وفي علن وقال أيضاً: يا مولعاً بالأماني غير معتبر ... كيف الإقامة والدنيا على سفر لا تركنن إلى دار الغرور ولا ... تسكن إلى وطن فيها ولا وطر وسالم الناس تسلم من مكايدهم ... مسلماً لقضاء الله والقدر كم منحة بدرت ما كنت تأملها ... ومحنة لم تكن منها على حذر وقال أيضاً: أبناء دهرك موتى ... فاعظم الله أجرك لا ترج منهم حراكاً ... فالميت لا يتحرك لا تعجبن لمسيء ... وأعجب لمن كان سرك فانفر من الناس مهد ... عند الآله مقرك وإن تصاونت عنهم ... فإن لله درك وقال: لو نفرنا عن السكون إلى الدن ... يا هدينا إلى سواء السراط دار غدر وحسرة وانقطاع ... وبلاء وقلعة واشتطاط أبداً تسترد ما وهبته ... كخليل ابن يونس الخياط ومعناه أن عبد الله بن محمد بن سالم بن يونس الخياط كان له خليل يدعوه لمنادمته فإذا سكر خلع عليه ثوباً فإذا صحا من الغد بعث

إليه فاستعاده منه وكان ابن الخياط هذا منقطعاً إلى الزبيريين فقال في ذلك: كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه عني إذا كان صاحيا فلي فرجة في سكره بقميصه ... وروعاته في الصحو حصت جناحيا فيا ليت حظى من سروري وروعتي ... يكون كفافاً لا علي ولا ليا وكتب ضياء الدين بن الشهرزوري إلى زين الدين المذكور ورقة في مهم وطلب كتب جوابها في ظهرها فكتب في غيرها وسير ورقة ضياء الدين عطفها وكتب في ابتداء الجواب بديها: ضياء الدين كم انهضت جدى ... فلم أنهض بأنعمك الجسيمه أتاني خطك المرسوم نوراً ... بمرسوم عظيم في عظيمه ورمت جوابه في الظهر منه ... لتأمن فيه غائلة النميمه فلم أر أن أطيعك في ابتذالي ... له والرقم في طرس الرقيمة فأرسلت الإجابة في سطور ... عطفن على المشرفة الكريمة وللفقيه عمارة اليمنى مقطعات في طلب الأجوبة في الظهور منها: أعد لي جوابي في ظهور رقاعي ... ليرجع سرى وهو غير مذاع وإن عقتها عني لتصبح حجة ... علي فقد عاملتني بخداع ولعمارة أيضاً: إن شئت أن أكتب مسترسلاً ... إليك فيما عن من أمري فأكتب على الظهر ولا تعتذر ... فإنه أكتم للسر

ولعمارة: أتاني جوابك عن رقعتي ... على غيرها فأسأت الظنونا فلا تعتذر عن جواب الظهور ... فبعض الظهور يفوق البطونا ولا ترتهني بإمساكها ... فلست بتارك خطي رهينا ولعمارة: لم أرد الجواب في الظهر إلا ... عامداً في خفاء شكواك حالك ولأن لا تبقى فيكشف بالي ... من خطوب كشفن بالفقر بالك قال زين الدين كنت جالساً بسوق الخواصين بدمشق في حدود سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأنا إذ ذاك أجمع بين التجارة ونيابة ضياء الدين بن الشهرزوري في الأوقاف فوقف علي شاب، رث الحال والثياب، ظاهر الاكتئاب، عليه إثر المرض والفاقة مائل السمرة إلى السواد فناولني ورقه: فيها أبيات شعر يشكو فيها حاله، فقلت هذا شعرك؟ فقال نعم فرحمته وقلت له أنظم أبياتاً في ضياء الدين بن الشهرزوري لأحملها إليه واستمنحه لك وخذ هذا الدينار فتنفق في العاجلة، فسر سروراً ظهر عليه ثم مضى وأتاني في اليوم الثاني بأبيات رائية في ضياء الدين، فركبت ومشى معي يحادثني ويدعو ويشكر إلى أن وصلت إلى دار ضياء الدين فأوصلته إليه فسلم عليه ولم أكلفه إنشاد الأبيات لما هو عليه من الضعف وسوء الحال، ثم أخذت له من ضياء الدين خمسة دنانير وانصرف فرحاً مسروراً، ثم لم أره بعدها ولا علمت له نسباً ولا اسماً ومضت على ذلك مدة طويلة وانتقلت إلى جحماة ووليت بها نظر الأوقاف وقدم حماة الرشيد المصري

المعروف بالصفوي بعد انصرافه عن خدمة الملك الأشرف، فتعصب له جماعة من الدولة المنصورية حتى ولي وزارة المال للملك المنصور الكبير فرام مني الحضور عنده فامتنعت فشكاني إلى الملك المنصور فقال له هذا ليس لك عليه اعتراض وما وليته إلا بالإكراه ليكون ناظر أوقاف الخليفة ناظر أوقافي فترك الرشيد معارضتي ثم أخذ في استمالتي ومباسطتي المودة فلم أنبسط إليه وفاء لزين الدين بن فويج لأن أمور الديوان كانت إليه قبل ولاية الرشيد، فلما تغير الملك المنصور على الرشيد وعزله واعتقله بجامع القلعة نفذت ولدي عبد العزيز إليه فعرض عليه من المعونة والمساعدة على نكبته بكل ما يليق بالحال فشكر وأثنى والتمس التلطف في خلاصه فسعيت بما أمكن ولم يكن عليه تعلق بل خدم في مكانه بحملة كبيرة فتحنى له الملك المنصور ذنباً وقال إنك لم تخدمنا خدمة تستحق عليها معلوماً فأردد ما أخذته في مدة ولايتك فرده، ثم حبس نوابه وطلب أن يسترجع ما أخذته في مدة ولايتك فرده، ثم حبس نوابه وطلب أن يسترجع ما أخذه من معاليمهم، فقال الرشيد إن هؤلاء حبسوا بسببي وأنا الذي عوقتهم عن مكاسبهم وأنا أقوم بما يطلب منهم فأدى عنهم نيفاً عن أربعة آلاف درهم وأخرجهم، وكانت هذه الفعلة من مكارمه التي حببته فزرته وصادقته وهاديته وباسطته فقال لي في خلوة مرة والله يا مولاي ما كان طلبي لك عند ولايتي لما توهمته من استضاقتك إلي ولا للتحكم عليك بك في عملك بل لأتعرف إليك وأتشرف بك وأكافئك على جميلك، فشكرته وقلت وأي جميل كان

مني إليك فقال ما تعرف ذلك الأسود الفقير الأصفر الرث الحال والهيئة الذي وقف عليك بالخواصين وأعطاك ورقة فيها أبيات منها: يا أجمل الناس في خلق وأخلاق ... عليك معتمدي من بعد خلاقي أسعد مريضاً غريب الدار مفتقراً ... أبكى أعاديه من ضر وإملاق فأحسنت إليه وعطيته وأمرته بمدح ابن الشهرزوري فنظم فيه أبياتاً منها: غرة الظبي الغرير ... من هواها من مجيرى ؟ فلاءن صد حبيبي ونفى عني سرورى وأماتني الليالي ... موت ذي سقم فقير فحياتي بأخي الجو ... دا بن يحيى الشهرزوري أيها المولى ضياء ال؟ ... دين يا صدر الصدور مسني الضر فاسعد ... ني على مشي أموري فأوصله إليه وأخذت له جائزته منه أنا والله ذلك الشخص فذكرت القصة وأطرقت خجلاً واستحييت غاية الحياء فقال لي لا تطرق ولا تخجل فمن كانت حاجته إلى مثلك ما عليه عار ولا غضاضة وأعرفك أني بعد ذلك الوقت ما وقت في فاقة ولا احتجت إلى بذلة ولا رأيت أبرك مما صار إلي من مالك وجاهك فنبل في عيني غاية النبيل وصار بيني وبينه من المودة ما أربى على مودات غالب من تقدمه من الأصدقاء بهذا السبب ولو لم يعرفني بنفسه ما عرفته البتة، وكان يصلي الجمعة في المقصورة التي أصلي فيها فانقطع في بعض الجمع لعذر عرض

فكتبت إليه: يا ماجداً ألسن الورى أبداً ... بشكره المستفاض منطلقه ومن مداناته مروحة ... إذ هو روح الفؤاد والحدقه ومن أكف الزمان تكتب ما ... أمليه من شكره على الطرقه ومن أغاث العافين من يده ... سحابة بالنوال منبعقة إذا سحاب السماء جاد لهم ... بالقطر جادت بعسجد ورقه ومن معاني مديح حضرته ... مأخوذة من علاه مسترقه تؤمل سراقها إذا وصلوا ... إليه والقطع مقتضى السرقه كان لنا كل جمعة منح ... بين المعالي والطول مفترقه نقوم بالفرض ثم يلطفنا ... بحسن خلق سبحان من خلقه فلم قطعت الإيناس عن نفر ... أهواؤهم في هواك متفقه نعد إلى العادة القديمة كي ... تجمع بين الصلاة والصدقه وأسلم ودم في سعادة وعلا ... تشمل هذي الشمائل العبقه فكتب الجواب وكان اعتذر عني إلى الملك المنصور في أمر لبس عليه فأشار إليه: جادت عليك السحائب الغدقه ... بكل بيت علاه متفقه وأنت ذو فطنة لها حكم ... غزيرة لا تبيد بالنفقه وليس شعري كفواً لشعركم ... بل هو شكر الأنعام بالصدقه وما تكلفت باعتذاري عن ... ما كذب المدعي وما صدقه

ما الثانية في معنى النفي، فكتبت إليه: يا ذا الأيادي الغر والمنبت ال ... حلو الجني والمنهل المستطاب ومن حوى من كل فن فقد ... ناط إلى الحكمة فصل الخطاب إن قمت بالمعضل فينا وقد ... غاب عن الخدمة كل الصحاب فليس بالبدع الذي جئته ... منفرداً فيه ولا بالعجاب مثلك من ساس عظيماً ومن ... قام بأعباء الأمور الصعاب وهل لدفع الخطب مهما عرا ... جليله إلا الجليل اللباب شرفني شعرك لما أتى ... منتظماً نظم لآلي السخاب فراقي من لفظه رقة ... تقضي لعلياك برق الرقاب فلم أؤخر خدمتي هذه ... تأخير جان يستحق العتاب وإنما الشامي من بيته ... يأتي إذا كلمته بالجواب فاسمع ثناء عنك ألفاظه ... أعذب من رشف الثنايا العذاب وعش سعيد الجد حتى ترى ... غرابة الشيب وشيب الغراب فكتب إلي مجيباً عنها: رأيت أبياتاً قصوراً وما ... فيها قصور لا ولا ما يعاب سكنت منها جنة زخرفت ... بطيب ألفاظ حسان عذاب وقلت من أنشأ لنا هذه ... لقد أتى من كل شيء عجاب قالت أنا أنشأني سيد ... يأخذ من كل المعاني اللباب له رياضات وأخلاقه ... أعذب من رشف اللمى والرضاب

يستفتح الأمر بتدبيره ... فيفتح المغلق من كل باب يميد من يسمع ألفاظه ... حتى كأن اللفظ منه شراب فقلت هذا وصف زين الد ... نا والدين أعلى كل مولى نصاب إن عاق سوء الحظ عن قربه ... فإن قلبي عنده في اقتراب أو خانه الدهر فلا تكترث ... فكل ما فوق التراب تراب وكان لزين الدين المذكور اليد الطولي في الترسل فمن أنشأته مما كتب عن نفسه: كان الخادم أدام الله سعادات المجلس دواماً يستنفد مدد الأيام، ويستمد دواعي الأنعام، ويسترق له أحرار الأنام، ويستحق بأنوار سعده أ، يمحو آيات الظلم والإظلام، وأنهى ما أحاطت به العلوم المولوية من تلزمه بأستار كعبة المكارم الأكرمية، واكتفائه الأخطار في تعلقه بأذيال المفاخر الخطيرية، واستيرائه زناد العزائم الوزيرية واستمطاره سحب الهمم الأفضلية، المفضلية مستجيراً بقبلة إقبالها ومستعيذاً بحرم جلالها، من عدوان دهر، وانهضام وفر، وانقسام فكرن وشتات أمر وثقل ظهر، وحرج صدر، ومن حادثات كلما قلت أقصرت عظائمها عني وولت توالت وما قولي كذا ومعي صبر ثم وقف بعد ذلك محففاً عن الخواطر من التكرار، وعالماً أن المولى بالمعتبة مستغن عن التذكار ثم قد جدد الآن تعلقه بأذيال كرمه، وتمسكه وتعبده في مشاعر حرمه وتنسكه شاكياً من نبوة الدهر، وكرات الليالي، ولعمري أن الشكوى عنوان الخور، ونتيجة الضجر، وتظلم على القضاء والقدر، لكن:

ولا بد من شكوى إلى ذي حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع ومن شكا إلى غيره فقد ملكه من نفسه رقاً وأوجب لها عليه حقاً، فالشكوى على هذا القياس مجلبة رق، يجب لأجله اختيار السيد وموجبة حق، يتعين بسببه ارتياد الغريم الجيد، وقد اختار الخادم لرقه سيداً حفياً، وارتاد لحقه غريماً ملياً وفياً: فشكا إلى الماء الزلال أوامه ... وشكا السقام إلى الطبيب الماهره وأجل شكواه من المولى بصدر واسع الصدر، ناصع الفخر، قادر على النفع والضر، مبسوط اليد بالخير وحاشاه من الشر: يرد الحادثات على الموالي ... ويغريها بإرداء المعادي تصرف في صروف الدهر حتى ... غدت وحزونها أسلس القياد مقتضياً منه وعداً هو عليه دين قضاؤه واجب، وحق له من أريحيته مطالب، إذا أهمل اقتضاه الطالب، وقد علم المولى من طريقته العزلة في الغزلة والنفار عما يقضي بذله من البذله، والآن فقد نزل به من الضرورات ما أباح له ركوب المحظورات، فإن رأى المولى تصريفه في بعض الخدم اللائقة وإن لم تكن الفائقة ولا الرائقة، فقد استكتب في مثل بغداد فكتب ورسل فانجب وولى بها وبغيرها الولايات الجليلة، وعذق بنظره فيها وفي سواها حفظ الأموال الجزيلة، فنهض في الولاية النهضة المرضية، وسعى في الكفاية على الطريق المضيئة، فالمشير به آمن من أن يخطي، والشفيع له معط سلطانه ضعاف ما استعطى

والخادم قد خرج من لائمة العقل والعقلاء، وقام بوظيفة الفضل عند الفضلاء وسلك بملتمسه جد التوفيق، وتوخى لمقصوده أسهل طريق وجرد لمطلوبه حسام النجاح من قرابه، وأتى بيت حبائه بمحبوبه من بابه واستسقى لظمائه الزلال العذب، واسترهف لنصرته الجراز العضب واستنهض لمهمته الهمام الندب، فإن ظفر بمرامه، وانتصرن على أيامه فغير بعيد أن ينال مراده من اتخذ المولى وسيلة قصده وإن استمر حول حاله التي شرحت ودامت عليه عقلة أموره التي جنحت، وجمحت وطاشت كفة حظه التي كانت قديماً رجعت، واستفحل فساد حركاته التي طالما استقامت وصلحت: فذاك لحظي لا لعجز محكم ... إذا أمر الأيام في إطاعت ووجه الشكر متوجه إلى المولى في الحالين، وأيدي الدعاء بدوام أيامه مبسوطة على كلا التقديرين، وبالعناية المتعينة والكفاية المتبينة يرتفع المن والعتب من البين، والرأي اسماً إن شاء الله تعالى، وندب لعقد نكاح ببغداد لبعض مماليك الخليفة على بعض جواريه، فقال بديهاً: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وشرع النكاح لعباده وأثابهم عليه أجراً، أحمده على نعمه التي أوجب التوثيق بحمدها شكراً، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أعدها للمعاد ذخراً، وأشد بها للرشاد أزراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى العالم طراً، الموروث عنه من الحكم ما يطبق الآفاق براً وبحراً، ويدعو إلى التناكح

والتناسل ليعود قل المؤمنين كثراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة هم بها أحق وأحرى، وعلى عمه العباس بن عبد المطلب الذي فاق الأعمام شرفاً وقدراً، وأولد من الأئمة المهديين نجوماً زهراً، جد مولانا وسيدنا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين الذي أوسع الإسلام إنجاداً ونصراً، وأوسع الأنام إرفاداً وبراً، وقمع أهل الكفر والعناد إرغاماً وقهراً، صلى الله عليه صلاة ترفع له في الدارين رتباً وذكراً، وبعد فالنكاح من السنن المنوه بها شرعاً وعقلاً والأعمال المفضلة عند الحاجة إليها على أفضل العبادات إذا كانت نفلاً وبه تمت الحكم الإلاهية، ووردت الشريعة المحمدية، ونسخت المسافحة الجاهلية ورسخت أقدام المناسب الطاهرة الزكية، وقد رسم أعلى اله المراسم وأمضاها وأنفذها في أقصى الأرض وأدناها أثناء عقدة النكاح بين فلان وفلانة مملوكي الخدمة الشريفة المكتفيين بهذه العبودية في التلقيب شرفاً، وبهذه المملوكية ملكاً عظيماً مؤتنفاً على صداق مبلغه كذا وكذا فخاراً لله لأمير المؤمنين صلوات الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين في هذا المرسوم المبين ولمملوكيه في هذا العقد المتين، وجعله مقروناً لأمير المؤمنين، بالنصر والتمكين ولمملوكيه المذكورين بالرفاء والبنين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين. وكان لزين الدين أخ يدعى نجم الدين أحمد وعنده سقوط همة ففارقه وصار وكيلاً عند القاضي زكي الدين الطاهر بدمشق وبلغ

زين الدين رعاية القاضي له بسببه وسأله النجم أن يكتب إلى القاضي يشكره على إحسانه إليه فكتب: أولي الأنعام أدام الله سعادات المجلس العالي الزكوي وجددها، ومدمدة أيامه وأبدها، وبسط يد اقتداره وأيدها، وأبقى على أوليائه مواهب الآئه وخلدها، وحرس الشريعة المطهرة بحسن نظره وعضدها، وهيأ للأمة بواضح هديه وأرشدها، بأن يذكر ويشكر ويظهر، ويشهر، ويذاع وينشر، ويعترف بعوارفه ولا ينكر، أنعام لم يخدم المنعم به على ابتدائه بسالف خدمة ولا تقدمت له نهضة في مهمة وككان فاعله متبرعاً بفعله متطوعاً بما فرضه على مكارمه من مغله كأنعام المولى على مملوكه أحمد أخي الخادم فإن المولى أسبغ الله ظله شمله بأنعامه، ورعاه بطرف عنايته واهتمامه، من غير تقدم خدمة يرعى لأجلها، ولا سابق موالاة يمت مثله بمثلها وهكذا أنعام ذوي الأصول الكريمة والمكارم الأصيلة ما زال عارياً عن الأسباب الموجبة والموجبات المسببة، وقد كان الخادم قاطعه مقبحاً عليه ما اختاره لنفسه من الحرفة التي هي كاشتقاقها، والمهنة التي تفضي إلى انخرام الحرمة وانخراقها، حتى ورد كتابه أنه بين يدي المولى محفوظاً بعنايته، وملحوظاً برعايته، ومنتظماً في سلك خدمه، ومعتصماً بركن حرمه، وملازماً لبابه ومعدوداً من جملة خدمه وأصحابه فعدل الخادم، عن استقباح اختياره إلى استحسانه وعن استيهان رأيه إلى استمتانه، فإن من جمع الله عز وجل له ما جمعه للمولى من كرم المولد وشرف المحتد وطيب الأصول والتفنن

في علم الفروع والأصول، ومواظبة اقتباس العلم، وإيناس الأتباع بالتواضع والحلم، إلى غير ذلك من الفضائل التي يضيق عنها العد، ولا يحصرها الحد، كان للمتعلم منه فضيلة العالم، وللوكيل، بين يديه رتبة الحاكم، وللقائم في خدمته منزلة القاعدة المتصدر، وللماشي في ركابه مكانة الراكب المتأمر، فنه لا نقص في خدمة كامل، ولا وهن في قبول الأفضال من فاضل، ولقد أصبح أنعام المولى عليه مسترقاً للخادم وجاراً لولائه وباسطاً لسان دعائه، وثنائه، وما سمع قبل المولى بمسترق سرى الرق إلى أخيه ولا بعبد أنجز إلى مولاه ولا أقاربه وذويه، وإنما المعهود في مواضع الوفاق العمل بالسراية في العتق لا في الاسترقاق وجر المولى من جهة مخصوصة بعد وجود الحرية ومع بقاء العبودية فلا زال المولى مما يوليه من الرغائب مخصوصاً بفضائل الغرائب، ولقد وصل الخادم في كتابه ما تواترات به الأخبار على كل لسان مجملاً من خصائص فضائل المولى وحسن سيرته وغزارة إحسانه ومروءته ما تمنى معه الكون في الخدمة المولوية متشرفاً بمشاهدتها، ومتنمياً بمرافدتها ومستعيناً بمعاضدتها ومستديلاً من الأيام بمساعدتها، والله تعالى يقرب من ذلك ما يقوم للخادم برفع قدره وللمخدوم بواجب شكره إن شاء الله تعالى. عبد الكريم بن جمال الدين بن عبد الصمد بن محمد بن

أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد أبو الفضائل عماد الدين الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي المعروف بابن الحرستاني، مولده في سابع عشر شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق سمع من ابن أبي القاسم عب الصمد ومن رجب الخشوعي والقاسم بن علي الدمشقي وحنبل وغيرهم وتولى قضاء دمشق نيابة واستقلالاً بعد أبيه ثم تولى الخطابة والإمامة بجامعها الأعظم إلى أن توفي ودرس بزاوية الغزالي وغيرها، وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية وكان من الأعيان وتوفي بدمشق في التاسع والعشرين من جمادى الأولى ودفن من يومه بجبل قاسيون وشهده خلق عظيم لا يحصون كثرة ووالده جمال الدين قاضي قضاة الشام كان أحد الفقهاء المشهورين بالعلم والمشايخ المذكورين بالدين والصلاح والحكام المعروفين باتباع الحق وتوخيه والصلابة في الأحكام والوقوف عند ما توجبه الشريعة الهادية. وكان يعرف وينعت بتقي القضاة وولي القضاء بدمشق مدة نيابة واستقلالاً وسمع من جماعة كثيرة وعمر حتى تفر بأشياء من مروياته وكانت الرحلة إليه في وقته رحمه الله. علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي أبو الحسن ضياء الدين أحد كتاب الحكم بدمشق كان فاضلاً من أعيان العدول، وله اشتغال بسماع الحديث وكتابته وسافر إلى الديار المصرية لشهادة تحملها فأدركه أجله هناك وتوفي بالقاهرة ليلة السبت رابع صفر ودفن خارج باب

النصر شرقي القاهرة وقد نيف على الستين رحمه الله. عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن أيوب بن شاذى الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح صاحب الكرك وقد ذكرنا في حوادث السنة الخالية حضوره إلى الملك الظاهر وقبضه عليه وأخذ الكرك منه وإنفاذه إلى الديار المصرية وكان والده الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن الملك الكامل قد ملك الديار المصرية بعد وفاة أبيه وصار الشام أيضاً في حكمه وابنه الجواد نائباً عنه، واتفق حضور الملك الصالح نجم الدين وأخذه دمشق من الجواد وأنه قصد التوجه إلى الديار المصرية ليملكها، وجرى ما قدمنا ذكره من خروج دمشق عنه وإمساكه وإعتقاله بالكرك ثم خروجه وتملكه الديار المصرية، وكل هذا مشهور وبقي الملك العادل معتقلاً بقلعة الجبل فلما عزم الملك الصالح على السفر إلى الشام في أواخر سنة خمس وأربعين تقدم بتسييره إلى الشوبك ليعتقل بقلعتها فضربت له خيمة ظاهر القاهرة ليخرج إليها ثم يمضي به إلى الشوبك ليعتقل بقلعتها فضربت له خيمة ظاهر القاهرة ليخرج إليها ثم يمضي به إلى الشوبك فامتنع من ذلك وقال ما أروح أصلاً ومهما اردتم فعله فافعلوه هنا فغضب الملك الصالح ومعه نفر يسير من مماليك الملك الصالح وتقدم إليهم بخنقه فخنقوه بقلعة الجبل وجهز وأخرج إلى مقبرة شمس الدولة ابن صلاح الدين خارج باب النصر فدفن بها رحمه الله وذلك في شوال

سنة خمس وأربعين فكانت مدة اعتقاله بعد القبض عليه قريباً من ثمان سنين وعمره نحو ثلاثين سنة لأنه ولد سنة خمس عشرة عقيب وفاة جده الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب وكان جواداً كثير البذل أنفق الخزائن التي جمعها والده في السنين المتطاولة في مدة يسيرة وكانت أيامه زاهية زاهرة والأسعار في غاية الرخص لكنه لم يكن فيه سياسة يضبط بها الجند ولا معرفة يدبر بها المملكة وقدم الأراذل وآخر الأكابر ولما مات كان الملك المغيث صاحب هذه الترجمة صغيراً فأنزل إلى القاهرة وجعل عند عمات أبيه القطبيات بنات الملك العادل الكبير وإنما عرفن بالقطبيات لأنهن أشقاء الملك المفضل قطب الدين بن الملك العادل فبقي عندهن إلى أن مات الملك الصالح فقيل أن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أراد أن يسلطن الملك المغيث ويكون هو أتابكه وعزم على ذلك والأمير فخر الدين يومئذ بالمنصورة قبالة الفرنج وبلغ ذلك الأمير حسام الدين بن أبي علي وهو إذ ذاك نائب السلطنة بالقاهرة فتقدم بأخذ الملك المغيث من عند عمات أبيه واعتقاله بقلعة الجبل والاحتراز عليه فبقي في القلعة معتقلاً فلما وصل الملك المعظم إلى المنصورة أمر بقتل الملك المغيث من قلعة الجبل إلى قلعة الشوبك واعتقاله بها فنقل إليها وكان الملك الصالح نجم الدين لما تسلم الكرك من أولاد الملك الناصر داود رحمه الله سير إليها الطواشي بدر الدين بدر الصوابي نائباً بها وبالشوبك فلما وصل إليه الملك المغيث اعتقله بالشوبك كما رسم، فلما قتل الملك المعظم وبلغ

الصوابي أخرج الملك المغيث وملكه الكرك والشوبك وأعمالهما وتولى تدبير أموره وقد ذكرنا من تفاصيل أحواله نبذة فيما مضى وكان ملكاً كريماً حليماً شجاعاً عادلاً محسناً إلى رعيته غير أنه لم يكن عنده حزم ولا حسن تدبير فإنه أنفق جميع ما كان عنده من المال على البحرية والشهرزورية في طمع تملك الديار المصرية ولم يحصل له ذلك وذهب ذلك المال العظيم في غير فائدة وكان جملاً عظيمة فإن الملك الصالح نجم الدين لما تسلم الكرك حمل إليها مائة ألف دينار عيناً غير الدراهم والأقمشة وغيرها وألجأت الضرورة للملك المغيث بذهاب ذلك إلى النزول من الكرك وخروجها من يده وذهاب روحه. وكان الملك المغيث على مذهب أبيه في تقريب الأراذل والإصغاء إليهم وقد ذكرنا في السنة الماضية كيفية إمساكه وما نسب إليه والله أعلم بحقيقة ذلك وقيل إن جميع ما نسب إليه لم يكن له أصل بل مجرد شناعة ليقوم عذر الملك الظاهر عند الأمراء والناس فيما فعله فن سائر الأمراء في ذلك الوقت إلا القليل منهم كانوا غلمان بيته. وحكى لي أن الملك الظاهر قال للأمير عز الدين أيدمر الحلى نائب السلطنة بالديار المصرية في ذلك الوقت دع من يقتل المغيث صاحب الكرك ممن تثق به غاية الوثوق وتوكد عليه في كتمان ذلك وطيه عن جميع الناس وأدفع إليه ألف دينار فأحضر الأمير عز الدين المذكور لأستاذ داره وكان رجلاً ديناً فيه خير وعنده تقوى وقال له أريد أن أندبك في أمر مهم تفعله وتكتمه عن جميع الناس ولا تطلع

عليه أحداً من خلق الله فقال السمع والطاعة قال هذه ألف دينار مصرية تأخذها لك وتدخل إلى الملك المغيث صاحب الكرك تقتله فقال والله لو أعطيتني ملء هذه الدار دنانير ما فعلت هذا ولو ضربت رقبتي بل يأمرني الأمير بغير هذا ويبصر ما أفعل فانتهزه وحاوله بكل طريق فلم يجبه إلى ذلك فأعرض عنه وطلب شخصاً آخر من أصحابه فيه شر وعنده شهامة وإقدام وقال له ذلك فبادر إليه ودخل على الملك المغيث فتقله خنقاً وأخذ الألف دينار وشرع يشرب في دار له على بركة الفيل ويخرج من الذهب فقال له ندماؤه في حال سكره من أين لك هذا الذهب فأخبرهم أنه قتل صاحب الكرك وأعطى ألف دينار رضي الله عنه فشاع ذلك واتصل بالملك الظاهر وكان حريصاً على كتمانه ويظهر للأمراء أن المغيث في قيد الحياة موسعاً عليه فعظم ذلك على الملك الظاهر وأنكر على الأمير عز الدين الحلى وطلب الشخص القاتل منه فأحضره إليه فأمر باستعادة الألف دينار منه وقتله. وكان قتل الملك المغيث في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة إحدى وستين رحمه الله. لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي كان من أكبر الأمراء وأعظمهم مكانة في وقته وأعلاهم قدراً وأوسعهم صدراً وأكثرهم تجملاً وكان شجاعاً بطلاً جواداً حازماً وله في الحروب المواقف المشهورة واليد البيضاء والآثار الجميلة خصوصاً في وقعة التتر ظاهر حمص في أول سنة تسع وخمسين فإنه فاز بأجرها وشكرها وقد أشرنا

إلى شيء من أحواله يما تقدم من هذا الكتاب. وكان له في الفقراء والصالحين عقيدة حسنة ويكثر من الإحسان إليهم والبر بهم وافتقادهم بالنفقة والكسوة وغير ذلك وكان يعمل لهم السماعات ويحضر فيها من المآكل والمشارب والأراييح الطيبة والشموع ما يبهر العقل ويتجاوز الحد فكان يقدر ما يغرمه على السماع الواحد تقريب ثمانية آلاف درهم وكنت أسمع باحتفاله في مر السماع وعلو همته فأحمل الأمر على المجازفة في القول من الحاكي فاتفق أنه طلبني ليلة لحضور ذلك فحضرت عنده فكان الأمر على ما بلغني وأكثر فإنني لما دخلت داره التي بالعقيبة رأيت من الشموع الكافوري الكبار في الأتوار الفضة والمطعمة ما يقصر عنه الوصف ثم مد بعد صلاة المغرب سماطاً عظيماً يشتمل على قريب مائة زبدية عادلية كبار في كل زبدية منها خروف صحيح رضعي وقريب ثلاثمائة زبدية دون تلك في كل زبدية ثلاثة طيور دجاج وغير ذلك من أنواع الأطعمة، فلما فرغ الناس من الأكل صلوا العشاء الآخرة وشرع المغني في الغناء ورقص هو بنفسه بين الفقراء كأحدهم وكان يسلك من الأدب معهم والتواضع لهم ما لا مزيد عليه. فلما فرغ المغني من النوبة الأولى مد سماطاً عظيماً يشتمل على عدة أطباق وصحون خزافية حلوى سكب وقطائف رطبة ومقلوة ومشبك وغير ذلك مما جميعه بالسكر المكرر المصري والفستق والمسك فأكل

الناس من ذلك ما أمكنهم وحملوا بحيث شيل معظم ذلك في خرق الحاضرين فلما فرغوا من ذلك شرع المغني في الغناء من النوبة الثانية فرقص هو وغلمانه ومن حضر من الفقراء والمشايخ وغيرهم فلما فرغ المغني من النوبة الثانية مد سماطاً عظيماً من الفواكه النادرة من السفرجل والتفاح الفتحي والكمثرى الرحبي والرمان اللفان والحلو والعنب النادر والبطيخ الأخضر وكانت هذه الفاكهة التي حضرت معدومة في مثل ذلك الوقت يتعذر وجودها على غيره لأن ذلك كان في أواخر فصل الشتاء وإنما كان يدخر له ذلك بالقصد فإن قرية كفر بطنا وزبدين وعدة قرى من الغوطة كانت جارية في إقطاعه وبها الفواكه النادرة فأكل الناس من ذلك ما أمكنهم ثم غنى المغني النوبة الثالثة ورقص الجمع فلما فرغوا مد لهم سماطاً من المكسرات على اختلاف أنواعها من القصب العراقي والفستق والبندق والزبيب الجوزاني والفستق المملح والخشكنان والكعك المحشو والبقسماط المعمول بالسكر والسمن وغير ذلك فأكل الناس من ذلك وحملوا وجميع ما يمد على كثرته لا يرفع منه بقية البتة بل يؤكل منه ما يمكن ويتفارق الحاضرون ما بقي وينهب وجميع ما شرب في تلك الليلة من أولها إلى آخرها من الماء المصنوع بالثلج والسكر وماء الخلاف والورد والمسك والسقاة يملأون الكيزان من ذلك على الدوام ويسقون الناس والمباخر تعمل بالند والعنبر والعود الهندي النادر المعلى من أول الليل إلى آخره.

فلما كان وقت السحر أغلى حمام ابن السرهنك المجاورة لداره ودخل إليه ومعه معظم الجمع ولم أدخل أنا. فحكى لي الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد اليونيني رحمه الله وكان حاضراً قال بعد خروجك دخلنا الحمام فجعل الأمير يخدم الفقراء بنفسه وغلمانه فلما خرجوا كان منهم جماعة خلعوا قمصانهم ودلوقهم فأحضر لهم قمصاً جدداً وثياباً جدداً في نهاية الحسن والمناسبة لما يليق بهم ثم خرج واستدعاهم إلى داره وسقاهم من الأشربة ما يناسب الحمام ويلائمه ومد لهم سماطاً عظيماً من الططماج وأحضر لهم حلوى سخنة فأكلوا وانصرفوا وأما هو فإنه خلع على المغني من ملبوسه عدة بغالطيق تساوي جملة كبيرة وكذلك غلمانه وكان هذا السماع في آخر سنة تسع وخمسين والغرارة القمح بدمشق فوق ثلثمائة درهم والرطل اللحم بالدمشقي بمبلغ سبعة دراهم والدجاجة بمبلغ ثلاثة دراهم. وجميع الأشياء غالية جداً وكانت وفاته رحمه الله في رابع عشر المحرم ودفن بسفح قاسيون مجاوراً لقبر الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله عليه وقد ناهز خمسين سنة من الممر وقيل أنه سم وإن مملوكه جمال الدين كندغدي واطأ عليه وقابل إحسانه العظيم المفرط بذلك فإنه كان قد خوله وموله وهو عنده أعز ومن الولد فباعه بأبخس الأثمان والله أعلم بحقيقة ذلك وخلف الأمير حسام الدين تركة جليلة المقدار من الخيول والعدة والأموال وغير ذلك رحمه الله.

محمد بن حمدان بن جراح بن الحسن بن محمد بن أحمد بن مال وعبد الله شرف الدين النميري كان فاضلاً ينظم العشر على طريقة العرب وتلقب نفسه زعيم نمير وكان شيخاً لطيفاً رأيته غير مرة عند والدي رحمه الله بدمشق وسمعته ينشد مقاطيع من شعره وكانت وفاته بقرية كفر بطنا في ثاني شهر رمضان المعظم ودفن بها وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفرج أبو الفرج زين الدين الإسكندري سمع من الحافظ علي بن المفضل المقدسي وغيره وتولى القضاء والخطابة ببلده مدة وكان أحد رؤسائها ومن ذوي بيوتها ولأهله بها الآثار الجميلة من الأوقاف على أبواب..... وغير ذلك وكان زين الدين عاملاً فاضلاً سقط عليه بعض جدار داره فمات في العاشر من شهر رجب رحمه الله تعالى. محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة أبو بكر محي الدين الأنصاري الأندلسي الشاطبي مولده في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسماية بشاطبة سمع الكثير وولى مشيخة دار الحديث البهائية بحلب ثم قدم الديار المصرية وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته وحدث وكان أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل

وكثرة العلم والجلالة والنبل وأحد المشايخ المعروفين بمعرفة طريق القوم وله في ذلك الكلام الحسن والإشارات اللطيفة مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق واطراح التكلف ورقة الطبع ولين الجانب، وكانت وفاته في يوم الثلاثاء العشرين من شعبان بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله، ومن قلائد الجمان: الشيخ محي الدين من أبناء القضاة الفقهاء حفظ الكتاب الكريم وتفقه على مذهب مالك بن أنس رحمة الله عليه ورحل إلى المدينة السلام في طلب الحديث فلقي بها جماعة من مشايخها كأبي حفص عمر بن كرم الدينوري وأبي علي الحسين بن المبارك ابن محمد الزبيدي وأبي الفضل عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران وغيرهم وقدم مدينة إربل وقرأ على أبي الخير بدل التبريزي في سنة ست وعشرين وستمائة، وكان محي الدين رجلاً فاضلاً متنسكاً عاقلاً ذا دين وعفاف وبشر ووقار جيد المعرفة بمعاني الشعر صالح الفكرة في حل التراجم ومن شعره: إلى كم أمني النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضى ؟ وقد مر لي خمس وعشرين حجة ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى وأعلم أني والثلاثون مدتي ... حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا فماذا عسي في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوب من العسر قد أفضى

فيا رب عجل لي حياة لذيذة ... وإلا فبادر بي إلى العمل الأرضى وكتب إلى بعض ملوك المغرب: لقاؤك عيد بالنجاح بشير ... وتقبيل بمني راحتيك حبور بهاؤك في لحظ المواسم موسم ... ونشرك في ريا العبير عبير وما عادنا من عيدنا غير وافد ... يحول عليه الحول ثم يزور له أمل في لثم لقياك مدرك ... وطرف بها يرنو إليك قرير سرى نحوكم مذ عام أول جاهداً ... يجوب عراض البيد وهي شهور فبشراه وفي النفس ملء فؤادها ... سروراً وإن أعيت وطال مسير وناجيت نفسي والهوى يبعث الهوى ... وطال بي التسويف وهو غرور أأترك موسى ليس بيني ويبنه ... سوى ليلة إني إذن لصبور فملت بودي وانحياشي وهمتي ... إليك وفيها عن سواك نفور وأيقنت أني إذ أخذت بحبلكم ... على ريب دهري من أشاء أجير هما منثني الأعناق نحو علائه ... كمال بأهواء النفوس جدير ينوب عن الدر النفيس كلامه ... وما ناب عن جدوى يديه بحور إذا اصفرت أيدي السحاب فكفه ... سحاب بآفاق السماح دروز وقال محي الدين أيضاً وقيل كنيته أبو القاسم: وصاحب كالزلال يمحو ... صفاؤه الشك باليقين لم يحص إلا الجميل مني ... كأنه كاتب اليمين وهذا عكس قول الشهاب المنازي وهو:

وصاحب خلته خليلاً ... وما جرى عذره ببالى لم يحص إلا القبيح مني ... كأنه كاتب الشمال محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن علي ابن الحسين بن قرناص أبو عبد الله ناصر الدين الحموي الخزاعي وبقية نسبه مذكور في ترجمة عمه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن قرناص في سنة أربع وخمسين، مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من شوال هذه السنة وكان عالماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعا كريم الأخلاق حسن الأوصاف جميل العشرة جم الفوائد، ومن شعره في ترتيب حروف كتاب المحكم في اللغة لابن سيده: عليك حروفاً هن خير غوامض ... قيود كتاب جل شاناً ضوابطه صراط سوي زل طالب دحضه ... تزيد ظهوراً ذا ثبات روابطه لذلكم نلتذ فوزاً بمحكم ... مصنفه أيضاً يفوز وضابطه وهذه الأبيات أنسب من الأبيات التي عملها بعض أدباء المغرب في مثل ذلك وأليق بالكتاب والأبيات القديمة: علقت حبيباً همت خيفة غدره ... قليل كرى جفن شكا ضر صده سبي زهوه طفلاً ديانة تائب ... ظلامته ذنب ثوى ربع لحده نواظره فتاكة بعميده ... ملاحته أجرت ينابيع وجده وكتاب المحكم في اللغة كتاب نفيس في خمس عشرة مجلدة لم يصنف

في بابه مثله وهو تأليف أبي الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر ابن عبد الله الحميدي عنه كان إماماً في اللغة والعربية حافظاً لهما على أنه كان ضريراً وقد جمع في ذلك جموعاً، وله مع ذلك في الشعر حظ وتصرف كان منقطعاً إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري ثم حدث له نبوة بعد وفاته في أيام إقبال الدولة بن الموفق خافه فيها فهرب إلى بعض الأعمال المجاورة لأعماله وبقي بها مدة ثم استعطفه بقصيدة أولها: ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا ضحيت فهل من برد ظلك نومة ... لذي كبد حري وذي مقلة وسنا ونضو هموم طلحته طياته ... فلا غارباً أبقين ولا متنا هجان نأى أهلوه عنه وشفه ... قراف فأمسى لا يدس ولا يهنا فيا ملك الأملاك إني محوم ... على الورد لاعنه أذاد ولا أدنا تحيفني دهر وأقبلت شاكياً ... إليك أمأذون لعبدك أم يثنا وإن تتأكد في دمي لك نية ... بسفك فإني لا أحب له حقنا دم كونته مكرماً تك والذي ... يكون لا عتب عليه إذا أفنى إذا ما غدا من حرسيفك بارداً ... فقد ما غدا من برد برك لي سخنا

وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ما عمرت من ندم سنا ولله دمعي ما أقل استنانه ... إذا في دمي أمسي سنانك مستنا ومالي في دهري حياة الذها ... فيعتدها نعمي علي ويمتنا إذا قتلة أرضتك منا فهاتها ... حبيب إلينا ما رضيت به عنا وهي طويلة صرف فيها القول ووقع عنه الرضا بوصولها، ومات بعد خروجي من الأندلس قريباً من سنة ستين وأربعمائة رحمه الله، وذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله في وفيات الأعيان فقال الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي كان إماماً في علم اللغة والعربية حافظاً لهما وقد جمع في ذلك جموعاً من ذلك كتاب المحكم في اللغة وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب المخصص في اللغة وكتاب الأنيق في شرح الماسة في ست مجلدات وغير ذلك وكان ضريراً وأبوه ضرير، قال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون علي غريب المصنف فقلت لهم انظروا من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه على من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه، وكان له في الشعر حظ وتصرف وتوفي بحضرة دانية عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة أو نحوها، قال قاضي القضاة رحمه الله ورأيت على ظهر مجلد من المحكم بخط بعض فضلاء الأندلس أن ابن

سيده المذكور كان يوم الجمعة قبل الصلاة صحيحاً سوياً إلى وقت صلاة المغرب فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه فبقي على تلك الحال إلى العصر من يوم الأحد ثم توفي إلى رحمة الله وقيل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة والأول أصح وأشهر ودانية مدينة في شرق الأندلس. محمد بن أبي بكر بن سيف أبو عبد الله شمس الدين التنوخي الموصلي الوتار ولد بالموصل في سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وسبعين وخمسمائة واشتغل بالأدب وكان فاضلاً وله نظم جيد وسكن دمشق مدة وتولى خطابة المزة وخطب بها إلى أن توفي بها في ثامن عشر ذي الحجة رحمه الله، ومن شعره في المشيب والخضاب: وكننت وإياها مذ اختط عارضي ... كروحين في جسم وما نقضت عهدا فلما أتاني الشيب يقطع بيننا ... توهمته سيفاً فألبسته غمدا موسى بن إبراهيم بن شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذى أبو الفتح الملك الأشرف مظفر الدين ملك بعد وفاة أبيه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم في سنة أربع وأربعين حمص وتدمر والرحبة وزلوبية وهو صغير السن وقام بتدبير دولته وزيره مخلص الدين

إبراهيم بن إسماعيل بن قرناص فسلم قلعة شميميس إلى الملك الصالح نجم الدين ليعتضد به بإشارة وزيره مخلص الدين فعظم ذلك على الملك الناصر صلاح الدين يوسف وجهز إليه العساكر مع الأمير شمس الدين لؤلؤ وأخذ حمص وعوضه عنها تل باشر وقد أشرنا إلى ذلك، ولما قصد الملك الناصر رحمه الله التوجه إلى الديار المصرية في سنة ثمان وأربعين كان في خدمته فلما كسر العسكر بالسابح كان الملك الأشرف فيمن أسر وحمل إلى قلعة الجبل بالقاهرة فحبس بها إلى، وقع الصلح بين الملك الناصر والملك المعز في المحرم سنة إحدى وخمسين بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي فأطلق مع من أطلق من أصحاب الملك الناصر وقدم عليه طامعاً في أن يعيد عليه حمص، فلما يئس من ذلك توجه إلى تل باشر وكتب إلى الملك الناصر يستأذنه في مراسلة صاحب الموصل وصاحب ماردين وقال إنهما كتبا إلي يهنياني بخلاصي وذكر أن صاحب الموصل يضايقه في الرحبة ويلزمه بعمل جسر قرقيسيا فأذن له فراسلهما وجعل ذلك وسيلة إلى إرساله قصاده إلى التتر ثم طلب إذناً ثانياً أن يبعث إلى بلاد الروم جواسيس يكشفون له أخبار التتر ويطالعونه بها ليكون المسلمون على يقظة منهم فأجابه إلى ذلك وكل ذلك وسيلة إلى مراسلتهم لحقد كامن في صدره للملك الناصر بسب أخذه حمص منه ولم تزل كتبه واردة على الملك الناصر بما

يحدث به الرهبة وكتب التتر تصل إليه بما يعتمده من تثبيط عزم الملك الناصر ولما استولت التتر على حلب خرج مع الملك الناصر من دمشق يوم الجمعة خامس عشر صفر سنة ثمان وخمسين إلى الصنمين ثم فارقه منها وتوجه إلى تدمر وقصد هولاكو وهو على قلعة حلب يحاصرها فأقبل عليه هولاكو وأمره بالحديث مع أهل قلعة حلب فتوسط بينه وبينهم حتى سلموها في تاسع ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وبقي عنده يسفر بينه وبين من في القلاع حتى سلمها له، فلما أراد هولاكو العود إلى بلاده ولاه الشام بأسره نيابة عنه وأعاد إليه حمص مع تدمر والرحبة وغيرها مما كان في يده، ولما توجه الملك الناصر إلى هولاكو نزل عليه في طريقه فلم يلتفت إليه ولا احتفل به وأغلظ له في التوبيخ والتقريع، ولما عزم الملك المظفر قطز رحمه الله على لقاء التتر كتب إليه كتاباً يسفه رأيه فيه على ما اعتمده من ميله إلى التتر وانحيازه إليهم واختياره لهم على المسلمين ويعده أنه متى خرج عنهم ومال إليه بشرط أن لا يقاتل معهم إذا كان بينه وبينهم مصافاً أبقى عليه ما في يده من البلاد فأجابه إلى ذلك ولما عزم كتبغا على لقاء الملك المظفر رحمه الله طلبه إليه فاعتذر وتمارض وبعث ابن عمه الملك المعظم وصارم الدين أزبك الحمصي مقدم عسكره فلما من الله تعالى بكسرة التتر وهرب من كان من اتباعهم كان الملك الأشرف بدمشق فهرب مع الزين الحافظي ونواب التتر بدمشق فلما وصلوا قارا فارقهم

وتوجه إلى تدمر وراسل الملك المظفر فحلف له على ما كان بيده من البلاد خلا تل باشر ثم وصل دمشق وافداً على الملك المظفر رحمه الله فأكرمه وتقدم إليه بالمسير إلى حمص والتصرف في بلاده التي حلف له عليها، فلما قتل الملك المظفر وولي الملك الظاهر واستولى الأمير علم الدين الحلبي على دمشق حلف للملك الظاهر باطناً وللأمير علم الدين الحلبي ظاهراً ولما قصدت التتر حلب في أواخر سنة ثمان وخمسين وخرج منها من بها من العزيزية والناصرية قصدوا حمص فآواهم وأحسن إليهم وقام لهم بالضيافات والإقامات وخرج التتر من حلب في طلبهم. فلما وصلوا حمص في أوائل شهر المحرم سنة تسع وخمسين خرج إليهم وحاربهم مع العزيزية والناصرية وصاحب حماة فكسروهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان التتر زهاء ستة آلاف فارس وهرب من سلم منهم ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد وكان الملك الأشرف في هذه الوقعة أعظم غناء فرأى له الملك الظاهر ذلك ونبل قدره عنده وأعاد إليه تل باشر لما خرج إلى الشام في شوال سنة تسع وخمسين مع ما في يده ولم يزل ملحوظاً منه بعين الرعاية إلى أن حصل عنده تخيل عن الملك الظاهر عند عوده إلى حمص من خدمته لما كان على الكرك وقبض على صاحبها فتواتر الأخبار عنه بإظهار أمور كامنة كانت في نفسه فعزم الملك الظاهر على الوثوب به واستئصاله بالكلية فعاجله المرض وتوفي في حادي عشر صفر أو عاشره من هذه السنة بحمص قبل صلاة الجمعة ودفن ليلاً على جده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بالمدرسة التي أنشأها بباطن حمص رحمه الله وكان ملكاً جليلاً حازماً خبيراً مدبراً متيقظاً شجاعاً ساوساً على الهمة كبير النفس أبيها له باطن وغور وتحيل ودهاء وتأتى في بلوغ مقاصده وأغراضه وافر العقل قليل البسط والحديث مقيداً لألفاظه ملازماً للناموس في سائر أوقاته حتى في خلواته مع غلمانه وخواصه يحذو في ذلك حذو الملك الصالح نجم الدين، ولما توفي إلى رحمة الله وجد له من الصين المصري والدراهم والجواهر والذخائر ما يعظم خطره ويكثر بعضه على مثله ولم يخلف ولداً وتسلم الملك الظاهر سائر بلاده وحواصله عقيب موته خلا قلعة تدمر فإن تسليمها تأخر إلى بعد شهرين من وفاته ثم سلمت وهو آخر الملوك من بيت شيركوه رحمه الله تعالى ومولده في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة. رك وقبض على صاحبها فتواتر الأخبار عنه بإظهار أمور كامنة كانت في نفسه فعزم الملك الظاهر على الوثوب به واستئصاله بالكلية فعاجله المرض وتوفي في حادي عشر صفر أو عاشره من هذه السنة

بحمص قبل صلاة الجمعة ودفن ليلاً على جده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بالمدرسة التي أنشأها بباطن حمص رحمه الله وكان ملكاً جليلاً حازماً خبيراً مدبراً متيقظاً شجاعاً ساوساً على الهمة كبير النفس أبيها له باطن وغور وتحيل ودهاء وتأتى في بلوغ مقاصده وأغراضه وافر العقل قليل البسط والحديث مقيداً لألفاظه ملازماً للناموس في سائر أوقاته حتى في خلواته مع غلمانه وخواصه يحذو في ذلك حذو الملك الصالح نجم الدين، ولما توفي إلى رحمة الله وجد له من الصين المصري والدراهم والجواهر والذخائر ما يعظم خطره ويكثر بعضه على مثله ولم يخلف ولداً وتسلم الملك الظاهر سائر بلاده وحواصله عقيب موته خلا قلعة تدمر فإن تسليمها تأخر إلى بعد شهرين من وفاته ثم سلمت وهو آخر الملوك من بيت شيركوه رحمه الله تعالى ومولده في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة. نصر بن تروس بن قسطة بن عبد الله الإفرنجي الأصل الحاج أبو محمد العضوي الزكوي، سمع من أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وحدث وكان رجلاً خيراً ديناً سليم الصدر ملازماً للصلوات الخمس في الجماعة مثابراً على قضاء حوائج المعارف ذا ثروة وجدة وتوفي في جمادى الأولى بدمشق رحمه الله وخلف عدة من الأولاد ذكوراً وإناثاً. يحيى بن علي بن عبد الله بن علي بن مفرج بن أبي الفتح أبو الحسين رشيد الدين القرشي الأموي النابلسي الأصل المصري المولد والدار

والمالكي العطار مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة وتوفي بمصر في ثاني جمادى الأولى من هذه السنة ودفن من الغد بسفح المقطم سمع من خلق كثير وحدث بالكثير وخرج تخاريج مفيدة وجمع جموعاً حسنة، وكان إماماً عالماً فاضلاً حافظاً ثبتاً عارفاً بالصناعة الحديثية وإليه انتهت رئاسة الحديث بالديار المصرية بعد الحافظ زكي المنذري رحمه الله وكتب بخطه الكثير وكان خطه حسناً ووقف جملة من كتبه على من ينتفع بها من المسلمين وكنت قصدت رؤيته في منزله بمصر في شهر رمضان المعظم سنة تسع وخمسين وستمائة فخرج إلي وناولني كتاباً من مروياته وأجاز لي ما تجوز له روايته ويجوز لي روايته عنه رحمه الله. أبو القاسم بن منصور بن يحيى اللكى الإسكندراني الشيخ الصالح الزاهد المعروف بالقباري كان أحد العباد المشهورين بكثرة الورع والتحري في المأكل والمشرب والملبس معروف بالانقطاع والتخلي وترك الاجتماع بأبناء الدنيا والإقبال على ما يعنيه من أمر نفسه وطريقه الذي سلكه قل أن يقدر أحد من أهل زمانه عليه وخشونة عيشه وما أخذته نفسه من الوحدة وعدم الاجتماع بالناس والجد والعمل والاحتراز من الرياء والسمعة لا يعلم في وقته من وصل إليه

وكان يقصد زيارته ورؤيته والتبرك به الملوك ومن دونهم فلا يكاد يجتمع بأحد منهم وأخباره في الورع والعبادة مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة بشرحها وتوفي في ليلة الاثنين السادس من شعبان ببستانه بجبل الصيقل ظاهر الإسكندرية ودفن به بوصية منه، وقبره يزار ويتبرك به وزرته في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وستمائة ودعوت الله تعالى عند قبره بدعوات توسلت به فيه وظهر لي أثر بركة زيارته والتوسل به في إجابة دعائي في بعض ما سألته وأرجو الإجابة في جملته إن شاء الله تعالى وبيع الأثاث الموجود في منزله وقيمته دون خمسين درهماً ورقاً بما يزيد عن عشرين ألف درهم تزايد الناس فيه رجاء البركة حتى بلغ الإبريق الذي كان يستعمله ويتوضأ فيه للصلاة جملة كبيرة وقيمة مثله لا يبلغ ثلاثة فلوس وكان قد تناهى في الورع ولما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى الخليج الواصل إلى الإسكندرية من النيل أعرض عن مائه وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئراً كان يشرب منها وينقل الماء منها بالجرار على دابة ليسقي بستانه وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها ولا يأكلها لاحتمال أن طائراً جناها من نخل غيره وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله رحمه الله وأعاد علينا من بركاته وأوصى أن يطمس قبره، ومولده في سنة سبع وثمانين وخمسمائة وعمى في آخر عمره قدس الله روحه. ؟

السنة الثالثة والستون وستمائة

السنة الثالثة والستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية خلا الملك الأشرف صاحب حمص فإنه توفي وانتقل ما كان بيده إلى الملك الظاهر وكان الملك الظاهر بقلعة القاهرة. متجددات هذه السنة في العشر الآخر من المحرم بلغ الملك الظاهر أن جماعة من الأمراء والأجناد اجتمعوا على أكل ططماج في دار فزادوا في الكلام بما معناه القدح في الدولة وغالى في ذلك ثلاثة نفر فسمر أحدهم وكحل الآخر وقطعت رجل الثالث فانحسمت مادة الاجتماعات بعد ذلك. وفي تاسع عشري ربيع الأول قطعت أيدي جماعة من نواب بهاء الدين يعقوب بن حاتم وإلى القاهرة والخفراء وأصحاب الأرباع والمقدمين وكانوا ثلاثة وأربعين رجلاً وسبب ذلك ظهور شلوح ومناسر بالقاهرة وضواحيها فنهبوا وقتلوا وانتهى بهم الفساد إلى التعرض بالعربان النازلين تحت القلعة ليلاً فكثر اللغط والصياح وسمعهم الملك الظاهر فسأل فأخبر بصورة الحال فقال تنتهك الحرمة إلى هذا الحد، فلما أصبح حمل الوالي رقع الصباح ولم يذكر فيها ما فعله المنسر بالعريان فوبخه وانتهره وأخبره بما اتفق فقال ما لي ذنب فإن النواب والخفراء لم يطلعوني على ذلك فأمر السلطان بما ذكرناه آنفاً

فمات بعضهم وبقي بعضهم. وفيها وردت الأخبار بنزول التتر على البيرة وحصارهم لها فجهز الملك الظاهر في شهر ربيع الآخر عسكراً قدم عليه الأمير عز الدين يغان الركني المعروف بسم الموت والأمير جمال الدين آقوش المحمدي وتقدم إلى صاحب حماة بالتوجه معهم بعسكره وكذلك إلى عسكر حلب فسارت العساكر وعبرت الفرات وكان الملك الظاهر قد أمر عيسى بن مهنا بعد أن بعث إليه أجناداً بسلوك البرية إلى حران والغارة عليها فلما بلغ التتار عبور العساكر وغارة ابن مهنا رحلوا عن البيرة وعادت العساكر إلى الديار المصرية. وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر توجه الملك الظاهر بعساكره قاصداً قيسارية فنزل عليها وحاصرها إلى أن فتحها عنوة في ثامن جمادى الأولى وعصت عليه قلعتها بعد فتحها عشرة أيام ثم فتحها وهرب من كان بها إلى عكا فأخرب الملك الظاهر المدينة والقلعة وتركهما دمنة وملك لأعيان الأمراء الذين كانوا معه والغائبين عنه بالبيرة لكل واحد منهم نصف قرية وملك ولدي صاحب الموصل سيف الدين وعلاء الدين وملك الأمير ناصر الدين القيمري وقدمه على العسكر ورتبه نجيبين وأعطاه خبزاً وملك الأمير شرف الدين بن أبي القاسم وهو بطال نصف قرية ثم رحل إلى أرسوف ونزل عليها ونصب المجانيق ورمى

أبراجها فعبثت بها وعاثت فيها وأخذتها النقوب من جهاتها وتكرر عليها الزحف إلى أن تداعى برج من أبراجها تجاه الأمير بدر الدين الخزندار فهجم البلد منه بمن معه من العسكر على غفلة من أهلها فوقع القتل فيهم والأسر واقتسم العسكر ما كان بها من الحواصل، وذلك يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب ثم خربت أيضاً وأصدرت كتب البشائر من السلطان بالفتوح فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله من إنشاء فتح الدين عبد الله بن القيسراني من مضمونها: جدد الله البشائر الواردة على المجلس السامي القضائي وأسره بما أسمعه، وأبطل ببركته كيد العدو ودفعه، وجاء بها سبب الخير وجمعه، ولا زالت التهاني إليه واردة، والمسرات عليه وافدة، ونعم الله وبركاته لديه متزايدة، هذه المكاتبة تبشر بنصر من الله وفتح قريب، وهناء يأخذ له المجلس منه أوفر نصيب، وتوضح لعلمه الكريم أنه لما كان يوم الاثنين التاسع من شهر رجب المبارك قدمنا خيرة الله تعالى وزحفنا على مدينة أرسوف بعساكرنا المنصورة وأدرنا بها الأطلاب للزحف، وكانت مرتبة على أحسن صورة وتناولناها مناولة القادم إذا ضم ضمة المشتاق، واستولينا على جميع أهلها فأضحى كل منهم من القيد في وثاق، وأضرمنا بها النيران فعجل الله لهم بها في الدنيا قبل الآخرة الإحراق، وجرعناهم غصص الموت فتجرعوها مرة المذاق،

وكانت مدة القتال ثلاثة أيام آخرها يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب المبارك فلم يفلت منهم أحد. وعاجلناهم في هذه المدة القريبة فلم يغنهم ما فعلوه في تحصن البلد ولم يمس أحد منهم في ليلة الجمعة وقد نجا من القتل إلا وهو أسير، واحتطنا بها فما نجا منهم بحمد الله صغير، ولا كبير وعجلنا للمجلس بهذه البشارة ليأخذ منها حظاً وافراً، ويقرأ آيات نصر الله على أصحابه من الفقهاء والعدول ويحدث بها فيكون تالياً لها بين الأنام وذاكراً، ويكتب بمضمون ذلك إلى نوابه من الحكام، وليشهر هذا الخبر السعيد بين الأنام، ويواصلنا بدعائه فإننا نرجو به الزيادة والله تعالى يجزينا ويجزيه من ألطافه على أجمل عادة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى: كتب ثاني عشر شهر رجب المبارك وبين الأسطر وعدة الأسرى ألف أسير وما القتل فكثير لأن القلعة أخذت بالسيف. وعاد الملك الظاهر إلى القاهرة وزينت لدخوله فدخلها في ثاني عشر شعبان من باب النصر وخرج من باب زويلة وعبر بالأسرى على الجمال وكان يوماً مشهوداً، وفي جمادى الآخرة وقعت نار بحارة الباطلية بالقاهرة فأحرقت ثلاثة وستين داراً جامعة ثم كثر الحريق بعد ذلك بمصر حتى أحرق ربع فرج وكان وقفاً على أشراف المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه بحيث لم يبق فيه مسكن والوجه المطل على النيل من ربع العادل وكان وقفاً على تربة الإمام الشافعي رحمة الله عليه وكانت توجد لفائف مشاق فيها النار والكبريت على

أسطحة الآدر وعظم هذا الأمر على المسلمين ورتب بالشوارع والأزقة دنان الماء واتهم بذلك النصارى الكركيين والملكيين، فلما قدم الملك الظاهر الديار المصرية عزم على استئصال النصارى واليهود بسبب الحريق فأمر بوضع الأحطاب والحلفاء في حفرة كانت في وسط القلعة وإن تضرم فيها النار ويطرح فيها النصارى واليهود فجمعوا على اختلاف طبقاتهم حتى لم يبق إلا من هرب وذلك يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان وكتفوا ليرموا في الحفرة فشفع فيهم الأمراء فأمر أن يشتروا أنفسهم فقرر عليهم خمسمائة ألف دينار يقومون منها في كل سنة بخمسين ألف دينار يؤخذ منهم بحسب قدرة كل واحد منها في كل سنة بخمسين ألف دينار يؤخذ منهم بحسب قدرة كل واحد منهم وضمنهم راهب يعرف بالحبيس كان مبدأ أمره كاتباً في صناعة الإنشاء ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان فيقال أنه وجد في مغارة منه مالاً للحاكم أحد الخلفاء المصريين، ولما وجد المال وأسى به الفقراء والصعاليك من كل ملة واتصل خبره بالملك الظاهر فطلبه إليه وطلب منه المال فقال أما أني أعطيك من يدي إلى يديك فلا ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره وهو لا يقدر على ما تطلبه منه فلا تعجل، وشفع فيه فلما كانت هذه الواقعة ضمنهم وحضر موضع الجباية منهم فمن قرر عليه شيء وعجز عن أدائه ساعده ومن لم يكن معه شيء أدى عنه سواء كان نصرانياً أو يهودياً وكان يدخل الحبوس ويطلق منها من عليه دين ومن وجده ذا هيئة رثة واساه ومن شكا إليه ضرورة أزاحها عنه فانتفعت به سائر الطوائف، ولما طلب من أهل الصعيد المقرر على الذمة الذين

بها سافر إليهم وأدى عنهم وكذلك سافر إلى الإسكندرية وغيرها. وفي يوم السبت ثاني شوال خرج الملك الظاهر من القاهرة لحفر بحر أشموم وفرقه على الأمراء وحفر فيه بنفسه. وفي ثامنه طلع من الشرق نجم له ذؤابة وبقي إلى نصف ذي القعدة وغاب وهو كوكب الذنب. ووصل رسول صاحب سيس يبشر الملك الظاهر بهلاك هولاكو ثم ورد الخبر بأن عساكره اجتمعت على ولده أبغا وأن بركة قصده فكسره فعزم الملك الظاهر على التوجه إلى العراق ليغتنم الفرصة فلم يتمكن لتفرق العساكر في الإقطاعات، ولما فرغ من حفر الخليج ركب في الحراقة وأخذ معه زاد أيام قلائل وأدلاء البلاد ومضى ليسد فم جسر على بحيرة تنين انفتح منه مكان خرج منه المياه فغرق الطريق بين الورادة والعريش وأقام هنا يومين وحصل له توعك فعاد إلى مصر في حادي عشر شوال. وفي ثاني عشر شوال يوم الخميس سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بن بركة قاآن وأركبه بأبهة الملك في القلعة وحمل الغاشية بين يديه بنفسه من باب السر إلى السلسلة ثم عاد وسير الملك السعيد على ظاهر القاهرة ودخل من باب النصر وشق البلد وخرج

ذكر قبض الملك الظاهر على سنقر الأقرع

من باب زويلة وسائر الأمراء مشاة بين يديه والأمير عز الدين الحلي راكب إلى جانبه والوزير بهاء الدين والقاضي تاج الدين راكبان أمامه وعليهم الخلع والأمير بدر الدين بيسري حامل الجتر على رأسه. وفي يوم الخميس خامس ذي العقدة ختن الملك السعيد باكراً وختن معه جماعة من أولاد الأمراء والخواص وحضر الملك الظاهر ذلك بنفسه وحصل للحكماء خلع كثيرة وأموال جمة. وفي هذه الشهور ورد على الملك الظاهر عز الدين أيبك الأغاجري من الإسكندرية وكان قد سير إليها لشنق الشريف حصن الدين بن ثعلب وسبب ذلك أن الشريف السرسنائي أحد عدول الثغر كان يتردد إلى ابن ثعلب لتأنيسه وقضاء حوائجه فذكر عنه أنه أعمل الحيلة في هروبه وسفر له عند من يعينه ويساعده وكان السرسنائي بمصر في بعض حوائجه فأخذ من جامعها وأحضر إلى القلعة وسئل عما ذكر عنه فأنكر فأرى الخطوط الواردة من الإسكندرية بالشهادة عليه فأمر بشنقه تحت القلعة وبشنق ابن ثعلب في الإسكندرية فشنقا. ذكر قبض الملك الظاهر على سنقر الأقرع وسبب ذلك أن رسولاً ورد من بركة على الملك الظاهر في ذي القعدة ومعه رجل ادعى أنه الملك الأشرف بن الملك المظفر شهاب الدين غازي فشهد له سنقر الأقرع وغيره فاستكشف الملك الظاهر عن أمره فظهر له أن سنقر الأقرع بعث إليه واستدعاه لغرض له فأمر الملك الظاهر بالقبض عليه وحبسه وحبس من شهد له في خزانة

البنود في ذي الحجة. وفي ذي الحجة كتب توقيع وخلد في بيت المال بالديار المصرية يتضمن إسقاط بواقي تعذر استخراجها والمسامحة بها. وفي رابع وعشرين منه قبض الملك الظاهر على الأمير شمس الدين سنقر الرومي وسببه أنه غضب على مملوكين له فشفع الملك الظاهر فيهما عنده فأجاب، فلما كان تلك الليلة قتل أحدهما فهرب الآخر وأعلم الملك الظاهر فأمر بالقبض على سنقر الرومي ولم يتعرض إلى ماله وأجرى على أولاده وحريمه وأتباعه رواتب. وفيها ولي من كل مذهب قاضي قضاة مستقل بالديار المصرية وسبب ذلك كثرة توقف قاض القضاة تاج الدين في تنفيذ الأحكام وكثرة الشكاوي منه في يوم الاثنين ثاني عشري ذي الحجة والأمير جمال الدين أيدعذى العزيزي في المجلس وكان يكره القاضي تاج الدين فقال الأمير جمال الدين نترك مذهب الشافعي لك ونولي معك من كل مذهب قاضياً فمال الملك الظاهر إلى قوله وكان له منه محل عظيم فولى الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي والشيخ صدر الدين سليمان الحنفي والقاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي وفوض إلى كل منه أن يستنيب في الأعمال وأبقى على تاج الدين

فصل

النظر في مال الأيتام والأمور المختصة ببيت المال وكتب لهم تقاليد وخلع عليهم ثم فعل ذلك في الشام. وفي هذه السنة أحضر بين يدي الملك الظاهر نعجة قد ولدت خروفاً على صورة الفيل له خرطوم طويل وأنياب. وفيها قوي اهتمام الملك الظاهر بتمام عمارة الحرم الشريف النبوي وجهز الأخشاب والحديد والرصاص ومن الصناع ثلاثة وخمسين رجلاً وما يمونهم وأنفق فيهم قبل سفرهم وبعث معهم جمال الدين محسن الصالحي وشهاب الدين غازي بن فضل اليغموري مشداً والرضى ناظراً ومجير الدين أحمد بن أبي الحسين بن تمام طبيباً ومعه أدوية وأشربة، وكان سفرهم في سابع عشر شهر رجب فوصلوا المدينة في ثاني عشر شوال وأخذوا في العمارة وكلما عازهم شيء من الآلات والنفقات سير إليهم من الديار المصرية ودامت العمارة إلى سنة سبع وستين. فصل وفيها توفي إبراهيم بن عبد الملك بن يونس المعروف بمريد الله الشيخ الصالح وهو ابن أخت سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه أدركه وصحبه وانتفع به وسافر إلى البلاد وعاد إلى بعلبك وسكن زاوية أنشأها مقاربة لتربة خاله الشيخ عبد الله رضي الله عنه ظاهر بعلبك وتوفي بها في ثاني عشر ذي الحجة ودفن بحريمها رحمه الله وقد نيف على سبعين سنة وكان حسن المجالسة كثير النقل عن المشايخ والفقراء كريم الأخلاق معاتقاً للفقراء متوفراً على العبادة

رحمه الله قال كتب في هذه السنة سهواً ووفاته في التاريخ المذكور من الشهر في سنة أربع وستين وستمائة. إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن محمد بن يحيى ابن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن القاسم بن الوليد بن القاسم ابن الوليد بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضوان الله عليه أبو إسحاق معين الدين القرشي الأموي، مولده في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة بدمشق، سمع الكثير وكتب بخطه ولم يزل يسمع ويكتب إلى أن توفي فجأة بدمشق في ثامن ربيع الأول ودفن بسفح قاسيون، وكان عدلاً مبرزاً فاضلاً متيقظاً حسن الخط من بيت العلم والقضاء والتقدم والرئاسة رحمه الله. حمزة بن محمد بن حمزة بن الحسين بن حمزة أبو يعلي محي الدين البهراني الحموي الشافعي تولى الحكم بحماة مدة وكان فاضلاً سمع وحدث وتوفي بحماة رحمه الله تعالى ولي القضاء بحماة سنة اثنتين وأربعين وستمائة وعزل عنه سنة اثنتين وخمسين. خال بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو البقاء زين الدين النابلسي الشافعي مولده بنابلس سنة خمس وثمانين وخمسمائة، سمع الكثير وحفظ من غريب الحديث جملة وقطعة جيدة من المختلف والمؤتلف من أسماء الرواة وحصل كتباً حسنة وأصولاً جيدة كان فاضلاً وتوفي في سلخ جمادى الأولى بدمشق ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله.

عبد الله بن يحيى بن الفضل بن الحسين بن أحمد بن سليمان أبو محمد نظام الدين الحميري الدمشقي المعروف بابن البانياسي كان من العدول الأعيان بدمشق ومولده في منتصف ربيع الأول سنة تسع وسبعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر الخشوعي وحنبل بن سكينة وغيرهم وحدث بدمشق وبينه مشهور بالحديث والرئاسة والتقدم وتوفي إلى رحمة الله في شهر صفر ببستانه بكفر سوسة ظاهر دمشق ودفن بسفح قاسيون عثمان بن عبد الوهاب بن يوسف بنمعالي أبو عمرو شرف الدين التغلبي المعروف بابن السائق كاتب الحكم العزيز بدمشق مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بدمشق سمع من الكندي وغيره وحدث وكان من العدول الأعيان المبرزين، وله صدقة وبر ومعروف وعنده ديانة وافرة وخطه حلو ومحاضرته حسنة ولديه فضيلة وتوفي بدمشق في مستهل شعبان وقيل في خامسه ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. فتح بن موسى بن حماد بن عبد الله بن علي بن يوسف أبو نصر نجم الدين الأموي المعروف بالقصري ولد في رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالجزيرة الخضراء من بلاد الأندلس ونقله والده إلى قصر ابن عبد الكريم المعروف بقصر كتامة وعمره مقدار خمس سنين فنشأ

بالقصر فلهذا نسب إليه ولما بلغ خمس عشرة سنة عاد إلى الجزيرة الخضراء واشتغل بها في النحو، ثم عاد إلى القصر وورد عليهم الشيخ أبو موسى عيسى الجزولي صاحب المقدمة فقرأها عليه سماعاً لا بحثاً في القصر ثم سافر بعد ذلك إلى بلاد الشرق في سنة سبع وستمائة فوصل إلى إفريقية وأقام بها مدة في تونس ثم توجه إلى الديار المصرية ثم انتقلالى الشام في سنة عشر وستمائة واشتغل بحماة علىالشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله بالأصولين والخلاف ثم انتقل إلى بلاد الشرق وتولى التدريس بمدرسة الأمير عماد الدين ابن المشطوب رحمه الله التي بمدينة رأس عين سنة سبع عشرة وستمائة وأقام بها سنين كثيرة ثم تولى وكالة بيت المال لما ملك الكامل رحمه الله بلاد الشرق ونظم كتاب المفصل للزمخشري وكتاب الإشارات للرئيس أبي علي بن سينا ولما انفصل إلى الديار المصرية نظم بها سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف بيت وكلها على حرف الراء وله عدة تواليف وتولى التدريس بالمدرسة الفائزية بمدينة سيوط زماناً ثم تولى القضاء بها أيضاً وكان دخوله إلى الديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة وتوفي يوم الأحد رابع جمادى الأولى من السنة بسيوط من صعيد مصر رحمه الله قال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله أنشدني لنفسه بقلعة

الجبل من الديار المصرية في يوم السبت الرابع من شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة بيتين كتبهما من حلب إلى بعض أصدقائه برأس عين وهما: حلب مذ حللتها حل فيها ... عين رأسي والقلب في رأس عين هي في القلب لا بل القلب فيها ... جمع الله بين قلبي وعيني فراس بن علي بن زيد بن معروف بن أحمد بن مهنا أبو العشائر نجيب الدين الكناني العسقلاني الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة، مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، سمع من الخشوعي والكندي وغيرهما وكان من العدول الأعيان ذوي الثروة واليسار، والوجاهة والرئاسة وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان ودفن بمقابر باب الصغير ظاهر دمشق رحمه الله. محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن الحسن بن عبد الله بن أحمد أبو عبد الله القسطلاني التوزري المولد المكي الدار والوفاة المالكي المذهب إمام حطيم المالكية بمكة شرفها الله تعالى ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن الهروروي وغيره وحدث وكان شيخاً صالحاً عالماً فقيهاً فاضلاً له نظم جيد وتوفي بمكة شرفها الله تعالى في الثامن والعشرين من شوال ودفن من الغد بالمعلى رحمه الله. محمد بن الحسين بن علي المعروف بابن امرأة الشيخ علي الفرنثي

رحمه الله كان شيخاً صالحاً حسناً مليح الشكل حلو المحادثة سليم الصدر علي آثار الخير والصلاح بادية زاويته بسفح قاسيون على نهر يزيد من أحسن الزوايا وأنضرها وفي جانبها الشرقي قبة بها ضريح الشيخ علي الفرنثي وكن والده رحمه الله يحب الشيخ محمد ويؤثره وبنى في زاويته المذكورة مكاناً يختص به على النهر ولما نزل دمشق في شهور سنة خمس وخمسين وستمائة صعد إلى مكانه الذي بناه بالزاوية وأقام به أياماً وحضر السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف إلى زيارته وهو به وكان الشيخ محمد كثير التردد إلى بعلبك لزيارة والدي والاجتماع به وتوفي الشيخ محمد المذكور في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول في زاويته ودفن بها وهو في عشر الثمانين رحمه الله وخلف أولاداً جماعة درجوا إلى رحمة الله عن أخرهم وآخر من توفي منهم أحمد في أول سنة تسعين بظاهر عكا. موسى بن يغمور بن جلدك بن يلمان بن عبد الله أبو الفتح جمال الدين مولده في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالقرية قرية بالقرب من سمنهود من أعمال قوص وهو ياروقي الأصل سمع من جماعة وحدث وتوفي في مستهل شعبان بالقصير من أعمال الفاقوسية بين الغرابي والصالحية وحمل إلى تربة والده بسفح

المقطم فدفن بها في رابع الشهر المذكور وكان أميراً كبيراً عظيماً رئيساً عالماً فاضلاًُ جليل المقدار خبيراً حازماً ساوساً مدبراً جواداً ممدحاً تنقلت به الأحوال وهذبته الأيام وأحكمته التجارب وناب بالديار المصرية في الأيام الصالحية النجمية مدة ثم نقله إلى الشام وجعله نائب السلطنة به فأقام بدمشق إلى أن توفي الملك الصالح نجم الدين وقدم الملك المعظم توران شاه ولده دمشق وتوجه منها إلى الديار المصرية وقتل على ما هو مشهور وتقرر الملك المعز بالديار المصرية فراسله في موافقته فلم يجبه وبقي بدمشق إلى أن قدمها الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وملكها فاعتمد عليه في سائر أموره وكان هو أمير الدولة ومشيرها وله عند الملك الناصر المكانة العالية والمرتبة الرفيعة ولم يكن في أمراء الجولة من يضاهيه في منزلته ومكانته وقربه ومحله إلا الأمير ناصر الدين القيمري رحمه الله وكان الأمير جمال الدين من رجال الدهر عقلاً وحزماً وسداداً وحشمة وله الآراء الثاقبة والفراسة الصائبة وأنعامه وأصل إلى الأمراء والفقراء والرؤساء وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة كبيرة ومكاتبات في حال الغيبة وكان في الدولة الناصرية كثير البر والإحسان إلى الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فلما أفضت السلطنة إليه أعرض عنه بعض الأعراض ثم أقبل عليه ورعى له سالف خدمته وعظم قدره وجعله أستاذ داره وفوض اله أموراً كثيرة لعلمه بكفايته وعظم غنائه ولم يزل على ذلك

إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى كما ذكرنا. يوسف بن الحسن بن علي أبو المحاسن بدر الدين السنجاري الزرزاري كان رئيساً جليلاً جواداً ممدحاً موصوفاً بالكرم والرئاسة لا ينازع في ذلك وتنقلت به الأحوال فكان في أول أمره بسنجار وتلك البلاد المشرقية وكان له عند الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى بن الملك العادل رحمه الله مكانة ووجاهة فلما ملك دمشق وما معها ولاه القضاء ببعلبك ومضافاتها وهي البقاع البعلبكي والبقاع العزيزي والزبداني والجبال فكان القضاة في هذه النواحي نوابه ومن قبله ويكتب له في إسجالاته قاضي القضاة ووقفت على كثير من إسجالاته لما كان متولياً ببعلبك وكنيته فيها أبو العز وكان مع صغر ولايته بالنسبة إليه يسلك من التجمل وكثرة المماليك والحاشية والدواب وحسن الزي ما لا يسلكه وزير الممالك الكبار فضلاً عن قضاتها ثم عاد إلى سنجار. فلما مات الملك الكامل خرجت الخوارزمية عن طاعة ولده الملك الصالح فتوجه إلى سنجار فطمع فيه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وحصره فيها ولم يبق إلا أن يتسلمها ويأخذ الملك الصالح أسيراً ويتملك البلاد الشرقية بأسرها وكان بدر الدين قاضي سنجار إذ ذاك فأرسله الملك الصالح وهو محصور بها إلى الخوارزمية لصلح بينه وبينهم ويستميلهم إليه ويستدعيهم لنصرته فخرج من سنجار سراً

بحيث لا يشعر به المحاصرون للبلد وخاطر بنفسه وركب الأهوال في ذلك ومضى إلى الخوارزمية فاستمالهم وطيب قلوبهم ووعدهم الوعود الجميلة بعد أن كانوا قد اتفقوا مع صاحب ماردين وقصدوا بلاد الملك الصالح واستولوا على الأعمال ونازلوا حران فأجفل أهلها. وكان بقلعة حران الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين فخاف منهم فسار مختفياً نحو قلعة جعبر وطلبه الخوارزمية ونهبوه ومن معه وأفلت في شرذمة من أصحابه ووصل إلى منبج ثم عاد إلى حران ووصله كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية وإرضائهم فاجتمع بهم أيضاً القاضي بدر الدين والتزم لهم القاضي بدر الدين أن يقطعوا حران والرها وغيرهما من البلاد الجزرية وحلفهم القاضي بدر الدين للملك الصالح نجم الدين وأشملوا على خدمة ولده الملك المغيث. ولما اتفق الحال مع الخوارزمية ساروا معه ومع الملك المغيث قاصدين سنجار ومقدمهم الأمير حسام الدين بركة خان فلما سمع صاحب الموصل ومن معه قربهم أفرجوا عن سنجار وأدركتهم الخوارزمية فأوقعوا بهم وهرب صاحب الموصل واحتوت الخوارزمية على خيمه وأثقاله ونهبوا من ذلك ما لا يحصى وكان الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح بآمد معه الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني وعلى آمد عسكر السلطان غياث الدين صاحب الروم وقد أخذ بعض قلاعها فقصدهم الخوارزمية وواقعوا بعض عسكر الروم فانهزم الباقون عن آمد ولم ينالوا منها غرضاً فقلد القاضي بدر الدين بفعلته هذه للملك

الصالح نجم الدين منة عظيمة وأوجب عليه حقوقاً رعاها له ثم إن الملك الصالح عماد الدين سير القاضي بدر الدين وكان قدم الشام فجهزه في رسالة عنه إلى صاحب الروم فلما عاد بلغه خروج الملك الصالح نجم الدين من الاعتقال بقلعة الكرك وتملكه الديار المصرية فخاف على نفسه من تخيل الملك الصالح عماد الدين منه لما يتحققه من ميله إلى جهة الملك الصالح نجم الدين فجهز إليه جواب الرسالة وأقام بحماة لكون صاحبها الملك المظفر مع الملك الصالح نجم الدين ومبايناً للملك الصالح عماد الدين ثم توجه في سنة ثمان وثلاثين من حماة إلى طرابلس وركب في البحر إلى الطينة وحصل له مرض يئس منه ثم أبل ودخل الديار المصرية فسر به الملك الصالح نجم الدين وأكرمه غاية الإكرام وجازاه على يده عنده وكان القاضي شرف الدين بن عين الدولة قاضي الإقليم بكماله فأفرد عنه مصر والوجه القبلي وفوضه إلى القاضي بدر الدين وأبقى القاهرة والوجه البحري مع شرف الدين بن عين الدولة وكان عنده في أعلى المراتب ونقله إلى القاهرة والوجه البحري بعد وفاة القاضي شرف الدين وكان الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ رحمه الله يكره القاضي بدر الدين فكتب مرة إلى الملك الصالح نجم الدين كتاباً يغض من القاضي بدر الدين فيه وينسبه إلى أنه يأخذ من نوابه بالأطراف أموالاً يحملونها إليه وأنه إذا عدل شاهداً أخذ منه مالاً وأشباه ذلك فلما وقف الملك الصالح على كتاب الأمير فخر الدين كتب

إليه بخطه على رأس كتابه ما معناه يا أخي فخر الدين للقاضي بدر الدين على حقوق عظيمة لا أقوم بشكرها والذي قد تولاه قليل من حقه وما قمت له بما يجب على من مكافأته فلما وقف الأمير فخر الدين على ذلك لم يعاوده في قضيته وترك الورقة في جملة من أوراق عنده فلما استشهد بالمنصورة وخلف بنتاً صغيرة احتيط على ما في داره فوجدت الورقة في أوراقه فحملها نواب الأيتام إلى القاضي بدر الدين فكان يوقف عليها بعض من يدخل إليه من الأعيان. وبالجملة فلم يزل في المناصب فإنه ولي سنجار وتلك النواحي ثم ولي بعلبك وأعمالها ثم عاد إلى سنجار ثم قدم الديار المصرية فولي مصر والوجه القبلي مرة والقاهرة والوجه البحري تارة وجمع له الإقليم بكماله وولى تدريس المدرسة الصالحية النجمية التي بين القصرين للطائفة الشافعية مدة وباشر وزارة الديار المصرية مدة وكان في حال تولية الحكم يشارك في الأمور المتعلقة بالدولة ويشاور فيها ويرجع في معظمها إلى رأيه ولم يزل ينتقل في المناصب الجليلة والولايات الحظيرة إلى أوائل الدولة الظاهرية صرف عن ذلك فلزم منزله والناس يترددون إلى خدمته والأعيان يعترفون بتقدمه ورئاسته وحرمته وافرة عند أرباب الدولة ومحله عظيم عند الخاص والعام ومكارمه مشهورة عند سائر الأنام وكان كثير الإحسان وافر العطاء جميل الصفح عن الزلات وإقالة العثرات ورعاية الحقوق والمودات مقصداً لمن يرد إليه من الفقهاء والفضلاء وذوي البيوتات وحج سنة اثنتين وخمسين سافر على

السنة الرابعة والستون وستمائة

البحر وصام بمكة شهر رمضان وأقام إلى الموسم وعاد في أوائل سنة ثلاث وخمسين وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة أكيدة فكان من يتوجه إلى الديار المصرية يتوسل إليه بكتب والدي فيبالغ في إكرامه والإحسان إليه وكانت وفاته في رابع عشر شهر رجب بالقاهرة ودفن بتربته بالقرافة رحمه الله. أبو القاسم بن.... الشيخ المشهور صاحب الزاوية بقرية حواراي من عمل السواد كان رجلاً صالحاً وله ثروة وإتباع وصيت في تلك النواحي ويضيف من يرد عليه من الفقراء وغيرهم وصلى عليه بالقدس صلاة الغائب في يوم عيد النحر وبجامع دمشق في تاسع عشر ذي الحجة يوم الجمعة رحمه الله تعالى. السنة الرابعة والستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة وملوك الطوائف على الصورة المستقرة خلا صاحب مراكش الملقب بالمرتضى فإنه قتل وولى بعده أبو العلاء إدريس الملقب بالواثق والملك الظاهر بقلعة الجبل. مجددات الأحوال خرج الملك الظاهر من القعلة إلى الصيد في رابع ربيع الأول

وعاد في رابع عشر ربيع الآخر فأقام بالقلعة يومين ثم توجه إلى تروجه فأقام بها إلى تاسع عشري جمادى الأولى وفي رابع عشر جمادى الآخرة توجه لحفر خليج الإسكندرية في شهر رجب. وفي العشرين من جمادى الآخرة سمر على الجمال أحدا وعشرين نفراً من مقدمي العربان بالشرقية وحملوا عليها إلى بلادهم فماتوا في الطريق. وفي هذه السنة ظهر كتاب وقف المدرسة النورية رحم الله واقفها ببعلبك وفيه اشتراك بين الشافعية وغيرهم من المشتغلين بالعلم من أهل السنة وكان نبي عصرون الذين يدعون النظر على الأوقاف النورية يخفون لذلك فلما ظهر أمره جدد إثباته وأخذ به نسخة وتنجز عليها فتاوي العلماء ومراسيم نواب السلطنة ونزل بالمدرسة المذكورة من أراد الاشتغال من الحنابلة وغيرهم واستمر الحال على ذلك عبد فصول يطول شرحها. وفي يوم السبت مستهل شعبان برز الملك الظاهر إلى بركة الجب قاصداً صفد وترك نائباً عنه بالديار المصرية الملك السعيد والحلي في خدمته والوزير بهاء الدين وسار حتى نزل عين جالوت وبعث عسكراً مقدمه الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وعسكراً آخر مقدمه الأمير سيف الدين قلاون الألفي للغارة على بلاد الساحل فأغاروا على عكا وصور وغرقد وإطرابلس وجلبا وحصن الأكراد في يوم واحد وهو سلخ شعبان على مواعدة كانت بينهم فغنموا وسبوا ما لا يحصر ثم نزل الملك الظاهر على صفد في ثامن شهر رمضان ونصب عليها المجانيق ودام الاهتمام

بعمل الآلات الحربية إلى مستهل شوال فشرع في الزحف والحصار والقتال وأخذت النقوب على الباشورة من جميع الجهات إلى أن ملكت بكرة الثلاثاء خامس عشر شوال واستمر الزحف والقتال ونصبت السلالم على القلعة وسلطت عليها النقوب والملك الظاهر يباشر ذلك بنفسه فبذل أهل الحصن التسليم على أن يؤمنوا على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك فأجلس الملك الظاهر الأمير سيف الدين كرمون من التتر في دست السلطنة وحضرت رسلهم فاستحلفوه فحلف وهم يظنونه الملك الظاهر وكان في قلب الملك الظاهر منهم لما أنكوا ولما فعلوا بالمسلمين ثم شرط عليهم أن لا يأخذوا معهم من أموالهم شيئاً فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شوال طلعت السناجق على القلعة ووقف السلطان بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الداوية والاسبتار والفلاحين وغيرهم ودخل الأمير بدر الدين الخازندار وتسلمها واطلع على أنهم أخذوا شيئاً كثيراً من التحف له قيمة فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على تل هناك وانتشئت كتب البشائر فمنها ما كتبه كمال الدين أحمد بن العجمي عن الملك الظاهر إلى قاضي قضاة الشام شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله ومضمونه: سر الله خاطر المجلس السامي واطلع عليه وجوه البشائر سوافر، وأمتع نواظره باستجلاء محاسنها النواضر، وواصلها إليه متوالية تواجهه كل يوم بمراتبها الزواهي الزواهر، وأماثلها لديه متضاهية الجمال متناسبة في حسن المبادي والأواخر، ولم تزل وجوه

البشائر أحسن وجوه نستجلي، وألفاظه أعذب ألفاظ تستعاد وتستحلى، وإذا كررت على المسامع أحاديث كتبها لا تمل بل تستملي، لا سيما إذا كانت بإعزاز الدين، وتأييد المسلمين، ونبأ فتح نرجو أن يكون طليعة فتوحات كل فتح منها هو الفتح المبين، فإن أنباءها تجل وقعاً وتعظم في الدنيا والآخرة نفعاً، وتود كل جارحة عند حديثه أن تكون سمعاً، لحديث هذا الفتح الذي كرم خبرا، وخبراً وحسن أثره في الإسلام وردا وصدرا، وطابت أخبار ذكره فشغل به السارون حداً، والسامرون سمراً، وهو فتح صفد واستنقاذه من أسره واسترجاعه إلى الإسلام. وقد طالت عليه في النصرانية مدة من عمره، وإقرار عين الدين بفتحه وكان قذى في عينه وشجى في صدره، وقد كنا لما وصلنا الشام بالعزم الذي نفرته دواعي الجهاد، وأنقذته عوالي الصعاد، وقربته أيدي الجياد ملنا على سواحل العدو المخذول فغرقناها ببحار عساكرنا الزاخرة، وشنينا بها من الغارات ما ألبسها ذلاً رفل بها الإسلام في ملابس عزه الفاخرة، وهي وإن كانت غارة عظيمة شنت في يوم واحد على جميع سواحله واستولى بها النهب والتخريب على أمواله ومنازله، واستبيح من حرمه وحرمه مصونات معاقله، وعقائله، إلا أنها كانت بين يدي عزائمنا المنصورة نشيطة نشطناً بها الغازين واسترهفنا بها همم المجاهدين وقدمناها لهم كلللهنة قبل الطعام للساغبين، وأعقبنا ذلك بما رأيناه أولى بالتقديم وأحرى، وتبيناه شد وطأة على الإسلام وأعظم ضراً، وهي

صفد التي باء بأثمها حاملها على النصرانية، ومسلطها بالنكاية، على البلاد الإسلامية، حتى جعلها للشرك ما سدة آساده ومراد مراده، ومجر رماحه ومجرى جياده، كم استبيح للإسلام من حمى، وكمن استرق الكفار بواسطتها مسلمة من الأحرار ومسلماً، وكم تسرب منها جيش الفرنج إلى بلاد المسلمين فحازوا ومغنماً وقوضوا معلماً، فنازلناها منازلة الليل بانعقاد القساطل، وطالعناها مطالعة الشمس ببريق المرهفات وأسنة الذوابل، وقصدناها بجحفل لم يزحم بلداً إلا هدمه ولا قصد جيشاً إلا هزمه ولا أم ممتنعاً طغا جبارة الأسهلة وقصمه فلما طالعتها أوائل طلائعنا منازلة وقابلتها وجوه كماتنا المقاتلة اغتر كافرها فبرز للمبارزة والقتال ووقف دون المنازلة داعياً نزال، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشباجديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب، ويخفف نحوها متسرعاً فيقال إذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب، فهم فوارس كمناصلهم رونقاً وضياء، تجري بهم جياد كذوابلهم علاناً ومضاء، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها، وتبدي ظمأ لا ينفعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها، وأنها قد أقبلت نحوم بجحافل تضيق رحب الفضاء، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء، وإنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد، وعقد برايته مذ عقدها إن لا قبل بها لأحد، وإن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ولو مدبرين وأدبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين لا متعقلين، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره، وأمطرنا عليه من السهام وبلاً سحبت ذيول سحبه المتراكمة، وأجرينا حولها من الحديد بحراً غرقه أمواجه المتلاطمة، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولاً إليه لما تخلص، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئاً لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى، سامي الذرى، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان، وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا باذيال أسواره ففتحوها أسراباً، وأججوها جحيماً يستعر جمرها التهاباً فصلى أهل النار بنارين من الحريق والقتال، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال، هذه تستعر عليهم وقوداً، وهذه تجعل هامهم للسيف غموداً. اعياً نزال، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشباجديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب، ويخفف نحوها متسرعاً فيقال إذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب، فهم فوارس كمناصلهم رونقاً وضياء، تجري بهم جياد كذوابلهم علاناً ومضاء، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها، وتبدي ظمأ لا ينفعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها، وأنها قد أقبلت نحوم بجحافل تضيق رحب الفضاء، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء، وإنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد، وعقد برايته مذ عقدها إن لا قبل بها

لأحد، وإن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ولو مدبرين وأدبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين لا متعقلين، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره، وأمطرنا عليه من السهام وبلاً سحبت ذيول سحبه المتراكمة، وأجرينا حولها من الحديد بحراً غرقه أمواجه المتلاطمة، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولاً إليه لما تخلص، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئاً لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى، سامي الذرى، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان، وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا باذيال أسواره ففتحوها أسراباً، وأججوها جحيماً يستعر جمرها التهاباً فصلى أهل النار بنارين من الحريق والقتال، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال، هذه تستعر عليهم وقوداً، وهذه تجعل هامهم للسيف غموداً. فعند ذلك جاءهم الموت من فوقهم ومن أسفل منهم، وأصبح ثغرهم الذي ظنوه عاصماً لا يغني عنهم، ومع ذلك فقاتلوا قتال مستقتل لا يرى من الموت بداً، وثبتوا متحايين يقدرون ببيضهم البيض والأبدان

قداً، فصبر أولياء الله على ما عاهدوا الله عليه، وقدموا نفوسهم قبل أقدامهم رغبة إليه، ورأوا الجنة تحت ظلال السيوف فلم يزودونها مقبلاً وتحققوا ما أعده الله لأهل الشهادة فاستحلوا وجه الموت على جهامته جميلاً، فعند ذلك خاب ظن أعداء الله وسقط في أيديهم وصار رجاء السلامة برؤوسهم أقصى تمنيهم فعدلوا عن القتال إلى السؤال وجنحوا إلى السلم وطلب النزول بعد النزال وتداعوا بالأمان صارخين، وجاؤا بدعاء التضرع لاجين، فأغمد الصفح عنهم بيض الصفاح، وقاتلوا من التوسل بأحد سلاح، واستدعوا راياتنا المنصورة فشرفوا بها الشرفات ونزلوا على حكمنا فأقالت القدرة لهم العثرات، وتسلم الحصن المبارك وقت صلاة الجمعة ثامن عشر شوال، وتحكم نوابنا على ما بها من الذخائر والأموال، ونودي في أرجائها بالواحد الأحد، واستديل للجمعة يوم الجمعة من يوم الأحد، ونحن نحمد الله على هذا الفتح الذي أعاد وجه الإسلام جميلاً، وأنام عين الدين في ظل من الأمن مدة ظليلاً، وألان من جانب هذا الثغر ما لا ظن أن سيلين، وذلل من صعبه ما شرح به صدر الملك والدين، فإنه حصن مر عليه دهر لم يدر فتحه بالأوهام، ولا تطاولت إليه يد الخطب ولا همة الأيام، وربما كان يجد منفساً فيدعوا الملوك إلى نفسها فيتصامموا وتخطبهم وممرها أدنى حرب فيرغبوا في العزلة والمسالمة فيسالموا إلهاهم عن فخر فتحها الرعية في رفاهية عيشه ظنوها راضية ووقف بهم دون السعي فيه همة لنزول الدنايا متغاضية وجنح بهم مراد السلم

وإرادة السلم كانت عليهم القاضية، والمجلس أيده الله يأخذ حظه من هذه البشرى، ويقر بها عيناً ويشرح بها صدراً، ويحلي وجوه بشائرها من هذه المكاتبة على عيون الناس من كل حاضر وباد، ويستنطق بها ألسن المحدثين وفي كل محفل وناد، والله يحرس المجلس ويسهل بهمته كل مراد، إن شاء الله تعالى في التاريخ المذكور من وقت الفتح. ثم أمر بعمارتها وتحصينها ونقل الذخائر والأسلحة إليها وأقطع بلدها لمن ربته لحفظها من الأجناد وجعل مقدمهم الأمير علاء الدين الكبكي وجعل في نيابة السلطنة بالقلعة الأمير عز الدين العلاني وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطوري ثم رحل إلى دمشق في تاسع عشر شوال. ولما كان الملك الظاهر منازلاً صفد وصل إليه في خامس عشر شهر رمضان رسول صاحب صهيون بهدية جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخره عن الحضور فقبل الهدية والعذر ووصلت رسل صاحب سيس أيضاً بهدية فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم ووصلت البريدية من متولي قوص يخبر أنه استولى على جزيرة سواكن وهرب صاحبها وبعث يطلب من السلطان الدخول في الطاعة وإبقاءها عليه فكتب له بذلك. وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة حل الملك الظاهر بدمشق ثم تقدم إلى العساكر بالمسير إلى بلد سيس للغارة فخرجوا من دمشق يوم السبت ثالث الشهر وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة وتدبير

الأمور إلى الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني فوصلوا الدرب الذي يدخل منه إليها وكان صاحبها قد بنى عليه أبرجة وجعل فيه المقاتلة. فلما رأوا العساكر تركوها ومضوا فملكها المسلمون وهدموها ودخلوا إلى بلد سيس فأسروا وقتلوا وسبوا وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم ودخلوا المدينة يوم السبت ثاني وعشرين من ذي القعدة فنهبوها وأخذوا منها ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ولما عادوا خرج الملك الظاهر من دمشق لتلقيهم في ثاني ذي الحجة وجاز بقارا في سادسه فأمر بنهبها وقتل من فيها، وسبب ذلك أن بعض ركابية الديار المصرية خدم مع الطواشي مرشد وخرج معه عند عوده من مصر إلى حماة فحصل له مرض فانقطع بالعيون قريباً من قارا أمس عليه المساء فأتاه نفران من أهل قارا وحادثاه وحملاه إلى قارا ليمرضاه فبقي عندهما ثلاثة أيام فعوفي فأخذاه تحت الليل ووصلا به إلى حصن الأكراد وباعاه بأربعين ديناراً صوريه واتفق توجه بعض تجار دمشق إلى حصن الأكراد لمشتري أسراء فاشتراه في الجملة واتفق أنه خدم بعض الأجناد وخرج صحبته، فلما حل ركاب الملك الظاهر بقارا حضر الركابي مجلس الأتابك وأنهى إليه صورة فحاله فسير معه جاندارية فطوق عليهما فصادف أحدهما بباب الخان فحمل إلى الأتابك فدخل الأتابك على الملك الظاهر وقص عليه القصة فأمر

بإحضارهما فحضرا وتقابلا فأنكر القاري فقال الركابي أعرف داره وما فيها، فلما سمع اعترف وقال ما أنا وحدي أفعل هذا بل جميع من بقارا يفعله واتفق حضور رهبان من أهل قارا إلى باب الدهليز بضيافة فقبض الملك الظاهر عليهم وركب بنفسه وقصد الديارة التي خارج فاراً فقتل من بهاونهبها ثم أمر العسكر بالركوب. وقصد التل الذي ظاهر قارا من الشمال واستدعى أبا العز رئيسها وقال نحن قاصدون الصيد فمر أهل قارا بالخروج بأجمعهم فخرج منهم جماعة إلى ظاهر القرية فلما بعدوا أمر العسكر فضرب رقابهم ولم يسلم إلا من هرب واختفى بالمغائر والآبار وعصى بالأبرجة جماعة فآمنوا وأخذوا أسرى وكانوا ألفاً وسبعين نفرا ما بين رجل وامرأة وصبي وانتمى جماعة إلى أبي العز رئيسها فأطلقوا له لأنه كان خدم السلطان وضيفه في الأيام المظفرية عند عوده من خلف منهزمي التتر فرعى ذلك له ثم أمر بالرهبان الذين كانوا قبضوا فوسطوا عن أخرهم وتقدم إلى العسكر بنهب قارا فنهبت وجعلت كنيستها جامعاً ورتب بها خطيباً وقاضياً ونقل إليها الرعية من التركمان قناة الأغنام وغيرهم ثم رحل للقاء العسكر الراجع من سيس فالتقى بهم على أفامية وعاد معهم فدخل دمشق والغنائم والأسرى بين يديه يوم الاثنين خامس عشري ذي الحجة وخرج منها طالباً للكرك مستهل المحرم سنة خمس وستين. وفي ذي الحجة دخل رجل إلى دار العدل بالقاهرة وبيده قصة

وسأل إيصالها إلى الأمير عز الدين الحلى فأذن له فلما دخل جرد سكيناً ووثب عليه فجرحه فقام إليه الصارم قيماز المسعودي متولي القاهرة ليدفعه عنه فضربه بالسكين فقتله فنهض الحلى والوزير وتاج الدين ابن بنت الأعز وهربوا ووثب الجاندارية على الرجل فقتلوه وزعم قوم أنه من جهة زين الدين بن الزبير وبحث عن ذاك فلم يعرف له خبر. وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بعمارة جسر بالغور على الشريعة ما بين دامية وقرأوا فشرع فيه وكان المتولى لعمارته جمال الدين محمد بن نهار ومحمد بن رحال والي نابلس والأغوار ولما تكاملت عمارته اضطرب بعض أركانه فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذر ذلك لزيادة الماء فاتفق وقوف الماء عن جريانه بحيث أمكن إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه فلما تم إصلاحه عاد الماء إلى حاله قيل وقع في النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسكر به وهذا من عجيب الاتفاق. وفيها سير الملك الظاهر سبيلاً إلى مكة شرفها الله تعالى وكسوة للكعبة الشريفة على العادة صحبة جمال الدين يوسف نائب دار العدل أمير الحاج وعادوا إلى مصر في العشرين من صفر سنة خمس وستين. وفي هذه السنة هلك هولاكو بن قاآن بن جنكزخان في

كوكرجلك وسنذكره إن شاء الله تعالى وجلس ولده أبغا على التخت مكان أبيه وكتب إلى ممالكه يعرفهم بجلوسه وسير يغلغا إلى الروم ينضم الدعاء له وطلب السلطان ركن الدين والبرواناة فتوجها بهدية سنية وهنؤه بالملك وطلبوا منه يغلغا بالبلاد التي كانت في يد آبائه وإن البلاد التي خرجت عن أيديهم في أيام السلطان عز الدين وآبائه يسترجعها وكانت سنوب في ذلك التاريخ في يد كمناقوس ملك جانت تغلب عليها في الأيام التي وقع فيها الخلف بين عز الدين وركن الدين في سنة سبع وخمسين فعاد ركن الدين وبقي معين الدين سليمان البرواناة مقيماً لقضاء الأشغال فتحدث معه أبغا سراً فقال البرواناة هؤلاء بنو سلجوق ما يؤمنوا وربما لركن الدين باطن مع صاحب مصر فقال أبغا قد وليتك نيابة السلطنة بالروم فإن تحققت أحداً يخالف طاعتي أقتله ثم استأذنه في محاصرة سنوب فأذن له وعاد إلى الروم واجتمع بركن الدين وعرفه خدمته فشكره على ذلك ثم جمع وحشد ما أمكنه وقصد سنوب وهي قلعة حصينة يحفها البحر من جوانبها وكان مقدم العسكر بها إذ ذاك غضراس الكافر وكان قد عمد إلى المساجد فجعلها كنائس، فلما وصل البرواناة بالعساكر إلى سنوب سير اليغلغ إلى غضراس وطلب تسليم البلد فأبى فرتب البرواناة حوله مراكب فيها المجانيق والمقاتلة وزحف عليها وكان من أمراء الروم تاج الدين قليج وبينه وبين البرواناة شنآن فاتفق أنه

فصل

ركب في مركب وزحف على القلعة فأرسى به مركبه على طرف النهر فانقلب بمن فيه وغرق الرجالة وخرج الركاب من البحر وكان باب القلعة مفتوحاً فخرج غضراس راكباً وقصدهم وحمل على تاج الدين ليطعنه فتقنطر به فرسه فقتله تاج الدين وهجم القلعة فأخذها فلما استولى البرواناة عليها ادعى أنها فتوحه وكتب إلى أبغا وإلى مخدومه وجميع المجاورين بالفتح ونسبه إلى نفسه فعظم قدره فاستشعر منه ركن الدين واستشعر هو أيضاً منه وحصل بينهما باطن أوجب أنه أوسع الحيلة في قتل ركن الدين على ما يأتي إن شاء الله في سنة ست وستين. وفيها جمع أرى جرل أخو ريدا فرنس وقصد جزيرة صقلية وحارب الأنبرور ملكها على مدينة سرقوسة فهزم عسكره وقتله في المصاف واستولى على جزيرة صقلية. ؟ فصل وفيها توفي إبراهيم بن عمر بن خضر بن محمد بن فارس بن إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق رضي الدين المضرى الواسطي البرزي التاجر المعروف بابن البرهان مولده بواسط سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سمع صحيح مسلم بنيسابور على أبي الفتح منصور بن عبد المنعم الفراوي وحدث به مراراً عدة بدمشق ومصر والقاهرة واليمن وذكر أنه سمع من أبي الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأجاز له جماعة كثيرة، وكان شيخاً صالحاً ديناً حسن الشكل من أكابر التجار المتمولين المعروفين بإخراج الزكاة

على وجهها وكان له صدقات وبر وعنده سكون وخشوع وكان يقال أن معه أربعين ألف دينار فكان يخرج الزكاة في كل سنة ألف دينار غير ما يتصدق به على وجه التبرع وجميع ما يكتسبه ينفقه على نفسه وفي الطاعات والقرب ورأس المال بحاله لا ينقصه ولا يزيده وكانت وفاته في حادي عشر شهر رجب بالإسكندرية ودفن بين الميناوين رحمه الله، وبرز بضم الباء قرية من عمل واسط. أحمد بن سالم بن..... أبو العباس جمال الدين المصري النحوي كان بداية أمره فقيراً مجرداً متزهداً مع فضيلته التامة وأقام بحلب مدة ثم قدم دمشق وتصدر لإقراء النحو بالمدرسة الناصرية وبمقصورة الحنفية الشرقية بجامع دمشق وتأهل بابنة الشيخ زين الدين إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج الحنفي إمام المقصورة المشار إليها وأولدها أولاداً وتوفي إلى رحمه الله تعالى في ثاني عشر شوال بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله وتوجع زين الدين المذكور لوفاته وحزن لفقده كثيراً فكتب إليه بدر الدين يوسف بن الحنفي: عزاءك زين الدين في الذاهب الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا همو فارقوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا وكان الشيخ أحمد المذكور حسن العشرة كريم الأخلاق كثير التواضع لين الجانب وافر الدين مشاركاً في كثير من العلوم مستقلاً

بعلم النحو والعربية وانتفع به جماعة كثيرة رحمه الله. أحمد بن عبد الله بن شعيب بن محمد بن عبد الله أبو العباس جمال الدين التميمي الصقلي ثم الدمشقي قرأ القرآن الكريم على الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله وسمع الكثير وحدث وكانت عنده كتب كثيرة نفيسة وأصول حسنة وكان في عنفوان شبابه قد تزوج ابنة الشيخ علم الدين السخاوي وأولادها وتوفيت هي والولد فلم يتزوج بعدها وكان شديد الشح على نفسه كثير التقتير عليها مع الجدة الوافرة، ولما حصل له المرض الذي مات فيه تمرض في بيته بالمدرسة العزيزية وبقي مضيعاً ولا يمكن أحداً من دخول البيت لخوفه على ما فيه ووقف داره على فقهاء المالكية وأوصى لهم بثلث ما له فنفذت وصيته وتوفي في ليلة خامس جمادى الأولى أو رابعه ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وهو في عشر السبعين واحتاط ديوان الحشر على تركته وبيعت كتبه النفيسة التي كان يشح برؤيتها على أرباب الجاهات بأبخس الأثمان ولم يوف ثمن أكثرها جملة كافية أنشد الجمال المذكور لنفسه أو لغيره: نحن الكلعنيون لا نأتلي ... في ذم من أطعمنا أو سقى سيان من أطعمنا حبة ... في الذم أو أطعمنا أو سقا أيدغدي بن عبد الله الأمير جمال الدين العزيزي سمع وحدث وكان أميراً كبيراً عظيم القدر مشهوراً بالشجاعة والكرم والديانة والحشمة وسعة الصدر وكبر النفس وعلو الهمة كثير الصدقات والبر

والمعروف وللفقراء والمشايخ أصحاب الزوايا وأرباب البيوتات عليه من الرواتب في كل سنة ما يزيد على مائة ألف درهم وألوف كثيرة أرادب قمح هذا غير ما يتصدق به ويطلقه في بسط السنة مما هو في غير حكم الراتب المستقر وكان مقتصداً في ملبسه لا يتعدى لبس ثياب القطن من القماش الهندي والبعلبكي وغيره مما يباح ولا يكره لبسه، وحكى لي بعض الناصرية قال لما دخلنا الديار المصرية اتفق أن بعض الأمراء الأكابر عمل سماعاً وحضر بنفسه إلى الأمير جمال الدين رحمه الله ودعاه فوعده بالمضي إليه والحضور عنده فلما كان العشاء الآخرة مشى ونحن معه جماعة من خواصه ومماليكه إلى دار ذلك الأمير فلما دخل وجد في الدار جماعة من الأمراء جلوساً في إيوان الدار وجماعة من الفقراء جلوساً في وسط الدار فوقف ولم يدخل وقال لصاحب الدار وللأمراء أخطأتم فيما فعلتم كان ينبغي أن تقعد الفقراء فوق وأنتم في أرض الدار ولم يجلس حتى تحول الفقراء إلى مكان الأمراء والأمراء إلى مكان الفقراء وقعد هو ونحن بين الأمراء، فلما غنى المغاني قام أحدهم والدف بيده ودار على الجماعة لينقطوه وهذه كانت عادة المغاني في سماعات الديار المصرية فلما رآه الأمير جمال الدين انتهره وقال ألك أنت في الحلق وأشار إلى خازنداره فوضع في الدف كيساً فيه ألف درهم فلما رقص الجمع دار بينهم ورمى على المغني بغلطاقه وهو أبيض قطن بعلبكي ما يساوي عشرين درهماً فرمى سائر مماليكه

بغالطيقهم موافقة له وقيمتها فوق ثلاثة آلاف درهم ثم دار في التوبة الثانية ورمى على المغني منديله وهو أبيض كتان يساوي درهمين فرمى سائر أصحابه مناديلهم وفيها ما هو بالذهب وغيره ولعل قيمتها فوق ألف وخمسمائة درهم فحسبت أن المغاني حصل له منه ومن غلمانه في تلك الليلة قريب ستة آلاف درهم ولما عزم العزيزية على قبض الملك المعز اطلعوا الأمير جمال الدين فلم يوافقهم ونهاهم عن ذلك وعرفهم ما يترتب عليه من المفاسد وإن ضرر هذا العزم يلحقهم دون الملك المعز ولم ير الأمير جمال الدين أن يشي بهم إلى الملك المعز وبلغ المعز ما عزموا عليه وعلم العزيزية أنه علم وهو وهم في الميدان للعب الكرة في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين فهربوا على حمية والمشار إليه فيهم الأمير شمس الدين آقش البرلي وأما الأمير جمال الدين فلم يهرب لعلمه ببراءة ساحته فساق الملك المعز إلى قريب خيمة الأمير جمال الدين فخرج إليه فأمر بقبضه وسيره إلى قلعة الجل فاعتقل بها مضيقاً عليه فلما تحقق براءة ساحته وسع عليه وتركه في الاعتقال مكرماً مرفهاً وكان ذنبه عنده كونه لم يطلعه على ما عزم عليه أصحابه وأذن لأهل الأمير جمال الدين أن يحملوا عليه الطعام والشراب والملابس وكل ما يحتاج إليه ثم أظهر موته وأخفى خبره بالكلية فلما وقع الصلح بين الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبين الملك المعز بسفارة الشيخ نجم الدين الباذراني وتوجه الشيخ نجم الدين المذكور

إلى الديار المصرية طلب من الملك المعز الإفراج عن الأمير جمال الدين فقال له الملك المعز ما بقي المولى يراه إلا في عرصات القيامة إشارة إلى أنه قد مات ولم يكن مات بل كان في قاعة بقلعة الجبل وعليه الملبوس الفاخر والملك المعز يدخل إليه في بعض الأوقات ويلعب معه بالشطرنج ولم يزل الأمير على ذلك حتى قتل الملك المعز وجرى ما أشرنا إليه عند قتله واستمر في الاعتقال إلى أن خرج الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله لقتال التتار في سنة ثمان وخمسين، فلما من الله سبحانه وتعالى وكسرهم كتب إلى النواب بالديار المصرية بالإفراج عنه وتجهيزه إليه فأفرج عنه وسير إليه فلقيه في الطريق وقد خرج من دمشق فعاد معه واجتمع به الأمير ركن الدين البندقداري وأطلعه على شيء مما عزم عليه فأغلظ له في الجواب ونهاه عن ذلك وصده بكل طريق وقال له لو كان للملك المظفر في عنقي يمين لأخبرته بذلك وأطلعته عليه فإياك إياك أن تقع في ذلك فأظهر له الإصغاء إلى قوله وفعل ما كان عزم عليه من قتل الملك المظفر رحمه الله، ولما استقل بالسلطنة عظم الأمير جمال الدين في عينه ووثق به وسكن إليه وكان عنده في أعلى المراتب وأعطاه إقطاعاً عظيماً وكان يرجع إلى رأيه ومشورته في الأمور الدينية وما يتعلق بالقضاة والعلماء والمشايخ وأرباب الخرق فإنه لم يكن يعدل عن رأيه في ذلك البتة وجهزه في هذه السنة إلى بلاد سيس والساحل مقدماً على طائفة من الجيش والأمير سيف الدين قلاون الألفي مقدماً على طائفة أخرى فأغاروا وغنموا وقتلوا وسبوا وأسروا وفتحوا حصوناً كثيرة وعادوا في شهر رمضان واجتازوا ببعلبك وكان بيننا وبين الأمير جمال الدين رحمه الله صحبة ومعرفة ومودة فحضر إلى مسجد الحنابلة وأشار إلى بأنه يريد الدخول إلى الحمام فأدخلته إليه، فلما خرج دفع إلى الحمامي جملة كثيرة من الدراهم وجمع بيننا وبين الأمير سيف الدين قلاوون رحمه الله في تلك الدفعة فحصلت المعرفة به من ذلك التاريخ ثم توجه إلى صفد وباشر الحصار بنفسه وكان في غزوات الكفار يبذل جهده ويتعرض للشهادة فجرح عليها وبقي مدة وألم الجراحة يتزايد وحمل إلى دمشق فتمرض بها إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وختم الله أعماله الصالحة بالشهادة وتوفاه إلى رضوانه ليلة عرفة ودفن في مقبرة رباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بسفح قاسيون، وكان في محبة الصلحاء والفقراء والاعتقاد فيهم والبر بهم والتواضع لديهم أوحد عصره رحمه الله. يه وكان عنده في أعلى المراتب وأعطاه إقطاعاً عظيماً وكان يرجع إلى رأيه ومشورته في الأمور الدينية وما يتعلق بالقضاة والعلماء والمشايخ وأرباب الخرق فإنه لم يكن يعدل عن رأيه في ذلك البتة وجهزه في هذه السنة إلى بلاد سيس والساحل مقدماً على طائفة من الجيش والأمير سيف الدين قلاون الألفي مقدماً على طائفة أخرى فأغاروا وغنموا وقتلوا وسبوا وأسروا وفتحوا حصوناً كثيرة وعادوا

في شهر رمضان واجتازوا ببعلبك وكان بيننا وبين الأمير جمال الدين رحمه الله صحبة ومعرفة ومودة فحضر إلى مسجد الحنابلة وأشار إلى بأنه يريد الدخول إلى الحمام فأدخلته إليه، فلما خرج دفع إلى الحمامي جملة كثيرة من الدراهم وجمع بيننا وبين الأمير سيف الدين قلاوون رحمه الله في تلك الدفعة فحصلت المعرفة به من ذلك التاريخ ثم توجه إلى صفد وباشر الحصار بنفسه وكان في غزوات الكفار يبذل جهده ويتعرض للشهادة فجرح عليها وبقي مدة وألم الجراحة يتزايد وحمل إلى دمشق فتمرض بها إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وختم الله أعماله الصالحة بالشهادة وتوفاه إلى رضوانه ليلة عرفة ودفن في مقبرة رباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بسفح قاسيون، وكان في محبة الصلحاء والفقراء والاعتقاد فيهم والبر بهم والتواضع لديهم أوحد عصره رحمه الله. جلدك بن عبد الله أبو الجود الرومي الفائزي كان أميراً جليلاً فاضلاً خبيراً بالسياسة وله نظم جيد وتولى عدة ولايات وكان مشكور السيرة وتوفي بالقاهرة في سابع عشر شوال ودفن بالقرافة رحمه الله. الحسن بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن أحمد ابن الحسين ابن صصرى أبو المواهب بهاء الدين التغلبي الدمشقي مولده سنة أربع وتسعين وخمسمائة تخميناً، سمع من عمر بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وغيرهما وحدث وكان من أعيان العدول الرؤساء والصدور الأماثل وبيته معروف بالحديث والتقدم والرئاسة والنبل، وتوفي في

رابع صفر بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. عبد الرحمن بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى أبو محمد شرف الدين التغلبي مولده سنة إحدى وتسعين وخمسائة تخميناً بدمشق، سمع من عمر بن طبرزد وحنبل والكندي وغيرهم وحدث وكان من الرؤساء المتعينين وذوي الثروة والوجاهة وتولى عدة مناصب جليلة بدمشق وبيته معروف بالعدالة والرواية وتوفي في حادي عشر شعبان بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. علي بن الحسين بن محمد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن مظفر أبو الحسن الحسيني الأرموي الأصل المصري المولد والدار ومولده سنة ثلاث وستمائة سمع وحدث وتولى نقابة الأشراف بالديار المصرية مدة وتوفي بالقاهرة في الحادي والعشرين من صفر ودفن من الغد رحمه الله. محمد بن عبد الجليل بن عبد الكريم أبو عبد الله جمال الدين الموقاني الأصل المقدسي المولد الدمشقي الدار والوفاة، سمع الكثير وكتب وحدث وكان يعاني مشترى الكتب النفيسة للانتفاع والمتجر وكان عنده يقظة ومعرفة وأدب وفضيلة وكان يشتري الأشياء المستحسنة من كل نوع ظريف وتوفي في حادي عشر ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله وهو في عشر السبعين تقريباً أهدى إلى الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور رحمه الله كتباً وموسى وكتب مع هديته:

بعثت بكتب نحو مولى قد اغتدت ... كتائبه يزهو بها الغور والنجد وأهديت موسى نحو موسى فلا تخل ... بتشريكه في اللفظ قد أخطأ العبد فهذا له حد ولا فضل عنده ... وذاك له فضل وليس له حد وظاهر الحال أن هذه الأبيات لسعد الدين محمد بن العربي فإن الجمال لم يكن له يد في النظم والله أعلم، وطلب الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله من الموقاني صحاح الجوهري فكتب إليه من نظم سعد الدين: ما كان من كتبي نفيساً بعته ... إذ كنت أنت من النجوم المشتري والبحر أنت وقد أتيتك قاصداً ... فأطلق بفضلك صحاح الجوهري ومن المنسوب إليه أيضاً: لذيذ الكرى مذ فارقوا فارق الجفنا ... وواصل قلبي بعد بعدهم الحزنا فما رحلوا حتى أسباحوا نفوسنا ... كأنهم كانوا أحق بها منا ولولا الهوى العذري ما انقاد للهوى ... نفوس رأت في طاعة إلى أن تفنى محمد بن منصور بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن منصور بن محمد بن الفضل بن الحضرمي أبو عبد الله المالكي العدل، سمع الحديث وحدث بالثغر وكان ظريف الشكل حسن المحاضرة يحفظ كثيراً من الأدبيات والأناشيد، قال أبو المظفر منصور ابن سليم أنشدنا محمد بن الحضرمي بالإسكندرية قال أنشدنا صاحبنا الشرف أبو محمد عبد الملك بن

عتيق الشاعر لنفسه في البحر: يا قوم ما بال لج البحر في قلق ... كأنه من فراق الحب في فرق تراه يخشى وقد وافيت ساحله ... من بحر دمعي أن يغشاه بالغرق قال أبو المظفر قال وأنشدنا لنفسه يصف شقائق النعمان: لله زهر شقيق حين رمت له ... وصفاً تقاصر تعبيري وتحبيري كأنه وجنات الغيد قد نقطت ... بالمسك من تحت أطراف المواسير توفي محمد بن الحضرمي رحمه الله في يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة وصلى عليه ودفن بين الميناوين بثغر الإسكندرية. هولاكو بن قآن بن جنكز خان ملك التتار كان من أعظم ملوك التتار حازماً شجاعاً مدبراً ذا همة عالية وسطوة عظيمة ومهابة شديدة ونهضة تامة وكفاية بالغة واستقلال بتدبير الممالك والأقاليم وخبرة بالحروب وافتتاح المعاقل والحصون ومحبة في العلوم العقلية من غير أن يتعقل منها شيئاً البتة واستدعى إليه من العلماء كالمؤيد العرضي والتقى على الحديثي وابن طليب وغيرهم وجمع حكماء مملكته وأمرهم أن يرصدوا الكواكب ويحققوا أمرها ولم يكن في ملوك التتر من يضاهيه في ذلك ولا يدانيه وكان واسع الصدر يطلق الكثير من الأموال والبلاد مما يشح التتر بمثله فإن الغالب عليهم الشح وكان على قاعدة المغل في عدم تقيد بدين أو ميل إليه وإنما كانت زوجته طقزخاتون قد تنصرت فكانت تعضد

النصارى وتقيم شعارهم بتلك البلاد التي استولى عليها وكان سعيداً في حروبه وحصاراته لم يرم أمراً إلا ويسهل عليه ولم يتعذر وحصل في قلوب الناس كافة من الرعب منه ما أوجب انقيادهم إليه أو هربهم بين يديه فطوى البلاد واستولى على الممالك والأقاليم في أيسر مدة ففتح بلاد خراسان وإذربيجان وفارس وعراق العجم وعراق العرب والشام والجزيرة والموصل وديار بكر والروم والشرق وغير ذلك من البلاد وهزم جيوشها وأباد ملوكها، وكانت وفاته في هذه السنة بكوكر جلك وقيل أن وفاته كانت في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة ببلد مراغة ونقل إلى قلعة تلا فدفن بها وبنى عليه قبة ووكل به ولد الكانوين وكان هلاكه بعلة الصرع فإنه كان حصل له منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين رحمه الله الصرع في كل وقت فكان يعتريه في اليوم الواحد المرة والمرتين والثلاث ولما عاد من كسرة بركة في المحرم أقام بجمع العساكر وعزم على العود فزاد به الصرع فمرض ولم يزل ضعيفاً ونحو شهرين وهلك فأخفوا موته وصبروه وجعلوه في تابوت من خشب وقيل أنهم لم يدفنوه بل علقوا تابوته بسلاسل في قلعة تلا من أعمال سلماس ثم أظهروا موته وكان ولده أبغا في بلد بايغز في مقابلة برق فسير أكابر المقدمين في طلبه فلما حضر أجلسوه على التخت مكان أبيه وكتب إلى ممالكه يعرفهم بجلوسه واستقامة الأمر له وخلف هولاكو من الأولاد سبعة عشر ذكراً غير البنات وهم أبغا المذكور ملك

الأمر بعده ويشموط وهو الذي كان تولى حصار الملك الكامل رحمه الله بميافارقين وسن وتكشى وهو سفاك للدماء جبار كثير القتل واجاى ويستر ومنكوتمر وهو الذي قدم بالعساكر والجحافل إلى الشام في سنة ثمانين وستمائة ومن الله تعالى بالنصرة عليه ظاهر حمص ولله الحمد وباكودر وأرغون ونغاي دمر وأحمد وهو الذي ملك البلاد بعد أبغا وكان مسلماً حسن السيرة والباقون صغار لم تحقق أسماؤهم وكان تقدير عمر هولاكو وقت وفاته فوق الستين سنة أفنى فيها من الأمم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، حكى القاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله أنه توجه إلى هولاكو رسولاً من جهة صاحب الروم بعد أخذه بغداد قال سراج الدين فلما دخلت عليه وجدت حوله صبياً صغيراً يلعب فلما وقعت عيني على الصغير أخذ بمجامع قلبي ولم أستطع كف بصري عنه فلما رأى ذلك مني هولاكو قال للترجمان قال له تعرف هذا الصبي من هو قال سراج الدين فلما قال لي الترجمان ذلك قلت لا قال فلم تديم النظر إليه فقلت أجد نفسي الميل إليه من غير اختيار مني فقال هذا ولد الخليفة قال سراج الدين فقمت قائماً وقبلت قدمي ذلك الصغير فقال هولاكو للترجمان عرفه أننا قد أقمنا له من يؤدبه بآداب المسلمين ويعلمه دين الإسلام ولم ندخله في دين المغل

السنة الخامسة والستون وستمائة

قال سراج الدين فقلت ما ناسب من الشكر له على ذل وتحققت رجحان عقله. السنة الخامسة والستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية. متجدادت الأحوال في غرة السنة خرج الملك الظاهر من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية فلما وصل الفوار عرج منه إلى الكرك وسار العسكر والثقل إلى غزة مع الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني ونزل الملك الظاهر بركة زيزا في الثامن منه وركب ليتصيد فكبا به الفرس فانكسر فخذه فأقام بالبركة يعالج نفسه حتى قارب الصحة وتماثل فركب في محفة وسار إلى غزة فوصلها غرة صفر ثم سار فنزل مسجد التبن فأقام به يعالج فخذه حتى أمكنه الركوب ودخل القاهرة من باب النصر وقد زينت فشقها وخرج من باب زويلة وصعد القلعة يوم السبت سادس ربيع الأول. وفي ثامن عشرة أقيمت الجمعة والخطبة بالجامع الأزهر بالقاهرة وهذا الجامع بني لما بنيت القاهرة لإقامة الجمعة فلما بنى الحاكم الجامع الأنور نقل الخطبة إليه وبقي الجامع الأزهر تقام فيه الصلوات الخمس فقط فلما عمر الحلى داره إلى جانبه رمه وبيضه وعمل فيه منبراً ومقصورة فتنازع الناس في جواز الجمعة فيه وكتب في ذلك فتاوى فممن منع

الجواز القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وجماعة وممن أجازها الشيخ شمس الدين الحنبلي وجماعة فعمل بقول من جوز ذلك وحضر الصلاة الصاحب وجماعة كثيرة من العلماء والأمراء. وفيها ورد الملك المنصور صاحب حماة إلى القاهرة فخرج الملك الظاهر لتلقيه واحتفل به فسأل التوجه إلى الإسكندرية فأجيب وسير معه الأمير شمس الدين الفارقاني وتقدم إلى شمس الدين بن باخل متولي الثغر أن يحمل إليه في كل يوم من بيت المال مائة دينار وإن ينسج له في دار الطراز ما يقترحه وينفق عليه من بيت المال أيضاً. وفيها شرع في بناء جامع الحسينية في ميدان قراقوش في منتصف جمادى الآخرة والمتولي لذلك الصاحب بهاء الدين وعلم الدين سنجر المسروري متولي القاهرة إذ ذاك فبنى أحسن بناء وزخرفت جهة القبلة وعمل على جهة المحراب قبة عظيمة وتمت عمارته في شوال سنة سبع وستين ورتب به إمام حنفي ووقف عليه حكر ما بقي من الميدان. وفي يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة توجه الملك الظاهر إلى الشام وصحبته صاحب حماة عازماً على عمارة صفد واستصحب معه البنائين والنجارين فأقام عليها مدة ووصله لخبر بأن طائفة من التتار قصدت البيرة فسار مبادراً إلى دمشق فبلغه عودهم فعاد إلى صفد وعمر الباشورة وجدد في القلعة أبراجاً ثم رحل عنها وقصد الكرك.

وفي تاريخ خروجه من الديار المصرية إلى الشام وصل فارس الدين آقوش عائداً من الرسالة التي كان توجه فيه سنة إحدى وستين إلى بركة فاستولى عليه وعلى من معه وأعاقه مدة ثم أفرج عنه بعد أن أخذ جميع موجوده. وفي شعبان ولي الخطابة بمصر عز الدين بن الشهاب بحكم وفاة خطيبها شرف الدين عبد القادر الطوخي وولي قضاء القضاة بالقاهرة والوجه الشرقي تقي الدين محمد بن الحسين بن زرين في التاسع من شعبان وولي القضاء بمصر والوجه القبلي محي الدين أبو محمد عبد القادر بن قاضي القضاة شرف الدين محمد المعروف بابن عين الدولة الإسكندري وولي النظر في ديوان الأحباس تاج الدين علي بن القسطلاني وولى تدريس الشافعية بالمدرسة الصالحية صدر الدين بن قاضي القضاة تاج الدين وولى النظر في الخانكاه الشيخ شمس الدين الحنبلي وفوض النظر في مدرسة الشافعي رضي الله عنه بالقرافة لبهاء الدين علي بن عيسى نيابة عن الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين وهذه المناصب جميعها كانت بيد تاج الدين خلا الخطابة وفي ثامن ذي القعدة توجه الأمير عزالدين الحلي إلى الحجاز وباشر نيابة السلطنة بالديار المصرية الخازندار. وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة وصل الملك الظاهر من الشام إلى القاهرة وفي العشرين منه أمر بتسمير جماعة كانوا محبوسين

بخزانة البنود منهم الملك الأشرف بن شهاب الدين غازي والناصح ضامن بلاد الواحات وغيرهما. وفيها توفي بركة ملك التتار وقام مكانه منكوتمر بن طغان بن صرطق بن باتو بن تولي بن جنكز خان فجمع عساكره وقدم عليها مقدماً وسيره إلى بلاد أبغا فجمع أبغا عساكره وساق إلى أن نزل على نهر كور وأحضر المراكب والسلاسل وعمل جسرين على النهر وعدا إلى جهة منكوتمر وما زال سائراً حتى نزل على النهر الأبيض فعدا منكوتمر بعساكره من شماخي وشروان وهما جبلان وما زال إلى أن وصل إلى النهر الأبيض ونزل من الجانب الشرقي وعسكر أبغا في الغرب ولبسوا آلة الحرب وتراسلوا وبعد ثلاث ساعات من النهار حرك أبغا كوساته وقطع النهر الأبيض وحمل على منكوتمر وكسره ولم يزل في طلبه والسيف يعمل إلى جبلي شماخي وشروان فرد عسكر منكوتمر إلى عسكر أبغا فلم يتحرك أبغا وثبت لهم ولم يزالوا كذلك إلى العشاء الآخرة وهرب منكوتمر إلى بلاده ورجع أبغا بعد أن كسب كسباً عظيماً وعدا من الجسور المنصوبة ونزل على نهر كور وجمع كبراء دولته وشاورهم على عمل سور من خشب على نهر كور فقالوا مصلحة فقام وقاس البحر من حد تفليس إلى حد كسيس فكان جزء كل مقدم مائة فارس عشرين ذراعاً بالعمل فقام السور في سبعة أيام ورحل ونزل حاجى وعان وبلغان فشتى تلك السنة هناك.

فصل

فصل وفيها توفي إسحاق بن خليل بن فارس أبو يعقوب كمال الدين الشافعي المعروف بالسقطي كان فقيهاً عالماً فاضلاً عارفاً بالمذهب اشتغل على الشيخ فخر الدين ابن عساكر وغيره وأفتى ودرس وسمع وحدث تولى الحكم بزراً مدة وناب في الحكم بدمشق مدة أخرى وتوفي بدمشق في العشرين من شهر رجب وهو في عشر الثمانين ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن خسرو الكوراني الشيخ الصالح توفي بمدينة غزة وهو قافل من الديار المصرية إلى القدس الشريف ودفن بظاهرها وكانت وفاته في الثاني والعشرين من شهر رجب وكان من المشايخ المعروفين بالزهد والورع والعبادة والجد والعمل منقطعاً عن الناس مؤثراً للتخلي مشتغلاً بنفسه وعبادة ربه والإقبال على أخرته كثير التحري في ملبسه ومأكله ومشربه يسأل العلماء عما يشكل عليه من أمر دينه قل أن يوجد مثله في زمنه رحمه الله. بركة بن تولي بن جنكز خان ملك التتار وهو ابن عم هولاكو المقدم ذكره وبلاده متسعة جداً وهي بعيدة عنا وله عساكر عظيمة وافرة العدد ومملكته تفوق مملكة هولاكو بكثرة البلاد والعساكر والأموال لكن جند هولاكو استغنوا بما نهبوه من الأقاليم التي استولوا عليها وكان بركة يميل إلى المسلمين كثيراً ويعظم أهل العلم ويعتقد في الصلحاء من المسلمين ويتبرك بمشايخهم ويرجع إلى أقوالهم وكلمتهم

عنده مسموعة وحرمتهم في ممالكه وافرة وكان أعظم أسباب لوقوع الحرب بينه وبين هولاكو كون هولاكو قتل الخليفة المستعصم بالله ومكان يميل إلى مودة الملك الظاهر ركن الدين ويعظم رسله وكان جماعة من أهل الحجاز يتوجهون إليه فيبرهم ويعطيهم المال الكثير ويبالغ في احترامهم والإحسان إليهم وكان قد أسلم هو وكثير من جنده والمساجد الخيام المحمولة معه ولها الأئمة والمؤذنون ومتى نزل في مكان ضربها وأقيمت فيها الصلوات الخمس وكان شجاعاً جواداً حازماً عادلاً حسن السيرة في رعاياه يكره الإكثار من سفك الدماء والإفراط في خراب البلاد وعنده رأفة وحلم وصفح وتوفي ببلاده في هذه السنة وهو في عشر الستين وقام مكانه منكوتمر بن طغان بن صرطق بن باتوبن تولى ابن جنكز خان وعند ما استقل بالملك جمع عساكره وقدم عليها مقدما سيره إلى بلاد أبغا بن هولاكو. الجنيد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان أبو القاسم ظهير الدين الزرزاري الأربلي الشافعي، مولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة باربل في شهر صفر سمع من ابن طبرزد وحنبل وغيرهما وحدث وولي عدة جهات وكان مشكور السيرة فيما يتولاه عدلاً أميناً ضابطاً وعنده رياسة ومكارم أخلاق ولين جانب وحسن عشرة ومحاضرة حسنة وعنده فضيلة وأدب وتوفي في الرابع والعشرين من شوال بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.

الحسين بن عزيز بن أبي الفوارس أبو المعالي الأمير ناصر الدين القيمري كان من أعظم الأمراء وأجلهم قدراً وأكبرهم شاناً وله المكانة المكينة والوجاهة التامة والكلمة النافذة والإقطاعات الجليلة وكان شجاعاً كريماً عادلاً حازماً رئيساً كثير البر والصدقة وهو الذي سلم دمشق والشام إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بعد قتل الملك المعظم توران شاه وكان هو وأقاربه معظم عسكر الشام في الأيام الناصرية وكان الملك الظاهر ركن الدين قد أقطعه إقطاعاً جيداً وجعله مقدم العساكر بالساحل قبالة الفرنج فتوفي به مرابطاً في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول وعمل عزاؤه بجامع دمشق يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور وهو الذي عمر المدرسة المعروفة به بناحية مأذنة فيروز وهي من أجل مدراس دمشق وأحسنها وعمل على بابها ساعات لم يسبق إلى مثلها قيل أنه غرم عليها ما يزيد على أربعين ألف درهم وكان عالي الهمة يضاهي الملوك في موكبه وتجمله وكثرة غلمانه وحاشيته وخيوله وبيوتاته وما يجري هذا المجرى رحمه الله تعالى، ووالده الأمير شمس الدين عزيز كان جليل القدر وكان الأمير ناصر الدين كثير العقل والمداراة والاحتمال سمع مرة بعض الأمراء الأكراد يقع في البحرية وينتقصهم فسبه وانتهره فقال يا خوندهم أعداؤنا فقال بئس ما قلت ليس بيننا وبينهم عداوة وكلمة الإسلام تجمعنا ونحن وهم شيء واحد وإنما القوم في خدمة ملك ونحن في خدمة ملك آخر وبين الملكين وحشة كما جرت العادة أن

تكون بين بعض الملوك فلو زالت الوحشة من بين الملكين صرنا نحن وهم كالنفس الواحدة وهذا الكلام يدل على عقل كثير وسداد رأي وحسن تأن رحمه الله. عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس ابن محمد أبو القاسم شهاب الدين المقدسي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة الفقيه الشافعي المعروف بابن أبي شامة مولده في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر بدمشق سنة تسع وتسعين قرأ القرآن والعربية وتفقه وسمع وحدث واختصر تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر وصنف في فنون كثيرة وكان عالماً فاضلاً متقناً متفنناً عنده مشاركة في كثير من العلوم واستقلال ببعضها لكنه كان كثير الغض من العلماء والأكابر والصلحاء والطعن عليهم والتنقص بهم وذكر مساوئ الناس وثلب أعراضهم ولم يكن بمثابة من لا يقال فيه فقدح الناس فيه وتكلموا في حقه وكان عند نفسه عظيماً فسقط بذلك من أعين الناس مع ما كان عليه من ثلب العلماء والأعيان وذكر ما يشينهم به وله نظم متوسط وفيه كثرة وكانت وفاته في التاسع عشر من شهر رمضان سحراً ودفن من يومه بمقابر باب الفراديس رحمه الله وكان ولي في آخر عمره مشيخة دار الحديث الأشرفية رحم الله واقفها بدمشق بعد القاضي عماد الدين عبد الكريم بن الحرستاني رحمه الله ودرس وأفتى ومن شعره:

قلت لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل وكان قد وقف معظم كتبه وشرط شروطاً ضيق فيها فأوجب ذلك الغاء شروطه بالكلية وعدم التقيد بشيء منها، وبالجملة فكان غير موفق في معظم حركاته رحمه الله تعالى وإيانا وسامحه بما نال من أعراض المسلمين وتجاوز عنا وعنه ومن تواليفه شرح مدائح النبي صلى الله عليه وسلم مجلد، شرح قصيدة الشاطبي مجلدين، مختصر تاريخ دمشق الأكبر خمسة عشرة مجلداً، المختصر الأصغر خمس مجلدات، الروضتين مجلدين، شرح حديث المبعث، تفسير آية الإسراء، ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري، المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول، كتاب البسملة، مختصر، الروضتين، الباعث على إنكار البدع والحوادث، كشف حال بني عبيد، الواضح الجلي في الرد على الحنبلي، مقدمة في النحو، نظم مفصل الزمخشري القصيدة الدامغة للفرقة الزائغة، قصيدتان في وصف أفعال الحاج، وذكر منازل الطريق من جهة الشام، وغير ذلك. عبد العزيز بن إبراهيم بن علي بن علي بن أبي حرب أبو الفضل مهاجر أبو محمد تاج الدين ويعرف بابن الوالي الموصلي وكان أصلهم أجناداً وكان شرف الدين إبراهيم والد تاج الدين المذكور قد وزر لمظفر الدين صاحب إربل رحمه الله ثم قبض عليه سنة ثمان وعشرين وستمائة.

واستوزر بعده شرف الدين المبارك بن المستوفي رحمه الله وكان تاج الدين عبد العزيز المذكور رئيساً عالي الهمة عنده مكارم وعفة وهو مشكور السيرة في ولاياته، حسن التأني في تصرفاته، تنقل في المناصب الجليلة وآخر ما ولى وزارة الشام بعد أن صرف عنها عز الدين عبد العزيز بن وداعة الآتي ذكره فقدم دمشق وباشر ما عذق به من ذلك ولم تطل مدته ودرج إلى رحمة الله في هذه السنة بدمشق رحمه الله وقد نيف على الستين سنة من العمر، وناب تاج الدين عن أبيه أيام تقلده وزارة إربل وسير رسولاً غير مرة إلى الديوان ببغداد فأكرم وأنعم عليه وكان متجملاً في زيه ومتنعماً يتأنق في مأكوله وملبوسه ومولده ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان أنشدني لنفسه: إذا أمت الآمال كعبة رفدكم ... فلا عجب أن تنتحي بالرغائب ومن عذبت منه الموارد أجمعت ... عليه رجال الوفد من كل جانب عبد الوهاب بن خلف بن محمود أبو محمد تاج الدين العلامي الفقيه الشافعي المعروف بابن بنت الأعز قاضي القضاة بالديار المصرية كان إماماً عالماً فاضلاًُ متبحراً انتقلت به الأحوال وولي المناصب الجليلة كنظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاة ودرس بالمدرسة الصالحية النجمية للطائفة الشافعية وبالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رحمة الله

عليه وبغيرها وتقدم عند الملوك تقدماً عظيماً وكانت له الحرمة الوافرة والمكانة العظيمة عند الملك الظاهر ركن الدين وهو أحد العلماء المشهورين والرؤساء المذكورين ذا ذهن ثاقب وحدس صائب وجد وعزم وحزم ورأي سديد مع النزاهة المفرطة وحسن الطريقة وجميل السيرة والصلابة في الدين والتثبت في الأحكام وتخير الأكفاء لولاية المناصب لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل عما يوجبه الشرع الشريف من الأحكام والناس كلهم عنده في ذلك سواء لا يراعى أحداً ولا يداهنه ولا يقبل شهادة من يوجب الشرع الشريف التوقف في قبول شهادته ومن ارتاب منه أسقطه وكان قوي النفس عالي الهمة ومولده في مستهل شهر رجب سنة أربع عشرة وستمائة وتفقه وسمع من أبي الفضل جعفر بن أبي الحسن الهمذاني وغيره وحدث وأفتى وكانت وفاته في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله وكان لقوة نفسه وعظم محله يترفع في قعوده على الصاحب بهاء الدين وزير الملك الظاهر ولا يحتفل بأمره فكان ذلك يعظم على الوزير ويقصد نكايته فلا يقدر على ذلك ولا يستطيعه ولا يجد عليه مطعناً فكان يوهم الملك الظاهر أن للقاضي أموالاً ومتاجر كبيرة ويقصد تقرير ذلك في ذهن الملك الظاهر واتفق أن بعض التجار ورد الإسكندرية وذكر لأرباب الزكاة ما معه من المتجر والمال وقام بما جرت به العادة ثم وجد معه ألف دينار غير ما اعترف به فأنكر عليه ذلك فقال

ما هي لي وإنما هي معي وديعة للقاضي تاج الدين فكتب بذلك إلى الوزير فقال للملك الظاهر ليحقق ما قرره عنده فسأل الملك الظاهر القاضي تاج الدين عن ذلك فما رأى أن يعترف ليحصل غرض الوزير ولا أمكنه أن ينكر لكونها له فقال الناس يقصدون التجوه بالناس ليراعوا وإن كانت هذه الألف دينار لي فقد خرجت عنها لبيت المال فأخذت وسهل عليه ذهابها مع كثرة شحه ولا يبلغ الوزير مقصوده منه، وحكى أن الوزير بهاء الدين كان يختار أن يحضر القاضي تاج الدين إلى داره ولو عائداً له فاتفق أن مزاجه تغير وانقطع عن القلعة أياماً وتردد إليه الناس لعيادته ولم يفتقده القاضي تاج الدين فقال له أصحاب الوزير المختصون به لما يعلمون من إيثار الوزير لحضور القاضي لعيادته يا مولانا الصاحب بهاء الدين في شدة عظيمة وهو منقطع فلو عاده مولانا ما كان به بأس فقال إلى يوم الأربعاء وكان من عادته أن يتوجه إلى مصر في كل يوم أربعاء للحكم فيها بنفسه فلما كان يوم الأربعاء وأراد التوجه إلى مصر سلك الطريق الذي يمر فيها على دار الوزير فلما قرب من الباب أخبر الوزير بحضوره فقام من فراشه ونزل من الإيوان متلقياً له فلما دخل وجده في أرض الدار قائماً قال بلغنا أنك في شدة عظيمة وأنت تقوم سلام عليكم وعطف راجعاً ولم يزد على ذلك. علي بن أحمد بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن ميمون

أبو الحسن تاج الدين القيسي المصري المالكي المعروف بابن القسطلاني مولده ليلة السابع عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بمصر، تفقه وسمع من جماعة كثيرة وحدث بالكثير مدة ودرس بالمدرسة المالكية المجاورة للجامع العتيق بمصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل والدين والعدالة وحسن الخلق ولين الجانب ومحبة الحديث وأهله والتواضع والصلابة في الدين وتوفي بكرة السابع والعشرين من شوال بمصر ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله وكانت جنازته متوفرة الجمع. محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك وهو عمرو أبو الفضل بن أبي عبد الله ابن أبي الفتوح بن أبي سعد بن أبي سعيد شرف الدين القرشي التيمي البكري مولده بالقاهرة سنة تسعين وخمسمائة سمع من جماعة وأجاز له جماعة وحدث هو وأبوه وجده وأخوه صدر الدين البكري تقدم ذكره ونسبه إلى الصديق رضوان الله عليه فأغنى عن إعادته هنا توفي شرف الدين المشار إليه في الرابع من المحرم بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله. ملكشاه بن عبد الملك شمس الدين الحنفي المعروف بقاضي بيسان كان فقيهاً عالماً فاضلاً تولى نيابة الحكم بدمشق مدة ودرس بالمدرسة المعينية وكانت وفاته في سادس عشر صفر بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.

السنة السادسة والستون وستمائة

يعقوب بن نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي ابن صدقة أبو يوسف تاج الدين التغلبي الدمشقي المعروف بابن سنى الدولة وهو خالي شقيق والدتي مولده بدمشق في السابع من جمادى الأولى سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من حنبل وغيره وكان من الرؤساء العدول تولى عدة مناصب وكان موصوفاً بمعرفة صناعة الكتابة وتوفي ببعلبك وهو ناظرها وما أضيف عليها من الأعمال وكانت وفاته في العشر الآخر من ذي الحجة ودفن في حجرة الشيخ عبد الله اليونيني قدس الله روحه وكان تاج الدين سليم الصدر حسن الظن بالفقراء والصلحاء رحمه الله تعالى. يعقوب بن ... أبو يوسف شهاب الدين المعروف بابن الأنباري كان فاضلاً أديباً حسن النظم توفي في هذه السنة بحماة وقد جاوز سبعين سنة ومن شعره في الصفي بن الدجاجية وقد ولي الأهراء: ألا قل لسيف ملوك الزمان ... ومن هو إلب على من قسط وكلت وأنت امرؤ حازم ... إلى ابن الدجاجة رعى الحنط وأنت العليم به أنه ... إذا جاع وهو عليها لقط السنة السادسة والستون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة الجبل. وفي ثالث صفر قدم الأمير عز الدين الحلى من الحج فخرج

الملك الظاهر لتلقيه إلى البركة ثم توجه الحلى لزيارة القدس والخليل عليه السلام وعاد في سادس عشر ربيع الآخر فأعيدت إليه نيابة السلطنة بالديار المصرية. وفي عاشر صفر عقد مجلس بين يدي الملك الظاهر للضياء بن الفقاعي بحضور الصاحب بهاء الدين وجرى فيه ما اقتضى صرف الضياء والحوطة عليه وأخذ خطه بجملة من المال ولم يزل يضرب إلى أن مات وأحصيت السياط التي ضربها في نوب متفرقة فكانت سبعة عشر الفاونيف وسبعمائة سوط. وفيها وصل رسول المظفر شمس الدين يوسف صاحب اليمن إلى مصر ومعه فيل وحمار وحش معمد بأبيض وأسود وخيول وصيني ومسك وعنبر وغير ذلك من التحف وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط أنه يخطب له في بلاده فجلس الملك الظاهر بقلعة الجبل يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول واستدعى الرسول وقبل الهدية وبعث في جواب الرسالة الأمير فخر الدين إياز المقزي وعلى يده خلع وسنجق وتقليد بالسلطنة. وفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر إلى بركة الجب عازماً على قصد الشام وترك نائباً عنه للسلطنة الأمير بدر الدين الخازندار ورحل في رابع الشهر فوردت عليه رسل صاحب يافا بضيافة فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس العدة ليلاً وسار فصبح يافا فأحاط بها من كل جانب فهرب من كان بها إلى القلعة فملكت المدينة

وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم فركبوا في المراكب إلى عكا وملكت القلعة في الثاني والعشرين منه وهدمت والمدينة وكانتا من بناء ريدا فرنس لما نزل الساحل بعد كسرته وخلاصه من الأسر سنة ثمان وأربعين وستمائة وأصدرت كتب البشائر عن السلطان بفتحها فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله ابن عبد الظاهر مضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي اسمعه الله من البشائر أجملها، ومن التهاني أشملها، ومن تحيات النصر أفضلها، ومن سور الإتحاف بالظفر منزلها، تعلن ببشرى بفتح حسن استفتاحه، وتساوى في الجلالة غرره وأوضاحه، وأتى بسملة لهذه الغزاة المباركة التي بها تتبرك المهارق، ومفتاحاً لمغلق الحصون التي إن فتحها الله فلا مغلق، وإن سهلها فلا عائق، وذاك لأن يافا كانت قد كثر عدوان من فيها، وحصل من إضرارهم ما لا يقدر أحد على تدارك تحيفاتها ولا تلافيها، وصارت لعكا يسر الله فتحها طليعة مكر، ومادة كفر، منها يمتارون من كل ممنوع، وربما يأمنون من خوف ويشبعون من جوع، ويتطلعون إلى دار الإسلام منها من وراء زجاجة، ويجعلونها لهم باباً يتوصلون منه عند الإجاحة إلى ما في نفوسهم من حاجة، فلما توجهنا هذه الوجهة المباركة، وتعوضنا فيها عن إنجاد الملوك بالملائكة حرفنا إليها العنان يسيراً، وعرجنا عليها تعريج مستروح ثم يستأنف مسيراً، وطرقناها بكرة يوم الأربعاء

العشرين من جمادى الآخرة فما مضى إلا بقدر ما جردت السيوف من الإغماد، أخذت المعاول في العويل على أهل الإلحاد، ونطقت ألسن الأعلام بالنصر المبين، وتلقى النصر رايتنا باليمين، وطفنا بها طواف المناطق بالخصور، والشفاه بالثغور، وإذا بأهلها يطلبون الأمان على النفوس خاصة وإنهم يبذلون لنا كل ما لهم من مال وعلال وسلاح وغير ذلك فأجبناهم إلى ذلك وما فتحوا الأبواب إلا والرجال قد فتحت النقوب، ولا جيبوا الأطواق إلا والسيوف قد فتقت الجيوب، ولا خرجوا من قلتها إلا والابطال عليها قد علت، ولا طلعوا منها إلا والأولياء إليها وما حصلوا خارجها إلا والمقاتلة بها قد حصلت وتسلمناها وقلعتها فتحاً قريباً، وتسنمناها مرتعاً مريعاً ومربعاً خصيباً، وسطرناها في الساعة التي قام لسان العلم قبل سان القلم على منبرها خطيباً، فيأخذ حظه من بشرى جاءت طليعة لما بعدها من البشائر، وأقبلت مقهمة بأن لا بد بعدها من فتوحات تتبع الأوائل منها الأواخر والله تعالى يوفقه في الموارد والمصادر، إن شاء الله تعالى. فلما فرغ من هدم يافا رحل يوم الأربعاء ثاني عشر شهر رجب طالباً للشقيف فنزل عليه يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر وظفر بكتاب من الفرنج الذين بعكا يتضمن أعلام النواب بالشقيف إن المسلمين لا يقدرون على أخذ الحصن إن احتفظوا به وجدوا في تحصينه وينبهونهم على أماكن يخاف على الحصن منها إن أهملت فاستدعى ببعض من يكتب بالفرنجي

وأمره أن يكتب كتاباً يذكر فيه إمارات بينهم وبين أهل عكا استفادها من الكتاب ويحذر الكمندور المقيم بالشقيف من الوزير المقيم عنده ومن جماعة كانت اسماؤهم في الكتاب وكتاباً آخر إلى الوزير يحذره من الكمندور ويأمره إن احتاج إلى مال يأخذه من فلان وسمى شخصاً كان اسمه في الكتاب وتحيل في وصول الكتابين إليهم فلما وقفوا عليهما اختلفوا مع شدة الحصار بالزحف والمنجنيقات فالجأهم الخلف إلى أن أرسلوا إلى الملك الظاهر وقرروا تسليم الحصن وإن لا يقتل من فيه فتسلمه يوم الأحد تاسع عشرين شهر رجب وكان ملك الباشورة بالسيف في سادس وعشرين منه واصطنع الكمندور وكانت عدة من كان فيه أربعمائة وثمانين رجلاً واثنين وعشرين أخاً فأركبهم الجمال إلى صور وسير من معهم يحفظهم ممن يؤذيهم وأنشئت كتب البشائر إلى الأطراف فمنها كتاب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء كمال الدين أحمد بن العجمي رحمه الله مضمونه: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البشائر تحل به ربعاً، وتصنع لديه في الإبلاغ حسناً وتحسن صنعاً، وتسر بالإفهام والإلمام والإعلام له قلباً وبصراً وسمعاً، تعلمه بفتح أمست وجوه البشائر ببشره متهللة، وأسماع المنابر لوعيه متبتلة وفروض الجهاد به مؤداة ولكنها مشفوعة بالسيوف المسنونة والغزوات المنتفلة وهو فتح الشقيف الذي جاء بتناوب الإتحاف إلى القلوب، ويتناسب أنباؤه كالرمح أنبوب على

أنبوب، ويتعاقب مسراته إلى الإسلام كما تتعاقب الأنواء لنفع الثرى المكروب، وأقبل بعد فتح يافا كما تقبل البكر التي لا بد لها بعد سهولة الهداء من الامتناع عند الافتراع وتهادى تهادي الغيث الذي لا بد له عند نزوله من الرعد المرعج والبرق اللماع، كان نزولنا عليها في تاسع عشر شهر رجب المبارك سنة ست وستين وستمائة بعد أن سلكنا إليها في أوعار تتعثر بها ذيول الرياح، وهبطنا في أودية لا يأنس فيها إلا بمجاوبة الصدى لقعاقع السلاح، وصعدنا في جبال لا يرى الأشباح، منها إلا كالذر والذري إلا كالأشباح، وهذه القلعة من وجه هذه الشواهق بمكان الغرة، ومن كتابها بمنزلة الطرة، كأنها سمع تناجيه النجوم بأسرارها، أو راحة بما بسطته من أصابع شرفاتها وتلك البواشير منها بمنزلة سوارها، يكاد الطرف ينقلب عنها خاسئاً وهو حسير، وكل ذي جناح يغدو دون منالها يطير، قد أحكم بناؤها فلا أيدي المعاول لأطراف أسوارها مجاذبة، وحصن فناؤها فلا غير الغمائم لها مجاورة ولا غير الرعود لها مجاوبة قد تحصن بها من الكفر كل مستقتل، وتوطنها منهم كل جاهل يرجع في التحصن بها إلى منعتها وكيف لا وهو لها مستعمل، وقد انتخبهم الفرنج من بينهم انتخاب المناصل بسريع سهامه والمفاضل لبديع كلامه وحلوا منه ذروة بعيدة المنال، وتوقلوا صهوة لا تتخطى إليها الآمال، وكنا كما قد علم المجلس السامي أعزه الله قد سيرنا إليها العساكر الشامية تمسك

منها الخناق، وتأخذ منها بمجامع الأطواق، فخفت بها كما حفت الخواتم بالخناصر، أو كما حفت بالعيون الأهداب ودارت حولها سوراً ما له غير الخود من شرفات وغير نواهد الخيل من أبراج وغير حنايا السيوف من أبواب، وأحدقت بثغرها كما تحدق الشفاه بالثغور، وأطافت بها قبل إطافتنا كما يطوف البند قبل المنطقة بالخصور، وأقامت السمهرية ترمقهم بزرق عيونها والمشرفية، تتناعس لاستنامتهم بتغميض جفونها، وبقيت السنة الصناجق في أفواه غلفها صامتة لسماع الزحافات مصغية، وكواسر الآساد في آجامها من الرماح السمهرية مقعية، وصارت السهام في كنائنها تقلق، وأخشاب المجانيق لتفرق أجزائها تفرق، إلى أن بعثنا الله من فتحها إلى المقام المحمود، وانقضت مدة أرجائها في يد الكفر وما كان تأخيره إلا لأجل معدود، ونزلنا ربعها بالعساكر التي سيوفها مفاتيح الحصون، ورماحها أرشية المنون، فما نزلنا من ظهر جوادنا إلا على ظهر جبلها الذي حرته عن يمينه جنيبا، ولا ألقينا عصى التسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى. لتسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت

حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين

تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى. ثم رحل بعد أن رتب بها عسكراً في عاشر شهر شعبان منها

وبعث أكثر الأثقال إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشن عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها وذلك في رابع عشر الشهر ورحل إلى حصن الأكراد ونزل المرج الذي تحته فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة فأعادها عليهم وطلب منهم دية رجل من أجناده كانوا قتلوه مائة ألف دينار ثم رحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى أفامية ثم سار ونزل منزلة أخرى ثم رحل ليلاً وتقدم إلى العسكر بلبس العدة فنزل إنطاكية في غرة شهر رمضان فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطاً لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها من الأمراء جماعة لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب ومن وجد معه شيء أخذ منه فجمع منه ما أمكن وفرق على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم وحصر من قتل فيها فكانوا فوق الأربعين ألفاً وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من حلب وبلدها وكان الإبرنس صاحبها وصاحب طرابلس وأنشئت كتب البشائر، فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر مضمونها: أدام الله سعادة المجلس السامي القضائي ولا برح يؤثر البشائر، حشاياً المنابر، ويجزي من السرور الهاجم عيون المحابر، ويسجد لها قلم الناظم والناثر، ويتلقاها ببشر إذا تأمل قادمه قال كم ترك الأول للآخر، هذه المكاتبة تتحدث بنعمة الله التي تهلل بها

وجه الإيمان، وهلل بها من أهله كل لسان، وجاءت بحمد الله حلوة المجتنى، حافة بالنصر من هنا ومن هنا، وذاك بفتح إنطاكية التي لم تتطرق إليها الحوادث والخطوب، ولا طرق حديث فتحها إلا سماع ولا هجس في القلوب، وادخرها الله لنا ليخصنا بفتحها الوجيز، ويجعلها باباً لما يليها من بلاد الكفر نلج منه بمشيئة الله وما ذلك على الله بعزيز، وهو أنا لما فرغنا من فتوحاتنا التي سبق بها الإعلام، وإشاراتنا التي خصت وحصت طرابلس الشام، ثنينا العنان إلى هذه الجهة فشاهدنا منها ما يروق النواظر، ورأينا مدينة يجتمع داخل سورها الإنس والوحش والطائر، للاستيطان والبادي والحاضر، يحف بها أسوار لا يقطعها الطائف في يوم مسيراً، ولا يدرك الناظر من أولها لها أخيراً، وبها رجال غدوا إليها من كل حدب ينسلون، ومن كل هضبة ينزلون، وفي ظلال كل مطهم يتقيلون، وكان نزولنا عليها في يوم الأربعاء غرة شهر رمضان المعظم فلم يكن إلا بقدر ما نزلنا إلا ورسلهم قد حضروا ليمسحوا أطراف الرضا، ويتقاضوا من العفوا حسن ما يقتضى، فما ألوى عليهم حلمنا ولا عرج، ولا نفس عنهم كربة ولا فرج، فزحفنا عليهم في يوم السبت بكرة وهو رابع الشهر، فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار وقد دخلت عليهم من أقطارها، وتسور العسكر المنصور من أسوارها، وامتدت ألسنة الصوارم وأسنة الرماح، وشهرت البيض الصفاح، وأريقت الدماء واستحيت النساء وغنمت الأموال، وجدلت الأبطال، ووجد العالم من التحف والنعم ما لا كان يمر في خلد ولا يخطر في بال، وكتابنا هذا واليد الإسلامية

ذكر خلاص الأمير شمس الدين سنقر الأشقر

لها متسلمة، وفيها متحكمة، فالمجلس يأخذ حظه من هذه البشرى، ويرى منها هذه الآية الكبرى، وما نريهم من آية إلا هي أكبر من الأخرى، ويتلقاها ببشر فقد بعثنا بها إليه في أحسن رونق النصرة، وأقبلت بحمد الله كما بدأت أول مرة، فليشعها المجلس في كل باد وحاضر، ولينشر خبرها على أكباد المنابر، والله بكرمه يجعل سعادته من أتم الذخائر، إن شاء الله تعالى: كتب رابع شهر رمضان المعظم سنة ست وستين وستمائة. وإنطاكية مدينة عظيمة مشهورة مسافة سورها اثنا عشر ميلاً، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجاً، وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألفاً، ولما ملك الملك الظاهر إنطاكية وصل إليه قصاد من بغراس يطلبون تسليمها إليه فسير شمس الدين الفارقاني بالعساكر فوصل إليها فصادف أكثر أهلها قد نزح فتسلمها في ثالث عشر شهر رمضان وكان قد تسلم دركوش بوساطة فخر الدين الجناحي في تاسع رمضان وصالح أهل القصير على مناصفته ومناصفة القلاع المجاورة له وعاد إلى دمشق فدخلها سابع عشري شهر رمضان وعيد بقلعة دمشق. ذكر خلاص الأمير شمس الدين سنقر الأشقر كان الملك الظاهر لما أسر ليفون ابن صاحب سيس بعث إليه أبوه يطلب منه الفداء وبذل له مالاً جزيلاً فلم يقبله وطلب منه في الفداء أن يخرج الأمير شمس الدين من بلاد التتر فبعث إليهم متوسلاً بموات طاعته

لهم وبذل لهم مالاً كثيراً فلم يجيبوه، فلما استولى الملك الظاهر على إنطاكية بعث إليه هيتوم صاحب سيس رسولاً يبذل القلاع التي كان أخذها من التتر عند استيلائهم على حلب وهي دربساك وبهسنا ورغبان فأبى قبول ذلك إلا أن يحتال في إخراج سنقر الأشقر فسار إليهم بحيلة الاستغاثة بهم على الملك الظاهر واستصحب معه علم الدين سلطان أحد البحرية فكان يجتمع بسنقر الأشقر سراً وعليه زي الأرمن والأشقر يخاف أن تكون دسيسة عليه فلا يصغي إلى قوله ويقول ما أعرف صاحب مصر ولا أخرج من عند هؤلاء القوم فإنهم محسنون إلي، ولم يزل سلطان يذكر له إمارات وعلامات اهتدي بها إلى صحة مرامه فأذعن للهرب فلما خرج صاحب سيس لبس زيهم وخرج معهم فلما وصل به بلده سار علم الدين سلطان إلى الملك الظاهر وعرفه فبعث إلى القاهرة وأحضر ليفون فوصل إليه وهو على إنطاكية فسار به إلى دمشق فدخلها يوم السبت سابع عشر شهر رمضان. ثم سيره مع جماعة في سابع شوال فوصلوا به إلى سيس ووقفوا به على النهر بالقرب من دربساك ووصل الأمير شمس الدين مع جماعة من سيس ووقفوا به على جانب النهر ثم أطلق كل واحد منهما وتسلم منها نواب الملك الظاهر دربساك ورغبان ولم يبق إلا بهسنا وكان صاحب سيس سأل الأمير شمس الدين أن يشفع له عند الملك الظاهر في إبقائها عليه على سبيل الإقطاع فوعده بذاك ولما اتصل بالملك الظاهر قدوم الأشقر خرج من دمشق تاسع عشر شوال ونزل

ذكر قطيعة قررت على بساتين دمشق

القطيفة وبلغه أن الأشقر على خان المناخ فساق إليه وحده سراً فما أحس به إلا وهو على رأسه فقام إليه فترجل واعتنقا طويلاً وسارا حتى نزلا في الدهليز ليلاً، فلما أصبحا خرجا منه معاً فعجب العسكر كيف اجتمعا ولم يشعر بهما وعاد إلى دمشق في ثاني ذي القعدة وسأله الأمير شمس الدين في أمر بهسنا فتمنع فقال يا خوند قد رهنت لساني ووعدته ببلوغ قصده وقد أحسن إلي لما كنت عند التتر بما لا أقدر على مكافأته فأجابه الملك الظاهر إلى ما سأل. ذكر قطيعة قررت على بساتين دمشق كان الملك الظاهر قد احتاط عليها وعلى القرى الملك والوقف على أربابها وهو نازل على الشقيف وتحدث بذلك في السنة الخالية بحضور العلماء فقال القاضي شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي هذا لا يحل ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه وقام مغضباً وتوقف الحال، ولما وقعت الحوطة على البساتين صقعت بحيث عدمت الثمار بالكلية وظن الناس أنه يرق لهم فلما أراد التوجه إلى مصر عقد مجلساً بدار العدل وأحضر العلماء وأخرج فتاوي الحنفية باستحقاقها بحكم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح دمشق عنوة ثم قال من كان معه كتاباً عتيقاً أجريناه وإلا فنحن فتحنا هذه البلاد بسيوفنا ثم قرر عليهم ألف ألف درهم فسألوه أن يقسطها فأبى وتمادى الحال إلى أن خرج متوجهاً إلى مصر يوم الثلاثاء ثامن عشري ذي القعدة، فلما وصل اللجون عاوده الأتابك

ذكر أخذ مالك بن منيف المدينة الشريفة

وفخر الدين بن حناء وزير الصحبة فاستقر الحال أن يعجلوا منها أربعمائة ألف درهم ويعاد إليهم ما كان قبضه الديوان من المغل ويقسط ما بقي كل سنة مائتي ألف درهم وكتب بذلك توقيع قرئ على المنبر، ودخل القاهرة آخر نهار الأربعاء حادي عشر ذي الحجة. وفي ثاني عشر شوال خرج الركب المصري متوجهاً إلى الحجاز وسافر فيه الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين وعاد الركب خامس عشر صفر سنة سبع. ذكر أخذ مالك بن منيف المدينة الشريفة كان مالك بن منيف بن شيحة الحسيني قد قصد الملك الظاهر سنة خمس وستين بهدية جليلة لعلمه ما بين الملك الظاهر وبين عمه عز الدين جماز من الوحشة فقبلها وكتب له توقيعاً بالمدينة وبعث معه سليمان بن حجى فلما عاد وجد جماز بالفلاة فهجمها في هذه السنة واستولى عليها وحلف له أهلها وخرب دار جماز واستنجد جماز بأهل مكة وينبع وسار إليها فحصرها أياماً ووقع بينهما قتال أجلى عن قتلي كثير ثم اختلف جمازو أصحابه. وفيها قتل السلطان ركن الدين صاحب الروم وجلس ولده السلطان غياث الدين كيخسرو على التخت وعمره مناهز العشر سنين والبرواناة في نيابة السلطنة عن أبغا وجعل ابنه مهذب الدين على متكفلاً بأمر غياث الدين واستولى البرواناة على جميع البلاد ونفذ حكمه فيها لا يشاركه في ذلك غيره، ثم توجه البرواناة إلى أبغا وأخذ معه فرس

ركن الدين وسلاحه وهدايا جليلة لأبغا ووجوه دولته ووافى عنده صاحب سيس فجرت بينهما محاورة كل منهما يدعي على صاحبه أنه يكاتب صاحب مصر ثم عاد البرواناة ومعه أحأى أخو أبغا وصمغرا ليكونا معه في البلاد فلم تطل غيبته، فلما بلغ السلطان غياث الدين قدومهم خرج من قونية لتلقيهم فاجتمع بهم على سيواس. وفيها توفي إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة ابن مقدام بن نصر أبو إسحاق عز الدين المقدسي الحنبلي مولده في شهر رمضان سنة ست وستمائة سمع من أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وغيره وحدث وكانت وفاته في التاسع عشر شهر ربيع الأول بجبل الصالحية ظاهر دمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله، وكان إماماً علاماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً كريم الأخلاق لطيف الأوصاف لين الجانب شديد التواضع للفقراء والمساكين والضعفاء كثير الصدقة والبر والمواساة حريصاً على قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم لم يكن في هذا الوقت من يضاهيه في ذلك فيما علمنا، وهو من بيت العلم والعمل والصلاح وكان والده الشيخ شرف الدين عبد الله رحمه الله شيخ الحنابلة والمشار إليه فيهم وجده شيخ الإسلام أبو عمر محمد فشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمهم الله أجمعين. أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم أبو يوسف كمال الدين الحلبي المعروف بابن العجمي، كان رئيساً عالماً فاضلاً حسن الخط والإنشاء كتب للملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله ثم كتب للملك الظاهر

ركن الدين وكان من أعيان الكتاب وأماثلهم واسطة خير غزير المروءة حسن العشرة كريم الأخلاق وكانت وفاته ظاهر صور من بلاد الساحل في العشر الأول من شهر ذي الحجة وحمل إلى ظاهر دمشق فدفن بمقابر الصوفية رحمه الله. بولص الراهب المعروف بالحبيس، قد ذكرنا طرفاً من خبره في حوادث سنة ثلاث وستين وأنه كان كاتباً ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان من الديار المصرية فيقال أنه ظفر بمال مدفون في مغارة فواسى به الفقراء من كل ملة وقام عن المصادرين بجمل عظيمة ولم يزل على ذلك إلى هذه السنة فأحضره الملك الظاهر وطلب منه المال وان يعرفه من أين حصل له فلم يعرفه وجعل يغالطه ويدافعه ولا يفصح له بشيء البتة وهو عنده داخل الدور فلما يئس منه وأعياه أمره حنق عليه فعذبه حتى مات في العذاب ولم يقر بشيء فأخرج من قلعة الجبل ورمى ظاهرها على باب القرافة وكانت وصلت فتاوى فقهاء الإسكندرية إلى الملك الظاهر بقتله وعللوا ذلك بخوف الفتنة على ضعفاء النفوس من المسلمين فقتله كما ذكرنا وقيل أن مبلغ ما وصل إلى بيت المال منه وما واسى به في مدة سنتين ستمائة ألف دينار محصياً بقلم الصيارف الذين كان يجعل عندهم المال ويكتب إليهم أوراقه وذلك خارج عما كان يعطيه سراً بيده ومع هذا كان لا يأكل من هذا المال شيئاً ولا يلبس منه وكان النصارى يتصدقون عليه بما يمونه ويلبسه فانظر إلى هذه

النفس الأبية مما هي عليه من الضلال ولم يظهر بعد موته من تلك الأموال الدينار الواحد فما يعلم هل نفدت مع نفاد أجله وخفي أمر ما بقي منها ولم يطلع عليه وقيل كان اسمه ميخائيل ولم يشتهر إلا بالحبيس الراهب والله أعلم. عبد الخالق بن علي بن محمد بن الحسن أبو محمد تاج الدين، كان كاتباً مجيداً عارفاً بصناعة الحساب وولي عدة جهات ومناصب ببعلبك وأعمالها وكان من عدول بعلبك وأكابرها وكان ينبز بأحمر عينه لحمرة كانت في عينه. ووالده القاضي مهذب الدين أبو الحسن علي بن محمد الأسعردي ولي الحكم ببعلبك مدة في الأيام الصلاحية وغيرها وكان مشكور السيرة مشهوراً بوفور العلم والدين والسداد في الأحكام رحمه الله، وكانت وفاة تاج الدين المذكور في ويوم السبت تاسع ذي القعدة من هذه السنة وهو في عشر الثمانين ودفن بالقرب من دير إلياس عليه السلام ظاهر بعلبك رحمه الله تعالى. عبد العزيز بن منصور بن محمد بن محمد بن محمد بن وداعة أبو محمد عز الدين المعروف بابن وداعة الحلبي وقيل أنه كان في بداية أمره خطيباً بجبلة من أعمال الساحل ثم اتصل بالملك الناصر صلاح الدين يوسف وصار من خواصه ولما ملك دمشق ولاه شد الدواوين بدمشق وأعمالها وكان يعتمد عليه ويثق به وكان عز الدين يظهر التنسك والدين ويقتصد في ملبسه وسائر أحواله وكانت حرمته في الدولة الناصرية

وافرة ولما انقضت الدولة الناصرية وأفضت المملكة إلى الملك الظاهر ركن الدين ولاه وزارة الشام فلما ولي الأمير جمال الدين آقوش النجيبي رحمه الله نيابة السلطنة بالشام حصل بينهما وحشة باطنة وكان الأمير جمال الدين يكرهه. لتشيعه فإن الأمير جمال الدين المذكور كان غالباً في السنة وكان عند عز الدين تشيع فكان الأمير جمال الدين يسمعه في كل وقت من الكلام ما يؤلمه ويهينه فكتب إلى الملك الظاهر يذكر أن الأموال تنكسر وتنساق إلى الباقي ويحتاج الشام إلى مشد تركي شديد المهابة مبسوط اليد ويكون أمور الأموال والولايات والعزل راجعة إليه لا يعارض في ذلك والدرك في سائر هذه الأمور عليه ليلتزم بتثمير الأموال واستخراجها وزيادة ارتفاعاتها وكان قصده بذلك رفع يد الأمير جمال الدين عن ذلك وتوهم أن المشد الذي يتولى يكون بحكمه يصرفه كيف شاء ويبلغ به مقاصده وكان في الشد ... المسعودي وهو شيخ عاقل ساكن ليس فيه عسف ولا شر فرتب الملك الظاهر في الشد الأمير علاء الدين كشتغدي الشقيري وبسط يده حسبما اقترح عز الدين فلم يلبث أن وقع بينهما وكان الشقيري يهينه بأنواع الهوان فيشكو ما يلقى منه إلى الأمير جمال الدين النجيبي فلا يشكيه ويقول أنت طلبت مشداً تركياً وقد جاءك الذي طلبت ثم أن الشسقيري كاتب الملك الظاهر في حقه وأوغر صدره عليه فورد عليه الجواب بمصادرته فأخذ خطه بحملة عظيمة يقصر عنها ماله وأفضى به الحال إلى أن ضربه

وعصره وعلقه في قاعة الشد بدار السعادة وجرى عليه من المكاره ما لا يوصف فكان كالباحث عن حتفه بظلفه وباع موجوده وأماكن كان وقفها وقام بثمنها في المصادرة ثم طلب إلى الديار المصرية فتوجه وحدثته نفسه بالعود إلى رتبته فأدركته منيته في الديار المصرية عقيب وصوله إليها فإنه تمرض في الطريق ودخلها وهو مثقل فتوفي ودفن بالقرافة الصغرى قريباً من قبة الشافعي رضي الله عنه وقد نيف على خمس وسبعين سنة رحمه الله ومات في آخر ذي الحجة من هذه السنة وقيل أنه دفن في مستهل سنة سبع وستين وستمائة وهو في عشر السبعين وله وقف على وجوه البر وبنى بجبل قاسيون تربة ومسجدا وعمارة حسنة ولم يخلف ولد ولا رزقه في عمره كله ولا تزوج إلا امرأة واحدة في صباه وبقيت في صحبته أياماً قلائل ثم فارقها كذا أخبرني علاء الدين ولد أخيه بدر الدين. علي بن عدلان بن حماد بن علي أبو الحسن عفيف الدين الموصلي النحوي المترجم كان عالماً فاضلاً أديباً مفتناً شاعراً توفي بالديار المصرية في يوم الجمعة تاسع شوال ودفن من الغد بسفح المقطم ومولده بالموصل خامس وعشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خلكان رحمه الله لغزاً: أيها العالم الذي فضل العا ... لم علماً وسؤدداً وذكاء

والذي إن دعاه قاص ودان ... لملم عرا أجاب الدعاء أي لفظ عكست منه بناء ... لا ترى عكسه يحيل البناء وهو أن زال قلبه ينظر القلب كما كان قبل ذاك سواء هو في الأرض كلها لا ترى الربوة تخلو منه ولا البطحاء هو في الغرب موضع وترى التص ... حيف في الشرق بقعة غناء يدخل الحصن غادياً لا يرى الأذ ... ن ولو كان ربه عاد ياء وله في طب الطبيب مضاف ... إن تأملته تجده دواء إن تصحف ففرقه عطفت من ... بعد أخرى فقد كشفت الغطاء أظلمت طرق حله فأبنه ... عادة الشمس أن تفيد الضياء ذكر القاضي شمس الدين أنه حله فوجده سوس الطعام وكتب إليه القاضي شمس الدين من دمشق إلى مصر لغزاً في سراج: أيها العالم الذي ... صار حبراً ممارسا والذي موضحاته ... يجتليها عرائسا أي شيء ترى جمي ... ع الورى منه قابسا أن في السرب نصفه ... حيثما كان كانسا ثم صحف تمامه ... تلق ضوءاً مؤانساً واحذفن منه ثالثاً ... تنظرن فيه فارسا من يصحفه عاكساً ... يلف في الليل حارسا فكتب إليه عفيف الدين في الجواب:

أيها العالم الذي ... قام للدين حارسا والذي مبدعاته ... البستنا الطيالسا صغت لفظاً جذوته ... كان مولاي جالسا أبداً لا برحت تج؟ ... لو المعاني عرائسا يا ملاذي سررتني ... بعد أن كنت عابسا والذي أنهج المعمى وإن كان طامسا شرح الصدر لغزك ال؟ ... مستنير الحنادسا أنت والله وصفه ... لامرئ كان قابسا ؟ صحف الشرح لفظه لا تصحفه عاكسا فهو من مركب الرجا ... ل إذا كان فارسا وهو إن زال ربعه ... فهو يبدي الوساوسا جاءني بعد هجعة ... لم يخف فيه حارسا فاقل عثرتي إذا ... كان ما قلت هاجسا وكتب إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله من القاهرة إلى دمشق لغزاً في القطائف المحشو والمقلو وذكر أن البيتين الأخيرين منها لابن عنين: أحاجيك يا قاضي القضاة ومن سمت ... به الهمة العليا إلى المنصب العالي ومن قد غدا في كل فن مبرزاً ... على كل حبر كان في الزمن الخالي وأوضح بالفكر اللطيف عوامضاً ... ثوت برهة ما بيننا ذات إشكال بمطوية طي القباطي غذيت ... ألذ غذاء ثم علت بجريال

وأخت لها من جنسها هائم بها ... جميع الورى لكن لها واحد قالي عمر بن إسحاق بن هبة الله بن صديق بن محمود بن صالح أبو حفص الأمير عمد الدين الخلاطي مولده بخلاط في منتصف شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وكان فاضلاً عالماً حازماً جلداً خبيراً حسن التأني كريم الأخلاق جميل العشرة لطيف الحركات حلو المحادثة والمحاضرة توفي بحماة يوم الأحد الخامس والعشرين من المحرم ودفن من الغد رحمه الله ومن شعره: كلفت بوجه صاحب الحسن صاحبه ... تروي بماء الحسن فأخضر شاربه حوى قصص العشاق خط عذاره ... ولاغرو في الإيجاز فالله كاتبه وله: لا تعجبن إذا ما فاتك المطلب ... وعود النفس أن تشقى وأن تتعب إن دام ذا الفقر في الدنيا فلا تعجب ... مات الكرام وما فيهم فتىً أعقب وله: تجنب من الدنيا ولا تك واثقاً ... إليها وإن مالت إليك بمجهود ؟

فالطيب مأكول بها قيئي نحلة وأفخر ملبوس بها كفن الدود وله: يا ليلة الحاجر هل عودة ... ترى لوصل النازح الهاجر وهل يعيد الوصل قولي ترى ... هل عودة يا ليلة الحاجر أحبابنا بانوا فلم يكتحل ... بالغمض من بعدهم ناظري كان التمني فيهم أولى ... فصار يأسى منهم آخري ؟ وا حربا من عاذل عادل في الحكم عن إنصافه جائر يأمرين بالصبر عنهم ومن ... أين لقلبي جلد الصابر أبى شقائي في الهوى إنني ... أعيش إلا تعب الخاطر فيا مريقاً دم عشافه ... بصارم من طرفه الساحر بالأسود الفاتر حتى متى ... تفعل فعل الأبيض الباتر وله: سبت فؤاد المعنى ... لواحظ منك وسنى يمرضننا حيث نرنو ... وهن أمرض منا يا أكثر الناس حسناً ... أقلهم أنت حسنى رد الرقاد لعل ال؟ ... خيال يطرق وهنا وله: ولما دنا ممن أؤمل قربه ... بعاداً أذاب القلب بين الحوانح وسارت نواجي العيس عن أرض بارق ... بكل نضير الخد للبدر فاضح

وعاينت وخد الراقصات عشية ... وهز حدوج القوم بين الصحاصح وألفيت أبناء الهوى شارفوا أسى ... مناياهم ما بين باك ونائح ربحت دنو الدار دهراً قضيته ... وكنت غداة البين آخر رائح وله:؟ سحرته ألحاظ الحسان كما ترى وغذته البان الهوى فتحيرا وغدا يصون لذكر نجد دمعه ... فلا جل ذلك ما جرى إلا جرى يا طرف دع شكوى السهاد جهالة ... أنت الذي في بحره غرق الكرى وأنا الذي أصبحت أنزح ماءة ... أبغي الغريق به وها أنا لا أرى ؟ تشكو وأنت جنيت أسباب الهوى حتى حنيت بها العذاب الأكبر ما كنت في خلدي لرائعة النوى ... قبل الحمام مقدراً ومصورا فدنا بها زمن أساء ولم يكن ... من قبلها بنوى الأحبة أنذرا وأبادني ببعاد أهيف خده ... كالورد أزهر فوق غصن أزهرا فسرى الفؤاد وما أقام وحبه ... بين الجوانح قد أقام وما سرى وله: ومهفهف رطب المعاطف ناعم ... عذب المراشف طيب الأنفاس جمع المحاسن وجهه فكأنما ... هو روضة راقت على منعاس

فالنرجس الطرف المضاعف لوعتي ... وأقاحها ثغر جني وسواسي والخد يبدو محدقاً بعذاره ... كالورد حف به جني الآس سبحان من أنشأه من إحسانه ... حسناً فاصبح فتنة للناس قال كنت مجرداً مع العسكر الناصري على غزة سنة خمسين وستمائة وضجر العسكر من التجريد وطول المدة وكان الناس يقولون إن الشيخ نجم الدين الباذراني رسول الخليفة خرج من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية للصلح بين الملك الناصر وصاحب مصر وبعضهم يقول ما خرج فعملت: ؟ قالوا الرسول أتى وقالوا أنه ... ما رام يوماً من دمشق نزوحا كثر الخلاف وما ظفرت بمسلم ... يروي الحديث عن الرسول صحيحا وكان عماد الدين المذكور له حرمة وافرة عند الملوك ومكانة لطيفة منهم وكان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل شديد المحبة له والوثوق به والميل إليه والاعتماد عليه لا يفضل عليه أحداً من خواصه وأصحابه وكان مستحقاً لذلك ولما هو أبلغ منه، حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله عنه ما معناه أنه قال لما مات الملك الأشرف رحمه الله واستولى الملك الصالح عماد الدين على دمشق وما معها مما كان بيد الملك الأشرف من البلاد بالشام بلغه خروج الملك الكامل من الديار المصرية لقصده وانتزاع البلاد منه وعلم أنه يعجز عن مقاومته وأنه متى أظهر الانقياد إلى الملك الكامل تفلل عنه سائر من عنده من

الأمراء وغيرهم طلباً للحظوة عند الملك الكامل فلا يحصل على مقصوده منه: قال عماد الدين ما معناه فاتفقت معه في الباطن على أن يختلق لي حجة ويضربني بمحضر من الأمراء وأعيان الدولة ويعتقلني ويأخذ موجودي ففعل بي ذلك وأظهر أنه اطلع على أنني كاتبت الملك الكامل وبقيت في الجب أياماً ثم شفع في فأخرجني بعد أن قطع خبزي وأبعدني عنه فركبت وقصدت الملك الكامل فوافيته في الطريق فلما قيل له عني تعجب وقال كيف يفارق هذا لأخي مع وثوقه به ومحبته له فقيل له ما وقع في حقي فسكت وأكرمني وعدت معه فلما كان بعد يومين من وصولي إلى خدمته كتبت إليه ورقة مضمونها سؤال الحضور بين يديه خلوة فأحضرني ليلاً وأخلى مجلسه وقال لي قل فقلت لما كنت في الجب بقلعة دمشق حملت رسالة إلى مولانا السلطان وحلفت أن لا أقولها إلا بعد أن يحلف مولانا السلطان باليمين التي استحلفه بها أنه لا يطلع عليها أحداً من خلق الله تعالى فقال نعم إلا يوسف بن الشيخ " فما عن العجوز سمر محجوز " فقلت يا خوند إلا الأمير فخر الدين ابن الشيخ فأمر بإحضار المصحف الكريم واستحلفته على ما أردت فلما فرغ من اليمين قمت وقبلت الأرض وقلت يا خوند مملوك مولانا السلطان إسماعيل يقبل الأرض فعند ما ذكرت ذلك نهض قائماً وخدم وتهلل وجهه وقال قل فقلت يقول أنه ما كان يحتاج مولانا السلطان بتكلف الحركة بل كان سيزقرا غلام من بابه الكريم بمثال شريف

منه سلم إليه البلاد وحضر بنفسه معه وليس هو عند نفسه ممن يقاوم مولانا السلطان أو يمانعه فقال اكتب إليه واخدمه مني وقل له يطيب قلبه ويحصن مدينته ويجتهد على حفظها فإني ما أختار أكسر حرمة أخي ولا حرمة دمشق عند الملوك ولا يزال علي إلى أن أقول له ما يفعل ثم قال لي والله كنت قد سقطت من عيني بمفارقتك لأخي والآن فقد نبلت عندي وعظمت في صدري فقبلت الأرض ودعوت له: قال عماد الدين فكتبت إلى الملك الصالح وعرفته ذلك وجاءني الجواب ولم تزل المكاتبة بيننا متواصلة فكنت أوقف الملك الكامل على كتب الملك الصالح وأكتب ما يأمرني به وحضر الملك الكامل وحاصر دمشق وأنا كل وقت أتقاضاه في تسلم البلد وهو يقول اصبر فلما كان في بعض الأيام طلبني فدخلت عليه فوجدته شديد الغضب لقتل بعض الأمراء الأكابر من أصحابه فلما وقفت بين يديه انتهرني وقال وصلنا إلى هذا الحد فقلت يا خوند لو رسمت دخلت القلعة يوم وصولك لكن مولانا السلطان اقتضى رأيه الشريف أن يجري الأمر على هذه الصورة فقال اكتب إليه وقل له يخرج فقد أخذت المسألة حقها وايش يريد أعطيه حتى أحلف له عليه فقلت يا خوند هو مملوك مولانا السلطان وأخوه وما يقترح شيئاً بل مهما تصدق به مولانا السلطان عليه قبله وإن رسم أن يكون رمحه تحت ركاب مولانا السلطان في الحلقة فهو راض بذلك فقال لا والله إلا أعطيه من البلاد ما يرضيه فكتب إليه فخرج تلك الليلة بالليل فتلقاه الملك الكامل وبالغ في احترامه وإعظامه وأعطاه

بعلبك وأعمالها وبصرى وغير ذلك وجميع الحواصل وأعاده في ليلته إلى القلعة فبات بها ثم خرج من القلعة وضرب دهليزه قريب دهليز الملك الكامل وكل يوم يحضر إلى الخدمة فيجد من إكرامه ما لا كان يرجوه، فلما كان بعد أيام قال لي الملك الكامل ما تقول للمولى الملك الصالح يروح إلى بلاده فقلت يا خوند يريد سنجقا وخلعة قال إيش هذا الكلام؟ الملك الصالح ملك مثلي يريد خلعة وسنجقا قلت والله يا خوند ما يروح إلا بهذا قال بسم الله وسير له خلعة عظيمة وعدة خيول وعشرة آلاف دينار مصرية وسنجقا فتوجه إلى بعلبك وودعه الملك الكامل ثم قلت للملك الكامل يا خوند مملوك مولانا السلطان ليس له مكانا يجيئه منه سكر يأكله وما يحسن به أن يشتري السكر في أيام مولانا السلطان فأطلق له قرى في الغور يتحصل منها جملة عظيمة من السكر وغيره وسافر إلى بعلبك على هذه الجملة وأعطاني من ذلك الذهب خمسمائة دينار اشتريت بها مملوكاً، ووالده أبو البشائر قاضي خلاط كان فقيهاً شافعياً عالماً أصولياً واعظاً شاعراً حسن الكلام في الوعظ والتذكير، له مصنفات في علم الأصول وكان من محاسن القضاة وظرافهم يرجع إلى عفاف ونزاهة ودين قدم مدينة إربل واستوطنها إلى أن توفي بها يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ومن شعره رحمه الله: مولانا السلطان ليس له مكانا يجيئه منه سكر يأكله وما يحسن به أن يشتري السكر في أيام مولانا السلطان فأطلق له قرى في الغور يتحصل منها جملة عظيمة من السكر وغيره وسافر إلى بعلبك على هذه الجملة وأعطاني من ذلك الذهب خمسمائة دينار اشتريت بها مملوكاً، ووالده أبو البشائر قاضي خلاط كان فقيهاً شافعياً عالماً أصولياً واعظاً شاعراً حسن الكلام في الوعظ والتذكير، له مصنفات في علم الأصول وكان من محاسن القضاة وظرافهم يرجع إلى عفاف ونزاهة ودين قدم مدينة إربل واستوطنها إلى أن توفي بها يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ومن شعره رحمه الله:؟ وقفت وربع العامرية داثر ودمعي ووجدي سابق متواتر وقفت وذكراها تجدد لوعتي ... وأبكي كما تبكي الغوادي البواكر

واذكر أياماً مضت ولياليا ... وأظهر فيها ما تجن الضمائر غداة النقا بالباهلية آهل ... وحين الصفا بالعامرية عامر وقفت أدير الطرف في عرصاتها ... وأطلالها دارت عليها الدوائر ومن حب تلك الغانيات عواطلاً ... لقد سكنت فيها المها والجآذر لنفرة أنس وانتفاء بمالكي ... تملك ربع الآنسات النوافر فخالفني الآمال في سائر المنى ... ووافقني بيت من الشعر سائر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فقلت لصحبي قد ثنتني عزيمة ... أوائل حزن ما لهن أواخر إلى أشرف الأملاك موسى الذي له ... إياد على وجه الزمان زواهر ومن شعره: قالوا الهلال وعندي في مجالستي ... بدر بوجه على شمس الضحى سادا وفي فؤادي لهذا البدر منزلة ... ما نالها أحد قبلي ولا كادا ليس الهلال بمحبوب لذي إرب ... وإن حببناه أحياناً وأعيادا هذا يزيد حياتي في مجالستي ... وذاك ينقص عمري كلما زادا محمد بن حامد بن كعب المنعوت بالقمر الشروي الأصل البعلبكي المولد والمنشأ والوفاة كان جسيماً وسيماً شجاعاً شديد القوى وهو مع ذلك رقيق الحاشية يذاكر بالأشعار والحكايات والنوادر وهو عنده مكارم أخلاق وفتوة ومروءة وعصبية وحسن عشرة ومعفرة بالأكابر والأعيان وكلمته مسموعة عندهم وحرمته وافرة ليدهم وكانت

وفاته ببعلبك في شهر المحرم ودفن بظاهرها وهو في عشر الثمانين رحمه الله. محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن محمد بن قاسم بن محمد ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن الحسين ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أبو عبد الله الحسيني الكوفي الأصل المصري المولد والدار المعروف والده بالحلبي مولده عشية السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بالقاهرة قرأ القرآن الكريم واشتغل بالعربية والأصول وبرع فيهما وسمع من أبي طاهر محمد بن محمد بن بيان الأنباري والشريف أبي محمد عبد الله ابن عبد الجبار العثماني وأبي محمد عبد القوي بن أبي الحسن القيسراني والأمير أبي الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ وآخرين غيرهم وحدث وأقرأ العربية وغيرها مدة: وكان عالماً فاضلاً رئيساً صدراً كبيراً ذا فنون متعددة ومعارف جمة مع ما هو عليه من حسن الطريقة وكرم الأخلاق وكان مؤثر الانفراد والتخلي محباً في الانقطاع والعزلة وعدم الاختلاط بالناس ذا جد وعمل وعبادة وأبوه أبو القاسم عبد الرحمن كان كان الفضلاء المشهورين وله تصانيف حسنة وطريقة جميلة رحمه الله وكانت وفاة الشريف أبي عبد الله محمد المذكور ضحى نهار السادس من صفر بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله. قليج أرسلان بن السلطان غياث الدين كيخسرو بن السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج

أرسلان بن سليمان بن قطلمش بن آتس بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان ركن الدين السلجوقي صاحب الروم كان ملكاً جليلاً شجاعاً كريماً لكنه لم يكن أحكمته التجارب فترك الحزم وفوض الأمور إلى معين الدين سليمان البرواناة واشتغل بلهوه فاستقل البرواناة بالتدبير واستفحل أمره ثم رام ركن الدين قتله والراحة منه واستشعر البرواناة ذلك منه فعمل على قتله حتى قتل في هذه السنة، وشرح الحال في ذلك إن البرواناة لما عظم شأنه واستولى على الممالك ولم يبق للسلطان ركن الدين معه كلمة استشعر البرواناة منه فرتب ضياء الدين محمود بن الخطير معه حريفاً ونديماً ليطلعه على سره في حال السكر ويكون عيناً للبرواناة عليه فحمل السلطان ركن الدين السكر على أن قال لضياء الدين ابن الخطير قد اتخذت سكيناً لقتل البرواناة وكانا بقونية فكتب ضياء الدين إلى أخيه شرف الدين بن الخطير يعرفه فأخبر شرف الدين البرواناة بذلك فكتب البرواناة إلى أبغا يذكر أن نية ركن الدين قد تغيرت فيك وربما كاتب صاحب مصر ليسلم إليه البلاد فعاد الجواب إذا ثبت ذلك عند نوابي المغل فافعل ما تختار ثم إن ركن الدين بعث يستدعي البرواناة فكتب إليه خواجا على الوزير يحذره من الوصول إليه فقصد البرواناة أمراء المغل وهم نابشي ويينال وكداي وبرد وأبكان ونوغاتمر

وغيرهم بهدية سنية ففرقها فيهم وعرفهم أن السلطان ركن الدين استدعاه ليقتله وينتمي إلى صاحب الديار المصرية ويقتلكم عن آخركم فرحلوا معه وقصدوا أقصراً فلما وصلوها كتبوا إلى السلطان ركن الدين كتاباً يطلبون الحضور ليجتمع معهم على مصلحة أمرهم بها أبغا، فلما وقف على الكتاب خرج من قونية وأشار عليه خواصه أن لا يفعل فلم يصغ إلى رأيهم فلما بلغ البرواناة قدومه ركب ومعه المغل فلما التقوا ترجل البرواناة على عادته وقبل الأرض فقال له السلطان كيف أنت يا أبي؟ فقال يا خوند تقصد قتلي وتسأل عني فقال له حاشاك ثم نزل إلى الدار وشرب مع المغل فدك عليه البرواناة سما فأدرك ذلك فخرج وقاء ما شربه وركب فرسه وانصرف لينجو بنفسه فتبعه الصاحب فخر الدين خواجا وتاج الدين مبشر وغيرهما وأشاروا عليه بالرجوع ليقرأ عليه يغلغا فقال لهم إني أخاف من القتل فحلفوا له فرجع معهم وأنزلوه بخركاه نابشي بمفرده ولم يصحبه غير مملوك واحد وجميع من كان معه من الجند والمماليك وقوف على بعد ثم دخل عليه المغل وفاوضوه في الكلام وقالوا له لم عزمت على قتل البرواناة فقال لم يكن ذلك وإن كنت قلته ففي حال السكر فقالوا: إن أردت أن تنجو فقل لنا من كان اتفق معك على قتله؟ فذكر لهم جماعة فلما سماهم لهم قام أحد المغل ووضع في حلقه وتراً وخنقه به حتى مات، وكان حول الخركاه جماعة من المغل يصفقون ويلغطون لكي لا يسمع صوته وضربه شرف الدين بن الخطير

السنة السابعة والستون وستمائة

فكسر يده ثم جعلوه في محفة وكتموا موته وأذاعوا أنه ضعيف ولم يزالوا يدخلون عليه في سيره بالمأكول والمشروب إلى أن وصلوا قونية فاظهروا موته وأنه وقع من على الفرس فمات وكان عمره يومئذ ثماني وعشرين سنة وأجلسوا ولده غياث الدين كيخسرو على التخت. ؟؟ السنة السابعة والستون وستمائة دخلت والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا السلطان ركن الدين قليح أرسلان صاحب الروم فإنه قتل وولى بعده ولده السلطان غياث الدين كيخسرو كما تقدم. متجددات هذه السنة استهلت والملك الظاهر بقلعة الجبل وفي يوم الخميس تاسع صفر جلس في الإيوان بالقلعة وأحضر القضاة والشهود وتقدم بتحليف الأمراء ومقدمي الحلقة لولده الملك السعيد فحلفوا ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبهة الملك في القلعة ومشى والده أمامه في القلعة وكتب له تقليد وقرئ على الناس بين يدي الملك الظاهر بحضور الصاحب بهاء الدين وأعيان الأمراء والمقدمين. وفي يوم السبت ثالث عشر جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من قلعة الجبل متوجهاً إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد واستناب بالديار المصرية في خدمة ولده الأمير بدر الدين الخازندار ومن ذلك التاريخ علم الملك السعيد على التواقيع والمناشير وغيرها ووردت إليه

كتب والده وكتب نواب بسائر المملكة. ولما استقر الملك الظاهر بدمشق وصل إليه رسل من التتر مجد الدين دولة خان ابن جاقر وسيف الدين سيعد ترجمان وآخر من المغل ومعهم جماعة من أصحاب سيس فأنزلهم بالقعلة وأحضرهم من الغد وأدوا الرسالة ومضمونها: إن الملك أبغا لما خرج من الشرق تملك جميع العالم ومن خالفه قتل فأنت لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منا فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحاً وأنت مملوك أبعت في سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض فأجابهم من وقته بأنه في طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفرهم. ووصل إليه الأمير سيف الدين محمد بن الأمير مظفر الدين عثمان ابن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون باستدعاء وقدم مفاتيح صهيون فخلع عليه وأبقاه على ما في يده. وفي آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق فنزل خربة اللصوص فأقام بها أياماً ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرف الفارقاني أنه يغيب أياماً معلومة وقرر معه أنه يحضر الأطباء كل يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعك يشكو تغير مزاجه ليوهم أن الملك الظاهر هو المتوعك فكان يعمل ما يصفونه ويدخل به إلى الدهليز ليوهم العسكر

صحة ذلك ووصل إلى قلعة الجبل ليلة الخميس حادي عشري شعبان وأقام بها أربعة أيام ثم توجه ليلة الاثنين خامس عشري الشهر على البريد فوصل إلى العسكر تاسع عشرينه وكان غرضه كشف حال ولده وغيره. وفي يوم الأحد سادس عشر شهر رمضان تسلم نواب الملك الظاهر قلعة بلا طنس وقلعة بكسراييل بن عز الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكورس بن جيردكين صاحب صهيون وعوضه عنهما قرية تعرف بالحملة من أعمال شيزر كانت إقطاعاً لمظفر الدين في الدولة الناصرية وبعث إليهما نواباً وأموالاً وذخائر وسلاحاً. وفي يوم الخميس العشرين من رمضان توجه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شن الغارة على بلد صور وأخذ شيئاً كثيراً وسبب ذلك أنه لما كان نازلاً على خربة اللصوص رفعت إليه قصة من امرأة تذكر أن ولدها دخل صور فقبض عليه وقتل. وفيها عيد الملك الظاهر عيد الفطر بالجابية وصلى به الشريف شمس الدين سنان بن عبد الوهاب الحسيني خطيب المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه وكان قد وصل رسولاً من جماز في السنة الخالية فحبسه الملك الظاهر بقلعة دمشق ثم أطلقه في شهر رمضان هذه السنة لرؤيا رآها وكتب له تواقيع بإجرائه على عادته في خطابته وقضائه وإدرار ما لمتولي المدينة بديار مصر والشام من الوقوف والرواتب

ثم جهزه وجهز معه الطواشي جمال الدين محسن وبعث معه خمسمائة غرارة من الكرك يفرقها فيمن بالمدنية من الضعفاء والمجاورين ثم رحل الفوار وأقام به إلى خامس عشري شوال ثم توجه إلى الكرك فوصله في أوائل ذي القعدة ثم توجه في سادسه إلى الحجاز وصحبته بدر الدين الخازندار وصدر الدين سليمان الحنفي وفخر الدين بن لقمان وتاج الدين بن الأثير ونحو ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة فوصل المدينة الشريفة في العشر الأخر من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام وكان جماز قد طرد مالكاً عن المدينة واستقل بإمارتها فلما قدم الملك الظاهر هرب من بين يديه فقال الملك الظاهر لو كان جماز يستحق القتل ما قتله لأنه في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تصدق في المدينة بصدقات كثيرة وخرج منها متوجهاً إلى مكة فوصلها ثامن ذي الحجة فخرج إليه أبو نمي وعمه إدريس صاحبا مكة وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات فوقف بها يوم الجمعة ثم سار إلى منى ثم دخل مكة وطاف الإفاضة وصعد الكعبة وغسلها بماء الورد وطيبها بيده ثم أقام يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة ثم توجه إلى المدينة الشريفة فزار بها قبر النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية ثم توجه إلى الكرك فوصله يوم الخميس تاسع عشري منه فصلى به الجمعة ثم توجه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثاني المحرم سنة ثمان وستين وستمائة سحراً فخرج الأمير جمال الدين النجيبي فصادفه في سوق الخيل فاجتمع به ثم سار

ذكر ما تجدد في هذه السنة من حوادث بلاد الشمال والعجم

إلى حلب فوصلها في سادس المحرم ثم خرج منها في عاشره وسار إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر فوصلها يوم الثلاثاء ثالث صفر وكان الركب قد خرج من مصر صحبة الأمير عز الدين الأفرم وفيه والدة الملك السعيد ووالدة الخازندار والصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين والصاحب تاج الدين أخوه واتفق وصول الركب إلى البركة ووصول الملك الظاهر فدخلا يوم الأربعاء رابع صفر. وفي هذه السنة تقدم الملك الظاهر بالحوطة على أملاك حلب بأسرها وأن لا يفرج عن شيء منها إلا بكتاب عتيق من الأيام الناصرية أو ما قبلها. وفي سابع عشري ذي الحجة هبت ريح شديدة عاصف بالديار المصرية غرقت مراكب في النيل نحواً من مائتي مركب فهلك فيها خلق كثير وأمطرت قليوب مطراً غزيراً وكان بالشام من هذه الريح صقعة أحرقت الأشجار. ؟ ذكر ما تجدد في هذه السنة من حوادث بلاد الشمال والعجم منه عصيان باكودر بن عم برق وقيل أخوه على أبغا وسبب ذلك أن برق بعث إلى عمه سراً يشير عليه أن يخرج من طاعة أبغا وينضم إلى منكوتمر فاطلع أبغا على ذلك فاستدعى المذكور فامتنع من الحضور وكان بقربه طائفة من عسكر أبغا فبعث طلبهم فأجابوه خوفاً منه فرحل

بهم نحو بلاد منكوتمر فلما بلغوا أعمال تفليس أظهروا الخلف عليه وكانوا ثلاثة آلاف فارس وبعثوا إلى أبغا يعرفونه فجمع أكابر دولته واستشارهم فأشروا بإرسال عسكر يقفوا أثره فبعث أباطي ومعه ثلاثة آلاف فارس واستدعى البرواناة وصمغرا ومن معهما من العساكر فلما حضروا أردف بهم أباطي فلحقوه فكانت عدتهم ثلاثين ألفاً ودخلوا بلاد باباسركيس ملك الكرج وعضدهم بألفي فارس فلما التقى الجمعان كانت الكسرة على باكودر ونجا بنفسه في ثلاثمائة فارس وانحاز باقي عسكره إلى عسكر أبغا وأخذ باكودر نحو جبال الكرج وكان بها نبات مسموم فرعته دوابه فهلكت فلم يبق معه غير أربعة عشر فرساً فقصد أبغا مستسلماً فعفا عنه ثم قصد أبغا بلاد باباسركيس واستولى منها على قلاع كان قد تغلب عليها الكرج وأخذوها من الملك الأشرف بن العادل رحمه الله وهي موكرى وقلعة مامرون وقلعة أولبي وكان بها بعض الكررج وطائفة من المسلمين فجلا الكرج عنها وأبقى المسلمين وعاد عسكر أبغا إلى أردوه وصمغرا والبرواناة إلى بلادهم، ولما بلغ برق ما جرى على ابن عمه باكودر جمع وحشد وقصد تبشير أخا أبغا فكسره واستأصل رجاله ونهب حريمه فبعث تبشير إلى أخيه يستصرخه ويحرضه فعزم على قصده وبعث إلى أطراف بلاده لطلب عساكره وسيأتي ذكره في سنة ثمان وستين إن شاء الله تعالى.

فصل

فصل وفيها توفي إبراهيم بن عيسى بن يوسف أبو إسحاق المرادي الأندلسي. كان فاضلاً عالماً عابداً ورعاً وافر الديانة كثير الضبط والتحقيق لما يكتبه سمع وحدث وباشر إمامة المدرسة الباذرانية بدمشق مدة وحصل كتباً جيدة نفيسة ووقفها على من ينتفع بها من المسلمين وجعل نظرها إلى علاء الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ رحمه الله، وكانت وفاة الشيخ أبي إسحاق المذكور بالديار المصرية في ليلة الخامس من ذي الحجة ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بالقرب من تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو في عشر السبعين رحمه الله. إبراهيم بن ... أبو زهير المباحي كان يجني المباح من جبل لبنان وغيره ويتقوت به ولم يزل على ذلك إلى أن أقعد في آخر عمره فانقطع في مغارة ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك يتعبد بها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء رابع وعشرين جمادى الأولى وقد نيف على المائة سنة، وكان رجلاً صالحاً متعبداً سليم الصدر جداً ودفن بمغارته رحمه الله. أحمد بن عبد الواحد بن مري بن عبد الواحد أبو العباس تقي الدين المقدسي الحوراني مولده في نصف صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة سمع وحدث وكان من المشايخ الصلحاء العلماء الزهاد العباد الجامعين بين العلم والدين والفضيلة والزهد في الدنيا وأهلها وعنده جد واجتهاد

وقوة نفس وإقدام وتجرد وانقطاع ومعرفة بطريق القوم وكانت وفاته في شهر رجب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن بها رحمه الله. إيدمر بن عبد الله الأمير عز الدين الحلي الصالحي النجمي كان من أكابر أمراء الدولة وأعظمهم محلاً عند الملك الظاهر وكان نائب السلطنة عنه بالديار المصرية في حال غيبته عنها لوثوقه به واعتماده عليه وسكونه إليه وكان قليل الخبرة لكن رزق من السعادة ما مشى أموره وكان محظوظاً في الدينا له الأموال الجمة والمتاجر الكثيرة والأملاك الوافرة وأما ما خلف من الخيول والجمال والبرك والعدة فيقصر الوصف عنه، وكانت وفاته بقلعة دمشق في ويوم الخميس سابع شعبان ودفن بتربته بسفح قاسيون جوار مسجد الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله وقد نيف على الستين من العمر رحمه الله. الحسن بن علي بن أبي نصر ابن النحاس أبو البركات شهاب الدين الحلبي المعروف بابن عمرون منسوب إلى جهة الأم التاجر المشهور كانت له نعمة ضخمة ومتاجر كثيرة وأموال عظيمة وحرمته وافرة ومكانته عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسلفه وأكابر أمراء الدولة عظيمة ومنزلته لديهم رفيعة، ولما ملك الملك الناصر دمشق كان المذكور إذا قدم عليه بالغ في إكرامه وتلقيه وإقامة حرمته وإنزاله في أجل الأماكن وترتيب الإقامة له مدة مقامه وسائر أرباب الدولة يعاملونه بما يناسب ذلك ولما استولى التتار على حلب سنة ثمان وخمسين

لم يتعرضوا لداره وما يجاورها من الدرب جملة كافية كأنه ضمن لهم مبلغاً كثيراً على أن يحموها من النهب ففعلوا وآوى إليها والي دربه من أهله حلب وغيرهم ومن الأموال ما لا يحصى كثيرة فشملت السلامة لذلك جميعه وقام لهم بما كان التزمه من صلب ماله ولم يستعن على ذلك بما لأحد ممن آوى إليه فكانت هذه مكرمة له وتمزق معظم أمواله وخربت أملاكه وبقي معه اليسير بالنسبة إلى أصل ماله فتوجه به إلى الديار المصرية في أوائل الدولة الظاهرية فلزمه مغرم عظيم للسلطان أتى على قطعة وافرة مما تبقى معه واستوطن ثغر الإسكندرية إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى بالإسكندرية في بوم الجمعة ثالث وعشرين شعبان ودفن هناك رحمه الله وقد نيف على الثمانين سنة بقريب ثلاث سنين وكان عنده رياسة وسعة صدر وكرم طباع يسمح ما تشح أنفس التجار ببعضه إطلاقاً وقرضاً وأكابر الحلبيين يعرفون رئاسته وتقدمه لا ينكرون ذلك، وأبو نصر المذكور هو فيما أظن محمد بن الحسين بن علي ابن النحاس الحلبي كاتب تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس وهو صاحب المكاتبة إلى سديد الملك بن منقذ صاحب شيزر. وشرح الحال في ذلك أن سديد الملك أبا الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني كان يتردد إلى حلب قبل تملكه شيزر وصاحب حلب يومئذ محمود المذكور فجرى أمر خاف سديد الملك على نفسه منه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يوم ذاك جلال الملك بن

عمار فأقام عنده فتقدم محمود بن صالح إلى كاتبه أبي نصر محمد المذكور أن يكتب إلى سديد الملك كتاباً يشوقه ويستعطفه ويستدعيه إليه ففهم الكاتب أنه يقصد له شراً وكان صديقاً لسديد الملك فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى أن شاء الله تعالى فشدد النون وفتحها فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار ومن بمجلسه من خواصه فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه فقال سديد الملك إني أرى في الكتاب ما لا ترون ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة الكتاب أنا الخادم المقر بالأنعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه الكاتب سر بما في هذا وقال لأصدقائه قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك وقد أجاب بما طيب نفسي وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " فأجاب سديد الملك بقوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها " فكانت هذه معدودة من تيقظ الكاتب وفهمه تيقظ سديد الملك ابن منقذ أيضاً وإفراط ذكائه وفطنته وكلاهما غاية في ذلك وابن منقذ أشد فطنة في هذا الموطن والله أعلم. سليمان بن داود بن موسك أبو الربيع الروادي الهذباني أسد الدين ابن الأمير عماد الدين بن الأمير عز الدين من بيت الإمرة والتقدم والاختصاص بالملوك كان والده عماد الدين أخص الناس بالملك الأشرف ابن العادل وأظن بينهما قرابة من جهة النساء وجده الأمير عز الدين

موسك كان من أكابر أمراء صلاح الدين وذوي المكانة عنده وله به اختصاص عظيم وقرب كثير موصوف بالكرم والفطنة أما كرمه فمشهور لم يخيب مؤمله بل ينوله مقصوده بما له وجاهة، وأما فطنته فحكى لي عنه أن ركن الدين محمد الوهراني المشهور كان قدم الديار المصرية في الأيام الصلاحية وتعرض للأمير عز الدين مسترفداً له فأمر له بشيء لم يرضه فحضر مجلس الأمير عز الدين أحفل ما يكون وقال يا مولانا قد احتجت أن أحلق رأسي في هذه الساعة واشتهى أن تأمر بعض الطشت دارية أن يحلقه بحضرتك فأمر بذلك فلما حضر الحلاق فهم الأمير عز الدين ما أراد بذلك فقال لبعض مماليكه أعطه مائة دينار وقال له يا ركن الدين أحلق بها رأسك غير هنا فأخذها وانصرف وهو شاكر فقال بضع الحاضرين للأمير عز الدين في ذلك فقال أراد أن الحلاق إذا حلق يقول له يا مهتار موسك نجس فيشتمنا في وجوهنا بحضوركم فافتدينا منه بهذه الدنانير فعرف بذكائه مراد الوهراني، وكان أسد الدين صاحب هذه الترجمة عنده فضيلة وله يد جيدة في النظم وترك الخدم وتزهد ولازم مجلس العلماء ولبس الخشن من الثياب وكان له نعمة عظيمة ورثها من أبيه فأذهب معظمها ولم يبق له إلا صبابة يسيرة تقوم بكفايته يقتنع بذلك إلى حيث توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق في يوم الثلاثاء مستهل جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون ومولده بالقدس

الشريف في حدود سنة إحدى وستمائة أو ستمائة تقريباً رحمه الله ومن شعره: ما الحب إلا لوعة وغرام ... فحذار أن يثنيك عنه ملام الحب للعشاق نار حرها ... برد على أكبادهم وسلام تلتذ فيه جفونهم بسهادها ... وجسومهم إذا شفها الأسقام ولهم مذاهب في الغرام وملة ... أنا في شريعتها الغداة إمام ولهم وللأحباب في لحظاتهم ... خوف الوشاة رسائل وكلام لطفت إشارتها ودقت في الهوى ... معنى فحارت دونها الأفهام وتحجبت أنوارها عن غيرهم ... وجلت لهم أسرارها الأوهام ومنها: فأليك عذلي فإن مسامعي ... ما للملام بطرقها إلمام أيروم سلواني الوشاة بنصحهم ... كلا وإن قعدوا لذاك وقاموا أننا من يرى حب الحسان حياته ... فألام في حب الحياة ألام عزى إذا كان الحبيب يذلني ... وتلذذي في الحب حين أضام وألذ ما تلقى جفوني إنها ... تمسي لنار الشوق ليس تنام كلفي بمن حمل السلاح جوارحاً ... فالقد رمح والجفون حسام بدر ولكن لا يعاب بنقصه ... شمس لها كللل النشور غمام ومنها: وإذا نظرت إلى بهاء جماله ... شاهدت منه البدر وهو تمام يفتر عن عطر لواضح دره ... برق لإلهاب الغليل بسام

يحوي رضاباً كالسلاف مزاجها الريحان ... والنسرين والنمام وفيها: متململ يرعى النجوم وتنطوي ... أضلاعه الحرى وهن ضرام عبد المجيد بن أبي الفرج بن محمد أبو محمد مجد الدين الروذراوري كان إماماً عالماً فاضلاً مفتناً حسن الشكل والملبس مليح العبارة فصيحاً عارفاً بأشعار العرب يحفظ من ذلك ما لا يحصى كثرة وخطه في غاية الجودة والصحة والحسن، وكان يديم تلاوة القرآن العزيز ودرس بالمدرسة الظاهرية ظاهر دمشق وبالمدرسة الأكزية وغيرها وكان وافر الفضيلة ولم يكن حظه من المناصب على مقدار فضيلته وسيره الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله رسولاً إلى بركة ملك التتر فعرض له في الطريق من المرض ما منعه من التوجه فعاد بعد أن قطع مسافة عظيمة ولم يكن عقله المعاشي بذاك، وكانت وفاته في صفر بدمشق رحمه الله وهو في عشر السبعين وله نظم جيد لكنه منحط عن فضيلته فمن ذلك: أهوى العقود لأنهن تألفا ... يحكين در كلامك المنظوما وأذم أرمد لا يعد لعينه ... كحلاً تراب جنابك الملثوما وأعد أمر المكرمات مشتتا ... إن لم أجده بسعيه ملموما وإذا أجلت الفكر في أخلاقه ... لم تلق إلا روضة ونسيما وقال: نسيم الروض يشهبه أريجا ... إذا ما فاح في أعلى الروابي

إذا ما ديمة هطلت علينا ... ظننا جود كفك في السحاب وقال: ما عشت لا غيث السماح بمقلع ... عنا ولا روض النجاح مصوح تهمى فأنجاد الرجاء عشيبة ... منه وأغوار الأماني طفح وقال يهجو العز الضرير: أعمى البصيرة والبصر ... ضل السبيل وقد كفر ذم الأفاضل ضلة ... كالكلب إذا نبح القمر فليعلمن إذا فغر ... أني سألقمه حجر وكان العز الضرير قد هجا الشيخ مجد الدين بالبيتين المذكورين في ترجمته. علي بن أفسيس بن أبي الفتح بن إبراهيم أبو الحسن محي الدين الساوردي الأصل البعلبكي المولد والمنشاء الدمشقي الدار والوفاة كان صدراً رئيساً عاقلاً منفرداً فيما يعانيه من الحشمة والرئاسة وحسن الملبس والتأنق في المسكن والمأكل والمركب وغير ذلك وولي نظر الزكاة بدمشق مدة زمانية إلى حين وفاته وكان مشكور السيرة محبوباً إلى التجار تجلب إليه الأشياء المستظرفة من البلاد الشاسعة وله الحرمة الوافرة والكلمة المسموعة وكان كثير الصدقة والتلاوة للقرآن الكريم في كثير من الأوقات وعنده فضيلة وكلمة لينة وخلقه حسن وتوفي في ليلة الجمعة تاسع عشر ربيع الآخر بدمشق ودفن من الغد بجبل

قاسيون رحمه الله وقد جاوز ستين سنة من العمر، حدثني بعض الأعيان ممن كان يصحبه أنه وصى الدلالين على مشترى جارية تعرف صناعة الغناء فحضر إليه بعضهم وأخبره أن بحضور شخص من بغداد وهو من الزام بن كر ومعه جاريتين على الصفة المطلوبة فقال له أحضرهم فأحضر جارية واحدة فرآها وغنت فأعجبه غناؤها وهي لابسة بغلطاق طرح ثم سيرها وطلب الأخرى فحضرت وعليها ذلك البغلطاق بعينه فجعل يتأمله وسألها عنه فذكرت أن ليس لها سواه وأن أستاذهما يحبهما وإنما الضرورة حملته على عرضهما للبيع فسأل عن منزله وأخذ معه ألف درهم وعشر قطع قماش وتوجه بنفسه إلى منزل الرجل فسلم عليه وأعطاه ذلك فكسا الجواري واستغنى عن بيعهن ولم يشتر منه محي الدين رحمه الله شيئاً. علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة أبو الحسن مجد الدين العشيري المنفلوطي الأصل والمولد القوصي الدار والوفاة المالكي المذهب مولده في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تفقه على غير واحد منهم الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي وصحبه مدة سمع منه وحدث ودرس وأفتى وصنف وانتفع به الناس وكان أحد الأئمة العلماء جامعاً لفنون من العلم معروفاً بالصلاح والدين معظماً عند الخاصة والعامة مطرحاً للتكلف كثير السعي في قضاء حوائج الناس على سمت

السلف الصلاح وكانت وفاته في ثالث عشر المحرم رحمه الله. غازي بن حسن بن.... أبو الحسن التركماني كان رجلاً متعبداً كثير الصيام منقطعاً في زاويته بقرية دورس ظاهر بعلبك ويحضر يوم الجمعة إلى بعلبك لشهود صلاة الجمعة بجامع بعلبك ويعود إلى زاويته، وكان سليم الصدر حسن الملقى وزعم أنه قد نيف على مائة سنة من العمر وكانت وفاته بزاويته المذكورة في نهار الأحد خامس وعشرين ذي الحجة ودفن بقرية دورس رحمه الله. محمد بن عمر بن حسن بن علي بن محمد الخميل بن فرج بن خلف ابن قومس بن مزلال بن ملال بن أحمد بن بدر بن دحية بن خليفة الكلبي أبو الطاهر شرف الدين مولده في العشر الوسط من شهر رمضان سنة عشر وستمائة بالقاهرة سمع من أبيه الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية وغيره وتولى مشيخة جار الحديث الكاملية بالقاهرة مدة وحدث وكان فاضلاً وتوفي في الخامس والعشرين من شهر رمضان بالقاهرة دفن بالقرافة رحمه الله، وهذه النسبة نقلت من خط والده رحمه الله وذكر قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله والده أبا الخطاب وساق نسبه لكنه قال فلان بن بدر بن أحمد بن دحية قال وكان يذكر أن أمه أمة الرحيم

بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين دحية والحسين رضي الله عنهما كان أبو الخطاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهيرهم متقناً لعلم الحديث وما يتعلق به عارفاً النحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، اشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية ولقي بها علماءها ثم رحل إلى بر العدوة ودخل مراكش واجتمع بفضلائها ثم ارتحل إلى إفريقية ومنها إلى الديار المصرية ثم إلى الشام والشرق والعراق ودخل عراق العجم وخراسان ومازندران وإربل وغيرها ومولده مستها ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم رحمه الله واختلف في سنة مولده أما الشهر فلا خلاف فيه وكان أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن أسن منه وكان حافظاً للغة العرب قيماً بها وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث التي أنشأها بالقاهرة ورتب أخاه المذكور مكانه فلم يزل بها إلى أن توفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم، وله رسائل استعمل فيها حوشي اللغة.

ووقع لي رسالة بخط منشئها لا أعلم هل هو أبو الخطاب أو أبو عمر نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً: المملوك الداعي ابن دحية كان رسول الله عليه وسلم إذا جاءه أمر يسر به وسربه خر لله ساجداً رواه الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني والعتكي بعده في حديث الشفاعة الصحيح قال فأخر لله ساجداً قدر جمعة لم يخرج مسلم ولا البخاري هذه الزيادة وهي زيادة صحيحة وفيها الرد على أبي حنيفة ومالك في أنهما لا يجيزان سجود الشكر وما أدري لأي شيء قالوا ذلك والحديث مشهور رواه الترمذي والسجستاني والنسائي وجماعة غيرهم وأما زيادة حديث الشفاعة قدر جمعة فلم يروها سوى أحمد بن حنبل والعتكي وقد وافقنا السنة وفعلنا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وشكرنا الله شكراً رغداً كما قال تعالى: " فكلا منها رغداً حيث شئتما " أي دائماً لا ينقطع وذلك لما اتصل لنا من عقابيل ما كان ألم الغطريف وهو السيد العظيم السلطان الكامل الكبار الهميسع الصنديد الصنتيت الجلواخ العيذاق الهلقام اللهموم والجحجاح الوحواح وواجب علي الأخرواط في منسبان الدعاء والشكر لله عز وجل فيما أزل إلى الناس أجمعين أكتعين أبصعين، بما مره عليه من الأطرغشاش والأبرعشاش والإبلال والقشقشة فأصبح صمجمجاً عنطنطا عنسطا صملاً عرداً حبعثتا سبعطريا ما به ظبظاب

ولا قلبه كأنما قد سيره قد مصح الله عنه العقابي وعرطن عنه العصاويد ومذ بلغتني شكاته لم يزل الدعاء له هجيراي وقد كنت فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه وزاد الترمذي حتى الهم يهمه إلا كفر الله عنه، وفي الموطأ وما يدريك لعل الله ابتلاه بمرض يكفر عنه من سيئاته وفي الحديث الغريب ما من مسلم ينشط من مرضه إلا كان كيوم ولدته أمه عطلاً من الذنوب: أحمد رباً ساقني اليكا ... وأنا أمشي الدألا اليكا وكنا في هذه المدة ننظر في جنح الكافر الزبرقان فنظنه حواري وننظر العتم فنظن ذلك زغنجا وما أدري لأي شيء أنكر أبو عبيد لفظه الزعيج وقال ما أظنه من كلام العرب وقد حكاه الفراء عن العرب وهو ثقة فقال ثعلب عن يونس النحوي عن أبي عبيدة عن العرب الزغنج الزيتون والزغنج الحسن من كل شيء وقد أصاب الفراء رحمه الله في ذلك: وكنت عبداً للأنام أخضعا والأخضع الذليل، والأنام البشر وكنت لا أقدر على النوم أجأر إلى الله بالدعاء في كل توة من الليل حتى كان بالأمس جاء الفرج بالرش والهنيدة وافى ذلك يوم الميعاد والناس قد إذ لعبوا من كل أوب وإتلأبوا من كل سقع قد عطل بهم النتاج والباج لم يفرنقعوا عني فسدلت علي السب السابري ولذت

الشوذة وسدلت السدوسي وقعدت القرفصاء وأهبنقعت وأخزأللت وارجحننت وأكمخت وتجهضمت ورفعت عقيرتي بالدعاء بوجأة صهصلق وللتأدي بالتأمين عجيج فللقد أغنيت وأقنيت وجعلتني من الأحرار وكنت مملكاً وقنجلاً وكل أحد من البرشاء جاء بمتنخة يضربني بها لحقه علي، وفي الحديث الغريب ذكر أبو عبيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق اليد واللسان فكففت أيديهم عني وقطعت ألسنتهم دوني بنعمتك المثعنجرة الكنهور المنفيهقة المنقور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصنفات جمع سوى الموطأ: من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا ويروى من نفس فرج الله أو نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وزاد الدارقطني فرج الله عنه سبعين كربة من كرب يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " ويروى في الصحيح إن الله يحب إعانة ويروى إغاثة اللهفان الملهوف، وقال في حديث أبي ذر وإن تفرغ في دلوك من دلو أخيك أو صاحبك وأن تلقي أخاك بوجه طلق فسرحتني من وثاقي ونشطتني من عقال الدين وفعلت ما أمرك الله تعالى به وهو قوله سبحانه

وتعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى " قال ابن عمر وسالم وعطاء والشعبي أن ذلك واجب وسائر العلماء يقولون إن ذلك ليس بواجب إنما هو مندوب إليه فأخذت بقولهم ووفقت، وفي الطبراني عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في المال لحقا سوى الزكاة وهذا صحيح بهذا الطريق والترمذي ضعفه من طريق أبي حمزة الأعور واسمه ميمون وزدت أن زينتني بالريايش الشف قال الله تعالى: " وريشاً ولباس التقوى " قال اللغويون الثقات الريش المال والريش الخصب قال الشاعر: ما لكم الليلة من إنفاش ... ولا دثار لا ولا رياش والريش ما ظهر من اللباس يقال أعطاني رحلاً بريشه أي بجميع ما فيه وقال الفراء الريش والرياش بمعنى واحد مثل الدبغ والدباغ وقد جعلت هاتيك الخلعة زينة لكل مسجد أناجي الله فيها وقد كنت لا تجديد لي إلا بالصابون، وفي الحديث الحسن خرجه الشيباني والترمذي من كسا مسلماً على عرى كساه الله من خضرة الجنة ويروى من خضر الجنة، وأنت فعلت ذلك من غير واسطة ولا تنبيه إلا صدق فراسة، وفي الحديث: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وعن قريب يجازيك الله بالخير الغطمطيط ويمكن لك في الأرض وعن قريب يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق بالرغبة والرهبة لقوله سبحانه: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " الحسنى فعلن من أسماء الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى: والسلام الكريم النفاح الأزج على حضرة الأملوك

السرندي ورحمة الله وبركاته. وقد تكلم الناس في أبي الخطاب ونسبوه إلى التزيد في كلامه مع ما كان يعانيه من الوقوع في بعض العلماء وكان الملك الكامل مقبلاً عليه فلما تبين له ذلك منه أعرض عنه وكان قدم مرة دمشق وسأل الصاحب صفي الدين بن شكر رحمه الله أن يجمع بينه وبين الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله فاجتمعا وتناظرا وجرى بينهما البحث في قول العرب لقيته من وراءَ وراءَ فقال ابن دحية لا يقال بالرفع بل بالنصب فقال تاج الدين أخطأت فسفه على الشيخ تاج الدين فقال له يا مدعي أنت تكتب وكتب ذو النسبين بين دحية والحسين ودحية بإجماع المحدثين ما أعقب فقد كذبت في نسبك، وحكى لي أنه قال للشيخ تاج الدين في محاورته أنا عندي كتب تسوي بغداد فقال الشيخ تاج الدين هذا محال ما في الدنيا كتب تسوي بغداد وإنما أنا عندي كتب جلودها تساوي رقبتك فخجل واستحسن الحاضرون هذا الجواب من الكندي وحكى أنه كان يدعي أن له بالمغرب أموالاً عظيمة وأملاكاً كثيرة وغير ذلك من عظم القدر والجاه والمال وذكر ذلك للملك الكامل فاستبعده فلما قدم أخوه أبو عمرو عثمان المذكور سأله الملك الكامل عن ذلك فذكر

أنهم قوم فقراء لا يوبه لهم في تلك البلاد وليس لهم بها ذكر فاعجب الملك الكامل قوله ونبل في عينه وسقط أبو الخطاب من عينه وتحقق تزيده في الحديث والله أعلم. محمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عربي أبو عبد الله عماد الدين كان فاضلاً سمع الكثير وسمع معناً صحيح مسلم على الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي رحمه الله وتوفي بدمشق في شهر ربيع الأول ودفن عند والده بسفح قاسيون وقد نيف على الخمسين من العمر رحمه الله. محمد بن وثاب بن رافع أبو عبد الله تاج الدين النخيلي الحنفي كان فقيهاً عالماً فاضلاً حسن الشكل درس وافتن وناب في الحكم بدمشق وكان سديداً في أحكامه مشكور السيرة وتوفي بدمشق في شهر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين رحمه الله. مظفر بن عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الصافي بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن يعيش بن عبد العزيز بن سعد بن عبادة أبو منصور تاج الدين الأنصاري الخزرجي الدمشقي الحنبلي مولده في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثماني وخمسمائة بدمشق سمع من أبي طاهر الخشوعي وعمر بن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وبيته معروف بالعلم والحديث وكانت وفاته بدمشق في ثالث صفر فجأة ودفن بجبل قاسيون رحمه الله.

أبو الفضل بن ... الصحراوي الشاغوري كان من الصلحاء الأخيار العارفين ملازماً للخير والعبادة وكان كثيراً ما يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقيل أنه كان يجتمع بالخضر عليه السلام وكان منقطعاً عن أرباب الدنيا مقيماً في منزله بالشاغور ظاهر دمشق اجتمع بجماعة من أرباب الطريق وأخذ عنهم، زرته في منزله وكانت وفاته في جمادى الأولى بدمشق رحمه الله ونفعنا ببركته. أبو محمد بن سلطان بن محمود كان رجلاً صالحاً عابداً منقطعاً عن أرباب الدنيا عاكفاً عن العبادة وإشغال الناس بالقرآن العزيز لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يذكر أحداً إلا بخير وكان عالماً بما يحتاج إليه من أمر دينه سمع البخاري من ابن الزبيدي وسمع من الشيخ بهاء الدين أبي محمد عبد الرحمن المقدسي وغيره ولازم صحبة الشيخ إبراهيم بن جوهر البطائحي رحمه الله وانتفع به وصحب والده أيضاً وكان من أصحاب والدي رحمه الله قرأ عليه وسمع منه وكان والدي يحبه ويكرمه لصلاحه ودينه ولأجل والده سلطان رحمه الله فإنه كان من الأولياء الأفراد، وكانت وفاة الشيخ أبي محمد المذكور ببعلبك في ليلة الخميس العشرين من شهر رمضان من هذه السنة ودفن بتربة الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله وهو في عشر السبعين وكان متقللاً من الدنيا قانعاً منها بالكفاف سالكاً إنموذج السلف الصالح وتوفي

السنة الثامنة والستون وستمائة

ولم يشب رأسه ولحيته إلا شطرت يسيرة جداً مع كونه نيف على سبعين سنة. السنة الثامنة والستون وستمائة دخلت والخليفة والملوك على ما كانوا عليه والملك الظاهر بالصنمين عائداً من الحجاز الشريف. متجددات هذه السنة قد ذكرنا عود الملك الظاهر من الحجاز في السنة الخالية لسِاق الحديث بعضه بعضاً فأغنى عن إعادته. وفي يوم الجمعة ثالث عشر صفر توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فتصيدوا أياماً وعاد إلى القلعة يوم الثلاثاء ثامن ربيع الأول وخلع في هذه السفرة على الأمراء وفرق فيهم الخيل والحوائص والسيوف والذهب والدراهم والقماش. وفي يوم الاثنين حادي عشري ربيع الأول توجه إلى الشام في طائفة يسيرة من أمرائه وخواصه ورتب لهم الإقامات والعليق لدوابهم فوصل إلى دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر ولقي الناس في الطريق مشقة شديدة من البرد وخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا في عسكر ليقصد فرقة منهم المقيمين بحنسين وفرقة منهم المقيمين بصفد من عسكر المسلمين فبعث الملك الظاهر إلى العسكرين عرفهما ثم سار فالتقى بهما في مكان عينه يوم الثلاثاء

حادي عشري الشهر وسار إلى عكا فصادف ابن أخت زيتون قد خرج فالتقى به فكسره واستأسره وجماعة من أصحابه وقتل منهم خلقاً وذلك في يوم الأربعاء ثاني وعشرين الشهر، ثم قصد الغارة على المرقب فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه فرجع إلى حمص وأقام بها نحو عشرين يوماً ثم خرج إلى تحت حصن الأكراد وأقام يركب كل يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب فبلغه أن مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت منه مركبين للمسلمين فرحل من فوره إلى الديار المصرية فوصلها ثاني عشر شعبان. وفيها قدم على الملك الظاهر صارم الدين مبارك بن الرضى مقدم الإسماعيلية بهدية وشفع فيه صاحب حماة فكتب له منشوراً بالحصون كلها ليكون نائباً عنه بها وكتب له بأملاكه التي بالشام جميعها على أن يكون مصباث وبلدها خاصاً للملك الظاهر وبعث معه نائباً فيها عز الدين العديمي فلما وصلا إليها عصى أهلها وقالوا لا نسلمها فإنه كاتب الاسبتار ونحن نسلمها لنائب الملك الظاهر فقال لهم عز الدين أنا نائب السلطان فقالوا له تأتينا من جهة الباب الشرقي فيما جاءهم وفتحوه هجمه الصارم وقتل منهم خلقاً وتسلم هو وعز الدين القلعة ثم غلب الصارم على البلد وأزال عنه حكم عز الدين فاتصل ذلك بالملك الظاهر واتفق إن ورد عليه نجم الدين حسن بن الشعراني وهو نازل على حصن الأكراد

ومعه هدية سنية فقبلها وكتب له منشوراً بالقلاع التي كتب بها لصارم الدين وهي الكهف والخوابي والعليقة والرصافة والقدموس والمينقة والقليعة ونصف أملاك الشام من جبل السماق وقرر عليه يحمل كل سنة مائة وعشرين ألف درهم، ولما عاد الملك الظاهر إلى مصر وتحقق صارم الدين إقباله على نجم الدين أخرج عز الدين من مصباث فوصل إلى دمشق فسير الملك الظاهر الجمال معالي بن قدوس على خيل البريد ومعه ونجم الدين الكنجي إلى حماة فأخرجا صاحبها في عسكره ومعهم عز الدين العديمي وتوجهوا إلى مصباث فخرج منها الصارم وقصد العليقة فتسلموا مصباث في شهر رجب وحكم بها عز الدين واستخدم أجناداً ورجالة ولما اتصل بالملك الظاهر سلامة الصارم كتب إلى صاحب حماة يلومه وألزمه بإحضاره فتحيل عليه حتى نزل من العليقة فقبض عليه وحمله إلى الملك الظاهر فحبسه في برج من أبراج سور القاهرة في ذي القعدة. وفيها عمرت القناطر على بحر ابن منحا وفي يوم الخميس رابع عشري شعبان فوض إلى الصاحب تاج الدين وزارة الصحبة على ما كان عليه والده فخر الدين. وفي شعبان لعبت الشواني في نيل مصر وحضرها الملك السعيد في الحراقة ولما دخلت البر ازدحم الناس في مركب منها فغرق ثم سافروا في الشهر إلى دمياط ووافاهم من الإسكندرية أربعة أخرى وخرجوا إلى الغزاة جميعاً فوجدوا بطشة هائلة وبها شجعان حموها وعلقوا من

مراكب المسلمين مركباً فقاسوا الجهد فأطلقوه وقتل منهم خمس وعشرون رجلاً ثم عادوا ولم يظفر بطائل. وفي العشرين من شوال ورد البريد من الشام مخبراً أن الفرنج قاصدون البلاد والمقدم عليهم شرون أخو ريدا فرنس وربما كان محطهم عكا فتقدم إلى العسكر بالتجهز إلى الشام وورد الخبر من الإسكندرية بأن اثني عشر مركباً للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركباً للتجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه ولم يجسر الوالي أن يخرج الشواني من الصناعة لغيبة رئيسها في مهم استدعاه الملك الظاهر بسببه ولما بلغ الملك الظاهر ذلك بعث فأمر الملك الظاهر بقتل الكلاب في الإسكندرية وأن لا يفتح أحد حانوتاً بعد المغرب ولا توقد نار في البلد ليلاً ثم تجهز وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذي القعدة في البحر. وفي ذي الحجة أمر بعمل جسرين أحدهما من مصر إلى الجزيرة والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليها إلى الإسكندرية إن دهمها عدو وبقي منصوباً إلى أن تواترات الأخبار بقصدهم تونس ونزولهم عليها. وفي المحرم قتل أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف صاحب مراكش في حرب كانت بينه وبين أبي مرين على مراكش

ذكر كسرة أبغا لبرق

والذي يرجعون إليه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن حمامة وانقرضت دولة بني عبد المؤمن. وفيها سير الدرابزين للحجرة الشريفة صلوات الله على ساكنها من الديار المصرية صحبة الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلي فمرض وحصل له طرف فالج فتعلق بالحجرة الشريفة بعد أن تصدق بجميع ما معه وتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فعوفي في المدينة وصحب الركب إلى مكة ناقته. ذكر كسرة أبغا لبرق قد تقدم القول بتسيير رسل تبشير إلى أبغا يستصرخ به من برق فلما وصلت الرسل جمع أبغا أمراء دولته واتفقوا أن يقصدوا برق فجمع عساكره ونزل بموغان فأكلت خيولهم الزرع خمسة عشر يوماً ثم ساروا فوصلوا أردول فأمر عساكره بإخفائه وكل من ذكر ذلك قتل ورحلوا وساروا مدة خمس وخمسين يوماً وخيولهم ترعى الزراعات ونزلوا حخحخان وبينهم وبين برق خمسة أيام فحملوا زادهم مطبوخاً لأن لا يشعلوا ناراً وعينوا من كل عشرة فارس يتقدموهم بنصف نهار يتحفظوا لهم الأخبار فكانت عدتهم خمسة آلاف فارس فساروا في واد بين جبلين وقتلوا من وجدوه في طريقهم إلى أن أشرفوا على يزك برق فكبسوه سحراً واستأصلوهم عن آخرهم فلما وصل إليهم أبغا فرح بذلك وعرفوه

ذكر المصاف

أنه بقي لهم يوم ونصف ويصلون إلى عسكر برق فساروا ليلاً فلما أصبحوا لم يشعروا إلا وعسكر برق قدامهم وكان في طرفه مرغول مقدم ثلاثة آلاف فارس فكسر وهرب ناجياً بنفسه واتصل ببرق فأخبره وسار أبغا فنزل على مدينة هرى فأقاموا اثني عشر يوماً يطعمون خيولهم الزرع وهرب شخص من عسكر برق ووصل إلى أبغا وعرفه أن سبب هروبه أنه رأى في لوح الغنم أن أبغا يضرب مصافاً مع برق ويكسره فقال أبغا إن صح ذلك ملكتك قرية تعيش فيها أنت وعقبك وأقبل عليه إقبالاً عظيماً ولما كسر برق وفي له. ذكر المصاف لما بلغ برق رجوع أبغا طمع في لقائه وعبر النهر الأسود على الجسر والتقيا فخرج مرغول من عسكر برق بألف فارس وحمل في عسكر أبغا فكسر منه تقدير ثلاثة آلاف فارس ومكان مقدمهم شكتو بن ألكانوين وأرغون بن جرماغون وعبد الله النصراني وكان يصحب العساكر ومعه الكنائس والنواقيس فوقع فيه سهم قتله وجاء إلى أبغا من عسكره أباطي وتبشير بن هولاكو وقالا نحن نلقى عسكر برق فأذن لهما فالتقياه وكسراه كسرة عظيمة وما زالا في عسكره بالسيف إلى الجسر وعجزوا عن العبور لكثرة الزحام فرموا أنفسهم في البحر فغاض الماء لكثرة عددهم وكان كل من تخلص ينزل عن فرسه ويعرقبه

فصل

على البر ويقصد الجبل هارباً ولحقهم عسكر أبغا بعد أن بعدوا عن الجسر بيوم فأما أبغا فنزل عن جحشران وأمر أن تكتب ورقة بعدة من عدم من عسكره فكانوا ثلاثمائة وسبعين فارساً ورجع عائداً إلى بلاده وكان يموت من عسكره في كل منزلة جماعة كثيرة وتدعق خيول كثيرة فعدم من الرجال والخيول ما لا يحصى كثرة. فصل وفيها توفي أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير أبو العباس زين الدين المقدسي الحنبلي الناسخ بدمشق ودفن بسفح قاسيون ومولده سنة خمس وسبعين وخمسمائة بفندق الشيوخ من أرض نابلس سمع الكثير بدمشق من يحيى بن محمود الثقفي وأبي محمد عبد الرحمن بن علي وغيرهما وببغداد من أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي وأبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن كليب وغيرهما وكتب الكثير بخطه من الكتب الكبار والأجزاء المنثورة وكان سريع الكتابة كتب الخرقي في ليلة وحدث بالكثير مدة وبقي حتى احتيج إلى ما عنده وتفرد بالرواية عن جماعة من شيوخه وكان فاضلاً متنبهاً وإليه انتهت الرحلة ببلده وسمعت عليه صحيح مسلم وغيره رحمه الله تعالى، وكانت وفاته في السابع من شهر رجب ورأيت بخط أخي رحمه الله أنه توفي يوم الاثنين تاسع شهر رجب

والله أعلم وقال سمع من الحافظ عبد الغني رحمه الله وروى عن السلفي بالإجازة العامة وقال كتبت بإصبعي هاتين أكثر من ألفي مجلدة روى عنه الناس وألحق الأصاغر بالأكابر وكان ديناً فهماً يحفظ كثيراً ويرد في غالب الأوقات على من يقرأ عليه وسمع صحيح مسلم عن ابن صدقة الحراني بسماعه من الفراوي غير شيء يسير من أوله فإنه أجازه رحمه الله تعالى. أحمد بن القاسم بن خليفة أبو العباس موفق الدين الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة الحكيم الفاضل له مصنفات منها كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء توفي بضرخد في جمادى الأولى وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله. أيبك بن عبد الله الصالحي الأمير عز الدين المعروف بالزراد كان متولي قلعة دمشق وكان المذكور من المماليك الصالحية النجمية وحرمته وافرة في الدولة الظاهرية وسيرته جميلة وله مهابة وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة بقلعة دمشق المحروسة رحمه الله. أيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الظاهري النائب بحمص كانت عنده نهضة كبيرة وصرامة مفرطة موصوف بالعسف والظلم وكان آحاد المماليك الظاهرية فأمره الملك الظاهر وولاه حمص وأعمالها فضبط عمله وساسه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بحمص في صفر من هذه السنة وكان عنده تشيع وجور على الرعية فسر أهل ولايته

بموته والراحة منه. أيوب بن محمود بن نصر الله بن محمود بن كامل أبو الفرج البعلبكي الأصل كان من المعدلين بدمشق سمع من ابن اللتي وغيره ودخل بغداد وسمع بها من جماعة وحدث وكانت وفاته بصفد في العشر الأول من ربيع الآخر رحمه الله تعالى. حسن بن محمد بن أحمد الصوفي العجمي الأصل الفارسي المعروف بالبرسي كان يتزيد في حديثه ويدعي كبر السن وأنه قد تعدى تسعين سنة فسأل هل أدرك القاضي الزنجاني الذي قتل ببعلبك فقال نعم وكان عمري عند قتله عشرين سنة أو ما يزيد عليه والزنجاني قتل سنة ثلاث وستين وخمسمائة وتوفي حسن المذكور ببعلبك ليلة الجمعة سابع وعشرين شهر رجب ودفن في منزله داخل باب دمشق من مدينة بعلبك. صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمد بن الحسين أبو البقاء تقي الدين الهاشمي الجعفري الزينبي مولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة سمع وحدث وكان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره والرؤساء المذكورين بالفضل والنبل وتولى قضاء قوص مدة ونظرها أيضاً مدة أخرى وله خطب حسنة ونظم جيد وتصانيف عدة مفيدة وكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي القعدة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى. علي بن الحسن بن الفرج بن النعمان بن محبوب أبو الحسن تقي الدين

المعري الأصل البعلبكي المولد والدار كان فقيهاً شافعي المذهب حسن العشرة كريم الأخلاق توفي بدمشق ليلة الجمعة رابع عشري ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون رحمه الله وقد ناهز الستين سنة من العمر. علي بن أبي طالب بن محمد أبو الحسن علاء الدين الحسيني الموسوي كان شيخاً حسن الشكل من المعدلين بدمشق ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة سمع من الكندي وغيره وحدث وكانت وفاته بدمشق في الثامن والعشرين من ذي القعدة رحمه الله تعالى. محسن بن عبد الله أبو الخير الطواشي الصالحي النجمي سمع الكثير من جماعة من أصحاب أبي طاهر السلفي وغيره وحصل الأصول وحدث وتقدم عند الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وبعد موت الملك الصالح سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم على خدام الضريح النبوي صلوات الله وسلامه على ساكنه ورجع إلى الديار المصرية فتوفي بها في العشرين من شعبان رحمه الله. محمد بن الحسن بن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بالشمس بن عساكر مولده في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سمع الكثير وحدث وهو من بيت الحفظ والعلم والحديث وجده الحافظ أبو القاسم أحد حفاظ الشام رحمه الله وتوفي في ليلة السابع من صفر هذه السنة رحمه الله. محمد بن علي بن محمد بن سليم أبو عبد الله فخر الدين الوزير بن الوزير

المصري الشافعي سمع بمصر من أبي الحسن علي بن أبي عبد الله البغدادي وغيره وبدمشق من أبي العباس أحمد بن عبد الدائم وغيره وحدث فسمع منه جماعة وكان محباً لأهل الخير والصلاح مؤثراً لهم متفقداً لأحوالهم وعمر رباطاً حسناً بقرافة مصر الكبرى ورتب فيه جماعة من الفقراء وجعل لهم ما يقوم بهم ودرس في مدرسة والده بمصر مدة وكان كثير البر والصدقة وتوفي بمصر في الحادي والعشرين من شعبان ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى. يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضوان الله عليه بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو الفضل محي الدين القرشي الأموي العثماني الدمشقي الشافعي الإمام العالم قاضي قضاة الشام ورئيس عصره، ولد بدمشق في ليلة الخامس والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من ابن طبرزد وحنبل وزيد الكندي وعبد الصمد بن الحرستاني وآخرين وحدث بدمشق ومصر وتوفي بمصر في صبيحة الرابع عشر من شهر رجب ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله، وكان له عقيدة في الفقراء والصالحين يتلقى ما يحكى عنهم من الكرامات بالتصديق والقبول وصحب الشيخ محي الدين محمد ابن العربي رحمه الله وله فيه عقيدة تجاوز الوصف، وكان يحكي عنه أنه يفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أمير المؤمنين

عثمان بن عفان رضي الله عنه مع كون عثمان رضي الله عنه جده فتوهمت أنه اقتدى بالشيخ محي الدين في ذلك فإنه كان يرى هذا على ما حكى عنه. ثم جرى بيني وبين الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله الحديث في مثل ذلك فذكر ما معناه أن قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن محي الدين المذكور حكى له أن والده أخبره أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام بجامع دمشق وهو مستند إلى عمود من عمد الجامع قال محي الدين فسلمت عليه فأعرض عني فقلت له يا أيمر المؤمنين أنا ابن عمك فقال صدقت ولكنكم ما اتقيتم أو ما هذا معناه فاستيقظ قاضي القضاة محي الدين رحمه الله وتلبس بالمغالاة في حب علي رضوان الله عليه وتفضيله ونظم قصيدة طويلة مدحه بها منها: أدين بما دان الوصي ولا أرى ... سواه وإن كانت أمية محتدي ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت ... وساء بني حرب هنالك مشهدي لكنت أسن البيض عنهم مواضيا ... وأروى أرماحي ولما تقصد وأجلبها خيلاً ورجلاً عليهم ... وأمنعهم نيل الخلافة باليد يعقوب بن عبد الرفيع بن زيد بن مالك بن موسى بن عبد الله ابن فضالة بن علي بن عثمان بن محمد بن الحسن بن عيسى بن ثابت بن عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام أبو يوسف

السنة التاسعة والستون وستمائة

القرشي الأسدي الزبيري المصري الصاحب الوزير زين الدين مولده في سنة ست وثمانين وخمسمائة وقيل غير ذلك وتوفي ليلة الأربعاء المسفرة عن رابع عشر ربيع الآخر هذه السنة ثمان وستين وستمائة بالديار المصرية كان إماماً عالماً فاضلاً ممدحاً كبير الرئاسة وزر للملك المظفر قطز رحمه الله ثم وزر للملك الظاهر ركن الدين رحمه الله في أوائل دولته مدة ثم صرفه بالصاحب بهاء الدين رحمه الله ولزم بيته إلى أن أدركته منيته في التاريخ المذكور وله نظم جيد فمنه: لامني والعذر مشتهر ... عاذل ما عنده خبر في هوى من حسن صورته ... سجدت طوعاً له الصور رشا ما قال واصفه ... أنه بالوصف ينحصر رام غصن البان قامته ... فانثنى من ذاك يعتذر واستعار الظبي مقلته ... واكتسى من نوره القمر أسمر أخبار عاشقه ... بين أخبار الورى سمر وإمام في ملاحته ... واثق بالحسن مقتدر أمروا قلبي بسلوته ... أنا عاص للذي مروا لو بقلبي مثله عشقوا ... أو بعيني حسنه نظروا لرأوا غيي به رشدا ... ولكانوا في الهوى عذروا السنة التاسعة والستون وستمائة دخلت والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا أبي حفص عمر بن بي إبراهيم يوسف صاحب مراكش فإنه قتل في حرب

متجدادت الأحوال

بينه وبين أبي العلاء إدريس بن أبي عبد الله محمد بن يوسف ملك نبي مرين وانقضت دولة بني عبد المؤمن. متجدادت الأحوال كان الملك الظاهر بالديار المصرية وتوجه يوم السبت غرة صفر في جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد إلى عسقلان فوصل إليها وهدم سورها ما كان أهمل هدمه في أيام الملك الصالح ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهباً بقدرة ألفي دينار ففرقها على من في صحبته وورد عليه وهو بعسقلان البشير بأن عسكر ابن أخي بركة كسر عسكر أبغا وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول. وفي أوائل هذه السنة انتهى الجسر الذي عمل على بحر ابن منجا ووقف عليه الملك الظاهر وقفاً يعمر ما دثر منه. وفي أواخر ربيع الأول اتصل بالملك الظاهر أن الفرنج بعكا ضربوا رقاب جماعة من المسلمين الذين في أسرهم ظاهر عكا صبراً فأخذ من أعيان من عنده من أسراهم نحو مائة نفر فغرقهم في النيل ليلاً. وفيها بنى جامع المنشية وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة ثامن عشري ربيع الآخر. وفيها قبض الملك الظاهر على العزيز بن الملك المغيث صاحب الكرك وعلى يعقوب بن نور الدين بدل مقدم الشهرزورية وعلى جمال الدين

أغل مقدمهم أيضاً وسببه أنه بلغه وهو على عسقلان أن الشهرزورية عازمون على أن يثبوا على الملك ويسلطنوا ابن المغيث. وفي أواخر جمادى الأولى وصلت النجابون إلى مصر من عند نجم الدين ابن نمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة بن الحسن الحسيني صاحب مكة وأخبروا أن الخلف وقع بينه وبين عمه إدريس بن علي بن قتادة وكان شريكه في الأمرة فاستظهر إدريس عليه فخرج فاراً من بين يديه وقصد ينبع فاستنجد بصاحبها وجمع وحشد وقصد مكة فالتقيا وتحاربا فطعن أبو نمى إدريس ألقاه من جواده ونزل إليه وحز رأسه واستبد بمكة. وفي ثاني عشر جمادى الآخرة توجه الملك الظاهر من الديار المصرية لقصد حصن الأكراد وفي صحبته ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين واستخلف بالديار المصرية الأمير شمس الدين الفارقاني وفي الوزارة الصاحب تاج الدين ودخل السلطان دمشق يوم الخميس ثامن رجب ثم خرج منها يوم السبت عاشره وتوجه بطائفة من العسكر إلى جهة وولده والخازندار بطائفة أخرى إلى جهة وتواعدوا الاجتماع في ويوم واحد بمكان معين ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية والمرقب وعرفة ومرقبة والقليعات وحلباً وصافيثا والمجل وأنطرسوس فلما اجتمعوا وشنوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل ثم ساروا ونزلوا على

حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب وأخذوا في نصب المجانيق وعمر الستاير ولهذا الحصن ثلاثة أسوار فاشتد عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادي عشرين الشهر وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة يوم الأحد خامس عشره وكان المحاصر لها الملك السعيد والخازندار ويسري ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبلية والفلاحين ثم أطلقهم الملك الظاهر ثم أذعن أهل القلعة بالتسليم وطلبوا الأمان فأمنهم الملك الظاهر وتسلم القلعة يوم الاثنين خامس عشري شعبان وأطلق من كان فيها فرحلوا إلى طرابلس ثم رحل عنه بعد أن رتب الأفرام لعمارته وجعلت كنيسته جامعاً وأقيمت فيه الجمعة ورتب فيه نواب وقاضي. وأنشئت كتب البشائر بفتوحه فيمن ذلك ما كتب عن الملك السعيد رحمه الله إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله بخط محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر رحمه الله وهو: هذه البشرى إلى المجلس السامي القضائي لا زالت التهاني عنده وثيقة الأواحي حسنة التواخي، عجلة لإرضاء أهل الإيمان فلا يرخى له أعنة التراخي، تعلمه بفتوحات شملت بشائرها، وتعرفت بالنصر إمائرها، واستطعم الإيمان حلاوتها، من أطراف المران، واستنطق الإسلام عبارتها من ألسنة الخرصان، وذلك بفتح حصن الأكراد الذي كان في حلق البلاد الشامية غصة، لم تسغ

بمياه السيوف المجردة، وشجا في صدورها لم تقاومه أدوية العزائم المفردة. طالما اكسبت البلاد رعباً، ورهباً وطالما استمر من أخلاف الاسبتار حلباً، وكم صان كفراً في بلاد الإسلام وحماه، وكم ابتنى منها ببكر أساء صحبتها فما خشي معرة ولا خاف حماده، قد سما في السماء فلا أمل إليه يمتد، وعلا في الهواء فلا بصر يلمحه إلا وينقلب خاسيئاً عنه ويرتد، ما كان بأكثر مما قدمنا الاستخارة، وشننا على البلاد الإغارة، وعللنا بالمكاسرة عنه نفسه الأمارة، وأبحنا العساكر من الغنائم كل ما أربح لهم من التجارة، فكم أحضروا من باد وأبادوا من حاضر، وتخولوا ما يعقد على حسابه أصابع اليدين التي تدخل في جملتها عقد الخناصر، ولساعة نزولنا بساحته، ومصافحتنا بالصفاح مبسوط راحته، إذا صافيثا بذلت نفسها في فدائه، وتعلقت بذيول العسكر المنصور بأخذ الحسب من أمرائه، فقبل فداؤها ولكن بشرط فتوحه وتملكه وتكفل نصر الله على من فيه فوجدت أرباضه جميعها من الذعر خاوية على عروشها، صائلة سخالها على وحوشها مرخصة للمساوم، مرخصة في اغتنام الغنائم، فملكت العساكر محمي تلك الأموال، وحمى تلك القلل العوال، وتفيؤوا من هذه ما يصلح الأحوال، وتبؤوا من هذه ما يغدو مقاعد للقتال، وأخذنا عليها من النقوب كل ساري الجراحة في ذلك الجثمان، سارب في ضمائرها كما يسرب الميل بين الأجفان، ونصبنا عليه من المجانيق كل مثبتة في مستنقع الموت رجلها

حاطة في الهواء رحلها، جائمة جثوم الهزم هادية هداية العلم، تحلق تحليق الصقور، وتحني الصخور، بالصخور وما زالت بها حتى هدمت منها الأركان، وما برح النقابون حتى سروا في ضمائرها سريان الدم في مفاصل الإنسان، وقصدوا بمباضع إقطاعاتهم عروق تلك الأبدان، واستكنوا بها داء معضلاً لا يجد العدو إليه من فتكاته دواء موصلاً، تنموا بتنقيص المواد أخلاطه، ولا يرجى ببحارين الأمطار المرسلة انحطاطه، حتى تجللت من الحصن المذكور قواه، واحترقت حماة من النيران الموقدة بأحشاء حماه، فحينئذ بلغت روحه التراقي، وعجلت عليه المجانيق المذكورة التي أصابته بعين ما لها من راقي، من كل ذات أعضاء وأعضاد وأعصاب من السرياقات وعروق تتخلل تلك الأجساد وذات زمانة كم لها خطوة في الهواء بعيدة المنال، وأمانة كم ردت إلى الحبال، ما عجزت عن حمله الجبال، لها كف متسمحة، وأعطاف لا تبرح حين تجود مترنحة. ما زالا هذا بعويل معاوله وهذا بأنين سهامه ينعيان الكفر مساء صباحاً ويترنمان بما يظنه المسلم له غناء وتحسبه للكفر عليه نواحاً، حتى تسلمناه في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شعبان المبارك فيأخذ حظه من هذه البشارة الحسنة، ويجعل الأصوات بها على الأدعية الصالحة مؤمنة، والله يمتع الشريعة بمساعيه المستحسنة بمنه وكرمه: كتب في التاريخ أعلاه، ولما حصل الاستيلاء على حصن الأكراد كتب صاحب أنطرطوس

إلى الملك الظاهر وهي للداوية يطلب منه المهادنة وبعث إليه مفاتيحها فصالحه على نصف ما يتحصل من غلال بلاده وجعل عندهم نائباً له ووصل رسل الاستبار من المرقب فصالحهم مناصفة أيضاً وذلك يوم الاثنين مستهل شهر رمضان وقررت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ولما رحل نزل مرج صافيثا ثم سار يوم الأحد رابع عشر رمضان فأشرف على حصن بن عكار ثم عاد إلى المرج فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور يوم الاثنين الثاني والعشرين من الشهر ونصب المجانيق عليه يوم الثلاثاء ثالث عشريه ووصل الصاحب بهاء الدين من دمشق يوم الأربعاء رابع عشريه، وفي يوم الأحد ثامن عشريه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقي رمياً كثير فخسف خسفاً كبيراً إلى جانب البدنة ودامت عليها حجارة المنجنيق إلى الليل فطلبوا الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم وخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وبعث صحبتهم الأمير بدر الدين يسري فأوصلهم إلى طرابلس. مان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم وخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وبعث صحبتهم الأمير بدر الدين يسري فأوصلهم إلى طرابلس. وأنشئت كتب البشائر بأخذه فمن ذلك مكاتبة عن الملك السعيد إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان بخط فتح الدين محمد بن عبد الظاهر ومضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البركات مخيمة بفنائه، والتوفيق منوطاً بجميع آرائه، وقلوب الناس متفقة على محبته وولائه، ولا زالت البشائر إليه تتهادى، وترد على محله مثنى وفرادى،

تنضم ما من الله به علينا وعلى المسلمين من المواهب العظيمة الموقع الجليلة المطلع، وهو أنه لما كان بتاريخ يوم الاثنين تاسع وعشرين من شهر رمضان المعظم سنة تسع وستين وستمائة تسلمنا حصن عكار بعد أن رتبنا عليه المجانيق من كل جانب، وأذقنا من فيه العذاب الواصب، ولم يزل الجاليش بسهامه يرشقهم والمجانيق تجدخهم والمنايا تتخطفهم، فعند ما شاهدوا مصارع بعضهم نزلوا من الحصن المذكور خاضعين، وعفروا جماجمهم بالذل متضرعين، فعند ما شاهدناهم على هذه الصورة رحمناهم لي مناهم على أنفسهم خاصة وتسلمنا الحصن المذكور بحواصله وجميع ما فيه وانتظم في سلك ممالكنا، ودخل في جملة حصوننا وقلاعنا، فليأخذ المجلس بخطه من البشري بأوفر نصيب، ويذيعها بين القضاء والعلماء والفضلاء بين كل بعيد وقريب، فإنها من النعم التي يجب على كل مسلم شكرها، ويتعين بثها بين الأنام وذكرها، فيحيط علمه الكريم بذل والله يؤيده ويعضده ويحرسه في سائر التصرفات والمسالك إن شاء الله تعالى: كتب في التاريخ المذكور أعلاه. ثم دخل الملك الظاهر الحصن ورتب به نواباً وأمر بحمل بعض المجانيق إلى حصن الأكراد فحملها الأجناد وعيد ورحل إلى مرج صافيثا وكان هذا الحصن كثير الضر على المسلمين ولم يكن له كبير ذكر وإنما لما دخل ريدا فرنس إلى الساحل بعد فكاكه من الأسر رآه حصيناً صغيراً فأشار على صاحبه الأبرنس أن يزيد فيه

وهو يساعده فزاد فيه زيادة كبيرة من ناحية الجنوب وهو في واد بين جبال تحيط به من سائر جهاته. وفي يوم السبت رابع شوال خيم الملك الظاهر بعساكره على طرابلس فسير صاحبها إليه يسأل عن سبب قصده فقال لأرعى زرعكم وأخرب بلادكم وأعود في السنة الآتية لحصاركم فبعث إليه يتسعطفه فبعث إليه الملك الظاهر الأتابك وسيف الدين الرومي بمقترحات وهي أن يكون له من مكان عينه من أعمال طرابلس نصفاً بالسوية وأن يكون له دار وكالة فيها وأن يعطي جبلة واللاذقية بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه وأن يعطي نفقات العساكر من يوم خروجه فلما علم الرسالة عزم على القتال ونصب المجانيق ثم ترددت الرسائل وتقررت القاعدة أن تكون عرقة والجبيل وأعمالهما للبرنس وأن يكون ساحل أنطرسوس والمرقب وبليناس وبلاد هذه النواحي بينه وبين الدواية والاسبتار والتي كانت خاصاً لهم وهي بارين وحمص القديمة تعود خاصاً للملك الظاهر وشرط أن يكون عرقة وأعمالها وهي ست وخمسون قرية صدقة من الملك الظاهر عليه فتوقف وأنف فلما بلغ لملك الظاهر امتناعه صمم على ما شرط عليه فأجاب وعقد الصلح بينهما مدة عشرة سنين وعشرة اشهر وعشرة أيام أوله يوم الأربعاء

ثامن شوال. ولما كان الملك الظاهر نازلاً على طرابلس بعث إليه أولاد الصارم مبارك بن الرضى ابن المعالي يستعطفونه عليهم وعلى أبيهم فاتفق الحال على أن ينزلوا من العليقة ويسلموها لنوابه ويخرج والدهم من الحبس ويقطع بمصر خبز مائة فارس ويكونوا عنده فلما نزلوا خلع عليهم وبعث بهم إلى مصر فحبسوا وولى الحصن علم الدين سلطان ثم طلب صارم الدين مبارك في محبسه بعد أيام من وصولهم فلم يعلم له خبر فأمر الملك الظاهر بحبس علم الدين المسروري وإلى القاهرة بسببه ثم شفع فيه فأطلق. وفي يوم الأحد ثاني عشر شوال وصل إلى دمشق سيل عظيم خرب كثيراً من العمائر وأخذ كثيراً من الناس منهم معظم الحجاج الروميين وجمالهم وأزوادهم فإنهم كانوا نزلوا بين النهرين وبلغ السور فغلقت الأبواب دونه وطما حتى دخل من المرامي وارتفع حتى بلغ أحد عشر ذراعاً وردم الأنهار بطين أصفر ودخل البلد من باب الفراديس وأخرب خان ابن المقدم وأماكن كثيرة وكان ذلك في زمن الصيف فكأن عز الدين أحمد بن معقل رحمه الله أشار إليه بأبياته في سيل مثله وهي: لله أي حياً حنت روائمه ... وهمهمت أسده والشمس في الأسد فصب في أغرب الأوقات صيبه ... غروب محتشك الأخلاق محتشد

وراحت الأرض بحراً فالوهاد إذا ... تعلو الهضاب بمد دائم المدد وأقبل السيل بالأمواج مرتمياً ... مثل القروم إذا تهتاج بالزبد فاعجب له من سحاب جاء يسحب من ... أذياله فوق نار الصحصح الجرد يمده كل واد مزبد لجب ... فيه حطام من الينبوت والحضد أرخى عزاليه ملأن محتفلاً ... فطال شم الربى في أقصر المدد وحين أهدي إلينا الصخر يقذفها ... من السناخيب هدى الضر للبلد فيا لها قدرة من قادر عجزت ... فيها البرية عن حصر وعن عدد وفي يوم السبت حادي عشر شوال رحل الملك الظهر عن مرج صافيثا وأذن لصاحب حماة ولصاحب صهيون ولرسل أولاد الصارم مبارك في العود إلى أماكنهم ودخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال وعزل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن قضاء دمشق وكان قد وليها عشر سنين محررة وولي القاضي عز الدين محمد ابن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ وخلع عليه وكان تقليده قد كتب ظاهر طرابلس. وفي يوم الجمعة خامس عشري شوال خرج الملك الظاهر من دمشق قاصداً القرين فنزل عليه يوم الاثنين ثامن عشري الشهر ونصب عليه المجانيق ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مقاتلة من اللمان فقاتلوا قتالاً شديداً وأخذت النقوب الحصن من كل جانب فطلب من فيه

الأمان فأمنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة وبعث بهم على الجمال مأمنهم مع بيسري وتسلم الحصن بما فيه من السلاح ثم هدمه وكان بناؤه من الحجر الصلد وبين كل حجرين عمود حديد ملزوم بالرصاص فأقاموا في هدمه اثني عشر يوماً في حصاره خمسة عشر يوماً. وفي يوم الاثنين سادس عشري الشهر نزل الملك الظاهر علي كردانة قرية قريبة من عكا ولبس العسكر وسار إلى عكا وأشرف عليها ثم عاد إلى منزله ثم رحل منها يوم الثلاثاء قاصداً مصر فدخلها يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة وجملة ما صرفه الملك الظاهر في هذه السفرة من حين خروجه إلى عوده ينيف عن ثمانمائة ألف دينار عيناً. وفي اليوم الثاني من وصوله إلى قلعة الجبل قبض على جماعة من الأمراء منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والأمير جمال الدين آقوش المحمدي والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجبي الناصري والأمير شمس الدين سنقر المساح والأمير سيف الدين بيدغان الركني والأمير علم الدين سنجر طرطج وغيرهم وحبسوا بقلعة الجبل وسبب ذلك أنه بلغه أنهم تآمروا على قبضه لما كان بالشقيف فأسرها في نفسه. وفيها بلغ الملك الظاهر وهو على حصن الأكراد أن صاحب قبرس خرج منها في مراكبه إلى عكا فأراد الملك الظاهر اغتنام خلوها فجهز سبعة عشر شينياً فيها الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور بن سليمان

بن سلامة بن إسحاق رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام الهواري رئيس الإسكندرية وشرف الدولة علوي بن أبي المجد علوي العسقلاني رئيس دمياط وجمال الدين مكي بن حسون مقدماً على الجميع فوصلوا الجزيرة ليلاً فهاجت عليهم ريح طردتهم عن المرسي وألقت بعض الشواني على بعض فتحطم منها أحد عشر شينيا وأخذ من فيها من الرجال والصناع أسراء وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفر وسلم الرئيس ناصر الدين وابن حسون في الشواني السالمة وعادت إلى مراكزها. وفي ويوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة تقدم الملك الظاهر باراقة الخمور في سائر بلاده والوعيد لمن يعصرها بالقتل فاريق على الأجناد والعوام منها ما لا يحصى قيمة ومكان ضمان ذلك في ديار مصر خاصة ألف دينار في كل يوم وكتب بذلك توقيع قرئ على منبري مصر والقاهرة. وفي الآخر من ذي الحجة اهتم الملك الظاهر بإنشاء شواني عوضاً عما ذهب على قبرس وفيها نزل الفرنج على تونس وسبب ذلك أن تجاراً منهم قصدوها فألزموا على تجارتهم حقوقاً فضربوا دراهم مغشوشة على سكة صاحب تونس وأخرجوها في الحقوق الموجبة عليهم وظن العمال أن الأمير تقدم بضربها فأخذوها ثم فحصوها فوجدوها ضرب خارج الدار فسأل عن أكثر الفرنج مالاً فقيل له أهل جنوة

فأمر باستيصال أموالهم في سائر بلاده وحبسهم فاستصرخ أهل جنوة بريدا فرنس وأمدوه بالأموال فجمع وحشد وقصد تونس في أربعمائة ألف رجل منها ستة وعشرون ألف فارس ومعه من الملوك صاحب نابرة وابن الفنش وزوجة صاحب صقلية وعدة مراكبهم أربعمائة مركب فأمر صاحب تونس إلى أن يخلي لهم الساحل ولا يقاتلهم أحد فنزلوا في البر في ثامن عشر ذي الحجة سنة ثمان وبعث صاحب تونس إلى قبائل العرب الذين في بلاده وجمع مشايخهم وكبراء دولته من الأجناد والكتاب ليشاورهم فكل أشار برأي ورأت الجماعة الأندلسيون أن يفسح لهم في البر فإن المكان الذي نزلوا به لا يتسع لقتال فنزلت زوجة صاحب صقلية في البرج الذي على طرف المرسي وأخرج صاحب تونس العدد وفرقها في الجند والمطوعة فحملوا من غير أمره وكان معهم جماعة من الفرنج في طاعتهم فأشاروا على من معها أن تنزل من البرج إلى البحر ويلحقوها بالمراكب لئلا تؤخذ ففعلوا ففهم الأندلسيون كلامهم فلما فاتهم مقصودهم منها عادوا إلى البلد وحكموا في نسائهم وأولادهم السيف ونهبوا أموالهم وأمر صاحب تونس الرعية بعدم القتال فأشتد طمع الفرنج وقصدوا المعلقة وقتلوا من أهلها سبعين رجلاً وأخذوا منبرها وبعثوا به إلى بلادهم. وذلك في ثاني عشر ذي الحجة سنة ثمان ثم بعثوا إلى صاحب تونس يطلبونه لمبارزتهم فقال ليس فيكم ملك متوج حتى أخرج

إليه وإنما الذين معكم كنود فأنا أبعث إليهم أكفاءهم ثم أنفق في العربان وأمرهم بالاحتياط بهم فخافت الفرنج وخندقوا على أنفسهم جميع شهر ذي الحجة فلما هل المحرم سنة تسع ومضت منه أيام خرج الفرنج وقاتلوا قتالاً شديداً ولم يكن في المسلمين من الجند أحد إنما هم عربان وبربر وعوام فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوا لهم فوق المائتي فرس وقتلوا ابن ريدافرنس وصاحب نابرة وابن صاحب قشتالة ابن الفنش. وعلم ذلك المسلمون في العشرين من ربيع الأول وأخبروا أيضاً أن ريدا فرنس مات في الليلة التي خرجوا في صبيحتها ولم يبق عند الفرنج ملك غير أخيه شرون وطلب الفرنج الصلح فتوقف صحب تونس فقيل له المصلحة الصلح فإن العرب لهم باطن مع الفرنج ولهم عليهم في كل يوم أربعون ألف دينار حتى لا يقاتلونهم فأجاب في ذلك فتمنع الفرنج حينئذ وقالوا كيف نصالح وقد حلفنا أن نموت بعضاً على بعض إلى أن ترد أموال الجنويين عليهم وقال شرون لصاحب تونس تعطيني الذي كان أبوك يعطيه لإنبرطور من حين قطعه وذلك عشرون سنة فقال إن كنت قوياً فاجلس ومني ومنك وإن كنت ضعيفاً مهزوماً فلا تشترط فوقع الصلح على رد مال الجنويين واتفقوا في رابع وعشرين ربيع الآخر ورحلوا بعد ذلك بسبعة عشر يوماً.

ذكر دخول آجاي بن هولاكو وصمغرا

ذكر دخول آجاي بن هولاكو وصمغرا صحبته إلى بلاد الروم قد تقدم القول برجوع أبغا إلى أذربيجان بعد كسر برق ووصل إلى ظاهر توريز ثم رحل إلى مدينة رومى وضرب مشورة بسبب صاحب مصر وغيره فاتفقوا أنهم يسيروا آجاي بن هولاكو في ثلاثة آلاف فارس وقال له تأخذ في طريقك عول بألف فارس وابن نايجونوين بألف فارس ودرباي بألف فارس وجمغل بألف فارس ونابجي بثلاثة آلاف فارس وعسكر الروم والبرواناة فوصلوا إلى الروم واجتمعوا وسيأتي ذكر ذلك في حوادث سنة سبعين إن شاء الله تعالى. فصل وفيها توفي إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن البارزي أبو إسحاق شمس الدين الحموي الفقيه الشافعي فقيه فاضل دين ورع وله شعر جيد قرأ على ابن اليمن زيد بن الحسن الكندي وولي التدريس بمعرة النعمان وصحب أبا منصور بن عساكر وأعاد عنده وولي التدريس بدمشق بالمدرسة الرواحية ثم ولي التدريس بحماة ثم ولي القضاء بها فوفق في قضاياه وسلك الطريق المرضي وكانت ولايته في سنة اثنين وخمسين وستمائة ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى بحماة في

شعبان ومولده سنة ثمانين وخمسمائة ومن شعره في وصف دمشق: دمشق لها منظر رائق ... فكل إلى وصلها تائق وأني يقاس بها بلدة ... أبى الله والجامع الفارق أحمد بن مقدام بن أحمد بن شكر أبو السعادات كمال الدين ابن القاضي الأعز أبي الفوارس ابن أبي السعادات كان أحد الكبراء المشهورين بالديار المصرية متأهل للوزارة وغيرها معروف بالمناصب الجليلة وله الرأي الصائب والعقل الثاقب والتقدم في الدول وله يد في النظم ومعرفة بالأدب ومشاركة في غيره توفي بالقاهرة في السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى. حسن بن أبي عبد الله بن صدقة بن أبي الفتوح أبو محمد الأزدي الصقلي المقرئ الشيخ الصلاح العابد الزاهد الورع كان من السادات في تعبده وزهده وإعراضه عن الدنيا وأهلها وتقلله منها مع قدرته على السعي في المناصب وغيرها وكان مثابراً على قضاء حوائج الناس يسعى فيها بنفسه وله الحرمة الوافرة والمهابة في الصدور والكلمة المسموعة والقبول التام من الخاص والعام وكانت وفاته بدمشق في ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر ودفن من الغد بسفح جبل قاسيون وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى ورضي عنه. الحسين بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الوليد بن القاسم

ابن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أبو عبد الله زكي الدين القرشي الأموي العثماني الشافعي مولده سنة اثنتين وأربعين وستمائة وتوفي في رابع صفر هذه السنة بدمشق ودفن في تربتهم بسفح قاسيون رحمه الله وكان من الفضلاء النبلاء اشتغل بالفقه والأصول والخلاف والعربية وأفتى ودرس وكان له مشاركة في الأدب وهو من بيت الرئاسة والفضيلة ومن شعره من جملة أبيات: حيا وأقبل يمشي مشية الثمل ... يستن في حسن برد ناعم خضل في كفه طاسة يهدي لمغرمه ... رشاً ألذ وأحلى من جنى العسل فقلت هيهات لا خوف ولا جزع ... أنا الغريق فما خوفي من البلل سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين الصيرفي كان من أعيان الأمراء بالديار المصرية وأكابرهم وممن يخشى جانبه ويخاف فلما تملك الملك الظاهر واستقر قدمه أخرجه إلى الشام ليأمن غائلته وأقطعه خبزاً منه عدة قرى في بلد بعلبك فطلع إلى بعلبك وتمرض وأدركته منيته بها فتوفي ليلة الأربعاء سادس صفر رحمه الله وهو في عشر الستين. سنجر بن عبد الله المستنصري الأمير قطب الدين البغدادي المعروف بالباغز كان من مماليك الإمام المستنصر بالله رحمه الله ولما ملك التتر بغداد في سنة ست وخمسين على ما تقدم شرحه هرب جماعة كان قطب الدين المذكور منهم ووصل إلى الشام وكان محترماً في الدولة الظاهرية وعنده معرفة ونباهة وحسن عشرة ويحاضر الأشعار والحكايات وتوفي

في العشر الأول من صفر رحمه الله وهو في عشر الستين. عباس بن محمد بن أيوب بن شاذى أبو الفضل الملك الأمجد تقي الدين الملك العادل الكبير كان محترماً عند الملوك من أهل بيته وعند الملك الظاهر لا يترفع عليه أحد في المجلس ولا في الموكب وهو آخر من مات من أولاد الملك العادل لصلبه وهو كبير البيت الأيوبي غير مدافع وكان دمث الأخلاق حسن العشرة لا تمل مجالسته وكانت وفاته يوم الجمعة ثاني وعشرين جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين أبو محمد قطب الدين الشيخ العارف المرسي الزقوطى كان أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم وبعدد المعارف وله تصانيف عدة ومكانة مكينة عند جماعة من الناس وأقام بمكة سنين عديدة إلى أن توفي بها في الثامن والعشرين من شوال هذه السنة ومولده سنة أربع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى والزقوطي نسبة إلى حصن من عمل مرسية يقال له زقوطة. عبد الله بن أحمد بن عبد الواحد بن الحسين بن أبي المضاء أبو بكر شمس الدين كان من أعيان أهل بعلبك وصدورها وولي فيها الحسبة مدة زمانية وولي غيرها من المناصب وأصابه خلط يعتريه في بعض الأيام يشبه الصرع وكان له ثروة ووجاهة وحج في سنة سبع وتسعين وخمسمائة وتوفي بمنزله ببعلبك عشية نهار الخميس سادس عشر جمادى

الآخرة ودفن من الغد ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك وهو في عشر التسعين رحمه الله. عبد الواحد بن عبد المؤمن بن سيد بن علوان البعلبكي كان من العدول الأمناء وتوفي في ليلة الثلاثاء عاشر ربيع الأول وهو في عشر الستين رحمه الله. عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله أبو المكارم السعدي التميمي المصري العدل المعروف بزين القضاة بن الحباب سمع وحدث وهو من بيت الرياسة والنبل والعدالة والفضل وبيته من البيوت المشهورة بالديار المصرية من حين استوطنوها وهم من ذرية زيادة الله بن الأغلب آخر ملوك إفريقية الذين انتقل عنهم الملك إلى الخلفاء الفاطميين وكانت وفاة زين القضاة في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله ومولده في غرة المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر. عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى أبو حفص شرف الدين السبكي الفقيه المالكي مولده في عشر ذي الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة تفقه وسمع وحدث وأفتى وتولى الحسبة بالقاهرة مدة ثم تولى الحكم بالديار المصرية حين جعلت القضاة بها من المذاهب الأربعة ودرس بالمدرسة الصالحية بالطائفة المالكية وكان أحد المشايخ المشهورين بالعلم والدين والفضل والخير وتوفي بالقاهرة ليلة الخامس والعشرين من ذي القعدة ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى والسبكي

نسبة إلى سبك من أعمال الديار المصرية. عمر بن علي بن أبي بكر بن محمد بن بركة بن محمد أبو الرضا رضي الدين الحنفي المعروف بابن الموصلي مولده بميافارقين سنة أربع عشرة وستمائة تفقه ودرس وأفتى وحدث وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل والرياسة والديانة والنبل وله نظم حسن وخط جيد وكانت وفاته في ثاني عشر شهر رمضان المعظم بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى. عيسى بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كامل أبو محمد الكردي الهكاري الأمير شرف الدين سمع بالقدس من الخطيب أبي الحسن على بن جميل المعافري وأجاز له أبو حفص عمر بن محمد ابن طبرزد وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندي وحدث ومولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالقدس الشريف وكان أحد الأمراء الكبار مشهوراً بالشجاعة معروفاً بالإقدام وله وقائع معروفة مع العدو المخذول بأرض الساحل وغيرها ومواقف مشهورة في المصافات وولي الأعمال الجليلة وتقدم على العساكر في الحروب وكان ممن جمع بين الدين والشجاعة والكرم والمروءة وحاز الأوصاف الجميلة ما فاق به على كثير من أبناء جنسه وتوفي بدمشق في الثامن والعشرين من ربيع الآخر ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله. محمد بن أسعد بن عبد الرحمن بن كنفي بن عبد الرحمن أبو عبد الله

الهمذاني الشيخ الصالح الزاهد العابد كان من الأولياء الأفراد أقام بمشهد ابن عروة بجامع دمشق داخل باب البريد مدة سنين منعكفاً على العبادة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بكرة نهار الأربعاء سادس صفر بدمشق ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى. محمد بن إسماعيل بن عثمان بن المظفر بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بالمجد ابن عساكر سمع من الخشوعي والقسم بن علي الدمشقي وأبي المعالي محمد بن علي القرشي وابن طبرزد وحنبل والكندي وغيرهم وحدث ومولد مقارب سنة سبع وثمانين وخمسمائة وتوفي بدمشق في الثامن من ذي القعدة ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله. محمد بن تمام بن يحيى بن عباس بن يحيى بن أبي الفتوح بن تميم أبو بكر فخر الدين الحميري الدمشقي كان من صدور دمشق وأعيانها وعدولها ومولده في خامس ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة سمع من الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة وغيره وحدث بدمشق والقاهرة وتوفي بدمشق في رابع رجب ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. محمد بن خطلبا بن عبد الله أبو عبد الله ناصر الدين الأمير بن الأمير

صارم الدين التبنيني كان أميراً جليلاً كبير المقدار عالي الهمة واسع الصدر خبيراً بالتصرفات تنقلت به الأحوال وأحكمته التجارب وولي الولايات الجليلة وكان نزهاً عن أموال السلطان وأموال الرعية لا يدنس بذلك هو ولا أحد من حاشيته وكان صارماً ضابطاً لما يتولاه يكف القوى عن الضعيف وله الحرمة الوافرة عند الملوك ووصله من الأموال في عمره ما لا يحصى كثرة وأنفقها جميعها وقل ما بيده في آخر عمره وتوفي إلى رحمة الله تعالى مجرداً في حصن الأكراد بظاهره في شهر ذي الحجة ودفن ظاهر الحصن المذكور وقد نيف على السبعين وكان له إلمام بالأدب والفضيلة ومعرفة تامة بالجوارح ومعالجتها وصنف في ذلك وفي البيطرة ما يحتاج إليه وينتفع به رحمه الله. محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن أحمد بن حواري أبو المكارم تاج الدين التنوخي المعري الأصل الحنفي المذهب الدمشقي المولد والدار والوفاة المعروف بابن شقير مولده في سنة ست وستمائة سمع وحدث بدمشق والقاهرة وكان أديباً فاضلاً وعنده رئاسة ومكارم أخلاق ودماثة وحسن محاضرة وهو من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد وله فيه مدائح جمة وكان الملك الناصر يحبه ويقدمه على غيره من الشعراء الذين في خدمته وتوفي تاج الدين المذكور يوم الثلاثاء تاسع عشر صفر في منزله بسفح قاسيون ودفن في دهليز مغارة الجوع بقاسيون رحمه الله تعالى ومن شعره: لاح وهناً بالأبرقين بروق ... فاعترى قلبي المشوق خفوق

طرق الدمع طرفه وله منه صبوح لا ينقضي وغبوق أنحلته مرضى الجفون فما أن ... يهتدي نحوه الخيال الطروق ريقه رائق السلافة والثغر حباب وخده الراووق حل صدغيه ثم قال أفرقٌ ... بين هذين قلت فرق دقيق فأتى بالنطاق ينطق بالفر ... ق ولولاه أشكل التفريق وله: أسكرتني عيناك يا ابن خمار ... سكرة ما لخمرها من خمار ما رأينا من قبل شعرك ليلاً ... أشرقت في دجاه شمس النهار اطلع الحسن من ثناياك طلعاً ... في عقيق يسقي بصافي العقار ناله في جماله من مصون ... في هواه تهتكت أستاري محمد بن حيدر بن..... كان رجلاً عابداً يقوم معظم الليل ويكثر من الصلاة والتسبيح ويؤذن احتساباً وكانت والدته زوجة شيخنا الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه وتوفي ببعلبك في ثاني جمادى الأولى وقد نيف على سبعين سنة ودفن بالقرب من رأس العين ظاهر بعلبك رحمه الله. مرشد بن عبد الله شجاع الدين المظفري الخادم الأمير الكبير عتيق الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور صاحب حماة كان من الأبطال الشجعان وله في الحروب مواقف مشهورة وكان الملك الظاهر

السنة السبعون وستمائة

ركن الدين رحمه الله يحبه ويعتمد عليه لكفايته وشجاعته وكان الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة رحمه الله ابن أستاذه هو مخدومه لا يخالفه فيما يشير به يتصرف في مملكته كتصرفه وكان عنده إيثار وبر بالفقراء كثير الصدقة وتوفي إلى رحمة الله تعالى بحماة ودفن في تربته بقرب المدرسة التي أنشاها وهو في عشر السبعين. السنة السبعون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة والملك الظاهر بقلعة الجبل بالقاهرة. متجددات هذه السنة في يوم الأحد رابع عشر المحرم ركب الملك الظاهر إلى الصناعة لإلقاء الشواني في البحر وركب في شينى منها ومعه الأمير بدر الدين الخازندار فلما صار الشيني في الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر فنهض بعض رجال الشينى ورمى نفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلصه وقد كاد فخلع عليه وأحسن إليه. وفي ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر إلى الشام في نفر يسير من خواصه وأمرائه ودخل حصن الكرك ثم خرج منه وقد أخذ معه الأمير عز الدين أيدمر النائب كان فيه وسار إلى دمشق فوصلها يوم الجمعة ثاني عشر صفر فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي وولى مكانه الأمير عز الدين أيدمر ثم خرج منها إلى

ذكر توجه الملك الظاهر إلى حلب

حماة في السادس عشر منه ثم عاد عنها في السادس والعشرين منه. ذكر توجه الملك الظاهر إلى حلب وسببه أن صمغرا ومعين الدين سليمان البرواناة وعساكر المغل والروم لما عادوا من عند أبغا في السنة الخالية وردت عليهم أوامر أبغا بقصد الشام في هذه السنة فحشد وخرج صمغرا والبرواناة بعسكر عدته عشرة آلاف فارس فوصلوا إلى البلستين ثم إلى مرعش وبلغهم أن الملك الظاهر بدمشق فبعثوا ألفاً وخمسمائة فارساً من المغل ليتجسسوا الأخبار ويغيروا على أطراف بلاد حلب وكان مقدمهم إقبال بن بايجونوين فوصلت غارتهم إلى عين تاب ثم إلى قسطون ووقعوا على جماعة تركمان نازلين بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فتقدم الملك الظاهر بتجفيل البلاد وأهل دمشق ليحمل التتر الطمع فيدخلوا فيتمكن منه وبعث إلى مصر فخرجت العساكر ومقدمها الأمير بدر الدين بيسرى فوصلوا إليه في خامس ربيع الآخر وخرج بهم في السابع منه فسبق إلى التتر خبره فولوا على أعقابهم ولما مر الملك الظاهر بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحبها وكذلك الأمير نور الدين بن مجلي بمن عنده من عسكر حلب وسار حتى نزل حلب يوم الاثنين ثامن عشر الشهر المذكور فخيم بالميدان الأخضر ثم جهز الأمير شمس الدين الفارقاني في عسكر وأمره أن يدوخ بلاد حلب الشمالية ولا يتعرض لبلاد صاحب سيس وجهز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر وأمره بالتوجه إلى حران

فأما شمس الدين فإنه سار خلف التتر إلى مرعش فلم يجد منهم أحداً ثم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيماً بها وقد أمر بإنشاء دار شمالي القلعة كانت تعرف بالأمير سيف الدين بكتوت أستاذ درا الملك الناصر وأضاف إليها داراً تعرف بالملك الرشيد شرف الدين هارون ابن الملك المفضل موسى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ووكل بعمارتها الأمير عز الدين الأفرم. ولما عاد الفارقاني إلى حلب رحل الملك الظاهر منها قاصداً الديار المصرية في ثامن وعشرين ربيع الآخر ودخل مصر في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، ولما كان بحلب خرجت طائفة من الفرنج من عثليث وأغارت على قافون وأخذت التركمان على غفلة منهم فلحقهم الأمير جمال الدين أقوش الشمسي ببعض العسكر واسترد بعض الغنيمة ثم أغاروا ثانية على القرين فلحقهم واقتلع منهم عشرين فارساً وعند وصول الملك الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجردين على قافون غير الشمسي فشفع فيهم فأطلقهم. وأما الأمير علاء الدين طيبرس فإنه سار ومعه عيسى بن مهنا في جماعة من العرب فخاض الفرات وسار إلى حران فخرج إليه من بها من نواب التتر فالتقاهم عيسى وطاردهم وطاردوه فخرج عليهم العسكر فلما رأوه نزلوا عن خيولهم وقبلوا الأرض وألقوا سلاحهم فقبضوا عن آخرهم وكانوا ستين رجلاً وسار الأمير علاء الدين إلى حران

فأغلقوا أبوابها وتركوا باباً واحداً فخرج منه الشيخ محاسن بن القوال أحد أصحاب الشيخ حياة ومعه جماعة كثيرة وذلك يوم الثلاثاء سادس عشري ربيع الآخر وأخرج له طعاماً تبركا فتلقاه الأمير علاء الدين وترجل له فأخرج له مفاتيح حران وقال له البلد للسلطان ثم عاد علاء الدين ولم يدخل حران فعبر الفرات سباحة وعاد إلى مصر. وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عبر الملك الظاهر إلى بر الجيزة فأخبر أن ببوصير السدر مغارة بها مطلب فجمع لها خلقاً فخفروا أمداً بعيداً فوجدوا قطاطاً ميتة وكلاب صيد وطيوراً وغير ذلك من الحيوان ملفوفاً في عصائب وخرق فإذا حلت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء وأقام الناس ينقلون ذلك مدة ولم ينفد ما فيها فأمر الملك الظاهر بتركها وعاد من الجيزة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين منه. وفي يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة ركب الملك الظاهر إلى الصناعة ليرى الشواني التي عملت وهي أربعون شينياً فسر بها. وفي الشهر المذكور ولدت زرافة بقلعة الجبل وهذا أمر لم يعهد وأرضع ولدها لبن بقرة. وفي ثالث شهر رجب أمر الملك الظاهر جماعة منهم الأمير شرف الدين مختص وبهاء الدين أيوب أمير آخور وركن الدين منكورس الزاهدي وأسد الدين قراصقل وأسد الدين منكورس الحموي وناصر الدين

نصر اللالا وتوجه الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي إلى الساحل في جماعة من الأمراء والأجناد يوم الاثنين سادس شهر رجب. وفي يوم الجمعة ثاني شعبان أمر الملك الظاهر بالحوطة على بيت الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد المقدسي الحنبلي وحمل ما فيه من الودائع فحملت إلى قلعة الجبل وسبب ذلك أنه وقع بينه وبين التقي شبيب الحراني الكحال شنآن كان أصله أن المذكور كان له أخ ينوب عن الشيخ قاضي القضاة في المحلة فعزله لأمر أوجب عزله فحمل شبيب المذكور تعصبه لأخيه أن كتب رقعة إلى الملك الظاهر ذكر فيها أن عند الشيخ شمس الدين ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام وذكر جملة كبيرة قد مات بعض أهلها واستولى عليها فلما وصلت إليه استدعي الشيخ شمس الدين وسأله فأنكر فحلفه فتأول وحلف فأمر بهجم بيته فوجد فيه كثيراً مما ادعاه شبيب بعضه قد مات أهله ولهم وراث وبعضه أهله أحياء والغبار عليه عاكف لم تمسه يد فأخذ من ذلك زكاته عدة سنين وسلم لأصحابه وحنق الملك الظاهر على الشيخ وحبسه فتسلط عليه شبيب حينئذ وادعى أنه حشوي وأنه يقدح في الدولة وكتب بذلك محضراً فعقد له مجلس يوم الاثنين حادي عشر شعبان بعد سفر الملك الظاهر إلى الشام وكان المجلس بحضرة

ذكر وصول رسل التتر إلى الملك الظاهر

الأمير بدر الدين الخازندار فاستدعي بالشهود الذين شهدوا في المحضر فنكل بعضهم عن الشهادة فأطلقوا وشهد الباقون فأخرق بهم وحرصوا وتبين للأمير بدر الدين تحامل شبيب فأمر بحبسه والحوطة على موجوده وأعيد الشيخ شمس الدين إلى الحبس فأقام به إلى أن أفرج عنه في نصف شعبان سنة اثنتين وسبعين. وفي الثالث من شعبان توجه الملك الظاهر في جماعة من الأمراء والخواص إلى الشام وخيم بني قيسارية وأرسوف وكان مركزاً بها الأمير شمس الدين الفارقاني فرحل عنها إلى مصر ودخلها يوم الاثنين تاسع عشر شعبان وتلقاه الملك السعيد والأمير بدر الدين الخازاندار ثم إن الملك الظاهر شن الغارات على بلد عكا فخرجت إليه الرسل يطلبون منه الموادعة والصلح وترددوا في ذلك حتى تقررت الهدنة مدة عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها ثاني عشري شهر رمضان ثم رحل بالعساكر التي بالساحل ونزل بهم خربة اللصوص ثم سار إلى دمشق فدخلها في الثامن من شوال. وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان وصل جماعة كثيرة من التتر إلى حران فأخربوا سورها وكثيراً من أسواقها ودورها ونقضوا جامعها وأخذوا أخشاب سقوفه واستصحبوا معهم من فيها فخربت ودثرت. ذكر وصول رسل التتر إلى الملك الظاهر كان قد وصل رسل صمغرا نوين المقيم بالروم في السابع من شوال وهم

فصل

مجد الدين دولات خان وسعد الدين سعيد الترجمان من جهة صمغرا ومن جهة معين الدين سليمان بن مهذب الدين بن محمد نائب السلطنة ببلاد الروم فأحضرهم وسألهم عما جاؤا فيه فقالوا صمغرا نوين يسلم عليك ويقول لك مذ جاورته في البلاد لم يصله من جهتك رسول في أمر تختاره وقد رأى من المصلحة أن تبعث إلى أبغا رسولاً بما تحب حتى يساعدك على بلوغ غرضك وتتوسط عنده فأكرم الملك الظاهر الرسل وركبهم معه في الميدان مراراً ثم عين الأمير فخر الدين إياز المقري والأمير مبارز الدين الطوري رسولين إلى أبغا وبعث معهما جوشنا له ولصمغرا قوساً فسارا مع رسل صمغرا فلما وصلا قونية حضرا جامعها يوم الجمعة فسمعا الرعية يبتهلون بالدعاء للملك الظاهر فأديا الرسالة إلى صمغرا ومضمونها شكره. ثم أخذهما البرواناة وسار بهما إلى أبغا فلما اجتمعا به قال لهما ما الذي جئتما فيه فقالا إن صمغرا بعث إلى السلطان وأخبره أنك أحببت أن يأتي إليك من جهته رسول فأرسلنا نقول لك أن أردت أن أكون مطاوعاً لك فرد ما في يدك من بلاد المسلمين فقال هذا لا يمكن وأقرب ما في هذا أن يبقى كل واحد منا على ما في يده فحصلت بينهما مفاوضات أغلظ لهما فيها وانفصلا عنه من غير اتفاق فوصلا دمشق في خامس عشر صفر سنة إحدى وسبعين. وفي ذي القعدة وصل إلى دمشق رسل من بيت بركة من عند منكوتمر بن طغان بن سرطق بن باتو في البحر وكانوا لما خرجوا من

بلاد الأشكرى صادفهم مركب من البيسانيين فأخذهم ودخلوا بهم عكا فقبح عليهم من بها ما فعلوه ثم جهزوهم إلى دمشق ولم يرد البيسانيون ما أخذوا لهم وكان معهم هدية فلما اجتمعوا بالملك الظاهر عرفوه ما كان معهم فبعث إلى الإسكندرية ومنع من فيها من التجار البيسانيين من السفر حتى يعوضوا ما أخذ أصحابهم وكان مضمون رسالتهم أنهم أحضروا كتاباً للملك الظاهر بجميع ما كان في أيدي المسلمين من البلاد التي استولى عليها هولاكو وطلبوا منه أن ينجدهم ويعينهم على استيصال شأفته. وفي ذي الحجة توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لنقل حجارة المجانيق إلى القلعة ورؤية ما عمر فيها ثم سار إلى حصن عكا فأشرف عليه ثم عاد إلى دمشق فدخلها في خامس المحرم سنة إحدى وسبعين. وفي هذه السنة وهي سنة سبعين تسلم نواب الملك الظاهر قلعة الخوابي والقليعة من بلد الإسماعيلية ولم يبق خارجاً عن مملكته من جميع حصونهم سوى الكهف والقدموس والمينقة لأن أهلها لما قبض الملك الظاهر على نجم الدين بن الشعراني وولده عصوا بالقلاع المذكورة وقدموا عليهم مقدماً.

فصل وفيها توفي أحمد بن سعيد بن أحمد بن أبي بكر بن الحسين أبو العباس صفي الدين النيسابوري الأصل اللهاوري المولد والمنشأ الصوفي توفي بالقاهرة في حادي عشر شهر رمضان المعظم ودفن من الغد بمقابر باب النصر ومولده في العشرين من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وخمسمائة صحب جماعة من مشايخ الصوفية وتهذب بهم وتأدب بآدابهم وسمع وحدث وكان أحد المشايخ المشهورين بالخير والصلاح والعفة والانقطاع والمعرفة وله كلام على طريقهم وتقدم فيهم مع ما كان عليه من لطف الأخلاق ولين الجانب وحسن الملقى وجميل الطريقة رحمه الله. الحسن بن داود بن عيسى ببن محمد بن أيوب بن شاذى أبو محمد الملك الأمجد مجد الدين بن الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر رحمهم الله تعالى وقد تقدم ذكر نسبهم في ترجمة مجير الدين يعقوب بن العادل فأغنى عن إعادته كان الملك الأمجد من الفضلاء عنده مشاركة جيدة في كثير من العلوم وله معرفة تامة بالأدب غير أنه لم يكن له طبع في نظم الشعر ثم وقفت بعد ذلك على سفينة بخط عز الدين محمود الورمدي رحمه الله وفيها أنشدني نجيب الدين الحجازي للملك الأمجد بن الملك الناصر داود رحمهما الله تعالى:

من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والغليل غليلي عجباً لقوم لم تكن أكبادهم ... لجوىً ولا أجسادهم لنحول دقت معاني الحب عن أفهامهم ... فتأولوها أقبح التأويل في أي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التنكيد والتنكيل إن قلت في عيني فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي لكن رأيت مسامعي مثوى له ... وحجبتها عن عذل كل عذول ومحاسنه كثيرة ومكارمه غزيرة وتنقلت به الأحوال في عمره فتزهد وصحب المشايخ وانتفع بهم وأخذ عنهم واشتغل على العلماء وحصل وكان كثير البر بمن يصحبه من المشايخ لا يدخر عنهم شيئاً وكانت همته عالية ونفسه ملوكية وعنده شجاعة وإقدام وصبر على المكاره. حكى لي أنه لما عاد العسكر من إنطاكية مع الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري رحمه الله في سنة ستين وستمائة كان المذكور في جملتهم وقد غرق أخوه شقيقه الملك الأفضل نور الدين علي رحمه الله في تلك السفرة فبينا هو يساير بعض الأمراء ويحدثه مر به إلى جانبه رجل يجر جنيباً فضربه ذلك الجنيب كسر رجله فلم يتأوه ولا قطع حديثه ولا ما كان فيه فلما امتلأ الخف بالدم أمر بعض من كان معه أن ينزل ويشق أسفل الخف ليذهب منه الدم وكان يتلقى جميع ما يريد عليه من الأمور المؤلمة بالرضا والتسليم وكان له عقيدة عظيمة في الفقراء والمشايخ وكان جميع أهل بيته يعظمونه ويعترفون بتقدمه عليهم حتى عم أبيه الملك الأمجد تقي الدين بن العادل وكذلك سائر الأمراء وأرباب

الدولة وله اليد الطولى في الترسل مع حسن الخط وأنفق في عمره أموالاً جمة معظمها في طاعة الله تعالى وكان مقتصداً في ملبوسه ومركوبه ويتعلق بنفسه مسرفاً في فعل الخير وبر الإخوان رحمه الله تزوج ابنة عم أبيه الملك العزيز عثمان ابن العادل ثم تزوج ابنة الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر. غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله وهي أخت الملك الناصر وأولدها ولداً سماه صلاح الدين محمود وهو باق وكان عنده من الكتب النفيسة ما لا يوجد عنده غيره فوهب معظمها لأصحابه وإخوانه وسمع الكثير وحصل الفوائد وكان مقصداً لمن يقصده يقوم معه بنفسه وماله وجاهه لا يستحيل على أصحابه ولا يتغير عن مودتهم وإن تغيروا أواسطه عقد بيتهم رحمه الله تعالى وكانت وفاته بدمشق ليلة الاثنين سادس عشر جمادى الأولى ودفن من الغد بسفح قاسيون في تربة جده الملك المعظم. وكانت والدة الملك الأمجد المذكور ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل الكبير فسمي صاحب هذه الترجمة باسمه وإلى جده المذكور ينسب الغور الأمجدي وتلقاه أولاد الملك الناصر داود بالإرث عنها وتوفي الملك الأمجد صاحب هذه الترجمة وهو في عشر الخمسين وقد نيف عليها ورثاه غير واحد من الفضلاء بعدة قصائد ومقاطيع فممن رثاه المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج أيده الله

تعالى بقوله: هو الربع ما أقوى وأضحت ملاعبه ... مشرعة إلا وقد لان جانبه وقفت به والشوق نحو قبابه ... يجاذبني طوراً وطوراً أجاذبه أسايله جهلاً ومن سفه الهوى ... مخاطبة الإنسان من لا يخاطبه أسايله والبين قد زار ربعه ... فنابت عن العيش الهنيء نوائبه وعهدي به والعز عن كل ناظر ... يطوف به إلا عز الوفد حاجبه لئن قلصت كف الزمان ظلاله ... وشابت هنئ العيش في هذا شوائبه فقد كان مغني ضافيات ظلاله ... على نازليه صافيات مشاربه عهدت به من آل أيوب ماجداً ... كريم المحيا زاكيات مناسبه يزيد على وزن الجبال وقاره ... ويكثر ذرات الرمال مناقبه أجار على صرف الزمان فغاله ... على غرة والثأر يحتال طالبه قضى فاعتدت فينا الليالي وطالما ... غدت في عدانا قاضيات قواضبه ويوم كليل الصب إذ ظل سمره ... مداه ونقع الصافنات غياهبه حلا وجهه جلاه من حيث أنه ... هلال وأطراف الرماح كواكبه بكاه من السمر الكعوب وغيره ... إذا مات تبكيه من السمر كاعبه غدت بذيول الحزن تعثر خيله ... وكم سبقت ريح الجنوب جنائبه إذا ما بكت عجم العراب فقد بكى ... من الخلق طراً عجمه وأعاربه ترى بعده العافين شتى وطالما ... حواهم نداه والزمان مصاحبه فمن لاثم للتراب من عتباته ... ومن متصد للزمان يعاتبه

إذا ما رثوه بالغرائب بعده ... فمن قبل قد عمت عليهم رغائبه هو ابن الذي لان الشديد بعد النهى ... له فلذاً والدهر جم عجائبه يحدث عن فصل الخطاب كتابه ... ويخبر عن فصل الخطوب كتائبه عليكم بني الآمال باليأس بعده ... فلليأس عز يأبن الذل صاحبه ولا ترقبوا نوء السماحة بعده ... فأفق الأماني مقشعات سحائبه الحسين بن علي بن الحسن بن ماهد بن طاهر بن أبي الجن أبو عبد الله مؤيد الدين الحسيني كان من أعيان الأشراف ووالده نظام الدين تولى نقابة الأشراف مدة ونظر بعلبك وأعمالها مدة أخرى وكان وأسع النعمة كثير الأملاك وافر الحرمة نزهاً عفيفاً في ولاياته غير أنه كان قليل النفع وكان له مكانة عند الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعند وزيره أمين الدولة وأما ولده مؤيد الدين صاحب هذه الترجمة فكان شاباً حسن دمث الأخلاق كثير الاحتمال والخدمة لم يصحبه بنفسه مع عظم بيته وعدم احتياجه بل تحمله المروءة على ذلك وكان بيني وبينه صحبة أكيدة ومودة جمع الله بيننا في جنته وكان عنده تشيع يسر ولكن لم يسمع منه كلمة تؤخذ عليه وكان يعظم الصحابة رضوان الله عليهم ويترضى عنهم ويذم من يسلك غير ذلك ويبري منه وكانت وفاته يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر بقلعة بعلبك لأنه تمرض في مدينة بعلبك وحصل أراجيف وجفل أوجب انتقال معظم أهل البلد إلى القلعة فانتقل المذكور وهو متمرض في جملتهم فأدركته

منيته بها ودفن في مقابر باب سطحا ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك ولم يبلغ أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. سلار بن الحسن بن عمر بن سعيد أبو الفضائل كمال الدين الأربلي الفقيه الشافعي كان من الأئمة الفضلاء الخبيرين بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وكان الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله قد جعله معيد مدرستة التي وقفها بدمشق لعلمه بغزارة علمه ولم يزل على ذلك إلى حيث توفي لم يتريد منصب آخر وكان عليه مدار الفتوى في وقته بدمشق واشتغل عليه جماعة وانتفعوا به ومن يجتمع به في النادر يصفه بشراسة الأخلاق وتوعرها فإذا أكثر الشخص من الاجتماع به وجد عنده في الخلوة دماثة وحسن مباسطة وسعة صدر وكانت وفاته ليلة الخميس الخامس من جمادى الآخرة بدمشق ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله وهو في عشر السبعين. سنقر بن عبد الله الأمير شمس الدين المعروف بالأقرع وهو من مماليك الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل وكان من أعيان الأمراء بالديار المصرية وأكابرهم وتقدم في الدول وكان الملك الظاهر رحمه الله نقم عليه لأمر بلغه عنه فاعتقله وتوفي في الثامن والعشرين من ربيع الأول هذه السنة رحمه الله وقد نيف على الستين سنة من العمر. عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن طاهر ابن محمد بن محمد بن الحسين بن علي أبو الحسين عماد الدين الحلبي الشافعي

المعروف بابن العجمي تفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وسمع وحدث ودرس وتولى الحكم بمدينة الفيوم وغيرها وناب في الحكم بدمشق مدة وكان مشكور السيرة شديد الأحكام عارفاً بفضل الخصومات وتوفي بحلب في رابع شهر رمضان هذه السنة مولده في ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وستمائة بحلب رحمه الله وبيته مشهور بالعلم والحديث والرئاسة والسنة والجماعة. علي بن عبد الخالق بن علي بن محمد بن الحسن أبو الحسن عز الدين الأسعردي الأصل البعلبكي المولد والدار والوفاة كان من الصدور الأماثل خبيراً بالكتابة وصناعة الحساب قيماً بها تولى عدة ولايات شهادة ديوان بعلبك ثم مشارفته ثم نظره وتولى نظر الأسرى بدمشق ثم ولي نظر حمص وأعمالها ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته ببعلبك ليلة الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وكان حسن العشرة كثير المداراة والمجاملة وجده القاضي مهذب الدين علي بن محمد الأسعردي كان من العلماء الأعيان ولي القضاء ببعلبك مدة زمانية في الأيام الصلاحية ولم يزل متولياً إلى حين وفاته وكان سديد الأحكام متحرياً فعل الحق وتوفي عز الدين المذكور وهو في عشر الستين ودفن بالقرب من دير إلياس عليه السلام ظاهر بعلبك. علي بن عثمان بن علي بن سليمان بن علي بن سليمان بن علي أبو الحسن أمين الدين السليماني الأربلي الصوفي مولده بإربل سنة اثنتين وستمائة

وقيل في أحد الربيعين سنة ثلاث وستمائة وتوفي إلى رحمة الله تعالى بمدينة الفيوم من أعمال الديار المصرية في العشر الأخر من جمادى الأولى كان فاضلاً مقتدراً على النظم وهو من أعيان شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وكان في أول عمره يخدم جندياً ثم ترك الجندية وتزهد وصار أحد مشايخ الصوفية المشار إليهم ومن شعره وقد سير إلى بعض الأمراء هدية وكتب معها: هدية عبد مخلص في ولائه ... لها شاهد منها على عدم المال وليست على قدري ولا قدر مالكي ... ولكنها جاءت على قدر الحال وكتب إلى شرف الدين أبي البركات بن المستوفي وزير إربل وقد طلبه علاء الدين بن صالح الأربلي وتحدث معه في أن يلي البيمارستان: يا أيها المولى الوزير ذي الرعاية والعناية إن العلاء أضلني ... بالقول عن طرق الهدايه لألى لمارستانكم ... وأقوم فيه بالكفايه إني لمحتاج إليه متى أجبت إلى الولاية وله: تنال نوال الناس ثم تنيله ... فدهرك مطلوب بما أنت طالبه سخاؤك عما في يد الناس فوق ما ... تنيل من المال الذي أنت واهبه وله: قيل تهوى الجمال قلت لهم ما ... فيه عيب إن لم يكن فيه ريبه كيف لا أعتني بمن يعتني الله به إن ذى عقول عجيبه

وله في الشربات: عبد لكم في داركم كالدرة البيضاء إن أهملتموه تبدداً عريان يقلقه الهواء فكلما ... مرض النسيم أتوا إليه عودا وله: انظر بعين عناية ... وأعطف فعطفك مستفاد وأقل بحلمك عثرتي ... فلربما عثر الجواد وله: يقولون من تهواه زاد ملالة ... ومال فلا وصل لديه ولا وعد إذا ألف ذنب من حبيب تجمعت ... يقوم بها من حسنه شافع فرد وله في النرد: رجال من بني سام وحام ... لهم بالضرب والإيقاع رقص قيام في سماعهم عراة ... ليس عليهم في ذاك نقص وله: ارض بما قدر إلاله ولا ... تحرص فماذا يفيدك الحرص قد قسم الرزق في العباد فلا ... زيادة تنبغي ولا نقص وله: إني لأعرف في الرجال مخادعاً ... يبدي الصفاء ووده ممذوق مثل الغدير يريك قرب قرارة ... لصفائه والقعر منه عميق وله: كل ما تبتغيه من هذه الدنيا ... يعنيك منه ما يغنيك

وإذا كانت الكفاية لا تكفيك لا شيء بعدها يكفيك وله في شربة الماء: وخادم يخدم حتى إذا ... قصر صب الماء في حلقه ما فسح الشارع في ضربه ... فما لكم تفتون في شنقه وله: وإذا ضاق قلب المرء عما يجنه ... تبين منه في اتساع لسانه وصمت الفتى عما يجن ضميره ... أثم ولو أن اللهي في بيانه وله: عرفتكم فجهلت الناس عندكم ... فلم أعرج على أهل ولا وطن وفزت منكم بما أبغي ولي أسف ... باق لسالف ما ضيعت من زمني وله: كف عن الناس إذا شئت أن ... تسلم من قول جهول سفيه من قذف الناس بما فيهم ... يقذفه الناس بما ليس فيه وله في الشربات: وبيض الوجوه رقاق الشفاه ... تجمعن والحب في داريه يبعن على الناس بيع الرقيق ... ولم أر فيهن من جاريه وله من أبيات: وسكنت قلبي يا محرك وجده ... فعجبت كيف سكنت وهو مقلقل والقلب منزلة البدور وإنما ... خالفتها في كونها تنتقل

حل العزائم عقد بندك مثلما ... فتح الصبابة حاجب لك مقفل فلأن صبرت فما اصطباري عن رضاً ... وجميل وجهك أنى أتجمل وله من أبيات: لعبت خلفه الذؤابة فاستكبر تيهاً ... فقبلت أقدامه جمع العاشقين بالواو والنو ... ن ولكن جمعاً لغير السلامه علي بن عمر بن نبا أبو الحسن نور الدولة اليونيني كان رجلاً غزير المروءة كريم الأخلاق شجاعاً بطلاً مقداماً على الأهوال كثير التعصب لمن يقصده يبذل في ذلك نفسه وماله وكان له اليد الطولى في قتل الوحوش الضارية تصدى لتقل الأدباب فأفنى منهم شيئاً كثيراً لا يحصر بحيث كان يقتل في الليلة الواحدة عدة أدباب وكان سبب تصديه لقتلهم دون غيرهم من الوحوش أنه كان له أخ صغير وكان للملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه رحمه الله صاحب بعلبك دب في بيت بقلعة بعلبك فدخل أخو علي المذكور ليتفرج عليه وقرب منه فافترسه وقتله فكان نور الدولة المذكور يرى أنه يقتلهم يستوفي ثأراً وكانت وفاته بمنزله بمدينة بعلبك ليلة الأربعاء خامس وعشرين جمادى الآخرة ودفن من الغد قريباً من تربة الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله وهو بن عمتي وتزوج لي ثلاث أخوات كلما ماتت واحدة زوجه والدي رحمه الله بأختها وتوفي وعنده الأخيرة منهن وكان عند والدي في محل الولد وهو رباه وأسمعه الحديث فسمع عليه وعلى الشيخ بهاء الدين المقدسي وابن

رواحة رحمهما الله وغيرهم وحكى لي ناصر الدين علي بن قرقين رحمه الله ما معناه أن الخوارزمية لما طرقوا البلاد استولوا على ضواحي بعلبك ولم تبق إلا المدينة والقلعة وأما ظاهر البلد من القرايا فخرج عن الطاعة وأطاعهم فولوا على ضواحي بعلبك شخصاً من أعيانهم وتركوا عنده جماعة يسيرة منهم فكان يتصرف في البر وأهل البلاد في طاعته وهو ينتقل من مكان إلى مكان وكان متولي القلعة والمدينة إذ ذاك الأمير سيف الدين المعروف بأبي الشامات رحمه الله. قال ناصر الدين فقال لي والله إن هذا غبن عظيم يستولي على بلاد بعلبك وأعمالها رجل واحد من الخوارزمية ونحن كالمحصورين معه فقلت له تشتهي أن أحضره لك بنفسه ومن معه قال ومن لي بهذا قلت أنا أسعى لك فيه إن شاء الله تعالى فسر بهذا القول ولم تطمئن نفسه إلى وقوعه فاجتمعت بنور الدولة وحدثته في ذلك وقلت له تقدر نحضره قال نعم إن شاء الله تعالى قلت متى قال الليلة أمسكه وغداً أحضره فقلت كم تختار من الخيالة والرجالة قال سير لي خمس رجالة يلقوني بعد المغرب إلى تل بسقي فجردت عشرين راجل على أنهم يتوجهون إلى حصن اللبوة في شغل وكان لنا بحصن اللبوة وال لا يتعدى أمره باب الحصن وكتبت مع مقدم الرجالة ورقة وختمتها

مضمونها نور الدولة بن الحرامي مقدمكم فإذا وصلتم إليه افعلوا ما يقول لكم ولا تخالفوه وقلت للمقدم إذا وصلت تل بسقى افتح الورقة وافعل ما فيها فلما وصل التل قرأها ورأى نور الدولة هناك فجاء إليه وقال قد سيرونا إليك فقال ما لي بكم كلكم حاجة يروح منكم عشرة ويبقى عندي عشرة وكان قد أخذ خبر والي الخوارزمية أنه في قرية بنحة فتوجه بالعشرة إليها وتركهم خارج القرية ودخل بمفرده إلى القرية قريب الثلث الآخر من الليل فوجد شخصاً من أهل القرية قد خرج من بيت لقضاء حاجته فسأله عن الوالي فقال هو في تلك العلية نائم سكران هو ومن معه فقصد نور الدولة العلية وفتح بابها ودخل ووجد الوالي نائماً سكران فجذب سكينه وأيقظه بهدوء ففتح عينيه فرأى السكين مشهورة على حلقه وقال له إن تكلمت ذبحتك فلم ينطق فأخذه وأخرجه إلى الرجالة وسلمه إليهم ثم عاد وفعل كذلك بمن معه من أصحابه وجاء بهم إلى القلعة فأوعدوا السجن وتصرف النواب في البر على عادتهم بأيسر مؤونة وله أمور كثيرة من هذا الجنس من الأقدام والشجاعة رحمه الله تعالى. محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد ابن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى أبو عبد الله عماد الدين الربعي التغلبي البلدي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة العدل الرئيس الصدر الكبير مولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة تخميناً سمع من الكندي

وغيره وحدث وكان شيخاً جليلاً كريم الأخلاق لطيف الأوصاف حسن العشرة متفضلاً على من يعرفه باراً بمن يقصده محتملاً صبوراً كثير الإغضاء والحياء من بيت العلم والحديث والرياسة والعدالة والتقدم وقد حدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وجد جده وغير واحد من أهل بيته وكانت وفاته في العشرين من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد التكريتي أبو عبد الله وجيه الدين التاجر المشهور بسعة المال والجاه ولم يبلغ أحد من أمثاله من الحرمة ونفاذ الكلمة ما بلغ بحيث كانت النجابين ترد عليه من بغداد إلى دمشق في مهمات تتعلق الخلافة فينجز ما قدموا لأجله ويسفرهم وكانت متاجره لا يتعرض لها متعرض وكتبه عند سائر ملوك الأطراف وملوك الفرنج بالساحل نافذة ومن ينتسب إليه مرعي الجانب وهو من خواص الملك الناصر رحمه الله وأصحابه ويده مبسوطة في دولته وكلمته مسموعة ورسالته مقبولة عند ديوان الإنشاء ومع هذا كله فانقضت الدولة ولا يكتب له سوى الصدر الأجل وما يناسب ذلك من الألقاب لا غير وفي آخر الأيام الناصرية كانت عنده فضة كثيرة مروك وخشر فاستأذن الملك الناصر في ضربها دراهم فأذن له وجعل دار الضرب بيده فضرب منه شيء كثير جداً وهذا النقد من الدراهم التي ضربها

معروف ولما ملك التتار البلاد الشامية في شهور سنة ثمان وخمسين ذكر عنه أنه وصله فرمان هولاكو يتضمن الأمان له على نفسه وماله وأصحابه ولم يعرج على ذلك ولا وثق به ودخل الديار المصرية وغرم فيها جملة طائلة تقارب ألف ألف درهم فلما عاد الشام إلى المسلمين وتملك الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله قربه غاية التقريب وأدناه وعظم محله عنده بحيث أوصى إليه على أولاده وجعله ناظر أوقافه وما يتعلق به وأصغى إلى أقوله وزاد في حرمته فيما يكتب له وخوطب بالمجلس السامي وكان له من التمكن ما لا مزيد عليه غير أنه كان تمكنه في الأيام الناصرية أكثر وحكى لي الحاج فخر الدين إياز رحمه الله وكان رجلاً صادقاً قال حججت في السنة التي حج فيها الملك الظاهر فلما رأني فراشينه بمكة طلبوا مني ملازمتهم لمعرفة بيني وبينهم فلازمتهم فلما كان يوم عرفة بسطت بسط كثيرة على الجبل للملك الظاهر وحضر إليه أمراء العرب وملوك الحجاز وغيرهم وقعدوا في خدمته فحضر نصير الدين ولد وجيه الدين المذكور للسلام عليه فحين وطئ البساط قام له وبالغ في أكرامه والمساءلة له عن طريقه واستعراض حوائجه وتفخيمه في المخاطبة والنصير يتشكر ويدعو بما يناسب وهو يقول أبصر مهما كان لك من حاجة حتى نقضيها ولا يقول لوجيه الدين أبصروني في مكة وما التفوا إلي فقال ما للمملوك حاجة سوى أن هذا الركب لم يكن له أمير فتعبنا بهذا السبب والمملوك يسأل أن يعين مولانا السلطان

للركب الشامي أميراً فقال هؤلاء المصريين والشاميين من اخترت منهم بروح في خدمتك قال أريد جمال الدين بن نهار فطلبه السلطان وقال له هذا المولى نصير الدين قد اختارك على جميع من معي فتروح معه إلى الشام وتخدمه مثل ما تخدمني ولا تزال بين يديه حتى توصله إلى والده فقال السمع والطاعة وانفصل والناس يتستعظموا ذلك من مثل الملك الظاهر وأنه لعظيم منه وكان وجيه الدين كثير المكارمة للأمراء والوزراء وأرباب الدولة يهاديهم ويقضي حوائجهم ويتجر لهم فكان مدار الأمور أو أكثرها عليه وعنده بر للفقراء وصدقة ويعمل في كل سنة من التراييق والمعاجين والأكحال ما يغرم عليه جملة كبيرة ويفرقه للثواب وكان عنده دماثة أخلاق ورقة حاشية وينظم المواليا على رأي البغاددة قال كان صبي من القيمرية حسن الصورة قد تزوج وزف ليلة عرسه بدمشق فنظمت: لما جلو ذا الصبي كالبدر في حالو ... سبى المواشط وقالو ما قالو صبي وكردي وكردية من أشكالو ... لولا نبات عذاره لالتبس الحالو وأنشدته للملك الناصر فأعجبه وكان أقارب ذلك الصبي أكابر أمراء القيمرية فكانوا إذا حضروا يقول على سبيل المباسطة يا وجيه لولا يوهمني أنه ينشد البيتين قدامهم فأضع أصبعي على فمي أي أسكت عني فيضحك وكانت وفاة الوجيه رحمه الله بدمشق في العشر الآخر من شوال أو الأول من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون وقد ناهز السبعين من العمر.

نصير بن تمام بن معالي أبو الذكر المقيسي المؤذن كان حسن الصوت مليح الشكل يطرب حسه السامع وهو رئيس المؤذنين في وقته بدمشق وتوفي بها في ليلة التاسع عشر من المحرم ودفن في غده بباب الفراديس ومولده سنة سبع وثمانين وخمسمائة سمع من أبي المنجا عبد الله بن عمر ابن اللتي وغيره وحدث رحمه الله. يعقوب بن إبراهيم بن موسى بن يعقوب بن يوسف أبو يوسف شرف الدين بن المعتمد العادلي الدمشقي الحنفي مولده في رابع شهر رمضان المعظم سنة سبع وثمانين وخمسمائة بدمشق سمع من حنبل وحدث وتوفي في ثالث عشر شهر رجب بجبل قاسيون ودفن به رحمه الله تعالى، ووالده المبارز إبراهيم المعتمد متولي دمشق في الأيام العادلية وهو من أعيان الناس مشكور السيرة محمود الطريقة ينطوي على دين متين وبر كثير وحسن اعتقاد في الفقراء والصلحاء ومحبة لهم، صحب الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وانتفع به وكان الشيخ يثني عليه رحمه الله تعالى.

السنة الحادية والسبعون وستمائة

//بسم الله الرحمن الرحيم السنة الحادية والسبعون وستمائة دخلت والخليفة والملوك على لقاعدة المستقرة والملك الظاهر بالشام متجددات الأحوال في هذه السنة. في ثامن عشر المحرم أفرج ن الأمير عز الدين أيبك النجيبي وعز الدين أيدمر الغوري وكانا محبوسين بالقاهرة. وفي يوم الأحد سابع عشر المحرم توجه الملك الظاهر على البريد إلى الديار المصرية، وفي صحبته الأمير بدر الدين بيسري وجمال الدين آقوشي الرومي وسيف الدين جرمك الناصري؛ فوصل إلى قلعة الجبل يوم السبت ثالث وعشرين منه، فأقام إلى ليلة الجمعة التاسع والعشرين منه، ثم توجه إلى دمشق فدخل قلعتها ليلة الثلاثاء رابع صفر.

وفي الحادي والعشرين من المحرم وصلت جماعة من النوبة وصاحبها فهجموا ثغر عيذاب ونهبوا ما كان وصل من تجار جاؤوا من عدن ومصر وقتلوا منهم خلقاً وقتلوا واليها وقاضيها وأسروا ابن حلى، وكان مشارفاً على ما ترد به التجار. ثم ورد كتاب علاء الدين ايدغدي الحربدار متولي قوص يخبر بأنه رحل من قوص إلى أسوان فوصلها سادس عشر صفر وأقام ستة أيام؛ ثم رحل طالباً بلاد النوبة، فوصل إلى بلد يقال له الجون حادي وعشرين صفر، فقتل من به وأحرقه؛ ثم رحل منه إلى بلد أرمنا، فوصله في الخامس والعشرين منه فقتل من به وأحرقه؛ ثم رحل منه إلى اطميث فوصله في السابع والعشرين منه فقتل من فيه وأحرقه ودوخ بلادهم وأخذ بثأر من قتلوا. وفيها خرجت العساكر من الديار المصرية إلى الشام. وفي خامس جمادى الأولى اتصل بالملك الظاهر وهو بدمشق إن فرقة من التتر قصدت الرحبة، فبرز إلى القصير بالعساكر فبلغه أنهم عادوا عن الرحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيادين بالبحيرة على الجمال للجسور؛ ثم سار حتى وصل إلى الباب من أعمال حلب وبعث جماعة من المماليك والعربان لكشف أخبارهم وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أن طائفة من التتر مقدارها ثلاثة آلاف فارس على شط الفرات مما يلي الجزيرة، فرحل من منبج يوم الأحد ثامن عشر

جمادى الأولى ووصل شط الفرات وتقدم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدين قلاوون والأمير بدر الدين بيسري في أول الناس؛ ثم تبعهما بنفسه وتبعته العساكر فوقعوا على التتر فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتي نفس ولم ينج منهم إلا القليل وتبعهم الأمير بدر الدين بيسري إلى قريب سروج؛ ثم عادوا الذين كانوا على البيرة شرف الدين بن الخطير، وأتابك رسلان دعمش، وأمين الدين ميكائيل النائب بقونية، وأمراء الروم تقديراً ثلاثة آلاف فارس ومقدم المغل درباي؛ ولما اتصل بهم خبر الوقعة رحلوا عن البيرة بعد أن أشرفوا على أخذها وتركوا ما لهم من الأسلحة والعدد والمجانيق والأمتعة والحشارات ونجوا بأنفسهم، فسار الملك الظاهر إلى البيرة ووصلها في الثاني والعشرين من الشهر وصعدها وخلع على مستحفظها وفرق في أهلها مائة ألف درهم وأنعم عليهم ببعض ما تركه التتر عند هربهم؛ ثم رحل قاصداً دمشق. وقد ذكر خوض الفرات المولى شهاب الدين محمود الكاتب - أيده الله - في قصيدة أولها: سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الأقدار منها: لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الأعادي ثأر لما تراقصت الرؤوس وحركت ... من مطربات قسيك الأوتار خضت الفرات بسابح أقصى منى ... هوج الصبا من نعله الآثار

حملتك أمواج الفرات، ومن رأى ... بحراً سواك تقله الأنهار؟ وتقطعت فرقاً ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جيشك الجرار منها: رشت دماؤهم الصعيد فلم يطر ... منهم على الجيش السعيد غبار شكرت مساعيك المعاقل والورى ... والترب والآساد والأطيار هذي منعت وهؤلاء حميتهم ... وسقيت تلك وعمّ ذا الإيثار فلأملأن الدهر فيك مدائحا ... تبقى بقيت وتذهب الأعصار وقال ناصر الدين حسن بن النقيب الكناني رحمه الله في واقعة الفرات - وأظنه حضرها -: ولما ترامينا الفرات بخيلنا ... سكرناه منا بالقوى والقوادم فأوقفت التيار عن جريانه ... إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم وعمل صاحبنا موفق الدين عبد الله بن عمر رحمه الله ذكره إن شاء الله تعالى في ذلك: الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل اقتحم الماء ليطفي به ... حرارة القلب من المغل وعند اجتياز السلطان بحمص تقدم بعمارة الدور التي بالقلعة فعمرت وجدد له طارمة وسماط وتوجه إلى مصر، وخرج ولده الملك السعيد من قلعة الجبل لتلقيه يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، فاجتمع به

بين القصير والصالحية يوم الجمعة الحادي والعشرين منه فترجلا واعتنقا طويلاً؛ ثم ركبا وسارا إلى القلعة وأدخل أسراء التتر ركاباً على الخيل. وفي سابع هذا الشهر أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الدمياطي وكانت مدة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام، وفي يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب خلع على جميع الأمراء ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثياب والسيوف، وكان ما صرف فيهم فوق الثلاث مائة ألف دينار. وفي سادس عشر من شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر العتمي المعزي وأثبت موالي أيبك الأسمر أنه باق على ملكهم فاشتراه منهم. وفي العشر الآخر من الشهر سفر الملك الظاهر رسل منكوتمر ابن أخي بركة وبعث معهم هدية سنية من حوائص، وسيوف محلاة، وجواهر، وثياباً منوعة، وصحبتهم بدر الدين عزيز الكردي وغيره. وفي يوم الأربعاء ثامن شهر رمضان اشترى الملك الظاهر عز الدين أيبك النجيبي من مولاه الأمير جمال الدين آقوش النجيبي. وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضر إلى القلعة وأحضره بين يديه مع جماعة حاقوه على أشياء كثيرة، كثر بينه وبينهم فيها القيل والقال ورموه بفواحش كثيرة فتقدم باعتقاله، وهذا المذكور كانت له عند الملك الظاهر منزلة لم يظفر بها أحد منه بحيث

ذكر استيلاء الملك الظاهر على ما بقي من قلاع الإسماعيلية

كان ينزل إلى عنده كل جمعة المرة والمرتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعاته ويقف عند ما يرسم به ويستصحبه في سائر سفراته. ومتى فتح مكاناً فرض له منه أوفر نصيب، فامتدت يده في سائر المملكة يفعل ما يختار ولا يمنعه أحد من النواب، ودخل إلى كنيسة قمامة وذبح قسيسها بيده وأنهب ما كان فيها تلامذته وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبر عنه من الآلات والفرش، وصيّرها مسجداً، وعمل بها سماعاً ومدّ بها سماطاً؛ ودخل كنيسة الإسكندرية - وهي عظيمة عند النصارى - فنهبها وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء، وأنفق في تغييرها مالاً كثيراً من بيت المال؛ وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقفها عليه وحبس عليها أرضاً تجاورها تحكر لمن ينبني فيها يستغلها في كل سنة جملة كبيرة، وبنى لأجله الجامع بالحسينية. ذكر استيلاء الملك الظاهر على ما بقي من قلاع الإسماعيلية كانت طائفة منهم عصوا بقلعة القدموس على واليها وقتلوه وعلى من بقلعة المنيقة وقلعة الكهف وكاتبوا الملك الظاهر وسلموها له، فبعث إليها نائباً وكتب إلى من بالقلعتين في تسليمها على أن يعوضهم إقطاعاً بمصر، فأجابوا، وكان المتوسط بينهم الملك المنصور صاحب حماة. فلما أجابوا بعث سيف الدين دواداره ومعه رسلهم فوصلوا قلعة الجبل يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة فخلع عليه وكتب للرسل أماناً وأعطاهم مناشير بما

ذكر هرب عمرو بن مخلول من آل فضل

وعدهم من الأقطاع وعادوا يوم الأحد تاسع ذي القعدة. ذكر هرب عمرو بن مخلول من آل فضل كان الملك الظاهر قد حبسه وحامداً قريبه في برج من أبراج قلعة عجلون، فحفرا حفيرة قريبة من السور وأداما فيها وقيد النار حتى تكلس حجر السور فنقباه وخرجا منه وكانا قد أعدّا لهما خيلاً فهربا عليها وقصدا التتر، ثم ندما فكتبا إلى الملك الظاهر يستعطفانه، فحلف أنه لا يرضى عنهما حتى يعودا بأنفسهما إلى قلعة عجلون ويجعلا القيود في أرجلهما، ففعلا ذلك، فعفى عنهما. ذكر عزل الصاحب خواجا فخر الدين وزير الروم وسبب ذلك أن معين الدين البرواناة بلغه أن فخر الدين سيّر كتاباً إلى السلطان عز الدين كيكاووس - وهو نازل بصوادق - وذهبا؛ فسير: أحضر الوزير إلى مجلس آجاي وصمغرا ووجوه الدولة. وذلك في شهر رمضان من هذه السنة، وقال له: أنت سيرت ذهباً إلى السلطان عز الدين وكاتبته، قال: نعم! بالأمس كان عز الدين سلطاننا وصاحب البلاد وهو الذي أنشأك وأنشأني والآن فقد كتب إلي كتاباً يشكو ضرره وأنا أقل مملوكاً له فلا أقل من مراعاة بعض نعمتهم بالقدر اليسير الذي سيرته له هذا ما اعتمدته ولم أعتمد شيئاً غيره مما يوجب الإنكار عليّ. فقبض عليه وعلى ولده تاج الدين محمد واعتقلهما في قلعة يقال لها عمان جق، واحتاط على موجوده وأملاكه وكانت عظيمة جداً، والذي قبض عليه ضياء الدين

فصل

بن الخطير في داره وحمله إلى البرواناة. وأما ولده الصغير نصير الدين محمود فإنه نجا بنفسه وقصد أبغا وصار من خواصه، وولى البرواناة مكان فخر الدين مجد الدين الحسين ختنه. وأما نصير الدين فأحسن التوصل واستنجز يغلغا بالإفراج عن أبيه فخر الدين وعن أملاكه والوقوف التي عليه والتي وقعها لوجوه البر وأفرج عنه. وأقام ملازماً بيت ولده بغير خبر. وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بإنشاء جسورة في الساحل غرم عليها مبلغاً عظيماً وحصل للمسافرين بها الرفق الكثير. وفي هذه السنة هلك افرناط مقدم الداوية وكان أخذ أسيراً في كسرة الداوية مع عسكر حلب على بغراس سنة أربع وأربعين وستمائة؛ ثم خلص من الأسر بسبب كسر الخوارزمية لعسكر حلب على بزاعا أطلق مع مائة فارس وتسع من الداوية والاسبتار. وفيها قبض سالم بن إدريس بن محمود بن محمد الحضرمي على أخيه موسى صاحب ظفار واستبد بها. فصل وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن قرناص أبو إسحاق مخلص الدين الخزاعي الحموي، كان أديباً فاضلاً وله اليد الطولى في

النظم؛ وكانت وفاته بحماة يوم الأحد رابع شوال ودفن بتربة بني قرناص ظاهر حماة - رحمه الله تعالى - ومن شعره: ليلى وليلك يا سؤلي ويا أملي ... ضدان هذا به طول وذا قصر وذاك أن جفوني لا يلمّ بها ... نوم وجفنك لا يحظى بها السهر وله: ولما علا المنصور لا حطّ قدره على البلغة الدهماء سار بإسعاد جرت تحته كالموج حرّكه الصبا ... ووجه صباح الملك من ليلها بادى فأيقنت أن البحر تحت أبحر ... وسؤدد أهل الأرض فوق سواد وقال على وزن قصيدة الشريف الرضي رحمه الله ورويّها ولقد أجاب في ذلك: يا جنة الطرف نار القلب مأواكي ... وما توقّدها من برد ذكراكي ويا مهاة الدمى كل الدماء لكم ... حلّ فمن بحرام الفتك أفتاكي حاشاك يا ظبية الأنس التي افترست ... أسد العرين من التأثيم حاشاكي ومن تناسيك من أضحى لديك لقى ... ملق إليك فؤاداً ما تناساكي وقد علمت غرام القلب من دنف ... ما كان يعلم ما الأشواق لو لاكي وليس يعجبه مرأى سواك ولا ... يشفى غليلاه إلا ريّ رؤياكي وأنت جنته يا برء علته ... مما تنوب يد الأيام مضناكي وأنت من جوهر الأشياء صوّرك ال ... رحمان ثم بروض الحسن انشاكي يثنى بثنيك قصب البان عابسة ... وتبسم الدر عجباً من ثناياكي

وما بدا البدر في أنوار بهجته ... إلا وعاد حياءً من محيّاكي والشمس ما طلعت في الحجب وانتقبت ... بغيمها خجلاً إلا للقياكي وعيد حبل من أثنى عليك بها ... لسانه طرباً من لفظه الحاكي يدعى عليا يناديه فتى حسن ... يشكو إليك وما المشكى كالشاكي فعطفه يا مناه وارحميه فمن ... يمته طرفك لا يحييه إلا كي وواصليه قد أودى الصدود به ... وعامليه بلا مطل بحسناكي فالله يشكر مسعاك لديه غداً ... إذا شكرت مساعي الواله الباكي وله: فإن لم تجدني مخلص القول صادق ال ... وداد إذا جربتني في العظائم فلا تسدين بعدي صنيعاً إلى امرىء ... سواي وقل قد مات أهل المكارم وله: وإذا قصدت سواكم بشكاية ... وقف الإباء المحض لي عن مقصدي وإذا انتقدت بني الزمان لحاجتي ... قال النجاح هدى إلي بأحمد هبت له نسمة من نحو أرضكم ... فأنشأت سحباً خلنا بها المطرا حتى إذا ما وردناه على ظمأ ... لم نلق ماء فأمطرنا لها النظرا وله: لك في الصدود عنى فدع يوم النوى ... لا تعجلن به فذاك المغرم فلتعلمن إذا افترقنا أيّنا ... تبّت يداه ومن على من يندم

وله: ليس الظريف الذي تبدو خلائقه ... للناس ألطف من النسيم سرى لكنه رجل عفّت ضمائره ... عن المحارم بالمنى ظفرا أحمد بن عثمان بن سياوش أبو العباس الأخلاطي المقرىء المنعوت بالتقى أمام الكلاسة، قرأ القرآن الكريم بالقراءات وأقرأه، وسمع من الشيخ علم الدين السخاوي ومن غيره وحدث؛ وكان مشهوراً بالخير والدين والصلاح، وتوفي في خامس شهر رمضان المعظم بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون - رحمه الله - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، أحمد بن علي بن حمير أبو العباس صفي الدين البعلبكي المعروف بابن معقل، كان من أماثل أهل بعلبك وله جدة متوسطة وعنده مكارمة وسعة صدر وحسن عشرة وكان متشيعاً متغالياً في ذلك؛ وتوفي بمنزله ببعلبك العصر من نهار الخميس ثالث شعبان وقد نيف على الأربعين سنة من العمر - رحمه الله -. وخال والده هو عز الدين أبو العباس أحمد بن علي بن معقل بن أبي العلاء بن محمد بن معقل الأزدي ثم المهلبي الحمصي، كان شاعراً مقتدراً على النظم، عالماً بفنون الأدب والأصول والفقه على رأي الإمامية، غالياً في التشيع، وله ديوان يختص بمدح أهل البيت عليهم السلام لكنه قد حشاه بثلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والتعريض بهم، والتصريح في بعض القصائد؛ وكان من شعراء الملك الأمجد صاحب بعلبك، وانتقل إلى حماة مدو ثم عاد إلى بعلبك وتزهد وانقطع إلى أن توفي بدمشق سنة أربع وأربعين وستمائة؛

ونظم عدة كتب من كتب النحو وغيره. وله في أهل البيت رضي الله تعالى عنهم: يا قوم كم هذا التحير والغمى ... وضح النهار لمقلة وبدا لها فاختر لنفسك أيها الإنسان ما ... يهدي النعيم لها وينعم بالها واعمد إلى بحر العلوم وخل في ... بر الجهالة والضلالة آلها متعمداً سبل الهدى متجنباً ... سبل الردى وظلامها وضلالها فالموت منتظر بلا شك لتج ... زى كل نفس قولها وفعالها وولاء آل محمد أمن لمن ... خاف الجحيم عذابها ونكالها هم حجة الله العليّ على الورى ... وبهم أبان حرامها وحلالها وهم المسيمو سرحها والممطر و ... جرازها والممسكو أحبالها لولاهم في الأرض أوتاداً لما ... ثبتت بهم وزلزلت زلزالها فعليهم صلواته سحباً غدت ... كالنيبّ ترأم بالعشي إفالها وله: رأتني سعاد حليف السهاد ... وقد كنت قدماً حليف السرور فغضت عن الشيب لما رأت ... برأسي طرفاً شديد الفتور فقلت لها قذىً في العيون ... فقالت نعم وشجىً في الصدور وله: وجنة أعطاف أغصانها ... تميس في أوراقها الخضر ظلنا وقد أهدى لنا ظلها ... يجني علينا بجنى التمر تفاحها كالراح في طعمه ... وطيبه واللون والنشر لو يحمد الخمر حكاه ولو ... يذوب أغنانا عن الخمر

وله: إذا رمت أمراً في ذراه صعوبة ... فرفقاً تقده ممكناً مصحباً طهرا ولا تأخذن بالعنف ذا نخوة ... وذا إباء تهج ناراً مضرمة شرا فلطمة طرف هيجت حرب داحس ... ولطمة ملك نصرت أمةً كثرا وله من قصيدة يفتخر فيها ودس فيها العظائم على عادته من ثلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: ماذا سؤالك صم ربع مقفر ... لولا ضلالك بالغزال الأعفر منها: أنى وقوفك من سراة الأزد في اله ... امات منها والسنام الأكبر آل المهلب خير قحطان إذا ... ما عد كل متوج ومسور كانوا حلى ممالك فتخرموا ... والآن ذكرهم حلى الأعصر ولأوسهم فخر وخزرجهم ما ... نصروا النبي وغيرهم لم ينصر ووقفوا بأنفسهم جميعاً نفسه ... من كل عاد مفترى أو مقترى حتى غدا الإسلام بين بيوتهم ... بادى السنا للقابس المتنور لله در أبيهم لو أنهم ... لم يهدموا ما شيدوا من مفخر بدءوا نزيلهم بكأس لذة ... معسولة وثنوا بكأس ممقر نقضوا عهودا أبرمت أسبابها ... بتحير من بعده وتجبر فغدا به سيان رب تقدم ... من بعده يوماً ورب تأخر غن الخلافة لم تكن لتحل في ... متهود يوماً ولا متنصر ومنها: فاستحى من نسب إليهم أنهم ... غدروا لحينهم بمن لم يغدر

واطو الفؤاد على الذي أضمرته ... منهم ولا ينشره ما لم تنشر إذا مدحت فتىً قواداً ماجداً ... فامدح أبا حسن الجواد العسكري عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن محمد أبو القاسم تاج الدين الموصلي. مولده بالموصل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، كان إماماً عالماً فاضلاً شافعي المذهب اختصر كتاب الوجيز للغزالي رحمه الله اختصاراً حسناً وسماه التعجيز في اختصار الوجيز؛ واختصر كتاب المحصول في أصول الفقه، واختصر طريقة ركن الدين الطاووسي في الخلاف. ووالده رضي الدين من أعيان العلماء، وجده الشيخ عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس أمام وقته في مذهب الشافعي رحمة الله عليه وفي الأصول والخلاف. وله صيت عظيم في الآفاق؛ قصده الفقهاء من بلاد الشافعية للآشتغال وتخرج عليه خلق كثير صاروا أئمة ومدرسين يشار إليهم، وصنف كتباً في المذهب، منها: كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط، وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلاً وعقيدة وتعليقة في الخلاف ولكنه لم يتممها. وترسل إلى الخليفة وإلى الملك العادل وغيره من الملوك، وناظر في ديوان الخلافة، وتولى القضاء بالموصل في رابع شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ثم انفصل عنه لضياء الدين

ابن الشهرزوري. وكان دمث الأخلاق، لطيف الخلوة، محاضراً بالحكايات والأشعار، مكمل الأدوات؛ وتصانيفه وإن كانت مفيدة ولكنها منحطة عن فضيلتها. وكانت ولادته بقلعة اربل سنة خمس وثلاثين وخمسمائة في بيت صغير منها. ولما وصل إلى اربل في بعض رسائله دخل ذلك البيت وأنشد: بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها وتوفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وستمائة بالموصل - رحمه الله - وأما حفيده تاج الدين صاحب هذه الترجمة فإنه لما استولى التتار على الموصل سنة ستين وستمائة كان بها، ثم انتقل عنها إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان سنة سبعين وستمائة؛ وتوفي في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وستمائة هذه السنة؛ وبيته بيت فضيلة وتقدم ورئاسة، ولما مات رثاه جماعة منهم شمس الدين محمد الواعظ المعروف بابن الكوفي قال: أرى الدهر يبدأ للبرية أسهما ... فتقصد منهم من تقصد أو رمى ويعتمد الأعيان منهم بصرفه ... وإن كان لا يبغي سواهم مصمما فما ترك الموت النبي محمدا ... ولا سالم الدهر المسيح بن مريما

وفي حال تاج الدين موعظة لمن ... رأى ما دهى الحبر العليم المعظما هو الحاكم العدل الذي شاع فضله ... فأنجد بالذكر الجميل وأتمها لدنياه هارون استخار مساعدا ... وموسى لأخراه شفيعاً مكرما وحاز دعاء الخلق إذ كان محسناً ... فلما قضى صار الدعاء ترحما وليس يبالي من يخلف بعده ... جميل الثنا إن لا يخلف درهما وفي الجانب الغربي كان قضاؤه ... وفيه قضى أمر له كان مبرما وجيء فما رد القضاء قضاؤه ... ولا صد عند الحكم ما فيه حكما أيا صاحب التعجيز عجزك الردى ... فلم نستطع عند الخطاب التكلما ولا معجم الأقران عند جداله ... أبى الموت أن يلقاه إلا مسلماً عنيت بتخليص العلوم مخلص ال ... ردى لك من كل العلوم معلما ومختصر سير من الأرض قد غدا ... لمختصر الكتب الطوال تحكما ألا يا غريب الدار أنى كلما ... ذكرتك زادت نار وجدى تضرما وآبى على الأحزان إلا تجلدا ... ويأبى على الحزن إلا تصرما فأمسيت من حر الفراق معذبا ... وأصبحت من برد الجنان منعما وبشرني بالفوز في حشرة اسمه ... ونسبته لما عدت أحسن اللما فعبد الرحيم من الرضي بن يونس ... بيونس في العقبى رضى وترحما ألا فليراجع قلبه كل ذي حجى ... فمن راجع العقل استكان وسلما وأيقن أن المرء يفنى وماله ... من الذخر إلا ما من الخير قدما ؟ عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن تيمية أبو الفرج

فخر الدين الحراني الخطيب. مولده سنة اثنتي عشرة وستمائة، سمع من جده أبي عبد الله محمد وعبد الله بن عمر بن اللتى بدمشق، وخطب بجامع حران وكان فاضلاً ديناً، وتوفي بدمشق في حادي عشر شوال ودفن من الغد بمقابر الصوفية - رحمه الله؛ وبيته معروف بالفضيلة والعلم والحديث والرئاسة والتقدم. عبيد الله بن عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي أبو صالح شهاب الدين الحلبي المعروف بابن العجمي. مولده في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وستمائة بحلب، سمع من جماعة وحدث وكتب بخطه كثيراً، وكان فاضلاً من بيت الرئاسة والجلالة والعلم والحديث والسنة، وتوفي بحلب فجأة في تاسع عشر جمادى الأولى رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد أبو الحسن القيسي التلمساني المالكي الفقيه الإمام العلامة جامع الفضائل الذي لا يجاري في مضماره ولا يسبح ماهر في تياره، صاحب التصانيف والمبرز بسيفه على الأقران؛ أنشده الكاتب أبو زيد عبد الرحمن الفارقاني لنفسه فيه: أنا في الوداع مقدم ... ومحبتي ما تعلم وتعصبي لك كالذي ... تدريه لا بك أكرم

ولدي من إجلال قد ... رك ما يجل ويعظم ويكن قلبي رقة ... ما ليس يشرحه الفم ويهيج وجدي عارض ... يبكي وبرق يبسم وصوادح تشكو الغرا ... م بنغمة لا تفهم يا من أرى تكريمه ... وهو الأعز الأكرم ومن الحضيض مكانه ... والقدر حيث الأنجم أعييت حتى قيل أن ... ك لائم متاوم وتركتني في خجلة ... عن أصلها استفهم هذا وقلبي سائل ... عن حالكم ومسلم ولئن عتبت فأنت في ... رعى الوداد مقدم فلك السماح مصور ... ولك الوفاء مسلم ولكم خبرتك قبلها ... فإذا الحسام المخذم والمرء ما لم يختبر ... فالأمر أمر مبهم ذاعت محاسنك العلى ... والمسك ما لا يكتم حسب البرية مفخرا ... إن كان مثلك منهم مات علي بن التلمساني المذكور رحمه الله تعالى بدار الحديث الكاملية من القاهرة المصرية ليلة الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة ودفن بظاهر باب النصر خارج القاهرة رحمه الله تعالى. ؟ عمر بن إبراهيم بن محمد بن أيوب بن شاذي أبو الفتح فتح الدين بن الملك

الفائز أبي إسحاق سابق الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. مولده في صفر سنة سبع وستمائة. حدث بالإجازة عن أبي روح عبد المعز بن محمد الهروي، وتوفي مسجوناً بخزانة البنود بالقاهرة في السابع والعشرين من ذي الحجة وأخرج منها في يومه ودفن بتربتهم المجاورة لضريح الشافعي رحمة الله عليه بالقرافة الصغرى رحمه الله وكان يلقب بالمغيث. محمد بن رضوان بن علي بن أبي المظفر بن أبي الغنائم أبو عبد الله شرف الدين الحسيني المعروف بالشريف الناسخ. مولده في سابع جمادى الآخرة سنة اثنتين وستمائة، وتوفي في الساعة السابعة من يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر بدمشق؛ وكان من الفضلاء، له مشاركة جيدة في كثير من العلوم، واشتغل بعلم الأدب وله اليد الطولى في النظم والنثر مع حسن المحاضرة وكثرة الاطلاع على التواريخ والوقائع وأيام الناس لا تمل مجالسته، وخطه في غاية الحسن والجودة رحمه الله تعالى. أنشدني كثيراً من شعره بدمشق وبعلبك وسمعت منه بعض تواليفه، وأشعاره كثيرة فمنها: يا من يعيب تلوني ... ما في التلون ما يعاب إن السماء إذا تلو ... ن وجهها رجي السحاب وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

كرد على الغصن حديث الهوى ... على سماه بعد صحو تغيم ولا تخف أن له نفرة ... وطالما أونس ظبي الصريم ولا تقل إن له صحبة ... مع غيرنا دهراً وعهد قديم فالماء ربى الغصن في حجرة ... ومال عنه برسول النسيم وقال أيضاً رحمه الله تعالى: عقد الربيع على الشتاء مآتما ... لما تقوض للرحيل خيامه نظم الشقيق خدوده فتضرجت ... حزناً وناح على الغصون حمامه والزهر منفتح العيون إلى خيو ... ط المزن حيث تفتقت أكمامه وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لحاظ مراض دون فتكتها الفتك ... بها صح في دين الهوى لدمى السفك ومن عجب أن اللحاظ فواتر ... ومن عادة فيها التبتت والبتك وما كل سهم من لحاظ بقاتل ... سوى رشقات ريش أسهمها الترك ولى رشأ أن فهت يوماً بسلوة ... له فهي دعوى أصلها المين والإفك فلا لوم لي أن بعت ديني وأصبحت ... سجية مثلي في محبته الشرك له مبسم عذب إذا افتر ضاحكاً ... تداعى أصيحاب الغرام ألا فابكوا تجلى لنا ليلاً فلم ندر وجهه ... أم القمر الوضاح فاعترض الشك

صعقت لما استنار جماله ... فطور فؤادي مذ تجلى له دك طما بحرأ جفاني فيانوح غفلتي أنت ... به فلهذا البحر يصطنع الفلك وقال أيضاً رحمه الله: يا نفحة البان هذي نفحة السحر ... تهدى إلينا شذى من عرفك العطر ويا بريقاً بأفق الشام مطلعه ... محرر بحقك إيماضاً على بصري ونبه الحي فالسمار قد رقدوا ... لعل بالجزع أعواناً على السهر وقال أيضاً في مليح يلقب بالجدي: رأيت في جلق أعجوبة ... ما إن رأينا مثلها في بلد جدي له في صدغه عقرب ... وفي مطاوي الجفن منه أسد وخلفه سنبلة تطلب المي ... زان لا ترضى بأخذ العدد وقال في حسين الصواف: لست أخشى حر الهجير إذا ... كان حسين الصواف في الناس حيا فببيت من شعره اتقى الحر ... وبظل من أنفه أتفيا وقال أيضاً من قصيدة: كم استعذنا بهم من شر بينهم ... فما شعرنا بهم إلا وقد بانوا وكم حرصنا أن لا نفارقهم ... ففارقونا وبعض الحرص حرمان وما ألوم النوى في قبح ما صنعت ... لأن بعدكم والقرب هجران لانت صلاد الصفا من فيح ما جزعى ... يوم الوداع ولا رقوا ولا لانوا

وحنت النيب من وجد أنازلها ... شوقي المبرح والمشتاق حنان وأقبلت سمرات الجفن عاطفة ... على حنيني ومال الطلح والبان وأقبل الركب كل ذاكر شجنا ... له فؤاد بحر الوجد ولهان وما النياق وأهل الركب والحجر الأ ... صم مع سمرات الحي صنوان وإنما جمعتنا مع تباعدنا ... مناسب الحب والعشاق إخوان وقال في حسين الصواف وقد خلع عليه الشمس العذار فرجية صوف وكان حسين يلازم في منزله رجلاً مقدسياً: يهنيكم الصواف أصبح عابداً ... للرب غير مداهن ومدلس خلع العذار عليه خلعة ناسك ... سوداء من شعر خشين الملبس طويت له الأرض الفسيحة فاغتدى ... يجب المهامه في ظلام الحندس فهو الصقيم بجلق وركوعه ... وسجوده أبداً ببيت المقدس وسأل بدر الدين الأسعردي الشريف الناسخ الوقوف على بيتين من الشعر عملهما. فكتب إليه الشريف يقبل اليد وينمى أنه وقف على البيتين اللذين أسسا على التقوى وخلا كل بيت غيرهما من المعاني وأقوى فوجدهما في سبكهما كالإبريز وعزا على الناظمين فأمنا من التعزيز، وأما سؤاله عن التوطئة فقد ضاقت على غيره فيها المسالك وعلم بذلك الموطأ بأنه مالك، وللشريف رحمه الله تعالى:

عاتقته عند الوداع وقد جرت ... عيني دموعاً كالفجيع القاني ورجعت عنه طرفه في فترة ... تملى عليّ مقاتل الفرسان وقال رحمه الله تعالى: غازلني الظبي وغازلته ... في لحظة أخفى من الطيف ومكن الإصبع من عينه ... فكدت أن أقضي من الخوف وكيف لا أجزع من ظالم ... بنانه يؤمى إلى السيف وكتب إلى عماد الدين الدنيسري يذكر حمى عرضت له: يا من نداه وحسن صورته ... يستفزعان الحسن والكرما ناديتني ورفعت منزلتي ... وأضفتني بمصيبتي عزما وأعدت عصر مشيبتي نضرا ... من بعد ما أخلفته هرما وأفدت جسمي صحة ضمنت ... أن لا يرى من بعدها سقما فغدوت أتلو عند صنعك بي ... يا ليت قومي يعلمون بما فكتب عماد الدين جواباً على غير القافية: يا من فوائده إذا ... عدت غدت مثل المطر ومهذباً في نظمه ... ومزيناً فيما نثر مولاي دعوة مغرم ... لو لاك ما عرف السهر وافاك منك مشرف ... ألفاظه تحكي الدرر

فنفى عن العين الكرى ... ونفى عن القلب الضجر يا سيداً أخلاقه ... قد أخجلت كل الزهر لو لاك ما عرف القري ... ض ولا رأينا من شعر أوليتني منناً بقي ... ت بها وحقك مفتخر فغدوت منها باكياً ... ومنادياً بين البشر يا ليت قومي كلهم ... لو يعلمون بما غفر وقال الشريف أيضاً رحمه الله تعالى: رب طرف أدهم سابقه ... أصفر يختال عجباً ويميل وجهه صبح وهاديه دجىً ... كيف لا يسبقه وهو الأصيل وقال أيضاً رحمه الله تعالى: حدث ولا حرج عن بانة العلم ... ففي حديثك لي برء من الألم وأجر في مسمعي ذكراك ما جر إذ ... فيها الشفاء ومنها مبدأ السقم منازل حل فيها من هويت فمذ ... فارقته فنديمي بعده ندمي معاهد هي أحلى حين أذكرها ... عندي وفي مسمعي من بانة العلم لم أنس فيها غضيض الطرف ينشدني ... سهم أصاب وراميه بذي سلم وبي من الترك ألمي قد بذلت له ... روحي وبعت وجودي فيه بالعدم جسمي إلى جفنه يشكو جنايته ... هيهات كيف يداوى السقم بالسقم رجعت فيه إلى الدين القديم وما ... زالت قريش قديماً عابدي صنم

طلائع الحسن تسري في مواكبه ... وسقره فوق رمح القد كالعلم قامت لواحظه عيني فمذ رقدت ... أيقنت أن جفوني فيه لم تنم إذا وردت بطرفي ماء وجنته ... جيا الرقيب فدائي البارد الشبم ليت الرقيب ابتلاه الله فانبجست ... منه الجفون بدمع هامل بدم أوليت ناظره المزور من حنق ... نحوي إذا رمت مرأى من أحب عمي إن لم أذد عن حياضي من يكدرها ... جهلاً بسمر القنا والصارم الخذم فلا عقلت بحبل الود من حسن ... رب الفضائل بدر الدين ذي الكرم محمد بن عبد المنعم بن عمار بن هامل أبو عبد الله شمس الدين الحراني - الحنبلي -، كان عالماً فاضلاً كثير الديانة والتحري في حديثه، سمع الكثير ببغداد، ودمشق، ومصر، والإسكندرية وغيرها من جماعة كثيرة من أصحاب أبي الوقت السجزي وأبي طاهر السلفي وغيرهما، وحدث بدمشق وغيرها، وكان أحد المعروفين بالطب والإفادة. وتوفي بدمشق ليلة الثامن من شهر رمضان المعظم هذه السنة ودفن بجبل قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى -. محمد بن عثمان بن منكورس بن جردكين أبو عبد الله الأمير سيف الدين

بن الأمير مظفر الدين بن الأمير ناصر الدين بن الأمير بدر الدين صاحب صهيون. كان تملك صهيون بعد وفاة أبيه - الأمير - مظفر الدين في سنة تسع وخمسين وست مائة في ثاني عشر ربيع الأول - منها ولم يزل مستقلاً بذلك إلى أن توفي في شهر ربيع الأول - من هذه السنة؛ فكان مدة تملكه لها اثنتي عشرة سنة، ودفن بتربة أبيه بصهيون؛ وتسلم صهيون وبرزية ولده الأمير سابق الدين وكان الملك الظاهر بدمشق؛ فطلب سابق الدين منه دستوراً ليحضر فأذن له، فلما حضر أقطعه خبز أربعين فارس وأقطع عمه جلال الدين مسعود خبز عشر طواشية، وعمه الآخر مجاهد الدين إبراهيم عشر طواشية، وتسلم صهيون وبرزية واستناب فيهما؛ وكان سيف الدين عند وفاته قد نيف على الستين - رحمه الله تعالى -. محمد بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل - بن يوسف بن يحيى بن قابس بن حابس بن عمرو بن معدي كرب - أبو عبد الله الزبيدي، المقدسي الأصل، الدمشقي الدار والمولد، الشافعي الخطيب، المنعوت بالموفق، المعروف بابن خطيب بيت الآبار. مولده ليلة العشرين من شوال سنة خمس وتسعين وخمس مائة، سمع من ابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث وهو من بيت الحديث والخطابة والعدالة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر ببيت الآبار ودفن بها - رحمه الله تعالى -. يحيى بن محمد بن أحمد بن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحسن بن علي

أبو الفضل الثعلبي الدمشقي المعروف بالتاج المحبوبي، مولده سنة عشرين وست مائة - أحضر علي أبي القاسم عبد الصمد بن الحرستاني والشريف أبي الفتوح محمد بن أبي سعد البكري؛ وسمع أبا عبد الله محمد بن غسان وأبا الحسن بن المقير وأبا الحسن بن الصابوني وأبا القاسم عبد الله بن رواحة وغيرهم، وأجاز له خلق كثير من بلاد شتى وحدث هو وجماعة من بيته وهو من بيت الحديث والرواية - ولي نظر - مخزن الأيتام بدمشق ثم ولي الحسبة مدة، ثم ولّي وكالة بيت المال في آخر عمره وباشرها مدة يسيرة، وتوفي بدمشق في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى - والثعلبي بالثاء المثلثة. يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو المظفر شرف الدين النابلسي الأصل، الدمشقي المولد والدار والمنشأ والوفاة، المشهور بعلم الحديث، روى عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسن بن خلف القطيعي بقراءته بمنزله ببغداد وغيرها، وسمع بدمشق أبا اليمن - الكندي وأبا الغنائم سالم بن الحسن - بن هبة الله بن صصرى، وأبا محمد الحسن بن علي بن البن الأسدي وأبا محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي

والحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي قرأ عليه الكثير، وأبا الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي وزين الأمناء أبا المكرمات الحسن بن محمد بن الحسن بن عساكر، وآخرين يطول ذكرهم: وببغداد أبا محمد عبد السلام بن بكران، وأبا حفص عمر بن كرم الدينوري، والحسن بن المبارك الزبيدي، والشيخ شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله الهروردي. وقرأ عليه كتاب المعارف، وكتب عنه بخطه ولبس منه خرقة التصوف، ولهذا المذكور نظم حسن فمنه: رأى البرق نجدياً فحن بمن يهوى ... ولاحت له نار فحن إلى حزوى وهبت له من جانب الغور نفخة ... أتته برياً ساكني السفح من رضوى محب لهم مغري بهم كلف فنوى ... إلى اللوم فيهم ما أصاخ ولا ألوى يناجي نسيم الصبح عند هبوبه ... وأخبار ذاك الحي باطنها نجوى ويشكو إليهم ما يلاقي من النوى ... كذا كل صب يستريح إلى الشكوى فيا راحة الروح التي شغفت بكم ... ويا منتهى المأمول والغاية القصوى رويتم حديث الصد عال مسلسلاً ... فلم لا أحاديث التواصل لا تروى أرى كل خلق يدعيكم وينتمي ... إليكم ولكن من تصح له الدعوى مراتع ذكراكم بقلبي أواهل ... ومغنى التسلي عن محبتكم أقوى عذاب الهوى مستعذب عند أهله ... وغلته فيهم مدى الدهر لا تروى

سكارى قد أدارت على القوم خمرة ... سوى أن خمر الحب طرحهم نشوى سلام على أهل الغرام جميعهم ... وخفف عنهم ما يلاقوا من البلوى وقال أيضاً - رحمه الله تعالى -: عرّج بعيسك واحبس أيها الحادي ... عند الكثيب وعرّس يمنة الوادي وأقر السلام على سكان كاظمة ... منى وعز بتهيامي وتسهادي وقل محب بنار الشوق محترق ... أودي به الوجد خلفناه بالنادي وقال وكتب بها إلى الشيخ أمين الدين عبد الصمد بن عساكر المجاور للشريف - رحمه الله تعالى: على قدر أشواقي إليك سلامي ... وإن بعدت داري وعزّ لمامي تروح تحياتي عليك وتغتدي ... كأرواح مسك عند فض ختام إليك ارتياح كل حين ولحظة ... كما الوجد وجدي والغرام غرامي ألا هل يعود الشمل مجتمعاً بكم ... وأنظركم من قبل يوم حمامي وأغفر زلات الزمان التي مضت ... بفرط تناسيكم وفوت مرامي وأرتع طرفي في رياض جمالكم ... فيا نيل آمالي وبدء أوامي وقال يمدح الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -: ألا إن عز الدين ابن حقيقة ... وخير إمام في الأنام رأيناه سلكت سبيل المجتبين لربهم ... بصدق وإيمان وذاك علمناه

السنة الثانية والسبعون وست مائة

وجاهدت في ذات الإله مصمماً ... ولم تخش هولاً حين غيرك يخشاه وأرديت فيه مرة بعد مرة ... وكم نال جهداً في الذي تتبعاه فجوزيت خيراً عن شريعة أحمد ... وأعطاك رب الناس ما تتمناه السنة الثانية والسبعون وست مائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا سيف الدين صاحب صهيون وبرزية - فإنه توفي وانتقلت صهيون وحصن برزية - إلى الملك الظاهر، وخلا موسى بن إدريس صاحب ظفار، فإن أخاه سالم بن إدريس قبض عليه وجلس مكانه، - والملك الظاهر بالديار المصرية -. متجددات الأحوال في يوم الاثنين سابع المحرم جلس الملك الظاهر في دار العدل وحضر إليه الأكراد الواصلون من الشرق وخلع على مقدمهم. وفي العاشر هدمت غرفة على باب قصر من قصور المصريين بالقاهرة، ويعرف هذا الباب قديماً بباب البحر، وهو من بناء الخليفة الحاكم، فوجد فيها صورة امرأة في صندوق منقوش، عليها كتابة ترجمت، فكانت اسم الملك الظاهر وصفته وبقي منها ما لم يمكن قراءته. ذكر أخذ بيلوس أمير عرب برقة كان الملك الظاهر قد جرد عسكراً من ابن عزاز وتقدم إليه بالدخول

إلى برقة لأخذ العداد، فوصل إلى طلميثة، وهي مدينة تسكنها اليهود، ولهم بها أموال كثيرة، فحماها منه بيلوس فقاتله، ووقع بين العسكريين وقعة، وأسر فيها بيلوس، وهو شيخ قد نيف على المائة سنة، وقد حمل إلى القلعة فاعتقل بها في ثامن المحرم وبقي إلى أن خلص بعد شروط شرطها على نفسه في غرة شهر رمضان. وفي ليلة السبت سادس عشر المحرم توجه الملك الظاهر إلى الشام وصحبته الأمير شمس الدين سنقر الأشقر والأمير بدر الدين بيسري والأمير سيف الدين أتامش السعدي وجماعة يسيرة؛ فلما وصل عسقلان بلغه أن أبغا بن هولاكو وصل إلى بغداد وخرج إلى الزاب متصيداً، فكتب إلى القاهرة واستدعى عسكراً، فخرج منها يوم السبت حادي عشر صفر أربعة آلاف فارس مع أربع مقدمين، وفيهم الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وجمال الدين آقوش الرومي وشمس الدين آقوش المعروف بقطليجا وعلم الدين طرطج، ورحلوا قاصدين الشام. ثم برز الأمير بدر الدين الخزندار - يوم السبت ثامن عشر صفر إلى مسجد التين، وأقام الملك السعيد يقلعة الجبل، وفي خدمته الأمير شمس الدين الفارقاني، ورحل الأمير بدر الدين الخزندار - وصحبته الصاحب بهاء الدين، فوصل الدهليز إلى غزة يوم الاثنين رابع ربيع الأول وسافر فنزل بيافا يوم السبت تاسعه، فوجد الملك الظاهر قد سبق إليها في جماعة من الأمراء. ومن الغد رتب العساكر ثم توجه

ذكر قبض الملك الكرج

إلى دمشق فوصلها يوم السبت سادس عشره. ورحل الأمير بدر الدين الخزندار من يافا يوم الجمعة خامس جمادى الأولى، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشره ورد عليه سيف الدين أتامش السعدي على البريد بكتاب السلطان يأمره بعود العسكر إلى مصر، فرحل يوم الأحد الحادي والعشرين ودخل القاهرة يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة. وفي جمادى الأولى كمل بناء جامع دير الطين وصلى فيه. ذكر قبض الملك الكرج كان قد خرج من بلاده قاصداً زيارة القدس الشريف في زي الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصه، فسلك بلاد الروم إلى سيس وركب في البحر إلى عكا؛ ثم خرج منها إلى بيت المقدس فأطلع الأمير بدر الدين خزندار - وهو على يافا - على أمره، فبعث إليه من قبض عليه؛ فلما حضر بين يديه بعث به مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان. فوصل دمشق في رابع عشر جمادى الأول، فأقبل عليه السلطان وسأله واستنزله حتى اعترف، فحبسه في برج من أبراج قلعة دمشق، وأمره أن يبعث من جهته إلى بلاده من يعرفهم بأسره، فبعث نفرين. وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشر جمادى الآخرة وقدم القاهرة يوم الخميس سابع شهر رجب. وفي يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر الملك الظاهر

ذكر مراسلة دارت بين الملك الظاهر ومعين الدين البرواناة

العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب في الميدان تحت القلعة بالقاهرة، فاستمر ذلك إلى يوم عيد الفطر وختن السلطان الملك الظاهر ولده خضراً ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم. وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان توجه الملك السعيد - وصحبته الأمير شمس الدين الفارقاني وأربعون نفراً من خواصه - إلى دمشق على خير البريد وعاد إلى القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال. وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة حضر متولي القرافة إلى الأمير سيف الدين متولي مصر واخبره أن شخصاً دخل إلى تربة الملك المعز وجلس عند القبر باكياً؛ فسأله عن بكائه من بالمكان، فأخبره أنه قال: أنا ابن الملك المعز. وقد كان قطز نفاه مع أخيه الملك المنصور إلى بلاد الأشكري لما ملك فأحضر وقيد وطولع به إلى الملك الظاهر؛ فأحضره وسأله عن أمره فذكر أن له في البلاد نحو ست سنين يتوكل الأجناد فحبس بحبس اللصوص بمصر وحنا عليه بعض مماليك أبيه فأجرى عليه نفقة. ؟؟ ذكر مراسلة دارت بين الملك الظاهر ومعين الدين البرواناة لما توجه البرواناة مع رسل الملك الظاهر - كما تقدم - واجتمع بأبغا في

فصل

أمر الرسالة خلا به سراً وقال له الملك عقيم؟ وإن أخاك أجاي عازم على قتلي والاستيلاء على ملك الروم والانتماء إلى صاحب مصر، وحمل البرواناة على ذلك بحيلة من أجاي، فإنه كان يكلفه ما يعجز عنه ويتوعده؛ فأمره أبغا أن يخفي ذلك وأمره أن يستدعي أجاي وصمغرا - وسرتوقونوين بدلاً منهما - فلما عاد البرواناة إلى الروم رأى أجاي أعرض إعراضاً مفرطاً؛ فاضطر إلى أن كاتب الملك الظاهر سراً وبعث إليه قاصداً وطلب منه أن يحلف له ولغياث الدين بن ركن الدين على ملك الروم وشرط أن يكون له عسكر في البلاد مقيماً يستعين به على قتال أجاي وصمغر ومن معهما من التتر؛ فوافى القاصد الملك الظاهر بمصر قد عاد من دمشق فبلغه الرسالة فقال: إذا حلفنا له على ما أراد وسيرنا عسكراً يقيم عنده فلا بد للعسكر من شيء فتعين لي بلاداً أرصدها لذلك أو ما يستخرج من الأوقاف والصدقات والأملاك التي له، فإذا كسرت التتر أفرجت عن ذلك وأعدته إلى أربابه مع أننا لا نكلف خيلنا سلوك الدرب في هذا الوقت وفي العام القابل نحن عند إن شاء الله. فلما عاد القاصد وجد أبغا قد استدعى أجاي وصمغر وحالة البرواناة قد صلحت فتلكى في إجابة الملك الظاهر إلى ملتمسه ونكل عنه. فصل وفيها توفي أحمد بن علي بن محمد بن سليم أبو العباس محي الدين بن

الصاحب بهاء الدين أبي الحسن بن القاضي السديد أبي عبد الله الشافعي المصري في ثامن شعبان بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم. سمع من جماعة وحدث ودرس بمدرسة والده التي أنشأها بزقاق القناديل بمصر مدة إلى حين وفاته وكان منقطعاً عن المناصب الدنياوية، محباً للتخلي والانفراد، مؤثرأ لأهل الخير والدين، كثير الصدقة والمعروف؛ بنى رباطاً حسناً بمصر ووجد عليه والده وجداً شديداً وعملت له الأعزية والختم في سائر البلاد المعتبرة من المملكة - رحمه الله تعالى. أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم أبو العباس الأنصاري المعروف بضياء الدين ابن القرطبي، مولده سنة اثنتين وست مائة. سمع وحدث وكان فاضلاً، وله النظم الحسن والنثر الجيد مع ما كان عليه من الكرم والإيثار والإحسان إلى من يرد عليه، وكانت وفاته في النصف من شوال هذه السنة بقنا من صعيد مصر. ووالده الشيخ أبو عبد الله أحد المشايخ المعروفين بالعلم والصلاح وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره - رحمه الله تعالى. ومن نظمه - رحمه الله: ما افتر عن ثغره البسام في غسق ... إلا أضاء سبيل السالك الساري يا للعجائب قد عاينت مغربة ... بيتاً من النور في أرض من النار وقال أيضاً رحمه الله: انظر إلى سندس في الروض حين بدا ... مطرزاً بطراز النور كالذهب

وفي حشا الماء من مصفره لهب ... فاعجب لضدين جمع الماء واللهب كأنه في ضمير البحر مضطرباً ... لمع من البرق في صاف من الذهب وقال أيضاً - رحمه الله تعالى -: يأبى خيالك إذ سرى متوجساً ... والأفق يسحب فضل ذيل الغيهب في حلة الخفر الذي ستر الحيا ... فتنقبت والحسن لم يتنقب فاصطاده إنسان عين ساهر ... متمكن من جفنه في مرقب أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد بن أبو المعالي مؤيد الدين التميمي المعروف بابن القلانسي، مولده بدمشق سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله بن الفرج، وحدّث بدمشق والديار المصرية، وهو من ذوي البيوتات المشهورة بالحديث والعدالة والتقدم. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر المحرم ببستانه ظاهر دمشق - ودفن في التربة المعروفة به بجبل قاسيون بالقرب من قبة جهاركش - رحمه الله تعالى -. وكان صدراً رئيساً، وافر الحرمة، ضخم النعمة، كثير الأملاك، واسع الصدر، متأهلاً للوزارة وغيرها من المناصب الجليلة، من رجال الدهر خبرة وحزماً، وعنده قوة نفس وأهلية المناصب الجليلة غير أنه يتعاطاها في عمره، وإذا عرضت عليه يأباها ويمتنع منها كل امتناع. فلما توفي وجيه الدين

محمد بن سويد التكريتي في سنة سبعين وست مائة التزم مؤيد الدين بمباشرة متعلقات الملك الظاهر وأولاده وخواصه بالشام على ما كان عليه الوجيه. فباشر نظر ذلك مكرها بغير جامكية ولا جراية ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان رجلاً سعيداً لم يتقرب إليه أحد ويلازمه إلا ونال منه نفعاً كثيراً من ماله وبجاهه، وكان باراً بأهله، يضع الأشياء في مواضعها، وهو من بيت الرئاسة والوزارة والحديث، سمع الحديث وأسمعه؛ والرئاسة في بيته قديمة، وبيته من البيوت المشهورة بالتقدم بدمشق. وجده مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن حمزة وزير الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين - رحمهما الله تعالى. وكان فاضلاً رئيساً عالماً، له كتاب الوضيئة في الأخلاق المرضية وغير ذلك. وله يد في النظم والنثر. ومولده يوم الجمعة سابع شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمس مائة - وتوفي بها في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وخمس مائة - ومن شعره: يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي ... برحمة منك تنجيني من النار أحسن جواري إذا أصبحت جارك في ... لحدي فإنك قد أوصيت بالجار ووالده حمزة بن أسد هو العميد، حدث عن سهل بن بشر وأبي أحمد حامد بن يوسف التنيسي، وكان فاضلاً أديباً، له خط حسن ونثر ونظم؛ وصنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربع مائة إلى حين وفاته.

ومات يوم الجمعة سابع ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى. إسحاق بن خليل بن غازي بن علي عفيف الدين الحموي، كان فاضلاً في الفقه والعربية، متقناً للقراآت السبع، مشاركاً في عدة علوم؛ ولّي التدريس بحماة وخطابة القلعة، وكان له حلقة يشغل بها العلوم والقراآت، وله شعر يسير. مولده سنة سبع وثمانين وخمس مائة، وتوفي في ذي الحجة بحماة - رحمه الله تعالى. إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان أبو محمد تقي الدين التنوخي المعري الأصل. الدمشقي المولد والدار والوفاة. مولده في سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من الخشوعي، وابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث مدة بدمشق ومصر وغيرهما، وتفرد برواية أشياء من مسموعاته. وكان شيخاً فاضلاً نبيلاً من بيت كتابة وعدالة وجلالة، توفي إلى رحمة الله تعالى في السادس والعشرين من صفر. وكان له يد في النظم والنثر، كتب الإنشاء للملك الناصر صلاح الدين داود - بن الملك المعظم - وتولى نظر المارستان النوري وغيره - ذكره الحافظ شرف الدين الدمياطي في تاريخه فقال:

إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أنجم؛ ورفع نسبه إلى عمران بن إسحاق بن قضاعة. أبو محمد بن أبي إسحاق بن أبي اليسر بن أبي محمد بن أبي المجد التنوخي الدمشقي الشافعي العدل. أنشد لنفسه: خاب رجاء امرئ له أمله ... بغير رب السماء قد وصله يفعل للمرء كل مكرمة ... ثم يثب الفتى بما فعله أيبتغي غيره أخو ثقة ... وهو ببطن الأحشاء قد كفله ذكره الصاحب كمال الدين بن العديم - رحمه الله تعالى - في تاريخ حلب، قال: نشأ أبو محمد بدمشق واشتغل بالعلم والأدب وسمع بها أبا طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي، وأبا اليمن زيد بن الحسن الكندي، والقاضي أبا القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، وأبا حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وسمع أباه أبا إسحاق بن أبي اليسر وجماعة غير هؤلاء من شيوخ دمشق، وكتب الإنشاء للملك الناصر داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب مدة في أيام ولايته، وسيره رسولاً إلى مصر وقدم علينا حلب في سنة أربع وأربعين وست مائة، وزارني في داري وأنشدني شيئاً من شعره وأخبرني أن مولده بدمشق يوم السبت سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين

وخمس مائة، ثم اجتمعت به بدمشق وعلقت عنه بفوائد، أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وست مائة، قوله: ليلى كشعر معذبي ما أطوله ... أخفى الصباح بفرعه إذ أسبله وأنار ضوء جبينه من شعره ... كالصبح سل عن الدياجي منصله قصصي بنمل عذاره مكتوبة ... بأحسن ما خط الجمال وأجمله والله قد أهملت لام عذاره ... يا عاذلي ما كل لام مهمله اقرأ على قلبي سباً في حبه ... والذاريات لمدمع قد أهمله آيات تحريم الوصال أظنها ... وطلاق أسباب الحياة مرتله ما هامت الشعراء في أوصافه ... إلا وفاطر حسنه قد كمله ثبت الغرام بحاكم من حسنه ... وشهادة الألفاظ وهي معدله كم صاد من صاد بعين دونها ... أسياف لحظ في الجفون مسلله إن أبعدته يد النوى عن ناظري ... فله بقلبي إذ ترحّل منزله بالعاديات قد اعتدى عنا ضحىً ... وبدا له في كل قلب زلزله شمس النفوس لبينه قد كورت ... والنار في الأحشاء منه مشعله قال وأنشدني لنفسه ابتداء مكاتبة كتبها إلى القاضي بدر الدين السنجاري: لولا مواعيد آمال أعيش بها ... لمت يا أهل هذا الحي من زمن وإنما طرف آمالي به مرح ... يجري بوعد الأماني مطلق الرسن

وذكره أبو البركات المبارك بن أبي بكر بن حمدان المعروف بابن الشعار في كتابه عقود الجمان في شعراء هذا الزمان فقال في نسبه: أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن أحمد بن سليمان - ورفع نسبه إلى قحطان التنوخي المعري الدمشقي المنشأ والدار من بيت الأدب والكتابة والشعر والقضاء - أبو محمد شاعر أديب. سأله الأمين أبو حفص بن أبي المعالي أن يحل أبيات أبي الحسن علي بن العباس الرومي في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وست مائة: وحديثها السحر الحلال لو أنه ... ولم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز شرك النفوس وفتنة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المتوفز فنثرها وقال: وحديثها - الحديث - لا كالحديث العذب فهو كالماء الزلال، وأسكر فأشبه العتيق من الجريال، واستملى من غير ملل ولا إملال، وشغل عن عذر من واجب الأشغال وجنى من قتل المسلم المتحرز ما ليس بحلال، وصادت بشركه النفوس، ومالت إلى وجهه الأعناق والرؤوس. فهو نزهة العيون، وعقال العقول، والموجز الذي ود المحدث أن يطول؛ ثم أنشد لنفسه:

حديث حديث العهد يفتح نوره ... فمن نوره قد زاد في السمع والبصر يخرّون للأذقان عند سماعه ... كأنهم من شيعه وهو منتظر يلذ به طول الحديث لسامر ... ولا يعتريه من إطالته ضجر به طرف للطرف تجنى وعقلة ... لغافل ركب سبقن إلى سفر هي البدر فاسمع ما تقول فإنه ... غريب وحدث بالرواية عن قمر - انتهى كلام ابن الشعار وقال - قال أبو محمد: كتبت رقعة على لسان سيف الدين مقلد بن الكامل بن شاور إلى الملك الأشرف أبي الفتح موسى بن الملك الكامل على سبيل الإنجاز - وكان أبطأ عليه عطاءه - وذلك في سنة ثلاث عشرة وست مائة، مضمونها: يقبل الأرض بين يدي الملك الأشرف - أعز الله نصره! وشرح ببقائه نفس الدهر وصدره! - وهو ينهي أنه وصل إلى باب مولانا، كما قال المتنبي: حتى وصلت بنفس مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا ويرجو ما قاله في البيت الآخر: أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا فأعطاه صلة سنية وقرر له جامكية وأحسن قراه ورتب له ما كفاه. وأنشد له أو لغيره: ما لي أرى ناقتي في سرحة الوادي ... تشكو الكلال ولا يحدو لها حادي

إذا ونت من كلال السير أذكرها ... عهد القدوم فتحيا عند ميعادي ونقل من خطه قوله: وقال أنه عملها سنة اثنتين وستين وست مائة: لي فيك يا غاية الآمال آمال ... إذا تذكرتها أمشي وأختال أميل من طرب إن عز ذكرك لي ... كأنني ثمل تثنيه جريال وأستمد نداكم من يلاحظني ... ما عندكم من جميل فيه إجمال لا أطلب الخير إلا من معادنه ... راجي سواك له فقر وإذلال أنا الفقير إليكم والغنى بكم ... فقري غناي ولي في الغيب آمال لحبك العفو أضحت في وسائلنا ... ذنوبنا ومحب العفو مفضال عمرت بالي لما أن سكنت به ... فالآن فليتنعم منى البال وصرت أوثر قلبي وهو منزلكم ... لأنكم فيه بالإجلال نزال لا حوّل الله من قلبي محبتكم ... ما دمت حياً ولا حالت بي الحال جدتم علينا ولم نشكر نوالكم ... والشكر موهبة منكم وإفضال وهبتمونا هبات ليس نقدرها ... منها اليقين ومنها الوجد والحال وكيف ما ملت مالت بي عواطفكم ... إليكم والهوى بالصب ميال ما زلت أرفل من نعماك في حدل ... لهن من سابغ المعروف أذيال أعيش بالحب إذ مات الأنام به ... فلي حياة كما للناس آجال لا مال لي غير آمال يحقق لي ... منك الغنى فهي في التحقيق أموال هتكت ستري ببلبالي بحبكم ... وطالما هتك العشاق بلبال

تلذ لي فيك أقوال فتطربني ... إن الهوى لذ فيه القيل والقال لي في النهار أحاديث ملفقة ... مع الأنام ولي في الليل أحوال يا هادي الركب قد بتنا يسربنا ... قوم همو عن طريق الرشد قد مالوا لهم عيون عن الآثام مائلة ... وهم عن الرشد والإحسان ضلال وللشريعة حظ إذ نقيم به ... من سار قصداً وللمعوج أوجال أيبتغي الخير إنسان وقد كثرت ... فتونه وهو مغتال ومختال وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: إذا كنت لي لم أبك ليلي ولا سعدي ... ولا دار هند بالعقيق ولا هندا ولم أتشوق نحو بارق بارق ... ولم أتشوق لا العقيق ولا نجدا ولم يشفني مر النسيم من الجوى ... إذا اعتل مشتاق وهاج به وجدا إليك تناهى الحب وانقطع الهوى ... فلست أرى قبلاً سواك ولا بعدا وقال رحمه الله: كان قد ركبني دين فوق عشرة آلاف درهم وبقيت منه في قلق، فرأيت في النوم والدي فشكوت إليه ثقل الدين، فقال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم فقلت - يا سيدي! وماذا عسى أقول؟ قال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت! قدري يعجز عن مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال: امدحه يوفي الله عنك دينك؛ فعملت وأنا نائم في النوم فقلت:

أجد المقال وجد في طول المدى ... فعساك تظفر أو تنال المقصدا هي حلبة للمدح ليس يجوزها ... بالسبق إلا من أعين وأسعدا قال: فانتبهت فأتممت القصيدة فوفى الله عني ديني في تلك السنة ومن شعره - رحمه الله: خرس اللسان وكل عن أوصافكم ... ماذا أقول وأنتم ما أنتم الأمر أعظم من مقالة حائر ... قد تاه فيكم أن يعبر عنكم العجز والتقصير وصفي دائماً ... والبر والإحسان يعرف منكم وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: أراك إذا ما امتد طرفي حاضر ... بكل مكان عند كل عيان ولست أرى شيئاً سواك حقيقة ... لأنك لا تفنى وغيرك فاني وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: يا أحمد إن فترة الأجفان ... بليت بها في آخر الأزمان والمعجز منك واضح البرهان ... تحيي بالوصل ميت الهجران وأشعاره ومحاسنه كثيرة، وعمّر حتى روى معظم مسموعاته ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الأحد السادس والعشرين من صفر - سنة اثنتين وسبعين وست مائة - بدمشق، ودفن بجبل الصالحية بتربة والده، قريباً من مغارة الجوع - رحمه الله. أقطاي بن عبد الله بن عبد الله الأمير فارس الدين الأتابك المعروف

بالمستعرب الصالحي النجمي، كان مملوكاً لنجم الدين محمد بن يمن، ثم انتقل إلى ملكية الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - وأمّره ثم ترقى بعد وفاته إلى أن عد من الأعيان الأمراء أكابرهم، ثم لما تملك الملك المظفر سيف الدين قطز - رحمه الله - رفع من شأنه وجعله أتابك العساكر وعلق أمور المملكة جميعها به، فكان مدار الدولة بأسرها عليه وهو المتحكم فيها لا يضاهيه أحد ولا يعارضه فيما يفعل. ثم لما قتل الملك المظفر - رحمه الله - على الصورة المشهورة تشوف إلى السلطنة أكابر الأمراء فقدم الأمير فارس الدين الملك الظاهر ركن الدين وسلطنه وحلف له في الوقت فلم يسع بقية الأمراء إلا الموافقة، فتم أمره ورأى له ذلك واستمر على حاله عنده في علو المنزلة ونفاذ الأمر وكثرة الإقطاع والرواتب، وبقي على ذلك مدة سنتين، لكن الملك الظاهر يختار الراحة منه في الباطن ولا يسعه ذلك لافتقاره إليه ولعدم وجود من يقوم مقامه، فإنه كان من رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً وخبرة ومعرفة ورئاسة ومهابة، فلما نشي الملك الظاهر الأمير بدر الدين بيليك الخزندار - رحمه الله - أمره بملازمته والاقتباس منه والتخلق بأخلاقه، فلازمه مدة. فلما علم الملك الظاهر منه الاستقلال بذلك جعله مشاركاً له في أمر الجيش، وقطع الرواتب التي كانت للأتابك واقتصر به على ما له من الإقطاعات؛ فجمع نفسه وتبع مراد الملك الظاهر، ثم قبل وفاته بمدة - لعل قريب

السنة أو ما حولها - أمره أن يتداوى؛ وقيل له أنه ربما ابتدأ به طرف جذام ولم يكن به شيء من ذلك، فلزم منزله وحصل له من الغبن ما كان سبباً لوفاته. ثم إن الملك الظاهر عاده قبل وفاته غير مرة، فعاتبه الأتابك - بلطف ومت بخدمته - وبكى بين يديه، فبكى الملك الظاهر لبكائه ولم يزل متمرضاً إلى أن توفي إلى رحمة الله بالقاهرة في جمادى الأولى - أظن في الثاني والعشرين - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، رحمه الله تعالى. لما كان عند ابن يمن بدمشق كان يعاشره أحد بني بردويل، وهم ثلاثة نفر أخوة جيرانه بالقصاعين؛ لكن كان أحدهم كثير الاختصاص به يعاشره؛ ولا يكاد يفارقه. فلما انتقل إلى الملك الصالح نجم الدين كان الأتابك من جملة من كان بدمشق من مماليكه حين أخذها الملك الصالح إسماعيل، فاعتقله وتمرض بالحبس فنقل إلى البيمارستان النوري. فلما أبل أفرج عنه وفسح له بالتوجه إلى الديار المصرية وهو في عافية في رقة الحال؛ فسير غلامه بورقة إلى ابن بردويل صاحبه يطلب منه ما يستعين به على سفره قرضاً. فلما قرأ الورقة قال للغلام صاحبها: ما أعرفه فبقى الغلام كلما عرفه به ويقول هو صاحبك وعشيرك يقول ما أعرفه فرجع الغلام إليه وعرفه ذلك، فتحيل وسافر وتنقلت به الأحوال. فلما جفل الناس في سنة ثمان وخمسين كان أولاد بردويل من جملة من توجه إلى

الديار المصرية، فقصدوا باب الأتابك، فدخل الحاجب وأخبره بهم؛ فقال: من هم؟ قال: فلان وفلان وفلان، قال: أما فلان وفلان فأدخلهم، وأما فلان فما أعرفه. فدخل أخواه فسلم عليهما ورحب بهما؛ فقالا: يا خوند! مملوكك فلان، قال: ما أعرفه. وهو يقولون: يا خوند! مملوكك الذي كان لا يزال في خدمتك وبين يديك وهو يقول: ما أعرفه ولا أعرف أولاد بردويل إلا أنتما لا غيركما. ثم بعد جهد أذن له في الدخول فحكى له الحكاية، فخجلوا واعتذروا بما ناسب الوقت، ومع هذا أحسن إليهم كلهم إحساناً كثيراً غمرهم به - رحمه الله تعالى. أقوش بن عبد الله مبارز الدين المنصوري استاد دار الملك المنصور صاحب حماة، كان متحكماً في دولته، متمكناً منه، لا يخالفه في ما يشير به، وله الإقطاعات الوافرة والكلمة النافذة، في مملكة مخدومه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الخميس رابع ذي الحجة من هذه السنة، وقد نيف على الأربعين سنة من العمر رحمه الله وحزن عليه مخدومه حزناً كثيراً وأقر خبزه بيد أولاده، ولم يتعرض إلى شيء من تركته. وكان المبارز موصوفاً بشجاعة، وكرم طباع، ولين جانب رحمه الله. الحسين بن بدران بن أحمد بن عمرو بن مفرج بن عبد الله بن الفتح بن خاقان بن شيخ السلامية أبو عبد الله نجم الدين، كان رجلاً جيداً،

لين الجانب، رئيساً، مسارعاً إلى قضاء الحوائج لمن يقصده؛ وولي مشارفة ديوان بعلبك وشهادته ومشارفة قلعتها سنين كثيرة، لم يشك منه أحد من خلق الله تعالى، وجميع أهل البلد يثنون عليه بحسن سيرته ومعاملته لهم. توفي إلى رحمة الله تعالى بعلبك ليلة الثلاثاء رابع شعبان وهو في عشر التسعين، ودفن بمقابر باب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى. سليمان بن الخضر بن بحتر شهاب الدين، كان والده الأمير سعد الدين الخضر من الأمراء الجبليين، وأمره الملك الصالح عماد الدين رحمه الله، واستمر على إمريته إلى حين وفاته في الأيام الناصرية الصلاحية. فأعطى خبزه لولديه شهاب الدين المذكور وأخيه شجاع الدين بحتر، وكاتن شهاب الدين هو الرئيس الكبير السن، فلما قصد التتر حلب في سنة سبع وخمسين ورجعوا منها جهز الملك الناصر رحمه الله إليها جماعة، كان شهاب الدين من جملتهم وكان ممن اعتصم بقلعة حلب، فلما فتحت على الصورة المشهورة فاستحضره هولاكو في جملة من استحضر ممن كان في القلعة؛ فقيل له: هذا له صورة في بعلبك وبلادها، وربما يحصل به مقصود من تسليم القلعة واستنزال من في الجبال فإنهم أقاربه ويصغون إلى قوله، فخلع عليه وسيره إلى بعلبك صحبة بدر الدين يوسف الخوارزمي رحمه الله المتولى لها من جهته، ووعد من جهتهم بأقطاع فلما لم يكن لهم أثر في حصول مقصودهم أطرحوه وبقي في بيته إلى أن فتح الملك المظفر

سيف الدين قطز رحمه الله الشام، فلم يحصل في أيامه على طائل، وكذلك في الأيام الظاهرية إلى حين وفاته. وكان توجه إلى الديار المصرية فأدركته منيته هناك في سابع ذي القعدة، وقد نيف على الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن عبد الله بن بخدكين أبو محمد الجرزي المنعوت بالشمس، كان رجلاً حسناً، له معرفة بالنجوم وعلم الهيئة، ويتلو القرآن العزيز في غالب أوقاته، وكان خطيب مشهد علي رضي الله عنه الذي ظاهر باب الفقاعية من مدينة بعلبك، وعلى ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير، حسن المجالسة لا يذكر أحداً إلا بخير. وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر من هذه السنة وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. عبد اللطيف بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله أبو الفرج نجيب الدين النميري الحراني الحنبلي المعروف والده بابن الصيقل، ولد بحران سنة سبع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من جماعة من الشيوخ، منهم أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ومن جماعة من أصحاب أبي القاسم الخضر الشيباني، وأصحاب القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري؛ وأجازه جماعة من الفقهاء كأبي جعفر الطرسوسي

وأبي الحسين الجمال وأبي الفتح الرازي والقاضي أبي المكارم المعروف باللبان وغيرهم. وحدث بالكثير ببغداد ودمشق والقاهرة ومصر وغيرها، وبقي حتى تفرد بالرواية عن كثير من شيوخه، وازدحم عليه أصحاب الحديث ولازموه للسماع واتفقوا عليه وخرجوا له، ولم يبق في زمنه من يجري مجراه في علو الإسناد وكثرة المرويات. وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة، فحدث بها مدة إلى حين وفاته، وجرى عليه محن؛ شارك فيها الصلحاء، وزاحم من يقتدي به في ذلك من أولياء توفي في مستهل صفر بقلعة الجبل ظاهر القاهرة ودفن بأول القرافة خارج السور رحمه الله تعالى. عبد الله بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو محمد الأنصاري المقدسي الشيخ العارف الصالح، كان من أعيان المشايخ، مشهوراً بالخير والعبادة ومكارم الأخلاق، جمع الله له بين حسن الصورة والمعنى، وله الصيت المشهور والآثار الجميلة ومعظم مقامه بنابلس، وله فيها زاوية معمورة بالفقراء الأخيار والواردين، ويتردد إلى البيت المقدس ويكثر المقام به، وله فيها زاوية مشهورة وأتباع ومريدون، وعنده فضيلة ومعرفة بطريق القوم.

وله نظم جيد، فمنه: لك في القلوب منازل ومقام ... لا العقل يدركها ولا الأفهام ولروح من يهواك فيه إشارة ... لا الطرف يلحظها ولا الأرهام ولقلبي المشتاق فيك صبابة ... لا الدهر ينفدها ولا الأيام وسرت إلى الأرواح منك نسيمة ... سكرت بها العشاق فيك وهاموا من أصبحت خطرات ذكراك قوته ... وفؤاده مأواك كيف ينام ومن التجت بجناب عزك روحه ... واستمسكت بعراك كيف يضام ومن أحرقت نيران حبك قلبه ... شوقاً إليك وهام وكيف يلام ما الوجد وجداً إن عداك ولا الهوى ... إلا هواك ولا الغرام غرام وإذا خلت منك الخيام وأصبحت ... تؤوي سواك فما الخيام خيام وقال: رحمه الله تعالى: فاء الفقير فناؤه عن ذاته ... وفراغه من نفسه وصفاته والقاف قوة قلبه بحبيبه ... وقيامه بالصدق في مرضاته والياء يرجو ربه ويخافه ... ويقوم في التقوى بحق تقاته والراء رقة قلبه وضياؤه ... ورجوعه لله عن شهواته وكتب الشيخ جمال الدين عبد الرحمن والد الشيخ فخر الدين الحنبلي يذم السماع وأهله: يا سائلي عن طريق الفضل والأدب ... عن معشر عقلهم أدى إلى العطب

قوم بلا راحة أستانسوا وبلوا ... عن التكسب بين الناس والتعب قالوا بلا سبب الله رازقنا ... والله رازقنا بالسعي والسبب أليس مريم رب العرش قال لها ... إليك هزي بجذع يانع الرطب ولو يشاء أتاها رزقها رغداً ... من غير ما تعب منها ولا نصب وكان رزق رسول الله جاعله ... رب البرية تحت القصر والقصب وباكروا اللهو واللذات واتخذوا ... لهو الحديث لهم ديناً مع الطرب إذا أتوا منزلاً قالوا لصاحبه ... قبّل يد الشيخ ذا الأفضال والأدب هذه له نظر هذا له همم ... له المكرمات بين العجم والعرب يمشي على الماء يطوي الأرض قاطبة ... وفاتح كل باب مغلق أشب اطلب رضا الشيخ وانظر أين مذهبه ... وليس مذهبه إلا إلى الذهب هذا وقد جاء بالمعلوم فابتدر ... وا محسرين عن الأيدي على الركب كل امرئ منهم في الأكل معطله ... وترجف الأرض يوم الروع بالهرب إذا تغنى مغنيهم سمعت لهم ... صراخ قوم رموا بالويل والحرب ما زال ليلهم رقصاً فإن تعبوا ... تساندوا في زوايا البيت كالخشب ضرب القضيب مدى الأيام شغلهم ... والرقص دأبهم والضرب في الطرب قالوا لنا مذهب وهي الحقيقة لا ... تقول بالشرع ثم الدرس في الكتب ولا نريد من الرحمن جنته ... ولا نخاف لظىً جاءت على غضب وما بهذا كتاب فيه أخبرنا ... وجاءت الرسل بالترغيب والرهب

زاروا النساء وآخوهن هل عصموا ... منهن أم أمنوا من طارق النوب نسوا قضية هاروت وصاحبه ... ماروت إذ شربا كأساً من العطب وهمّ يوسف لما أن رأى عجبا؟ ً ... برهان خالقه أعجب من العجب ونظرة تركت داود ذا خرق ... على خطيئته باك أخا كرب أبرأ إلى الله من قوم فعالهم ... هذا وإن دينهم ما عشت لم أتب فأجابه الشيخ عبد الله رحمه الله: يا منكراً فضل أهل الفضل والأدب ... وناسباً فعلهم ظلماً إلى اللعب قوم لهم عند ذكر الله أفئدة ... تطير شوقاً لفرط الحب والطلب قلوبهم بالغنى بالله قد ملئت ... فما لهم حاجة في الخلق والسبب قد أصبحت في رياض القرب ساكنة ... أرواحهم فغدت بالأنس والطرب قد علت سبعة الأفلاك همتهم ... مع السماوات والكرسي مع الحجب فلم تزل في ظلال العرش سائرة ... فيا لها رتبة جلت على الرتب هم الرجال وأهل الله نعرفهم ... من خصه الله بالتوفيق والقرب فيهم ودائع أدحال وأودية ... وبين أظهرنا في العجم والعرب لذكرهم ينزل الرحمن رحمته ... كما سمعناه في الأخبار والكتب يراهم الجاهل العاني فيحسبهم ... من التعفف أهل المال والحسب فالفقر فخرهم والحق عزهم ... واللطف وصفهم والغبر في تعب هذا هو الفضل لا بالدرس في كتب ... هذا هو الفخر لا بالمال والحسب تقدست وصفت أسرارهم فرأت ... معنى يجل عن الإدراك والسبب لما انجلت وتجلت في سرائرهم ... قاموا لها وجثوا منها على الركب

وصاح صائحهم صوتاً لو انفلقت ... له الصخور لما كانت من العجب ورب صرخة وجد لو تلبثها ... لمات منها لفرط النار واللهب ولو حدا لهم الحادي وأنشدهم ... باسم الحبيب بصوت طيب دأب تراهم بين سكران ومطرح ... وهائم واله ملقى ومضطرب وبين باك وذي وجد وذي حرق ... وبين شاك وأواه ومنتحب صرعى من الوجد لامس ولا عرض ... سكرى من الحب لا من خمرة العنب إن بشروا بالوفا فالقوم في مرح ... أو خوفوا بالجفا فالقوم في حرب هذا السماع الذي اذكرتموه على ... أهل السماع وأنتم منه في نصب والله ما فعلوه أهله عبثاً ... ولا لحظ ولا دنيا ولا سبب وإنما نسمة مرت بهم فسرت ... في كل قلب دميث طاهر لجب ويفهم القول والمعنى ويدركه ... ذوو البصائر أهل العقل والرتب عجبت منكم وأنتم أيها الفقها ... أهل الحديث وأهل الفضل والأدب دحضتم القول في أهل السماع فلم ... تبقوا على أحد في السب والغضب فكيف حرمتم كل السماع ولم ... تفرقوا بين أهل الصدق والكذب فكم رجال وأبدال وقد حضروا ... هذا السماع من السادات والنجب قوم تعم بقاع الأرض دعوتهم ... بالنضر والأمطار والسحب فهل ذكرتم بتصريح كما ذكرت ... أسماؤهم في كتاب الله بالعربي لو كان إنكارهم لله يا فقها ... لكان خال من الأهواء والغضب

نهيتم الناس عن أهل السماع وما ... والله صاحبهم عنهم بمنجذب وقد تعبتم وأتعبتم بذمكم ... أهل السماع وما هذا بمنتحب لكن نشبتم فلم يمكن رجوعكم ... عنهم فيا رب خلصهم من النشب وربما كان فيهم من له أسف ... على السماع ولكن خافكم فعبي وبعد هذا فإني ناصح لكم ... وحرمة المصطفى الهادي النبي العربي لا تهلكوا دينكم بالذم للفقرا ... أهل السماع فهذا غاية العطب هذا السماع لهم أهل يخص بهم ... وغيرهم منه في لهو وفي لعب فاللهو منه حرام ليس يحضره ... إلا العوام وأهل اللغو والتعب والحق منه حلال طيب نفس ... خال من اللهو والأهواء واللعب كم بين قلب منيب طاهر يقظ ... وبين قلب مبيد مظلم حرب ما أحسن العدل والإنصاف يا فقها ... ما تفرقوا بين غصن البان والحطب قلبان قلب لطيف كالنسيم إذا ... سرى وقلب إذا أقسى من الخشب هذا يعادل هذا في تحركه ... عند السماع فافتوا واكشفوا كربي فارجع إلى الله عن كسر القلوب وعن ... ذم الرجال ولا تغتبهم وتسب ما بدعة أحدثت خيراً وعافية ... وتوبة وصلاحاً يا أخا العرب كبدعة أحدثت شراً ومعصية ... وفتنة وفسادا يا أبا العتب ما ثم إلا النفوس إلا أظهرت حسداً ... فأظهرت بعض ما فيها من التعب إني لأرجو بحبي في الرجال غداً ... وبالبشر أرجوه من فعلي ومن نصبي أهل الصفا والوفا والحب للفقرا ... والصدق والرفق والأخلاق والأدب ورحم الله أهل الفقر والفقها ... والمسلمين جميعاً فادعه يجب

حكى قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله عن الشيخ عبد الله المذكور رحمه الله ما معناه قال: كنت يوماً بجامع دمشق مع الفقراء، فحضر شخص ومعه كتاب وذهب في خرقة، وقال للفقراء: أفيكم من يروح إلى الديار المصرية مع هذا القفل ليتصدق بحمل هذا الكتاب والذهب إلى أصحابه مثاباً في ذلك؟ قال الشيخ عبد الله: فلم يتكلم من الجماعة أحد. فحضر لي إجابة سؤال ذلك الرجل والتوجه إلى الديار المصرية للتفرج، فقلت له: أنا أروح. فأعطاني الذهب والكتاب، فخرجت مع القفل، وبقيت في الطريق تعباناً جائعاً أصل الأيام بلا أكل. فلما توسطنا الطريق جعت جوعاً شديداً فعاينت الموت، وإذا بالقفل يقولون: قد طلع علينا حرامية، فأخذت قوسي وتبعتهم، فانهزموا عن آخرهم. قال: فعظمني أهل القفل وأطعموني وأكرموني غاية الإكرام؛ فلما وصلنا الديار المصرية نزلنا في خان، فلما استقرينا في الخان سمعت غلبة عظيمة وإذا بشخص من الجماعة يقول: قد زاح لي ذهب عدده كذا ووزنه كذا وهو في خرقة صفتها كذا. قال: فقلت في نفسي: والله وكذلك الذهب الذي معي، وتألمت لذلك وتوكلت على الله تعالى. فشكى ذلك الرجل إلى الوالي وأحضر رجاله، وأخذ جميع من في الخان إلى دار الوالي ليفتشونا، فرحت معهم، وقد انقطع قلبي. فلما صرنا في دار الوالي أحضروا واحداً، ثم أنه أحضر شخصاً وصمم عليه؛ ثم قال له: هات الذهب بعينه وإلا فعلت بك وصنعت.

فأخذه منه وسلمه إلى صاحبه، ففرحت بذلك. ثم إنه قال لي الوالي من غير معرفة بيني وبينه ولا بأحد من خدمه في ذلك الوقت: يا عبد الله! أيش هذه العمائل؟ الله عليك! ما العدد العدد والوزن الوزن والخرقة الخرقة؟ فارتعت من كلامه وإطلاعه على ما هو مغيب عنه، فرميت روحي على أقدامه؛ فعانقني وقال: لا تعود إلى مثلها؛ قال: فقلت له: يا سيدي! هذا وأنت وال. قال: نحن قوم نرى أن نتستر بذلك؛ قال: فودعته ومضيت وآليت على نفسي أن لا أخرج من مكان إلا بإذن؛ وحكى ولده الشيخ محمد - رحمه الله - قال: قال لي والدي - رحمه الله: يا محمد! أنا في كل سنة أزور القدس والخليل، فاتفق أنني زرت الخليل صلى الله عليه وسلم وخطر لي أني أبيت داخل المسجد لأتملى بالخليل عليه السلام وأقرأه عنده ختمة. فلما كان بعد العشاء جاء الشحاني وقالوا لي: ما تخرج يا سيدي أو نغلق عليك؟ فقلت: أغلقوا علي. فلما أغلقوا قمت عند رأس الخليل عليه السلام وجعلت أصلي عند رأسه وأقرأ. فلما صليت وقرأت البقرة وشرعت في آل عمران سمعت قائلاً يقول: ما تتأدب تقف عند رأس الخليل! قال: فزمعت فلما أفقت تأخرت؛ فلما كان بعد قليل وإذا بالأبواب قد فتحت ودخل قوم كثيرون لا أعرفهم؛ قال: فاقعدت وامتدت الصفوف بحيث أنهم ساووني وما أقدر أن أنطق بكلمة، ثم إن شخصاً منهم طلع إلى المنبر وخطب ونزل وصلى بهم، ثم انصرفوا فغلقت الأبواب كما كانت وما قدرت على كلام أحد منهم. ثم بقيت كذلك إلى الصباح. وللشيخ

عبد الله - رحمه الله - أشعار كثيرة وكلام حسن على طريق القوم، وكان صحب والده وأخذ عنه وانتفع به، وكان لوالده عدة أولاد جميعهم أخيار صلحاء. والشيخ عبد الله المشار إليه منهم والمتعين من بينهم اجتمعت به بدمشق غير مرة؛ ورأيته يملأ العين والقلب ويقصر عن محاسنه الوصف ودرج إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة وهو في عشر السبعين بنابلس، ودفن بالطور وصلى عليه بالتيه بجامع دمشق يوم الجمعة العشرين من شعبان. رثاه ولده أبو الحسن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى: أأرض بها قبر الحبيب يزار ... لك الدمع من جفني القريح نثار لقد أنس الرحمن أرضاً ثوى بها ... وأصبح فيها معهد ومزار وطاب ثرى البطحاء من طيب نشره ... وحسبك قبر للخليل جوار فلا تسألن الصبر عمن أحبه ... ففي القلب من فقد الأحبة نار فلا تذكر إلى الدار من بعد أهلها ... فما الدار من بعد الأحبة دار لقد أوحشت تلك المنازل بعدهم ... وكان عليها هيبة ووقار سلام على تلك الخيام وأهلها ... لقد خلفوني في الخيام وساروا وأما والده الشيخ غانم فكان من سادات المشايخ وأعيانهم وأعلمهم بطريق القوم، وله بقرية نورين من عمل نابلس زاوية أقام بها عشرين سنة، ولما فتح البيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة استوطنه وأقام به نحواً من خمسين سنة، ثم قدم دمشق فتوفي بها في غرة شعبان

سنة اثنتين وثلاثين وست مائة عشية الأحد، ودفن يوم الاثنين في الحضيرة التي بها السادة المشايخ عبد الله البطائحي وعبد الله الأرموي - رحمهما الله تعالى - بسفح قاسيون، وبلغ من العمر سبعين سنة وكان الشيخ غانم في السنة التي فتح فيها بيت المقدس على يد رجل رآه مرة واحدة، ثم لم يزل يراه بظنه من الأبدال، وانقطع إلى العبادة تحت صخرة بيت المقدس في الأفياء السليمانية ست سنين، وصحب بعد ذلك المشايخ: عمر المدني، ومحمد الديسني، وأبا بكر العين سرياني، ومحمد الكيلاني، ومحمد القرشي، وأبا عمران المغربي وغيرهم، وصحب الشيخ عبد الله الأرموي صحبة كبيرة، ولازمه إلى حين وفاته. وماتا جميعاً - رحمهما الله - في مدة قريبة. وسبب توبته وانقطاعه إلى الله تعالى أنه تمرض عام فتح المقدس مرضة عظيمة، فلما أبلّ سأل عن أصدقائه الذين كان يصحبهم قبل توبته، فوجد أكثرهم قد مرضوا وماتوا، فحزن عليهم وأقلع من وقته وأكب على العبارة والإقبال على الله تعالى وحج ثلاث حجات محرماً من بيت المقدس، وفتح عليه في الحجة الثالثة بما فتح. وقال: خرجت حاجاً ثم عزمت بعد الحج على السياحة بأرض تهامة، فجاءني رجل سلّم عليّ وقال: لهذا الأمر رجال غيرك أنت في صلبك ذرية ولك أصحاب ينتفعون بك؛ وأخبرني ببعض ما أنا فيه، ثم غاب عني فلم أره؛ فرجعت إلى الشام. وقال: رجعت سنة من الحجاز إلى الشام وأنا مريض، لا أستطيع الكلام ولا القيام ولا أكل الطعام، فبينما أنا مطروح في البرية - قد ذهب عني رفقتي بعد

اليأس مني - جاءني رجل مغربي أشقر، فسلم عليّ ثم سار يحدثني بما أنا فيه وبما يكون مني، وأنا لا أشك أني سائر في الهواء، غير أني قريب من الأرض ساعة؛ ثم قال: اجلس. فجلست؛ ثم قال: نم. فنمت. فنام إلى جانبي، فاستيقظت فلم أجده. ووجدت نفسي قريباً من الشام ولم أجد بي مرضاً، ولا أحتاج إلى طعام ولا شراب، حتى دخلت بيت المقدس. وأما أخلاقه فلم ير ساخطاً على أحد، ولا سمع مغتاباً لأحد ولا ذاماً له، ولا أسقط لأحد حرمة، ولا كسر قلباً، ولا نسى وداً، ولا رأى لأحد فعلاً ومن توجه إلى الله تعالى لم يسأل من الدنيا شيئاً ولا تعرض له، وإذا فتح الله عليه بشيء من الدنيا لم يرده، وإذا أخذه لم يبقه ولم يدخر، ولم يفرح بما أوتي منها ولا تأسف على ما فاته منها، وكان كثير الأمراض والابتلاء، ولم يسمع منه أنين ولا شكاية، وإذا سئل عن حاله ظهرت عليه أعلام الرضاء. وقال ولده الشيخ عبد الله: أخبرني والدي عن سبب توبته ما تقدم، وقال: لما وضعت يدي على يد الشيخ الذي توبني نزعت الدنيا من قلبي كما تنزع الشعرة من العجين، فلما نهضت قائماً تلا عليّ " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ". قال: فجعلت هذه الآية قدوتي إلى الله تعالى وسلكت بها في طريقي وجعلتها نصب عيني لكل شيء منها. قالت لي نفسي: أو أمرني به هواي فعلت بخلافه. فهذه أخلاق كريمة ومواهب جسيمة لا يقوى عليها أحد إلا بتأييد رباني. وللشيخ غانم رحمه الله كلام كثير مدون، وأشعار

على طريق القوم، ليس هذا موضع ذكرها، نفعنا الله به وبالصالحين إنه جواد كريم. علي بن عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي أبو الحسن نجم الدين الربعي الشافعي، كان شاباً محصلاً مجتهداً، عنده فضيلة وأهلية وديانة، لم يزل منذ نشأ مكباً على الاشتغال والتحصيل والسماع، فسمع كثيراً من المشايخ، واخترمته المنية شاباً، فتوفى في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون رحمه الله، ولعله لم يبلغ من العمر ثلاثين سنة، وكان عالماً بالفقه والأدب والحديث، وله نظم حسن، فمنه هذه يقول: أعاهد قلبي في اجتناب وصالكم ... ويغلبني شوقي إليكم فأنكث واحلف لا واصلتكم ما بقيتموا ... واعلم أن الوصل خير فأحنث وقال يمدح شيخه الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله حين أملى عليه كتابة المسمى بالإقليد لذر التقليد في شرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله: يا إماماً فاق كل إمام ... وفقيهاً أزرى بكل فقيه أنت حبر صان الإله بك الدي ... ن من الترهات والتمويه أنت تاج لمفرق الدين تحميه ... من كل جاهل وسفيه

أنت أوضحت مشكلات المعاني ... يا إمام الدنيا من التنبيه أنت ألبسته بألفاظك الغر ... لباساً يرد ما قيل فيه كم تصدى لذاك قوم قصدوا ... عن بديع وغامض تحويه ما رعوه حق الرعاية حتى ... أخذ السهم بعدهم باريه فأنار الكنوز منه وأدنى ... غصن أثماره لمن يجتنيه فبدا واضح كشمس النهار ... نازعاً يده لمن يجتليه وأعلمنا أن الجهالة كانت ... عن مبادي أفهامنا يخفيه فوقاك الإله من كل ما تخ ... شى وآتاك كل ما ترتجيه وقال يمدح الإقليد المذكور وشيخه: ما زال للتنبيه باب مغلق ... عن فهم قوم ثاقب وبليد أغنى عن الشراح طراً فتحه ... فلذلك قد ذهلوا عن المقصود حتى أرى شيخ البرية كلها ... علامة العلماء بالإقليد شرح وجيز بالإبانة كامل ... حاوي هدى التقريب والتمهيد فيه النهاية في البيان وضمّ ... نه إحكام ورد عقود كاف بتلقيح الفهوم مهذب ... تهذيبه عار عن التقليد فأبان منه كل معنى مشكل ... خاف وقرب منه كل بعيد وأزال عنه كل شبهة قائل ... ساه ورد مقال كل حسود بعبارة متعذر أسلوبها ... إلا على ذلق اللسان حديد فرأيت وجه الحق أبيض ناصعاً ... ما بين هاتيك الحروف السود

يا أيها المولي الإمام ومن له ... الثناء باق على التأييد أبشر فقد فقت البرية كلها ... علماً بلا شك ولا ترديد عمر بن بندار بن عمر أبو الفتح كمال الدين التفليسي، مولده بتفليس سنة اثنتين وست مائة - تخميناً - تفقه على مذهب الشافعي رحمة الله عليه، وقرأ الأصولين وغيرهما من العلوم، وبرع في ذلك، وسمع وحدث ودرس وأفتى وولي القضاء بدمشق مدة زمانية، وكان محمود السيرة، مشكور الطريقة؛ وقدم القاهرة وأقام بها مدة يشغل الطلبة بعلوم عدة في غالب أوقاته، ووجد الناس به نفعاً كثيراً. وتوفي ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم. وكان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم مع الديانة الوافرة والعفة المفرطة وشرف النفس مع عدم المال رحمه الله تعالى. ولما تملك التتر الشام في سنة ثمان وخمسين وست مائة، سير له تقليد بقضاء الشام بأسره والجزيرة والموصل وغير ذلك من البلاد المجاورة لها، وباشر ذلك مدة يسيرة إلى حين قدم قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكى رحمه الله متولياً من جهة هولاكو، فتوجه القاضي كمال الدين إلى حلب وأعمالها متولياً لها، وكان في تلك الأيام اليسيرة قد فعل من الخير والإحسان والذب عن الرعية ما يقصر عن الوصف، وكان مسموع القول عند نواب التتر بدمشق، لا يخالفونه:

فبالغ في الإحسان إلى الخاص والعام، والسعي في حقن الدماء وحفظ الأموال لم يتدنس في تلك المدة بشيء من الدنيا مع فقره وكثرة عائلته، ولا استضاف في زمن ولايته مدرسة ولا غيرها، بل اقتصر على ما كان مباشره من تدريس العادلية الكبيرة إلى حين سفره إلى حلب، وجرى عليه تعصب كثير ونسب إليه أشياء برأه الله منها، ونزهه عنها، فعصمه الله ممن أراد ضرره. وكان نهاية ما نالوا منه أنهم ألزموه بالسفر إلى الديار المصرية، فتوجه إليها على ما تقدم شرحه، ولم يزل بها معززاً مكرماً إلى حين وفاته رحمه الله تعالى ورضي عنه. فلقد كان من حسنات الدهر. وصل إلى دمشق في سادس عشرين ربيع الأول، ومنه قضاء ماردين وميافارقين، ونظر جميع الأوقاف والجامع، وكان القاضي قبله صدر الدين بن سنى الدولة في سنة ثلاث وأربعين، وكان كمال الدين ينوب عنه بدمشق. أنشده بهاء الدين محمد بن الدجاجية قوله فيه بديهاً بمجلس الحكم بالعادلية أيام مباشرته الحكم بها، خلافة عن قاضي القضاة صدر الدين رحمه الله تعالى يقول: يا من شرفت بفضله تفليس ... قد سار بحسن العدل عنك العيس ما للعمرين نالت غيرك يا ... من زين به القضاء والتدريس عمر بن الياس بن العنطوري، كان رجلاً صالحاً، كثير العبادة وقيام

الليل، وحج غير مرة على قدميه، وحال عوده من الحجاز يلبس كلوتة صفراء جديدة، توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بجبل لبنان في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى. عيسى بن موفق بن المزهر مبارك سيف الدين التنوخي، كان من أعيان الأمراء الحلبيين، ووالده الأمير ناصر الدين كان خصيصاً بالملك الصالح عماد الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا سيف الدين كثير الخير والمروءة، صادق اللهجة، لا يذكر أحداً بسوء، كثير البر بمعارفه وأصحابه والمكارمة لهم، توفي ببعلبك ليلة الأحد خامس صفر، وحمل إلى قرية بحوشية من قرى البقاع البعلبكية، وهي شمالي كرك نوح عليه السلام، فدفن بها عند أهله؛ وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى. كيكاووس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلمش بن أنر بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان عز الدين بن السلطان غياث الدين بن السلطان علاء الدين السلجوقي، قد ذكرنا أن والده لما مات اقتسم هذا عز الدين وأخوه ركن الدين بلاد الروم بينهما مناصفة، وأن أخاه ركن الدين تغلب على مملكة الروم، فلما تغلب هرب عز الدين بجماعة من خواصه وأهله، واستصحب معه مالاً

وذخائر، وقصد القسطنطينية. فلما حل بها خافه ملكها، فقبض عليه وحبسه في بعض قلاعه، فلم يزل محبوساً بها إلى أن بعث بركة ملك التتر عشرين ألف فارس إلى بلاد صاحب القسطنطينية، فأغاروا عليها من سائر نواحيها فراسلهم في طلب الهدنة، فأجابوه على أن يسلم لهم السلطان عز الدين وما أخذ معه، فسلمه إليهم وما كان أخذ معه، وذلك في سنة ستين وست مائة، وساروا به إلى بركة، فأكرمه وقدمه على عسكره، وأمره بقصد صاحب قسطنطينية. فلما نزل على بلاده كان عنده فارس الدين أقوش المسعودي رسولاً من جهة الملك الظاهر، فخرج إليه وأمره بالرحيل وقال له: هذا قد صار من أصحاب السلطان الملك الظاهر ولا سبيل لك عليه، فرحل ولم يزل عند بركة إلى أن مات. وانتقل الملك إلى ابن أخيه منكوتمر، فأقام عنده إلى أن توفي في هذه السنة. وخلف من الأولاد ثلاثة ذكور، وهم: الملك المسعود، مقيم في سوداق في خدمة منكوتمر، والآخران عند بالعوش ملك الأشكر في اسطنبول في كتّاب الروم، لا يعرفان الإسلام. وكانت وفاة السلطان عز الدين بصوداق من بلاد الترك، ومولده سنة ست وثلاثين وست مائة رحمه الله تعالى. لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الإيدمري الدوادار المعروف بالدرفيل، كان مفرط الذكاء، كثير المعرفة والخبرة بالأمور، محباً للعلماء والفقراء، حسن الظن بهم، يقبل عليهم ويقضي حوائجهم، ويبالغ في إكرامهم وتعظيمهم، وعنده مشاركة وإلمام بالفضيلة، ويكتب خطاً جيداً

حسناً، وله همة عالية، وصدر واسع، وتجمل تام، وكان الملك الظاهر يحبه ويؤثره كثيراً، ويعتمد عليه ويثق به، وحرمته وافرة وأوامره عند سائر ولاة الأطراف ونواب السلطنة ممتثلة، وهو محبوب إلى الخاص والعام، وأمر المكاتبات وجميع ما يتعلق بذلك معزوق به، وبالأمير سيف الدين بلبان الرومي، لكنه كان أكثر تنفيذاً للأشغال من الرومي، ولم يزل على ذلك إلى أن تمرض في هذه السنة. وتوفي إلى رحمة الله تعالى في رابع عشر شهر رمضان منها ببستان الخشاب ظاهر القاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى. سمع من أبي القاسم عبد الرحمن بن مكي السبط وجماعة غيره، وتوفي وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى. مجاهد بن سليمان بن مرهف بن أبي الفتح التميمي المصري الخياط ويعرف بابن أبي الربيع، توفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة هذه السنة بالقرافة الكبرى لأنها كانت سكنه، ودفن بها أيضاً وقد ناهز سبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى كان فاضلاً أديباً ومن شعره في أبي الحسين الجزار، وكان بينهما مهاجاة: أبا الحسين تأدب ... ما الفخر بالشعر فخر

وما ترشحت منه ... بقطرة وهو بحر إن جئت بالبيت منه ... وما لبيتك قدر لم تأت بالبيت إلا ... عليه للناس حكر وقال يهجوه: لا تلمني إذا غسلت تعاشي ... ر كغسل الكروش مما خباه فسأشويه بالهجاء ولا أت ... ركه باقياً بشحم كلاه وقال فيه أيضاً يهجوه: إن تاه جزاركم عليكم ... بفطنة عنده وكيس فليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه غير تيس وقال أيضاً فيه يهجوه: ما للأديب تعاشير بلا سبب ... في خده صعر في أنفه شمم وسوق وردان لم يدرس بوالده ... حياً ولما ماتت الأبقار والغنم وقال فيه أيضاً يهجوه: ما لتعاشير حلاقيمه ... عليّ قامت من مواعينه فلا يلمني وليلم نفسه ... إذ هو مذبوح بسكينه والله ما عصيتها فعله ... إلا بتقطيع مصارينه وكتب إلى الوزير يعاتبه على التقرب إليه: قل لوزير العصر لا تطرح ... أمراً به أعني بك العتب

واجزر عن الجزار نفساً فقد ... تجني به ذنب ولا ذنب ولا تجالس طرفاً نازلاً ... يا طال ما جالسه كلب وقال أيضاً يهجوه من أبيات: يجحدني ما لم يفد جحده ... دعه فما ينفعه مينه كذلك الرجس لما ذوي ... وكاد يقضي ودنا حينه ما إن صببت الماء في قاعه ... وقام إلا قويت عينه وقال أيضاً يهجوه: أعد يا برق ذكر أصيل نجد ... فإن لك اليد البيضاء عندي أشيمك بارقاً فيضلّ عقلي ... فوا عجباً تضل وأنت تهدي ويبكيك السخاء ولست ممن ... تحمل بعض أشواقي ووجدي بعثت مع النسيم لهم سلاماً ... فما عنوا عليّ له بردّ وقال أيضاً: فوق خده بنفسج وشقيق ... كيف حملتموه ما لا يطيق وفم فيه ما يجلّ عن الو ... صف ونخوة قلبه فيضيق وقوام يزيد فيه قلوب ... كلما قام فيه للعشق سوق وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وظبي تظلمت من خصره ... لقلبي عليه حقوق ودم أخذت القصاص بتعضيضه ... ولم يجر بعد عليه قلم

وقال أيضاً ملغزاً في الإبر والكستبان: ثلاثة في أمر خصمين ... ألفين لكن غير ألفين هما قرينان وإن فرقت ... بينهما الأيام فرقين فواحد يعضده واحد ... ويعضدد الآخر باثنين تراهما بينهما وقعة إذ ... تقع العين على العين محمد بن سليمان بن عبد الله بن يوسف أبو عبد الله جمال الدين الهواري الفقيه المالكي المذهب المعروف بابن أبي الربيع، كان فاضلاً أديباً. قال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان أنشدني لنفسه قال: لولا التطير بالخلاف وانهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا لقضيت نحبي خدمة بفنائكم ... لأكون مندوباً قضى مفروضا ولجمال الدين محمد المذكور: أحباب قلبي إن تحكمت النوى ... في بيننا وجرى القضاء بما جرى فلقد غضضت عن الورى من بعدكم ... طرفاً يرى من بعدكم أن لا يرى توفي المذكور في شهر رمضان هذه السنة بالقاهرة وقد جاوز ستين سنة من العمر وذكر الحافظ شرف الدين الدمياطي - رحمه الله - في معجمه، فقال عنه التونسي المحتد المصري المولد والدار الفقيه الأديب، أنشدني لنفسه في صديق له انتقل من السواد إلى السويداء:

سريت من السواد إلى السويدا ... سير البدر من طرف لقلب قضيت من النوى وطراً وهاقد ... قضيت لك البقا في البعد نحبي وقال: وأنشدنا لنفسه في موسى بن يغمور: لك الله يا موسى فأنت محمد ال ... صفات وذهني فيك حسان مدحه إذ ما دجى ليل من الخطب مظلم ... فمن يدك البيضاء إسفار صبحه وقال: وأنشدنا وكتب بها إلى صديق له يدعى الصدر: مازلت في بعد وفي قرب ... صبّاً إليك وأي صبّ جزت القلوب بأسرها ... والصدر موضع كل قلب وأنشدنا أيضاً فيه: وتوسوست بأسياف إلى الصد ... ر وما زال موضع الوسواس قال: ومولده بالقاهرة سنة ست مائة، ووفاته بها ليلة الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان. وحدث بشيء من الحديث - رحمه الله تعالى. محمد بن سليمان أبو عبد الله المعافري، الشاطبي الشيخ الصالح، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي بظاهر الاسكندرية في العشرين من شهر رمضان ودفن بمرج سوار. كان أحد مشايخ الفقراء المعروفين بالصلاح والانتفاع مقصوداً للزيارة والتبرك به، مشهوراً في ناحيته - رحمه الله تعالى. محمد بن عبد القادر بن ناصر بن الخضر بن علي أبو عبد الله الأنصاري

الخزرجي الشافعي الملقب شهاب الدين، الدمشقي الأصل والمولد والمنشأ، قرأ القرآن العظيم لسبع سنين وصلى بالناس به بجامع دمشق بالحائط القبلي في شهر رمضان المعظم صلاة التراويح، ثم اشتغل بالفقه على الخطيب جمال الدين عبد الكريم بن الحرستاني خطيب جامع دمشق، فقرأ عليه التنبيه والمعالم، واشتغل في حفظ الوسيط، فقرأ منه مقدار ربعه، ثم ارتحل إلى حلب، أقام بها مدة، وبها لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي حين وفد عليها رسولا، ثم قصد الموصل وأقام بها سنين، وفيها كمل حفظ الوسيط، فجمع بين طرفيه واجتمع بفضلاء بيت يونس وغيرهم بها، وأخذ عنهم ثم ارتحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية مدة، ثم ارتحل إلى بلاد العراق فطاف أكثرها وحصل العلوم من علمائها، وأقام في رحلته ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى أهله

بدمشق أقام بها سنين. منقطعاً عن الناس، لا يتردد إلى باب أحد ولا يجتمع إلا بمن يأخذ عنه شيئاً من العلم تعوضاً عن العريض للولايات، ثم طلب لولاية الحكم بمدينة الخليل عليه السلام، فأقام مديدة. وطلب الديار المصرية واجتمع بالوزير بهاء الدين - رحمه الله - ورغبه في المقام بمصر، وذكره للملك الظاهر - رحمه الله، فوافق على أن يولي بمصر ما يقوم به. قال: فكرهته لما فيه من تركي مجاورة الخليل عليه الصلاة والسلام وإقبالي على الدنيا وأهلها. وقلت: أتشوق إلى الخليل صلى الله عليه وسلم وأهله: أترى أعبش أرى العريش وشامه ... فبمصر قد سئم المحب مقامه أم هل تبلّغ عنه أنفاس الصبا ... يوماً إلى أهل الخليل سلامه يا سادة خلفت قلبي عندهم ... هل يحفظون عهوده وذمامه أسعرتم نار الغرام بمهجتي ... وسلبتم طرفي الكئيب منامه إن لم يجد مطر على مغناكم ... أغناكم دمعي ويقوم مقامه يا هل يعيد الله أيام الحمى ... من قبل أن يلقى المحب حمامه فاشتهرت الأبيات وبلغت الصاحب بهاء الدين، فأخذ في تجهيزه وأعاده إلى الخليل عليه السلام، فأقام بها إلى أن توفي ليلة الجمعة سابع وعشرين جمادى الأولى هذه السنة - رحمه الله تعالى - ودفن بجبل حرى بالقرب من البلد، ومولده سنة ست مائة، وكان يعرف بابن العالمة، فإن أباه توفي وهو صغير، فربّته والدته وهذّبته، وكان سبب تسميتها بالعالمة: أن الملك العادل الكبير لما توفي في سنة خمس عشرة وست مائة نظروا وامرأة

تتكلم في العزاء فذكروها وإنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، فألزموها وأخذوها مكرهة وكانت تحفظ كثيراً من الخطب النباتية، قالت: وكنت أسأل الله تعالى في الطريق أن لا يفضحني في ذلك المحفل وأنا أرجف فرقاً من ذلك. قالت: فلما حضرت وصعدت المنبر سرّي عني، فقرأت شيئاً من القرآن وخطبت بخطبة الموت التي أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وهي من طنانات الخطب. فاتفق في ذلك المجلس من البكاء والوجد والحال ما لم يتفق في غيره، واشتهرت تسميتها بالعالمة، وصار لها بذلك لياذ ببيت العادل وحصلت منهم دنيا طائلة. وكان شهاب الدين المذكور من العلماء الأعيان وعلى خاطره من الشعر والحكايات وأخبار الناس وأحوال السلف وأهل الطريق شيء كثير، وكان يستحضر الأحياء ونهاية المطلب لإمام الحرم، لا يكاد يطالع في الفقه سوى ذلك، وكان قد اشتهر اختصاصه بمعرفة الوسيط، فقال بعض الفضلاء: لم لم تعرج على طريق العراق؟ فاختصر المهذب في مدة يسيرة في مجلد واحد بعبارة سلسة فصيحة وافية بالمقصود، وزاد على الأصل فوائد جليلة، وقيد ما أهمله المصنف، ونازعه في تعليله في مواضع عديدة، وهو من نفائس الكتب. وكان رحمه الله ناقص الحظ من الدنيا ومناصبها، فإنه أقام ببعلبك مدة يكتب الشروط، وهو كاتب الحكم لقاضيها القاضي صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله ومقيد عنده بالمدرسة النورية، ثم ولي صرخد، ولم يكن من مناصبه،

وكذلك بلد الخليل صلى الله عليه وسلم، وهذه الولايات بالنسبة إلى فضيلته وأهليته لعلها صغيرة على أحد تلامذته، وكان الحكيم نجم الدين أحمد بن المفتاح رحمه الله الطبيب المشهور أخاه لأمه، وكذلك الشرف إسماعيل المقيم ببعلبك والمتوفي بها رحمهم الله تعالى. محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الإمام العلامة جمال الدين الطائي الجياني النحوي اللغوي، أوحد عصره وفريد دهره في علم النحو والعربية مع كثرة الديانة والصلاح والتعبد والاجتهاد، سمع وحدث، وكان مشهوراً بسعة العلم والإتقان والفضل موثوقاً بنقله حجة في ذلك، وله عدة تصانيف حسنة مفيدة، وإليه انتهى علم العربية. ولم يكن في زمنه من يجري مجراه في غزارة علمه ووفور فضله، وله نظم كثير يشتمل على فوائد جمة؛ وكانت وفاته بدمشق في ثاني عشر شعبان، ودفن بسفح قاسيون، وهو في العشر الثمانين رحمه الله ورثاه غير واحد، منهم الشيخ محمد الحنفي رحمه الله بقوله: أم دهى الخطب من أصابت سهامه ... واستخف الحلوم حزناً حمامه أم درى رائد المنيسة إذ ... أقدم ماذا إذا فتى أقدامه بالإمام ابن مالك فجمع الدي ... ن فغشى ضوء النهار ظلامه

بإمام أفنى الليالي والأيا ... م وفي البر والكتاب إمامه شاركت في مصابه العرب والعج ... م فمالت بالدوح نوحاً حمامه وشكا الجامع اشتياقاً إليه ... وبكاه مقامه ومقامه روضه حفرة أعدت لمثوا ... هـ يزهر أعماله أكمامه زخرفت القدوم منه قصور ... وجنان ولدانها خدامه جمع الناس والملائكة في التشي ... يع والملتقى له أعظامه كان زين الوجود منه وجود ... كامل شوه الوجوه اخترامه كان حليا لدهره وبنيه ... فوهى سلك دره ونظامه كان نعمى لم يوف موليها الشك ... ر فبالشكر كان منا انتقامه كان ركناً تأوي إليه بنو الف ... ضل فأخنى على العلوم انهدامه كل صعب من المعاني جليل ... بيدي فكره الدقيق زمامه نحو علم أدنى من الفضل من طا ... ل إني عذبه الثمير إدامه خلّدت ذكره الجميل علوم ... خلدتها من بعده أقلامه كم سقيم من الكلام شفاه ... بعد ما أيأس الأساة سقامه وبفهم من الدقائق ما مس ... كن منها المفهوم إلا اهتمامه نال بالجد في المعارف حداً ... لم ينله أحلامه خلّف الفاضل الفريد أبا بش ... ر وأنسب أيامه أيامه كان للنحو قبل شمل بديد ... وبمسعاه أحكمت أحكامه

لو حواه ومن تقدم عصر ... لأقرت بفضله أعلامه من لأهل الآداب ومن بعده ها ... ذاك منهج الصواب كلامه قعدوا منه زاعمين ... عطوفاً فكلهم أيثامه لو درى حاملوه ماذا أق ... لوا ما استقلت بحامل أقدامه إنما الموت نافذ الح ... كم فمن كان للكرام اغتنامه أولع النقص بالكمال فما أو ... جب هذا السرار إلا تمامه أعضل الداء في نواه فلا سل ... وان لرجالنا ولا إلمامه ونقيض النفوس وهو قليل ... لا تفيض الدموع يقضي ذمامه إن قبراً حواه لا غرو إن را ... ح ذكياً كالمسك ريحاً رغامه آنس الله روحه برحم ... ته عليها وروحة وسلامه ورثاه تقي الدين حسين بقوله: وافى مصاب يقتضي إلمامه ... هملان طرف لا يقل سجامه وخفوق قلب ما أراه ساكناً ... يوم ابن مالك إذ أتاه حمامه لهفي عليه لقد مضى مستسلماً ... لقضاء ربه يفيه مرامه قد كان بحراً في العلوم وشامخاً ... في الحلم واهاً لو يطول مقامه المانح الأدب الجزيل الشارح الت ... نزيل كما يجتلي أحكامه رحم المهيمن روحه فضريحه ... يعتاده صوب يسحّ غمامه أعني ابن مالك الموسد في الثرى ... وعلومه بين الورى أعلامه

إن يطرأ النقص الشنيع لفقده ... فإذا أبيد الدين صح تمامه خلف رضي بالوقار مسربل ... وبروق مرأى فعله وكلامه ورث الفضائل كابراً عن كابر ... دامت لنا في نعمة أيامه محمد بن محمد بن الحسن أبو عبد الله نصير الدين الطوسي صاحب علوم الرياضة والرصد وغير ذلك من علوم الأوائل، كان إماماً منفرداً بذلك فاق أهل عصره، وانتهت إليه معرفة هذا الشأن، وتوفي بالجانب الغربي من بغداد في يوم الإثنين ثامن عشر ذي الحجة، ودفن في مقابر موسى بن جعفر رحمة الله عليهما وقد نيف على ثمانين سنة، وقيل كانت وفاته في صفر سنة أربع وسبعين والأول أظهر رحمه الله. قرأ العلم على المعين سالم بن بدران بن علي المعتزلي المتشيع المصري وغيره. وكانت له مصنفات كثيرة في أنواع من العلوم العقلية وإليه المرجع فيها، وله أشعار كثيرة، فمن ذلك ما كتبه من شعره على مصنف في أصول الدين لكمال الدين الطوسي، سيّره إليه ليجيب عن مسائل فيه، سأله إياها فأجاب عنها أحسن جواب ومدحه بهذه الأبيات: أيأتي كتاب في البلاغة منته ... إلى غاية ليست تقارب بالوصف فمنظومه كالدر جاد نظامه ... ومنثوره مثل الدراري في اللطف دقيق المعاني في جزالة لطفة ... يخبّر في ضم الغموض إلى الكشف

كفايته حار العقول بحسنها ... فأمرض عيناها وملثمها يشفي أتى عن كثير ذي فضائل جمة ... عليم بما يبدي الحكيم وما يخفي فأصبحت مشتاقاً إليه مشاهداً ... بقلبي مخباه وإن عز عن طرفي رجا الطرف أيضاً كالفؤاد لقاءه ... وإن لا يوافي قبل إدراكه حتفي قرأت من العنوان لما فتحته ... وقبّلت تقبيلاً يزيد على اللف ولما بدا لي ذكركم في مسامعي ... تعشّقكم قلبي ولم يركم طرفي وصادفت هذا البيت في شرح قصتي ... وإيضاح ما عانيته جملة يكفي وردت رسالة شريفة ومقالة لطيفة مشحونة بفرائد الفوائد مشتملة على صحائف اللطائف مستجمعة لفرائس النفائس مملوءة من زواهر الجواهر من الجناب الكريم السيدي العالمي الفاضلي السندي المحققي الكمالي أدام الله جماله وحرس كماله إلى الداعي الضعيف المحروم المتلهف محمد بن محمد الطوسي، فاقتبس من شرار ناره نكت الزبور وآنس من جانب جناب طوره أثر النور، فوجدتها بكراً حلت حلة كريمة، وصادفتها صدقة تضمت درة يتيمة هي أوراق مشتملة على رسائل في ضمنها مسائل أرسلها وسأل عنها من كان أفضل زمانه وواحد أقرانه الذي نطق الحق على لسانه ولوح الحقيقة من بنانه ورأيت المورد أدام الله فضله قد سألني الكلام فيها، وكشف القناع عن مطاويها؛ وأين أنا من المبارزة مع فرسان الكلام والمعارضة مع البدر عند التمام، وكيف يصل الأعرج إلى قلة الجبل

المنيع وأتى الظالع شأو الضليع، ولكني بحرصي على طلب التوصل الروحاني إليه بإجابة سؤاله، وشغفي بنيل التوصل الحقيقي لديه بإيراد الجواب عن مقابلة اجترأت، فامتثلت أمره واشتغلت بمرسومه، فإن كان موافقاً كما أراد فقد أدركت طلبي وإلا فليعذرني إذ قدمت معذرتي والله المستعان وعليه التكلان، والأخذ في تصفح الرسالة فصلاً فصلاً، وتقريرما يتقدر عندي منه أو برد عليّ مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه إنه الموفق والمعين. محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو المكارم الأسدي الشافعي محي الدين قاضي القضاة بحلب؛ مولده بها في خامس شعبان سنة اثنتي عشرة وست مائة بحلب، سمع وحدث ودرس بالمدرسة المسرورية بالقاهرة، وتولى القضاء بحلب وأعمالها إلى حين وفاته؛ وبيته معروف بالعلم والدين والتقدم والسنة والجماعة، وتوفي في ثالث عشر جمادى الأولى بحلب، ودفن بتربة جده رحمه الله تعالى؛ وقيل في وفاته غير ذلك. وقد ولي القضاء بحلب من بيتهم غير واحد رحمهم الله أجمعين. محمد بن الموفق بن الزهر مبارك أبو عبد الله الأمير نجم الدين، وقد تقدم ذكر أخيه الأمير سيف الدين عيسى رحمه الله، ووفاته في أوائل هذه السنة. وتوفي نجم الدين محمد المذكور ليلة السبت سابع عشر شهر

رجب بقرية بحوشية، ودفن بها عند أهله وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى. وكان عنده ديانة وتشيّع ومعرفة بمذهبه وتغالى فيه كثير المكارم حسن الصحبة والأدب مع من يصحبه رحمه الله تعالى. محمد بن أبي الرجاء بن أبي الزهر بن أبي القاسم أبو عبد الله التنوخي الدمشقي المتطبب المعروف بابن السلعوس، مولده في العشر الأوسط من شهر رجب سنة تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من عبد الصمد الحرستاني وحدث عنه بالقاهرة، وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى. نعمان بن حمدان بن نعمان التكريتي الملقب بشجاع الدين من التجار المشهورين بالثروة وكثرة الجد، وعنده سعة صدر فيما يقدمه للملوك والأمراء من التقادم والتحف، وكانت له مكانة عند الملك الظاهر، رحمه الله وقرب أوجب تغير خاطر وزيره الصاحب بهاء الدين عليه، فلم تنفعه مكانته وقربه، وكان صهر وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي وزج ابنته وأولاده منها وتوفي ليلة الجمعة ثاني جمادى الآخرة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله. أبو بكر بن أحمد بن عمر البعلبكي المعروف بابن الحبال ويعرف بابن

دشينية توفي ببعلبك ليلة الجمعة تاسع وعشرين شهر ربيع الأول، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة ظاهر باب نخلة، وهو في عشر السبعين، وخلف تركة عظيمة؛ قيل أنها تقارب بمائة ألف دينار، ولم يرزق ولداً، وإنما كان له زوجة وابنا عم، فاحتاط الملك الظاهر على تركته، وكان بدمشق وأخذ منها قريب أربع مائة ألف درهم وأفرج لورثته عن الوثائق والأملاك فتمحق أكثر ذلك، وكان وقف في حال حياته وقفاً على وجوه البر يتحصل منه في السنة قريب خمسة آلاف درهم وقفه على نفسه مدة حياته، ثم من بعده يصرفه في مصارفه، فجرى فيه فصول واستقر بعد وفاته وقفاً كما وقفه، وكان أراد الرجوع فيه قبل وفاته واستفتى على ذلك، فوجد كتاب الوقف قد كتب به نسخة وحكم الحكام بصحته فلم يجد إلى ذلك سبيلاً، وكان يشح على نفسه بأيسر الأشياء. وكان سبب وقفه لهذا الوقف أن الحوطة لما حصلت في سنة أربع وستين ورسم أنه لا يفرج لأحد إلا بعد ثبوت كتابه بدمشق في وجه وكيل بيت المال نظر المشار إليه ووجد عنده فوق المائة كتاب وأنه يغرم على الإثبات بدمشق وبعلبك على كل كتاب تسجيل وشهود الطريق قريب الخمسة عشر درهماً، فرأى ذلك يشق عليه ولم تسمح نفسه به، فقيل له: أنت ليس لك نية تبيع هذا الملك ولا ترهنه، والمصلحة أنك توقفه على نفسك مدة حياتك، ثم بعدك على أولادك إن كان لك ولد وإلا على وجوه البر، فتجمع هذه الأملاك

السنة الثالثة والسبعون وست مائة

في كتاب واحد وتحصل الأفراج به فجنح إلى ذلك وعمله، ثم أراد نقضه كما تقدم فتعذر عليه، وكان فيه رفق بمن يعامله ويدانيه بصبر بعد الاستحقاق المدة الطويلة، وقل إن كان يحبس له غريم رحمه الله وإيانا وكان في بداية أمره ضعيف الحال لا شيء له وإنما اكتسب ذلك بالأسفار ونماه بالمعاملة مع قلة الخرج وكثرة الدخل فصار له جملة طائلة وبعض الناس يقول أنه ربما وجد شيئاً مدفوناً ولا أصل لذلك، وفي الجملة لم ير بعده من أرباب الأموال ببعلبك مثله رحمه الله. السنة الثالثة والسبعون وست مائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة والملك الظاهر بالديار المصرية. متجددات الأحوال في خامس عشر المحرم يوم السبت جهزت الشواني من دار الصناعة إلى دمياط. وفي يوم الأحد سادس عشره وصل الملك المنصور من حماة إلى القاهرة وصحبته أخوه الأفضل وولده المظفر محمود، فنزل بالكبش وبعث إليه الملك الظاهر السماط بكماله صحبة الأمير شمس الدين الفارقاني أستاذ الدار فوقف في وسطه لما مد، فلم يتركه الملك المنصور وسأله حتى جلس

ذكر هرب رئيس الإسكندرية ومن معه من عكا

ثم وصلت الخلع وغيرها، وأباح له ما لم يبحه لأحد من خواصه من شرب الخمر وسماع الغناء وسائر الملاهي مبالغة في إكرامه واحترامه. وفي سادس صفر ولدت امرأة نصرانية بقصر الشمع محلة بمصر ثلاث بنات في بطن واحد لكل واحدة منهن مشيمة ومتن لوقتهن. وفي يوم الأحد سابع صفر توجه الملك الظاهر إلى الكرك على الهجن، وفي صحبته الأمير بدر الدين بيسري وسيف الدين أتامش السعدي وسبب توجهه أنه وقع بالكرك برج فأحب أن يكون إصلاحه بحضوره، وكان بالكرك بساتين محكرة بشيء يسير، فأمسكها جميعها ثم عاد إلى مصر، فدخلها يوم الثلاثاء ثاني وعشرين ربيع الأول، ولقيه صاحب حماة على الغرابي ليلاً، فودعه وسار إلى حماة. وقبل توجه الملك الظاهر إلى الكرك أعطى الأمير شهاب الدين يوسف بن الأمير حسام الدين الحسن بن أبي الفارس القيمري خبز أربعين طواشياً بدمشق، وكان من أعيان الأمراء في الدولة الصالحية النجمية والدولة الناصرية، وكان بطالاً قد أطلق له من بيت المال في كل يوم عشرين درهماً لنفقته وكلفته. ذكر هرب رئيس الإسكندرية ومن معه من عكا قد تقدم القول بكسر الشواني وأسر من كان فيها، ولما أسروا

بعث بهم إلى عكا طلباً للفداء، فامتنع الملك الظاهر من فدائهم، وقال: إني قد استغنيت عنهم. وكتب إليهم أن يسعوا في فداء أنفسهم. ومن فدى نفسه شنقته ودام الحال على ذلك، فمات من مات وهرب من هرب، فكتب الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين العلائي نائب السلطنة بقلعة صفد بأن يوسع الحيلة في خلاصهم، فكتب إلى ابن جعفر من الفرنج بعكا ووعد ألف دينار إن سعى في خلاصهم فدسّ المذكور إليهم مبارداً قطعوا بها شبّاكاً في البرج الذي هم فيه، ثم أخرجوا من الباب ليلاً، وعليهم زي الفرنج إلى مركب قد أعدوا لهم، فركبوه إلى ساحل عيّن لهم، فوجدوا خيل البريد معدة لهم، فركبوا وغيروا زيهم وتلثموا ودخلوا صفد سراً لم يشعر بهم أحداً وبعث بهم العلائي ملثمين بحيث لا يعرفون، فوصلوا إلى القاهرة في ربيع الأول، وهم الرئيس شهاب الدين أبو العباس المغربي وشهاب الدين محمد بن الموفق رئيس الاسكندرية وزين الدين أخوه، والرئيس سيف الدين أبو بكر بن إسحاق. وكان توفي من المأسورين بعكا وقبرس سيف الدين محمد بن المجاهد وسيف الدين بن أبي سلامة رئيسا الاسكندرية، وشرف الدين علوي رئيس دمياط، ومن رؤساء مصر نجم الدين نجم بن سيف الدولة الجبلي، وسيف الدين أبو بكر بن المخلص إبراهيم بن إسحاق، وجمال الدولة يوسف بن المخلص وسيف الدين محمد بن نور الدولة علي بن المخلص وغيرهم، والباقون منهم

من تحيل وهرب ومنهم من توفي ومنهم من بقى في الأسر بجزيرة قبرص، ولما وصل الرؤساء الذين سلموا كان الملك الظاهر بالكرك، فلما عاد أحضرهم ووبخهم على تفريطهم، فقال له شهاب الدين رئيس الاسكندرية: قضاء الله لا يرد بحيلة. فاستحسن منه ذلك وخلع عليهم. وفي سابع عشر ربيع الآخر عاد ابن غراب وصارم الدين أزبك وجماعة من الأجناد والعرب والمماليك من برقة، ومعهم منصور صاحب قلعة طلميثة ومفاتيحها معه. وفي سادس وعشرين ربيع الآخر خرج الملك الظاهر لرمي البندق، وترك في القلعة نائباً عنه الأمير بدر الدين أيدمز الوزيري، فأقام خمسة أيام ثم عاد إلى القلعة. وسبب عوده أن بعض العرب اطلع على أن جماعة من التتر يكاتبون، ثم ردف ذلك أن والي غزة أمسك ثلاثة نفر، ومعهم بدوي في خان حماق قد خرجوا من القاهرة لقصد التتر، فأنكر الخاني كلامهم، فعرّف الوالي بهم فأخذهم ووجد معهم كتباً، فسيرها إلى القاهرة ووقف الملك الظاهر على الكتب، فوجدها من عند قجقار الحموي وموغان بن منكورس وسربغا وطنغري برمش وأنوك وبرمش وبلبان محلى والمعلاني المرتد

وبلاغاً وطعبني وأيبك وسنجر الحواشي التركي؛ فقيض عليهم وقابلهم بما فعلوا؛ فأقروا فكان آخر العهد بهم. وفي يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى توجه الملك الظاهر وولده الملك السعيد إلى جهة البحرية للصيد في الخراريق ودخل الاسكندرية فشكى إليه وإليها شمس الدين بن باخل، فضربه وأخذ خطه بخمسين ألف دينار، وهدم له بستاناً كبيراً وقف عليه بنفسه حتى هدمته العامة، وأقره على الولاية فقط، وفوض أمر الجيش والديوان إلى الطواشي بهاء الدين صندل فشيد دار الطراز، وعاد نهار الخميس خامس جمادى الآخرة. وفي رابع شعبان رحل الملك الظاهر بالعساكر نحو الشام، فوصل دمشق يوم الخميس تاسع عشرين منه، ثم خرج قاصداً بلد سيس وعبر إليها الدربند، فملكها وملك إياس والمصيصة وأذنة، وكان دخول العساكر إلى سيس يوم الاثنين حادي عشرين شهر رمضان، وخروجهم منها في العشرين من شوال بعد أن قتلوا من الأرمن وأسروا خلقاً كثيراً لا يحصى، وغنموا من البقر والغنم ما بيع بالمجان، وأقام الملك الظاهر بجسر الحديد إلى أن انقضى شوال وذو القعدة، ورحل في العشر الأول من ذي الحجة، فدخل دمشق يوم الثلاثاء خامسه، وأقام بدمشق إلى أن دخلت سنة أربع وسبعين. أعجوبة: في السابع والعشرين من شعبان وقع رمل بمدينة الموصل

ظهر من القبلة وانتشر يميناً وشمالاً حتى ملأ الأفق وعميت الطرق، فخرج العالم إلى ظاهر البلد بتلعها وبمشهد يحيى بن قاسم، ولم يزالوا يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى أن كشف الله ذلك عنهم. وفي هذه السنة بعث أبغا إلى الروم تقونوين عوضاً عن أجاي ومعه أربعين رجلاً من خواصه، وأمره أن يكتب جميع أموال الروم ويضبطها، ولا يحكم البرواناة ولا غيره من أمراء الروم إلا بحضوره، ولا يصدرون إلا عن رأيه، فلما وصل حضر مجلسه جميع امراء الروم وقدموا له الهدايا والتحف خصوصاً البرواناة، وطاف تقونوين جميع بلاد الروم وحصل منها أموالاً جسيمة وحملها إلى أبغا، ولما رأى البرواناة تمكن تقونوين ذل له واستكان وبذل له الطاعة. وفيها توفي إبراهيم بن يوسف بن جعفر بن عرفة بن المأمون بن المزمل بن قاسم بن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو إسحاق المعروف بظهير الدين بن شيخ الإسلام القرشي الأموي، ومولده بدمشق في ثالث عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، سمع وحدث، وبيته معروف بالحديث والرواية والديانة والرئاسة والأمرة والتقدم، وكانت وفاته في رابع عشرين جمادى الآخرة، ودفن من يومه بمقابر باب النصر - رحمه الله تعالى. إبراهيم بن شروة بن علي بن مرزبان بن كلول جكو أبو إسحاق الأمير

سيف الدين الزهيري الجاكي توفي ببعلبك قبل طلوع الشمس من يوم الخميس رابع عشرين شهر رجب، ودفن من يومه ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك، وقد نيف على السبعين سنة من العمر - رحمه الله تعالى. وكان من الأمانة والحشمة وشرف النفس وصدق اللهجة على طريقة لا يدانيه فيها غيره. حكى لي غانم بن العشيرة أنه كان متولي حلب عند فقد التتار لها، ولما هجمت المدينة صعد إلى القلعة وأحضر غلمانه صناديق من داره رموها في خندق القلعة لضيق الوقت عن ادخالها إلى القلعة وكذلك غيره، ثم سير غلمانه ليحضروا له شيئاً من تلك الصناديق، فخرجوا والقتال يعمل، فقاتلوا ولا زالوا حتى أحضروا صندوقاً، فلما فتحه وجد فيه ذهباً ودراهم وحوائص وأشياء فاخرة وما هوله؛ فقال له غلمانه: أنت محتاج خذ منه شيئاً ولو على سبيل القرض. فأبى ولا زال ينبشه حتى وجد فيه شطفة رنك بعض الأمراء، فسير اليه عرّفه فحضر وتسلّمه، وكان ولي حران في الأيام الناصرية وأمير جندار العزيز بن عبد الملك الناصر، وتوجه معه إلى هولاكو وبعد أخذه قلعة حلب جعله هولاكو أمير شكار وسلم إليه الجوارح وغيرها، وكان عنده محترماً خلاف وكان الملك الظاهر يحترمه ويثني عليه ويصفه بالعفة والأمانة

والحشمة - رحمه الله تعالى، وخلف أولاداً منهم الأمير علاء الدين أحمد أخذ خبزه وولي بعده مكانه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. أحمد بن موسى بن يغمور بن جلدك أبو العباس الأمير شهاب الدين بن الأمير جمال الدين، كان معروفاً بالشهامة والصرامة، ولاه الملك الظاهر رحمه الله تعالى المحلة وأعمالها من الغربية، فهذبها ومهّد قواعدها وأباد من بها من المفسدين والدعار، وقطع من الأيدي والأرجل ما لا يحصى كثرة وشنق ووسط وأباد بحيث أفرط في ذلك، فخافه البريء والسقيم وتمكنت مهابته في صدور أهل عمله ومن جاورهم. توفي بالمحلة في رابع عشرين جمادى الأولى، وحمل إلى القرافة. فدفن بتربتهم في الثامن والعشرين منه، وكان عنده كرم ورياسة وحشمة وسعة صدر وبر بمن يقصده، وله نظم وعنده إلمام بالفضيلة رحمه الله وتجاوز عنه، فمن شعره: وبي أهيف واف وفيه محاسن ... بدت وعليها للعيون تهافت ممشي في ضياء الدين كالبدر وجهه ... وبينهما للناظرين تفاوت وأعجب ما شاهدته فيه أنه ... يكلم قلبي لحظه وهو ساكت وقال في غلام عنبري من أبيات: تحكم في الألباب حتى رأيته ... ينظّم حبات القلوب قلائدا

وقال في غلام يمد الشريط: وبي زيّنا كالبدر والظبي بهجة ... وجدّا بقلبي ناره وهو جنتي منعم خده كاللجين بياضه ... يمد نضاراً كاصفراري ودقتي وقال وكتب بها إلى الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهري وقد أهدى إليه شاهيناً بدرياً: يا سيد الأمراء يا من قد غدا ... وجه الزمان به جميلاً ضاحكا وافى لك الشاهين قبل أوانه ... ليفوز قبل الحائمات ببابكا حتى الجوارح قد غدت بدرية ... لما رأت كل الوجود لذالكا وله يخاطب صاحباً الملك الظاهر له ورد عليه من الاسكندرية إلى المحلة: إن صدرتم عن منزل فلكم ... فيه ثناء كنشر روض بهى أو وردتم فاللمحب الذي من ... آل موسى في الجانب الغربي بيمند بن بيمند بن بيمند متملك طرابلس توفي بها في العشر الأول من شهر رمضان المعظم، ودفن في كنيستها، وتملك ولده بعده كان حسن الشكل مليح الصورة، رأيته ببعلبك في سنة ثمان وخمسين وست مائة، وقد حضر إلى خدمة كتبغا نوين وصعد إلى قلعة بعلبك وداراها وحدثته نفسه أنه يطلبها من هولاكو ويبذل له ما يرضيه وشاع ذلك عند بعلبك، فشق على أهلها وعظم لديهم فحصل بحمد الله ومنته من كسرة التتار ف آخر الشهر المذكور ما أمنهم من ذلك ثم لما ملك الملك المنصور

سبف الدين قلارون رحمه الله طرابلس وفتحها في سنة ثمان وثمانين وست مائة نبش الناس عظام بيمند المذكور من الكنيسة وألقوها في الطرقات وطرابلس في الحقيقة عند الفرنج إنما هي لامرأة من أولاد صنجيل الذي افتتحها أولاً وأخذها من بني عمار وهي في الجزائر في قلعة لها هناك، واستنابت هي أو جدها جد هذا، فاستولى لبعدها عنه، وكان من شياطين الفرنج ودهاتهم وتداولها أولاده من بعده، وكان ابن صنجيل خرج من قلاعها لأمر أوجب ذلك وركب البحر، فتوفقت عليه الريح ونفد زاده، وكاد يهلك هو ومن معه وقرب من طرابلس فسيّر إلى صاحبها إذ ذاك وسأله أن يأذن له في النزول في أرضه والإقامة في البر بمقدار ما يستريح ويتزود فأذن له. فنزل بمكان الحصن المعروف به الآن وهو حيث بنيت طرابلس الجديدة وباع واشترى فنزل إليه أهل حبه يشري وسائر تلك النواحي وجميعهم نصارى وأطمعوه في البلد وعرّفوه ضعف صاحبه وعجزه عن دفعه، فأقام وبنى الحصن المعروف به وتكثر بأهل بلاد طرابلس واتفق اشتغال ملوك الشام ونواب الدولة المصرية به فغنم وتم مراده وصابر طرابلس مدة زمانية فتوجه ابن عمار إلى السلطان ملك شاه السلجوقي يستنجد منه، فلم يحصل له مقصود فأخذت منه طرابلس وانتقل بأمواله وذخائره إلى عرقا.

واستفحل أمر الفرنج بالساحل فلم يمكنه مجاورتهم فانتقل إلى حصن الخوابي وكان له فأخذ عرقاً متملك طرابلس والله أعلم. سعد الله بن سعد الله بن سالم بن واصل زين الدين الحموي، كان فاضلاً في الطب مجرباً حاذقاً حسن المعالجة متديناً ذا مروءة غزيرة، وله تقدم في الدولة، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي في شوال رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الكريم بن قرناص أبو محمد جمال الدين بن الشيخ نجم الدين أبي علي بن مخلص الدين أبي إسحاق الخزاعي الحموي، توفي بحماة عشية يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن من الغد بالتربة المعروفة بهم رحمه الله وهو في عشر السبعين. وذكره القاضي جمال الدين بن واصل رحمه الله؛ فقال: جمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن الشيخ نجم الدين أبي علي الحسن بن إبراهيم بن قرناص كان رئيساً كبيراً كريماً ذا نعمة واسعة، وداره مأوى القاصدين إليه والواردين عليه واللازمين من الأصحاب له مع ديانة تامة، وحسن طوية، وطلاقة وجه لم يكن في بلده في وقته من يضاهيه في ذلك، مولده سنة عشرين وست مائة، وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وست مائة، ودفن بالمدرسة التي أنشأها جده الرئيس مخلص الدين إبراهيم بن عبد الكريم بن قرناص ظاهر حماة رحمه الله تعالى.

عبد الله بن محمد بن عطاء أبو محمد شمس الدين الحنفي توفي بدمشق يوم الجمعة ثامن جمادى الأولى، كان والده شرف الدين محمد حنبلي المذهب، وكان يتغالى في والدي رحمه الله ويحبه محبة عظيمة مفرطة وبسببه انتقل إلى بعلبك واستوطنها مدة سنين، وقرأ ولده شمس الدين القرآن العزيز على والدي واستأذنه والده شرف الدين محمد فيما يشتغل به ولده المذكور، فأشار عليه أن يشغله في الفقه على مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه؛ فاشتغل وحفظ القدوري ورحل إلى دمشق وتفقه بحيث صار المشار إليه في الحنفية، وتولى تدريس مدارس عدة، وناب في الحكم بدمشق عن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سنى الدولة رحمه الله، ومن بعده من القضاة، فلما رتب الملك الظاهر رحمه الله القضاة من المذاهب الأربعة سيّر له تقليدا بقضاء القضاة بدمشق المحروسة وأعمالها، فباشر ذلك وانتقل من النيابة إلى الاستقلال، وذلك في سنة أربع وستين، واتفق حوطة الملك الظاهر على الأملاك وبساتين دمشق، وقعد في دار العدل وجرى الحديث في هذا المعنى بحضور القضاة وجماعة من العلماء والمشايخ وغيرهم، فكل ألان القول وخشي سطوة الملك الظاهر إلا القاضي شمس الدين المذكور رحمه الله، فأنه بالغ في الصدع بالحق ولم يخش إلا الله تعالى، وقال: لا يحل لمسلم أن يتعرض إلى هذه الأملاك ولا البساتين فإنها بيد أربابها ويدهم ثابتة عليها. فغضب الملك الظاهر لهذا القول، وقام من دار العدل، وقال: إذا كنا ما نحن مسلمين أيش قعودنا. فشرع

الأمراء يتلافوه وقالوا: لم يقل أن مولانا السلطان ما هو مسلم وإنما قال ما يحل لمسلم التعرض إلى أملاك الناس. فلما سكن غضبه قال: اثبتوا كتبنا عند هذا القاضي الحنفي وتحقق صلابته في الدين فعظم في عينه. وأما القاضي شمس الدين رحمه الله فلم يتأثر ولا التفت وعصمه الله منه بحسن قصده، وكان القاضي شمس الدين من العلماء الأعيان تام الفضيلة وافر الديانة كريم الأخلاق حسن العشرة كثير التواضع عديم النظير قليل الرغبة في الدنيا، يقتنع منها باليسير ولا يحابي أحداً في الحق، واشتغل عليه خلق كثير وجم غفير كان مرضه وهو صغير ببعلبك مرضاً أشفى منه والده بدمشق في شغل له، فسيرت والدته إليه تقول: إلحق ولدك عبد الله فإنه هالك. فبطّل ما كان بصدده وحضر إلى بعلبك، فرآه في حال اليأس منه فحضر عند والدي فسلم عليه وأخبره بما شاهده من حال ولده، فقال له: طيب قلبك فإن ولدك يبرأ بإذن الله تعالى وما عليه بأس. فقام لوقته وسافر ولم يبت تلك الليلة ببعلبك، فقالت له زوجته: تسافر وولدك على هذه الحال! قال لها: قال لي الشيخ الفقيه: إنه يهدى وما عليه بأس. وتم سفره ومدفنه يجبل قاسيون رحمه الله ورضي عنه. عثمان بن محمد بن منصور بن أبي محمد بن عبد الله بن سرور أبو عمرو فخر الدين الأميني ويعرف بابن الحاجب، والحاجب هو جده منصور بن أبي، ومولده بدمشق سنة اثنتين وست مائة. سمع من جماعة من

المشايخ الكثير وحدث وتوفي في الرابع من ربيع الآخر، ودفن من الغد ظاهر باب النصر رحمه الله؛ وللأميني نسبة إلى أمين الدولة صاحب صرخد. محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم أبو عبد الله عز الدين الحلبي الأصل المعروف بابن العجمي، قد تقدم ذكر والده كمال الدين في سنة سبع وستين وست مائة، ولما توفي والده رتب عز الدين ولده في كتابة الإنشاء، وكان عنده أهلية تامة وفضيلة كثيرة ومروءة غزيرة ومثابرة على قضاء حوائج الناس، وتوفي بدمشق في هذه السنة ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب قبر أبيه رحمه الله تعالى ولعله لم يبلغ ثلاثين سنة من العمر رحمه الله تعالى، وكان عارفاً بالفقه على مذهب الشافعي رحمه الله، مشاركاً في علوم كثيرة، متفنناً أكثرها مع كثرة الديانة وسعة الصدر، كثير التعبد والانقطاع عن الناس، حفظ شيئاً كثيراً من الكتب المشهورة في فنون العلوم ودرّس بعدة مدارس بالقاهرة وغيرها، وصنف وأفاد وبرع نظراءه، وله نظم كثير فمنه: حكم الغرام وحكمه مقبول ... إني بسيف لحاظه مقتول فعلام تنكر ما جنت ألحاظه ... ودمي على وجناته مطلول بدر وغصن قدّه ورضابه ... ذا عاسل يثني وذا معسول لا غرو أن أضحى القوام مثقفاً ... فسنانه من جفنه مسلول حل اصطباري عقد مبسمه ... وما عقد الوداد لودّه محلول

أرادفه مثل الكثيب بحالها ... لكن محل وشاحه مجدول كيف السبيل إلى وصال حبيبه ... وصدوده ببعاده موصول وله ملغزاً في عقرب: وما اسم رباعي إذا ما عددته ... تراه بلا شك يزيد على عشر له منزل إن شئت في أبرج السماء ... ومنزله في الأرض باد لدى حجر إذا أدركته الشمس يذهب شخصه ... وتبصره في الشمس يسعى إلى الوكر معكوسه ستر إذا ما رفعته ... رأيت جمالاً حل باريه كالبدر وتصحيفه أرجوه من خالق الورى ... يمن به قولاً إذا حفت من وزري وقال أيضاً رحمه الله: أتراه يذري في الهوى ولهن به ... أم عنده خبر الجوى ولهيبه أم هل ترى ترتي النوى لمقاطع ... ما زال يوصل دمعه بنحيبه صب تسربل في قميص سقامه ... لما كساه الحب ثوب شحوبه عجباً له عذبت بفيه مشارب ... وعذابها سبباً إلى تعذيبه فنحيبه لحبيبه وسراره ... لرقيبه وسقامه لطبيبه حكم الهوى أن لا يمر بربعهم ... إلا ستاه بدمعه وغروبه ويظل يطلب منه عن سكانه ... خبراً وذاك الرسم غبر مجيبه بالله ما يجري السؤال لمعهد ... أفنى الزمان رسومه بخطوبه درست معالمهم فلست مفرقاً ... في الرسم بين وهاده وكثيبه

هب النسيم على محل ديارهم ... فشممت من رياه عند هبوبه آبجاً لأجلهم صبوت له كما ... يصبو المحب إلى لقاء حبيبه أنسيته لما بدا بدر الدجى ... يحكيه صافي نهره وقليبه فنظرت عند شروقه وغروبه ... ورأيته بين طلوعه ومغيبه بدري الذي قد همت فيه ولم ... أخف من كيد عذله ووشي رقيبه فلئن عفا فلطالما قد مر لي ... زمن نعمت بحسنه وبطيبه ولئن حلا فلكم جوى من شادن ... يحتال بين حزونه وسهوبه ومشنف كحل اللحاظ منعم ... ومهفهف علا القوام رطيبه غنى الربيع بربعه فكساه من ... تفضيضه حللاً ومن تذهيبه نبأ لدهر ما تبسم ساعة ... إلا وأعقبها بعام قطوبه لم أبك إطلالاً له ولكنني ... أبكي على عيش تقضي لي به وقال رحمه الله ملغزاً في قاسم: سألت محبوبي عن اسمه ... فقال ما عندي له علم لكنني أبدي له كنية ... يعرفها من عنده فهم ترخيمه وصف لقلبي فإن ... أسقطت منه أولاً فاسم وعكسه عضو إذا رخموا ... منى اللحم والعظم فقلت لا نبعث من لفظه ... تصحيفه تجلى بها الوهم فحله وانظم يا ذا الفتى ... بفضله قد شهد النظم

وقال أيضاً ملغزاً: يا أولي الفضل والفضيلة قد أع ... وزني في حل وفي كشف خبروني عن اسم جمع وطرف ... ومعكوسه إذا شئت حرف وهو أن صحفوه في الصدر بعض ... وهو أن حرفوه في القلب ألف وتراه فلا تشك بأني ... قلت حقاً إذا بدا منه وصف وهو معتل طالما صحح ال ... مرء معروف بالخفافة عطف ينبي العكس منه عن كل واحد ... هو إذا خففوه كم فيه ألف أي عذر وقد أتاك صريحاً ... لك إن كان في جوابك خلف وكتب إليه شخص من أصحابه لغزاً: رأيت صبياً قارئاً ذا فصاحة ... يريك آيات النساء ويجوّد فقلت له ما الاسم أطرق ساعة ... يصوب نحوي طرفه ويصوّد فقال إذا ما رمته فهو ظاهر ... بأول ما أتلوه حين أردد فصحفه بعد العكس منه فإنه ... تراه صحيحاً واضحاً حين يقصّد فأجابه عنه يقول: أظنك تعني خادماً ما لبيباً ... ومن تنقل الأخبار عنه وتسند إذا عكسوه فهو ضوء لبارق ... وإن حرفوه فهو للصب مسعد وتصحيفه انبئت حقاً بفضله ... فما ارتاب فيه لا ولا أتردد فخذه ودم ما ناح في الجو طائر ... وما دام أدوار وما دام فرقد

وقال رحمه الله ملغزاً أيضاً: ما اسم كلتا بفضيلة سماه نعترف ... متصرف كان في ملكه غير منصرف فحرفان منه فعل أمر لمذكر وثلاثة أمر لمؤنث أن حرف وباقيه فعل ماض معناه الكذب، والمشار إليه بالصدق قد عرف له خصائص صفات قد باين بها الحيوان بالبشر ورحيل مشهور كاد أن يضاهي برحيل الشمس وبتسيير القمر وسلوك في الجو أعجب من كل عجيب وهو أن صحفته وقلبته تام تكتيب، وله رحمه الله مجيباً: هو النبي سليمان الذي ظهر ... إيمان في عصره واستخبأ الشرك هذا الجواب بلا شك أتاك فإن ... صحفت حرفين منه جاءك الشك محمد بن إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين أبو عبد الله شمس الدين، كان رجلاً حسناً، وعنده اشتغال بالفقه والنحو وغيره، وتوفي ببعلبك في بكرة نهار الجمعة خامس وعشرين شهر رجب، ودفن من يومه بتربة ابن قرقين بمقابر باب سطحاً ظاهر بعلبك، وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن موسى بن عبد الرحمن أبو بكر أمين الدين الأنصاري الخزرجي المحلي النحوي العروضي الكاتب، ولد في شهر رمضان المعظم سنة ست مائة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر ذي القعدة، ودفن يوم الجمة بين القرافقين بالديار المصرية، قرأ الأدب وبرع فيه، وانتفع به جماعة؛

وله تصانيف، وكان أحد الفضلاء المشهورين، عارفاً بعلوم عدة؛ وله نظم حسن وأرجوزة في العروض وأخرى في القوافي وغير ذلك، كتب في مرضه إلى بعض معارفه الأكابر يشكو المضائقة وسوء الحال: يا من الذي عم الورى نفعه ... ومن له الإحسان والفضل العبد في منزله مدنف ... وقد جفاه الصحب والأهل فزوجه البقل ويا ويح من ... فروجه في المرض البقل ومات بعد قوله هذه الأبيات الثلاثة بثلاثة أيام، وكان له صاحب فمرض فلم يعده أمين الدين المذكور وكتب إليه: إن جئت نلت ببابك التشريفا ... وإن انقطعت فأوثر التخفيفا ووحق حبي فيك قدماً أنني ... عوفيت أكره أن أراك ضعيفا محمد بن يحيى بن الفضل بن يحيى بن عبد الله بن القاسم بن المظفر أبو حامد محي الدين ابن الشهرزوري الموصلي، مولده في ثامن عشر شهر رمضان سنة تسعين وخمس مائة، كان من أولاد القضاة، وعنده فضيلة، وله نظم حسن، ووالده تاج الدين أبو طاهر كان قاضي الجزيرة العمرية، والمحيي المذكور ترك زي الفقهاء وتزيا بزي الأجناد، وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة بالمقس ظاهر القاهرة من الديار المصرية، وبيته مشهور بالرئاسة والتقدم، وتولى القضاء فب الأقطار غير واحد منهم رحمه الله.

مسلم البرقي البدوي شيخ الفقراء كان رجلاً صالحاً كثير التعبد، وله رباط بالقرافة الصغرى، وكان أحد المشايخ المشهورين مقصوداً للزيارة والدعاء والتبرك به وأصحابه معروفون. وتوفي في خامس ربيع الأول، ودفن من الغد بقرافة مصر الصغرى رحمه الله. منصور بن سليم بن منصور بن فتوح الهمداني الاسكندري أبو المظفر وجيه الدين ابن الشافعي الشيخ الفقيه العالم المحدث الفاضل، مولده في صفر سنة سبع وست مائة، وولد بالاسكندرية، وسمع من جماعة وحدّث ووليّ الحسبة بالاسكندرية ودرس بها وجمع وصنف وخرّج وألّف تاريخاً لبلده الاسكندرية، وكان حافظاً صالحاً حسن الطريقة جميل السيرة محسناً إلى من يرد إليه من الطلبة عفيداً حسن الأخلاق ليّن الجانب؛ رحل إلى بغداد وأقام بها مدة، وله ذيل على ابن نقطة فيما ذيله على كتاب الأمير ابن ماكولا، وله تاريخ الاسكندرية وتاريخ لمنارة الاسكندرية وغير ذلك، وكانت وفاته بالاسكندرية في ليلة الحادي والعشرين من شوال، ودفن من الغد بين العشاوين رحمه الله تعالى. نصر الله بن عبد المنعم بن نصر الله بن أحمد بن جعفر بن حواري أبو الفتح شرف الدين التنوخي الدمشقي الحنفي، مولده في سنة ثلاث أو أربع وست مائة، وتوفي في سادس شهر ربيع الآخر بدمشق، ودفن بمغارة

الجوع بسفح قاسيون، وكان فاضلاً ديّناً حلو النادرة حسن المحاضرة، على ذهنه من الأشعار والحكايات والوقائع شيء كثير، وله يد في نظم وليس بذلك، وكان كبير النفس عالي الهمة كثير الكرم يتجمل فيما يصنعه لمعارفه وأصحابه من المآكيل ولعله يدعو النفر الواحد والنفرين، ويحضر من الأطعمة الفاخرة ما يكفي جماعة كثيرة، وكان في غالب أوقاته يمتنع من أكل طعام غيره وقبول هدية فلمته على ذلك؛ فقال: أشتهي أن أكون حراً لا يسترقني أحد بإحسانه. وكان في زمن أولاد شيخ الشيوخ رحمهم الله، قد تعرف بهم وصار له قرب منهم وحرمة وافرة بسببهم وعمّر في آخر عمره مسجداً عند طواحين الأشنان ظاهر دمشق وغرم عليه جملة كثيرة وتأنق في عمارته، وكان يدعو معارفه إليه ويبالغ في الاحتفال على عادته في سعة صدره وعلو همته، وسمع الكثير وكتب بخطه ما لا يحصى وحدّث رحمه الله تعالى؛ ومن نظمه يتغزل ويصف دمشق: ما كنت أول مستهام مدنف ... كلف بممشوق القوام مهفهف يردي لواحظه بكل مهند ... ماض وعطفاه بكل مثقف مستعذب الألفاظ يفعل طرفه ... في قلب من يهواه فعل المشرف شمس الضحى كسفت بنور جبينه ... خجلاً ولولا حسنه لم تكف

أنا واله دنف بورد خدوده ... وبغض نرجس مقلتيه المضعف فحذار من طرف كحيل أوطف ... يسبي ومن خصر نحيل مخطف يا حائراً أبداً بعادل قده ... ما حيلتي في الحب إن لم ينصف ديوان حبك لم يزل مستوفياً ... وجدي وأشواقي بحسن يصرف لك ناظر فتّاك بالعشاق قد ... أضحى على الهلكات أعجل مشرف ورشيق قد عامل في مهجتي ... من غبر حاصل أدمعي لم تصرف يا من يروم الوصل من متمنع ... أبداً على عشاقه لم يعطف أغرس غصون اللهو مهما تستط ... يع فإن بدت ثمرات لهوك فاقطف وإذا طلائع عارضيه بدت فقل ... قف يا عذار بخده واستوقف واكشف قناعك إن أردت لذاذة ... لاخير في اللذات إن لم يكشف لا شي أعذب من تهتك عاشق ... في عشق معسول المراشف أهيف إن يخف وجدك فالغرام يدعيه ... والوجد أقتل ما يكون إذا خفى فإذا بلغت لما تحاول من منىً ... بحصاة همك عن فؤادك فاحذف يا من على صنم الملاحة عاكفاً ... صنم يكون عليه من لم يعكف أشرفت فيما قد أتيت وإنما ... قد يدرك اللذات غير المشرف كلّفت نفسك حمل أعباء الهوى ... ومن العجيب خطاب غير مكلف يا من يعنّف في دمشق ووصفها ... لو كنت تعقل كنت غير معنف هي جنة الدنيا وتكفي منزهاً ... وفضيلة أوصافها في المصحف بلد سبي الزمّر الذي حلوا به ... بمياهه ومروجه والزخرف

يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم أبو المحاسن الأسدي الدمشقي الملقب جمال الدين التكريتي الجد، الموصلي الأب، الدمشقي المولد، المحلي الوفاة، المعروف بابن الطحان، المشهور بالحافظ اليغموري مولده بدمشق سنة ست مائة - تخميناً - سمع الكثير بالموصل ودمشق ومصر والاسكندرية وغيرها من جماعة من المشايخ وحصل الأصول والفوائد منهم أبو العباس أحمد بن سلمان بن أبي بكر بن سلامة بن الأصفر البغدادي، وكان عنده فهم وتيقظ، وله مشاركة جيدة في الأدب والتاريخ وغيره من علوم متعددة، وجمع جموعاً مفيدة، وكتب بخطه الكثير، وكان كثير البحث والتنقير، جامعاً لفنون حسنة، حسن الأخلاق لطيف الشمائل، مشغولاً بنفسه، وحدّث وصحب الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله ولازمه وعرف به، فلا يعرف إلا بالحافظ اليغموري، وكان حلو المحادثة مليح النادرة لا تمل مجالسته. توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر بمدينة المحلة من أعمال الغربية، وكان قد قصدها لرؤية الأمير شهاب الدين أحمد بن يغمور المقدم ذكره، فتوفي عنده في هذا التاريخ، وتوفي شهاب الدين من بعده بشهر ويومين على ما هو مذكور في ترجمته رحمهم الله تعالى، وكتب إليه الأديب شهاب الدين محمد بن عبد المنعم المعروف بابن الخيمي وكلاهما أرمد: أبثّك يا خليلي إن عيني ... غدت رمداء تجري مثل عين

حديثاً أنت تعرفه بيننا ... لأنك قد رمدت وأنت عيني فأجابه الحافظ رحمه الله تعالى يقول: كفاك الله ما تشكو وحيّا ... محاسن مقلتيك بكل زين فإني من شفاك على يقين ... فإني قد شفيت وأنت عيني وكتب إليه الأديب شهاب الدين - ابن الخيمي - المذكور: يا أيها البحر الذي ... هو سائغ فيه الشراب والحبر كعب حين ين ... سب في العلوم له كعاب أأبا المحاسن أنت حا ... فظها فليس لها ذهاب أضحت وصدرك لوحها الم ... حفوظ ما حفظ الكتاب كل المحاسن والفضا ... ئل والعلوم به تصاب وكذا الغرائب أنت مو ... طنها فليس لها اغتراب أشكو إليك وربما ... يلّتذ بالشكوى المصاب ذهب الصبا وزمانه ... ذاك الزمان المستطاب وتغيرت منى الغري ... زة في علوم واكتساب وتنكرت عندي المعا ... رف والمعارف والصّحاب وسألت لذاتي الإيا ... ب فلم يكن منها إياب وا خيبتي ما كان يجم ... ع بيننا إلا الشباب وبدت عيوب كان من ... بون الشباب لها حجاب

وخضبت أستر حالتي ... عنها فما نفع الخضاب ومن القضايا في المشي ... ب وكلها فيه صعاب كحقوق مخدومي جما ... ل الدين طاب به المآب قد طال شغل خدمتي ... إياه وهو لها ثواب دأبي له إما ثنا ... ء أو دعاء مستجاب أو نظم جوهر وصفه ... في سلك نظم يستطاب وبدائع من فضله ... يبدو بها العجب والعجاب إلا اجتناب القرب من ... هـ فما يضر الاجتناب إذا كان للإجلال والإجلال ... الأدوان دأب ومع التجنب فالمو ... دة فوق ما معها اقتراب فخليفتي في خدمتي ... وله فيها انتداب قصد النزول بظله ... ليكون منه انتساب في دار علم جنة ... تجري جواريها العذاب وللحافظ اليغموري: رجع الود على رغم الأعادي ... وأتى الوصل على وفق مرادي ما على الأيام ذنب بعدها ... كفه القرب أساءت البعادي وقال رحمه الله تعالى: أنا مرآة فإن أبصرتمو ... حسناً أنتم بها ذاك الحسن

أوتروا ما ليس رضوه فقد ... صدئت إن لم تروها من زمن قال الحافظ اليغموري: ذكرت الأمير سيف الدين المشد رحمه الله زهر السفرجل وحرصته على رؤيته، فلما صار إليه ورأى بهجته كتب إلي يستدعيني: زهر السفرجل ما علم ... ت فقد أشرت برؤيته يدعوك دعوة شيق ... فاغنم إجابة دعوته إن لم تعنه بنظرة ... أذبلت يانع نضرته قال الحافظ: فأجزت هذه الأبيات ببيت تأدباً: حاشاه أن يذوي وقد ... حل البذى في ساحته مرض للأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله بعض مماليكه، وكان يعز عليه معالجة بعض الأطباء واتفق أن ذلك المملوك توفي إلى رحمة الله تعالى فخرج في جنازته خلق عظيم من الأمراء والأعيان وغيرهم، وخرج الطبيب الذي عالجه في الجملة ووقف على شفير القبر، وجعل يقول للحفار: افعل كذا وكذا؛ فقال له الحافظ اليغموري: يا حكيم أنت قضيت ما عليه ووصلته إلى هنا وما لك بعد هذا حديث هذا يتولاه غيرك. فضحك بعض الحاضرين وخجل الطبيب وبلغ الأمير جمال الدين ذلك فطرب له.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم ؟ السنة الرابعة والسبعون وستمائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية والملك الظاهر بدمشق. مجددات الأحوال في رابع عشر المحرم بعث الملك الظاهر الأمير بدر الدين الخزندار على البريد إلى القاهرة لإحضار الملك السعيد فعاد به إلى دمشق في يوم الأربعاء سادس شهر صفر. وفي الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير وهو بين حارم وأنطاكية وكان فيه قسيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرك به، وكان الملك الظاهر قلد أمراء التركمان وبعض عسكر حلب بمحاصرته وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ثم بعث إليه الأمير سيف الدين الرومي الدوادار فحصل بينه وبين القسيس مراسلات فيها ضروب من الخداع ألجأه الجمالي فيها النزول إليه. فلما اجتمع به أكرمه سيف الدين وجعل عليه عيوناً تمنعه من التصرف والعود إلى الحصن من حيث لا يشعر ولك يزل يلاطفه بالمواعيد إلى أن سلمه وأطلعه ووفى له بما وعده.

ذكر ما ورد من أخبار بلاد الروم

ذكر ما ورد من أخبار بلاد الروم فمن ذلك أن أبغا طلب تقونوين والسلطان غياث الدين والبرواناة فخرجوا من الروم في ذي الحجة من السنة فصادفوا آجاي في أرزن الروم عائداً من عند أبغا إلى الروم، فخافوا منه وقدموا له هدايا كثيرة ثم فارقوه وكان في صحبتهم مرحسيا سركيس وهو قسيس يؤثره أبغا ويكرمه، فوصلوا إلى أبغا في أوائل المحرم وهو بأرموا من بلاد آذربيجان نازلاً في الدار التي أنشأها هولاكو وأنشأ إلى جانبها كنيسة عظيمة لزوجته طغز خاتون وبواطن جدرانها مصفحة بالذهب بأنواع الجواهر فلما مثلوا بين يديه أتحفوه بما معهم من الهدايا، فكان أول ما قبل هدية مرحسياً وكان من جملتها جواشن مبدعة الصفة فأعجبته وفرقها على خواصه ثم سأل السلطان غياث الدين عن أبيه فقال له أبوك مات أو قتل وكان قصده أن يأخذ به من قتله فقال مات وردد القول عليه مراراً وهو لا يغير الجواب الأول، وكان قد تقدمهم خواجا علي فاجتمع بهم عند أبغا فتوسط لهم تقونوين في عوده إلى الوزارة ولولديه تاج الدين ونصير الدين في أن برد عليهما أقطاعاً على أن يبذل في كل سنة ألفي بالشت وسبع مائة فرس يستظهر بها على ما كان يحمل إليه من بلاد الروم فأجاب إلى ذلك، وخلع

ذكر ما دبر البرواناة في إخراج آجاي

عليه وعلى ولديه وعادوا، فلما جلسوا بسيواس بلغهم أن آجاي ضرب نواب البرواناة وضياء الدين بن الخطير، واستأصل أموالهم وتعرض لمن سواهم من الأعيان وعسفهم فكتبوا إلى أبغا بذلك فبعث إليه يطلبه. ذكر ما دبر البرواناة في إخراج آجاي على ما كاتب به البرواناة اتفقا على أكل مال الروم وأنهما يشنآن بي ليخرجاني ويستبدان بها فكتب إليه من هو البرواناة حتى نسمع كلامه فيك، أمره إليك إن شئت أن تقتله وإن شئت أن تبقيه، وكان البرواناة لما بلغه أن آجاي بعث رسولاً في أمره جعل عليه عيناً عن عوده بالجواب فلما قدم الرسول أخذ إلى دار البرواناة وأنزل وأكرم وحمل إليه الخمر وأعطى بعض غلمانه دراهم وأمره أن يسرق الكتاب ويحمله إليه ليقف عليه ويعيده إليه ففعل ذلك، فلما وقف على الكتاب سارع في تجهيز هدية سنية بعث بها إلى أجاي ولاطفه بأعذار قبلها منه، ثم إن البرواناة أخذ خطوط وجوه أهل الروم بأن آجاي قد عزم على قتله وقتل تقونوين وتسليم البلاد لصاحب مصر فعاد الجواب باستدعاء آجاي وتقونوين والبرواناة ومرحسياً القسيس، والأمير سيف الدين طغان البكلربكي فخاف البرواناة من استصحاب سيف الدين فأقطعه أرزنكان وولاه كفالة السلطان غياث الدين ثم خرج فيمن بقي معه واستصحب معه كل من كان آجاي ظلمه وعسفه ليستصرخوا عليه عند أبغا فوصلوا إليه في ربيع الأول فلما مثلوا بين يديه وسمع شكوى

المتظلمين أمر آجاي أن يقيم عنده وقتل من أصحابه سبعة أنفس وأنهى مرحسياً إلى أبغا أن البرواناة أقطع سيف الدين أرزنجان لكي لا أسكنها وإني إن أقتطعها حملت كل سنة خمس مائة فرس عليها خمس مائة فارس نجدة، فقال له تقونوين أنت تلبس البرنس ولا تليق الإقطاع إلا لمن يلبس السراقوج وإن كنت ترغب في الإقطاع فاخلع البرنس. وقال للبرواناة هذا يضيع كل سنة من أموال الروم شيئاً كثيراً لأنه يحمي من الفلاحين خلقاً يلبسهم البرانس فلا يؤدون الخراج ولا الجزية، فأمر أبغا أن لا يحمي أحد في سائر البلاد لمرحسياً إلا في أرزنجان لا غير لكونه ساكناً بها ثم عاد إلى الروم في ربيع الآخر، لما عاد البرواناة وتقونوين ومن معهما إلى بلاد الروم ورد عليهم أمر أبغا بخروجهم ونزولهم على قلعة البيرة فرحلوا قاصدين البيرة فنزلوا عليها يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة وعدتهم ثلاثون ألفاً، منهم خمسة عشر ألفاً من المغل مقدمهم تابشي وأقتاي نوين ومقدم عسكر الروم البرواناة، ومقدم عسكر ماردين وميافارقين شرف الدين عبد الله اللاوي، ومعهم من عساكر الموصل وشهرزور والعراق طوائف، فوصلوا إليها ونصبوا ثلاثة وعشرين منجنيقاً أفرنجياً والرامي به مسلم، ونصبوا من القلعة عليه منجنيقاً فلم يصبه حجره وكان يقع رائداً عنه فقال له الرامي المسلم، لو قطع الله من ساعدك ذراعاً كان أهل البيرة

يستتركون منك لقلة معرفتك ففهم إشارته وقطع ذراعاً من ساعد المنجنيق ورمى به فأصاب المنجنيق فكسره، وخرج أهل البيرة في الليل وكبسوا العسكر فقتلوا الكثير ونهبوا وأحرقوا المنجنيقات وعادوا. وكان البرواناة لما نزل على البية بعث أربعمائة فارس يتجسسون أخبار الملك الظاهر ليقتلهم ويعمل السير إلى البيرة فإذا سمع بقدومه كبس عسكر المغل بمن معه من عسكر الروم وتوجه إلى الملك الظاهر فلما عبرت الأربعمائة الفرات إلى الشام وجدوا ثلاثة قصّاد وكتب معهم من الملك الظاهر، كتب إلى البرواناة تتضمن أننا وقفنا على ما كتبت به إلينا، وها نحن على أثر رسلك، فكن على أهبة فيما عزمت عليه من اجتماع الكلمة على العدو المخذول، فأحضروا القصّاد عند أقتاي نوين فعزم على قتل من في العسكر من المسلمين فأشار سمعان عليه أن لا يفعل فإنهم يلجأون إلى أهل البيرة فيقووا بهم على قتالنا فتتركهم إلى أن ننفصل ونرحل ونقتلهم في بعض الأماكن ونقتل معهم البرواناة فأمر بحملتهم إلى البرواناة فأنكرهم، وقال هذه مكيدة من صاحب سيس فقبلوا ذلك منه في الظاهر وقالوا شأنك والقصّاد فقتلهم وطاف برؤوسهم في العسكر ثم سيرت الكتب إلى أبغا من غير علم البرواناة، ولما امتد حصار القلعة وعصيانها أرسل أقتاي نوين إلى سيف الدين بكلربكي وحسام الدين بيجار يستشيرهما فأجاباه هذه القلعة حصينة وعساكر صاحبها قريبة وفيها ذخائر كثيرة وعساكرنا قد ضعفت من الغلاء والوباء والرأي الرحيل فرحلوا يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة بعد أن أحرقوا

مجانيقهم ونهبوا أسواقهم بأيديهم. ولما بلغ الملك الظاهر وهو بدمشق نزول التتر على البيرة أنفق على العساكر فوق ستمائة ألف دينار، وخرج يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة وهو يوم رحيل التتر عن البيرة فاتصل به خبر رحيلهم بالقطيفة فنم إلى حمص وترادفت الأخبار عليه بتفريق شملهم فعاد إلى دمشق ودخلها يوم الخميس سلخه ثم خرج منها يوم السبت ثاني شهر رجب ومعه جميع العساكر ووصل القاهرة يوم الثلاثاء ثامن عشره وكان قد اجتمع بالقاهرة رسل الملك المظفر صاحب اليمن ورسل الأنبروز ورسل الجنوبين ورسل منكوتمر بن تولي خان بن جنكز خان ملك المسلمين من التتر ورسل العلان ورسل الأشكري وعدتهم خمسة وعشرون رسولاً فركبوا وتلقوا الملك الظاهر على بركة الجب ورجّلوا وقبلوا الأرض فسلم عليهم وأمرهم بالركوب ودخل القلعة. وأما البرواناة وعساكر الروم فإنهم استشعروا من أقتاي بسبب القصّاد فلما رحلوا عن البيرة فارقوهم وعبروا الفرات قاصدين ملطية وبلاد الروم فلما وصلوا أوطانهم تيقنوا أن لا مقام لهم في الروم مع التتر فأجمعوا رأيهم مع البرواناة على منابذتهم فاستحلف البرواناة حسام الدين بيجار النابتري وولده بهاء الدين مقطع ديار بكر وشرف الدين الخطير وضياء الدين محمود أخاه وأمين الدين ميكائيل على أن يكونوا مع الملك الظاهر يعادون من عاداه ويوالون من والاه فلما بلغ ذلك مجد الدين أتابك وجلال الدين المستوفي أنكرا على البرواناة ولما اطلع

ذكر استئصال شأفة النوبة

الأمير سيف الدين بكلربكي على ذلك لزم بيته ثم سير البرواناة رسولاً بنسخة اليمين بدعاء نور الدين بريز يطلب من الملك الظاهر عسكراً يستعين به وأن يكون السلطان غياث الدين على ما هو عليه من الجلوس من التخت على أن يحمل له ما كان يحمله إلى التتر فأجابه الملك الظاهر بالشكر والاعتذار بأن العسكر لا يمكنه الدخول إلى هذه البلاد إلا بعد انقضاء الربيع ويقع العزم على التوجه إليك إن شاء الله تعالى. ذكر استئصال شأفة النوبة كان داود ملك النوبة أغار على سرح عيذاب سنة إحدى وسبعين وقتل من فيها من التجار ووفد على الملك الظاهر شكدة ابن عم داود متظلماً منه وزعم أن الملك كان له وأنه تغلب عليه فلما استقر الملك الظاهر بقلعة الجبل بعد عوده من الشام تقدم إلى الأميرين عز الدين أفرم وشمس الدين الفارقاني بالمسير إلى النوبة وأصحبهما ثلاثمائة فارس وشكندة وأمرهما بتسليم البلاد إليه على أن يكون ربعها للملك الظاهر فخرجوا يوم الاثنين مستهل شعبان فوصلوا دنقلة في ثالث عشر شوال فخرج إليهم ملكها داود وأخوه جنكو ومن عندهما على النجب الصهب بأيديهم الحراب وليس عليهم ما يقي من السهام غير أكسية سود تسمى الدكاديك فانهزموا وقتل منهم مالا يحصى وأسر أكثر مما قتل، وبيع الرؤوس من السبي بثلاثة دراهم وعزلوا منهم ألف نفر للسلطان، وانهزم داؤد وقطع النيل بأمه وأخته إلى البر الغربي،

ثم هرب في أثناء الليل إلى بعض الحصون فركب الأفرم والفارقاني بمن معهما وسارا في طلبه ثلاثة أيام مجدين فلما أحس بهم ترك أمه وأخته وابنة أخيه جنكو ونجا بنفسه وابنه وأخذوا حريمه ورجعوا إلى دنقلة وملكوا شكندة ورتبوه على كل بالغ في البلاد ديناراً في السنة جزية وأن يحمل إلى السلطان في كل سنة عدة كثيرة من الهجن والبقر والعبيد وقرروا مع صاحب بلاد الجبل وكان مبايناً لداؤد أن يكون دووبريم، وهما قلعتان حصينتان بغرب أسوان بينهما سبعة أيام خاصاً للملك الظاهر، وفوضوا إليه نيابة السلطنة فيهما ومتى قصده عدو نجدته العساكر، ثم عاد الأميران ومن معهما إلى القاهرة في خامس ذي الحجة ومعهما أخو الملك داود في برج بقلعة الجبل ثم وصل بعد أيام أم داؤد وأخته وابنة أخيه فحبسوا، ثم وصل السبي فبيع بمائة وعشرين ألف درهم، وأمر الملك الظاهر أن لا يباع منهم شيء على يهودي ولا على نصراني وأن لا يفرق بين المرأة وأولادها، ولما هرب الملك داؤد قصد صاحب الأنواب وهو ملك ملوك النوبة فقبض عليه وسيّره إلى الملك الظاهر فوصل يوم الثلاثاء ثاني المحرم سنة خمس وسبعين فحبس في بعض أبراج القلعة وتقدم السلطان إلى الصاحب بهاء الدين باستخدام عمال على ما يستخرج من الجزية والخراج بدنقلة وأعمالها وأن يجمّل إليها من فوض الصناع والفلاحين والبياعين. وفي العشر الآخر من شهر رجب شنق الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز، وسبب ذلك أنه كان من خواص الخدام المباشرين لدور الملك الظاهر فبلغه عنه أنه يشرب الخمر بالبلغة مع جماعة من الخدام

فأحضره ليلاً وقام إليه بنفسه ولكمه وأمر بعض الفراشين بشد كتافه بطنب وشنقه بالميدان الأسود وشنق تلك الليلة خمسة من الأجناد كانوا تخلفوا عن العرض بحمص، وشفع في جماعة أخرى تخلفوا فحبسوا في خزانة البنود، وأمر بمن كان يحضر معه في الشراب من الخدام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم وكانوا أربعة عشر نفراً فمنهم من مات ومنهم من سلم. وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة عقد نكاح الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة بن الملك الظاهر على ابنة الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي بالإيوان في القلعة على صداق خمسة آلاف دينار المعجل منها ألفا دينار معاملة، وتوكل في قبول النكاح عن الملك السعيد الأمير بدر الدين الخزندار، وتوكل عن الأمير سيف الدين قلاوون في العقد شمس الدين الفارقاني، وجزى العقد بحضور الملك الظاهر والوزراء والقضاة وأعيان الشهود والأمراء وأعيان الأجناد، وكتب الصداق محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر وقرأه في المجلس فخلع عليه وأعطي مائة دينار. مضمون الصداق وصورته: الحمد لله موفق الأملاك لأسعد حركة، ومصدق الفأل لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبه سلطانه وصهره ملكه، الذي جعل للأولياء من لدنه سلطانه نصيراً، وميز أقدارهم باصطفاء تأهيله حتى حازوا بغنى أو ملكاً كبيراً، وأقر فخارهم بتقريبه حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا، وسربه وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بهاء عظيماً وأفضاله كثيرا، فهي أسباب التوفيق

الآجلة والعاجلة وجاعل ربوع كل أملاك من الأملاك بالشموس والبدور والأهلة آهلة، جامع أطراف الفخار لذوي الإيثار حتى حصلت لهم النعمة الشاملة، وحلت عندهم البركة الكاملة. نحمده على أن أحسن عند الأولياء بالنعمة الاستيداع، وأجمل لتأملهم الاستطاع وكمّل لاختيارهم الأجناس من العز والانقطاع، وآتى آمالهم ما لم يكن في حساب من الابتداء بالتحويل والابتداع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حسنة الأوضاع، ملئة بتشريف الألسنة وتشنيف الأسماع، ونصلي على سيدنا محمد الذي أعلى الله به الأقدار، وشرف به الموالي والأصهار، وجعل كرمه داراً لهم في كل دار، وفخره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرف الأنوار، صلى الله عليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار. وبعد فلو كان اتصال كل شيء بحسب المتصل به في تفضيله لما استصلح البدر شيئاً من المنازل لنزوله، ولا الغيث شيئاً من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لساناً لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئاً من التيجان لحلوله، لكن ليشرف بيت يحل به القمر، ونبت يزوره المطر، وكذلك تجملت برسول الله صلى الله عليه وسلم أصهاره من أصحابه، وتشرفت أنسابهم بأنسابه، وتزوج صلى الله عليه وسلم وتمت لهم قربة الفخار، حتى رضوا عن الله رضي عنهم. والمترتب على هذه القاعدة إفاضة نور يستمده الوجود، وتقرير أمر يقارن الأخبية منه سعد السعود، وإظهار خطبة تقول الثريا لانتظام

عقودها، وكيف وإبرام وصله يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف، الذي يغبطه في إيداع هذه الجوهرة كل سيف، ونسيج صهارة يتم بها إن شاء الله كل أمر شديد ويتفق بها كل توفيق تخلق الأيام وهو جديد، ويختار لها أبرك طالع وكيف لا تكون البركة في ذلك الطالع وهو سعيد. وذاك بأن المراسيم الشريفة السلطانية أرادت أن تخص المجلس السامي الأميري ونعوته بالإحسان المبتكر تفرده بالموهبة التي يرهف بها منه الحد المنتضى ويعظم الجد المنتظر، وأن يرفع من قدره بالصهارة مثل ما رفعه النبي صلى الله عليه وسلم من قدر صاحبيه صهريه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فخطب إليه أسعد البرية، وأمنع من تحميها السيوف وأعز من تسبل عليها ستور الصون الخفية، وتضرب دونها خدود الجلالة الرضية، ويتجمل بنعوتها العقود وكيف لا وهي الدرة الألفية، فقال والدها المذكور، هكذا ترفع الأقدار وتزان، وكذا يكون قران السعد وسعد القران، وما أسعد روضاً أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة وأشرف سيفاً غدت منطقة بروج سمائها له حميلة وما أعظمها موهبة أبت للأولياء من لدنها سلطاناً، وزادتهم مع إيمانهم إيمانا، وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لسرعة إبرامها ليت، ولسرفها عبودية كرمت سلماتها بأن جعلته من أهل البيت. شوإذ قد حصلت الاستخارة في رفع قدر الملوك، وخصصته بهذه المرتبة التي يتقاصر عنها آمال أكابر الملوك، فالأمر لمليك البسيطة في رفع درجات عبيده كيف يشاء، والتصدق بما يتفوه به هذا

الإنشاء، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الحظ وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع النوار ومشارق الأنوار على إبداء سطوره، فأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره بالإحسان فأغدق، تناشبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل، فقال الاعتراف هذا ما تصدق وقال العرف هذا ما أصدق، مولانا السلطان أصدقها بما يملأ خزائن الإحسان فخارا، وشجرة الأنساب ثماراً، ومشكاة الجلالة أنواراً، فبدل لها من الغير المصري ما هو أقاليم ومدائن أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان باسم والده قد تشرف، وبنعوته قد تعرف، وبين يدي هباته وتصدقاته قد تصرف. وكان العقد قاضي القضاة صدر الدين الحنفي. وانفصل ذلك اليوم عن سرور تام فبشر بما بعده من التهاني والأفراح والأمور التي تزيد على الأفراح. وفي العشر الأول من ذي الحجة بلغ الملك الظاهر أن جماعة من الذين استخدمهم بحصن الكرك من الخرخية والجندارية والخراسانية والإسباسلارية وغيرهم سولت لهم أنفسهم أن يثبوا في الحصن، ويقتلون من به من النواب ويسلمونه لأخ كان للملك القاهر بن الملك المعظم من أمه لكونه ينتسب إلى الملك الناصر داود وكان يقيم معهم بالكرك لا يؤبه به، فخرج الملك الظاهر من القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة

ودخل حصن الكرك بغتة يوم السبت ثاني وعشرين منه ثم استدعاهم وكانوا زهاء ستمائة نفر وهو على سطح وأمرهم بشنقهم فشفع فيهم من كان في خدمته من الأمراء فعفا عنهم وأخرجهم من الحصن خى ستة نفر فإنه قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم قال للجميع مالكم في بلادي مقام فسألوه أن يعاد لهم ما كان ارتجع من أموالهم فأمر لهم بذلك ونفاهم إلى مصر واستدعى شمس الدين صواب السهيلي وإلى صناعة الإنشاء بمصر، ويلم إليه حصن الكرك وفوض إليه النظر في حواصله وذخائره، واستدعى من مصر رجالاً رتبهم في الحصن عوض الذين نفاهم منه ثم خرج متوجهاً إلى دمشق يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة. وفي هذه السنة كان بخلاط زلزلة عظيمة أخربت الدور والخانات والأسواق، ومات الناس تحت الردم ولم ينج من أهلها إلا النفر القليل، واتصلت بأرجيش فأخربتها، وخسفت فيها مواضع ووصلت إلى ديار بكر فشعثت ميافارقين وماردين. وكسر الخليج يوم الخميس ثامن وعشرين صفر وانتهت الزيادة إلى ثلاثة أصابع من ثمانية عشر ذراعاً. وفي خامس عشر شوال جهز الملك الظاهر كسوة الكعبة صحبة الأمير عز الدين يوسف بن أبي زكرى، وخرد معه جماعة من الحجاج ووصل مكة شرفها الله تعالى، وكانت الوقفة يوم الاثنين وأقاموا بمكة ثمانية عشر يوماً وبالمدينة عشرة أيام، فذهب أكثر زاد الناس وحصل لهم من أيلة إلى مصر مشقة عظيمة ومات منهم خلق كثير. وفي ثالث شهر رمضان ظهر بالموصل بحارة تعرف بسويقة ابن خليفة ضريح شخص من ولد الحسين بن علي عليهما السلام، وسبب ظهوره

أن شخصاً يقال له محمدون بن الأقفاصي رأى في منامه شخصاً من ولد الحسين بن علي عليهما السلام وهو يقول له يا محمدون أنا مناد من تنور الخبز ومجرى الحمام الصغير، فلما أصبح قص المنام على بعض الأكابر واستشاره في نبشه فأشار عليه أن لا يفعل، فأمسك الرجل. فلما كان في الليلة الآتية رأى الرؤيا بعينها وهو يقول له احفر ضريحي ولا تهمله وإنه ما أقول لك أن تراب الضريح يشفي من جميع الآلام والأسقام، فلما أصبح الصباح حفر المكان وظهر الضريح فأقبل الناس ينكرون عليه وإذ برجل أعمى قد أخذ من تراب الضريح شيئاً وتركه على عينه فأيصر فكبر الله وحمده، ورأى الناس تأثير الضريح فتهافتوا عليه وحظر محمدون بسببه، وتكاثر على الضريح أصحاب الآلام والعاهات وكل من جعل على ألمه شيئاً من ترابه برئ لوقته. وسمع بذلك شخص من التتر يعتريه الصرع فأتى وطلب معالجته فشرط عليه من بالمكان أن يترك شرب الخمر ولحم الخنزير وقتل المسلمين فالتزم ذلك وأخذ من تراب الضريح فبرئ لوقته، فسر بذلك وخرج مسافراً فمر بتل زيار، وبه دير النصارى فنزل عندهم وحكى لهم صورة حاله فقال له النصارى أنت إنما برئت بما عولجت به وتداويت لا بهذا القبر، فأثر هذا القول بنفسه فعاوده الصرع فجاء إلى الضريح وطلب من ترابه فقيل له ألم تك قد أخذت منه وعوفيت فقال بلى ولكنني مررت بدير فيه نصارى فحكيت لهم فذكروا لي كيت وكيت فأثر ذلك عندي فعاودني ما كان بي فقيل له تلك المرة بطل حكمها، والآن فما ينفعك شيء من هذا الضريح إلا أن تسلم وتشهد

أن جد هذا السيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى ذلك وبقي أياماً على ما به من الصرع وزاد به حتى أجاب إلى الإسلام فأتى المشهد وأسلم وتناول شيئاً من ترابه فبرئ ولم يعتاده بعد وحسن إسلامه، وأسلم جماعة كثيرة من التتر ونصارى البلاد بسبب ذلك. قال عز الدين محمد بن أستاذ داره رحمه الله هذا حكاه لي ناصر الدين محمود بن عشائر بن حسين بن عبيد يعرف بابن الليالي الموصلي، والعهدة عليه فيما حكاه. وفيها توفي إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن إسحاق بن علي بن شيث أبو إسحاق كمال الدين القرشي الأموي، كانت وفاته آخر نهار الخميس رابع عشر صفر بالقرب من حلبا من بلاد الساحل، ونقل إلى ظاهر بعلبك فدفن بتربة سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله وقد نيف على الستين، وكان من أعيان الناس وأماثلهم، خدم الملك الناصر صلاح الدين داؤد بن الملك المعظم وهو من أجل أصحابه، وأخصهم به وترسل عنه ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله فأعطاه خبراً جيداً وقربه وأدناه واعتمد عليه في مهماته. وفي الأيام الظاهرية ولي الرحبة وبلادها عقيب موت الملك الأشرف صاحب حمص مدة يسيرة، ثم نقل منها إلى بعلبك فولي مدينتها وقلعتها، وبقي بها مدة سنين وطلبه الملك الظاهر منها مع استمراره على ولايته فاستناب وتوجه إليه فسيره رسولاً إلى عكا وكان عنده خبرة تامة بادعاوى على الفرنج ومواصفاتهم وتفاصيل أحوالهم فكان يندب في المهمات المتعلقة بهم ويستضار بهم في ذلك وحرمته وافرة في الدولة

ومكانته مكينة وسيرته حسنة، وعنده مكارم وحسن عشرة. وتوفي رحمه الله ولم يخلف ما يقوم بنصف ما عليه من الديون رحمه الله تعالى، وكان عنده فضيلة وأهلية ومعرفة بالأدب والنحو يحفظ القرآن العظيم، ويتلوه في كثير من أوقاته وعلى ذهنه من الأحاديث النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها جملة وافرة، ولعله يستحضر معظم موطأ مالك بن أنس رحمه الله، وكان يميل إلى مذهبه، وله عقيدة عظيمة في الفقراء والصالحين ومسارعة إلى قضاء حوائجهم رحمه الله، وكان ينظم الشعر، فمن شعره: صب أسير في بلد الأشواق ... مذ آذنوا أهل الحمى بفراق لا داره تدنو فيسكن ما به ... يوماً ولا هو بعد بعد فراق يلقى جيوش الشوق وهي كثيرة ... أبداً بقلب واهن خفاق أترى له من عودة يحيا بها ... أم هل للسعة قلبه من راق يا نازلين على الكثيب برامة ... متعرضين لفتنة العشاق أنتم ملاذ المستهام وذخره ... وهواكم من أنفس الأعلاق أعيا الذي يصف المحبة والهوى ... ما قد لقيت بكم وما أنا لاق ليلي طويل بعد بعدي عنكم ... وكذاك ليل فاقد المشتاق وقال أيضاً رحمه الله: برق بدا لك أم لاحت لك الدار ... فعاد قلبك تهيام وتذكار أم ذكر أيام نجد والخليط بها ... وأنت فيها ومن تهواه زوار أم قاسيون ومن فيه فكم قضيت ... بسفحه لك أوقات وأوطار والشمل مجتمع والدار دانية ... ومن تحب بها جار وسمار فبت رهن صبابات حليف هوى ... ودمع عينك منهل ومدرار

يا نازلين وفي الأحشاء منزلهم ... وغائبين وهم في القلب حضّار أم اصطباري فشيء عز مطلبه ... ونار شوقي إليكم دونها النار وقال أيضاً رحمه الله: سقاك الحيا من أربع ومنازل ... ومن لي بأن تهدي إليكم رسائلي فلو قيل سل تعطى المنى وبقربه ... لكان منى قلبي وأقصى وسائلي أمر بوادي النيرين محييا ... لناباته عند الضحى والأصائل تريني القدود الهيف كثبان رمله ... وتبدو به الأقمار غير أوافل ويصحبني من طيب رياه نفحة ... تهيّج أشجاني وتدني بلابلي منازل أترابي ومربى أحبتي ... وأهل ودادي في الهوى وتواصلي رعى الله دهراً مر لي في ظلاله ... حميداً فما وجدي عليه بزائل صحبت به الأحباب واللهو والصبي ... فما قرب من عمري سواه بطائل إذا القلب لا يثنيه تعنيف واشح ... ولا مسمعي مصغ لقول العواذل ألا هل إلى تلك المعاهد عودة ... ويقضي ذنوبي مزملي ومماطلي أأحبابنا بنتم فلا العيش بعدكم ... نضير ولا ربع السرور بآهل أحن إليكم كلما هبّت الصبا ... وأجزع من طول المدى المتطاول ولا تحسبوا أني نسيت عهودكم ... ولا كل ما في الكون عنكم بشاغل إذا ما انقضى عام ببين وفرقة ... رجوت التلاقي عائداً عند قابل

وقال أيضاً رحمه الله: لا تلحه في وجده تغريه ... دعه فيقظ ولوعة تكفيه حكم الغرام عليه فهو كما ترى ... مقري بتذكار الحمى يبكيه يشتاق أيام العقيق وحبذا ... وادي العقيق وحبذا من فيه ويعود يوماً ما يعود إلى الحمى ... بالوصل كان بعمره يشريه وإذا النسيم روى سحيراً منهم ... خبراً فيا طيب الذي يرويه يا أهل نجد دعوة من مغرم ... حلت شكايته عن التمويه متستر في حبكم متهتك ... يخفي الغرام ودمعه يبديه لا يبتغي أبداً سواكم بغية ... كلا ولا عنكم غنىً يغنيه يهوى هواكم ما استطعت وكل ما ... يرضيكم في حبكم يرضيه وقال أيضاً رحمه الله دوبيت: بالخيف منزل لليلي عافي ... أهواه وإن خلا من الآلاف يا سعد فقف بي ساعة تبديه ... ما ترك حقوقه من الإنصاف وقال أيضاً رحمه الله دوبيت: واها لأوقات تقضت وإنها ... لو ساعدني الزمان في لقياها ما لذة أيام اجتماع بكم ... لا أذكر غيرها ولا أنساها وله شعر غير هذا، وكان يترسل جيداً ويأتي بالمقاصد الكثيرة ويقع له

القرائن المستملحة والاستشهادات الحسنة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار وأيام الناس والتواريخ، وعلى ذهنه من ذلك جملة طائلة. وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان له عناية بهذا الشأن وإلمام بمعرفته. ومن غريب الاتفاق أنني اجتزت بمدينة الكرك في عودي من الحجاز الشريف في أول صفر سنة أربع وسبعين، فاجتمع بي فقير من أهل الكرك يعرف بالجمال ابن الضياء، كان يصحبه ويكثر من التردد إليه والإقامة عنده ببعلبك، وعزاني فيه: فقلت له: أنت واهم، الرجل في خير وعافية وإنما المخبر لك سمع بوفاة الأمير سيف الدين الجاكي وهو متولي بلاد بعلبك وبرها فظن أنه كمال الدين، فقال: كذا أخبرني شخص أنه مات في هذه الأيام، فقلت: يحتمل واغتممت لذلك، فلما رحلنا من الكرك وقاربنا دمشق، لقينا جماعة من أهل بعلبك ودمشق في الطريق على مراحل من دمشق، فسألناهم عنه؛ فذكروا أنه في نهاية الطيبة والصحة وأنه يتوجه في مهم إلى بلد طرابلس صحبة الأمير سيف الدين بلبان الرومي الدوادار، فسررت بذلك، فلما دخلت دمشق جاءت الأخبار بوفاته على ما شرحناه رحمه الله تعالى؛ ولما توفي عمل عزاؤه في مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه بقلعة بعلبك، وحضر صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري رحمه الله تعالى وتكلم في العزاء بما يناسب، وأنشد هذه الأبيات: يا منزلاً لم يبق فيه مقيم ... هذا المقام فأين إبراهيم عجباً لعين عاينت آثاره ... من بارق الهاوي كيف يشيم ولمهجة وما فنيت أسىً ... ولكل قلب فيه كيف يهيم

يا مدعي نسب الوفاء لعهده ... نسب الوفاء كما علمت صميم أين التمزق والتحرق والبكا ... هل شافع في رزية وجميم عز العزاء الفرد في ذاته ... ولكل قلب منك فيه كلوم أما والده جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم فكان من سادات الناس ورؤسائهم وأعيانهم وصدورهم وفضلائهم، خدم الملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل رحمه الله تعالى، وكان عنده في محل الوزارة وكان من المتضلعين بالعلوم، وله أشعار كثيرة، ومصنفاته عديدة مفيدة، وكان بينه وبين والدي رحمهما الله تعالى صحبة أكيدة، وصحب سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله تعالى، وكان كثير البر والصدقة معروفاً بأسد، المعروف إلى سائر من يعرفه ويقصده ويجتاز به، وكان بينه وبين الملك المعظم مداعبات كثيرة. كتب إليه مرة رقعة يداعبه فيها يعني أنه فارق الملك المعظم ودخل منزله، فطالبه أهله بما حصل له من بره وأنه قال: ما أعطاني شيئاً، فقاموا إليه بالخفاف وفعلوا به وصنعوا. ومن نظمها قولها: وتحالفت بيض الأكف كأنها ... التصفيق عند مجامع الأعراس وتطايرت سود الخفاف كأنها ... وقع المطارق من يد النحاس فرمى المعظم الرقعة إلى فخر القضاة ابن بصاقة وقال له: أجبه عنه. فكتب نثراً ونظماً، فجاء في النظم: فاصبر على أخلاقهن ولاتكن ... متخلقاً إلا بخلق الناس

واعلم إذا اختلفت عليك فإنه ... ما في وقوفك ساعة من بأس فلما وقف عليها الملك المعظم أعجبته غاية الإعجاب. ومن شعر جمال الدين رحمه الله تعالى قوله: وإذا رآني الناس قالوا صالحاً ... غفر الإله لهم وغضوا الأعينا ويقرني أقوالهم مع أنني ... أدري بما عندي فأسكت مذعنا يا ليتهم عرفوا بقبح سريرتي ... فسلمت أو سلموا فكان الأحسنا يا نفس ويحك من يرى حالي فما ... عذر امرئ مثلي تأخر أو دنى أعني بتحسين الثياب فأغتدي ... مثل الحمار مجلاً ومرسنا ماذا العناية ويك بالجسم الذي ... هو سجن من لا يرتضي أن يسجنا هل ذاك إلا جيفة لو لم يكن ... أبداً يعاود بالنظافة أنتنا وقال أيضاً من شعره: كن مع الدعر كيف قلّبك الده ... ر بقلب راض وصدر رحيب وتيّقن أن الليالي ستأتي ... كل يوم وليلة بعجيب وكانت وفاته بدمشق سابع المحرم سنة خمس وعشرين وست مائة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى. أيبك بن عبد الله أبو محمد الأمير عز الدين الاسكندري الصالحي، كان من مماليك الملك الصالح نجم الدين وعتقائه، وكان الملك الصالح يثق به ويعتمد عليه؛ ولاّه الشوبك قلعتها وبلدها، وجعل عنده جماعة كثيرة من

خواص مماليكه منهم: الأمير عز الدين ايدمر الحلي، والأمير علم الدين سنجر الحصني، والأمير عز الدين أيبك الزراد وغيرهم: وكان عنده كفاية وخبرة تامة، وصرامة شديدة، ومهابة عظيمة، يقيم الحدود على ما يجب، لا يحابي في ذلك. ولما ملك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني الديار المصرية مان الأمير عز الدين المذكور من خواصه ولم يزل على ذلك إلى أول الأيام الظاهرية. فلما استولى الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير رحمه الله على قطعة من الشام كمل تقدم شرحه. ثم تخلل أمره وخرج من دمشق وقصد قلعة بعلبك وحضر بحضرة بدر الدين محمد بن رحال وغيره، وجرت المراسلات بينه وبين الأمير علاء الدين البندقار رحمه الله في تسليم قلعة بعلبك والتوجه إلى باب الملك الظاهر بالديار المصرية، أنه لا يسلم القلعة إلى بدر الدين بن رحال، وأنه لا يسلمها إلا إلى أحد نفرين من خشداشيته سماها أحدهما الأمير عز الدين صاحب هذه الترجمة، فجهز إليه وتسلم القلعة منه. وكان متولياً قلعة شميميش فطلب منها لهذا المهم واستناب بقلعة شميميش، ولما طولع الملك الظاهر بذلك رسم باستمراره في قلعة بعلبك ومدينتها واستمر نائبه بشميميش وبقي على ذلك مدة إلى أن سأل الإعفاء عن شميميش، فاجيب وحضر نائبه إليه، وبقي الأمير عز الدين متولياً ببعلبك وقلعتها مدة أربع سنين كوامل، ثم طلب إلى الديار المصرية وولي قلعة الرحبة وأعمالها وما قاربها فتوجه إليها على كره وزاد الملك الظاهر أقطاعه. ولما وصل إلى الرحبة تجرد

لكشف الأخبار وأخذ ما جاوره من بلاد العدو، فقام في ذلك المقام المحمود وفعل ما لا تسمو إليه همة غيره من أخذ بلاد العدو. فقام في ذلك ما يطول شرحه من شن الغارات عليهم، ونهب جشاراتهم وقطع الطريق على سفارتهم. ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان عنده معرفة بالنجوم وإلمام بالفضيلة ومحبة لها ولأهلها، وديانة كثيرة، وغيرة مفرطة، وكرم طباع، وسعة صدر، وشدة حياء، لا يخيب من قصده في حاجة ولا يطلب أحد رفده إلا ويبره بأكثر ما في نفسه، وإن أهدى أحد له هدية كافأه بأكثر منها؛ وكان له عقيدة في الفقراء والصلحاء وإيمان بكراماتهم لا ينكر من ذلك ما يخرق العادات. وكانت وفاته في رابع عشرين رمضان المعظم بقلعة الرحبة ودفن بظاهرها رحمه الله تعالى وهو في عشر الستين. ولما كان ببعلبك تزوج كريمتي واتفق توجهها إليه ومعها والدتي وأنا إذ ذاك في الحجاز الشريف وهي تتشوق إلي: فتوجهت في شهر رجب وأقمت، فتوفي المذكور وأنا هناك، فاستصحبت الأهل وولد الأمير عز الدين المذكور رحمه الله تعالى وغلمانه، وعدت بهم إلى دمشق فورد علي كتاب صاحبنا الموفق عمر بن عبد الله الآتي ذكره من بعلبك إلى دمشق يتضمن الشوق والتهنئة بالسلامة. وفي صدر الكتاب بيتان من الشعر من نظمه يقول: مولاي قطب الدين موسى دعوة ... من نازح يخشى قطيعة أهله أنسيت يا مولاي نار تشوقي ... يا من قضى أجلاً وسار بأهله

الحسن بن علي بن الحسن بن ناهد بن طاهر بن أبي الحسن أبو محمد الحسيني الملقب فخر الدين نقيب الأشراف وابن نقيبهم. مولده سنة ثمان وست مائة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى سحر يوم الأحد تاسع ربيع الأول ببعلبك، وكان عنده فضيلة ومعرفة بأنساب العلويين ونظم نظماً متوسطاً، وخلف له والده نعمة ضخمة فمحقها ولم يبق له إلا صبابة يسيرة ووالدته شريفة حسينية. حكي لي قال: كنت - وأنا شاب - أشتغل بالنحو والأدب. قال قرأت القرآن العزيز؟ قلت: لا؛ فقال: قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وإنه لذكر لك ولقومك " وانت من قومه، فما ينبغي أن تقدم على حفظ القرآن الكريم غيره؛ فشرعت في الختمة الشريفة وأكببت عليها حتى حفظتها، فأنا أعتقد ذلك من بركة الشيخ رحمه الله. وكان جمع تاريخاً لم يتممه. ولما قدم هولاكو الشام في سنة ثمان وخمسين توجه إليه وحضر بين يديه فلم يجد منه من الإقبال ما كان يرجوه فعاد على غير شيء من الولايات، وقدم بعلبك وتوعك بها، واتفق كسرة كتبغا وفتله على ما تقدم شرحه، فحمد الله إذ لم ينل عند التتر ولاية يتضرر عند ملوك المسلمين بسببها، ومن شعره في بعلبك: بعلبك علت على البلدان ... وغدا دون نورها النيران رق فيها الهواء إذ راق فيها ... الماء وافتر ثغرها الأقحوان وتغني الأطيار فيها بصوت ... لذ للسامعين في الأغصان

حصنها باذخ على كل طود ... ثابت الأس شامخ البنيان مبني أنه بنته جن ... لا لروم تدعي ولا يونان سار في الأرض ذكره وهو راس ... وسرى صيته بكل مكان مثل ما سار في الدنيا جود موسى الشم ... لك رب الأفضال والإحسان ملك قد علا الملوك جميعاً ... بعلو المكان والإمكان خاص ترك الكبير ركن الدين المشهور بالشجاعة والإقدام والتقدم عند الملوك، وهو من غلمان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، وكانت وفاته بكرة الأحد ثاني عشر ربيع الأول برحبة خالد بدمشق، ودفن عند حمام النحاس بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. ع بن شكر بن علي اليونيني أبو محمد الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع العارف. صحب المشايخ وأخذ عنهم وتأدب بهم، وكان أوحد عصره في الورع، وتحرى الحلال في أمر مطعمه وملبسه لم يسبقه أحد إلى ذلك، كان يتقوت في سنته بما يتحصل له من مغل قطعة ملك ورثها من أبيه بقرية يونين، لعل معلومها في السنة قريب خمسين درهماً، ويصبر على خشونة العيش وكثرة الجوع إلى أن حصل يبس، أورثه تخيلات فاسدة، فتارة يتخيل أن جماعة عزموا على اغتياله وقتله، وتارة يتخيل أنه اطلع على أماكن فيها كنوز واموال جليلة واتصل ذلك ببعض الولاة ببعلبك فأحضره وسأله عن ذلك، فذكر أنه يعرف أماكن فيها مدافن تحتوي على أموال

جمة فسأل عنه، فقال من يعرفه هذا من الأولياء الأفراد ولا يتجوز في القول وإنما لكثرة الجوع والمجاهدة حصل له يبس أفسد مزاجه؛ دخل رباط بن الأسكاف بجبل قاسيون، فأعجبه وأخلى له به بيت فسكنه، ولم يتناول من المقرر لمن به شيئاً. فلما رأى خادم الرباط ما هو عليه من الاجتهاد والعبادة مع الزهد المفرط أخبر الوجيه بن سويد رحمه الله به وهو ناظر الرباط إذ ذاك، فحضر إليه ليلاً ومعه صحن فيه قطائف وقد تأنق فيه، فلما دخل عليه انقبض منه ولم يكلمه، فوضع الصحن بين يديه وشرع يستعرض حوائجه، فقال: أولها ارفع هذا الصحن وأنت لا تحضر إلي بعدها، ومتى حضرت تركت هذا المكان ورحت. فتعجب منه وسأله الدعاء فقال: أنا أدعو كل يوم للمسلمين، فإن كنت منهم وكان لدعائي أثر حصل لك منه نصيب. ومناقبه في هذا الباب كثيرة، وأدرك سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير - رحمه الله - وصحبه مدة يسيرة فإنه كان صغير السن في حال حياته لكنه لازم كبار أصحابه وصحبهم وانتفع بهم، وكان فقيهاً في أمر دينه يعرف ما يحتاج إليه ويسأل عما أشكل عليه من ذلك. سمع الحافظ ضياء الدين ووالدي وغيرهما، وتوفي بدمشق يوم الاثنين مستهل رمضان المعظم، ودفن بسفح قاسيون، وقد نيف على الثمانين من العمر رحمه الله تعالى. عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن علي بن الحسن أبو المظفر زين الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي. مولده بحلب في منتصف ذي القعدة سنة إحدى ةتسعين وخمس مئة،

سمع من الشريف افتخار الدين بن هاشم عبد المطلب بن الفضل وغيره وحدث، وكان شيخاً حسناً فاضلاً، وبيته مشهور بالعلم والتقدم والسنة؛ وكانت وفاته في خامس عشرين ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد يوم الأربعاء بسفح المقطم - رحمه الله تعالى، وهو خال قاضي القضاة كمال الدين أحمد بن الأستاذ. وله شعر جيد ومنه في مليح في عنقه شامة: المعز بدر ولكن ليس شامته ... مسروقة من دجى صدغيه والغسق وإنما حبة القلب التي احترقت ... في حبه علقت للطم في العنق عثمان بن عبد الله الآمدي حطيم الحنابلة بالحرم الشريف اتجاه الكعبة المعظمة كان سيداً كبيراً شيخاً جليلاً صالحاً عالماً إماماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً ربانياً منقطعاً متعكفاً على العبادة والاشتغال بالله تعالى في سائر أوقاته، وله المكرمات الظاهرة لم يكن له نظير في وقته؛ أقام بالحرم الشريف ما يقارب خمسين سنة. وكانت وفاته يوم الخميس ضحىً النهار الثاني والعشرين من المحرم رحمه الله ورضي عنه، وكنت أود رؤيته وأتشوق إلى ذلك وأخشى أن تحول المنية دون الأمنية. فاتفق أني حججت في سنة ثلاث وسبعين وست مئة، وزرته وتمليت برؤيته، وحصل لي نصيب وافر من إقباله ودعائه، وقدرت وفاته إلى رحمة الله تعالى ورضوانه عقيب ذلك. وكذلك كنت أود رؤية الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله، فاتفق سفري إلى الديار المصرية في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وست مئة فرأيته وسمعت منه، ثم توفي بعد ذلك

بمدة يسيرة على ما هو مذكور في ترجمته رحمه الله تعالى. علي بن أحمد بن علي بن أبي الأسد أبو الحسن المعاوي الشيخ نور الدولة النحوي المعروف بابن العقيب، توفي ببعلبك ليلة الجمعة حادي عشرين ربيع الأول ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر باب نخلة، وهو في عشر الثمانين رحمه الله. اشتغل بالنحو على عز الدين أحمد بن معقل وغيره، واشتغل عليه جماعة كثيرة وانتفعوا به، وكان عنده فضيلة وديانة وافرة وصبر على الفقر مع شرف النفس. وكان لوالده مال جزيل، فقيل أنه دفنه وقيل أنه أودعه، فذهب وأخرب نور الدولة المذكور داره وحفر أساسها في طلبه فلم يظفر بشيء. وله يد في النظم، ومدح والدي رحمه الله بقصائد كثيرة، وكان من أصحابه يكثر غشيانه والتردد إليه والاستفادة منه. ومن شعره في فوارة: وبركة رق ماؤها فغدا ... أرق من دمع عين مكتئب تريك فوارة تفيض بها ... ماء لجين يسيل من ذهب صبت إليها العيون حين غدت ... في صعد تارة وفي صبب كراقص تارة يقوم على ... ساق وطوراً يجثو على الركب وقال يمدح والدي رحمهما الله تعالى ويهنئه بشعبان: فتنت بموهوب الصبي ومعاده ... على غير عند المشيب وعاره وهبّت برسم كلما رمت ألفة ... إلى البين والغيران غير نفاره

عزيز يغار الغصن من حركاته ... ويخجل بدر التم عند ابتداره أحن إلى تقبيل أيد وخده ... وأخشى لهيب النار من جلناره وما زارني إلا شكوت صبابتي ... إليه فيرضيني بزور اعتذاره ويأمرني بالصبر عنه عواذلي ... وموت أخي الأشواق عند اصطباره تهتك ستري في هواه وإنما ... يلذ الهوى في هتكه واشتهاره وهل نافعي طي الهوى دون كاشح ... ينم ودمعي مولع بانتشاره وما الغدر في تركي هواه وسلوتي ... وقد سال في خديه مسك عذاره تباعد عني بالصدود مزاره ... وإن كنت مسلوب الكرى في جواره وقد جل وجدي في هواه وإنما ... على قاتلي في الحب حل مداره وما زلت الحي العاشقين على الهوى ... وازجرهم حتى صليت بناره فسقياً الحمى...... ومن حل ... .......فيه رائح بقطاره فتى لم تزل تغني به عن نظيره ... بعارفة من جاهه ونضاره وحب ذا النادي تناءت صدوره ... وقد خفقت عيا قلوب كباره وغن لهم مغنى فثارت لنقصه ... كواشر فهم فاختفى في وجاره أتاهم به من قبل يرتد طرفه ... بلفظ يطول البحث تحت اختصاره ودل عليه فاستبان خفاؤه ... ودل على تأبيده واقتداره ومندرج بالعلم رام نزاله ... فلم ينجه إلا جواد نزاره

أعزاً إذا ما هز في العلم والندى ... وفي البأس لا يخشى بني غزاره يحف له علم الوقور مهابة ... إذا ما بدا في سمته ووقاره وإن رفعت في حلبة المجد راية ... حواها بسبق آمناً من عثاره تضوّع في الآفاق نشر ثنائه ... وهل من خفاء الصبح بعد انفجاره فقل للمباري لست مدرك شأوه ... ولا لاحقاً يوماً غبار غباره له الله كم أسدى إليّ أيادياً ... يميناً أزالت عسرتي من يساره فما في عناني كسوة من ثيابه ... وما في دياري مؤنة من دياره ما زال شعري كاسداً عند غيره ... فنفّقه لما غدا من تجاره إليك تقي الدين أهديت غادة ... يغار عليها يعرب من نزاره من البيض يحدوها الرواة كما حدت ... رعود الغوادي مثقلات عشاره وخير من المال الثناء فإنه ... يخلّد ذكر المرء بعد بواره فهنئت من شعبان ليلة نصفه ... ونلت المنى في ليله ونهاره ولا زلت في عز وسعد ونعمة ... ومجد منا والشمس دون نهاره وقال أيضاً يمدح والدي رحمهما الله تعالى: أفدى بالنفس وإن حلت وبالنشب ... وإن أرب حفاها ربة النشب ذهلية أذهلت من بات يعذلني ... فيها فأصبح معذولاً أخا حرب ريا الخلاخل والزنار في ظمأ ... والقلب أخرس والقرطان في صخب خود إذا ما بدت والشمس واجبة ... في الغرب من شرق ذاك الحي لم يجب

وإن رنت أو تثنت في غلائلها ... تظل تهتز بالقضبان والقصب يستثبت الطرف منها وهو مثبتها ... خالاً محباً بلا خال ولا ندب تلبست رقة الأخلاق من حضر ... حتى أنالت ونالت فطنة العرب فكم تقطعت أرضاً في محبتها ... وكم قطعت بها في اللهو من إرب وكم ترشفت راحاً من عوارضها ... تفوق طيباً وريحاً خمرة العنب والرفق لو لم تكن منها معنفة ... لما استدار بها ثغر من الجنب لولا عذاب تجنيها وبهجتها ... والويل لم تعذب الدنيا ولم تطب ومهمه طامس الأعلام كنت له ... تحت الدجى علماً بالرسم والنجب خرق إذا الحرف ناجى فيه صاحبه ... وهو المجرب للأهوال لم يجب وجاوزته بأمون جسرة أخذت ... لها أماناً من الإعياء والنصب كأنها صعلة شامت سنا بارق ... فبادرته إلى بيض لدى كثب أو ناشط راعه رام بأسهمه ... ففاتها هرباً والغضف في الطلب أو أحقب رام أن يشأى القطا غاشياً ... للورد فهو من التعداء في لهب تلك التي اتخذت عندي يداً حرمت ... بها فجلت على التصدير والحقب وأوردتني بأمالي على ظمأ ... مني بحار تقي الدين ذي الرتب

ذخر البرية من بدو ومن حضر ... فخر الأئمة من عجم ومن عرب غدا لكسب العلى والعلم في تعب ... وراحة النفس في العلياء والتعب نصر الحديث إذا غضت مجالسه ... تخاله ناظراً في أوجه الكتب مشنفاً صدف الأسماع مقوله ... بجوهر من بحار الكفر منتخب موقر حفة الأجفان من حزن ... ومستحف ونور القوم من طرب فالناس ما بين سائل ومستمع ... ومستعيد وأواب ومنتخب مجالس هي ريحان الجليس وقد ... يحوي عقود الآلئ غير مجتلب بل الرياض بكاها القطر فابتسمت ... ثغور نوارها من أعين السحب بل البحار طغاً تيارها وطما ... علمها فغرقت الألباب بالجذب محمد أنت قطب الناس قاطبة ... ولست من ذاك في شك ولا ريب شأوت عمراً وعمراً وابن أحمد في ... علم الحديث وفي التفسير والأدب وقد تلوت أبا يعلى وحسبك ذا ... ود غفلاً في ضروب الفقه والنسب وقد قسّاً وقيساً والكميت وإذا ... في حلبة الرأي والأشعار والخطب وطلت بالعلم كعباً والنوال لنا ... كعباً وبالحلم قيساً ساعة الغضب وأنت في العصر تاريخاً كأنك قد ... شاهدت ما تم في الإعصار والحقب وقد حويت علوماً ما لو تحملها ... متالع لجثا منها على الركب لله أنت فكم أدنيت من أمل ... نأى المحل وكم فرّجت من كرب

وأنّستني أياد منك واضحة ... وقد هويت بأنياب من النوب وصنت ماء مديحي أن يكدره ... بالحوض فيه وضيع غير متئب إذا رأى سائلاً سالت حشاشته ... كأنه نطفة في ناظر كلب أو جانحاً نحوه يرجو مساعفة ... بالجاه ضم جناحيه من الرهب أو وارداً جوض علم بات يجهله ... يضن منه بماء منتن القلب مولاي قد زاد بادي جودكم رحب ... شوقاً فبورك من زور ومن رحب مبشرأ لك بالعمر الطويل كما ... تهوي وإدراك ما تبغيه من طلب وإن سعيك سعي قد نجوت به ... وقد تقبل ما قربت من قرب مولاي لا تنكرن تركي زيارتكم ... مع الدنو وكوني غير مقترب فإن إقدام جدواكم علي وقد ... أوهي قوي الشكر يدعوني إلى الهرب أين الذهاب عن اليم الخضم ولا ... يزال يتحفني بالجاه والذهب ها أنت أترك فرضاً من مدائحه ... وقد أمنت من التأنيب والكذب فدونك اليوم أعرابية نصفاً ... أزرت محاسنها بالخرد والعرب نيطت صفاتك في لبانها درراً ... أربت على الدر بل أربت على الشهب بالحفظ تصبح في الآفاق شاردة ... كذا إذالتها بالصون في الحجب وقال يصف بعلبك ويعرض يذكر السلطان الملك الأشرف بن الملك العادل رحمه الله يقول: إذا ما رمت إدراك الأمان ... وأحببت النجاة من الزمان

فلذ من بعلبك ربع أنس ... تجد فيه حياتك في جنان ولا شيء عنان النفس يوماً ... إلى غير المثالب والمثان ونل مما تحب مناك منها ... وأنت من الحوادث في أمان وقبل بالغداة خدود ورد ... علاها الدمع من عين القيان أذلت الظل حاذر كف جان ... تساقط عنه ظناً بالجمان وصن بنت الكروم إذا أذليت ... مشامشها وصبت في الصوان وشاهد شهدها الممزوج منها ... بذوب الثلج من تلك الرعان وزر منها البقاع تجد بقاعاً ... تروق لناظر وتشوق جاني وزد تلك الضياع ترى ضياعاً ... مقامك في سواها من جنان وسق أخاك من روض السواقي ... قبيل الصبح من قان القناني وعاين فيه نرجسه عيوناً ... تفض لحسنها مقل الحسان ولذ بالذلهمية إن كلاها ... تكامل وأدلهم بلا تواني تجد روضاً وسنديد السواري ... فأصبح دونه البرد اليماني وراجع بعلبك فكل ناء ... عن الأوطان منها اليوم داني فقد أضحت بموسي في فخار ... ببهجته أنار النيران فدامت في سعود من علاها ... مقيم ما أقام الفرقدان وقال أيضاً في المعنى: حي من أرض بعلبك ربوعاً ... لسوام السرور أضحت ربيعا

وتعمد ما اللجوج فقلبي ... لم يزل نحوه لجوجاً نزوعا لا تجاوز يا صاح جوزة بكا ... ر إذا كنت للنصيح سميعا وانتجع قهوة إذا قبلوها ... شربت من طلا الكؤوس نجيعا ومزج التبر باللجين صبوحا ... وغبوقاً فقد أذنباً جميعا وأرت تلك الربا ودس جبهة الع ... ين تجد نزهة ومرأى بديعا ثم قبل عند الجواهر عيناً ... لصفا مائها تظن دموعا باسقاً صيت الجنادب حيا ... ني إذا ما سقى هناك الزروعا وكأن الربا لزي بساط ... مدفن فوقه الشقيق نطوعا فاقطفا الشهد من بطون جفان ... من قطوف تخالهن ضروعا واسقياني في السقي شمس الحميا ... بيد البدر لا يغب طلوعا في جنان من الجنان من ال ... هم فما روعه هناك مروعا فأسمعنا بمثلها من جنان ... في مكان ولا رأينا ربوعا وتوقع للصيد والصوت فيها ... صادحات على الغصون وقوعا وأبركاً في رياض بركة عرو ... س تحلي ربعاً حصيناً مريعا وانظر الطير فيه كيف تهادى ... صادرات طوراً وطوراً شروعا جاريات في موجها كالجواري ... رافعات من الرقاب قلوعا صوته كاليراع طيباً وقد أق ... لع مثل السحاب حين أريعا وهلال من القسي رآه ... وبدر تم فانقض يهوى صريعا

وتأمل منها ذوائب لسنا ... ن أصيلاً ترى لهن لموعا جبل خاسر كأن عليه ... من بياض الثلوج ذرعاً منيعا يا لها بلدة بموسى استطالت ... فاستكانت لها البلاد خضوعا فابن أيوب كابن يعقوب فينا ... صدر هذا جوراً وذلك جوعا فترانا إذا سمعنا مثاني ... ذكره سجداً له وركوعا قد بسطنا إلى تناهي الأيادي ... وطوينا على هواه الضلوعا وقال رحمه الله في المعنى: لبلدة بعلبك على وفخر ... بناه لها على تلك المباني أكب بقرها شوقاً إليها ... وقد منع الوصال اللولبان كأنهما بأرض نير فيها ... على مر الليالي كوكبان فلا يتفرقان لطول مكث ... وهل يتفرقان الفرقدان ولما أصبحا فرسي رهان ... هوت كف العنان عن العنان عدت بكراً حصاناً لم ينلها ... محب البيض بالسمر اللدان ولما عز جانبها دلالاً ... وإدلالاً لثبته في الحسان تملكها وواصلها اقتساراً ... مليك كل ناء منه دان فأضحت بعلبك كطور موسى ... فلا برحاً على مر الزمان وله أشعار كثيرة، وتوفي وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.

؟ علي بن الأنجب أبو الحسن تاج الدين البغدادي، المعروف بابن الساعي المؤرخ، خازن كتب المستنصرية المدرسة المشهورة ببغداد. كان فاضلاً، وله تاريخ متأخر لم يزل يجمع فيه إلى أن مات. وكانت وفاته في العشر الآخر من شهر رمضان ببغداد. ودغن في الشونيزي بالجانب الغربي، وقد نيف على ثمانين سنة رحمه الله تعالى. علي بن عبد الرحمن بن علي بن إسحاق بن علي بن شيث القرشي الأموي أبو الحسن علاء الدين. مان أسن من أخيه كمال الدين المذكور في هذه السنة؛ وكان قد استوطن في آخر عمره أعمال الديار المصرية، فأقام بأسنا. ومولده بالقدس سنة إحدى وست مائة، وتوفي في السادس والعشرين من شهر رجب بالقاهرة، ودفن من يومه بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن علي بن محمد أبو الحسين موفق الدين المذحجي الآمدي. كان من صدور الأعيان للوزارة المتأهلين لها، عنده الخيرة التامة بالكتابة والتصرف مع العفة المفرطة والأمانة العظيمة والصيانة؛ وولي نظر الأعمال الكبار ثم رتب في آخر عمره ناظر الكرك والشوبك واعمالها وما جمع إليها لعظيم عناية الملك الظاهر بالكرك، فباشر ذلك مكرها، واستمر إلى أن أدركته منيته بالكرك في ثامن عشر ذي الحجة، ودفن قريباً من مشهد جعفر الطيار - رضي الله عنه. ومولده في ثامن شعبان سنة تسع وثمانين وخمس مائة - رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن نصر الله أبو الحسن علاء الدين الحلبي. كان من

خواص الملك الظاهر صلاح الدين يوسف بن محمد - رحمه الله - وذوي المكانة عنده والوجاهة في دولته. فلما نقضت الأيام الناصرية - سقى الله عهدها - استوطن المذكور حماة، فأقبل عليه صاحبها الملك النصور ناصر الدين محمد - رحمه الله - واستوزره، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي الى رحمة الله تعالى بحماة في صفر هذه السنة. ومولده سنة ثماني عشرة وست مائة بحلب. وكان والده منتجب الدين من أعيان الحلبيين - رحمه الله تعالى. حكى علاء الدين المذكور أن الملك الناصر - رحمه الله - كان يكره الجبن ورائحته ولا يمكن من إحضار شيء منه في سماطه، وكنت أنا وأخي صفي الدين نشتهي أن نأكل منه، فقلت يوماً للجاشنكير: أحضر لي قطعة جبن خفية من السلطان فقد تاقت نفسي إلى ذلك. فأحضر منه شيئاً فجعلته تحت الخوان؛ فشمّ السلطان رائحته فغضب وقال: كم أنهاكم عن أكل الجبن وانتم تخالفوني. فقلت له: يا خوند! الله سبحانه وتعالى نهانا عن أشياء وأمرتنا أنت بها فأطعناك وعصينا الله تعالى فإذا عصيناك في هذا الشيء الواحد أي شيء يكون؟ فضحك وسكت. وكان علاء الدين المذكور مشهوراً بالمروءة والعصبية وقضاء حوائج الناس والسعي في مصالحهم - رحمه الله. قال في مملوك له ملكني بالعينين وملكته بالعين. مبارك بن حامد بن أبي الفرج المنعوت بالتقى الحداد. كان من كبار الشعة المتغالين في مذهبه عارفاً به، وله صيت في الحلة والكوفة وتلك الأماكن، وعنده دين وأمانة وصدق لهجة وحسن معاملة. وكانت وفاته ببعلبك يوم الأحد ثامن عشر ذي القعدة، وهو في العشر السبعين -

رحمه الله. ورثاه جمال الدين محمد بن يحيى الغساني الحمصي بقوله: لو أن البكا يجدي على أثر هالك ... بكينا على الدهر التقي المبارك بكينا على من كان في الحلة بيته ... مناخ ذوي الحاجات مأوى الصعالك بكينا على من فيه للبذل للقرى ... فريداً وحيداً ما له من مشارك جواداً إذا ما الغيث ضن فلم يجد ... روى جنوده بالوابل المتدارك يؤمّ بها كل الكرام ويهتدي ... بحيث اهتدات أم النجوم الشوابك تقيّ تقيّ لا محل ديانة ... بفرض ونفل من جميع المناسك بريء وذاك المصطفى خير متجر ... وان صدّ عنه بالظبى والنيازك وقد كان أحيى من فتاة حيية ... وأفتك في الهيجاء من كل فاتك ستبكيه أبناء الفواطم سادة ... ألا ناصر إذا افتروا لعواتك وتبكيه عدنان تميم وقيسها ... وطيء وحيا مذحج والكاسك وإن غاب عنا وجها الطلق عندنا ... لندعوه في جنح من الليل حالك وإن لم يزره المؤمنون فإنه ... تعوض واستغنى بزور الملائك ولو انه مما يردّ بقوة ... رددناه بالبيض الرقاق البواتك ولكنه الموت الذي فيه يستوي ... فقير ومسكين برب الممالك ولسنا نبكّيه وقد فارق العنا ... وراحت به التقوى الى ما هنالك فراحت إلى رضوان في عدن روحه ... وروح معاديه إلى عند مالك ويدلّ من حمّى الحديد وضربه ... بولدانها والحور فوق الأرائك

وممتحن لم يثنه عن ولاية ... مخوف وعيد بالردى والمهالك رأى الهون فيما ناله الآن هيّناً ... فجاد ببذل النفس منه لسافك فلا الخلق لما فارقوا الحق والهدى ... وفارق منهم كل غاو وآفق وعاف البقا في دار دنيا دنيّة ... وحلّ قصوراً مهدت بدرانك وماذا اغترار العارفين بمومس ... مخادعة مشهورة الغدر فارك تعزّ بعيش برقه برق خلّب ... وعمر قصير ذي زوال مواشك وقد قرّبت أفراحها وغمومها ... بكاء بواكيها بضحك الضواحك محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلّد الأنصاري أبو عبد الله عماد الدين ويسمى عبد العزيز أيضاً، أخوه قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ لأبيه. كان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في مذهب الشافعي متصلقاً في فنون الأدب والعروض والحساب والجر والمقابلة وقسمة الأراضي، لم يكن في زمانه مثله في مجموعه، وكان صدراً كثير الخير عليه سكون ووقار إذا تكلم يحفظه صوته. وكان احد تلامذة الشيخ محيي الدين ابن العربي - قدس الله روحه ورضي عنه - لازمه دهراً طويلاً، وأخذ عنه وكتب من تصانيفه الفتوحات المكية ووقفها على المسلمين وكتب غير ذلك من تصانيفه، وكان يفهم كلامه ويعرف إرشادات الشيخ ورموزه بتوقيف منه على ذلك. درّس مدة بالمدرسة العذراوية وأفاد الطلبة إلى حين وفاته، وبشر ديوان الخزانة أيضاً. سمع من أبي عبد الله الحسين بن الزبيدي

وأبي المنجا بن اللتى وأبي عبد الله محمد بن غسان الأنصاري وغيرهم، وحدّث بصحيح البخاري وغيره، وسمع أيضاً من مكرم وابن صباح وسمع من خلق كثير. وكانت وفاته يوم السبت ثامن رجب هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون. ودرّس بالعذراوية أخوه قاضي القضاة عز الدين أبو المفاخر ولم يزل بها إلى أن مات - رحمهم الله تعالى. محمد بن عبد الله بن أبي أسامة مفيد الدين بن الشيخ جمال الدين أبي صالح المعروف بابن الأحواضي، كان مفنناً ذا علوم كثيرة والغالب عليه المنطق والحكمة والفلسفة والميل إلى مذهبهم؛ توفي بقرية حراجل من جبل الحردبين ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى ولم يبلغ أربعين سنة. ووالده شيخ الشيعة والمقتدى به عندهم والمشار إليه في مذهبهم وسيأتي ذكره - إن شاء الله. محمد بن عبيد الله بن حزيل أبو عبد الله بهاء الدين، كان صدراً كبيراً عالماً فاضلاً رئيساً، توفي في هذه السنة بالقاهرة. ودفن بالقرافة الصغرى وهو في عشر الستين - رحمه الله تعالى. أخبرني بذلك صاحبنا تاج الدين عبد الله وهو ابن أخيه، ومن شعر بهاء الدين المذكور قوله: إنما أشكو إلى الخلق هواناً ومذلّة ... فاترك الخلق واترك كل ما تارك الله

وقال: قالوا الحمام سيأتي هجماً عليك مصابه فقلت أهلاً وسهلاً إن حاز اقترابه ... ما كان لا بدّ منه يهون عندي صعابه الموت للناس حتم وذاك في الخلق دأبه ... لي خالق بي رؤوف للجود يقصد بابه العفو منه يرجى جواداً ويخشى عقابه ... ولست أكره أني ألقاه لكن إهابه وله مما يكتب في حياصة: لقد غار مني العاشقون وأظهروا ... قلائي فلا نال الوصال غيور ومن ذا الذي أضحى له كعلائقي ... لديه ولكنّ النفوس غرور وقد ضاع مني خصره فوق ردفه ... فلا عجب أني عليه أدور وله في المعنى في حياصة ذهب: غار المحبون مني ... إذ درت حول نطاقه ونلت ما لم ينالوا ... من ضمه واعتناقه ما اصفرّ لوني إلا ... مخافة من فراقه وله في جواب كتاب: أهلاً وسهلاً بكتاب غدا ... كالروض جادته سماء السماح وافى فمن فرط سروري به ... بات نديماً لي حتى الصباح تمزج فيه بالعتاب الرضا ... وانما تمزج راحا براح وله كتب بها إلى بعض أصحابه بالحجاز الشريف: يا راحلاً قد كدت أقضي بعده ... أسفاً وأحشائي عليه تقطّع

شطّ المزار فما القلوب سواكن ... لكنّ دمع العين بعدك ينبع وقال وقد اشتد به المرض: لا يجد همّي ولا حزني ... أم مفقود لها وله ما بقاء الروح في جسدي ... غير تعذيب لها وله وقال أيضاً: يا بديع الجمال رقّ لمن ... ستر هواك عليك مهتوك دموعه في هواك جارية ... وقلبه في يدك مملوك وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ولقد شكوت لملتقى ... حالي ولطفت العباره فكأنني أشكو إلى ... حجر وإن من الحجارة وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: وبي رشأ مصون في الفؤاد له ... ودّ فما أحد في الناس يشركه مهابه في قلوب العاشقين له ... فكم دم منهم باللحظ يسفكه يا من يروم وصالاً منه مت كمداً ... إن الوصال إليه عنه مسلكه يا عاذلاً قد لحاني في محبته ... إليك عني فإني لست أتركه وليس يقبلني إلا تعففه ... مع الأنام ولي وحدي تهتّكه وهذا صدق قول بعضهم في مبذول: وليس يقبلني إلا تهتكه ... مع الأنام ولا وحدي تعففه ولزين الدين المذكور في شبابة: وناحلة صفراء تنطق عن هوى ... فتعرب عما في الضمير وتخبر

يراها الهوى والوجد حتى أعادها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر ومما انقل من خطه على ديوان عز الدين أحمد بن معقل: لسيدنا الحبر الإمام ابن مقبل ... قصائد شعر كالقلائد في النحر هو البحر في جود وعلم نائل ... ولا عجب للبحر يقذف بالدرّ هي الروضة الغناء يمهقها الحيا ... وأنبت في أرجائها يانع الزهر عرائس أبكار المعاني يلفظه ... على الطرس يحلى منه في حبر الحبر فما عقد السحر الحرام كنظمه ... ولم يحكه حسناً عقود على السحر وله وقد أنشد: قالوا تسلّ بغيره عن حبه ... يسليك عنك قلت لا وحياته من أين لي وجه يكون كوجهه ... حسناً ومن أوصافه كصفاته الحسن أجمع في حبيبي إنه ... أضحى يتيه على الوجود بذاته يا غائباً عن ناظري وخياله ... أبداً يراه القلب في مرآته عطفاً على دنف أجلّ مراده ... إن كنت تقبله على علاته إن لم تجد بالوصل منك له فقد ... عاجلته بالموت قبل مماته محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن جعفر بن عمارة بن عيسى بن علي بن عمارة أبو الثناء تاج الدين التميمي الصرخدي الحنفي. مولده سنة ثمان وسبعين وخمس مائة بصرخد، وتوفي ليلة الجمعة السادس

والعشرين من ربيع الآخر بدمشق بالمدرسة النورية، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر عند قبر شيخه جمال الدين الحصيري - رحمه الله تعالى. وكان تاج الدين المذكور من الصلحاء العلماء الفضلاء، لين الجانب، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير التواضع، قنوعاً من الدنيا بقدر الكفاية، معرضاً عن التكثر مع تمكنه من ذلك وقدرته عليه؛ وكانت له وجاهة عظيمة عنند الملوك والأمراء والوزراء والأكابر والقبول العظيم من الخاص والعام. وله اليد الطولى في النظم، فمن شعره: حدث فقد حدثتنا دوحة السلم ... عنهم فما أنت في قول بمتّهم أخيّموا بالكثيب الفرد أم نزلوا ... منابت الرمل بالوعساء من إضم هل حدثوك فأضحى الدرّ من صدف ... الثغور ما بين منثور ومنتظم أضحى النسيم عليلاً ما به رمق ... لما رموه من الجفان بالسقم أهوى حديث قديم العهد إن نطقت ... به المعاهد عن أحبابنا القدم ويزدهيني وميض البرق في سدف ... من الظلام بحالي ثغر مبتسم بأمور ذا اللهو من أجزاع كاظمة ... نحن العطاش إلى سلسالك الشبم أعابد فيك ما قضيت من وطر ... مع الظباء ولو في طارق الحلم أفدى أناساً لووا عهد اللوى ونأوا ... عني وما حلت عن عهدي ولا ذمم أحبة كلما اشتاق عن ادّكارهم ... تبدل الدمع من تذكارهم بدم وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: إن كان قصدي غيركم يا سادتي ... لا نلت منكم بغيتي وإرادتي

من ذا الذي حاز الجمال سواكم ... فأحبه وتقوم فيه قيامتي والله لا أنسى محبته سادة ... إحسانهم تمحو قبيح إساءتي وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: لقديم وجدي في هواك حديث ... تفنى به الأيام وهو حديث ولطيب ذكرك في فؤادي خطرة ... ميت الغرام بنشرها مبعوث أضحى الغرام يزيد وهو كمدمعي ... جار إلى جاري العيون حثيث ولقد بكيت على زمان المنحنى ... أسفاً فدمعي للديار غيوث يا أيها الصب الذي أجفانه ... وحش وأحداق العيون حثيث بالله يا ميثاق سلع ضائع ... عندي ولا عهد الحمى منكوث يثنيك عني مثل ودّ ماذق ... ويعوف طرفك إن أراد يغوث ببلية صليت في شرع الهوى ... ما لي عليها في الأنام مغيث حدق وأجفان سبت بسوادها ... قلبي وفرع كالظلام أثيث لولا ابتسام الثغر ريع هذه ... هذا لكن أضلني التثليث وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: قسماً بتعريف الحجيج وليلة ال ... مسعىوأيام الحطيم وزمزم والرمي والجمرات والتشريق وال ... بيت العتيق وكل أشعث محرم وسعى إخوان الصفاء على الصفا ... وبما أريق على المحصب من دم

لأحلت عن حييكم وبحبكم ... يلقى الإله حشاشتي بل أعظمي هذا وقلبي ما غدا من حبكم ... صفراً ولا حبي لكم بمحرم وإذا ذكرتكم غنيت بذكركم ... عن مشرب طول الزمان ومطعم وإذا ابتسام البرق حرّك ساكنا ... في القلب حرّكتم بكل تبسم لكم تعطرت الخمائل الربا ... بنسيمكم وحياتكم بمتيّم فلأشكرن يد النسيم وواجب ... بين الورى تكرار شكر المنعم علقت بروحي أو وقد علقتكم ... قلبي فمجموعي بكم وتقسمي إن جنكم صب فليس بمدنف ... أو حازكم قلب فليس بمغرم وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: لا تقولوا سلا المحب هوانا ... لا ولو ذقت في هواكم هوانا أنا صبّ أرى المذلة عزاً ... في رضاكم وذنبكم غفرانا لست أسلوكم وحاشى هواكم ... أن يرى فيه عاشق سلوانا أيها المعرضون ردوا على المش ... تاق قلباً عذبتموه زمانا أفردوا الرقاد ثم مرّوا الطي ... ف مراراً لعله يغشانا أين أيامنا ونحن وأنتم ... قد غدونا على الحمى جيرانا تسرح العين فيكم فيرى النا ... ظر في كل نظرة بستانا لا ولا ذقت وصلكم إن تطلّب ... ت خروجاً عن حبكم وأمانا قال أيضاً - رحمه الله تعالى: قضى ولم يقض من أهل الحمى إرباً ... صبّ متى شام برق الأبرقين صبا

لاحت له في الدجى نار على علم ... وهناً فآنس منها قلبه لهبا فحنّ وجدا إلى الوادي نزلوا ... به وبات بتلك النار مكتئبا يهيجه نشر رند في النسيم على ... بعد ويصبو إذا برق الحمى وجبا ويسأل البرق من نجد إعادة أيامه البيض والعيش الذي ذهبا هيهات يا سرحة الوادي بشعبهم ... للشمل فيك التئام بعد ما انشعبا وقال - رحمه الله تعالى -: رعى الله ليلاً زارني في دجائه ... رشيق التثني مسرف في جماله فمزق جلباب الدجى صبح وجهه ... وضوّع جمر الخد غنبر خاله وبتّ ولي من ريقه العذب قرقف ... معتقة ممزوجة بدلاله مضى وانقضى ذاك الوصول كأنما ... منام رأته العين طيف وصاله لقد صدّ حتى لو تمنيت طيفه ... يضنّ على ضعفي بطيف خياله واتبعه هجراً يرى الوصل عنده ... حراماً فوصلي لا يمرّ بباله وما زال يوليني الصدود تدللاً ... فوا حرباً من صده ودلاله وقال أيضاً - رحمه الله: أنتم لأجسامنا الأرواح والمهج ... وللنواظر فيكم منظر بهج أنتم لنا الحجة العظمى إذا انقطعت ... بنا الأدلة يوم البعث والحجج لا نرتجي غيركم في كل نائبة ... إذا ذكرناكم بالذكر ينفرج وما سلكنا إليكم في الدجى بهجاً ... إلا وأشرق نوراً منكم البهج لنا الهداية منكم لا نضلّ ولا ... نخشى الضلال وأنتم للورى سرج

لولاكم ما اغتدت منا القلوب هوا ... ء يتيه في نشر رياه وينبهج منكم رأينا طريق الحق واضحة ... لا زيغ فيها ولا أمت ولا عوج ففي القلوب لنا من ذكركم طرب ... وفي النسيم لنا من نشركم أرج وفيكم نزه الأبصار ما نظرت ... إلا وعنّ لها من حسنكم فرج وحبكم مذهب لولاه ما رفعت ... عنا المشقة والتكليف والحرج وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: سقى الله أيام الحمى ما يسرها ... وخصك يا عصر الشبيبة بالرضا فعنك عرفت النفس غضّاً مطاوعاً ... ولكنه لما انقضى عصرك انقضا فلولاك لم يسفح على السفح عبرة ... لعيني ولا صدّ السرور وأعرضا ولا نلت برقاً بالثنية لامعاً ... ولا غاص دمع العين من قبقبة الأضا ولا ترف الدمع المصون كآبة ... عليك لما أدى حقوقا ولا قضى وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: سلام على الدار التي قد تباعدت ... ودمعي بها طول الزمان سفوح خليلي ما لي لا أرى بأن حاجر ... يلوح ولا نشر الأراك يفوح يعز علينا أن تشط بنا النوى ... ولي عندكم قلب يذوب وروح إذا نفحت من جانب الرمل نفحة ... وفيها غزار للغوير وشيح وضاعت رياض الحزن في رونق الضحى ... وهب لنا من نحو رامة ريح تذكرتكم والدمع يستر مقلتي ... وقلبي باستياف البعاد جريح وقلت وبي من لاعج الشوق زفرة ... ولوعة وجد تغتدي فتروح ألا هل يعيد الله أيامنا التي ... نعمنا بها والحادثات تروح

وقال أيضاً رحمه الله: قلبي بتذكار الأحبة مولع ... حيران من ألم الفراق مولع كيف التصبر بعد فرقة سادة ... فارقتهم والقلب مني موجع يا صاح لو أبصرتني لرثيت لي ... والقلب عند فراقهم يتقطع وأنا أنادي والمدامع هطل ... يا رب قل تصبري ما أصنع وقال أيضاً رحمه الله: يا حادي العيس مر بي حيث ما ساروا ... أذابني لهم شوق وتذكار ساروا وقلبي على جمر الغضا تركوا ... وكيف يصبر من في قلبه نار تلك البدور سروا تحت الظلام دجى ... فهتكت تحت ذاك الستر أستار دعني أمزق أسرار الحياء بهم ... فما عليّ إذا مزقتهم عار وقال أيضاً رحمه الله: ما نلت من حب من كلفت به ... إلا غراماً عليه أو ولها ومحنتي في هواه دائرة ... آخرها ما يزال أولها وقال أيضاً: أنشدها للشيخ شمس الدين الستي الواعظ البغدادي بجامع دمشق في الأيام المعظمية وكان يجلس يوم الثلاثاء: أيها العالم الذي ورثته ال ... علم جداً أجداده ميراثا والذي إن أتى بوعد وعهد ... كان لا مخلفاً ولا نكاثا كل يوم نراك بحراً خضيماً ... نغرف الدر منه يوم الثلاثا

قسم الدهر للتفحص في ال ... علم والنسك والندى أثلاثا نام طرف الخليل ليلاً فنودي ... هب فاذبح مطهماً دلهاثا والبشير النذير نام وما كا ... ن يذوق المنام إلا حثاثا فأتاه آت فناداه قم فار ... كب متن البراق وامض مغاثا واسر حتى ترى مقاماً كريماً ... تعجز سيرك البروق الحثاثا أي فرق بين المنامين بين ... ما تراه بين البرية عاثا ؟ محمود بن عبيد الله بن أحمد أبو المجاهد ظهير الدين الزنجاني الصوفي الفقيه الشافعي، كان من أعيان الصوفية وأكابرهم وعنده فضيلة، ويفتي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله؛ وكان إمام المدرسة التقوية بدمشق وأكثر نهاره بها، وفي الليل يبيت بالخانكاة الشميساطية. سمع الكثير وحدث واشتغل عليه جماعة، صحب الشيخ شهاب الدين السهروردي وسمع عليه عوارف المعارف وغير ذلك، وحدث به وصنف تصانيف مفيدة، منها الرسالة المنقذة من الجمر في إلحاق الأنبذة بالخمر. وقال أيضاً رحمه الله: توفي بدمشق وقد نيف على السبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. وكان والده ركن الدين عبيد الله قاضي زنجان من الفضلاء. ومن شعر ظهير الدين رحمه الله: إلهي! ذنوبي والخطايا كثيرة ... فأنت الذي تعفو وتمحو الكبائرا متاعي من الطاعات والبر بائر ... فأنت الذي يسري وأشرك مآثرا

وإن كنت تصلي النار نفسي بنورها ... وويل على النفس التي كنت بائرا وقال أيضاً رحمه الله: قد قال لي العين أعين الشيطان ... في الخلوة لم سكنت بين الاخوان أشكر فرحاً وكل ونم قلت له ... بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان مسعود بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حموية الجويني الملقب سعد الدين، هو أسن من أخيه الشيخ شرف الدين، وكان أولاً يعاني زي الخدمة، ثم لما أسن ترك ذلك الزي ولبس القيار وصار شريكاً لأخيه في مشيخة الشيوخ بدمشق، وكان عنده إطلاع على التواريخ وأيام الناس، وجمع في ذلك جموعاً مفيدة. وقال أيضاً رحمه الله: توفي بدمشق ليلة الجمعة سابع وعشرين ذي الحجة، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون؛ ومولده ليلة الأحد سادس عشر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة، وأمه عالية النسب ابنة الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري. سمع سعد الدين المذكور على الكندي المقامات وأجزاء أدبيات في سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وسمع على القاضي جمال الدين عبد الصمد بن الحرستاني مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وسمع البخاري بقراءة أبي الفضل الوليد على عبد السلام بن عبد الله بن بكران الداهري لحق سماعه من السجزي عن الداوودي عن

السرخسي عن الفربري عن البخاري، وأجازه جماعة، منهم الشيخ يحيى بن عقيل بن شريف السعدي، ومجد الدين عمر بن دحية والشيخ محمود بن عبد الله الحاري وغيرهم وحدث. وله نظم لا بأس به فمنه - وقد رأى مملوكاً حسن المنظر في يده كلب صيد: رأيت في الصحراء ظبياً غدا ... مرتعه لب قلوب الرجال في يده كلب أسير له ... وعادة الكلب يصيد الغزال وله أيضاً في الزهر: رأيت أزاهير الرياض وقد حكت ... بياض مشيب المرء حين علاها وقد ثملت أغصانها فهي تنثني ... وجاد عليها المزن ثم سقاها ومن عجب أن يهرم الشيب دائماً ... وهذا مشيب الدوح بدر صباها وله يتشوق إلى دمشق يمدح الملك المظفر صاحب ميافارقين: غرامي إلى الأحباب ليس يحول ... وفرط اشتياق نحوهن طويل أحن إلى ماذي دمشق ودوحها ... إذا رفحته بالأصائل قبول أيا راكباً بلّغ هديت تحيتيإلى من هموا على الشئام نزول وخبرهم أني حواني منزل ... بأكناف ميافارقين ظليل أرى ملكاً الذي ملوك زمانه ... يميناً وناديه أعز جميل من النفر الشم الذين سمعت بهم ... فروع إلى علياهم وأصول هو الملك غاز ليس في الناس مثله ... كريم شجاع صادق وأصيل

السنة الخامسة والسبعون وست مائة

حباني وأحياني وقرّب منزلي ... وقابلني منه سناً وقبول وما أنا والأشعار لولا صفاتكم ... تعلمني في الحال كيف أقول فلا زلت في الدنيا سعيداً مهنأ ... ولا زلت منصور اللوى وتنيل السنة الخامسة والسبعون وست مائة دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية والملك الظاهر بالشام عائداً من الكرك. متجددات الأحوال في ثالث المحرم دخل الملك الظاهر دمشق، وافق يوم دخوله إليها وفد عليه من أعيان المغل سكتاي وأخوه جاروجي واخبراه أن الأمير حسام الدين بيجار التاتيري قد قطع خرت برت وولده بهادر عازمان على الحضور. وكان سبب وصول سكتاي وأخيه أن بهادر كان متزوجاً بأختهما. وكان لهما أخ كافر فوصل إليهما ومعه جماعة من أقاربهم. وطلبوا منهما مالاً وقالوا لهما: أنتما في راحة بسكنى المدن، ونحن في التعب بملازمة البكار فأعطونا شيئاً نستعين به، وإلا أحضروا معنا إلى أبغا ليفصل بيننا؛ فشاوروا البرواناة فأشار أن يدفعا لهم ما التمسوه، فأخذوه وتوجهوا، فقال البرواناة لبهادر: ما أنا ممن يدعو علينا عند أبغا إننا باعيه فنتضرر: فلحقهم بهادر وصهراه فقتلوهم وأخذوا ما معهم.

وكانت رسل أبغا ترد على البرواناة تحثه على المصير إليه وهو يسوفهم منتظراً لعسكر الملك الظاهر. فلما يئس منه توجه إلى أبغا في حادي عشر ذي الحجة من السنة الخالية وصحبته أخت السلطان غياث الدين ليدخل بها إلى أبغا ومعه من الأموال والتحف ما لا يوصف كثرة، وتوجه خواجا على الوزير. ولما عزم على التوجه حضّ بهادر على التوجه إلى الملك الظاهر مع أبيه لأن أبغا ينقم عليه قبل من قتله من التتر. فتقدم بهادر إلى سكتاي وأخيه بالمسير إلى بين يده إلى الملك الظاهر ليعرفاه بعزمه وعزم أبيه على الوصول وتذكراه بما تقدم لبيجار من اليمن. فلما وصلا أحسن إليهما وبعث بهما إلى القاهرة ليجتمعا بولده الملك السعيد، فوصلاها يوم الجمعة ثاني عشر المحرم، فأحسن إليهما الملك السعيد وردّ بهما إلى أبيه بعد ثلاث. وفي أواخر المحرّم سيّر الملك الظاهر الأأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي ومعه ألف فارس وأمره إذا وصل حلب يستصحب عسكراً منها ويتوجه إلى بلاد الروم، وكتب على يده كتباً إلى أمراء الروم يحرضهم فيها على طاعته. وكان سبب هذه المكاتبة ان شرف الدين مسعود بن الخطير بعد سفر الرواناة في النسة الخالية إلى أبغا كتب إلى الملك الظاهر يحثّه على الوصول إلى الروم بعساكره لينظم إليه والسلطان غياث الدين ومن في بلاد الروم من العساكر، وبعث كتابه إلى سيف الدين جندر مقطع البلستين

ذكر وفود بيجار وولده بهادر

ليبعثه إلى الملك الظاهر، فدفعته إلى ولده بدر الدين أقوش وأمره أن لايبعثه فخالفه وبعثه. واما شرف الدين فداخله الندم وخاف إن هو خرج من الروم لا يعود إليه، فكتب إلى سيف الدين جندر أن لا يبعث الكتاب فاستدعى بولده وطلبه منه فأخبره أنه بعثه. ولما وصل بدر الدين الأتابكي إلى البلستين صادف من عسكر الروم جماعة منهم الأمير مبارز الدين شورى الجاشنكير، وسيف الدين جندر، وبدر الدين لؤلؤ، وبدر الدين ميكائيل، وعند وقوع نظره عليهم لم ينزل ولا من معه على ظهور الخيل بعثوا إليهم بإقامة جليلة وركبوا إليه وسالوه الإبقاء عليهم على أن يقتلوا من بالبلستين من التتر ويصيروا معه إلى باب الملك الظاهر فأجابهم، فلما وفوا بذلك قفل بهم، فوافوا الملك الظاهر بحارم فأقبل عليهم. ذكر وفود بيجار وولده بهادر لما تواترت الأخبار بقربهما تقدم إلى الأمير نور الدين نائبه بحلب بالاهتمام بالإقامة له، ثم الخروجإلى لقائه إذا شارف البلاد. ولما قارب أرض دمشق سيّر جمال الدين محمد نهار لتلقيه ووصل بيجار إلى دمشق يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، فتلقاه السلطان وبالغ في إكرامه، وأنزله في النيرب. ثم وصل ولده بهادر إلى دمشق يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر وكان تأخر بسبب جمع أمواله من البلاد، وكان مهذب الدين علي بن البرواناة نائباً عن أبيه في البلاد يومئذ. فلما بلغه رحيلهم جهز

خلفهم عسكراً من التتر وقدم عليهم نيجى فسار إلى خرت برت فلم يلحق أحداً منهم غير أنه عشر على خمس مائة فرس عربية عريقة الأنساب، كان بهادر قدمها بين يديه فضلّت عن الطريق. لما قضى الملك من الاجتماع بهما بعث بهادر إلى القاهرة مع بيسرى وخطليجا فخرجوا من دمشق يوم الخميس تاسع صفر ووصلوا يوم السبت ثالث ربيع الأول ثم بعث أباه بيجار مع شرف الدين الحاكي فوصلاها يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فخرج الملك السعيد لتلقيه واحتفل به وحمل إليه أموالاً وخلعاً. وفي الرابع والعشرين من صفر علق مشاء السلطان وكسر الخليج بكرة السبت الخامس والعشرين منه وركب الملك السعيد وباشر ذلك بنفسه وانتهت الزيادة إلى أربع عشرة إصبعاً من تسع عشرة ذراعاً. وفي الخميس تاسع صفر توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حلب، فوصل حمص ثالث عشر صفر فوافاه عليها ضياء الدين محمود بن الخطير، وسنان الدين بن الأمير سيد الدين طرنطاي بكلربيكي؛ وسبب وصولهما أن شرف الدين بن الخطير كان لما وردت كتب الملك الظاهر على امراء الروم شرع في تفريق العسكر الرومي، وأذن لهم في نهب من يجدونه من التتر وقتله وإنجاز الأمير محمد بن قرمان وإخوته واولاده بمن معه من التركمان إلى السواحل وأغاروا على من جاورهم. ثم كتب السلطان الملك الظاهر يعرفه مباينته التتر وإخراج السواحل من أيديهم، وبلغ السلطان غياث الدين ومهذب الدين ما اعتمده شرف الدين بعثاً في طلبه. فلما وصل

إليهما أمر مهذب الدين أن يحضر بجمع رسل التتر ونوابهم ومن كان من المغل ممن كان مع ينجي على أسوأ حال، فأحضروا مكشفين الرؤوس وبسطت الرعية أيديهم فيهم، وحبس من قبض عليه منهم وبعث بمهذب الدين إلى شرف الدين مسعود، وكان ظاهر المدينة ليحضر فأبى. فخرج إليه تاج الدين كيوى ثم تبعه سيف الدين طرنطاي وسبق تاج الدين. فلما اجتمع بشرف الدين عنّفه، وأغلظ له فأمر به فقتل وقتل معه سنان الدين بن أرسلان طمغش زوباشي قونية. ولما قتلهما خاف من مهذب الدين فتوجه قاصد الملك الظاهر. وذلك يوم الجمعة ثالث عشر صفر وأدركه سيف الدين طرنطاي. فلما رأى السيوف مجردة أنكر عليه فقال شرف الدين: فات ما فات فاستر عليّ بالمصلحة؛ فقال: الرأي أن أرجع إلى بيتي فرجع وتركه. ولما بلغ مهذب الدين ذلك بعث إلى سيف الدين يستدعيه فأتى فتحيّل أنه مع شرف الدين، ثم بعث شرف الدين إليه. فلما اجتمع به سأله أن يوفق بينه وبين مهذب الدين فعاد سيف الدين إلى مهذب الدين وسأله في ذلك وأجاب. وخرج السلطان غياث الدين إلى ظاهر قيسارية، فنزل بجمال طاسي في عشية النهار المذكور. فلما رآه شرف الدين وضياء الدين ومن معهما ترجّلوا وقبّلوا الأرض ونادوا في البلد بشعار الملك الظاهر. واتفقوا أن السلطان غياث الدين والعسكر يتوجهون إلى مدينة بكيدة يقيمون بها

ويبعثون قصاداً إلى الملك الظاهر يستوثقون باليمين لغياث الدين ولأنفسهم فاستأذنهم مهذب الدين في أن يدخل إلى قيصارية ليخرج أثقاله فأذنوا له، فدخل وحمل منها أثقاله وخزينته وخرج منها ليلاً وقصد دوقات؛ فلما تحققوا ذلك، بعث شرف الدين بن الخطير أخاه ضياء الدين ومعه سبعة وثلاثون نفراً من أصحابه، وبعث الأمير سيف الدين طرنطاي بكلربكي ولده سنان الدين ومعه عشرون نفراً إلى الملك الظاهر ليستوثقوا منه باليمين لغياث الدين ولأنفسهم فاستأذنهم مهذب الدين في أن يدخل قيصارية ليخرج أثقاله فأذنوا له فدخل وحمل أثقاله وخزينته وخرج منها ليلاً وسار سيف الدين وشرف الدين والسلطان غياث الدين إلى بكيدة وقدروا مع رسلهم أن يحثوا الملك على المسير إليهم بعد أن يستحلفوه على ما تقرر. فلما وصلوا إلى الملك الظاهر واجتمعوا به في حمص وأخبروه بما جرى وحثوه على المسير؛ قال: أنتم استعجلتم في الباينة فإني كنت قد عدوت معين الدين قبل توجهه إلى الأرد، وفي أواخر هذه السنة أطأ البلاد بعساكري فإنها بمصر وما يمكنني أن أدخل البلاد بمن معي الآن لقتلهم، وأما انفصال مهذب الدين إلى دوقات فنعم مافعل، فإنه كان مطلعاً على ما بيني وبين والده. ثم أنزلهم وأكرمهم وطلب ضياء الدين أن يجتمع بالسلطان خلوة،

فأجابه فلما اجتمع به قال: ليتني لم تقصد البلاد في هذا الوقت لم آمن على أخي أن يقتل ومن معه من الأمراء الذين خلفوا وغن كان لا بدّ من تصبّرك فابعث إلى بلاد من فيه قوة من عسكرك حتى يكونوا ردءاً السلطان غياث الدين ولأخي، فتمكنوا من الخروج من البلاد؛ فقال: أرى من المصلحة أن ترجعوا إلى بلادكم وتحصنوا قلاعكم ويحتموا بها على أن أرجع إلى مصر وأربع خيلي، وأعود في زمنالشتاء فإن آبار الشام في هذا الوقت قد غارت، ثم استصحبهم معه إلى حلب في العشرين من صفر؛ ولما مر بحماة استصحب صاحبها، ووصل حلب في الخامس والعشرين من صفر وجهز الأمير سيف الدين بلبان الزيني في عسكره، وبعث به إلى الروم ليحضر السلطان غياث الدين، وشرف الدين بن الخطير، وسيف الدين طرنطاي، وبقية من حلف له من الأمراء. فلما وصل كينوك - وهي الحدث المراء - وردت القصاد إليه بعود البرواناة إلى الروم في خدمة منكوتمر وإخوته في ثلاثين ألف فارس والأمراء، راجعاً إلى تتاوون، فكتب إلى الملك الظاهر يعرفه بذلك، فظن أن التتر إذا سمعوا به في عسكر قليل قصدوه؛ فرحل من حلب إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد الأمير سيف الدين. ولما ترك الملك الظاهر حمص قدم عليه رسل صاحب سيس ومعهم هدية فقبل الهدية ولم يجتمع بالرسل، وكان دخوله مصر يوم الخميس ثاني عشر ربيع الأول.

ذكر هروب شرف الدين بن الخطير

ذكر هروب شرف الدين بن الخطير قد تقدم القول بوصول البرواناة ومنكوتمر ومن معهم من العساكر إلى الروم في أوائل ربيع الآخر، فلما قدموا ظهر لهم شرف الدين المباينة وعزم ان يلقيهم فسبقه من كان معه رأيه وقالوا: كيف يلتقي بأربعة آلاف ثلاثين ألفاً، فعلم أنه مقتول لا محالة فقصد قلعة لولوة ليتحصن بها، فلم يمكنه واليها من دخولها بجماعتهبل بمفرده، فدخلها ومعه أمير علمه وكان قد أذاه من مدة تزيد على ست عشرة سنة، فقال لوالي القلعة: احتفظ بشرف الدين حتى تسلمه إلى أبغا لتكون لك عنده اليد البيضاء؛ فبض عليه وبعثه إلى البرواناة. فلما وقع نظره عليه سبه وبصق في وجهه وأمر بالاحتياط به. ذكر ما حدث ببلاد الروم عند وصول التتر إليها لما عاد البرواناة - كما قلنا - بمن معه من العساكر التترية جلس وتنادوا مقدمي العساكر وكراي وتقو والبرواناة في الإيوان مجلساً عاما. وأحضروا السلطان غياث الدين ومن رافقه على الانقياد إلى الملك الظاهر وقالوا له: ما حملك على ما فعلت من خلع طاعة أبغا وركونك إلى صاحب مصر؟ فقال: أنا صبي وما علمت الصواب، ولما رأيت أكابر دولتي قد فعلوا ذلك، خفت أن يسلموني إذا لم أوافقهم. فنهض البرواناة إلى شجاع الدين قاسا الخصى الالاء فقتله بيده. ثم أحضروا سيف الدين طرنطاي ومجد الدين أتابك، وجلال الدين المستوفى وسألوهم عن سبب إنفاذهم إلى صاحب

مصر؛ فقالوا: شرف الدين بن الخطير أمرنا بذلك، وخفنا إن لم نجبه فعل بنا كما فعل بتاج الدين. فأحضروا شرف الدين وسألوه، فقال للبرواناة: أنت حرضتني على ذلك، وذكر له المكاتبات التي كاتب بها المظفر واتفاقه معه إلى التاريخ الذي عزم شرف الدين على قصد الملك الظاهر فيه، فأنكر ما ادعاه عليه، فكتبوا ما قاله شرف الدين وانكار البرواناة؛ ثم سألوا شرف الدين عن الأمير سيف الدين طرنطاي، ومجد الدين الأتابك - ختن البرواناة - هل كانوا موافقين بذلك؟ فأنكر وقال: أنا كلفتهم وألزمتهم بإرسال الرسل إلى الملك الظاهر فأمر تتاوون بضربه بالسياط ليقر بمن كان معه. فأقر على نور الدين حجا وسيف الدين قلاوون وعلم الدين سنجر الجمدار وغيرهم. فلما تحقق البرواناة أنه يقتل بإقرار شرف الدين عليه بعث إليه يقول له: متى قتلوني لم يبقوك بعدي، فاعمل على خلاص نفسك وخلاصي بحيث متى حضرت مرة ثانية وضربت وسئلت عن الحال، فارجع عما قلت واعتذر بأن اعترافك كان من ألم الضرب؛ ففعل ما أمره البرواناة، وطولع أبغا بصورة الحال، ثم رسم أن يضرب كل يوم مائة سوط إلى ان يعود الجواب، فعاد الجواب، فأمر بقتله في آخر ربيع الآخر، فقتل وبعث برأسه إلى قونية وإحدى يديه إلى أنكورية والأخرى إلى أرزنجان،

وفرقوا أعضاءه في سائر بلاد الروم، وقتل معه سيف الدين بن قلاوون وعلم الدين سنجر الجمدار وش1 محمد قاتل شمس الدين الأصبهاني نائب الروم وجماعة كثرة من التركمان، وأثبتوا ديناً على طرنطاي ففدى نفسه بمائتي فرس وأربع مائة ألف درهم، وعلى أن يقيم بألف من المغل في زمن الشتاء، وصانع جماعة من امراء المغل حتى أبقوا عليه نفسه، ثم خرج البرواناة إلى البلاد فطافها بعسكره، وقتل من وجد في ضواحيها من المفسدين. ولما اتصل خبر شرف الدين بن الخطير بأخيه ضياء الدين وهو بالقاهرة دخل على الملك الظاهر في ثوب غيار، فسأله عن سبب ذلك فذكر له أن أخاه قتل. وكان سبب قتله أنه شهد عليه بمتابعة السلطان ومنابذة أبغا سيف الدين طرنطاي ومجد الدين الأتابك وجلال الدين المستوفي وأصحابهم، وأمر الملك الظاهربالقبض على سنان الدين موسى بن طرنطاي ونظام الدين يوسف أخي مجد الدين الأتابك والحاجي أخي جلال الدين المستوفي، وحبسهم في برج من قلعة الجبل، وحبس أتباعهم في خزانة البنود، وذلك في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى ولم يزالوا محبوساً إلى شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين، فأفرج عنهم الملك السعيد. وفي تاسع ربيع الآخر كانت وقعة بين نجم الدين أبي نمي أمير مكة وبين عز الدين جماز أمير المدينة على ساكنهما أفضل الصلاة والسلام، وسببها أن إدريس بن حسن بن قتادة صاحب الينبع اتفق هو وجماز

ذكر عرس المللك السعيد

وقصدا أبا نمي، فخرج غليهما واكتفى بهما على مر الظهران، فكسرهما وأسر إدريس وهرب جمّاز، فألحق بالمدينة، وكان مع أبي نمي مائتا فارس وثمانون راجلا، ومع إدريس وجمّاز مائتان وخمس عشرة فارساً وست مائة راجل. ذكر عرس المللك السعيد لما عاد المللك الظاهر من الشام ودخل القاهرة يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر أمر بالاهتمام بعرس ولده، فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان الأسود تحت القلعة في أحسن زيّ، وأقاموا يركبون كل يوم كذلك، ويتراكضون في الميدان خمسة أيام، وفي اليوم السادس أفرق الجيش فرقتان، وحملت كل فرقة على الأخرى، وجرى من اللعب والزينة ما لايوصف، وفي اليوم السابع خلع الملك الظاهر على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتاب وخواص الحاشية مقدار ألف وثلاثمائة خلعة، وبعث إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك، ثم في اليوم الذي يلي ذلك وهو يوم الخميس مدّ الخوان في الميدان المذكور في أربعة دهاليز. وحضر السماط من علا ومن دنا ورسل التتر ورسل الفرنج وعليهم الخلع أيضاً، وجلس السلطان يومئذ في صدر الخيمة على تخت آبنوس وعاج مصفح بالذهب مسمّر بالفضة غرم عليه ألف دينار، ولما انقضى السماط قدم الأمراء الهدايا والتحف من الخيل والسلاح والمتاع وسائر الملابس وغير ذلك، فلم يقبل السلطان لأحد، فنهم ماله

ذكر توجه الملك الظاهر إلى الروم

قيمة سوى ثوب واحد جبراً له. فلما كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ في تجهيز ما يليق بالزفاف والدخول، ولم يمكن إحدى من نساء المراء عللا الاطلاق من الدخول إلى البيوت، ودخل الملك السعيد الحمّام ثم دخل إلى بيته الذي هيىء لدخوله فيه بأهله، وحملت الجارية إليه، فدخل عليها. ولما بلغ الملك المنصور صاحب حماة ذلك توجه إلى القاهرة مهنئاً ومعه هدية سنيّة، فوصل القاهرة في ثامن عشر جمادى الأخرى، فركب الملك السعيد لتلقيه ونزل في الكبش وأقام مدة يسيرة بحيث ما استراح ثم عاد إلى بلده. ذكر توجّه الملك الظاهر إلى الروم خرج من قلعة الجبل بالقاهرة يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن رتب الأمير شمس الدين اقسقر الفارقاني نائباً عنه في خدمة الملك السعيد، وترك معه من العسكر بالديار المصرية لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس، ورحل من المنزلة يوم السبت ثاني وعشرين الشهر، وسار إلى دمشق فدخلها يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها متوجهاً إلى حلب يوم السبت العشرين منه، ودخل حلب يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وخرج منها يوم الخميس إلى حيلان، فترك بها بعض الثقل وتقدم إلى الأمير سيف الدين علي بن مجلى الناب بحلب أن يتوجه إلى الساجور؛ ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب لحفظ معابر الفرات لئلا يعبر

منها أحد من التتر قاصداً الشام، ووصل إلى نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا. فبلغ نوّاب التتر بالعراق نزولهم على الفرات. فجهزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة لكبسهم، فحشدوا وتوجهوا نحوهم، فاتصل بالأمير نور الدين الخبر، فركب إليهم والتقى بهم فكسرهم وأخذ منهم ألفاً ومائتي جمل. وركب الملك الظاهر من حيلان يوم الجمعة ثالث عشر إلى عين تاب ثم إلى دلوك ثم إلى مرج الديباج ثم إلى كينوك ثم إلى صو ومعناه النهر الأزرق، ثم رحل عنه إلى انحاء دربند فوصله يوم الثلاثاء من ذي القعدة قطعه في نصف النهار، فلما خرجت عساكره وملكت المغاور قدم المير شمس الدين سنقر الأشقر على جماعة من العسكر، وأمره بالمسير بين يديه، فوقع على كتيبة من التتر عدتهم ثلاثة آلاف فارس، مقدمهم كراي، فهزمهم وأسر منهم طائفة؛ وذلك يوم الخميس تاسع الشهر، ثم وردت الأخبار على الملك الظاهر بأن عسكر المغل والروم مع تتاوون والبرواناة على نهر جيحان. فلما صعد العسكر الجبال الشرف على صحراء البلستين فشاهد التتر قد رتبوا عساكرهم أحد عشر طلباً في كل طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الكرج طلباً واحداً، فلما رأى الجمعان حملت ميسرة التتر حملة

واحدة فصدفوا سنجقة الملك الظاهر، ودخلت منهم طائفة بينهم وشقوها، وساقت إلى الميمنة؛ فلما رآهم الملك الظاهر ردفهم بنفسه ثم لاحت منه التفاتة؛ فرأى الميسرة قد انحت عليها ميمنة التتر، فكادت أن تثقل، فأمر جماعة من حماة أصحابه بإردافها، ثم حمل، فحملت العساكر برمّتها حملة واحدة، فترجّل التتر عن خيولهم، وقاتلوا أشد قتال، فلم يغن عنهم شيئاً، وأنزل الله بأسه بهم، فقتلوا وفرّ من نجا منهم، فاعتصموا بالجبال، فقصدوا وأحاطت بهم العساكر، فترجلوا عن خيولهم وقاتلوا وقتلوا حينئذ ممن قاتلهم الأمير ضياء الدين بن الخطير، واستشهد الأمير سيف الدين قيران العلائي والأمير عز الدين أخو المجدي وسيف الدين قلعق الجاشنكير وعز الدين إيبك الشقيقي - رحمهم الله تعالى؛ وأسر من كبراء الروميين مهذب الدين بن معين الدين البرواناة، وابن بنت معين الدين، والأمير تقي الدين جبريل بن خاجا والأمير قطب الدين محمود أخو مجد الدين الأتابك، والأمير سراج الدين إسماعيل بن خاجا، والأمير سيف الدين سنقرجا الزباشي، والأمير نصرة الدين بهمن أخو تاج الدين كيوي صاحب سيواس، والأمسر كمال الدين إسماعيل عارض الجيش، والأمير حسام الدين كاول، والأمير سيف الدين الجاويش، والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التركماني، ومن مقدمي التتر على الألف والمئتين زيرك صهر أبغا، وسرطق، وحيرلد، وسركده، وتماديه. ولما أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناة، فدخل قيصرية سحر

يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة واجتمع بالسلطان غياث الدين، والصاحب فخر الدين، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفي، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، فأخبرهم بالكسرة، وأوحى إليهم أن المغل المنهزمين متى دخلوا قيصارية فتكوا بمن فيها حنقاً على المسلمين، واشار عليهم بالخروج منها. فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى دوقات، وبينها وبين قيصارية مسيرة أربعة أيام. ونظم الشعراء في هذه الواقعة عدة قصائد، فمن عقل في ذلك المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج بالشام: كذا فلتكن في الله عز العزائم ... وإلا فلا تجفو الجفون الصوارم عزائم حازتها الرياح فأصبحت ... مخلّفة تبكي عليها الغمائم سرت من حمى مصر إلى الروم فاحتوت ... عليه سورات الظبا واللهاذم بجيش تظل الأرض منه كأنها ... على سعة الأرجاء في الضيق خاتم كتائب كالبحر الخضمّ جيادها ... إذا ما تهادت موجه المتلاطم تحيط بمنصور اللواء مظفّر ... له النصر والتأييد عبد وخادم مليك يلوذ الدين من عزماته ... بركن له الفتح المبين دعائم مليك لأبكار الأقاليم نحوه ... حين كذا تهوى الكرام الكرائم فلم قطبت طوعاً وكراً جياده ... معاقل قرطاها السها والنعائم مليك له بالدين في كل ساعة ... بشائر وللكفارمنها مآتم

حلا حين أقدى الكفر منه إلى الهدى ... ثغوراً بكى الشيطان وهي بواسم إذا رام شيئاً لم يعقه لبعدها ... وشقتها عنه الأكام الطواسم فلو نازع النسرين أنزلنا له ... وذا واقع عجزاً وذا بعد حائم ولما رمى الروم المنيع بخيله ... ومن دونه سدّ من الصخر عاصم بروم عقاب الجوّ قطع عقابه ... إليه فلا تقوى عليها القوادم غدا وهو من وقع السنابك دائر ... تطاه فتستوطى ثراه المناسم ولما امتطت أعلاه أعلام جيشه ... وقد لاح فيها للفلاح علائم ترأت عيون الكافرين خلالها ... بروق سيوف صوبهن الجماجم فلم يثن عنها الطرف خوفاً وحيرةً ... ومالت على كره إليها الغلاصم وأبرزت الأرض الكمين وقد علت ... عليه طيور للحمام خوائم فأهوى إليهم كل أجرد طائر ... تطير به نحو الهياج القوائم يخوض الوغى لم تثنه اللجم راقصاً ... دلالاً ويغدو وهو في الدم عائم وسالت عليهم أرضهم بمواكب ... لها النصر طوع والزمان مسالم أدارت بهم سوراً منيعاً مشرفاً ... بسمر العوالي ما له الدهر هادم من الترك أما في المعان فإنهم ... شموس وأما في الوغى فضراغم غدا ظاهراً بالظاهر النصر فيهم ... تبيد الليالي والعدى وهو دائم

فأهووا إلى لثم الأسنة في الوغى ... كأنهم العشاق وهي المناسم وصالحت البيض الصفاح رقابهم ... وعانقت السمر القدود النواعم فكم حاكم منهم على ألف دارع ... غدا حاسراً والرمح في فيه حاكم وكم ملك منهم رأى وهو موثق ... خزائن ما تحويه وهي غنائم توسوست السمر الدقاق فأصبحت ... لها من رؤوس الدارعين تمائم فيا ملك الاسلام يامن بنصره ... على الكفر أيام الزمان مواسم بهن بفتح سار في الأرض ذكره ... سرى الغيث تحدوه الصبا والنعائم بذلت له في الله نفساً نفيسة ... فوافاك لا يثنيه عنك اللوائم ولما هزمت القوم ألقت زمامها ... إليك الحصون العاصيات العواصم ممالك حاطتها الرماح فكم سرت ... على رجل فيها الرياح النواسم تبيت ملوك الأرض وهي مناهم ... وليس بها منهم مع الشوق حالم ولولاك ما أومى إلى برق ثغرها ... لعزة مثواه من الشام شائم أقمت لها بالخيل سوراً كأنها ... أساور أضحت وهي فيها معاصم فلا زلت منصور اللواء مؤيداً ... على الكفر ما ناحت وأبكت حمائم وحضر بعد الوقعة الأمير سيف الدين جالس بن إسحاق، والأمير ظهير الدين متوج، وشرف الملك الأمير نظام الدين بن شرف بن الخطير، وولد الأمير ضياء الدين، وأخوه الأمير سيف الدين بلبان المعروف لكجكنا، والأمير سيف الدين شاهنشاه، والأمير مظفر الدين حجافي،

والأمير نصرة الدين جالش عارض ملطية. ثم جرّد الملك الظاهر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في جماعة لإدراك من فات من المغل والتوجه إلى قيصارية، وكتب معه كتاباً بتأمين أهلها وإخراج السواق والتعامل بالدراهم الظاهرية. ثم رحل بكرة السبت حادي عشر ذي القعدة قاصداً قيصرية، فمرّ في طريقه بقرية لهل الكهف ثم على قلعة سمندو؛ فنزل إليه واليها مذعناً لطاعته؛ ثم على قلعة درندا وقلعة ذالوا، فولّفعل متيهاً كذلك، ونزل ليلة الأربعاة خامس عشر الشهر بقرية قريبة من قيصرية. فلما بات بها وأصبح رتب عساكره، وخرج أهل قيصرية بجملتهم مستبشرين بلقائه، وكانوا عدوا لنزوله الخيام بوطأة تعرف بكيخسرو. فلما قرب منها ترجّل وجوه الناس على طبقاتهم، ومشوا بين يديه إلى أن وصلها. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب لصلاة الجمعة، فدخل قيصرية، ونزل دار السلطنة، وجلس على التخت، وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفية والقرّاء، وجلسوا في مراتبهم على عادة ملوك السلجوقية، فأقبل عليهم ومدّ لهم سماطاً فأكلوا وانصرفوا، ثم حضر الجمعة بالجامع، وخطب له، وحضّر بين يديه الدراهم التي ضربت باسمه، وحمل إليه ما كانت لزوجة البرواناة كرجى خاتون تركية من الأموال التي لم تستطع استصحابها حين خروجها، وماخلفه سواها ممن النتزح معها. وبعث إليه البرواناة ليهنئه بالجلوس على التخت، فكتب إليه يأمره بالوفود عليه ليوليه مكانه،

فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوماً، وكان مراده أن يصل إليه أبغا يحثه المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد، فاجتمع تتاوون وبالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرّفه مكر البرواناة في ذلك، فكان ذلك سبباً لرحيل الملك الظاهر عن قيصرية، مع ما انضاف إلى ذلك من قلة العساكر؛ فرحل يوم الاثنين، وكان يومئذ على اليزك علاء الدين إيبك الشيخي وكان قد ضربه الملك الظاهر بسبب سبقه الناس فتسحّب يومئذ إلى التتر وكان أولاد قرّمان قد رهنوا أخاهم الصغير عليّ بك بقيصرية، فخرج الملك الظاهر فأنعم عليه وسأله تواقيع وسناجق له ولإخوته، فأعطاه فتوجه نحو إخوته مقيمين بجبل لارندا إلى أرمناك إلى السواحل. ونزل الملك الظاهر بقيرلو، فورد عليه رسول من جهة البرواناة، ومعه رجل يسمى ظهير الدين الترجمان يستوقف السلطان عن الحركة، وما كانوا يعلمون أين يريد، وكان الخبر شائعاً أن الحركة إلى سيواس. فكان جواب السلطان عن الرسالة أن معين الدين وما كانت تأتيني كتبهم شرطوا شروطاً لم يفوا بها، وقد عرفت الروم وطرفه وما كان جلوسنا على التخت رغبة فيه إلا لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن شيء نريده بحول الله وقوته، ويكفينا أخذنا أمه وابنه وابن ابنته. ثم رحل ونزل خان كيقباد، وبعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر إلى الرمانة فحرقها وقتل من بها من الأرمن، وسبى حريمهم

ذكر ما اعتمد عليه الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان

لأنهم كانوا أخفوا جماعة من المغل لما اجتاز السلطان عليهم، ثم رحل وأعمل السير في جبال وأودية وخوض أنهار حنى نزل إليه ليلة السبت السادس والعشرين منه عند قرا حصار قريباً من بازار، وهو السوق الذي يجتمع إليه الناس من سائر الأقطار. ثم رحل يوم السبت فعبر بالمعركة، فرأى القتلى فسأل عن عدتهم فأخبر أن المغل خاصة ستة آلاف وسبع مائة وسبعون نفساً. فلما بلغ أفحاء دربند بعث الخزائن والدهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين الخزندار ليعبر بها الدربند، وأقام في ساقة العسكر بقية اليوم ويوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدربند، وأقام في ساقة العسكر بقية اليوم، ولما خلص منه عبر النهر الأزرق. ثم رحل فنزل قريباً من كينوك، ثم رحل وأعمل السير حتى نزل يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة قريباً من حارم فوردت عليه قاصد الأمير شمس الدين محمد بن قرمان. ولما نزل حارم ركب وارتاد منزلة يرتضيها وعيّد هناك، ووافاه جماعة من امراء التركمان المقيمين بالروم، ومعهم خلق كثير، فخلع عليهم ورحل إلى دمشق، فوصلها في سابع المحرم سنة سبع وسبعين. ذكر ما اعتمد عليه الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان قد ذكرنا أنه انجاز معه إلى السواحل منابذاً لما خلع شرف الدين بن الخطير طاعة التتر، فلما بلغه كسرة الملك الظاهر للمغل في عاشر ذي القعدة حشد وجمع وقصد آقصرا، فلم ينل منها طائلاً، فرحل عنها وقصد قونية

في ثلاثة آلاف فارس ونازلها، فغلق أهلها أبوابها في وجهه، فرفع على رأسه سناجق الملك الظاهر التي سيّرها مع أخيه علي بك من قيصرية، وبعث إليهم يعرّفهم أن الملك الظاهر كسر التتر ودخل قيصرية وملكها وخطب له فيها وضربت الدراهم باسمه وأنه من قبله، فلم يركنوا إلى قوله، فأحرق باب الفاخراني وباب سوق الخيل، ودخل قونية يوم عرفة الظهر وهو يوم الخميس، وكان النائب بها أمين الدين ميخايل فقصد من معه داره ودار غيره من الأمراء والأسواق والخانات، فنهبوها ثم إنهم ظفروا بأمين الدين، فأخرجوه ظاهر البلد وعذبوه إلى أن استأصلوا ماله، ثم قتلوه وعلّقوا رأسه داخل البلد. ولما لم يسلم أهل البلد القلعة رتب أن يلقى رجلاً شاباً عنوة في الطريق، فإذا رآه رمى نفسه عليه وقبّل رجليه. فإذا قال له الشاب: من أين تعرفني؟ يقول له: ما أنت علاء الدين كيخسرو بن السلطان عز الدين كيقباذ، أنسيت تربيتي وحملي لك على كتفي، وليكن ذلك بمشهد من العامة؟ فلما فعل ذلك ازدحم العامة عليهما، وإذ الجماعة من التركمان كانوا رؤيت معهم أنهم إذا رأوا العامة قد أحدقوا به يأخذونه من بين أيديهم ويحملونه إلى شمس الدين. فلما فعلوا ذلك أقبل عليه وضمّه إليه وعقد له لواء السلطنة وحمل السناجق على رأسه، وذلك في رابع عشر ذي الحجة. فحملت أهل قونية المحبة في آل سلجوق على المتابعة، ثم نازلوا القلعة فامتنع من فيها من تسليمها، فحاصروها حتى تقرّر بينهم الصلح على تسليمها، ويعطى

ذكر قصد أبغا الروم لأخذ النشاز

من فيها سبعون ألف درهم فدخلوها وجلّسوا علاء الدين على التخت. ثم بلغ شمس الدين بن قرمان والتركمان أن تاج الدين محمد ونصرة الدين محمود ابني الصاحب فخر الدين خواجا على أن حشدوا وقصداهم فساروا إليهما وعلاء الدين معه فالتقى بهما على اق شهر فكسرهما وقتلهما، وقتل خواجا سعد الدين يونس بن المستوفى صاحب أنطاكية، وهو خال البرواناة، وقتلوا جلال الدين خسروا بك بن شمس الدين بوتاش بكلاربكي، وأخذ رؤوسهم وعادوا إلى قونية في آخر ذي الحجة، واستمروا بها إلى أن دخلت سنة سبع وسبعين، فبلعهم أن أبغا وصل إلى مكان الوقعة، فرحلوا عن قونية وطلبوا الجبال، وكان مقامهم بقونية سبعة وثلاثون يوماً. ذكر قصد أبغا الروم لأخذ النشاز كان البرواناة لما رأى الدائرة على التتر كتب إلى أبغا يعرّفه ويستحثه على المبادرة ليدرك البلاد قبل أن يستولي عليها الملك الظاهر، ثم كان من دخوله قيصرية وخروجه إلى دوقات ما ذكرناه. فلما قضى غرضه من حفظ ما كان معه من الذخائر والأموال وترتيب أمر السلطنة، بلغه توجه أبغا طالباً بلاد الشام، فخرج غله فوافاه في الطريق، وسار معه بمن بقي من العساكر إلى ان وصل البلستين. فلما شارف المعركة ورأى القتلى بكى ثم قصد منزلة الملك الظاهر فقاسها بعصا الدبوس فعلم عدة من كان فيها من العساكر، فأنكر على البرواناة كونه لم يعرفه بجلية أمرهم، فأنكر ان يكون عنده علم منهم، وأنه ما أحس بهم غلا عند دخولهم، فلم يقبل منه هذا العذر، وحنق

عليه، وقال بحق ما قالوا: إن لك باطناً مع صاحب مصر. ثم بعث إلى عسكره إلى الشام، وكان عز الدين إيبك السنجي قد عاد في خدمته فقال: أرني مكان الميمنة والقلب والميسرةفأوقف له في كل منزلة رمحاً. فلما رأى بعد ما بين الرماح قال: ما هذا عسكر يكفيهم هذه الثلاثين ألف الذين جاؤوا معي، ثم سيّر إلى العسكر الذي توجه إلى كينوك وطلبه. ثم بلغه أن الملك الظاهر بالشام متّهم بلقائه، وكان قد نفق أكثر خيل أبغا وخيل عسكره، فرأى من نفسه الضعف فرد إلى قيصرية، وسأل أهلها: هل كان مع صاحب مصر جمال؟ فقالوا: لم يكن معه إلا خيل وبغال. فقال: هل نهب منكم شيئاً؟ قالوا: لا. فقال: كم لهم عندكم يوم؟ فقالوا: خمسة وعشرون يوماً. فقالوا: هم الآن عند جمالهم وأموالهم. ثم عزم على قتل من في قيصرية من المسلمين فاجتمع إليه القضاة والفقهاء. وقالوا: هؤلاء رعيى لا طاقة لهم بدفع عسكرهم مع الزمان في طاعة من ملكهم، فلم يقبل وأمر بقتل جماعة من أهل البلد وقاضي القضاة جلال الدين وأمر عسكره فانبسط في البلد، وقتل عالماً عظيماً من الرعية ما ينيف على مائتي ألف وقيل خمس مائة ألف من فلاح إلى عامي إلى جندي من قيصرية إلى ارزن الروم وما بينهما. وفي اوائل هذه السنة تقدم فخر الدين طغاي البحري على جماعة من الغيارة وكبس دنيسر، ونهب من بها، وقتل نحواً من ثلاثين نفراً وأسر جماعة من النصارى، وفي رجوعه حصل بين مقدمي العسكر مشاجرة على

المكاسب، ولم يظهر سوى القليل، وغضب صاحب ماردين لكونه حصلت الغارة على بلده. وفي يوم الخميس حادي عشر شوال انتهت الكسوة برسم الكعبة الشريفة وطيف بالمحمل بالقاهرة فتوجه بها الطواشي محسن مشدّ الخزانة أمير الركب. وفي سابع عشر شوال وجد إلى جانب دير البغل ظاهر مصر مكان فيه آثار محارب المسلمين فوقف عليه العدول والمهندسون، وأثبتوا أنه كان مسجداً وشرع في عمارته. وفيها: توفي إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر أبو إسحاق الحموي الكناني بالقدس الشريف وهو من أصحاب الشيخ أبي البيان - رحمه الله - أعني من المنتمين إليه. سمع من فخر الدين بن عساكر وغيره، وحدث وكان من الصلحاء الذاكرين الله كثيراً، رافقته في طريق الحجاز سنة ثلاث وسبعين وست مائة قلّ أن صادفته إلا وهو يذكر الله تعالى. ومولده يوم الاثنين منتصف رجب سنة سبع وتسعين وخمس مائة وهو والد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. وكانت وفاته يوم عيد النحر - رحمه الله - واسم شيخه نبأ بن محمد بن محفوظ بن أحمد أبو البيان القرشي

الشافعي شيخ فاضل مشهور كثير الاتباع بدمشق وغيرها. وكتب بخطه كثيراً من كتب الأدب وغيره، ولأصحابه من بعده بني في أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله - الرباط الذي ينسب إليه بدرب الحجر بدمشق سنة خمس وخسمين وخمس مائة. وكان أبو البيان يجلس بأصحابه في المسجد الكبير المعروف بمسجد درب الحجر وصنف لهم كتاب الذكر ذكر فيه نظوماً عجيبة واسجاعاً غريبة أثنى فيها على الباري سبحانه وتعالىأنواعاً من الثناء، وكان يوردها في المساجد والمشاهد ليلاً بين أصحابه وهم يكررونها بأصواتهم، وبقي بعد ذلك يفعلها أصحابه بدمشق وغيرها إلى زماننا هذا وله نظم حسن فمنه: ولما لم اجد في الوسع شيئاً ... يليق به سوى ما كان منه جعلت هديتي تمشي إليه ... وكيف أصون ما هو منه عنه وقال أيضاً - رحمه الله: أيها المغرور بالدنيا إلى كم ذا الغرور كيف يغتر بالعيش من إلى الموت يصير ثم بعد الموت عرض ... وحساب ونشور قال الشيخ أبو البيان - رحمه الله: قد صنفت في القوافق كتاباً سميته كتاب قصيدة التاج الأدبي في علم قوافي الشعر العربي، وذكرت فيه من أحكام قوافي الشعر وضروبها وعيوبها وألقابها وشواهد ذلك ما لم أظن أحداً من العلماء صنع مثله، ولا ذكر ما ذكرته فيه؛ ولله الحمد، وتكلم على مواضع

من نظمه وشرحها وبسط القول فيها، واستشهد على لفظ أصيلبمعنى مكين ثابت من قولهم فلان أصيل الرأي فقال: قال ابن صمصام الرقاش في آياي تسعة آخرها: لا يعجبنك من خطيب قوله ... حتى يكون مع البيان أصيلا شرّ البيان بيان أهوج مكثر ... في القول لا يلفى له معقولا قال: ومن زعم ان هذا الشعر للأخطل التغلبي فقد أخطأ. وفيه البيت الذي استشهدت به الأشعرية على حقيقة الكلام على ما أنشده وهو: إن من البيان من الفؤاد وإنما ... جعل السان لما يقول رسولا ورواه الأشعرية: إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا قال: والصحيح ما قدمناه لأن الآيات عندنا جميعها باسم قائلها وشاعرها محدث. قال: وليس هذا موضع الكلام على هذه المسألة، ونحن على المنهاج الأفضل وإجماع السلف الأول. توفي الشيخ أبو البيان - رحمه الله - بداره بدمشق في درب الحجر شمالي الرباط المنسوب إلى أصحابه في شهور سنة إحدى وخمسين وخمس مائة، ودفن بمقابر باب الصغير في مقبرة الصحابة - رضي الله عنهم. وقال أبو يعلى التميمي: توفي يوم الثلاثاء ثالث شهر ربيع الأول من هذه السنة المذكورة. نقلت ذلك من خط قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله تعالى. أحمد بن عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن

أبي عصرون أبو المعالي قطب الدين التميمي الشافعي، مولده بحلب في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة. سمع من ابن طبرزد وعبد الصمد الحرستاني وغيرهم، وأجاز له جماعة من شيوخ بغداد، منهم عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب، ودرس بالمدرسة الأمينية بدمشق مدة، وبالمدرسة العصرونية وقف جده. وبيته مشهور بالعلم والتقدم. وكانت وفاته بحلب يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة - رحمه الله تعالى. ايدكين بن عبد الله علاء الدين الخزندار الصالحي متولي قوص، كان عنده شجاعة وإقدام وكفاية وضبط لعلمه على اتساعه؛ وله نكايات في المجاورين له من النوبة وغيرهم. وتوفي ثالث وعشرين ذي القعدة وقد ناهز خمسين سنة من العمر، وخلف تركة طويلة جليلة المقدار. بحتر بن الخضر بن بحتر شجاع الدين، قد تقدم ذكر أخيه شهاب الدين، وكان هذا شجاع الدين حسن العشرة والمكارم، وخدم عند الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة المحروسة؛ بقي في خدمته إلى أن أدركته منيته بحماة في العشر الآخر من جمادى الأولى هذه السنة، وهو في عشر الخمسين - رحمه الله - ثم نقل إلى بعلبك، ودفن عند والده بالقرب من قبة الزرزاري - رحمه الله. جعفر بن محمد بن علي أبو محمد بدر الدين المذحجي الآمدي، مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة، وتوفي ليلة الأربعاء رابع عشرين شوال

بدمشق. كان ناظر النظار بالشام، وهو في محلّ الوزارة يتعرف في الأموال والولاية والعزل، وكان حسن السيرة ليّن الكلمة كثير الرفق والستر لايكشف لأحد عورة، واما أمانته وعفّته فإليها المنتهى. وكان عنده تشيّع لكنه لم يسمع منه ما يؤخذ عليه - رحمه الله. جندل بن محمد الشيخ الصالح العارف، كان زاهداً عابداً منقطعاً صاحب كرامات وأحوال ظاهرة وباطنة، وله جدّ واجتهاد ومعرفة بطريق القوم. وكان الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري - رحمه الله - يتردد إليه في كثيرمن الأوقات وله به اختصاص كثير. قال ولده الشيخ برهان الدين - نفع الله به: كنت أروح مع والدي إلى زيارته بمنين، ورأيته يجلس بين يديه في جمع كثير يستغرق وقته في الكلام معه بما لا يفهمه احد من الحاضرين بألفاظ غريبة. وقال الشيخ تاج الدين المذكور - رحمه الله: الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق، اجتمعت به في سنة اثنتين وستين فسمعته يقول: طريق القوم الواحد، وأنما ثبت عليه ذوو العقول الثابتة، وقال أيضاً رحمه الله: قال: الموله منفي، ويعتقد أنه واصل، ولو علم أنه منفي لرجع عما هو عليه. وقال أيضاً رحمه الله: قال: ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل والتضرع. وقال أيضاً رحمه الله: وقال الشيخ تاج الدين رحمه الله: اجتمعت به في سنة إحدى وستين وست مائة فأخبرني أنه قد بلغ من العمر خمساً وتسعين سنة، واجتمعت به في شعبان

سنة أربع وستين، فقال: أنا أحق الملك العادل، وقد جاء من حلب عسكر يحاصره، وكان عمري إذ ذاك خمس عشرة سنة، وقال لي: دنا الموت ولم يبق إلا القليل، ثم قص على رؤية استدل بها على هذا، فسألته عن الرؤيا فقال: رأيت من زمان مقادم كأني أفرغت في بيتي جمل بصلي فأخذت منه بصلة بيدي فرأيت عليها عبد الرحمن مشملة، فجعلتها في حجري، وعرفت أن ذاك البصل كله مشايخ، أريد أن أجتمع بهم، وأراهم ويروني. فلما كان هذا القرب، رأيت كأني عبيت الجوالق البصل ولم يبق إلا القليل، فعلمت بذلك قرب الأجل. حدثني بذلك عنه يوم السبت ثامن شعبان من السنة. وكانت وفاته بقرية منين في شهر رمضان المعظم سنة خمس وسبعين وست مائة ودفن في زاويته المشهورة، وعلى ضريحه من الجلالة والهيبة ما يقصر الوصف عنه رحمه الله تعالى. علي بن محمود بن علي أبو الحسن شمس الدين الشهرزوري الشافعي، كان تقياً حسناً، ولّي نقابة الحكم بدمشق عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله ولم يزل إلى حين صرف قاضي القضاة شمس الدين المذكور فانعزل بعزله مستنيبه. ولما وقف الأمير ناصر الدين القيمري مدرسته التي أنشأها بالمطرزين بدمشق فوض إليه تدريسها، وجعله في ذريته ما وجد ووجدت فيهم الأهلية، فباشر تدريسها منذ عمرت إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء سادس عشر شوال، ثم باشر تدريسها ولده صلاح الدين إلى أن توفي، وترك ولده صغيراً، فباشر تدريسها قاضي القضاة بدر الدين بن

جماعة مدة، فلما كبر ولده الصلاح أثبت رشده وأهليته للتدريس واستحقاقه له بمقتضى شرط الواقف رحمه الله فرسم له بذلك، وحصل من تعصب معه فباشر تدريسها واستمر به مع قلة بضاعته من الفقه لكنه لما درّس أكب على الاشتغال، فثبته وصار فيه أهلية، ثم أنه عامل الفقهاء، ومن بالمدرسة معاملة حسنة فأحبوه ومشي أمره في المدرسة على السداد، وحسنت طريقته من ذلك. عمر بن أسعد بن عبد الرحمن بن ليفي بن عبد الرحمن أبو حفص الهمذاني الشيخ الصالح، كان ملازماً حلقة الحنابلة بجامع دمشق، يقرئ الناس القرآن العزيز، ويخيط ويشتري بما يتحصل له من الأجرة خبزاّ يتصدق به مع ملازمة العبادة، وقيام معظم الليل، والصيام غالب الأوقات، وفيه المسارعة إلى قضاء حوائج الناس حسن ما يمكنه، ولم يزل على هذا القدم إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بمدرسة ابن الجوزي بدمشق يوم السبت بكرة النهار رابع ذي القعدة، ودفن من يومه بسفح قاسيون جوار قبر الشيخ موفق الدين رحمهم الله تعالى. عمر بن أسعد بن أبي غالب عز الدين الأربلي الفقيه الشافعي، كان يعرف بين الفقهاء بالإطرفيل، وهو من أصحاب الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله، وناب في الحكم مدة، وقال أيضاً رحمه الله: توفي في العشرين من شهر رمضان المعظم وقد نيف على سبعين من العمر رحمه الله تعالى. محمد بت إبراهيم بن أبي المحاسن بن رسلان أبو عبد الله شمس الدين

الحكيم المتطبب المعروف بالكلي، كان فاضلاً في علم الطب وله مشاركة في الأدب والتاريخ، أقام مدة ببعلبك، وكان يغشي والدي رحمه الله تعالى كثيراً، ويلازمه وسكن في جواره وسمع عليه. ومولده بدمشق سنة سبع وتسعين وخمس مائة، سمع الكثير بدمشق من عبد الصمد الحرستاني وغيره وحدث وقال أيضاً رحمه الله: توفي بالقاهرة في رابع عشر المحرم رحمه الله تعالى، وقيل له الكلي لأنه اشتغل بالكتاب. وقال أبو العباس أحمد بن أبي أصيبعة الخزرجي في طبقات الأطباء: كان والده أندلسياً في أهل المغرب، قدم دمشق وأقام بها إلى أن توفي، ونشأ ولده المذكور واشتغل علي الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، ولازمه وأتقن عليه حفظ ما ينبغي، وهو جيد الفهم غزير العلم - لا يخلى - وقتاً من الاشتغال، حسن المحاضرة خدم الملك الأشرف بن الملك العادل رحمه الله إلى حين وفاته، ثم خدم بالمرستان النوري بدمشق. قلت: كان يعاني مشتري المماليك الصباح بأوفر الأثمان وعنده الخيول والغلمان، وهو كثير التجمل رحمه الله؛ وخلف عدة أولاد رأيت أحدهم بقلعة الرحبة في السنة الخالية. ؟ محمد بن أيبك بن عبد الله ناصر الدين بن الاسكندري، كان ممن جمع حسن الصورة وحسن الأوصاف ووفور العقل والرياسة والحشمة ومكارم الأخلاق وحسن العشرة. ولما توفي والده رحمهما الله تعالى في

السنة الخالية على ما تقدم في شهر رمضان أراد غلمانه أن يجزوا شعورهم ويهلبوا أذيال الخيول على ما جرت به العادة؛ فمنع من ذلك وقال: والدي عليه ديون، ولا نأمن أن يخرّج عليه ديوان الجيش تفاوتاً فإذا فعلنا ذلك نقصت قيمة المماليك والخيول، ثم إن هذا فساد لا معنى له ولا يجوز فعله. ثم تقدم إلى الطباخ أن يذبح ويطبخ على العادة، فلام بعض الجماعة وقبّحوا فعله؛ فقال: هذا شهر رمضان وعندنا جماعة كثيرة من غلمان وغيرهم، فإذا لم يطبخ بقوا بلا عشاء. قيل: له الناس يحملون، قال: الذي كان يحمل من أجله مات. فلما أذن المغرب عمل السكر والليمون على العادة وأسقى الناس على ما كان يعمل والده، ومد السماط فأكل جميع الغلمان والحاشية وغيرهم، وشكره من كان لامه لأن أحداً لم يحمل شيئاً، ثم إنه باع موجود والده ووفى جميع أرباب الديون مالهم، ومن ادعى بشيء ولم يكن له بينة واستحلفه وأعطاه وسافر وجميع من بالرحبة داعون له. فلما وصل دمشق أقام بها وجمع أطرافه، وتاب عن أمور كان يعانيها، ولازم الصلاة والصوم في كثير من الأيام. فلما كان يوم الخميس ركب للصيد وهو صائم وخرج إلى أراضي الحرجلة، فمرّ بحصانه على جسر حجر على نهر قد قيد فنزل ونزل به الحصان في النهر وخرج الحصان سباحة فساق مملوكه إلى البلد ورمى السوط، فركب نائب السلطنة بنفسه وأخذ معه من يسبح ووقفوا على المكان الذي غرق فيه ودوّروا ما جاوره فلم يجدوا له أثراً، وبقوا على ذلك يومين ثم وجدوه على بعد من ذلك المكان، وقد علّق فردة مهمازة بسباحه فاستخرجوه غريقاً وغسلوه ودفنوه بسفح جبل قاسيون

وتأسف الناس عليه لشبابه وموته على هذه الصورة - رحمه الله تعالى - وكان الخلال بن الصفار المارديني عنّاه بقوله: يا أيها الرشأ المكحولناظره ... بالسحر حسبك قد أحرقت أحشائي إن انغماسك في التيار حقق ... أن الشمس تغرب في عين من الماء وإيراده بقوله أيضاً. وقيل: إنهما للشيخ أبي إسحاق الشيرازي افمام المشهور - رحمه الله: غريق كأن الموت رقّ لحسنه ... فلان له في صفحة الماءجانبه أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه وعناه عمران الطوابيقي بقوله: ألا أيها البدر المغيّب شخصه ... بمثلك هذا الدهر يبخل عن مثلي ولو كان حكمي في حياتي ومنيتي ... بمثلك هذا الدهر يبخل عن مثلي ولو كان حكمي في حياتي ومنيتي ... إليّ لما جرعت كأس الردى قبلي كأن صفاء الماء شاكل جسمه ... فجاد به فانقاد شكل إلى شكل وأنى في تراب الأرض نور بمائه ... ولو كان من ترب لعاد إلى أصل وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يارسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد.

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله. رواهما مسلم. وتوفي إلى رحمة الله تعالى وهو ابن عشرين سنة وربما لم يستكملها - رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد بن عبد السخي بن يحيى بن أحمد بن طيب بن دحمان بن دكسون أبو عبد الله شرف الدين الشروطي الشافعي العمري، من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كان واسطي الأصل، موصليّ المولد، دمشقي الدار، شيخاً جليلاً، إماماً عالماً، فاضلاً متقناً لما يعانيه؛ وروي عن ابن الحرستاني وغيره. وكانت وفاته يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الآخرة - رحمه الله تعالى. محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن عبد الحق بن خلف بن مفرج بن سعيد أبو الوليد فخر الدين الكناني الشاطبي المعروف بابن الجنّان. مولده بشاطبة في منتصف شوال سنة خمس عشرة وست مائة، وتوفي يوم الأحد رابع عشرين شهر ربيع الآخر من هذه السنة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله. كان عالماً فاضلاً، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير الاحتمال، واسع الصدر، حسن المباسطة؛ صحب الصاحب كمال الدين بن العديم وأولاده فاجتذبوه إليهم، وصار حنفي المذهب، ودرّس بالمدرسة الاقبالية الحنفية بدمشق. وكان له يد في النظم ومشاركة في علوم كثيرة. أنشدني صاحبنا تقي الدين عبد الله بن تمام - حرسه الله - لفخر الدين

المذكور: ودوح بدت معجزات له ... تبين إليه وتدعو إليه جرى النهر حتى سقى أرضه ... فقام يقبّل شكراًيديه وكفّ الصبا صبغت حليه ... فقام الحمام ينادي عليه كساه الأصيل ثياب الضنى ... فحل طبيب الدياجى لديه وجاء النسيم لنا عائداً ... فقام له لائماً معطفيه وأنشدني المذكور لفخر الدين - رحمه الله: لله قوم يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل وبمهجتي نفراً وأنى منهم ... جبلوا على حبّ الطراز الأول وأنشدني لفخر الدين المذكور أيضاً - رحمه الله: حديث ذاك الحمى روحي وريحاني ... فكيف يصبر عن هذين جثماني ويا فؤاد الأسى برّح بحبهم ... فقد أضر بجسمي طول كتماني فمن هواي بذاك الحسن راح به ... في الحي كل خليّ القلب يهواني وحقهم لو ملكت الكون أجمعه ... بذلته طمعاً في وصل هجراني ثم انثنيت وبي سكرة طرب ... أجرّ عطفي به تيهاً وأرداني وقال - رحمه الله تعالى: يميل بذكر الحاجرية ركبان ... كأنهم على الركائب أغصان

وقفت غداة النفر أنشد حذرها ... فباح به بين الهوادج كتمان وما ذاك ذاك الحذر إلا لأنه ... بخمر دلال الحاجرية نشوان وسلت أناجي العيس بعض صبابتي ... فأصبح فيها بالصبابة إعلان عجبت لها أني هززت جمالها ... بوجدي ولم يهتز من قدها ألبان يقولون عنوان المحب دموعه ... وصبك يا ليلى على الدمع عنوان وقالت وروح الصب تحدو جمالها ... وقد ذاب منه بالصبابة جثمان أرى روحه ولهى بركبي مسوقة ... فهل جسمه في غير ركبي ولهان وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ما شأن هذا النسيم الرطب نشوان ... كانه من حديث القوم ريّان روى لنا خبراً من أرض كاظمة ... لم تدر كاظمة عنه ولا البان ماج الكثيب وماج الغصن منه فهل ... جرت لعطف الهوى في الكون أردان أحباب قلبي ما حبي لكم عجب ... وكل شيء بذاك الحسن ولهان بالله يا نسمة الأحباب هل خبر ... فعرفك اليوم لي روح وريحان فديتكم هل رحمتم فيكم دنفاً ... لم يدن مسكنه صبر وسلوان وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: قم فاسقينا وجيش الليل منهزم ... والصبح أعلامه محمرّة العذب والسحب قد نشرت في الأرض لؤلؤها ... فضمها الشمس في ثوب من الذهب وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: متيم ذاك الحيّ لا تعدّ حبهم ... لتظفر مثلي من جنونك بالوصل

حنيت بهم حباً ولي في رحالهم ... تمائم وسواس بعيد من العقل وقال أيضاً - رحمه الله -: يا رعى الله يومنا بعد روض ... حيث ما السرور فيه يحول تحسب النهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تسبل وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ولى كاتب أضمرت في القلب حبه ... مخافة حسادي عليه وعذالي له صبغة في خط لام عذاره ... ولكن سها إذ نقط بالخالي وقال أيضاً - رحمه الله: بالله يا سرحة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث البان والغار فعانقتها عن الصب اللبيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ودوحة أطربت منها محاسنها ... أفق السماء فلم تبرح تنقطها تحكي الكمامة منها راحة قبضت ... يلقى السحاب لها دراً فتبسطها وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: قم سقّينها وقعر الصبح مبتسم ... والليل تبكيه عين البدر بالشهب والكأس قد خلتها حمراء مذهبة ... لكن ازرقها من لؤلؤ الحبب وأعين الدهر من طول البكا رمدت ... فكحلتها يمين الشمس بالذهب إن تهت بالشمس يا وجه السماء فلي ... شمسان وجه حبيبي وابنة العنب

وقال أيضاً من أبيات: عرف النسيم بعرفهم يتعرف ... وأخو الغرام بحبهم يتشرف شرف المتيم في هواهم أن يرى ... طوراً ينوح وتارة يتلهف لطفت معانيه فهب مع الصبا ... فرقيبه بهبوبه لا يعرف وإذا الرقيب درى به فلأنه ... اخفى لديه من النسيم وألطف ولأنه يغدو النسيم ديارهم ... وله على تلك الربوع توقف وقال أيضاً من أبيات: أرنة صوت العيس أم نغمة السارى ... دعت دمع عيني أم نسيمة اسحار فأصبحت لا أثنى عنان تولهي ... واجرى جواد الدمع في كل مضمار وقلت لقومي والغرام يحثني ... تناهت لباناتي لديكم وأوطاري وبي عصبة لا يطعمون سرى الهوى ... فهم ندمائي في الغرام وسماري فديتهم هل يذكرون عهودنا ... ونحن بذات الضال والشيح والغار ونحن بها والوجد ينشر بيننا ... حديثاً واخبار الصبابة اخباري وإن كنت إنساناً ترى كتم حبهم ... فإنسان أجفاني يبوح بأسراري بذلت لهم في الحب مورد مقلتي ... واشكيتهم في البعد روضة أفكاري فلا تعجبوا من يثمر الدار بعدهم ... فما أنا إلا من يكن حل في الدار فلا تعذلوه في الغرام جهالة ... فليس عليه في الصبابة من عار

بعيشك هذا لا تحب سواهم ... فهم عين أعلاني وهم عين أسراري ومن كنت لولاهم ولولا هواهم ... لهم عزتي العشاق وجاهي ومقداري وما أنا ممن أبصر الشمس مرة ... فيعتاض من ذاك الشعاع بأقمار وإن كنتم زوار ليلى فمرحبا ... بقوم أتوا من عند ليلى وزواري وهل كان تذكار لليلى بعهدنا ... ومن لي من ذاك الجناب بتذكار سأفرش خدي سافحاً ماء أدمعي ... واقبس من حر الضلوع لكم ناري فوالله ما لي غير حبك صابر ... ووالله ما لي غير وجدي من جار وما لي سلاف غير دمعي ومطربي ... بأغصان أشواقي حمائم أشعار وقال رحمه الله يصف مدينة حماة: نهرها العاصي تندى مطيعا ... حيث مال النسيم أضحى يميل ومحيا الحبيب شمسي فيه ... ووجوه العشاق فيه أصيل وعليل السقام فيه صحيح ... وصحيح النسيم فيه عليل عشق النهر لحسنها فلهذا ... دمع أجفانه عليها يسيل وقال أيضاً - رحمه الله: غدا مغرما أفق السماء بدوحنا ... فدمع الندى حزناً عليه أسأله وهام رياض الدوح فيهفابرزت ... له نهرها حتي يصيد خياله وقال أيضاً - رحمه الله: يا بانة الوادي التي نادمتها ... باهتك بان المنحنى وكثيبه

ما مال عطفك بالنسيم وإنما ... طرباً لطيب حديثه ونسيبه يا حبذا فيك النحول فإنه ... بغناي فيه آمنت خوف رقيبه ما كان في علم الغرام بأنه ... يطفى بماء الدمع نار لهيبه وقال من نثره - رحمه الله: نحن سيدي - أطال الله بقاءك - في روض مجلس أغصانه الندماء وغمامه الصهباء؛ فبالله عليك إلا ما كنت لمجلسنا نديماً، ولزهر حديثنا شميماً، وللجسم روحاً وللطيب ريحاً، وبنيناً غدراً رجاجها حذرها وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها أكمامه، أو شمس حجبتها غمامه، إذا طاب بها معصم الساقي فورده على غصنها، أونزيهاً مقهقهة، فحمامه على فننها، طافت علينا طواف القمر على منازل الحلول، وأنت وحياتك إكليلنا، وقد آن حلولها الإكليل - والسلام. محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن حفاظ أبو عبد الله بدر الدين السلمي الحنفي المعروف بابن الفويرة. توفي بدمشق يوم السبت حادي عشرين جمادى الأولى ودفن بظاهرها - رحمه الله تعالى. صحب والدي - رحمه الله وسمع منه، وكان يحبه ويثنى عليه؛ وصحب جماعة من العلماء والمشايخ واشتغل في مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - على الشيخ صدر الدين سليمان، وقاضي القضاة شمس الدين عبد الله السبت عطاء وغيرهم، وتميز

وطلب لنيابة الحكم بدمشق فامتنع ودرس بالمدرسة الشبلية بجبل الصالحية وبمدرسة القصاعين بدمشق، وأفتى واشتغل بالعربية والنحو على الشيخ جمال الدين محمد بن مالك - رحمه الله، وحصل من ذلك طرفاً جيداً. وكان رئيساً وعنده ديانة كثيرة، ومروءة، ومكارم أخلاق، وحسن عشرة، وله بر، وصدقة على الفقراء وحسن ظن بهم، وسمع الكثير، وكان يكتب خطاً حسناً، وله معرفة بالأصول والأدب، وينظم نظماً جيداً. نقلت من خط عز الدين محمد بن أبي الهيجاء لبدر الدين المذكور: عاينت حبة خاله ... في روضة من جلنار فغدا فؤادي طائراً ... فاصطاده شرك العذار ونقلت من خطه المذكور: كانت دموعي خمراً قبل بينهم ... فمدنا أقصرتها لوعة الحرق قطفت باللحظ ورداً من خدودهم ... فاستفرطوا ماء ذاك الورد من حدقي وأنشدني ولده جمال الدين لوالده بدر الدين المذكور - رحمه الله تعالى -: ورياض كلما انقطفت ... نثرت أوراقها ذهبا تحسب الأغصان حين شدا ... فوقها القمرى وانتحبا ذكرت عسر الشباب وقد ... لبست إبراده قشبا فانثنت في الدوح راقصة ... ورمت أثوابها طربا

وأنشدني ولده جمال الدين المذكور لوالده في شاعر: وشاعر يسحرني طرفه ... ورقة الألفاظ من شعره أنشدني نظماً بديعاً فما ... أحسن ذاك النظم من ثغره وحكى بدر الدين المذكور - رحمه الله - إنه رأى في المنام الشرف داود بن العرضي - رحمه الله - عقيب وفاته وكان هذا الشرف يلوذ ببدر الدين ويتوكل له ويخدمه. قال فقلت له: يا ابني داود إيش كان أو إيش؟ كأني أسأله عما لقي بعد الموت فكان جوابه لي: ما كان لي من شافع عنده ... إلا اعتقادي أنه واحد وحكى لي أخي - رحمه الله ورضي عنه - ما معناه أنه خرج إلى ظاهر دمشق ومعه بدر الدين المذكور - رحمه الله - عند عود طائفة من عساكر التتر من الجهات القبلية في شهور سنة ثمان وخمسين ومعهم السبي من تلك البلاد ليشتروا منهم من يستفدونه من أيديهم، فجرى بينهم ذكر الملاحم والأشعار الموضوعة فيها، فنظم بدر الدين المذكور - رحمه الله بيتاً من الشعر علي وزن بعض القصائد المنسوبة إلى ابن أبي العقب وهو: ويملك الشام ملك اسمه قطز ... ويقتل الترك في حمص وفي حلب فاتفق أن تملك الملك المظفر سيف الدين قطز - رحمه الله - بالشام ما قد علمتم. وقتلت التتار في حمص في أول سنة تسع وخمسين ثم في سنة ثمانين وست مائة فكأنه كان منطقاً بذلك. وقال شرف الدين عمر بن خواجا أمام الناسخ: أنشدني الشيخ بدر الدين

لنفسه: أذاع لسان الدمع يوم النوى سرّى ... وحلّت أكفّ البين في عرى صبري وظلّت على الأطلال أسياف نأيهم ... دمى واغتدى قلبي أسيراً مع السفر وعطّل نأي الإنس من حلي حسنهم ... فحليته من أوسع العين بالدرّي رعى الله ليلات تقضّت بوصلهم ... فقد كنّ كالخيلان في صفحة الدهر وحيّا رياضاً بالحمى كنت منهم ... أنال المنى في ظل أغصانها النضر ؟ محمد بن عبد الوهاب بن منصور أبو عبد الله شمس الدين الحرّاني الحنبلي، كان فقيهاً إماماً عالماً بعلم الأصول والخلاف، تفقه فيه على القاضي نجم الدين المقدسي الشافعي - رحمهما الله تعالى - وجالس الإمام مجد الدين بن تيمية الحراني - رحمه الله - واستفاد منه أشياء كثيرة، وكان يستدل بين يديه بحران. ثم انتقل إلى الشام فأقام مدة بدمشق يشتغل على الشيخ علم الدين أبي القاسم - رحمه الله تعالى - في الأصول والعربية. ثم سافر إلى الديار المصرية فأقام مدة يحضر درس الإمام عز الدين بن عبد السلام فأقام مدة يحضر درس الإمام عز الدين ابن عبد السلام وتولى القضاء ببعض أعمال الديار المصرية نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - وهو باق على مذهبه، وهو أول حنبلي حكم بالديار المصرية في هذا الوقت، ثم لما فوض إلى الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي - رحمه الله - القضاء والحكم بالديار المصرية على مذهبه

ناب عنه مدة ثم ترك القضاء ورجع إلى دمشق فأقام بها مدة سنين، له حلقة يدرّس بها في الجامع ويكتب خطه في الفتاوى. وكان حسن العبارة طويل النفس في البحث كثير التحقق، باشر الإعادة بالمدرسة الجوزية بدمشق قبل سفره إلى الديار المصرية وبعد رجوعه. وكان حسن المجالسة والمذاكرة، ويتكلم في الحقيقة وهو غزير الدمعة رقيق القلب جداً، وافر الديانة كثير العبادة، صحب الفقراء مدة وله فيهم حسن ظن، وأمّ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق مدة ثم ابتلي بالفالج فبطل جانبه الأيسر وثقل لسانه بحيث لا يفهم من كلامه إلا اليسير، وبقي على ذلك مدة أربع أشهر، ثم توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق ليلة الجمعة بين العشائين لستّ خلون من جمادى الأولى هذه السنة، ودفن بعد أن صلى عليه بجامع دمشق في مقابر باب الصغير - رحمه الله - وقد ميف على الستين سنة من العمر. وكان عنده معرفة بالأدب، وله يد جيدة في النظم؛ أنشدني صاحبنا تقي الدين عبد الله بن تمام له: طار قلبي يوم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعي أو رفا حار في سقمي من بعدهم ... كل من في الحي داري ورقى بعدهم لا ظل وادي المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا ؟؟ محمد بن علي بن أبي القاسم أبو بكر بدر الدين العدوي المعروف بابن الكاكري كان من أعيان العدول بدمشق، كثير التحري في الشهادة والتحقيق،

ظاهر العلم، حسن العشرة، لطيف الحركات، خبيراً بكتابة الشروط والفرائض، عنده ديانة وافرة ومروءة كبيرة. روى عن الشيخ موفق الدين المقدسي - رحمة الله عليه - وغيره، ومولده بدمشق في سنة أربع وتسعين وخمس مائة، وتوفي بدمشق يوم الأربعاء العشرين من ربيع الآخر، ودفن من يومه بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى. محمد بن عوض بن علي بن عوض أبو عبد الله عماد الدين العوضي الأصيل الدمشقي المولد والوفاة. مولده سنة تسع وست مائة ليلة الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين خامس عشر المحرم. سمع من والدي - رحمه الله - ومن أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وأبي المنجا عبد الله بن عمر اللتي وغيرهم، وحدّث. صحب والده وجماعة من أعيان المشايخ وحدثهم وأخذ عنهم وانتفع بهم، وكان له من قلوبهم وأدعيتهم أوفر نصيب، ولم تزل حرمته وافرة عند الملوك والأمراء والوزراء والأعيان، وأقبل عليه الملك الظاهر - رحمه الله - قبل وفاته إقبالاً كثيراً. وكان عنده مكارم وحسن عشرة وسعة صدر وإكرام لمن يقصده من سائر الناس، ومسارعة إلى قضاء حوائجهم؛ وعلى ذهنه من أخبار الصالحين وحكاياتهم ما لا مزيد عليه ويعاني المراكب السنية والثياب الفاخرة ويخضب بالسواد، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى. محمد بن مشكور بن.... أبو عبد الله شرف الدين المصري،

كان رئيساًوفيه مكارم، وعنده معرفة تامة بالكتابة والتصرف، وولي المناصب الجليلة، منها نظرالجيوش بالديار، وكان بينه وبين الصاحب بهاء الدين مصاهرة ووحشة باطنة. وتوفي بدارهالتي على الخليج بالقرب من مصر ليلة الأحد خامس عشر جمادى الأولى، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى، ومولده على ما نقل عنه في سنة عشر وست مائة - رحمه الله تعالى. محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن يحيى الأمير أبو عبد الله بن الأمير أبي زكريا ابن الشيخ أبي محمد بن أبي حفص الهنتاني صاحب تونس، قد اختلف النقل في تاريخ وفاته لبعد المسافة، فقيل في الثاني من شوال سنة خمس وسبعين وست مائة، وقيل في يوم عيد النحر منها، وقيل في الثالث والعشرين من ذي الحجة - والله أعلم. كانت وفاته بمدينة تونس، وسبب موته أنه خرج إلى الصيد وحصل له من كثرة الحركة انزعاج وتغير مزاجه، وزاد به الألم، فعاد إلى المدينة وهو ضعيف، فبقي على ذلك مدة أيام إلى أن توفي، وله من العمر اثنان وخمسون سنة تقريباً. وكان ملكاً جليلاً عظيم المقدار عالي الهمة، مدبراً سائساً كثير التحيل على بلوغ مقاصده شجاعاً مقداماً يقتحم الأخطار بنفسه، كريماً كثير العطاء، يستقل الكثير مما يعطيه ويعجبه فعل المعروف وينافس فيه، مغرماً بالعمائر، منهمكاً في

اللذات تزف إليه كل ليلة جارية وكان ولّى عهد أبيه في حياته. فلما توفي والده في سنة سبع وأربعين ببلد العناب بمدينة يقال لها بونا وكان صحبته، ترك والده على حاله، وركب بغلاً يسمى الجيش ودخل به تونس في خمسة أيام والمسافة عشرون يوماً ومات البغل في تلك السفرة. وكان الحامل له على ذلك خوفه من عمّيه أن يسبقاه، فإنه كان له عمّان، أحدهما مجدور الوجه يدعى أبا عبد الله كثّ اللحية يعرف باللحياني. ولما دخل تونس، وجد الخبر قد سبقه والنوح في القصر فأبطله وأمر بضرب البشائر وسيّر مملوكاً له يقال له هلال إلى مدينة بونا يستدعي من بها من العسكر وأمر أن يسوق عمه أبو عبد الله اللحياني في مقدمة الجيش، وعمه أبو إبراهيم في ساقته، فوصل إلى المكان وذكر لعميه ما أمر به فساروا عشرين يوماً حتى وصلوا إلى السبخة على يوم من تونس. فتقدم لهم مرسومه أن يترجل العسكر بأسرهم خلا عمّيه فكشف منهم في ذلك اليوم خمسين مقدماً طائعين وسبعين مقدماً مخامرين. فلما دخلوا تونس مدّ لهم سماطاً فدخل الخلق طائفة بعد طائفة، والكوسات تضرب والخلع تفرق والأنعام تشمل القريب والغريب. واستقل على هذا المنهج سنة ونصفاً، وهو مع ذلك خائف من عميه وثلاثة رجال أخر مستبدين إليهما يقال لأحدهم ابن البرنمال، والآخر إبراهيم بن إسحاق. وكان مدة السنة ونصف يجتمع كل ليلة بهؤلاء الخمسة، وينعم عليهم لكل واحد منهم بألف دينار عيناً ومركوباً

وسيوفاً وعبيداً ويضبط ذلك أرقالا. ثم حصل بعمه أبي إبراهيم تغير في خاطره وعبط لونه، رأى غيره في منزله، ورأى مماليك السلطان على رؤوسهم قياماً بأسلحتهم من غير عادة تقدمت في البلاد بذلك. فقال أبو إبراهيم لأخيه والثلاثة الذين معهما: هذه حيلة علينا لنقتل في وسط المكان، ثم طلبوا دستوراً بالركوب للنزهة فأذن لهم ثم ركب متخفياً يسارقهم النظر وراءهم إلى ان دخلوا بستاناً يقال له الحريرية، فدخل الإخوان وتحيّل الأمير محمد إلى أن دخل بحيث لم يشعر به، وطلع إلى شجرة خرّوب مطلعة على المكان. فلما أن دخلا تعانقا، وقال أبو إبراهيم: أما أن تأخذها أو آخذها، فقال اللحياني: أنا قد زوجته ابنتي وحلفت له. وإذا بالثلاثة قد دخلوا وقالوا: الملك عقيم فحلفوا للحياني وهو يشاهدهم من الشجرة، وخرجوا من البستان، ونزل الملك من الشجرة فرآه الخولي، فحل حياصته ودفعها إليه وأخذ يحادثه إلى ان وصل إلى جانب ساقية في البستان، فرفسه برجله رماه فيها، فمات ودخل من ساعته، فأركب مماليكه ستة آلاف فارس وأخرج ألفي حجيرة عراب أركبها السودان وطلب مملوكاً يدعى ظافراً، فقدمه على ألفي فارس ومملوكاً من مماليك أبيه يدعى مظفراً، فقدمه على ألفين من الترك، وخادماً يدعى مفتاح الطويل، فولاه على السودان، وقال لهم: البسوا سلاحكم وتمضوا إلى باب الدار التي هم بها. فتهجموا عليهم وتقطعوا رؤوسهم، فخرجوا وكان وافقهم من الموحدين أربعة آلاف

فارس وهم في منزل جلوس في لعب ولهو، فما احسوا إلا وقد أحيط بالدار، فهرب الأولاد واختفوا. وقطعت رؤوس العمين وجعلت في طشت وتسلمهم نبيل السلوقي، ودخل على الملك بالرأسين وهو على مدورة سوداء، وبيده قضيب ذهب زنته عشرة أرطال مصرية، فقال: أين بقيتهم؟ قال: واصلون في الزناجير، وكان عنده القاضي وأربعة عدول، فقال لهم: تركبون وتحفظون خزائنهم ووجودهم، وتحضرون لي ما في هذه الورقة مما أصرف إليهم، فقبضها القاضي وساروا إلى ما رسم لهم بهم، ودخل الباقون في الزناجير، فضرب أعناق السبعين مقدماً المخامرين، ثم استدعى بالثلاثة الأخر، فقطع من لحومهم وشوى واطعموا وهرب أولاد عمّيه فقراء واختفوا واحتيط على ما كان لهم جميعه، وكل ذلك في ثلاثة أيام. ثم صعد الملك محمد علي منبر من العاج مصفح بالذهب، فذكر الله وأثنى عليه وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال في آخر كلامه: عفا الله عنكم المجرم وغير المجرم. ثم أمر بهدم دور المخامرين إلى الأساس، وكذلك بساتينهم ولم يبق لهم أثر، ولم يظهر لها بعدهم غلام ولا مملوك إلا قبض عليه. وأقام محمد بعد قتل عميه سنة، ثم جمع العلماء والأكابر. وقال أيضاً رحمه الله: قال: أنتم مؤمنون أم لا؟ - وقال: ومن أنا؟ - فقالوا: أميرنا، قال: فإذا اجتمع بحثي وبحثكم كيف يكتب؟ قالوا: أمير المؤمنين؛ قال: فاكتبوه. وكتب إلى سائر بلاده ومسيرتها أربعة أشهر برّاً وشهران في البحر المالح، ثم أنه فصل الخلع

من أنواع ثياب الصوف والحرير والعمائم المهدوية وخلع على مقدّمي العسكر والأعيان من الرعية والمتميزين من الناس، وكان بإفريقية من العربان خلق كثير لهم مقدم يعرف بسبع بن يحيى، وفخذه بنو كلب، وهم أشد العربان بإفريقية، فعصوا عليه، فلم يظهر لهم تغير، ورسله تتردد إليهم بالملاطفة إلى أن حضروا إليه، فضرب رقابهم عن آخرهم. فبلغ ذلك قوماً من العربان يقال لهم الخلوط والذبابيين والمعفوقيين، وفخذ من غيرهم يكون مجموعهم ستين ألف راكب لم يعطوا طاعة لأحد، فزاد عصيانهم فشاور أعيان دولته؛ فقالوا: نخرج العسكر بأسره إليهم، فقال: تذهب الخزائن وما نظفر بالجميع، ويستمر عصيان السالمين، ويقطعون الطرقات لكن نأخذهم بالرفق، فراسلهم وأعطاهم خمسة بلاد وهي طرابلس وجرباء وزواراً وزواغاً وقرقنا، ثم استعمل سيوفاً جدداً ورماحاً، وفصل جباباً منوعة ودراريع بيضاء وملابس النساء، وحمل ذلك هدية إليهم صحبة رجل يعرف بأبي يحيى بن صالح من كبراء دولته مشهوراً بالصدق عند العربان؛ وقال: إن اختاروا الحضور إلينا يحضروا، وإلا ما نكلفهم ذلك فسار إليهم. وكان عارفاً بشيء من السيمياء، فوعده الملك أن استمالهم بحانة. فلما حضر عندهم قدموا له الخيل والنياق وأحضروا المغاني، وبقي عندهم ثلاثة شهور يركب في جمهورهم، ثم إن الملك كتب إليه يأمره أن يخطب له ثلاث بنات من الثلاثة أفخاذ من كل أمير بنتاً، فعرّفهم ورفعت

الرايات وقرّت في أحياء العرب البنات، وكان أبو يحيى قد احتوى على عقولهم. فكتبوا إلى الملك يسألونه أن يكون مقدمهم، فأجابهم إلى ذلك وأمر لمحضر الكتاب بألف دينار عيناً وعشرة أكسية حمر وعشرة من الإبل وخمس جمار خدمات، وجعل جامكية لمن يلود به وبلداً يباباً يقال لها الحماء يستغلها فعاد إليهم فاطمأنوا غاية الطمأنينة، وانكف شرهم عن البلاد، وحصل لها نهاية الأمن، ثم إن الملك كتب إلى الشيخ أبي يحيى يستدعيه وقال: من أراد من العربان أن يحضر معك فليحضر، فصحبه تسعة نفر من كل فخذ ثلاثة أولاد الأمراء، فدخل تونس، وخرج الملك بنفسه لتلقيه، ثم أنزل التسعة ومن معهم وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال. هم وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال. ثم إن الملك أحضر نقاشاً وقال له: افتح لي سكة تضرب عليها ديناراً مائة مثقال؛ فعمل السكة فضرب الملك عليها عشرة آلاف دينار، ثم دخل دار الطراز وأمر أن يعمل بها ثياب برسم بنات العربان اللاتي خطبهن، وأن يعمل سوار كل بنت رنك أبيها، وأخرج الذهب وجعل في الصناديق مقسوماً سوية، واخرج ستة من العدول صحبته والذهب وسيّر الجميع إلى العربان ليكونوا كتبة الصداقات عندهم. فلما رأت العربان أولادهم عادوا سالمين، ومعهم أموال جمة، ورأوا تلك الأموال الأخر والقماش قد فرش في البرية وهلت عقولهم، واشتدت أطماعهم وكتبت الصداقات. وعادت العدول إلى تونس. ثم بعد مدة يسيرة كتب كتباً

تتضمن أنه قد طرى أمر يحتاج إليه إلى المشورة فليحضر. فأول من سارع التسعة المقدم ذكرهم، ووصل معهم نحو السبعين رجلاً من كبارهم. فأركب الملك ولده للقائهم، وأنزل كل عشرة منهم في دار، وأوسع عليهم من النفقات والمأكول والمشروب، وصاروا معه حيث كان. فأقاموا كذلك عشرة أيام، ثم قال لهم: إن الأمر الذي أحضرناكم قد مضى من غير مشورة ببركاتكم، فارجعوا إلى بلادكم. فخرجوا رافعي الرايات داعين للملك شاكرين، فأخذ رجل منهم في الطريق عشرة أرؤس من البقر، فقطعوه بالسيوف، وسيّروا رأسه إلى تونس، فشق ذلك على الملك وقال: البقر لي ولعله كانت له حاجة بها. فلم فعلتم ذلك؟ ثم أمر أن يعمل له جنازة ويدفن، فتضاعف أمنهم، وأقاموا على ذلك سنة، فحصل بسبب أمن البلاد أضعاف ما أنفق من المال. وورد على الملك من أكابر ملوك البربر رجل يعرف بابن عمراض فاحتفل به واستدعى أهل البلاد والعربان، فبادروا وأقبل جميع الناس وهم يومئذ سبعون أميراً، فخرج إلى لقائهم بنفسه، وضربت لهم الخيم وأخلي لهم في البلد عشر دور برسم راحتهم في النهار، واحترمهم حرمة تامة بحيث كان الرجل من أهل البلد يقتل قتيلاً ويلّم بأبياتهم، فلا يؤذى؛ ثم إن ابن عمراض قصد خدمة الملك فركبوا معه ودخلوا تونس، فقال لهم الملك وجعل يثني عليهم وعلى ابن عمراض، وأمر العربان يقبلون الأرض عقيب كل شكر، ثم طلبهم أن يدخلوا قصره ليلة واحدة ليشربوا معه، فدخلوا إلا عشرين نفراً

تخيلوا. فسيّر لهم المأكول والمشروب وغرائب ما عنده وقال: إنما قصدت أن أريكم زخرف ما عندي، فمن خطر له الدخول فليدخل ومن اختار المقام مكانه فليقم. ثم أظهر للذين دخلوا من أنواع الزينة ما ذهل عقولهم وأخرج من جواريه نحو الخمسين جارية يتراقصن بين أيديهم، ومن خطر له جارية أعطيها، وأنعم عليهم بالذهب، ولم يسير للبرانيين شيئاً. ولما أصبح ركب معهم، وخرجوا إلى عند الجماعة المتأخرين وسلم عليهم، وقال: العذر باق فيكم، فلهذا تأخرتم، ولكن ما نؤاخذكم، بل نعمل لكم قبة في وسط القصر جديدة نسميها قبة العرب تجتمعون فيها على اختياركم، ومن حين نضع أساسها نشرب فيها. فرضوا بذلك، ثم أمر لهم بمثل ما أعطى من كان معه من الذهب، ثم ساق بخيله ومماليكه فدخل قصره، واستدعي بمعمار يقال له عمرون القرطبي، وقال له: أريد أن تبني لي في هذه الرحبة قبة أربعين ذراعاً في مثلها يكون جميعاً حجراً صامتاً، ويكون لها ثلاثة أبواب، باب يختص بالعرب وتكتب عليه أسماؤهم، وباب سرّ أدخل منه وأخرج، وباب للحاشية فرسمت القبة وقطعت الحجارة. ثم إن الملك عانق عمرون من غير عادة، وقال له: إني وقفت على سيرة بعض الخلفاء، فرأيت فيها إنه قتل جماعة في قبة أساسها ملح سيّب عليه الماء فسقطت، فهل لك في ذلك حيلة؟ قال: نعم؛ فتقدم يعمل في حيلة لإحضار الملح، ثم شقّ الأساس وردمه ملحاً، ولم يصبح إلا وقد دار بالحجارة دوراً واحداً، ثم طلب العرب، فحضروا وبسط المكان، وجعل العربان يشربون والصناع

تعمل إلى العصر، وركب الملك وتركهم، فمنهم من خرج ومنهم من تأخر، وبقي على هذه الحال يشرب في ناحية القبة والصناع تعمل في الجهة الأخرى مدة أربعين يوماً، فكملت فمر ببياضها وتصوير العربان فيها، فكان البدوي ينظر إلى صورته كأنها تنطق، فتعجب من حذق الصانع. وكان بالقصر حمام عتيق مجرى مائها حاكم على أساس القبة، فخزن الماء من حين الشروع فيها في بركة معدة لها، فلما تمت القبة قال لهم: إني الليلة بائت في القبة معكم لا ينصرف منكم أحد. فشربوا إلى آخر النهار، واستقبلوا الليل بالسرور وهم على غاية الطمانينة، وأمر الملك أن يحفر التراب عن الأساس إلى أن يظهر الملح، ويطرّق إليه ويستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء سخن؟ فقيل له: في تسع ساعات. فعلق الاسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، قام الملك بعد أن جهزمن يعز عليه في الاشتغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فيقطت بدا واحداً فلم يسلم منهم أحد، وكان قد أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة. إلى أن يظهر الملح، ويطرّق إليه ويستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء سخن؟ فقيل له: في تسع ساعات. فعلق الاسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، قام الملك بعد أن جهزمن يعز عليه في الاشتغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فيقطت بدا واحداً فلم يسلم منهم أحد، وكان قد أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة. فلما حضروا رأوا الملك باك عليه ثوب قطن والحزن ظاهر عليه، فقال: ما ترون ما قد جرى على هؤلاء يعز والله عليّ، ولكن هذا أمر سماوي ليس فيه حيلة. ثم طلب المعمار فضرب عنقه لئلا يشيع

باطن الحال، ونبش العربان فدفنوا وحلف أولادهم ثم بايعوه واستعاد ما كان أعطاهم من البلاد الخمس، وعوّض أولادهم عنها بالغلال. ومن سيرته أن سلاح جنده ولة الحرب عنده في خزائنه، وعلى كل سلاح اسم صاحبه لا يمكّن أحداً من التصرف في شيء منه، فإذا اتفق حرب حملت العدد على الجمال وأخرجت ففرقت على الرجال، فإذا قضى الشغل أعيدت إلى الخزائن، وكلما عتق منه شيء جدّد، وكلما فسد شيء منها أصلح من ماله، وإن مات الرجل ورتب لولده، وإن لم يكن له ولد ولا وارث تركت لرجل غيره، وهو أول من اعتمد ذلك في تونس بعد قتل عمومته خوفاً من الخروج عليه. وأما الأجناد فلم يكن لأحد منهم خبز بل نقد، وليس لأحد من الناس في البلاد شيء إلا من كان له ملك من أجداده فهو باق عليه، وارتفاع البلاد بأسرها يجمع ويحمل ثم يفرق في السنة أربع مرار كل ثلاثة شهور نفقة ومجموع المال الربع والثمن منه لللمؤمنين والنصف والثمن لبيت المال ما يصرف على الشواني للجهاد والعمائر وإصلاح ما يجب إصلاحه من البلاد من النصف والثمن بأمر قاضي القضاة وما يخص أمير المؤمنين من خيل وصلاح ولباس وعدة ومماليك ونفقات فهو من الربع والثمن، ومن خامر من الجند أو مات وليس له وارث عاد ما ترك إليه مع الربع والثمن. محمد بن يوسف بن مسعود بنبركة بن سالم بن عبد الله بن خاس بن قيس بن مسعود بن محمد بن خالد بن مزيد بن زائدة بن

مطر بن شريك بن عمر بن قيس بن شراحيل بن همام بن مرة من ذهل بن شيبان، ويعرف بابن عراج أبو المكارم الشيباني المنعوت بالشهاب ابن التلعفري الشاعر المشهور. مولده في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ستين وخمس مائة بتلّ يعفر، وقرأ الأدب على الشيخ أبي الحزم بالموصل، وكان حافظاً للأشعار وأيام العرب وأخبارها. وتوفي في ثالث عشر المحرم سنة خمس وسبعين وست مائة بنصيبين، وكان حسن المعرفة بأخبار الفرس ومحاسن آثارهم. وكان شاعراً مطيلاً في قصائده يمدح أهل البيت رضي الله عنهم، وكان من المغالين في مذهب الشيعة، سافر إلى نصيبين، وأقام بها إلى أن مات، وانقطع إلى الملك الأشرف بن العادل، وصار أحد شعراء دولته، وسيّر فيه قصائد شتى، وكان وعده وهو معه في حمام بقلعة الرها سنة أربع وست مائة بألف دينار مصرية أي يوم ملك خلاط، فلما ملكها في ربيع الأول سنة عشر وست مائة أنشده: سقى خلاط ملث الودق مدرار ... فإن فيها لباناتي وأوطاري ماجت خراسان وارتجت قواعدها ... كأنها الدوح لاقى صوب الاعصار وأضحت الكرّج في تفليس خائفة ... إذ جاورت منك جاراً أيما جار غيثاً من الرعب ملأناً وليث شرى ... يظلّ ما بين فياض وزوار

عليك تقوى ملوك الأرض قاطبة ... صحائف المجد في نجد وأغوار والناس والطير أضياف وعائلة ... لله درّك من مقرى ومن قاري بسطت لي يوم حمّام الرّها أملاً ... وأنت حر كريم نجل أحرار كوعد عمّك إذ وافاه عرقلة ... يستنجز الوعد في نظم وأشعار فقال بيت سرى كالشمس في مثله ... مولد من لباب الشعر سيار قل للصلاح معيني عند إعساري ... يا ألف مولاي أين الألف دينار وأنت لا شك من ذاك النجار ولي ... وعد عليك وهذا وقت تذكاري ما انت دون صلاح الدين في كرم ... ولا أنا دون حسان بن عمار فأعطاه الألف دينار. وكان الشهاب من الفضلاء قيّماً بالشعر مقدماً فيه عند أدباء عصره، ومدح خلقاً كثيراً من الملوك والأمراء والأعيان وغيرهم؛ وهو من شعراء الملك النصر صلاح الدين يوسف بن محمد، ومن شعره: بانوا وخل بأبرق الجنان عن ... كثب عرى حيث الحيا الهزرور واعد جمان الطلّ وهو منظم ... عقداً لجيد البانة الممطور وإذا الثنية أشرق وشممت من ... أرجائها ارجا كنشر عبير سل هضبها المنصوب أين حديثه المرفوع من ذيل الصبا المجرور

وقال أيضاً - رحمه الله: حلفت برب مكة والمصلى ... يميناً إنهم قد أوحشوني فديتهم بروحي من أناس ... حفظتهم ولكن ضيعوني وقال أيضاً - رحمه الله: طال في حلبة الصدود جفاكم ... تم إلا روحي خذوها فداكم أسأل الله إن قضيت اشتياقاً ... في هواكم يجني يطيل بقاكم كنت قبل الهوى عزيزاً كريماً ... ما عرفت الهوان لولا هواكم سادتي ما أطلت أسخاط عذّالي ... أبداً إلا طاعة في رضاكم يطلبون السلو مني عنكم ... لا تملي قلبي بكم إن سلاكم أيها المعرضون عني جفاءً ... ما أمرّ الجفا وما أحلاكم طال بيني وبينكم أمد الب ... ين تراني أحيا ليوم لقاكم أنتم بالخلاف مني فما أفق ... رني نحوكم وما أغناكم وقال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى: أنشدني الشهاب لنفسه: يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبي ... عاجلت مني اللمة السوداء لا تعجلن فما الذي جعل الدجى ... من طرقي الليل البهيم ضياء لو أنها يوم الحساب صحيفتي ... ما سر قلبي كونها بيضاء وقال أيضاً رحمه الله: لك ثغر كلؤلؤ في عقيق ... ورضاب كالشهد أو كالرحيق

وجفون كم يمتشق سيفها ... للمغدي بقدك الممشوق تهب عجباً بكل حظ من الحس ... ن جليل وكل معنى دقيق وتفردت بالجمال الذي خ ... لاك مستوحشاً بغير رفيق حملتني عيناك ما لست يوماً ... في هواها لبعضه بمطيق وسقيتني ما تدير كؤوساً ... أنا منها ما عشت غير مفيق يا بخيلاً عليً حتى ينوّم ... مطمع منه في خيال طروق باللحاظ التي بها لم تزل تر ... شق قلبي وبالقوام الرشيق لا يغرن بالغرير إذ تثنى ... فيه أعطاف كل غصن وريق وأثر بجمر خديك وايتر ... هـ وإلا ينشق قلب الشقيق وقال أيضاً رحمه الله: هذا العذول عليكم ما لي وله ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله شرط المحبة أن كل متيم ... صب يطيع هواه ويعصي عذله آاخذتموني حين سار بذكركم ... مثلي ومثلي سره لن يبذله ما أعربت والله عن وجدي بكم ... وصبابتي إلا دموعي المنهملة جزتم مداكم في قطيعتكم فلا ... عطف لعائدكم يرام ولا صله أألومكم في هجركم وصدودكم ... ما هذه في الحب منكم أوله قسماً بكم قد جرت مما اشتكى ... حسبي الدجى فعدمته ما أطوله ليلي كيوم الحشر معنى أن تكف ... لا ليلى ذاك له فذا الصبح له

يا سائلي من بعدهم عن حالتي ... ترك الجواب هذي المسأله حالي إذا حدثت لآلمع ولا ... جمل لا يضاحي من يشكله عندي جوى يدع الصحيح مبلداً ... فاترك مفصله ودونك مجمله يا نار وفي..... عيشهم ... رشأ عليه حشا المحب مقلقله قمر له في القلب بل في الطرف بل ... في النثرة الحصداء أشرف منزله الصدغ منه عقرب ولحاظه ... أسد وخلف الظهر منه سنبله ما أحور الألحاظ منه إذ رني ... وإذا انثنى مقوامه ما أعدله ....في الألحاظ نضرة وجنة ... تسوي النواظر لاست مقبله لله منه مهفهف أجنبته ... عسل الهوى فجنيت منه حنظله لو كنت فيه قبلت نصح عواذلي ... ما أدبرت أيام حظي المقبله وقال أيضاً رحمه الله: لولا بروق بالعقيق تلوح ... تغدو على هضباته وتروح ما ازداد قلبي لوعة كلا ولا ... أدمي خدودي دمعي المسفوح ويح الصبا حتام تذكر في الصبا ... ........منها كالعنبر تفوح خطرت وقد أهدي فيها الشذا ... غار الغوير وبانه والشيح يا أهل ودي يوم كاظمة أما ... عن مثلكم صبري الجميل قبيح سرتم وأسريتم بقلبي مهجة ... أردي بها الهجران والتبريح قلبي يحفظكم لقلبي شاهد ... لا أرتضيه لأنه مجروح

من لي بطيف منكم إن أغمضت ... عيني تعين على الأسى وتريح هدأ الجفون وإنما أين الكرى ... منها وهذا الجسم أين الروح أطمعتموني في الوصال وليس لي ... إلا صدود منكم ونزوح وقال في الشرف بن يلمان: سمعت لابن يلمان وبغلته ... أضحوكة خلتها إحدى قصائده قالوا رمته وداست بالنعال على ... قفاه قلت لهم ذا من عوائده لأنها فعلت في حق والدها ... ما كان يفعله في حق والده وقال أيضاً رحمه الله: قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء حتى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظلماء وعدلت استبقى الشباب تعللاً ... بخضابه فخضبتها سوداء وقال أيضاً في القمار: ينشرح الصدر لمن لاعبني ... والأرض بي ضيقة فروجها كم شوشت شيوشها عقلي وكم ... عهداً ستقتني عامداً بنوجها وقال أيضاً رحمه الله: تتيه على عشاقها كلما رأت ... حديث صفات الحسن عن وجهها يروى

قتاة لها في مذهب الحب حاكم ... لقتل الورى أعطى لواحظها فتوى يرنحها سكر الشباب فتنثني ... بقد إذا قامت يكاد بأن يلوى ولو لم يكن في ثغرها بنت كرمة ... لها أصبحت أعطاف قامتها تشوى وقال أيضاً رحمه الله: لو لم يقضوا بالعراق جموعاً ... ما كان جفني بالمفيض دموعا ساروا وأسروا بالرقاد وسارروا ... عندي جوّى إنساني التوديعا سا سعد ساعدني وخف أن يغتدي ... مثلث بألحاظ الضياء صريعا لاتأمنن بأن تبت بلوعتي ... تشكو أسىً وصبابة وولوعا قل للصبا سراً فإن لها شذى ... يضحى لما يقضى إليه مذيعا يا ذيلها المجرور عن هضب اللوى ... المنصوب هات حديثك المرفوعا كم قد لهوت بمن بكى في منزلي ... حتى بكيت منازلاً وربوعا بمدامع لو أن جعفرها له ... فضل لأنبت في الخدودربيعا وقال أيضاً - رحمه الله: أكحل أو طف أهيف أحمر أحور أغن ألمى رخيم العلس رشيق أسمر ترف مذلل مليح كيس حلو سكر رخص البنان بهيّ المنظر شهيّ المخبر وقد عكس ذلك بعض الأدباء وهو شمس الدين عمر بن المغيزل فقال: أقرع سمج أحدب أعوج أفلج أعوى أعور أغث أشكع شنيع الوق ثقيل بخر قذر مصفر ذلع دعاء نزق أقور ... من الكلام رزى المنظر ردى المخبر وقال الشهاب بن التلعفري: حظ قلبي في هواه الوله ... فعذولي فيه مالي وماله

باسم عن برد منتظم ... لم يفز إلا فتى قبّله حائر الألحاظ يثنى قامة ... قده المائل ما أعدله شاهر صارم جفن لم يزل ... في فؤادي عامداً منصله قا قضيباً حاملاً بدر الدجى ... ربه بالحسن قد كمّله عند بسهم اللحظ عمن كلما ... رشته صاب له مقتله وذي غرام لم يطع فيك الجوى ... والهوى حتى عصى في عذله كلما طالت عليه ليلة ... صاح من فرط جوى في أشغله هذه الليلة لا يوم لها ... مثل يوم الحشر لا ليل له وكذا كل كثيب لم يزل ... ليله آخره أوله حصرك الناحل من أضنائه ... بل خدعك المرسل من بليله والذي خصّك بالحسن الذي ... آخذاً غيرك ما سربله ما عرفت النوم مذ فارقتني ... نور وجه منك ما أجمله كم أداري فيك لوامي ومن ... يعذل المشتاق ما أجهله وقال أيضاً - رحمه الله: لو لم تدر بيمينه الأقداح ... دارت بمقلته علينا الراح قمرا لنا من حسن نبت عذاره ... وخدوده الريحان والتفاح

ياجوهري اللفظ لا ومضاعف ... من كسر جفنك ما القلوب صحاح عطفاً على ذي لوعة شبوبه ... متقاصر عن شرحها الإيضاح قلبي بتكملة الغرام مفصل ... وأظن ليس لحاله إصلاح لجمالك المنصور بل لجبينك ... الهادي فدا حفنى السفاح شقّت بك الأجسام إلا أنها ... سعدت براحة عشقك الأرواح وقال أيضاً - رحمه الله: أراه يوري حين يسأل عن دمى ... وفي وجنتيه منه آثار عندم كثير معاني الحسن قلّ نظيره ... فها....فيه بتوأم له وهو مملوك تحكّم مالك ... كما هو ظبي فيه صولة ضيغم يلوح كبدر ساطع النور مشرق ... بدا في دجى ليل من السعد مظلم بصدغ يصان الخد منه بعقرب ... وفرع يزان القدّ منه بأرقم فلا طرف إلا في نعيم وجنة ... ولا قلب إلا في لظى وجهنم حوى فمه دريّ الكلام ومبسم ... هما برداء المستهام المتيم فينطق عن لفظ كدرّ مبدد ... ويبسم عن ثغر كدرّ منظم بريش لما قد أوترت من قسيها ... حواجبه من جفنه أي أسهم ويضرب من لحظ بسيف مجرد ... ويطعن عن قدّ برمح ملهذم ويسطو بآلات الجمال محارباً ... وما ثم شيء غير مقتل مغرم وقال أيضاً - رحمه الله: أحب الصالحين ولست منهم ... رجاء أن أنال بهم شفاعة

وابغض من بهم أثر المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعه وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: إذا أمسى فراشي من تراب ... وبتّ مجاور الرب الرحيم فهنوني أخلائي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم وله أيضاً - رحمه الله تعالى: جاءت لوداعي وهي تشوى القدّ ... تبكي بجفون سيلها كالمدّ مثلي لكن دمعها منصبغ ... بالخدّ ودمعي صابغ للخد وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: لو بات بما أحبه مكترثاً ... ما خان ولا كان لعهدي نكثا يبدو فيقول كل من يبصره ... سبحانك ما خلقت هذا عبثا وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: من قال عني بأني ... يوم القيامة أخسر وإنني بذنوبي ... إلى جهنم أحشر مر يا جهول ودعني ... أنا بربي أخبر محمد بن أبي بكر أبو عبد الله شرف الدين الأردويلي الصوفي الشيخ الصالح العارف المزني. كان من العلماء العارفين، كثير الزهد والعبادة والذكر، لازمه جماعة من الناس استغنوا به، وكان مقيماً بخانكاه الشميساطي بدمشق مدة إلى حين وفاته، وصلى عليه بجامع دمشق في بكرة نهار الخميس رابع المحرم، وأخرجت جنازته إلى ميدان الخصيّ ظاهر دمشق،

فدفن إلى جانب شيخه برهان الدين الموصلي المعروف بابن الحلوانية - رحمه الله - مجاوراً لقبر صهيب الرومي رضي الله عنه - على ما يقال وقد نيف على السبعين من العمر - رحمه الله تعالى ورضي عنه. وكان صاحب خلوات ومجاهدات ورياضات تأدب به جماعة وعادت عليهم بركته - رحمه الله تعالى. مرخسيا النصراني - لعنه الله - كان أثيراً عند أبغا ملك التتار، وله عليه دالة كثيرة وهو متمكن منه، فكان يحمله على المسلمين بما يسيء بهم عنده ويرغبه بهم ويرغبه في الايقاع بهم حتى ضاقوا به ذرعاً خصوصاً أهل الروم ومعين الدين البرواناة. فلما قوي جأش معين الدين كتب إلى قطب الدين محمود أخي أتابك ختن البرواناة، وكان نائباً عن أخيه بأرزنجان، يأمره بقتل مرخسيا القسيس فقتله وولده وشيعة من أهله واثنين وثلاثين نفراً من حاشيته. وكان هذا مرخسيا كبير العصبية على المسلمين، عضداً لأهل ملّته، محرضاً لملوك النصرانية المتأخمين لبلاد الروم والمجاورين لها على موافقة التتر في قصد بلاد المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، فتقدم البرواناة بقتله مخاطراً، فقتل في الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم، وكان قتله حسنة البرواناة وفعلة جميلة. مظفر بن رضوان بن أبي الفضل أبو منصور بدر الدين المنبجي ناب عن عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله - بعد وفاة تاج الدين النخيلي واستمر في النيابة إلى حين وفاته، وكان مدرس المدرسة العينية بدمشق.

وتوفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الخميس ثاني ذي القعدة بمدرسته، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين. وكان عنده ديانة كثيرة وتعبد، ولين جانب، وفور عقل، وحسن تأتي وتواضع، ومحبة للفقراء والصالحين، وملازمة الفرائض في الجماعات - رحمه الله تعالى. نوفل الزبيدي الملقب ناصر الدين أحد أمراء العرب المشهورين بالشام. وهو الذي أخذ الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله تعالى - يوم المصاف مع المصريين في سنة ثمان وأربعين وستمائة، ونجا به إلى دمشق فعرف له ذلك، وكان يتولى التحجب للعرب، ولم يزل وجيهاً في الدول، وله حرمة ومكانة لى حين وفاته، وصلى عليه يوم السبت ثالث عشرين شعبان، وقد نيف على ستين سنة - رحمه الله تعالى. ولادمر بن عبد الله الأمير عز الدين إيغان الركني المعروف بسم الموت. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم ومقدمهم وشجعانهم، وله المكانة العظيمة والحرمة الوافرة والكلمة النافذة في الدولة الظاهرية، يندبه في المهمات ويعتمد عليه من تقدمة العساكر وقود الجيش إلى أن يقيم عليه، فحبسه مضيقاً عليه وبقي في السجن مدة إلى أن أدركته منيته في محبسه بقلعة الجبل ظاهر القاهرة، فتوفي إلى رحمة الله تعالى، وسلم إلى أهله ميتاً يوم الخميس ثامن عشر جمادى الآخرة، فغسل وكفن وصلى عليه ودفن من يومه بمقابر باب النصر ظاهر القاهرة، وهو في عشر الخمسين وكان من أبطال المسلمين ومشاهير فرسانهم - رحمه الله تعالى.

يحيى بن حاتم بن حمدان الملقب بالزكي. هو من أهل بعلبك، وعمر حتى قارب المائة سنة أو نيف عليها، وكان يزعم أنه من ذرية سيف الدولة بن حمدان الأمير المشهور، وتوفي يوم الخميس سابع ربيع الآخر ببعلبك ودفن بباب دمشق ظاهر مدينة بعلبك - رحمه الله تعالى. يمن بن عبد الله أبو الفضل الحبشي الخادم العزيزي المنعوت بالقرش. كان رجلاً خيّراً، أديباً عدلاً، مقبول القول، صادق اللهجة؛ حج واستوطن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى مشيخة الخدّام بالحرم الشريف النبوي صلوات الله عليه وسلامه على ساكنه، وتوفي بالمدينة الشريفة النبوية في تاسع عشر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين - رحمه الله. وسمع من أبي محمد عبد الوهاب بن رواج وغيره، وحدّث، والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك. يوسف بن صدقة بن المبارك بن سعيد أبو المظفر تاج الدين البغدادي التاجر المشهور، مولده بالقاهرة في الثامن والعشرين من صفر سنة تسعين وخمس مائة. سمع ببغداد من جماعة وأجاز له جماعة من مشايخ نيسابور وغيرها وحدّث، وكانت وفاته يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة بالقاهرة ودفن يوم السبت بالقرافة الصغرى بسفح المقطم وكان من أرباب البيوت المشهورة بالعراق وأعيان التجار المتمولين مشهوراً بالثروة والوجاه والعدالة، واقعد في آخر عمره نحو ثمان سنة إلى حين وفاته - رحمه الله تعالى.

السنة السادسة والسبعون وست مائة

حكي أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله - قال له بدمشق: يا تاج الدين بلغني أنك تقدر على ست مائة ألف دينار، فقال: لا وحياة رأسك ما أقدر على هذا. قال: فبحياتي على كم تقدر؟ قال: وحياتك أقدر على على أربع مائة ألف دينار. وكان له ببغداد أملاك جليلة وأموال ومتاجر وعنده شح شديد بالنسبة إلى كثرة أمواله ولم يشتهر عنه أنه فعل شيئاً يتقرب به أرباب الدنيا إلى الله تعالى من وقف أو صدقة ولا أوصى بذلك بعد وفاته - رحمه الله وإيانا، وتمزقت امواله وذهبت شر مذهب. محمد بن أبي الحسن بن البعلبكي ليث الدولة مقدم بعلبك. كان رجلاً شجاعاً مقداماٌ خبيراً بالحروب وتقدمة الرجال صبوراً فيها، صادق اللهجة كثير الصوم، كان صومه أكثر من فطره، عنده ديانة وتعبد وتشيع. توفي ببعلبك ليلة الأربعاء مستهل صفر، ودفن يوم الأربعاء ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك، وهو في عشر الثمانين - رحمه الله، وكان أمير عشرين فارساً، وإذا حضر في حرب ترجّل وقاتل راجلاً. لم يكن في وقته من يضاهيه في الرجلة والشجاعة وكرم الطباع وقوة النفس والصبر على المكاره. السنة السادسة والسبعون وست مائة دخلت هذه السنة يوم الجمعة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا صاحب تونس فإنه توفي وقد ذكرناه، وولى بعده ولده أبو زكريا يحيى.

متجددات الأحوال

متجددات الأحوال في يوم الخميس سابع المحرم دخل الملك الظاهر دمشق بعساكره، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر الأبلق جوار الميدان الأخضر، وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا إلى مكان الوقعة فجمع الأمراء، وضرب مشورة فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وبلقائه حيث كان، فتقدم بضرب الدهليز على القصير. وأثناء هذا العزم وصل رجل من التركمان وأخبر أن أبغا عاد إلى بلاده هارباً خائفاً، ثم وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر، وأخبر بمثل ذلك فتقدم الملك الظاهر بردّ الدهليز. وفي يوم الجمعة منتصف شهر المحرم ابتدأ المرض بالملك الظاهر وتوفي وسنذكره - إن شاء الله تعالى. وفي سادس عشر صفر وصل إلى القاهرة رسول من جهة الفنش من بلاد المغرب إلى الملك الظاهر ومعه تقدمة من بلاد المغرب حسنة وشق بها القاهرة. وفي يوم الخميس سادس عشر منه وصل إلى القاهرة جميع العساكر من الشام ومقدمهم الأمير بدر الدين الخزندار، وهم يخفون موت الملك الظاهر في الصورة الظاهرة، وفي صدر الموكب مكان يسير السلطام تحت العصائب محفة وراءها السلحدارية والجمدارية وغيرهم من أرباب وظائف الخدمة على العادة توهم أن السلطان بها مرض، فلما وصلوا قلعة الجبل ترجّل الأمراء والعسكر بين يدي المحفة كما جرت العادة، وكانوا يعتمدون

ذلك في طريقهم من حين خروجهم من دمشق، وصعدوا بالمحفة إلى القلعة من باب السر، وعند دخولها اجتمع الأمير بدر الدين الخزندار بالملك السعيد، وكان لم يركب لتلقيهم، وقبّل الأرض، ورمى عمامته وصرخ وقام العزاء في جميع القلعة، ولوقتهم جمع الأمراء والمقدمين والجند، وحلّفوهم بالإيوان المجاور بجامع القلعة للملك السعيد ناصر الدين أبي المعالي محمد بركة خان وأثبت له الأمر على هذه الصورة. وفي يوم الجمعة التالية لذلك، خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده صلاة الغائب. وفي ليلة الأحد سادس ربيع الأول توفي الأمير بدر الدين بيليك الخزندار - رحمه الله - وسنذكره - إن شاء الله تعالى - وباشر نيابة السلطنة عوضه الأمير آق سنقر الفارقاني. وفي يوم الثلاثاء ثامنه كسر الخليج الكبير بالقاهرة، وقد غلق ماء السلطان على العادة وهو ستة عشر ذراعاً بالقاسمي. وفي يوم الأربعاء سادس عشره ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة والده، وسار إلى تحت الجبل الأحمر وهو أول ركوبه بعد قدوم العساكر وتحليفهم ولم يشق المدينة وبين يديه الأمراء والمقدمون والأعيان بالخلع وسرّ الناس به سروراً كثيراً، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة فإن مولده سنة سبع وخمسين وست مائة ببلبيس. وفي يوم الجمعة خامس وعشرين منه قبض الملك السعيد على الأمير

شمس الدين سنقر وبدر الدين بيسرى، وحبسا بقلعة الجبل. وفي يوم الخميس سادس عشر ربيع الآخر وصل رسل أولاد بركة وأنزلوا بالميدان اللوق، وكان قدومهم من الاسكندرية فإنهم جعلوا طريقهم البحر من مقرّ ملكهم وهو بر القفجاق. وفي يوم السبت ثامن عشره قبض الملك السعيد على الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني، ومعه جماعة من الأمراء، وحبسوا بقلعة الجبل، ورتّب عوضه في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين سنقر الألفي الصغير. وفي يوم الأحد تاسع عشره أفرج الملك السعيد عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وخلععليهما، وأعادهما إلى مكانتهما في الدولة. وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى انتهت زيادة النيل إلى ثمان أصابع من الذراع التاسع عشر. وفي يوم الاثنين رابعه فتحت المدرسة التي أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالقاهرة بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وعلى شيخ يسمع الحديث، وذكر الدرس بها في ذلك النهار. وفي يوم الثلاثاء خامسه عقد بقلعة الجبل بجامعها عقد الأمير المستمسك بالله أبي المعالي محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين على ابنة الخليفة المنتصر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام الظاهر ابن الإمام الناصر، وحضر والده والملك السعيد والقضاة ووجوه المملكة وأعيان الدولة.

وفي يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قبض الملك السعيد على خاله بدر الدين محمد بن حسام الدين بركة خان وحبسه بقلعة الجبل لأمر نقمه عليه. وفي ليلة الثلاثاء خامس وعشرين منه أفرج عنه وخلع عليه وأعاده إلى منزلته المعروفة. وفي ليلة الجمعة خامس شهر رجب نقل تابوت الملك الظاهر من قلعة دمشق إلى التربة التي أنشأها ولده الملك السعيد بدمشق داخل باب الفرج قبالة المدرسة العادلية الكبيرة، وهي دار الشريف العقيقي كانت انتقلت إلى ملك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الأتابك - رحمه الله - فاشتريت من ورثته وهدمت وبني موضع بابها قبة الدفن لها شبابيك إلى الطريق، وإلى داخل المدرسة وجعل بقية الدار مدرسة على فريقين شافعية وحنفية، وكان دفنه بها في النصف من الليل، ولم يحضره سوى الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، ومن الخواص دون العشرة. وفي يوم الخميس سادس عشر رمضان طيف بكسوة الكعبة الشريفة بالقاهرة ومصر وأمامها القضاة والولاة وغيرهم. وفي هذا الشهر طلعت سحابة عظيمة بصفد صدر منها برق عظيم خارق للعادة، وسطع منها لسان كالنار وسمع صوت رعدها على منارة جامعها صاعقة شقها من رأسها إلى أسفلها شقاً تدخل فيه الكف. وفي يوم السبت سابع ذي القعدة برز الملك السعيد بالعسكر إلى

مسجد التين ظاهر القاهرة. وفي يوم السبت حادي وعشرين منه انتقل بخواصّه إلى الميدان الذي أنشأه بين مصر والقاهرة، ودخلت العساكر إلىمنازلهم وبطلت الحركة. وفي يوم الأربعاء ثامن عشره رفعت يد القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد عرف بابن عين الدولة عن الحكم والقضاء بمدينة مصر والوجه القبلي، وباشر ذلك القاضي تقي الدين محمد بن زين الدين مضافاً إلى القاهرة والوجه البحري. وفي ذي الحجة كتب تقليد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - من الملك السعيد - رحمه الله - بقضاء دمشق وإعمالها من العريش إلى سلمية على ما كان عليه ثم حضر عند السلطان الملك السعيد لابساً الخلعة وقبّل يده وشافهه الملك السعيد بالولاية، وخرج في سابع وعشرين ذي الحجة متوجهاً إلى الشام المحروس. وفيها توفي إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس أبو إسحاق كمال الدين الاسكندري المقرئ. كان عارفاً بالقراآت واشتغل عليه خلق كثير بالقرآن الكريم، وولي نظر بيت المال بدمشق مدة سنين، ونظر الجيش مضافاً إلى نظر بيت المال في بعض المدة، وكان مشهوراً بالأمانة، وحسن السيرة، كثير الديانة والخير والتواضع؛ سمع الشيخ تاج الدين أبا اليمن الكندي وغيره وحدّث. وكانت وفاته بدمشق في تاسع صفر وقيل ثامن عشره، ودفن يوم الخميس ومولده

بثغر الاسكندرية سنة ست وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى. أقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين المحمدي الصالحي النجمي. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وذوي الحرمة الوافرة منهم. وكان الملك الظاهر حبسه لأمر نقمه عليه. وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه وأعاده إلى مكانته، وكان عديم الشر. وتوفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث ربيع الأول ودفن من الغد بتربته بالقرافة الصغرى، وقد ناهز سبعين سنة من العمر، وهو أول من قدم دمشق بعد كسرة التتار بعين جالوت في سنة ثمان وخمسين وهو الذي كان الملك الظاهر أرسله إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي لما استولى على دمشق عندما تملك الملك الظاهر الديار المصرية - رحمه الله تعالى. إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الموصلي الظاهري. كان نائب السلطنة بحمص ثم نقله الملك الظاهر إلى حصن الأكراد وما جمع إليه، وجعله نائب السلطنة هناك، وكان له نهضة وكفاية وصرامة وذكاء ومعرفة، وكان عنده تشيع. قتل بحصن الأكراد في داره بالربض غيلة في ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب - رحمه الله. واختلف في سبب قتله، فقيل: إن السلطان جهّز عليه من قتله، وقيل: قفز عليه بعض الإسماعيلية، وقيل غير ذلك، وطل دمه وهو في عشر الخمسين لم يستكملها. إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الدمياطي الصالحي النجمي أحد الأمراء الأكابر المقدمين على الجيوش، قديم الهجرة بينهم في علوّ المنزلة وسموّ المكانة. وكان الملك الظاهر حبسه مدة زمانية ثم أفرج عنه وأعاده

إلى امريته، وتوفي بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان، ودفن بتربته التي أنشأها بين القاهرة ومصر بالقبة المجاورة بحوض السبيل المعروف به وكان قد نيف على السبعين سنة رحمه الله. ايدمر بن عبد الله الأمير عز الدين العلائي. كان نائب السلطنة بقلعة صفد، وكان الملك الظاهر يحترمه ويثق به، ويسكن إليه وإذا قلق من المقام بصفد لا يقبله. فلما توفي الملك الظاهر - رحمه الله - في أول هذه السنة جرى بينه وبين النواب من صفد مقاولة أوجب أنه طلب دستوراً للحضور إلى الباب السلطاني لمصالح ينهيها شفاهاً، ففسح له فتوجه إلى الديار المصرية وأقام بها مدة يسيرة، وأدركته منيته هناك ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب، ودفن يوم الأربعاء بالقرافة الصغرى والفقرل. وهو أخو الأمير علاء الدين ايدكين الصالحي العمادي وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى. بهادر الأمير شمس الدين المعروف بابن صاحب شميساط، وكان هو صاحبها، قدم مهاجراً إلى الملك الظاهر - رحمه الله - قبل وفاته بثلاث سنين فأكرمه وأمّره وأقام في خدمته إلىان أدركته منيته بالقاهرة ليلة الأحد العشرين من شعبان، ودفن من الغد خارج باب النصر بتربته التي أنشأها وكان قد نيف على أربعين سنة - رحمه الله تعالى. بيبرس بن عبد الله أبو الفتح ركن الدين السلطان الملك الظاهر الصالحي. قال عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم بن شداد - رحمه الله -:

أخبرني الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي - رحمه الله تعالى - أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وست مائة تقريباً، وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وست مائة بلغهم ذلك كاتبوا انرقان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار، فأجابهم إلى ذلك، وأنزلهم وادياً بين جبلين له فوهة إلى البحر، وأخرى إلى البر، وكان عبورهم إليه سنة أربعين وست مائة. فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم وشنّ الغارة عليهم، وقتل وسبى، وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديراً فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس، فاجتمعت به في سيواس، ثم افترقنا واجتمعنا في حلب بخان ابن فليح، ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع إلى الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه. وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وست مائة، فقدمه على طائفة من الجمدارية. فلما مات الملك الصالح نجم الدين، وملك بعده ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على عز الدين التركماني وولوه الأتابكية، ثم اشتغل وقتل فارس الدين أقطاي الجمدار، ركب الملك الظاهر والبحرية وقصدوا قلعة الجبل. فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للتركماني مهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وهم الملك الظاهر ركن الدين،

وسيف الدين بلبان الرشيدي، وعز الدين آيدمر السيفي، وشمس الدين سنقر الرومي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى الشمسي، وسيف الدين قلاوون الألفي، وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم. فلما شارفوا دمشق سيّر إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فحلف ودخلوا دمشق في العشر الآخر من شهر رمضان فأكرمهم الملك الناصر وأطلق للملك الظاهر ثلاثين ألف درهم، وثلاث قطر بغال، وثلاث قطر جمال وخيلاً وملبوساً، وفرّق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم، وكتب إليه الملك المعز يحذّره منهم ويغريه بهم، فلم يصغ إليه. وكان عيّن الملك الظاهر إقطاعاً بحلب فالتمس من الملك الظاهر أن يعوضه عن بعض ما كان له بحلب من الاقطاع بحسين وزرعين فأجابه إلى ذلك فتوجه ثم استغرق الملك الناصر وتوجه بمن معه ومن تبعه من حشداشيته وأصحابه إلى الكرك، فجهز صاحبها الملك المغيث عسكره مع الملك الظاهر نحو مصر، وعدة من معه ست مائة فارس، وخرج من عسكر مصر لملتقاه، فأراد كبسهم، فوجدهم على أهبة والتف عليه وعلى من معه عسكر مصر، فلم ينج منهم إلا الملك الظاهر، والأمير بدر الدين بيليك الخزندار؛ وأسر سيف الدين بلبان الرشيدي. وعاد الملك الظاهر إلى الكرك، فتواترت عليه كتب المصريين يحرّضونه على قصد الديار المصرية وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر،

وخرج عسكر مصر مع الأمير سيف الدين قطز والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب. فلما وصل المغيث والظاهر إلى غزة انعزل إليهم من عسكر مصر عز الدين إيبك الرومي، وسيف الدين بلبان الكافري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعز الدين إيبك الجواشي، وبدر دبن خان بغدى، وعز الدين إيبك الحموي، وجمال الدين هارون القيمري، واجتمعوا بالظاهر والمغيث بغزة، فقويت شوكتهم وتوجها إلى الصالحية، ولقوا عسكرمصر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، فاستظهر عسكرهما أولاً ثم عادت الكسرة عليه، فانكسر. وهرب الملك المغيث ولحقه الملك الظاهر، وأسر عز الدين إيبك الرومي، وركن الدين منكورس الصيرفي، وسيف الدين بلبان الكافري، وعز الدين إيبك الحموي، وبدر الدين بلغان الأشرفي، وجمال الدين هارون القيمري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعلاء الدين ايدغدي الاسكندراني، وبدر الدين بن خان بغدى، وبدر الدين بيليك الخزندار الظاهري. فضرب أعناقهم صبراً خلا الخزندار الجوكندار شفع فيه، وخيره بين المقام والذهاب، فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق. ثم إن المغيث حصل بينه وبين الملك الظاهر وحشة أوجبت مفارقته له وعوده إلى الملك الناصر، بعد أن استحلفه على أن يقطعه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وحسين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الملك الناصر في العشر الأول من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر، وهم: بيسرى الشمسي، والتامش

السعدي، وطيبرس الوزيري، وأقوش الرومي الدوادار، وكشتغدي الشمسي، ولاجين الدرفيل، وايدغمش الحلبي، وكتشغدى المشرقي، وآيبك الشيخي، وبيبرس خاص ترك الصغير، وبلبان المهراني، وسنجر الاسعردي، وسنجر البهماني، وألبلان الناصري، وبلتى الخوارزمي، وسيف الدين طمان، وآيبك العلائي، ولاجين الشقيري، وبلبان الأقسيشي، وعلم الدين سلطان الألدكزى فأكرمهم ووفى لهم. فلما قبض الملك المظفر قطز على ابن أستاذه، حرض الملك الظاهر للملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه، فرغب إليه أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم غيره ليتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتر من العبور إلى الشام، فلم يمكن الصالح لباطن كان له مع التتر. وفي سنة ثمان وخمسين فارق الملك الظاهر الملك الناصر، وقصد الشهرزورية وتزوج منهم، ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من استحلفه له، ودخل القاهرة يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب الملك المظفر للقائه، وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب بخاصته. ولما خرج الملك المظفر للقاء التتر سيّر الملك الظاهر في عسكر ليتجسس أخبارهم، فكان أول من وقعت عينه عليهم، وناوشهم القتال. فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم يقتص آثارهم، ويقتل من وجد منهم إلى حمص، ثم عاد فوافى الملك المظفر بدمشق. فلما توجه

الملك المظفر إلى جهة الديار المصرية، اتفق الملك الظاهر مع سيف الدين الرشيدي، وسيف الدين بهادر المعزى، وبدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزى، وسيف الدين بيدغان الركني، وسيف الدين بلبان الهاروني وعلاء الدين آنص الأصبهاني على قتل الملك المظفر - رحمه الله؛ فقتلوه على الصورة المشهورة ثم ساروا إلى الدهليز، فتقدم الأمير فارس الدين الأتابك، فبايع الملك الظاهر، وحلف له، ثم الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم وركب ومعه الأتابك، وبيسرى، وقلاوون، والخزندار، وجماعة من خواصه فدخل قلعة الجبل، وفي يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة وكتب إلى جميع الولاة بالديار المصرية يعرفهم بذلك، وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص، وإلى الملك المنصور صاحب حماة، وإلى الأمير مظفر الدين صاحب صهيون، وإلى الإسماعيلية، وإلى علاء الدين، وصاحب الموصل، ونائب السلطنة بحلب، وإلى من في بلاد الشام من الأعيان يعرفهم بما جرى. ثم أفرج عمن في الحبوس من أصحاب الجرائم وأقرّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة، وتقدم بالافراج عن الأحبار وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء، وخلع عليهم، وسير الأمير جمال الدين أقوش المحمدي بتواقيع الأمير علم الدين الحلبي، فوجدوه قد تسلطن بدمشق فشرع الملك الظاهر في استفساد من عنده فخرجوا عليه ونزعوه عن السلطنة، وتوجه إلى بعلبك فسيروا من حضره وتوجه به إلى الديار المصرية، وصفا الشام للملك الظاهر بأسره في سنة تسع وخمسين

وقد ذكرنا في سياق السنين مما تقدم جملاً من أخباره وأحواله وفتوحاته وغير ذلك فأغنى عن إعادته. ولما كان يوم الخميس رابع عشر المحرم من هذ السنة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرق القمّز وبات على هذه الحال. فلما كان يوم الجمعة خامس عشره وجد في نفسه فتوراً وتوعكاً فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين سنقر الألفي السلحدار فأشار عليه بالقيء فاستدعاه فاستعصى. فلما كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته، والألم مع ذلك يقوى. وعند الغروب عاد إلى الجوسق. فلما أصبح اشتكى حرارة في باطنه، فصنع له بعض خواصه دواء، ولم يكن عن رأي الطبيب، فلم ينجع وتضاعف ألمه، فأحضرالأطباء، فأنكروا استعماله الدواء، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل، فسقوه فلم ينجع، فحركوه بدواء آخر كان سبب الإفراط في الإسهال، ودفع دماً محتقاً، وضعفت قواه، فتخيل خواصه إن كبده تقطع، وإن ذلك عن سم سقيه، وخولج بالجوهر، وذلك يوم عاشره. ثم جهده المرض إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين من المحرم. فاتفق رأي الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلا يشعر العامة بوفاته، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج، ومن هو خارج من الدخول. فلما كان آخر الليل حمله من كبراء الأمراء سيف الدين قلاوون الألفي. وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وبدر الدين الخزندار، وعز الدين الأفرم

وعز الدين الحموي، وشمس الدين سنقر الألفي المظفري، وعلم الدين سنجر الحموي، وأبو خرص، وأكابر خواصه؛ وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتلقينه مهتاره الشجاع عنبر، والفقيه كمال الدين الاسكندري المعروف بابن المنبجي، والأمير عز الدين الأفرم. ثم جعل في تابوت، وغلّق في بيت من بيوت البحرية بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتفاق على موضع دفنه. ثم كتب الأمير بدر الدين الخزندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده، وسيّرها على يد بدر الدين بكتوت الجوكنداري الحموي وعلاء الدين ايدغمش الحكيمي الجاشنكير. فلما وصلا، وأوصلا المطالعة، خلع عليهما وأعطى كل واحد منهما خمسين ألف درهم، على أن ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصرية. ولما كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئاً من زي الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السابلة قريباً من داريا، وأن يبني عليه هناك، فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور فابتاع دار العقيقي بثمانية وأربعين ألف درهم نقرة وأن يغير معالمها، وتبنى مدرسة للشافعية والحنفية ويبنى بها قبة، شاهقة يكون بها الضريح، ويعمل دار الحديث أيضاً. فلما تم بناء القبة ومعظم المدرسة ودار الحديث، جهز الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص والطواشي صفي الدين جوهر الهندي إلى دمشق لدفن

والده. فلما وصلاها اجتمعا مع الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وعرّفاه المرسوم فبادر إليه وحمل الملك الظاهر - رحمه الله تعالى - من القلعة إلى التربة ليلاً على أعناق الرجال، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد من هذه السنة. وفي سادس عشر ذي القعدة وقف الملك السعيد وهو عز الدين محمد بن شداد بإذنه وتوكيله وحضوره المدرسة المذكورة والقبة مدفناً وباقيها مسجداً لله تعالى برسم الصلوات وقراءة القرآن العزيز والاعتكاف، وباقي الدار مدرستين إحداهما شرقي الدار هي للشافعية، والأخرى قبليّ الدار إلى جانب القبة وهي للحنفية، دار حديث قبلي الإيوان المختص بالشافعية ووقف على ذلك جميع قرية الضرمان من شغل بانياس، وجميع قرية أم نزع من الحيدور، وبهمين من بيت رامة من الغور، ومزرعيتها الذراعة وشويهة، وتسعة عشر قيراطاً ونصف قيراط من قرية الأشرفية من الغوطة، وبساتين ابن سلام الثلاثة وبستان الستة وطاحونة والحمام على الشرف الأعلى الشمالي وكرم طاعة من بلد بانياس، وخان بنت جزوخان بحكر الفهادين، ورتب في التربة إماماً شافعياً، وجعل له في كل شهر ستين درهماً وزمّامين من عتقاء الملك الظاهر ناظرين في مصالح التربة، وحفظ ما بها من الآلات لكل واحد منهما في الشهر ستين درهماً، ومؤذناً له في الشهر عشرون درهماً وستة عشر مقرئاً لكل واحد منهم خمسة وعشرون درهماً، منهم نفسان يزاد كل واحد منهما عشرة دراهم. ويشتري في كل شهر شمع وزيت، وما تحتاج

إليه التربة من الفرش والقناديل وآلات الوقيد بمبلغ ثمانين درهماً، ويرتب في كل مدرساً له في الشهر مائة وخمسون درهماً، ويعيدان لكل واحد منهما أربعون درهماً وثلاثين فقيهاً لأعلاهم عشرين درهماً، ولأدناهم عشرة دراهم وأن يصرف فيما تدعو الحاجة إليه من أجرة ساقي وإصلاح قنى وغير ذلك، وثمن زيت ومسارج وقناديل، وآلة الوقيد بالمدرستين في الشهر أربعون درهماً. وشاهداً ومشارفاً وغلاماً وجابياً وغيرهم لكل منهم ما يراه الناظر والنظر للملك السعيد مدة حياته ثم لولده وولد ولده. وفي جمادى الآخرة من سنة سبع وسبعين وست مائة، سيّر الملك برسم تتمة العمارة ومصالح الوقف اثني عشر ألف دينار. وفي يوم السبت ثالث ذي القعدة سنة سبع وسبعين وقف عماد الدين محمد الشيرازي بطريق الوكالة عن الملك السعيد جميع أحد عشر سهماً وربع سهم، وثمن سهم من قرية الطرة من ضياع الجبيل من إقليم اذرعات من عمل دمشق إلى المدرستين والتربة، بعد أن انتقلت الحصة إلى ملك الملك السعيد على ثماني قرى مضافين إلى القرى الست عشرة، وتقر لكل منهم خمس وعشرون ويزاد لكل مدرّس رطلان خبزاً مثلثاً بالدمشقي، ولكل خادم من الخادمين. ولكل نفر بالتربة والفقهاء والمؤذنين والفراشين والبوابين في كل يوم ثلثي رطل خبزاً أسوة فراشي التربة، ويصرف إلى مباشر الأوقاف والشاهد والمشارف لكل واحد رطلاً خبز، وأشهد الحكام على

نفوسهم وسجلوا بثبوت ذلك. في يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة سنة سبع وسبعين شرع في عمل أعزية الملك الظاهر بالديار المصرية وتقرر أن يكون أحد عشر يوماً في أحد عشر موضعاً نصبت تربا الخيمة العظيمة السلطانية، وفرشت بالبسط الجليلة، وصنعت الأطعمة الفاخرة، واجتمع عليها الخواص والعوام. وحمل منها إلى الربط والزوايا. فإذا كانت ليلة اليوم الذي عمل فيه المهم حضر القراء والوعاظ، فانقضى الليل بين قراءة ووصل إلى صلاة الفجر، واول هذا الجمع بالبقعة المعروفة بالبقعة بجوار مسجد يعرف الأندلس، والثاني بالحوش الظاهري، والثالث بالمدرسة المجاورة لقبة الشافعي رحمه الله تعالى، والرابع بجامع مصر، والخامس بجامع ابن طولون، والسادس الجامع الظاهري بالحسينية، والسابع بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة، والثامن بمدرسة الملك الصالح، والتاسع بدار الحديث الكاملية، والعاشر بالخانكاة برحبة العيد، والحادي عشر بجامع الحاكم وهو يوم الأحد. والثاني من شهر ربيع الأول. وأنشد الشعراء المراثي وخلع على جماعة من الوعاظ وغيرهم ومن لم يخلع عليه أعطاه جائزة حسنة. وله أولاده وأزواجه كان له من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدولة محمد بركة كان مولده بالعشر من ضواحي مصر في صفر سنة ثمان وخمسين وست مائة، وأمه بنت حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي،

والملك نجم الدين خضر أمه أم ولد، والملك بدر الدين سلامش، وولد له من البنات سبع من بنت سيف الدين دماجي التتري. وأما زوجاته فأم الملك السعيد وهي بنت بركة خان، وبنت الأمير سيف الدين نوكاش التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين دماجي التتري، وشهروزية تزوجها لما قدم غزة وخالف شهروزية، فلما ملك الديار المصرية طلقها. وأما وزراؤه تولى السلطنة واستمر زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، ثم صرفه واستوزر بهاء الدين علي بن محمد بن سليم وفي وزارة الصحبة ولده فخر الدين أبا عبد الله محمد إلى أن توفي في شعبان سنة ثمان وستين، فرّتب مكانه ولده الصاحب تاج الدين محمد وزر له في الصحبة أيضاً أخوه الصاحب زين الدين أحمد ووزر له الصاحب عز الدين محمد بن الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين نيابة عن جده. وكان له أربعة آلاف مملوك منهم أمراء أسفهسلارية، ومقادره، وخاصكية داخل الدور، وخاصكية خارجها، وجمدارية. وسلاح دارية وكتابية. ومن عفته وشرف نفسه وعدله أن الملك الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه في الحج. وفي ضمن الكتاب شهادة عليه أن جميع

ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر فلم يأذن له في تلك السنة، واتفق أنه مات بعد ذلك، فتسلم الحصون التي كانت بيده، ومكن ورثته من جميع ما تركه من الأثاث والملك، ولم يعرج على ما أشهد به على نفسه. ومنها أن شعراء بانياس وهي إقليم يشتمل على قرى كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد فلما فتحها أفتاه بعض فقهاء الحنفية باستحقاق الشعراء فلم يرجع إلى الفتيا، وتقدم أمره أن من كان فيها ملك يتسلمه، ولم يكلفهم بينة فعادت إلى أربابها وعمّرت. ومنها أن بستان سيف الإسلام بين مصر والقاهرة، وكان ملكاً لشمس الملوك أحمد بن الملك الأعز شرف الدين يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى. فتوفي المذكور بآمد، وبقي البستان في يد ولده شهاب الدين غازي. فلما ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية أخرج المذكور من مصر، واحتاط على البستان، فلم يزل تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفع ولد شهاب الدين غازي قصة أتهيأ فيها الحال، فأمر بحملها على الشرع فثبت ملك المتوفي بشهادة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وبهاء الدين بن ملكشوا والطواشي صفي الدين جوهر النوبي، وثبتت الوفاة، وحضر الورثة بشهادة كمال الدين عمر بن العديم، وعز الدين محمد بن شداد فسلم لهما البستان، ثم ابتاعه منهما بمائة وثلاثين درهم.

ومنها أنها بنت الملك المعز صاحب حلب كان عقد عليها الملك السعيد نجم الدين أيل غزي صاحب ماردين على صداق مبلغه ثلاثون ألف دينار مصرية، فمات عنها ولم يدخل بها. وكان الملك المظفر قطز رحمه الله قد احتاط على أملاك الملك السعيد بدمشق لما تملكها، وبقيت تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفعت قصة تذكر الحال وسألت حملها على الشرع وأن يفرج عن الأملاك لتباع في مبلغ صداقها؛ فتقدم أن يثبت ما أدعته فثبت بشهادة كمال الدين بن العديم ومحمد بن شداد ولم يكن بقي في الصداق غيرها فأفرج لها عن الأملاك فبيعت وقبضت ثمنها. ومن حكمه أنه كان له ركابي وهو بدمشق يسمى مظفراً كان يأخذ الجعل من الأمراء الناصرية على نقل أخبارهم إليهم، وتحقق ذلك منه وبقي معه إلى أن ملك واستمر به، فدخل يوماً إلى الركاب خانة، فوجدها مختلة، وفقد منها سروجاً محلاة، فالتفت إليه، فقال له: نحسن في دمشق ونحسن في القاهرة، متى عدت قربت الاسطبل شنقتك فقال: يا خوند إذا لم اقرب الاسطبل من أين آكل أنا وعيالي؟ فرّق له، وأمر أن يقطع في الحلقة بحيث لا يراه فأقطع، وبقي إلى أن توفي السلطان. وكان يفرق في كل سنة أربعة آلاف أردب حنطة في الفقراء والمساكين وأصحاب الزوايا وأرباب البيوت، وكان موصفاً عليه لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم، ووقف وقفاً على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر، ووقفاً يشتري به خبز، ويفرق في فقراء المسلمين. وأصلح

قبر خالد رضي الله عنه بحمص، ووقف وقفاً على من هو راتب فيه من إمام ومؤذن وقيم، وعلى من ينتابه من البلاد للزيارة، ووقف على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وقفاً لتنويره وبسطه وإمامه ومؤذنه؛ وأجرى على أهل الحرمين بالحجاز الشريف وأهل بدر وغيرهم ما كان قطع في أيام غيره من الملوك الذين تقدموه. وكان يسّفر ركب الحجاز كل سنة تارة عاماً، وتارة صحبة الكسوة، ويخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبسه القاضي من المقلين، ورتب في أول ليلة من شهر رمضان المعظم بمصر والقاهرة وأعمالها مطابخ لأنواع الأطعمة، وتفرّق على الفقراء والمساكين. وأما مهابته ومنزلته من القلوب أن يهودياً دفن بقلعة جعبر عند قصد التتر لها مصاغاً وذهباً وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة. فلما نفد ما كان بيده كتب إلى صاحب حماة قصد يذكر أمر الدفين، ويسأله أن يسيّر معه من يحفره ليأخذه ويدفع لبيت المال نصفه، فلم يتمكن من إجابة سؤاله، وطالع الملك الظاهر بذلك فورد عليه الجواب أن يوجهه مع رجلين لقضاء غرضه. فلما توجهوا ووصلوا الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر هو وابنه. فلما وصل أخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقاً إلى من عساه يقف عليه فكفوا عنه، وساعدوه حتى استخلص ماله ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى الملك المنصور، وأخذوا

خطه أنهم سلموا اليهودي إليه سالماً وما تبعه. ومنها: أن جماعة من التجار خرجوا من بلاد العجم قاصدين أبواب الملك الظاهر، فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من العبور وكتب فيهم إلى أبغا، فكتي إليه يأمره بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه. واتفق أن هرب مملوك إلى حلب، واجتمع بالأمير نور الدين علي بن مجلي، وأخبره بحالهم، فكتب للملك الظاهر بذلك على البريد؛ فعاد الجواب يأمره أن يكتب إلى صاحب سيس أن هو تعرض لهم في شيء يساوي درهماً واحداً أخذتك عوضه، فكتب إليه بذلك، فأطلقهم وصانع أبغا بأموال جليلة. ومنها: أن تواقيعه التي في أيدي التجار المترددين إلى بلاد القفجاق بإعفائهم من الصادر والوارد ويعمل بها حيث حلوا من مملكة بيت بركة ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان. ومنها: أنه أعطى بعض التجار مالاً ليشري به مماليك وجواري من الترك، فشرهت نفسه إلى المال فدخل به قراقرم واستوطنها، فبحث الملك الظاهر حتى وقع على خبره، فبعث إلى بيت منكوتمر في أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة. ومنها: أنه كان بجزيرة صقلية في زمان الأنبرتور مقدار خمسة عشر ألف فارس مسلمين، وهم مهادنين لهم، وهم في خدمته، لهم الإقطاعات. فلما مات أشار من بها من الفرنج على من ملكها بعده بقتلهم فقتل منهم مفرقا

نحو ثلاثة آلاف فارس، واتصل بالملك الظاهر قتلهم والعزم على قتال الباقين، فكتب إليهم أن هؤلاء المسلمين أقرهم الملك الذي كان قبلكم على بلادهم وأموالهم، فإما أن يقروهم على ما أقرهم من الهدنة، وإما أن يؤمنوهم ويوصلوهم بأموالهم إلى بلاد المسلمين ليبلغوا مأمنهم، فإن لم يقدروا على التوجه واختاروا الإقامة وجرى على أحد منهم أذى، قتلت على كل من تحت يدي من أسدى الفرنج، ومن في بلادي من تجارهم، وقتلت ما اشتملت عليه مملكتي من طوائف النصارى. فلما تحققوا ذلك اجتمع رأيهم على إبقائهم على عادتهم؛ وكان أخذ نفسه بالإطلاع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى لم يخف عليه من حالهم شيء. وكثيراً ما كانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدو فيأمر العسكر وهم زهاء ثلاثين ألف فارس فلا يثبت منهم فارس في بيته، وإذا خرج لا يمكن من العود. ومنها: ما أحدثه من البريد في سائر مملكته بحيث يتصل به أخبار أطراف بلاده على اتساعها في أقرب وقت. والذي فتحه من الحصون عنوة من أيدي الفرنج خذلهم الله قيسارية، أرسوف، صفد، طبرية، يافا، السقيف، انطاكية، بغراس، القصير، حصن الأكراد، حصن عكار القرين، صافيثا، مرقية، حلبا. وناصفهم على المرقب، وبانياس، وبلاد أنطرسوس، وعلى سائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون. وولّي في نصيبه الولاة والعمال، واستعاد من صاحب سيس درب سأك، وديركوش، وبلمش،

وكفر دبين، ورعبان والمرزبان. والذي صار إليه من أيدي المسلمين: دمشق، وبعلبك، وعجلون، وبصرى، وصرخد، والصلت وكانت هذه البلاد قد تغلب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي بعد قتل الملك المظفر رحمه الله تعالى وحمص، وتدمير، والرحبة، وزلوبيا، وتل باشر؛ وهذه منتقلة إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص في سنة اثنتين وستين وست مائة. وصهيون، وبلاطنس، وبرزية وهذه منتقلة إليه عن سابق الدين سليمان بن سيف الدين وعمه عز الدين. وحصون الإسماعلية وهي: الكهف، والقدموس، والمنيفة، والعليقة، والجوني، والرصافة، ومصيات، والقليعة. وانتقل إليه عن الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل: الشوبك، والكرك. وانتقل إليه عن التتر: بلاد حلب الشمالية، وشيز والبيرة. وفتح الله على يديه بلاد النوبة، وفيها من البلاد مما يلي أسوان جزيرة بلاق؛ ويلي هذه البلاد بلاد العلى، وجزيرة ميكائيل، وفيها بلاد وجزائر الجنادل وأنكوا وهي في جزيرة وإقليم مكس ودنقلة وإقليم أشو، وهو جزائر عامرة بالمدائن. فلما فتحها أنعم بها على ابن عم المأخوذة منه، ثم ناصفه عليها ووصف عليه أعبداً وجواري وهجناً وبقراً، وعن كل بالغ ديناراً في كل سنة. وكانت حدود مملكته من أقصى بلاد النوبة إلى قاطع الفرات. ووفد عليه من التتر زهاء ثلاث آلاف فارس، فمنهم من أمّره بطبلخاناة،

ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين، ومنهم من جعله من السقاة، وجعل منهم سلحدارية وجمدارية، ومنهم من أضافه إلى الأمراء. وأما مبانيه فمشهورة: منها ما هدمه التتر من المعاقل والحصون. وعمّر بقلعة الجبل دارالذهب، وبرحبة الحبارج قبة محمولة على اثني عشر عموداً من الرخام الملون، وصوّر فيها سائر حاشيته وامرائه على هيئتهم وعمّر طبقتين مطلتين على رحبة الجامع وغشي لبرج الزاوية المجاور لباب السر، وأخرج منه رواشن، وبنى عليه قبة، وزخرف سقفها، وأنشأ جواره طباقاً للمماليك، وأنشأ برحبة القلعة داراً كبيرة لولده الملك السعيد، وكان في موضعها حفير، فعقد عليه ستة عشر عقداً، وأنشأ دوراً كثيرة برسم الأمراء ظاهر القاهرة مما يلي القلعة اسطبلات جماعة، وأنشأ حماماً بسوق الخيل لولده، وأنشأ الجسر الأعظم والقنطرة التي على الخليج، وأنشأ الميدان بالبورجي، ونقل إليه النخيل من الديار المصرية، فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار، وأنشأ به المناظر، والقاعات، والبيوتات. وجدد الجامع الأنور والجامع الأزهر، وبنى جامع العافية بالحسينية وأنفق عليه فوق ألف ألف درهم، وأنشأ قريباً منه زاوية الشيخ خضر وحماماً وطاحوناً وفرناً وعمّر على المقياس قبة رفيعة مزخرفة، وأنشأ عدة جوامع في أعمال الديار المصرية؛ وجدد قلعة الجزيرة وقلعة العامودين ببرقة وقلعة السويس، وعمّر جسر سهم الدين بالقليوبية، وجدد الجسر الأعظم على بركة الفيل، وأنشأ قنطرته وبنى على جانبيه حائطاً يمنع الماشي السقوط فيه، وقنطرة على بحر ابن منجا

لها سبعة أبواب، وقنطرة بمنية الشيرج وقنطرتين عند القصير على بحر أبراس بسبعة أبواب أوسطها تعبر فيه المراكب، وأنشأ في الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستة عشر قنطرة، وبنى قنطرة على خليج القاهرة يمر عليها إلى ميدان البورجي، وبنى على خليج الاسكندرية قريباً من قنطرتها القديمة قنطرة عظيمة بعقد واحد، وحفر خليج الاسكندرية وكان قد ارتدم بالطين، وحفر بحر أشموم وكان قد غمر وحفر ترعة الصلاح وخورسرخشا، وحفر المجايري والكافوري، وترعة كنساد وزاد فيها مائة قصبة، كما كانت في الأول وحفر ترعة أبي الفضل ألف قصبة وحفر بحر الصمصام بالقليوبية، وحفر بحر السردوس. وتمم عمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل منبره، وأحاط بالضريح درابزيناً وذهّب سقوفه وجددها وبيّض جدرانه. وجدد البيمارستان بالمدينة النبوية ونقل إليها سائر المعاجين والأكحال والأشربة وبعث إليه طبيباً من الديار المصرية. وجدد قبر الخليل عليه السلام، ورمّ شعثه وأصلح أبوابه وميضابه وبيّضه وزاد في راتبه المجرى على قوامه ومؤذنيه وإمامه، ورتب له من مال البلد ما يجري على المقيمين به والواردين عليه. وجدد بالقدس الشريف ما كان قد تداعى من قبة الصخرة وجدد فيها السلسلة وزخرفها وأنشأ خاناً للسبيل. نقل بابه من دهلنر كان للخلفاء المصريين بالقاهرة وبنى به مسجداً وطاحوناً وفرناً وبستاناً. وبنى على قبر موسى عليه السلام قبة

ومسجداً، وهو عند الكثيب الأحمر قبل أريخا ووقف عليه وقفاً. وبنى على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مشهداً ومكانه من الغور بعثما ووقف عليه وقفاً. وجدد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وكبرهما وعلاهما. ووسع مسجد جعفر الطيار رضي الله عنه ووقف عليه وقفاً زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه. وعمّر جسراً بقربة دامية بالغور على الشريعة، ووقف عليه وقفاً برسم ما عساه يتهدم منه. وأنشأ جسوراً كثيرة بالغور والساحل. وأنشأ قلعة قافوم وبنى بها جامعاً ووقف عليه وقفاً وبنى على طريقها حوضاً للسبيل. وجدد جامع مدينة الرملة وأصلح مصانعها، وأصلح جامعاً لبني أمية ووقف عليه وقفاً. وأصلح جامع زرعين وساعداه من جوامع البلاد الساحلية التي كانت في أيدي الفرنج. وجدد باشورة القلعة بصفد وأنشأها بالحجر الهرقلي وعمر لها أبراجاً وبدنات وصنع له بغلات مسفحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت، وعمل لأبراجها طلاقات، وأنشأ بالقلعة صهريجاً كبيراً مدرجاً من أربع جهاته وبنى عليه برجاً زائداً للارتفاع. قيل: إن ارتفاعه مائة ذراع بحيث أن الواقف عليه يرى الماشي على الخندق دائر القلعة. وبنى تحت البرج الذي للقلعة حماماً، وصنع الكنيسة جامعاً وأنشأ ربضاً ثانياً قبله بغرب، وكان السقيف قطعتين متجاورتين فجمع بينهما وبنى به جامعاً وحماماً وداراً لنائب السلطنة. وكانت قلعة الصبيبة قد اختربها التتر ولم يبقوا منها إلا الآثار فجددها وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي. إلا الآثار فجددها وأنشأ

لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد

ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف المصرية خاصة

من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي. ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف المصرية خاصة كانت عدة العساكر بالديار المصرية في الأيام الكاملية والصالحية عشرة آلاف فارس

تضاعفها أربعة أضعاف، وكان أولئك مقصدين في الملبوس والنفقات والعدد، وهؤلاء بالضد من ذلك، وكانت كلف من يلوذ بهم من إقطاعه وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر؛ وكذلك تضاعفت الكلف. فإنه كان يصرف في كلف المطبخ الصالحي النجمي ألف رطل لحم بالمصري كل يوم، والمصروف في مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل في كل يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم، ويصرف في الكلف الطارئة المتعلقة بالرسل والوفود في كل يوم عشرون ألف درهم، ويصرف في ثمن قرط دوابه ودواب من يلوذ به في كل سنة ثماني مئة ألف درهم، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشر ألف عليقة في اليوم منها ست مائة أردب؛ وما كان يقوم به لمن أوجب عليه نفقته وألزمها عليه بطنجير، وتحمل إلى المخابز المعدة لعمل الجرايات خلاماً يصرف على أرباب الرواتب في كل شهر عشرون ألف أردباً، وذلك بمصر خاصة. وذلك الحال في العلوفات وكلف الرسل والوفود والاستعمالات في الخزائن، والذخائر وأما الطواري التي كانت تطرأ عليه فلا يمكن حصرها؛ وكذلك ما كان عليه من الجامكيات والجرايات لأرباب الخدم رحمه الله تعالى. بيليك بن عبد الله الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري نائب السلطنة

بالممالك كلها ومقدم جيوشها. كان أميراً عظيماً، جليل المقدار، عليّ الهمة، واسع الصدر، كثير البر والمعروف والصدقة، لين الكلمة، حسن المعاملة للناس، محباً للفقراء والصلحاء والعلماء، حسن الظن بهم كثير الإحسان إليهم، يتفقد أرباب البيوت ويسد خلتهم، وعنده ديانة كثيرة وفهم وإدراك وتيقظ وذكاء. سمع الحديث النبوي وطالع التواريخ وأيام الناس، وكان يكتب خطاً حسناً وأوقف على زاوية بالجامع الأزهر بالقاهرة وقفاً جيداً على من يذكر بها الدرس وعلى من يشتغل بالعلم بها على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. وله أوقاف على جهات بر، وكان له الإقطاعات العظيمة بالديار المصرية وبالشام، وله قلعة الصبيبة وبانياس وأعمالها وبيت جن والشعراء وغير ذلك. ولما مات الملك الظاهر ساس الأمور أحسن سياسة وسار بالجيوش إلى الديار المصرية على أجمل نظام بحيث لم يظهر لموت السلطان أثر لوجوده، فلما وصل إلى الديار المصرية من الشام تمرض عقيب وصوله ولم يطل مرضه، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد سادس ربيع الأول بقلعة الجبل. ودفن يوم الأحد بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، ووجد الناس عليه وجداً شديداً وحزنوه لفقده وشمل مصابه الخاص والعام، وكانت له جنازة مشهودة وأقيم عليه النوح بالقاهرة ليلاً بالشموع في القاهرة والقلعة ثلاث ليال متوالية، والخواتين ونساء الأمراء يدرن في شوارع القاهرة ليلاً بالشموع والنوائح بالملاهي، وصدع موته القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنه مات مسموماً وهو الظاهر.

ومنذ مات اضطربت أحوال الملك السعيد وظهرت إمارات الأدبار على الدولة الظاهرية وأخذت في النقص والتلاشي، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. وكان عمره خمساً وأربعين سنة أو ما حولها، وخلف تركة عظيمة تجاوز الحصر ومن الوارث اثنين وزوجة. وأما الملك السعيد وأخوته نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش أولاد معتقة رحمه الله تعالى فلقد كان من حسنات الدهر ومحاسن الدولة الظاهرية سقى الله عهد واقفها. الحسن بن إسماعيل بن عبد الملك بن درباس أبو محمد ناصر الدين الهذباني الماراني. مولده بالقاهرة سنة ثماني عشرة وست مائة. وكان عنده فضيلة ومشاركة في الأدب والنظم وفيه مكارم أخلاق وحسن المحاضرة، وجده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مشهور. وكان مدرس مدرسة سيف الإسلام بالبندقانيين بالقاهرة. وتوفي ليلة الاثنين ثامن شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بتربتهم المعروفة بهم رحمه الله تعالى. خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العباس المهراني العدوي. كان يقول: إنه من قرية المحمدية من أعمال جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر المشهور أمره. وسبب معرفة الملك الظاهر به واعتقاده فيه أن الأمير سيف الدين قشتمر العجمي أخبره عنه قبل أن يتسلطن أنه قال: إن ركن الدين بيبرس

البندقداري لا يملك أن يملك. فلما ملك صار له فيه عقيدة عظيمة وقرّبه وأدناه، وكان ينزل إلى زيارته في الأسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق؛ لكنه لم يكن يغب زيارته والاجتماع به ويطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره في أموره، ولا يخرج عن رأيه، ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته. وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين محمد بن رضوان الناسخ: ما الظاهر السلطان إلا مالك ال ... دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر ولنا دليل واضح كالشمس في ... وسط السماء بكل عين تنظر لما رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبداً علمنا أنه الاسكندر وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبر به. ولما حاصر الملك الظاهر أرسوف وهي من أوائل فتوحاته سأله متى تؤخذ، فعين له اليوم الذي تؤخذ فيه فوافق، وكذلك في قيسارية وصفد. ولما عاد الملك الظاهر رحمه الله تعالى من دمشق إلى جهة الكرك سنة خمس وستين استشاره في قصده. فأشار عليه أن لا يقصده وأن يتوجه إلى الديار المصرية، فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده. فلما كان ببركة زيزاء تقنطر فانكسرت فخذه وأقام مكانه أياماً كثيرة، ثم حمل في محفة إلى غزة ثم أتى الديار المصرية على أعناق الرجال. ولما قصد الملك الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته اجتاز الشيخ خضر ببعلبك ونزل بالزاوية التي عمّرت له بظاهرها، وخرج نواب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته، وكنت

فيمن خرج، فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله يسأله عن أخذ حصن الأكراد، فقال: ما معناه: يأخذه في مدة أربعين يوماً. وقال عز الدين محمد بن شداد: سمعت الأمير سيف الدين قشتمر العجمي رحمه الله تعالى يقول: إن الملك الظاهر لما تغير عليه وأحضر من أصحابه من دمشق من يحاققه على أمور نقلت إليه عنه ويقابله عليها قعد الملك الظاهر في داره بقلعة الجبل وعنده من أكابر الأمراء: الأمير فارس الدين الأتابك، والأمير سيف الدين قلاوون، والأمير بدر الدين بيسري؛ وسيّر الأمير سيف الدين قشتمر العجمي لإحضاره، فلما طلبه إلى الحضور إلى القلعة أنكر ذلك، لأنه لم يكن له به عادة، فعرف بشيء مما هم فيه، فقام وحضر معه، فلما دخل لم يجد ما يعهده، فقعد عندهم منتبذاً منهم، فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق، فشرعوا ونسبوه إلى أمور عظيمة وقبائح لا تكاد تصدر من مسلم؛ فقال: ما أعرف ما يقولونه ومع هذا، فإني ما قلت لكم: إني رجل صالح، وأنتم قلتم هذا، فإن كان الذي يقولونه هؤلاء صحيح فأنتم كذبتم؛ فقام الملك الظاهر ومن معه من عنده؛ وقال: قوموا بنا لا نحترق بمجاورته وتحولوا إلى طرف الإيوان بعيداً منه؛ فقال الملك الظاهر للجماعة: أي شيء رابكم في أمره؟ فقال الأتابك: هذا مطلع على الأسرار وأسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه، ووافقه الحاضرون على ذلك وقالوا ببعض ما قد قيل عنه يباح دمه، ففهم ما هم فيه، فقال للملك الظاهر: اسمع ما أقول لك إذاً أجلي قريب من أجلك، وبيني

وبينك مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه صاحبه عن قريب. فلما سمع الملك الظاهر ذلك وجم وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟ فلم يمكن أحداً ان يقول شيئاً؛ فقال السلطان: هذا يحبس في مكان لا يسمع له فيه حديث فيكون مثل من قد قبر وهو حي. فقال: الذي يراه مولانا السلطان - يخشاه - فحبسه في مكان مفرد بقلعة الجبل ولم يمكّن أحداً من الدخول إليه إلا من يثق به السلطان غاية الوثوق، ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة والأشربة والفواكه والملابس تغيّر عليه في كل وقت، وكان حبسه في ثاني عشر شوال سنة إحدى وسبعين وست مائة. وتوفي يوم الخميس سادس المحرم أو ليلة الجمعة سابعه، وأخرج يوم الجمعة من سجنه بقلعة الجبل ميتاً، فسلم إلى أهله، فحملوه إلى زاويته المعروفة به بخط جامع الظاهر بالحسينية، فغسل بها، وحمل إلى الجامع المذكور وصلي عليه بعد صلاة الجمعة وأعيد إلى زاويته، ودفن بالتربة التي أنشأها بها، وكان قد نيف على خمسين سنة. وكان الملك الظاهر لما دخل دمشق بعد عوده من الروم قد كتب على البريد بالإفراج عنه، فوصل البريد بعد موته رحمه الله. وكان الملك الظاهر رحمه الله قد بنى له زاوية بالحسينية على الخليج محاذية لأرض الطبالة ووقف عليها أحكار الجبي في السنة منها ثلاثين ألف درهم نقرة، وبني له بالمقدس زاوية وبجبل المزة ظاهر دمشق زاوية وبظاهر بعلبك زاوية وبحماة زاوية وبحمص زاوية، وفي جميعها فقراء وعليهم الأوقاف، وصرفه في المملكة يحكم ولا يحكم عليه، ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير، ويتقي جانبه الخاص

والعام حتى الأمير بدر الدين الخزندار، والصاحب بهاء الدين ومن دونهما، وملوك الأطراف. وملوك الفرنج وغيرهم. ولقد هدم بدمشق كنيسة اليهود العظمى وبني بها المحاريب، وكذلك هدم بالقدس كنيسة النصارى تعرف بالمصلبة جليلة عندهم، وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم بالاسكندرية كنيسة الروم، وكانت كرسياً من كراسيهم يعتقدون فيها البركة، ويزعمون أنه رأس يحيى بن زكريا عليه السلام فيها، وهو عندهم يحيى المعمداني وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء. وكان واسع الصدر يعطي ويفرق الدراهم والذهب، ويعمل الأطعمة في قدور مفرطة الكبر يحمل القدرة الواحدة جماعة من العتالين، وكانت أحواله عجيبة لا تكيف وهو غير متناسبة ولا منتظمة الأحوال فيها مختلفة. فمن الناس من يثبت صلاحه، ومنه من يرميه بالعظائم، والتوسط في معناه أنسب رحمه الله. ؟ سليمان بن عسلي بن حسن بن محمد بن حسن معين الدين البرواناة. قد تقدم لمع من أخباره في هذا الكتاب فأغنت من الإعادة. كان والده مهذب الدين علي بن محمد الكاري، أصله من كار من عراق العجم. قد حفظ القرآن العزيز وأتقنه واشتغل بالعربية. فلما استولوا التتر على عراق العجم خرج منها، وقصد الروم، فرتب مقرئاً ببعض الترب فطلب معين الدين مستوفي الروم في أيام السلطان علاء الدين من يعلم أولاده، فتوسط له شخص كان يعرفه، فاتصل بخدمته وكان يحضر مجلسه في بعض الأوقات. فرآه

معين الدين بارعاً في علم العربية، فقال له: لو تعلمت الحساب لكان أنفع لك في المكانة والرزق، فاشتغل بالحساب على معين الدين المستوفي، فلما رأى أنه قد برع فيه، وكان معين الدين يطلب الإقالة في كل وقت من السلطان علاء الدين فلا يجيبه، فاستناب لمهذب الدين المذكور، وأظهر أنه قد أضر، ولم يزل معين الدين إلى أن رتبه مستوفياً. فرأى منه السلطان علاء الدين الكفاية فاستوزره وعظم شأنه وتقدم عنده. وتوفي السلطان علاء الدين وولي ولده غياث الدين كيخسرو، فاستمر في الوزارة وتمكن إلى أن توفي في سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ورتب ولده معين الدين مكانه وتدرج واستفحل أمره بحيث استولى على ممالك الروم بأسرها، وصانع ممالك التتر وملوكها، وداراهم بحيث صاروا بأمره وطوعه، وكذلك ملوك الروم، وكان الخوف يحمله على مكاتبة الملك الظاهر ليكون سنداً له وعوناً على بلوغ مقاصده. وكان من رجال الدهر حزماً ورأياً وشجاعة وقوة قلب وإقدام على الأهوال والأمور العظام، وكان يبذل في بلوغ مقاصده من الأموال العظيمة ما لا يسمح به نفس ملك، ولم يزل على ذلك إلى أن قتل في العشر الأوسط من المحرم هذه السنة. وسبب قتله أن أبغا بعد وقعة البلستين التي كانت في عاشر ذي القعدة سنة خمس وسبعين وست مائة، فرّق عساكره في الروم وطافها في النهب والقتل، ومعه البرواناة، فمرّ في طريقه على قلعة تسمى كوغرينا، وكانت خاصة للبرواناة، وفيها أكثر ذخائره وأمواله، وبها وال من جهته يسمى سيف الدين باريساره،

وطلب أيضاً من البرواناة تسليم القلعة إليه، فأجابه وبعثه إلى واليها بأمره بتسليمها لنواب أبغا، ويحمل ما فيها من الأموال إلى البرواناة، فلم يجبه وعصى عليه، فظن أبغا أن ذلك بباطن من البرواناة، فقال البرواناة: أنت باغي، فسأل أن يسيره إليها ليسلمها من سيف الدين ويسلمها إلى نوابه، فأذن له، ووكلّ به جماعة من المغل يمنعونه من الوصول إلى القلعة. فلما قرب منها وطلبها من سيف الدين امتنع، فقال له: لهذا الوقت خبأتك سلم إلي القلعة وما فيها لأدرأ عن نفسي القتل بها، فإني مقتول لا محالة إن لم تسلمها إلى أبغا. فقال: إنما أسلمها إلى من سلمها إلي؛ فقال: أنا سلمتها إليك، فقال: إنما سلمها إلي معين الدين البرواناة، فقال: أنا هو، فقال: أنت أسير معهم وما لك حكم في شيء وما أسلمها إلا بأولادي الذين في مصر أسراء، وأنت كنت السبب في أسرهم وأسر غيرهم، فعاد البرواناة، وأخبر أبغا بذلك: فضاعف الموكلين عليه. فلما رأى من كان معه من الممالك والأتباع ذلك تحققوا أنه مقتول، فتفرقوا عنه ثم سار أبغا إلى أردوئه، فاجتمع الخواتين وبكوا وصرخوا وشققوا الجيوب بين يديه. وقالوا: هذا الذي أعان على قتل رجالنا، ولا بد من قتله، فوقفهم أياماً وهم يحرضونه. فلما أعياه دفاعهم أمر بعض خواصه بقتله وقال له: خذه إلى مكان كذا فاقتله به. فلما اجتمع به قال له: إن أبغا يريد الاجتماع بك لكي يصطنعك ويعيدك إلى البلاد؛ فقال: لو يريدني لخبّر بعض معارفي، ولكنه يريد قتلي مخادعة في القول حتى انصرف معه في جماعة من أصحابه عينوا للقتل وهم ثلاثون نفراً. فلما بلغ به الجهة التي عين له قتله فيها قتله ومن استصحبه معه منهم:

الأمير سيف الدين بلا كوش الجاويش ومنكورس الجاشنكير وسيف الدين بن أكمثي. وجرى لسيف الدين المذكور أعجوبة وهي: أنه لم يحك فيه السيف ضاربه وتوهم أنه قتله، فلما انفصل عنه واتصل بأبغا قتلهم وجد سيف الدين في نفسه قوة، فنهض قائماً عرياناً، وقصد سوق العسكر وهو مجروح، وسأل منهم ثوباً يستتر به، فأخذه السوقي لما عرفوه وحملوه إلى أردو إلى قدام أبغا، فسأله أبغا عن قاتله هل يعرفه، فقال: نعم، فأمر بإحضار جميع من باشر قتل البرواناة وأصحابه، فحضروا، فلما رأى سيف الدين المباشر لقتله عرفه، فأشار إليه فسأله أبغا، فأقر فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله. فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله. ؟ سنقر بن عبد الله الأمير عز الدين الرومي. كان من أعيان الأمراء وشجعانهم وذوي المكانة منهم، له الحرمة العظيمة في الدولة والتحكم في أول الأيام الظاهرية إلى حين قبض عليه واعتقله بقلعة الجبل، فبقي مدة سنين. فلما كان في جمادى الأولى من هذه السنة شاع بالقاهرة وفاته، وعمل عزاؤه بداره بالقاهرة، وقد نيف على خمسين سنة رحمه الله تعالى. ؟ عبد الكريم بن الحسن بن رزين بن موسى بن عيسى أبو محمد شمس الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً كثير الديانة والتعبد وإيثار العزلة والخمول والإعراض عن المناصب، وكان قد درّس في مدرسة سيف الإسلام

بالقاهرة قبل موته بأشهر، وتوفي ليلة السبت السابع والعشرين من ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة أخيه قاضي القضاة تقي الدين التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وهو في عشر السبعين رحمه الله. ؟ عبد الملك بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد القاهر بن هشام أبو محمد شرف الدين الربعي الأصل. كان إماماً فاضلاً ذا فنون وتفضل وتعطف وحسن عشرة. صحب الشيخ شهاب الدين الموصلي السهروردي، وأخذ عنه وعن غيره من المشايخ. وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة بحلب، ومولده بالموصل في يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة خمس وست مائة رحمه الله تعالى. عبد الملك بن عيسى بن محمد بن أيوب بهاء الدين الملك القاهر بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. وقد تقدم نسبه في ترجمة عمه مجير الدين يعقوب سنة أربع وخمسين، ومولده سنة اثنتي وعشرين وست مائة، وكان رجلاً جيداً، سليم الصدر، حسن الأوصاف، كريم الأخلاق وليّن الكلمة، كثير التواضع؛ عنده حسن ظن بالفقراء والصالحين ومحبة لهم، ويعاني ملابس العرب ومراكيبهم، ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله. وكان شجاعاً بطلاً مقداماً من الفرسان المعدودين والشجعان المذكورين. توفي يوم السبت خامس عشر المحرم فجاءة من غير مرض، بل كان راكباً بسوق الخيل بدمشق فاشتكى ألماً في فؤاده، فعاد إلى منزل كريمته زوجة الملك الزاهر مجير الدين داود ابن صاحب

حمص، ومسكنها بدار صاحب حمص الكبيرة، لأنه استقرب ذلك عن منزله بالجبل، فأدركته منيته في باب الدار قبل دخوله إليها، ودفن بسفح قاسيون في منزله رحمه الله تعالى. وحكي أن تاج الدين نوح بن إسحاق بن شيخ السلامية حكى عنه حكاية غريبة، معناها: أن الأمير علاء الدين ازدمر العلائي رحمه الله نائب السلطنة كان بقلعة صفد حدثه بها: قال: كان الملك الظاهر مولعاً بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم كثير البحث عن ذلك، فأخبر أنه يموت في سنة سبع وسبعين ملك بالسم، فحصل عنده من ذلك أثر كبير. وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بشجاعته أو يذكر بذكر جميل في معناه. واتفق أن الملك القاهر لما دخل مع الملك الظاهر إلى الروم، وكان يوم المصاف، ورآه الملك الظاهر فتأثر منه، وانضاف إلى ذلك أن الملك الظاهر حصل منه في ذلك اليوم فتور على غير العادة، فظهر عليه الخوف والندم على تورطه في بلاد الروم؛ فحدثه الملك القاهر في ذلك الوقت بما فيه نوع من الإنكار عليه والتقبيح لفعاله، فأثر عنده أثر آخر. فلما عاد من غزاته وسمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر زاد تأثره منه وحنقه عليه، فخيل في ذهنه أنه إذاً سمّه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم، لأنه يطلق عليه اسم ملك، وله ذكر، فأحضره عنده ليشرب القمز، وجعل الذي قد أعد له في ورقة في جيبه من غير أن يطلع على ذلك أحداً من خلق الله تعالى وللسلطان هنابات مختصة ثلاثة مع ثلاثة من السقاة الذين

لا يشرب إلا بها، ومن يكرمه بأن يناوله ذلك الهناب من يده. واتفق قيام الملك القاهر إلى البزال، فجعل الملك الظاهر ما في الورقة من هناب وأمسكه بيده. فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبّل الأرض وشربه، وقام الملك الظاهر ليبزل فأخذ الساقي الكأس من يد الملك القاهر وملأه على العادة وأمسكه، ووقف مع السقاة رفاقه. فجاء الملك الظاهر من البزال، وتناول ذلك الكأس بعينه، فشربه وهو لا يشعر. فلما فرغ من شربه استشعر وعلم أنه شرب من ذلك الكأس الذي فيه آثار السم وبقاياه، فقام لوقته وحصل له ألم وتخيل، واشتد به المرض أياماً ومات كمل تقدم. وأما الملك القاهر فمات غد ذلك اليوم. هذا مضمون ما ذكره ابن المولى تاج الدين نوح، وذكر أن عز الدين العلائي بلغه ذلك من مطلع لا يشك في أخباره والله أعلم بحقيقة ذلك. عتيق بن عبد الجبار بن عتيق أبو بكر عماد الدين الأنصاري الصقلي الأصل. كان من أعيان العدول بدمشق، ومن كتّاب الحكم عند قضاتها، كثير الديانة والصلاة والتعبد، مكباً على سماع الأحاديث النبوية، متواضعاً لين الكلمة. دخل بكرة نهار الجمعة ثامن شوال إلى المدرسة المقدمية التي داخل باب الفراديس بدمشق ليسبغ الوضوء من بركتها، فسقط في البركة وهي كبيرة، ولم يكن عنده من يخرجه منها، فتوفي إلى رحمة الله تعالى غريقاً شهيداً، ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.

علي بن درباس بن يوسف أبو الحسن الأمير جمال الدين الحميري. كان عالي الهمة، كثير الكرم والمروءة، واسع الصدر، وافر الصدقة والبر، ومكارمه على الأخوان والأصحاب، نفسه نفس الملوك. وله خبرة تامة بالولايات والتصرف، ومهابة شديدة وسطوة ظاهرة. ولّي عدة ولايات جليلة؛ منها: المرج والغوطة وما معها والبقاع العزيزي وبلد مشعزا وصل صيدا وبيروت ووادي اليتم وتولى غير ذلك ولم تزل حرمته وافرة عالية إلى أن توفي الملك الظاهر رحمه الله فقصده الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام لأمر كان في نفسه منه، فأحضره إلى دمشق واعتقله وغرمه جملة طائلة، وبقي في منزله بجبل الصالحية بطالاً من الولاية، وخبزه إلى أن أدركته منيته في سلخ شهر رجب أو مستهل شعبان. وكان صرفه من الولاية لطفاً من الله تعالى، فإنه لما صرف أقلع عن المظالم وتنصل منها، وتاب إلى الله تعالى من العود إليها. وكان يقوم الثلث الأخير من الليل دائماً، يصلي ويدعو ويبكي ويتضرع، وكانت طويته حسنة جميلة، وعنده فضيلة، وعلى ذهنه جملة من الأشعار والوقائع والتاريخ. ومولده سنة أربع وست مائة، وكان عنده حسن عشرة ومباسطة ومداعبة رحمه الله. ولما كان متولي البقاع العزيزي وما هو مضاف إليه ولي نظر تلك

الصفقة أو مشارفتها محي الدين بن الكويس، وكان قبل ذلك قد جنى لديوان السكر جناية كبيرة اتصل خبرها بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي رحمه الله نائب السلطنة بالشام، فقام فيها حد القيام وسمّر أخذ من كان له فيها دخول على جمل وطاف به البلدان، فسميت تلك الواقعة وقعة الجمل لتسمير ذلك الشخص على جمل، وبقي ذلك على ألسن الناس. وكان ابن الكويس المشار إليه ممن له دخول على ذلك، فتخلص بعد شدائد وغرامات، وولي هذه الجهة وكتب على يده بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي ناظر النظار بالشام، كتاباً إلى الأمير جمال الدين المذكور يوصيه به، ولم يكن الأمير جمال الدين يختار مراقفته؛ وكان يكتب له أدلال صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقال له: تكتب جواب الصاحب بدر الدين المذكور متسع وهو مشور بذلك، فكتب الجواب وصدر بيتين وهما: شكاية يا وزير العصر أرفعها ... ما كان يرضى بها من ولاك عليّ لم يبق في الأرض مختار يرافقه ... إلا فتى قد بقي من وقعة الجمل علي بن علي بن أسفنديار أبو الحسن نجم الدين الواعظ البغدادي البوشنجي الأصل. كان فاضلاً وعلى خاطره أشياء حسنة، وله محفوظات كثيرة ويد طائلة في الوعظ والكلام في المحافل، وسمع كثيراً أخبار جماعة من كبار الشيوخ. وولي مشيخة خانكاة المجاهد إبراهيم رحمه الله ظاهر دمشق بشرف الميدان القبلي، وجلس للوعظ بجامع دمشق في الشهور

الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان في أيام السبوت، ويحضره خلق كثير من الأعيان والفضلاء وغيرهم، ومجالسة حسنة جميلة وعنده دماثة وحسن مباسطة، ويورد الأشياء في مواضعها، وأما الاحتمال فلا يكاد يضاهى فيها وبيته في العراق مشهور؛ وجده اسفنديار كاتب الإنشاء للإمام ناصر لدين الله رحمه الله. وكانت وفاته بخانكاته المذكورة آخر نهار الجمعة تاسع عشر شهر رجب، ودفن يوم السبت بمقابر الصوفية، وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله تعالى. اسفنديار بن الموفق بن علي بن محمد بن يحيى بن علي أبو الفضل البوشنجي. مولده بواسط سنة سبع أو ثمان وثلاثين وخمس مائة منتصف شهر رجب، وتوفي ببغداد في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، وقيل أن له نحو ثمانين تصنيفاً. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الجمان: لقيته ببغداد في ليلة الخميس سنة أربع وعشرين وست مائة، وهو شيخ كبير مسن، وهو مع ذلك صاحب فكاهة ومخاطرة. أنشدني لنفسه ما كتبه لقوم صحبهم يقول: وقد كنت مغرى بالزمان وأهله ... ولم أدر أن الدهر بالغدر دائل أرى كل من طارحته الود صاحباً ... ولكنه مع دولة الدهر سائل ورب أناس كنت الحظ ودهم ... وما نالني منهم سوى المزق طائل تغالوا ولائي ثم حلوا سآمة ... وحال بني الأيام لا شك حائل

وأعدم شيء سامه المرء دهره ... حبيب مضاف أو خليل يواصل أسادتنا قد كنت أحظى بوصلكم ... وأجني ثمار العيش والدهر غافل وما خلت أن البين يصدع شملنا ... ولا أنني عنكم مدى الدهر راحل وتالله ما فارقتكم عن ملالة ... ولكن نبت بي المقام المنازل قطعت الفلا عنهن حين أضعنني ... فافقرن عن مثلي وهن أواهل وإني إذا لم يقل جدي ببلدة ... هدتني إلى أخرى السرى والعوامل إذا المرء لم يظمأ لورد مكدر ... فلا بد يوماً أن تروق المناهل سيعلم قومي قدر ما بان عنهم ... وتذكرني إن عشت تلك المعاقل وقال أيضاً رحمه الله: كل له غرض يسعى ليدركه ... والمرء يجعل إدراك العلى غرضه يهين أمواله صوناً لؤددة ... ولم يصبن عرضه من لم يهن عرضه وقال أيضاً رحمه الله: الدهر بحر والزمان ساحل ... والناس ركب راحل ونازل كأنهم سيارة في مهمة ... مكاره الدهر لهم مناهل وقال سعد الدين مسعود بن حموية الجويني: سألت نجم الدين الواعظ عن اسمه، فقال: علي بن علي بن اسفنديار المنشئ البغدادي وشيخ صحبتي جدي العلامة اسفنديار بن الموفق البوشنجي وشيخ خرقة تسموني شيخ

الحقيقة ولسان الطريقة شهاب الدين عمر السهروردي، وحصل لي منه صحبة ونسب وشيخ فقري وتجريدي مريد بن نميه أبو الحسن علي بن الرفاعي وقصدته بأم عبيدة من البطائح يهديني، وأبوتي شيخ زمانه ومقدم أقرانه المعرض عن الفاني الدنيوي لهوانه وقصر زمانه المقبل على الباقي الأخروي لدوامه وعز سلطانه العالم العامل كمال الدين محمد بن طلحة القرشي العدوي: وسمعت الحديث على ثمانين شيخاً كما رويته عن بعضهم ملفقاً، قال: ما طلب الترفع في مجلس إلا من وجد الوضاعة في نفسه، قال سعد الدين أنشدني نجم الدين لبعضهم: إذا زار بالجثمان غيري فإنني ... ازور مع الساعات ربعك بالقلب وما كل ناء عن ديار بنازح ... ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب عمر بن شرف الدين النهاوندي الصوفي المعروف بالرمال. كان شيخاً صالحاً زاهداً كثير العبادة، من أعيان الصوفية ومشاهد لهم، قديم الهجرة بينهم كثير الأسفار؛ صحب جماعة من أعيان المشايخ وتأدب بهم، وكانت وفاته بخانكاة سعيد السعداء بالقاهرة في يوم الجمعة سادس صفر، ودفن من يومه بمقابر باب النصر بالتربة المعروفة بالصوفية وقد ناهز السبعين رحمه الله تعالى. محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور أبو عبد الله شمس الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بالديار المصرية ومدرّسهم بمدرسة الملك الصالح

نجم الدين بن أيوب التي بالقاهرة، وتولي قضاء القضاة بالديار المصرية وسائر أعمالها على مذهبه مدة سنين، وصرف عن ذلك في ثاني شعبان سنة سبعين وست مائة، واعتقل بقلعة الجبل مدة سنين، ثم أفرج عنه، ولزم بيته متوفراً على ذكر الدروس بالمدرسة الصالحية، وسبق إلى طلبه والتعبد إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في يوم السبت ثاني عشرين المحرم، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى. ومولده بدمشق في يوم الأحد رابع عشرين صفر سنة ثلاث وست مائة رحمه الله ورضي عنه. كان من أحسن المشايخ صورة مع الفضائل الكثيرة التامة، والديانة العظيمة وسعة الصدر وأظنه جعفري النسب. وهو أول من درّس بالمدرسة الصالحية من الحنابلة، وأول من ولّي قضاء القضاة منهم بالديار المصرية؛ وتولّي مشيخة خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة مدة. وكان مكملاً للأدوات، سيداً صدراً من صدور الإسلام وأئمتهم، متبحراً في العلوم مع الزهد المفرط واحتقار الدنيا وعدم الإلتفات إليها. وكان الصاحب بهاء الدين يتحامل إليه ويغرى الملك الظاهر به لما يرى عنده من الأهلية لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة وهو لا يلتفت عليه ولا يخضع له رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد بن منظور بن عبد الله. مولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمس مائة، كان له زاوية بظاهر المقس بالديار المصرية، وبها جماعة من الفقراء مقيمون على الدوام وهو متكفل بأمرهم وخدمتهم والإقامة بهم، وكذلك يخدم من يرد عليه من المسافرين والزوار. ويعمل

في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويغرم عليها جملة كثيرة ويجتمع فيه خلق كثير عظيم، وكان يكتسب بعمل الحرير وغيره، ولا يقبل بر أحد إلا أن يكون صاحبه، فيقبله على سبيل الهدية. وكان له جدة كبيرة وصدقة وبر، ويتكلم في زاويته على طريق الوعاظ، وعنده فضيلة، وتعبد كبير، ولكثير من الناس به عقيدة حسنة، وكان موضعاً لذلك. وتوفي إلى رحمة الله تعالى بزاويته ليلة الاثنين ثاني وعشرين شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى. ومن العجب أنني كنت أجتمع به في السنة الخالية، وتحادثنا فشرع يتبرم بسكنى الديار المصرية، ويقول: وددت لو كنت بالشام - مقر الأنبياء - لأموت به. فقلت له: ما يمنعك من النقل إلى الشام؟ فقال لي: هنا معشوق لا أقدر على مفارقته ولا البعد عنه. فقلت: من هو؟ قال: الشيخ شمس الدين بن الشيخ العماد. فاتفق موت الشيخ شمس الدين رحمه الله في أوائل هذه السنة. وموت الفقيه ابن منظور رحمه الله في هذا التاريخ بينهما ستة أشهر جمع الله بينهما في دار كرامته. محمد بن حياة بن يحيى بن محمد أبو عبد الله تقي الدين الرقي الفقيه الشافعي. كان رجلاً فاضلاً كثير الديانة من العلماء الأتقياء. تولى الحكم بعدة جهات، منها: حمص والقدس، وناب بدمشق ثم تولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها، ودرّس في مدارس عدة، ثم استعفى من ذلك كله. وانتقل إلى دمشق وقنع بإمامة المدرسة العادلية الكبيرة مع حضور دروس يسيرة في بعض

المدارس ملازماً للاشتغال بالعلم واشتغال الطلبة وإفادتهم. وسافر إلى الحجاز الشريف في أواخر سنة خمس وسبعين وقضى فريضة الحج وعاد، فتوفى بتبوك في يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، ودفن بكرة الأربعاء جوار مسجد هناك يعرف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نيف على ستين سنة من العمر - رحمه الله تعالى. محمد بن عبد الكريم بن عثمان أبو عبد الله عماد الدين المارديني الحنفي المعروف بابن الشماع. كان من فقهاء الحنفية، ودرّس بمدرسة القصاعين بدمشق وبغيرها. وكان عنده فطنة وتيقظ وتنبيه، مشهور بماردين بالحشمة والرئاسة، فتوفى بدمشق في يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب وهو في عشر الخمسين - رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن شجاع أبو عبد الله محيي الدين القرشي. وهو سبط الشيخ الشاطبي صاحب القصيدة المشهورة في القراآت. وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم والنثر، حسن المحاضرة دمث الأخلاق؛ ووالده الحاج كمال الدين الضرير كان من الصلحاء الفضلاء. وتوفى المحيي المذكور بالقاهرة ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى. مولده بالقاهرة سنة أربع عشرة وست مائة - رحمه الله تعالى. محمد بن عمر بن هلال أبو عبد الله عماد الدين الأزدي. كان من أعيان الدمشقيين وصدورهم وبارز العدالة، مشهور بالإمامة والديانة. تولى

نظر مخزن الأيتام بدمشق مدة سنين. وكان مشكور السيرة، لين الكلمة، حسن المجاورة؛ عنده مكارم وحسن أخلاق. سمع هو وحدّث عن غير واحد من أهل بيته. وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة. ودفن من الغد بالتربة المعروفة بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى. يحيى بن شرف بن مرى أبي الحسن بن الحسين بن محمد بن محمد بن جمعة بن حزام أبو زكريا محيي الدين النواوي الفقيه الشافعي المحدث الزاهد العابد الورع المتبحر في العلوم صاحب التصانيف المفيدة. كان أوحد زمانه في الورع والعبادة، والتقلل من الدنيا، والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع، وخشونة الملبس والمأكل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه واقف الملك الظاهر - رحمه الله - غير مرة في دار العدل بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك. وحكى لي أن الملك الظاهر قال عنه: أنا أفزع منه - أو ما هذا معناه - ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر وبالغ معه وأغلظ له. فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه، فما تأثر لذلك في ذات الله تعالى، ولا رجع عن قصده ليقع بجلية إلى بعض المسلمين، وكانت مقاصده جميلة وأفعاله لله تعالى. ودرس نيابة عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - في ولايته الأولى بالمدرسة الفلكية والمدرسة الركنية

والمدرسة الإقبالية للشافعية. وولى مشيخة دار الحديث الأشرفية - رحم الله واقفها - اسقلالاً في شهر رمضان سنة خمس وستين بعد وفاة شمس الدين أبي شامة، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته، ونشر فيها علماً جماً وأفاد الطلبة وغيرهم. واختصر كتاب معرفة علوم الحديث للشيخ تقي الدين عماد بن الصلاح - رحمه الله، والمحرر لإمام الدين الرافعي في الفقه، وشرح صحيح مسلم؛ وجمع مسائل الخلاف التي في التنبيه من القولين والوجهين وبين الأصح منهما، وجمع غير ذلك مما يطول شرحه. وكان كثير التلاوة للقرآن العزيز والذكر لله تعالى، معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه. قال الشيخ ياسين بن يوسف الزركشي: رأيته وهو ابن عشر سنين أو نحوها، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته وكان أبوه قد جعله في دكان لا يشتغل بالبيع ولا بالشرى غير تلاوة القرآن. قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون من أعلم الناس، فذكر ذلك لوالده، فحرض عليه إلى ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام. قال الشيخ محيي الدين: لما كان عمري تسعة عشر سنة قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين فسكنت الرواحية وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.

وحفظت التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة. وجعلت أشرّح وأصحح على الشيخ كمال الدين اسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي معيد المدرسة إلى أن أمرني بإعادة دروسه في حلقته. فلما دخلت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وأقمنا بالمدينة نحواً من شهر ونصف. فلما وصلنا إلى دمشق لازمت الإشتغال، فلم أزل أشتغل بالعلم وأقتفي آثار العلماء الصالحين من العبادة والصلاة، وصيام الدهر وقيام الليل، والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى. وكان لما قدم دمشق أول قدومه إليها للإشتغال لم يكن له معرفة بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، فاجتمع به وعرّفه مقصده، فأخذه وتوجه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفراري؛ فقرأعليه دروساً وبقي ملازمه مدة، ولم يكن له موضع يأوي إليه فسأل من الشيخ تاج الدين موضعاً يسكنه، ولم يكن بيد الشيخ تاج الدين إذ ذاك من المدارس سوى الصارمية، وليس لها بيوت؛ فدله على الشيخ كمال الدين إسحاق بالرّواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه وصار منه ما صار. واتفق أن الملك الظاهر عند ما فتح الفتوحات المشهورة، وغنم الناس الجواري وتسروا بهن، سئل الشيخ تاج الدين - رحمه الله - فرّخص في ذلك، وصنف

جزءاً في إباحة ذلك من غير تخميس، واستدل بأشياء فيها قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم أهل بدر، وأعطى منها من لم يشهدها، وربما فضل بعض حاضريها على بعض. ثم نقل بعد ذلك في الغنائم أحوال مختلفة تغلب على حب المصالحة، ثم ذكر حنين وقسم غنائمها، وأنه صلى الله عليه وسلم أكثر لأهل مكة من قريش وغيرهم حتى أن يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة. ومعلوم أنه لم يحصل لكل حاضر في هذه الغزاة مثل هذه العدة من الإبل والشاة، ولم يعط الأنصار شيئاً، وكانوا أعظم الكتيبة والعسكر وأهل النجدة حتى عتبوا. وهذا حديث مخرج في جميع الأصول المعتمدة من كتب الحديث، وليس في شيء من طرقه: إني إنما نفّلت الناس من الخمس، أو أني قسمت فيهم ما أوجبت قسم الغنيمة وددت من استألفه من حال المصالح. وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في قسم الغنيمة وأعدلهم في بيان حق وأحقهم في إزالة شبهة. فلما اقتصر على مدح الأنصار بما رزقهم الله من المسابقة في الإسلام، وما خصهم به من محبته صلى الله عليه وسلم أتاهم وسلوك فجّهم دون فج غيرهم ورجوعهم إلى منازلهم به عوضاً عما رجع به غيرهم من الأموال والأنعام عليهم، علم كل ذي نظر صحيح أنه صلى الله عليه وسلم فعل في هذه الغنائم ما اقتضاه الحال من المصالحة من إعطاء وحرمان وزيادة ونقصان. ثم لم يعلم بعد هذا الحكم ناسخ ولا ناقص بل فعل الأئمة بعده ما يوكده. ثم قال: لولا خشية الإطالة لتقضينا الآثار الواردة في قسم الغنيمة من الأئمة

الراشدين ومن بعدهم حتى أن المتأصل المتبع الآثار، لو أراد يبين غنيمة قسمت على جميع ما يقال في كتب الفقهاء والتنفل والرضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل، وتعميم كل حاضر لمن لم يكن يجد ذلك منقولاً من طريق معتمد. واستدل بأشياء كثيرة فحصل للناس بقوله خير عظيم لأن الناس لم يرجعوا يغنمون ويستولدون الجواري ويبيعونهن بحكم الحكام لصحة بيعهم وشرائهم، وإجراء جميع ما يتعلق بهم على حكم الصحة. ولو فتحوا باب وجوب تخميس الغنائم يحرم ورطة كل جارية تغنم قبل تخميسها لأن نكاح الجارية المشتركة حرام. فتولى نقضه كلمة كلمة وبالغ في الرد عليه، ونسبه إلى أنه خرق الاجتماع في ذلك، وأطلق لسانه وكلامه في هذا المعنى. ولا شك أن الذي قاله الشيخ محي الدين هو مذهب الشافعي رحمة الله عليه، لكن لم يعمل به في عصر من الأعصار؛ ولا قيل: أن الغنيمة خمست في زمن من الأزمان بعد الصحابة والتابعين، ولولا القول بصحة ذلك وإلا كان الناس كلهم بسبب شرائهم الجواري واستيلادهم إياهم في محرم، وسائر عمل الناس قاطبة على ما أفتى به الشيخ تاج الدين، ولم يعمل أحداً بما أفتى به الشيخ محي الدين، وما كان ينبغي له أن يرد عليه هذا الرد الفاحش لعلمه أن بعض العلماء ذهب إليه. وحكي لي أن الفتاوى كانت إذا جاءت إلى الشيخ محي الدين وعليها خط الشيخ تاج الدين رحمنا الله بهما امتنع من الكتابة فيها، وهذا منافي طريقه، وما كان عليه من الزهد والتواضع، لكن البشرية وحظوظ الأنفس

قلّ أن تزول بالكلية إلا في النادر. وكان شديد الورع وعدم التطلع إلى الدنيا أقبلت أو أدبرت. ولما باشر مشيخة دار الحديث الأشرفية بمدينة دمشق لم يتناول من جامكيتها درهماً واحداً ولا من غيرها، وكان قوته من أرض يزرعها والده، ويرسل له منها ما يقتات به على سبيل الضرورة، ولم يجمع بين أدامين، ولا أكل فاكهة دمشق؛ فسئل عن امتناعه ذلك، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من هو تحت الحجر شرعاً لا يجوز التصرف لهم إلا على وجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف بين العلماء. ومن جوزها قال..........الغبطة والمصلحة والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمر المالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك، وأيضاً فغالب من يطعم أشجاره إنما يأخذ الأقلام غصباً أو سرقة، لأن أحداً ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة فيؤخذ تلك الأقلام سرقة وتطعم في أشجار الناس فتطلع الثمرة في نفس القلم المغصوب، فيكون ملكاً لصاحب القلم لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراءه حراماً. وكان صائم الدهر لا يأكل إلا أكلة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء البارد ذاكراً. ولما صنف المنهاج في الفقه وقف عليه الشيخ رشيد الدين الفارقي رحمه الله وكتب على ظهره هذه الأبيات: أعتني بالفضل يحيى فأغتني ... عن بسيط ووجيز نافع

ويحلى ببقاه فضله ... فيحل بلطيف جامع ناصباً أعلام علم حازماً ... بمقال رافعاً للرافعي وكأن ابن الصلاح حاضر ... وكان ما غاب عني الشافعي وكان الشيخ محي الدين يسأل الله تعالى أن يموت بأرض فلسطين، فاستجاب الله منه، فتوفي ليلة الأربعاء ثلث الليل الآخر في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وسبعين بنوى بعد رجوعه مع والده من زيارة القدس والخليل. ومولده في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة بنوى، ودفن بها رحمه الله. ولما وصل خبر وفاته إلى دمشق توجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله إلى نوى إلى قبره، وتوجه معه جماعة من أصحابه. ولما مات الشيخ محي الدين رثاه جماعة من فضلاء عصره، فمنهم الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي رحمه الله تعالى قال: عز العزاء وعم الحادث الجلل ... وخاب بالموت في تعميرك الأمل واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها ... وسالها فقدك الأسحار والأصل قد كنت للدين نوراً يستضاء به ... مدداً منك في الأقوال والعمل وكنت تتلو كتاب الله معتبراً ... لا يعتريك على تكراره ملل وكنت في سنة المختار مجتهداً ... وأنت باليمن والتوفيق مشتمل وكنت زيناً لأهل العلم مفتخراً ... على جديد كساهم ثوبك الشمل

وكنت أسبغهم ظلاً إذا استعرت ... هواجرالجهل والأظلال تنتقل كساك ربك أوصافاً مجملة ... يضيق عن حصرها التفصيل والجمل أسلي كمالك عن قوم مضوا بدلاً ... وعن كمالك لا مل ولا بدل فمثل فقدك ترتاع العقول له ... وفقد مثلك جرح ليس يندمل زهدت في هذه الدنيا وزخرفها ... عزماً وحزماً فمضروب بك المثل أعرضت عنها احتفالاً غير محتفل ... وأنت في السعي في أخراك محتفل عرفت عن شهوات ما لعزم فتى ... بها سواك إذا عبت له قبل أسهرت في العلم عيناً لم تذق سنة ... إلا وأنت به في العلم مشتغل يا لهف حفل عظيم كنت بهجته ... وحليه فعزاه بعدك العطل وطالبوا العلم من دان ومغترب ... نالوا بيمنك منه فوق ما أملوا حاروا لهيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليك السهل والجبل ترى ذرى تربة من غيبوه به ... أو نعشه من على أعواده حملوا عناؤه شغله دهراً وعاد لهم ... بلاعج الوجد عن أشغالهم شغل يا محمي الدين كم غادرت من كبد ... جزى عليك وعين دمعها هطل وكم مقام كحد السيف لا جلد ... يقوى على هوله فيه ولا جدل أمرت فيه بأمر الله منتضياً ... سيفاً من العزم لم يصبغ له حلل وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمة هامة الجوزاء تنشعل عالجت نفسك والأدواء شاملة ... حتى استقامت وحتى زالت العلل بلغت بالغت الفاني رضى ملك ... ثوابه في جنان الخلد متصل

ضيف الكريم جدير أن يضاف له ... إلى الكرامة من ألطافه نزل بررت أصلك في داريك محتبساً ... فقد تكافأ فيك الحزن والجدل فجعت بالأنس ليلاً كنت ساهره ... لله والنوم قد حظت به المقل وحال فور نهار كنت صائمه ... إذا تهجد بنار الشمس مشتعل لا زال مثواك مثوى كل عارفة ... وروضة النصر من سحب الرضى خضل إلى متى بعزو تطمئن ولا الم ... لوك رد الردى عنهم ولا الرسل ولا حمى من حمام جحل نجب ... ولا حصون منيعات ولا قلل يا لاهياً لاهياً عن هول مصرعه ... وضاحك البين منا يضحك الأجل لا تحل نفسك من دار فإنك من ... حين الولاد مع الأنفاس مرتحل وما بقي بنديم السير يتبعه ... إلى محل بلاه سابق عجل ورثاه جماعة أخر لكن اقتصرنا على هذه القصيدة طلباً للاختصار. وكان رحمه الله سمع الحديث على جماعة، منهم الحافظ شهاب الدين خالد النابلسي وغيره، واشتغل على جماعة لم يلتحق أحد منهم به والذي أظهره وقدمه على أقرانه، ومن هو أفقه منه كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته رحمه الله تعالى. يوسف بن الكردي العدوي المعروف بأبونا. كان من الصلحاء المجتهدين في خدمة الفقراء والقيام بوظائفهم، والمبالغة في إيصال الراحة إليهم، مع كثرة العبادة والتخلي من الدنيا. وكان مقيماً بتربة الحاج ازدمر المعزي خارج باب القرافة الصغرى، وتوفي بها يوم السبت خامس عشر

السنة السابعة والسبعون وستمائة

المحرم، ودفن بها من يومه، وقد نيف على السبعين سنة من العمر رحمه الله. أبو الوحش بن القدسي أبي الخير بن أبي سليمان داود بن أبي المثنى بن أبي فانة المنعوت بالرشيد، المعروف بابن أبي حليقة النصراني والد علم الدين ابن رئيس الأطباء بالديار المصرية. كان الرشيد له التقدم والشهرة في معرفة صناعة الطب بالديار المصرية، وتوفي ليلة الاثنين سابع ربيع الأول بالقاهرة، ودفن يوم الاثنين بمقابر باب الخندق، وله من العمر خمس وثمانين سنة. وكان ولده علم الدين أسلم في حياته، ومن بعده إلى الملك الظاهر ركن الدين، وسبب الحلقة التي وضعت في أذنه أن والده لم يعش له ولد ذكر، فوصف له ووالدته حامل أن تهيأ حلقة فضة قد تصدق بفضتها، وفي الساعة التي يوضع فيها من بطن أمه يثقب أذنه، ويوضع الحلقة فيها، ففعل ذلك فعاش وعاهدته والدته أن لا يقلعها، وجاءه أولاد فماتوا، فعمل حلقة حلقة على الصورة لولده المهذب في سعد. وسبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل بن العادل قال لبعض الخدام: اطلب الرشيد الطبيب من الباب، وجماعة الأطباء بالباب، فقال الخادم: من هو منهم؟ قال: أبو حليقة، فطلب واشتهر بذلك. السنة السابعة والسبعون وستمائة استهلت يوم الأربعاء وافق ذلك الخامس والعشرين من حزيران

من شهور الروم، والخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد؛ وهو بقلعة الجبل من الديار المصرية، وملك الديار المصرية والشام الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان بن الملك الظاهر بيبرس وهو بالديار المصرية. ففي يوم الخميس بكرة النهار ثالث وعشرون المحرم دخل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله مدينة دمشق، وخرج نائب السلطنة الأمير عز الدين ايدمر بجميع الموكب والأمراء لتلقيه إلى آخر الجسورة، وخرج أهل البلد إلى مسجد القدم، وأما رؤساء البلد وعدوله فتلقوه عدة مراحل بحيث أن وصل منهم جماعة رمح، ولم يزالوا متواصلين إليه في كل مرحلة، وسرّ الناس بولايته سروراً مفرطاً، ومدحه الشعراء وهنؤه بقدومه، ولم يبق من الأدباء من لا مدحه بغرر القصائد وهي مذكورة في دواوينهم. وانشده الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي من لفظه لنفسه: أنت في الشام مثل يوسف في مص ... ر وعندي أن الكرام جناس ولكل سبع شداد بعد الس ... بع عام فيه يغاث الناس وعمل الفقيه شمس الدين محمد بن جعوان النحوي رحمه الله في المعنى يقول: لما تولى قضاء الشام حاكمه ... قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم من بعد سبع شداد قال خادمه ... ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم

وقال سعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي رحمه الله في المعنى وهو قوله: أذقت الناس سبع سنين جدباً ... غداة هجرته هجراًجميلاً فرزقه الإله بأرض مصر ... مددت عليه من كفيك نيلا وعمل نور الدين أحمد بن مصعب في ولايته وعزل القاضي عز الدين: رأيت أهل الشام طرّاً ... ما فيهم قط غير راضي نالهم الخير بعد شر ... فالوقت بسط بلا انقباض وعوضوا فرحة بحزن ... قد أنصف الدهر في التقاضي وسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاض فكلهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماضي وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالمدرسة الظاهرية بدمشق قبالة العادلية الكبيرة، وهي على فرقتين شافعية وحنفية، وحضر الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة هو والعلماء الأعيان، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي، ومدرس الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ولم تكن عمارة المدرسة تكلمت إلى ذاك التاريخ. وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول كسر الخليج الكبير بالقاهرة وقد غلق ماء السلطنة على ما جرت به العادة لله الحمد.

وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى باشر الحكم بدمشق عوضاً عن القاضي مجد الدين عبد الرحمن بن العديم رحمه الله تعالى قاضي القضاة صدر الدين رسلان رحمه الله بمقتضى تقليد سلطاني ورد عليه في ذلك النهار من الديار المصرية. وفي عشية الاثنين تاسع وعشرين من شهر رمضان المعظم باشر الأحكام الشرعية بدمشق عوضاً عن الشيخ صدر الدين سليمان بحكم وفاة قاضي القضاة حسام الدين أبي الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أحمد بن القاضي جلال الدين الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي قاضي ملطية وما جاورها من بلاد الروم بمقتضى تقليد سلطاني سعيدي ورد عليه من الديار المصرية في هذا التاريخ، وكان خروجه من بلاد الروم إلى دمشق في سنة خمس وسبعين عندما عاد الملك الظاهر من قيسارية بعد كسرة التتر على البلستين، ومولده بأقصرا من بلاد الروم في ثالث عشر المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة. وفي العشر الأول من ذي القعدة تقدم قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله بفتح المدرسة التي أوقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي رحمه الله تعالى جوار المدرسة النورية بدمشق، وبفتح الخانكاة التي أوقفها بالشرف القبلي المطلة على الميدان الأخضر بما إليه من الولاية الخاصة والعامة، وذكر الدرس بالمدرسة بنفسه مدة يسيرة، ثم نزل عنها لولده

كمال الدين موسى، وكان سبب تأخر فتح المكانين عن تاريخ وفاة الواقف شمول الحوطة للتركة والأوقاف فحين تهيأ الإفراج عن المكانين فتحا. وفي العشر الأوسط منه خرج الملك السعيد من الديار المصرية بجميع العساكر قاصداً دمشق، وكان دخوله إلى قلعتها في خامس ذي الحجة وخرج أهل دمشق كافة إلا القليل لملتقاه، وزينوا ظاهر البلد وباطنها وسروا بمقدمه سروراً عظيماً، وعمل عيد النحر بقلعة دمشق، وصلى صلاة العيد بالميدان الأخضر. وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة وقعت الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم بدمشق لورود البريد مخبراً بموت جده الصاحب بهاء الدين، وكان تاج الدين وصل دمشق يوم الاثنين رابع ذي الحجة، ونزل بدار بني الزكي بباب البريد، وكانت وفاة جده ليلة الخميس سلخ ذي القعدة، فقال: بنينا وعلّينا ورحنا كما ترى ... وأعمالنا مكتوبة سوف تعرض فيا معشر الناس الذين تمولوا ... بأموالنا بالله لله أقرضوا وفي يوم عرفة منه باشر الوزارة عن الملك السعيد بالديار المصرية الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن الزراري السنجاري بحكم وفاة الصاحب بهاء الدين رحمه الله بمقتضى تقليد سلطاني ورد عليه من دمشق. ومولد برهان الدين في سنة أربع عشرة وست مائة في جبال بلد إربل

رحمه الله. وفي الشهر المذكور قلد وزارة الشام الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني وبسط يده وأمر القضاة وغيرهم بالركوب معه أول مباشرته. وفي العشر الآخر من الشهر المذكور جهّز الملك السعيد العساكر إلى بلاد سيس للنهب والإغارة، ومقدمهم الأمير سيف الدين قلاوون الألفي. وأقام الملك السعيد بدمشق في نفر يسير من الأمراء والخواص، وكان في مدة غيبة العسكر يكثر التردد إلى الزيبقية من قرى المرج يقيم بها أياماً ويعود. وفي يوم الثلاثاء سادس وعشرين منه جلس الملك السعيد بدار العدل داخل باب النصر بدمشق، وأسقط في المجلس المذكور عن أهل دمشق ما كان قرره والده الملك الظاهر عليهم في كل سنة قطيعة على البساتين بجميع الغوطة، فسر الناس بذلك، وتضاعفت أدعيتهم له ومحبتهم فيه، كأن ذلك كان أجحف بأرباب الأموال والأملاك بحيث ود كثير منهم لو أخذ ملكه وأعفى من الطلب، فبادر الملك السعيد رحمه الله إلى اغتنام هذه الحسبة، وحاز أجرها وشكرها وبرّ وضجع والده وتعفيه أثرها. وفيها: ؟ توفي إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج بن عبد الله أبو العباس زين الدين الحنفي المعروف بابن السديد أمام مقصورة الحنفية شمالي جامع دمشق وناظر

وقفها. كان رجلاً جيداً كثير الخير، عنده ديانة ومروءة ومكارم أخلاق وعدالة. وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الأولى في بستاني بالمزة، ودفن بسفح قاسيون، وقد نيف على خمس وستين سنة وهو حمو الحاج أحمد المصري النحوي المقدم ذكره رحمه الله تعالى. آقسنقربن عبد الله الأمير شمس الدين الفارقاني. كان قديماً مملوك الأمير نجم الدين أمير حاجب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بن خليل رحمه الله. ثم انتقل بعد مدة إلى الملك الظاهر، وتقدم عنده وجعله أستاد دار الكبير، فإن الملك الظاهر كان له عدة أستاد دراية، لكن لم يكن فيهم عنده أكبر من المذكور. وكان أكثر الاعتماد عليه والوثوق به يستنيبه في غيبته، ويقدمه على عساكره، ولم يزل عنده في أعلى المراتب إلى أن توفي الملك الظاهر، وهو على ذلك الحال. ثم إن الملك السعيد رحمه الله بعد وفاة الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله جعله نائب السلطنة في سائر الممالك على ما كان عليه الخزندار، فلم ترض حاشية الملك السعيد وخاصكيته ذلك، فوثبوا عليه وأمسكوه واعتقلوه، ولم يسع الملك السعيد إلا موافقتهم على قصدهم، وكان مسكه في السنة الخالية كما تقدم شرحه، فقيل أنه قتل عقيب مسكه، وقيل أن وفاته تأخرت إلى هذه السنة، وأنه مات حتف أنفه في مجلسه بقلعة الجبل من الديار المصرية رحمه الله وعمل عزاؤه تحت النسر بدمشق بجامعها في يوم الخميس ثالث جمادى الأولى من هذه السنة وهو في عشر الخمسين. كان وسيماً جسيماً شجاعاً مقداماً كريماً، كثير البر والصدقة، خبيراً بالتصرف حسن التدبير، عليه مهابة شديدة

مع لين كلمة، وهو الذي توجع إلى الديار المصرية مبشراً بكسرة كتبغانوين والتتر على عين جالوت في شهور سنة ست وخمسين وست مائة. حكى لي أن سبب ترقيه عند الملك الظاهر رحمه الله أنه سير عشرة هو مقدمهم لكشف بلاد الجزيرة وتلك النواحي. فلما شارفوا الفرات وجدوها زائدة جداً لا يمكن عبورها، فرجعوا إلا هو، امتنع من الرجوع وقال لهم: قد ندبني السلطان في مهم فإما قمت به أو مت دونه. ثم جعل ثيابه وعدته مشدودة وحملها على رأسه وسبح بفرسه حتى قطع الفرات وحده، وكشف الجزيرة وظفر بجاسوس معه كتب فأخذها منه، واجتمع بقوم هناك عيون للمسلمين، واستعلم منهم الأخبار وعاد بعد إقامته هناك أياماً، وخاض الفرات ثانياً كما خاضها أولاً. ورجع إلى الملك الظاهر فأخبره بالخبر فعظم محله عنده، وارتفعت منزلته لديه، وكان أمير عشرة؛ فاتفق في الحال الراهنة وفاة أمير بطبلخاناة بالديار المصرية، وأخبر الملك الظاهر بوفاته والفارقاني بين يديه يحدثه فأعطاه خبزه، وظهرت منه الكفاية، فضاعف الإحسان إليه وزيادته وترقيه إلى أن بلغ أعلى المراتب. أقطون بن عبد الله الأمير علاء الدين المهمندار أحد أمراء الشام. كان شاباً حسناً، عنده شجاعة ومعرفة وديانة. توفي بدمشق ليلة الأحد ثامن شعبان، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وقد نيف على أربعين سنة. ولما حضرته الوفاة ادعى بثلث ماله تصرف في وجوه البر حيثما يراه

الوصي، وكان من غلمان نجم الدين أمير حاجب الملك الناصر - رحمه الله تعالى. آقوش بن عبد الله أبو سعيد جمال الدين النجيبي الأمير الكبير. هو من عتقاء الملك الصالح نجم الدين أيوب وذوي المكانة عنده، أمّره وجعله أستاد داره وكان معتمداً عليه ويثق به ويسكن إليه. مولده سنة تسع أو عشر وست مائة وجعله الملك الظاهر أستاد داره في أول الدولة، ثم جعله نائب السلطنة عنه بالشام مدة تسع سنين وعزل عن ذلك قبل وفاته بسبع سنين وانتقل إلى القاهرة، وأقام بداره بطالاً إلى حين وفاته، وحرمته في الدولة كبيرة ومكانته عالية. ولما تمرض عاده الملك السعيد، وتوفي ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة المعزية بداره بدرب ملوخيا، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى؛ وكان لحقه فالج قبل موته بأربع سنين، واستمر به ثم عرض له قبل وفاته بأحد عشر يوماً احتباس الاذاقة. وكان كثير الصدقة، محباً في العلماء والفقراء، حسن الاعتقاد، شافعي المذهب، متغالياً في السنة وحب الصحابة - رضي الله عنهم؛ وعنده تحامل كثير على الشيعة لا يملك نفسه في ذلك. وأوقف أوقافاَ منها بمدرسته التي بدمشق جوار مدرسة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله. وبنى بها تربة حسنة، وفتح لها شباكين إلى الطريق، ولم يقدر دفنه بها. ووقف خانكاة ظاهر دمشق بالشرف القبلي غربي خانكاة المجاهد إبراهيم - رحمه الله. ووقف خانا ومداراً للسبيل على طريق الجسورة، ووقف على ذلك أوقافاً صالحة، وجعل النظر في ذلك لقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان -

رحمه الله. وكان من أعيان الأمراء وكبرائهم، وذوي الرأي والخبرة والمعرفة والدراية، متقدماً في الدول - رحمه الله. ايدكين بن عبد الله علاء الدين الشهابي. أحد امراء دمشق الأعيان، مشهوراً بالشجاعة، تولى نيابة السلطنة بحلب وشدّ دواواينها مدة أخرى. وكان عنده معرفة وخبرة، ومحبة للفقراء وحسن ظن بهم وإحسان إليهم. فتوفي بدمشق ليلة الاثنين خامس عشر ربيع الأول، ودفن من الغد بسفح قاسيون بتربة الشيخ عثمان الرومي - رحمه الله - وهو في عشر الخمسين - رحمه الله. ووقف حديقته داخل باب الفرج بدمشق ففتحت، ورتب بها الصوفية وفتح بها شباكاً مطلاً على الطريق، وعمل عليه نصيبة مكتوب عليها اسم الواقف - رحمه الله - وتاريخه. والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين الرشيد الكبير الصالحي النجمي - رحمه الله. بلبان بن عبد الله الأمير سيف الدين الزيني الصالحي النجمي، أحد أمراء دمشق العيان. كان في أول دولة الترك بالديار المصرية مقدم البحرية، ثم حبس مدة سنين، وأفرج عنه وأعطى أمرية بدمشق فأقام بها إلى أن توفي ليلة الثلاثاء تاسع شهر رمضان المعظم بجبل الصالحية، ودفن من الغد بالقرب من تربة الملك المعظم - رحمه الله. وكان عنده نهضة وكفاية وشجاعة. والشهابي نسبة إلى الأمير شهاب الدين أحمد أمير خزندار الملك الصالح نجم الدين أيوب.

سليمان بن أبي العز أبو الربيع صدر الدين الحنفي شيخ المذهب. كان إماماً عالماً عارفاً بمذهبه متبحراً فيه، وعنده فضائل أخر. درّس مدة بدمشق، وأفتى واشتغل، وقرأ عليه جماعة وانتفعوا به. ثم استوطن الديار المصرية ودرّس بالمدرسة الصالحية بين القصرين بالقاهرة للطائفة الحنفية، وتولى الحكم بمصر واعمالها مدة سنين. ثم انتقل إلى الشام قبل وفاته بيسير، وفارق الديار المصرية. فلما توفي قاضي القضاء مجد الدين عبد الرحمن بن العديم - رحمه الله - قلد القضاء بالشام على مذهبه في عاشر جمادى الأولى فلم يستكمل فيه ثلاثة شهور. وأدركته منيّته في سادس شعبان بدمشق ليلة الجمعة ودفن من الغد بعد صلاة الجمعة بداره بسفح قاسيون، وبلغ ثلاثاً وثمانين سنة - رحمه الله. كان الملك المعظم بن الملك العادل - رحمهما الله - قد زوّج مملوكه بجاريته، وكلاهما جميل الصورة، فعمل الشيخ صدر الدين يقول: يا صاحباي قفا لي فانظرا عجباً ... أتى به الدهر فينا من عجائبه البدر أصبح فوق الشمس منزله ... وما العلو عليها من مراتبه أضحى يماثلها حسناً وصار لها ... كفواً وصار إليها في مواكبه فاشكل الفرق لولا وشي يمنته ... بصدغه واخضرار فوق شاربه وله نظم غير هذا. وسمع وحدث وصنف ولم يخلف بعده في مذهبه مثله فيما علمنا - رحمه الله تعالى.

سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين التركستاني. كان من أعيان الأمراء بالشام وأماثلهم. له حرمة وافرة، وعنده شجاعة وإقدام وتجمل في امريته. توفي بدمشق يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى ودفن بسفح قاسيون وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله تعالى - وهو أخو الأمير عز الدين ايبك الاسكندري المقدم ذكره - رحمه - لأبويه، وأخوه كندغدي الحسامي الجوكنداري لأبيه - والله أعلم. طه بن إبراهيم بن أبي بكر بن أحمد بن بختيار جمال الدين الهذباني الاربلي. كان عنده فضيلة وأدب، ورئاسة وتوصل وحسن مداخلة. وله يد في النظم، وتحيل في الذهوب. توفي بالشارع من ضواحي القاهرة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين جمادى الأولى. ومولده باربل سنة أربع وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى. أنشد الملك الصالح وقد تحدثا في أحكام النجوم والعمل بها لنفسه، فقال: دع النجوم لطرقي يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك ان النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا وكتب إلى بعض أصحابه - وكان يلقب بالشمس - وقد انقطع عن زيارته في رمد حصل له: يقول لي الكحال عينك قد هدت ... فلا تشغلن قلباً عليها وطب نفسا ولي مدة يا شمس لم أر كم بها ... وايّة برأي العين أن ينظر الشمسا

وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: البيض أقبل في الحشا ... وبهجتني منها الحسان والسمر ان قتلت فمن ... بيض يصاغ لها لسان وقال في زير اربل: مولاي دعوة بائس عن عيلة ... لطفان بالاطلاق نار غياله قعد الزمان به فقام يحمله ... نحو ابن موهوب عزى آماله اي رب ابقى في المنازل واستجب ... مني دعائي يا نبي وآله أولاني الأفراح أي صنيعة ... أولى واردفها بخالص ماله وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ألا قف بالأجيرع والكثيب ... ونادي نحوه هل من مجيب وحتى أهيلة عن مستهام ... أسير موثق صبّ كثيب لعل الله يرجع لي زماناً ... قضيناه على رغم الرقيب لممشوق القوام إذ تثنى ... رجعت عن المديح إلى النسيب سقاني الراح من يده وفيه ... فكان لي الأمان من المشيب يغيب عن النواظر خوف واش ... ويبرز في سويداء القلوب له مني المصرّع والمقفّى ... ولي منه معالجة الكروب وأخشاه ولا الأسد الضواري ... فيا لله من رشأ قريب وأهون من صوارم مقلتيه ... ملاقاة الكتائب والحروب

أسائل عن سواه وهو قصدي ... ولا يخفى مسائلة المريب دعا لي بالتسلي عنه قومي ... فلا تك يا إله بمستجيب فقد أنست فيه وفي زماني ... بجيش الملك من فرج قريب وما ... لست فيه ... أعالج للردى داع النقيب يجاءك من بلد خبيث ... فلست تطيب إلا للغريب إربل! لا سقاك الله غيثاً ... فقد أفقرت من رجل لبيب أرى العزاء قد ملئت لياماً ... وقد ضاقت على الشيخ الوهوب فما في ماليكها من معين ... على صرف الزمان ولا الخطوب ولا في قاطنيها أريحيى ... ولا في ساكنيها من طروب ألا اجرى الإله بليد سوء ... تحكم فيه عبّاد الصليب وحضر ليلة في جماعة عند الصاحب شرف الدين المبارك بن المستوفى في دكة بستان داره، فجاء الغيث فقام الصاحب مسرعاً، والجماعة معه فدخلوا الدار، فعمل طه على البديهة يقول: دخول لاقبال الشتاء مبارك ... عليك ابن موهوب إلى آخر الدهر ففر من القطر المسلم عشية ... فلم نر بحراً قط فرّ من القطر ظافر بن مضر بن ظافر بن هلال أبو منصور جمال الدين الحموي الأصل، المصري الدار، الشافعي الفقيه، وكيل بيت المال بالديار المصرية. مولده

بمصر في ثامن صفر سنة إحدى وست مائة، توفي بها في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة ودفن بسفح المقطم. روى عن ابن باقا وغيره، وله نثر ونظم ورئاسة، ولا يقدر على إمساك الريح ففشوا حاله في ذلك في مجالس الملوك وغيرها لعلمهم بعذره - رحمه الله تعالى. وكان له مكانة عند الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - بحيث كتب في وصيته التي عهد بها إلى غلمانه وولده إقراره على وكالة بيت المال، فلم يزل عليها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الحسن بن عبد الله أبو الحسن بن عثمان جمال الدين ابن الشيخ نجم الدين البادرائي. درس بمدرسة والده - رحمه الله - بدمشق إلى حين وفاته. وكان حسن الأخلاق، كريم الشمائل توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق يوم الأربعاء سادس شهر رجب، ودفن من يومه بسفح قاسيون، وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله. عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير أبو المجد مجد الدين العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة. كان فاضلاً إماماً عالماً عابداً ورعاً، كثير الديانة والورع، من صدور الاسلام، تام الرئاسة حسن المعاملة للناس، ليّن الجانب، كثير الأدب والسكون والحشمة، ذو عقل وافر ودين متين وبرّ كثير وإحسان شامل؛ وله عقيدة جميلة في الفقراء والصالحين. ووالده الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد ابن العديم؛ -

رحمه الله - قد تقدم ذكره. وبيته مشهور بالتقدم والرئاسة والفضيلة والعلم - رحمه الله. وقد تقدم ذكره بسماع العلم والحديث، سمع من جماعة من المشايخ وحدث ودرّس وأفتى، وولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي ولي ذلك. ثم انتقل إلى الشام وولي قضاء القضاة على مذهبه، ولم يزل مستمراً فيه مع تدريس عدة بدمشق إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بحوسقه الذي على الشرف القبلي ظاهر دمشق في يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن عصر النهار المذكور في تربة أنشأها قبالة الجوسق - رحمه الله - المشار إليه. ومولده مستهل جمادى الأولى سنة أربع عشرة وست مائة بحلب - رحمه الله. وأسمعه والده صغيراً وكبيراً في كثير من البلاد الاسلامية على مشايخ وقته، فمنهم: أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن جنون اللبلي الاندلسي، أحضره والده للسماع عليه بحلب سنة سبع عشرة وست مائة، وسمع من أحمد بن الخضر بن هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن طاوس الخضر بن موسى بن عباس بن طاوس البغدادي في رابع شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن الميمون القسطلاني الفقيه الزاهد تجاه الكعبة المعظمة في منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة؛ ومن أبي العباس أحمد بن محمد بن بختيار المعروف بابن المندائي تجاه الكعبة المعظمة - زادها الله

تعالى شرفاً وتعظيماً - في سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة؛ وربما سمع منه مسنده إلى أحمد بن أبي الحواري. قال: تمنيت أن أرى أبا سليمان الداراني في المنام. فرأيته بعد سنة، فقلت ما تعلم ما فعل الله بك؟ قال: يا أحمد! جئت من باب الصغير فرأيت وسق شيح فأخذت منه عوداً ما اوري تخللت به وأوريت به، فأنا في حسابه من سنة إلى هذه الغاية. وسمع من أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله بن الجباب في العشر الثاني من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة بمكة - شرفها الله تعالى - تجاه الكعبة المعظمة وداخلها؛ ومن ابن العباس أحمد بن محمد بن محمود بن أحمد بن علي الحمودي في سادس شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بجامع دمشق؛ ومن أبي المعالي أحمد بن محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن يحيى بن بندار بن ممسك الشيرازي في عاشر صفر سنة أربع وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي العباس أحمد بن نصر بن أبي القاسم العميرة الازجي ببغداد؛ ومن الملك المحسن أبي العباس أحمد بن نصر بن أبي القاسم بن يوسف بن أيوب بن شاذي بحلب، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن طاهر الخشوعي بحلب في رابع شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي إسحاق إبراهيم بن خليل بن عبد الله

الدمشقي بحلب، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن ربيع بن ريحان بن غالب الديري الضرير في سلخ جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وست مائة بحلب، وما حدثه به مشافهة. قال: كنت بماردين في سنة سبع وستين وخمس مائة. فقيل لي: ان الرجل الحطاب الذي اختطف قد جاء، فمضيت إليه مع جماعة وسألناه عن اختطافه، فأخبر أنه كان في البستان يحتطب فوجد حية على شجرة فقتلها، قال: فاختطفت من وقتي وغاب رشدي عني، ولم أعلم بنفسي إلا وأنا بين قوم لا أعرفهم في أرض لا أعرفها، فرأيت شخصاً وقد أتى إلي، وأخذ بيدي وسحبني إلى بين يدي شخص شيخ جالس على تخت عال، فقال له: يا سيدي! هذا قتل أخي، فقال لي ذلك الشيخ: أقتلت أخاه؟ فقلت: لا، فكرر عليّ القول، وأنا أنكر، وقلت له في آخر الكلام: ما قتلت إلا حية. فقال ذلك الشخص: فذاك هو أخي. فقال: خلّ عنه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من تزايا في غير صورته فقتل فلا دية عليه ولا قود ". قال: فأخذني شخص آخر وأجلسني في مكان، وكان يتردد إليّ في كل يوم ويجيئني بشيء آكله في هذه المدة، ثم أتى إليّ الشخص الذي كان يأتيني بالطعام، وقال: أتريد أن تمضي إلى أهلك؟ فقلت: نعم؛ فأخذ بيدي وأتى بي إلى بين يدي ذلك الشيخ، فقال لي الشيخ: أتريد أن تمضي إلى أهلك؟ فقلت: نعم، فقال: اذهبوا به إلى الموضع الذي أخذ منه. قال: فأخذ بيدي ذلك الشخص الذي كان يأتيني بالطعام لينصرف بي، فوقفت

وقلت: يا سيدي! سمعتك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات من زمان طويل، فقال: نعم، كنت مع الجن الذين كانوا في ليلة نصيبين فسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من تزايا في غير صورته فقتل فلا دية ولا قود ". قال: ولم يبق معي من الذين كانوا ليلة الجن غيري وأنا أحكم بين الجن. وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر المعرى بدمشق، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن محمود بن سالم بن مهدي البغدادي بقراءة والده بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجده الشريف سنة أربع وعشرين وست مائة، ومن خلق لا يحصون كثرة بالبلاد الاسلامية. وكان أوحد عصره في العلم والرئاسة، وسعة الصدر والاقبال على أهل الخير وتقريبهم، وكان كثير الصيانة وعديم التبذل إلى أرباب الدنيا، وهم على أبوابه. وكان مجموع الفضائل يعرف الفقه والأصول والعربية واللغة والحديث والأدب والشعر. وكان كثير التهجد وقيام الليل، وله الأوراد الشاقة سفراً وحضراً حتى إنه كان له ورد يقومه من المغرب إلى العشاء الآخرة. فاتفق أنه سافر إلى بغداد وعبر في الطريق على واد مخيف، فنزل عن فرسه وقت أذان المغرب، وشرع يصلي ويأتي بورده وسائر من معه خائفون وهو متوكل آمن. وكانت له أحوال عجيبة، منها أن الملك الظاهر لما توجه إلى الروم

توجه صحبته مجد الدين وأخوه جمال الدين، فاتفق إنهم في الطريق قلّ عليهم الزاد وحصل لهم جوع فسيروا بعض الغلمان بدراهم ليشتروا ما وجدوا في تلك القرية التي نزلوا بقربها شيء فوجدوا أبواب القرية مغلقة فدقوا بعض الأبواب فلم يجبهم أحد، فتسوروا الجدار ونزلوا إلى الدار فأخذوه وأعطوا ربتها دراهم كثيرة، فامتنعت من أخذها فوضعوها عندها وأخذوا البيض. فلما قدموا وعملوه وفرشوا السفرة وأحضروا ذلك البيض تقدم مجد الدين للأكل ومد يده إلى البيض، فلم يستطع الوصول إليه فقال لأخيه: يا أخي! هذا البيض حرام، فقال: اماله أنت، الدراهم وقد أرسلتها معهم، فمد يده ثانياً فلم يستطع فقال: هذا ما آكل منه، هذا حرام. فطلب أخوه الغلمان وألحّ عليهم في أمر شرى ذلك، فأخبروه أنهم اخذوه غصباً، ورموا لها الدراهم، ولم تأذن لهم في أخذ البيض، فتعجب من حضر من ذلك. وكان له قدم صدق في الطاعات والقرب لا يضيع شيئاً من أوقاته إلا في العبادة مثل أشغال أو اشتغال أو تهجد أو تلاوة أو مطالعة أو جلب نفع إلى من يقصده، أو دفع ظلم عن مظلوم وإغاثة ملهوف، أجمع من يعرفه على علمه ودينه وفضيلته - رحمه الله تعالى. وكان مع هذه الفضائل له يد في النظم والنثر. فمن ذلك ما كتبه في وداع الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله: أقول لصحبي حين ساروا ترفقوا ... لعلي أرى من بالجناب الممنّع وآلثم أرضاً ينبت العز تربها ... وأسقي ثراها من سحائب أدمعي

وينظر طرفي أين أترك مهجتي ... قد أقسمت أن لا تسير غداً معي وما انا إن خلفتها متأسفاً ... عليها وقد حلّت بأكرم موضعي ولكن أخاف العمر في البين ينقضي ... على ما أرى والشمل غير مجمعي يميناً بمن ودعته ومدامعي ... تفيض وقلبي للفراق مودعي لئن عاد لي يوماً بمنعرج اللوى ... وأصبح سرى فيه غير مروعي غفرت ذنوباً أسلفتها يد النوى ... ولم أشك من جور الزمان المضيع وسرت أمالي بيوم لقائنا ... ومتّعت طرفي بالحبيب ومسمعي وفارقت أياماً تولّت ذميمة ... وقلت لأيام السرور ألا ارجعي وله، وقد سير له الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله - فرجية ويسأل عن حاله فكتب إليه مع الرسول: أقول لدمعي حين ساروا بمهجتي ... لقد خفت أن تبيض عيني الآقف فقالت جفوني لا تجف فيض عبرتي ... فبشراك قد أوفى قميص ليوسف وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: يا كاتباً قبّلت ماخطّه ... إذ بعدت يد الكاتب وغائباً في خاطري حاضر ... وغائباً أفديه من غائب قد سرت يا مولاي في خجلة ... لأنني قصرت في الواجب وإنما أذنبت كيما أرى ... فضلك في العفو عن التائب وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: أحن إلى قلب ومن فيه نازل ... ومن أجل من فيها تحب المنازل

وأشتاق لمع البرق من نحو أرضكم ... ففي البرق من تلك الثغور رسائل يريحني مرّ النسيم لأنه ... بأعطاف ذاك الرند والبان سائل وإن مال بان الدوح ملت صبابة ... فبين غصون البان منكم شمائل ولي أرب أن يترك الركب بالحمى ... لسيال دمعي وهو للركب سابل وفي أنه لا ينقضي او أراكم ... وأنظر نجداً وهو بالحيّ آهل ترى هل أراكم أو أرى من يراكم ... فأبلغ منكم بعض ما انا آمل وأحظى بقرب الطيف منكم وإنه ... ليقنعني من وصلكم وهو باطل أطالب جفني بالمنام وكم غدا ... مواعدني أن يلتقي وهو ماطل يطيلون تعذيبي بكم وأطيله ... وما لي منكم بعد ذلك طائل كتب إلى خاله عون الدين يروي لنا حديث المعالي عن عطاء ونافع: أمولاي عون الدين يروى لنا ... حديث المعالي عن عطاء ونافع بعيشك حدثني حديث ابن مالك ... فأنت له يا مالكي خير شافع كتب لسعد الدين محمد بن عربي وقد عزموا على الخروج بملتقى والده الصاحب كمال الدين، وقد عاد من الموصل سنة ثلاث وخمسين وست مائة، كان مقيماً برفيق يعرف بنجم الدين بن أبي الطيب: النجم مصاحبي قوى العزم ... ما عندي ما يركبه العدم والعبد يرجى إن آتى صحبتنا ... إذ يسرع أدبر يا بشير النجم فسيّر إليه بغلته وكتب إليه: البغلة قد أضحت بحسن النظم ... سمعاً وانت مطيعه للرسم

بشراي إذا يصحبه النجم لنا ... فالسعد مقارن لهذا النجم وكتب القاضي مجد الدين إلى سعد الدين المذكور، وقد لاذ بابن المولى الكاتب للإنشاء في شغل له: عجباً من صرف دهر فاعل ليس أولى ... جاهتي لاذ منه عزى بابن مولى فأجابه سعد الدين: لم ألذ بابن مولى إنما لذت بمولى ... فهو مجد الدين ذو الفضل الذي أخجل طولا وكتب القاضي مجد الدين إلى بدر الدين عبد الواحد وهو غائب عن والده كمال الدين وكان خاله - رحمهم الله تعالى: يا راقياً رتبة المعالي ... وجائزاً أشرف الخلال حاشاك أن تلبي احتيالاً ... ترهب قدراً عن احتيالي وأشكر لدهر حباك حالاً ... أنت به في الزمان خالي من حاز حسناً بغير خال ... لم يك في غاية الجمال فعد إلى كرم السخايا ... فبهجة البدر بالكمال وله - رحمه الله - في غلام يلعب بالكرة: لله ما احلى شمائل أغيد ... أجرى الدموع له عذار واقف وكانما الكرة التي يسطو بها ... قلب لديه من جفاه واجف وكأنما إنسان عين محبة ... وكأنما الجو كان برق خاطف وقال - رحمه الله - وكتبها إلى الملك الناصر وقد حضر إليه في السماع فأصبح مجموعاً: ومن بات يمرح في روضة ... فلم لا يحاكي غليل النسيم

وقال - رحمه الله - وقد عشق الصدر البصري خيالته: فلا تلم الصدر في عشقه ... فإن الملام بلا فائده ومن ذي يرجى صلاح أمر ... غدا ذا مخيلة فاسده وقال - رحمه الله تعالى: مذ غدا الكهف له من يوسف ... صار بالنصر عزيزاً في الورى قال بالإخلاص منه جنة ... وسقاها من يديه الكوثرا بارك الله فيها دوحة ... لا يرى الطير فيها زمرا فصلت للنور فيها قصص ... ما سمعنا مثلها للشعرا وله، وكتب بها إلى خاله عون الدين وقد مات أخوه قطب الدين حسن - رحمه الله: رحى الموت غدت بالقطب دائرة ... والصبر من بعده قد عز إلماما فقلت للنفس ماهذا الغرور أما ... علمت حقاً بأن الكون أحلاما ولست انسى لخال كان لي حسن ... فإن لي الآن خالاً جمّل الشاما وكتب إليه نور الدين الاسعردي: أمولاي مجد الدين شوقي زائد ... وفرط غرامي فيكم غير زائل بحقكم ردّوا فؤادي فإنه ... يقدمكم يوم النوى بمراحل فأجابه قاضي القضاة مجد الدين - رحمه الله - فقال: فديتك نور الدين أتعبت خاطري ... وظل ينادي في جميع المنازل

وينشد قلباً منك أصبح شارداً ... ومنى وأضحى هائماً في المراحل ويا ليت شعري لم يقدم سائراً ... وهلا غدا في كل أرض بنازل فأجابه نور الدين الاسعردي: أيا ما جداً عمّ الورى بالفواضل ... وفاقهم في سودد وفضائل ويا شاكياً من أين رحت ممتعاً ... له خاطراً حاشاه من كل باطل لئن راح قلبي سابقاً فهواكم ... له سائق أو سابق غير غافل غدا طائراً لما دخلت مبشراً ... أمامك من يلقى بأكرم واصل ويوم النوى أبدى عليّ تعصباً ... لبعدي عن نادي العلا والفضائل فعزّ لي الربع الذي تسكنونه ... مخافة أن يشكى إلى غير عادل ومن خوفه من أن يصادف عائقاً ... يقدمكم يوم النوى بمراحل وبعد جعلني فيك قلب مولّه ... يهم ولا يصغى إلى قول عاذل على انه لما غدا من خيالكم ... تقدم إذ بنتموا بمنازل فراجعه قاضي القضاة مجد الدين جواباً عن جوابه: يميناً لقد أهديت نور نواظري ... وأعربت عن شوق تحن حمائري وأعربت في فضل صفا لك وده ... واعربت بالوجد المبرح خاطري أيا حبذا در يروق نظامه ... أتاني عن بحر من الفضل زاخر لله روضه قد علا الطرف بهجة ... سقى من سحاب من بنانك ماطر ومالك من زهر تضوّع نشره ... يبشر قبول من بنانك عاطر

معانيه راح والسطور تساكر ... فإن رحت سكراناً فكن فيه عاذري شموس معان بالمداد تبرقعت ... مخافة أن يغشى عيون النواظر سرى في ظلام النفس طيف حديثكم ... فيا لك من طيف لعيني وناظري رأى الطرس قفراً والسطور رواحلا ... فوافى إلى صبّ لبعدك ساهر وكتب قاضي القضاة مجد الدين إلى النور الاسعردي صحبة فاكهة: أيها النور الذي يجلو الغسق ... وجهك هذا قمر إذا اتسق عيناك تدنو دنو من وفق ... نحو غلام وكتاب وطبق وإن تشأ فاقرأ أوائل الفلق فأجابه النور الأسعردي المذكور: يا ماجداً إلى يدي الفضل سبق ... ومن سما نحو المعالي وسبق يا حبذا منك كتاب وطبق ... وحبذا الغلام لو كان يقق وقال قاضي القضاة مجد الدين - رحمه الله: رأيت في النوم ليلة الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وستين وستمائة كاني قاصد الدخول إلى بلدة صغيرة، فقيل لي: إن نجم الدين محمد بن إسرائيل قد صار كاتباً عند الوالي بها، فعملت في النوم ارتجالاً: إلى كم ذا تغررك الليالي ... وتبدي منك حالاً بعد حال فطوراً شيخ زاوية وفقر ... وطوراً كاتب في باب وال

وقال: ثم استيقظت وانا احفظها. وممن رثاه العالم الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب الدرج بقوله: أقم يا ساري الخطب الدميم ... فقد أدركت مجد بني العديم هدمت وكنت تقصر عنه بيتاً ... له شرف يطول على النجوم قصدت ذوي الكمال فعاجلتهم ... بذاك يحلى عقدهم النظيم وإن تكنّف بابهم الرزايا ... حللت من المعالي في الصميم أتدري من أصبت وكيف أمست ... بل العلياء دائمة الكلوم وكيف رفعت قدر الجهل لما ... حفظت منار أعلام العلوم ومكنت الصغار من الأيامى ... وسلطت الشفاء على اليتيم ولم ينزل بوفد الرفد أندى ... سطاك سوى البكاء على الرسوم عبرت وقد ضللت بطود علم ... أما تمشي على السنن القويم بمن أودى بصرف الدهر قرماً ... فثار عليه للثأر القديم بمن بسط الندى فأفاض عدلاً ... يكف الليث عن ظلم الظليم صحيح الزهد غادره تقاه ... وخوف الله كالنضو السقيم فكم قد بات وهو من الخطايا ... سليم النفس في ليل السليم وكم أورى هداه لمستضيء ... وكم أورى هداه على هشيم مضى وسراج منزلة البرايا ... ومورد بيته قلب القيوم وودّع والثناء على علاه ... يفوق مضاعف البيت العميم

وساد وكان للفضلاء منه ... حنوّ المرضعات على الفطيم وغاب فاسمع الاسماع لفظاً ... أرقّ من المدامة لنديم أمجد الدين دعوة مستنيم ... لأنواع الكآبة مستديم حللت من الجنان أجلّ دار ... وقلبي حلّ بعدك في الجحيم فما لي غير حزني من صديق ... وما لي غير دمعي من حميم إذا ما سام نوى الأنس طرفي ... ليمطرني همامي بالهموم سقاك من الجنان رحيق لطف ... يدار عليك مفضوض الختوم ولا برحت ركاب المزن تسري ... إلىمثواك مطلقة الرسيم وقال أيضاً يرثيه: رقاد أبى إلا مفارقة الجفن ... وقلبي نأى إلا عن الوجد والحزن أبيت وراحي أدمعي وكآبتي ... لدوستي وحزني مؤنسي والأسى حزني وأضحى وطرفي يحسد العمى إذ يرى ... حمى المجد يغشاه الخطوب بلا إذن ألا في سبيل المجد مجد وادقع ... وهبتهما للبرق إن كل والمزن لأنهما سنا الحدود وأقبلا ... يزوران في سود الملابس والدكن ثوى المجد في حزن من الأرض فاعتدت ... تتيه على سهل الربى روضة الحزن واسمع ناعيه أصم ضريحه ... فأضحى لما لاقى من الرعب كالعهن سطا فقده بعد الكمال على العلا ... فهدت وأقوى الضعف وهي على وهل وكان لوفد الجود مغناه كعبة ... يطوفون فيها من يمينه بالركن

فأضحت وهذا القلب مرمى جمارها ... وأمست وهذا الطرف مجرى دم البدن وكان يفوت البرق إن رام شاءه ... إلى جمع أشتات العلى وهو شنآن وكانت فتاويه تخال فروعها ... لتحقيقه يثنى على القطع للبطن غدت بعده كأس العلوم مريرة ... وكانت به من قبل أحلى من الأمن وكأن سماء الدست من بعد شخصه ... تغشى محياها عيون من الدجن كأن عروس الفضل عزت قطوفها ... وطالت وقد غاب المذلل والمدّن أظن ربوع الدرس حان دروسها ... وقد غاب عنها حين غاب ومتقن وأضحت معاني النظم بعد فراقه ... شوارد لا يأوي من اللفظ في كن وأمسى صميم العلم إذ ذاك أعزلا ... يصول عليهالجهل بالرشق والطعن أبحر الندى طود المعالي وإنه ... ليغني عن التصريح باسمك من يكنى حللت بزعمي في الزعام وإنه ... لمن تحته يبل ومن فوقه يطنى ووافيت بيتاً كنت حرف حلوله ... ووحشته ترك الكرى طاوي البطن وأوحشت من قد أضحت الأرض داره ... وآنست من قد حل في جنتي عدن أمرّ على مغناه كي يذهب الأسى ... لعادته الأولى فيغري ولا يغني وتنثر عيني لؤلؤاً كان كلما ... يساقطه من فيه يلقطه اذني وأحسد عجم الطير فيه لأنها ... تزيد على إعراب نظمي باللحن وأقسم إن الفضل مات لموته ... ويخطر في إذني أخوه فاستثنى ؟ عبد الله بن الحسن بن إسماعيل بن محبوب أبو محمد بهاء الدين البعلبكي.

كان من اعيان البعلبكيين ورؤسائهم وعدولهم، تولى جهات ديوانية، فمنها الحوائج خاناة في الأيام الصالحية والعمادية، ونظرها في الأيام الناصرية الصلاحية، ونظر بعلبك آخر الأيام الناصرية، واستمر إلى اوائل الدولة الظاهرية، وباشر نظر الجامع بدمشق مدة يسيرة، ونظر المارستان النوري - رحمه الله تعالى - بدمشق مدة أخرى، ونظر الأسرى بدمشق إلى حين وفاته، وباشر نظر الديوان للأمير فارس الدين الأتابك - رحمه الله - بالشام وغير ذلك. وكان مشهوراً بالأمانة والخبرة ومعرفة صناعة الكتابة، حسن المجالسة؛ وتوفي بدمشق ليلة الجمعة سلخ ذي القعدة أو مستهل ذي الحجة، وصلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الجمعة، ودفن لمقابر الصوفية، وقد ناهز ثمانين سنة وربما تعداها - رحمه الله تعالى. ؟؟ عبد الله بن الحسين بن علي بن عبد الله أبو عبد الله مجد الدين الكردي الرازي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً كثير الديانة والتعبد، عنده مواددة ولطف ولين جانب وتواضع، درّس بالكلاّسة شمالي جامع دمشق وأمّ بالتربة الظاهرية مدة يسيرة منذ فتحت إلى حين وفاته، وتوفي بدمشق يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة، ودفن من يومه بعد صلاة الجمعة والجنازة عليه بجامع دمشق بماقبر الصوفية وبلغ من العمر ستاً وستين سنة - رحمه الله تعالى. عبد الله بن عمر بن نصر الله أبو محمد موفق الدين الأنصاري صاحبنا.

كان اديباً فاضلاً مقتدراً على النظم، وله مشاركة في علوم كثيرة، منها الطب والكحل وغير ذلك من الفقه والنحو والأدب، ويعظ وهو حلو النادرة حسن المحاضرة، لا تملّ مجالسته، وعلى ذهنه من التواريخ والحكايات والأشعار وأيام الناس شيء كثير، وكان أقام بالديار المصرية مدة، ثم استوطن بالشام مدة أكثرها ببعلبك ثم عاد إلى الديار المصرية في السنة الخالية واستوطنها، فلم تطل مدته بها حتى ادركته منيته، فتوفي إلى رحمة الله ليلة الجمعة مستهلّ صفر بالقاهرة من غير مرض، بل عرض له قولنج ليلة وفاته، فمات من وقته، وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله. وشعره كثير جداً، ويقع له فيه المعاني الجيدة، وكان يكتب خطاً حسناً، ويترِسّل في مكاتباته، وعنده لطافة كثيرة ورقة حاشية، ودماثة إخلاق، ومدة مقامه ببعلبك لا يكاد ينقطع عني. من شعره: يذكرني نشر الحمى بهبوبه ... زماناً عرفنا كل طيب بطيبه ليال سرقناها من الدهر خلسة ... وقد امنت عيناي عين رقيبه فمن لي بذاك العيش لو عاد وانقضى ... ليسكن قلبي ساعة من وجيبه إلا ان لي شوقاً إلى ساكن الغضا ... أعيذ الغضا من حره ولهيبه أحنّ لذيّال الجناب ومن به ... يشكرني ذاك الذى من جنوبه أخا الوجد إن جاوزترمل محجّر ... وجزت بمأهول الجناب رحيبه

دع العيس تقضي وقفة بربا الحمى ... ودع محرماً يجري بسفح كثيبه وقل لغريب الحسن ما فيك رحمة ... لمفرد حزن في هواك غريبه متى غرّد الحادي سحيراً على النقا ... أمال الهوى العذري عطف طروبه وإن ذكرت للصبّ أيام حاجر ... هناك تقضي نحبه بنحيبه وفي الحي نشوان المماثل عاشق ... محب له شكر بذكر حبيبه إذا ما سبته في النسيم لطافة ... ينازعه أشواقه بنسيبه وقال أيضاً - رحمه الله: أسائل طرفي عن جنابك في الكرى ... فيخبر سهري أن جفنك راقد ويحسب وكراً ناظري طائر الكرى ... وما هو إلا للسهاد مصائد وقال أيضاً - رحمه الله: هيفاء ما هذا النسيم قوامها ... إلا وقال الغصن لبنى قد سبى هي نور عيني لا ترى ولها أرى ... فهي البعيدة في االمكان الأقرب وقال - رحمه الله تعالى: قلبي وطرفي في ديارهم ... هذا يهيم بها وذا يهمي رسم الهوى لما وقفت بها ... للدمع أن يجري على الرسم وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: من سكره منك بقد وريق ... ماذا له يجدى كؤوس الرحيق ومن يكن طرفك خمارة قل ... لي متى من سكرة يستفيق

رق شرابي ونسيم الصبا فالعيش بالساقي عيش رقيق إذا انقضى سكري وشاهدته ... حدد لي سكراً بخمر عتيق مديرها مشمولة من كل ... شمائل القد القويم الرشيق راح دع اللاحي على شربها ... يهوي به الريح مكاناً سحيق ما العيش إلا أن تراني بها ... سكران لا أدري أين الطريق إن قلت سكرى فنازلها ... هذا دم في الكأس منها أريق تشابهت والصبح في نورها ... ففرق الساقي بفرق دقيق ومرقب ثوب الضحى فانثنى ... من نزلها يرقى بخيط رقيق لصاحبي موهت عن خانها ... فقلت قصدي نحو وادي العقيق ومذ بدت كأساتها في الدجى ... غالظها عنها بثأر الفريق وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: يا عائباً ما جرى ذكراه عن جلدي ... إلا عدمت اشتياقي نحوه جلدي ولا سرى في الصبا من جنة خبرا ... إلا تأوهت من وجدي ومن كمدي ولا عزمت على سلوانه غلطاً ... إلا وجدت خيالاً منه بالرصد ولا ما تذكرت أياماً به سلفت ... إلا وضعت يدي خوفاً على كبدي يا عائباً أقسمت عيني بطلعته ... مذ غاب لا نظرت يوماً إلى أحد ما كان أيامي مقرونة بقربكم ... والشمل مجتمع والعيش في رغد

ترى تعّود أوقات بكم سلفت ... هيهات وا أسفى ما فات لم يعد وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: لي عند ساكنة الكثيب ديون ... أبداً تقاضيها جوى وحنين من لم يكن في الوصل منها باذلاً ... للروح منه فإنه مغبون يا فتية ما فاز منها بالمنى ... إلا فتى بجمالها مفتون كيف السبيل إلى المزاروكل من ... في الحي غير أن عليك أمين وقال أيضاً: يا سعد إن لاحت هضاب المنحنى ... وبدت أثيلات هناك تبين عرّج على الوادي فإن ظباءه ... للحسن في حركاتهن سكون ايه نسيم البان من اخبارهم ... زدني حديثاً فالحديث شجون إن ضيعوا عهدي فعهد هواهم ... بين الجوانح سره مكنون وحياتهم إن السلوّ فإنه ... شك وأما حبهم فيقين وقال أيضاً - رحمه الله: لا غرو إن سلبت بك الألباب ... وبديع حسنك ما عليه حجاب يا من يلذ على هواه تهتكي ... شغفاً ويعذب لي عليه عذاب حسبي افتخاراً في هواك بأن لي ... نسباً به تسمو به الأنساب أحبابنا وكفى عبيد هواكم ... شرفاً بأنكم له أحباب يا سعد مل بالعيس حلة منزل ... أضحى لعزة ساكنيه يهاب

ربع تودّ به الخدود إذا مشت ... فيه سليمى إنها اعتاب كم في الخيام أهلذة هالاتها ... تبدو لعينك برقع ونقاب وشموس حسن أشرقت انوارها ... أفلاكهن مضارب وقباب شنّوا على العشاق غارات الهوى ... فإذا القلوب لديهم أسلاب من كل هيفاء القوام إذا انثنت ... هز الغصون بقدها الإعجاب تهب الغرام لمهجة في أسرها ... فجمالها الوهّاب والمنهاب وغدت تجرّ على الكثيب برودها ... فإذا العبيرلدى ثراه تراب رقّ النسيم لطافة فكأنما ... في طيّه للعاشقين عتاب وسرى يفوح معطراً وأظنه ... لرسائل الأشواق فيه جواب وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: إذا لمعت من جانب الحي نارها ... فلا طالع إلا فيها استعارها وإن سمعت أذناي نحوي خطابها ... خلا جملة الأشواق سراّ جهارها فيسكر صحبي من صغار كؤوسها ... وأصحو إذا دارت عليّ كبارها لي المقلة النجلاء كأس مزاجها ... غرام وما عين الفتور عقارها وإن سفرت أطرقت صوناً لحسنها ... وكيف أرى من بالسفور استتارها فما البدر إلا في سحاب نقابها ... وما الغصن إلا ما حواه إزارها

سلا عن منى العشاق منها لواحظ ... تصحح أخبار السقام انكسارها وميلاً إذا عاينتما بانة اللوى ... تميل فما غير القلوب ثمارها علاقة حب من تقادم عهدها ... يجدد أثواب السقام أذكارها منازل ليلى العامرية باللوى ... يخاف نواها حين يدنو مزارها ليهن المطايا بالأراك منازلا ... مرابعها الفيحاء فاح عرارها فعرّس بعيش الشوق يا عيس قد بدا ... بشيرا بأسفار الصلاح سفارها ولذ من حمى الوادي بأكرم حلة ... يباح بها النادي وقد عز جارها ملوك جمال خلد الله ملكها ... إذا عدلت جازت وطاب جوارها أيا كعبة الحسن الذي بين أضلعي ... كما شاع شرع الحبير في خمارها إليك قلوب العاشقين توجهت ... وأنت المنى لا حجبها واعتمارها وقال أيضاً - رحمه الله: طرفي على سنة الكرى لا يطرف ... وبخيله بخيالها لا يسعف وأضالعي ما ينقضي زفراتها ... إلا وتدركها الدموع الذرف شمت الحسود لأن ضنيت وما درى ... أني بأثواب الضنى أتشرف يا عائبين وما ألذ نداهم ... وحياتكم قسمي وعز المصحف إن بشّر الحادي بيوم قدومكم ... ووهبته روحي فما أنا منصف قد ضاع في الآفاق نشر خيامكم ... وأرى النسيم بعرفها يتعرف كيف المزار وما أتنت سمر الحمى ... إلا غدت سمر الرماح تقصف

ويميتني في الحي أسمر قامة ... ومن الرماح مثقف ومهفهف بدر تمنى البدر يحكي معجزاً ... من حسنه فبدا عليه تكلف وقال أيضاً: ولقد وقفت على منازل جيرة ... رحلوا فأجرى الدمع ذاك الموقف وتعبت في طي النسيم رسائلي ... وسألته في نشرها يتلطف حتى انثنى لشكايتي روح الحمى ... وغدت حمامته بشجوي تهتف وقال أيضاً رحمه الله: كم من أسير غرام في خيامهم ... طعين قدّ جريح الأعين النجل من كل أسمر..... مبسمه ... بيض من البيض أو سمر من الأسل وفي الهوادج من تهدي إذا أسفرت ... في الليل نوراً فتهدى الركب للسبل وتخجل الشمس من إشراق طلعتها ... ألست تنظر فيها حمرة الخجل وقال أيضاً رحمه الله: خذاعنة الوادي فتلك زرود ... وميلاً عن الوادي فثم جدود وإياكم سرب المها من تهامة ... فغزلانه يوم اللقاء أسود ولا تردا ماء بمنعرج اللوى ... فليس به غير الدموع ورود وعوجاً على تلك المعاهد بالحمى ... فلي عندها يوم الوداع عهود أحن إليها والديار قريبة ... حنيني إليها والمزار بعيد

وإني إذا زاد اشتياقي لأهلها ... وإن كان شوقي ما عليه مزيد أعانق من نشر الشمال شمائلاً ... يرنحني تذكرها فأميد وألثم من برد الثنايا مباسماً ... تجمع فيها الدر وهو فريد وليلة حياني الخيال مسلماً ... وصحبي على شعب الرحال قعود فعانقته حتى الصباح وبيننا ... حديث هوى أبديه وهو يعيد ومائسة الأعطاف تذكي رضابها ... لهيباً لدى الأشواق وهو برود تقول لرسلي كيف غاب وكم بدت ... بنار اشتياقي إن ذا لجليد دعوه بغيري إن تشاغل قلبه ... فواجد غيري أنه لفقيد ألفت وما أنوي الفراق بسلوة ... وإن فراقي من ألفت شديد فلو مت عشقاً ثم عشت وقال لي ... تعود إلى ما كنت قلت أعود وما الحب إلا أن تروح وتغتدي ... بثوب الضنا يبليك وهو جديد وقال أيضاً رحمه الله: طاب السماع فغنني يا مطربي ... وأعد نعيمي من حديث معذبي لا تسقني إلا كؤوس حديثها ... فلقد حلا بالسمع منها مشربي إني لأطرب كيف ما ذكر اسمها ... فأرى العذول على هواها مطربي ويمليني السكر القديم إذا جرى ... صرف الحديث ومن فمي لم أشرب أجني لكي أجني ثمار عتابها ... فمتى عفت أبدأت حالة مذنب

هذي المصونة في خلال جمالها ... سفرت فأي حشاشة لم تسكب هتكت ببارق ثغرها ستر الدجى ... وتسترت في شعرها من غيهب هي نور عيني لا ترى وبها أرى ... فهي البعيدة في المكان الأقرب تبدو فيسترها بظاهر نورها ... أرأيت محتجباً ولم يتحجب وتريك من فوق النقاب محاسناً ... أضعاف ما تبدي بغير تنقب في طرفها سحر أغيد كمالها ... الفتان من عين الغزال الربرب سحبت على سفح الكثيب ذيولها ... فتمسك الوادي بذاك المسحب ونشقت ترب الحي إذ خطرت به ... فإذا انتشاق الطيب ليس بطيب يحمي الحمى بضرائب من لحظها ... حبي ولا لحظ يمر بمضربي خف قربها وكن البعيد تأدباً ... ففظيعتي كانت لفرط تقربي ولئن تمتعني خلا قرباً بها ... فبذكرها مهما حييت تسببي أهنئ الليالي إن تبيت مسهداً ... ما دام نجم الكأس غير مغرب والدهر يبخل أن يجود بلذة ... فمتى يبح جسمي الخلاعة فانهب وقال أيضاً رحمه الله: سروا ببدور ليلهن الغذائم ... مبرقعة بالحسن والحسن سافر فبات على الأضغان حمر وإنما ... عليها من السمر الرماح ستائر

وفيهن من يهدي الركاب بنورها ... ويمشي به بدر الدجى وهو حائر من السمر هيفاء القوام لقدها ... حديث به سمر القنا تتسامر يرنّحها سكر الشباب فينثني ... على كل صاح عطفها يتساكر رأى قدها قلبي فطار صبابة ... ولا غروان يصبو إلى الغصن طائر بألحاظها آيات بحر تبدلت ... فواتر تقري والصحيح تواتر لقد قلب الأعيان سحر عيونها ... فأصبح فيها عاذلي وهو عاذر أيا عائباً عن ناظري وجماله ... بناظر فكرى تختلسه الضمائر تميّل لي حتى أميل معانقاً ... إليك اشتياقاً مثل ما أنت حاضر بريق الحمى حدث بأخبار لوعة ... لها من فؤادي بالحقوق تواتر ويا نسمات الصبح قولي لراقد ... هناك الكرى إني لبعدك ساهر وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: جميعي لسان وهو باسمك ناطق ... وكلي قلب عند ذكرك خافق وإني وإن لم أقض فيك صبابة ... فما أنا في دعوى المحبة صادق خليليّ ما للبرق يخفق غيرة ... إبرق حماها مثلي وقلبي عاشق وما للمطايا قد حداها اشتياقها ... أحبي لها مثلي يحنّ الأبانق إذا ما حدا الحادي وعرّض باسمها ... تاوّه محزون وحنّ مفارق تميل غصون البان شوقاً لقدها ... فينطق إشفاقاً عليها المناطق

وينشق قلب للشقائق غيرة ... إذا حدقت يوماً إليها الحدائق وقال أيضاً - رحمه الله: رويت يا نفحة الوادي برياك ... إخبار سعدي فحيا الله مرآكي ياا طيبة الشرب يا من لحظ ناظرها ... يصيد أسد الشرى عمداً بأشراكي تلك الجفون تسمى اسرب فلقد ... يرد لو انه من بعض اشراكي اسقاك من لحظة الفتاك راشفة ... عسى أعدّ به من بعض فتاكي دعا هواك لاتلاف النفس فما ... ابقى الضنا عاشقاً إلا ولبّاكي كوني كما كنت لا عينا ولا ملذا ... فكل قلب على ما فيك بنواك إني أعيد جنوناً فيك هينمتى ... من طارق العقل يا أسما باسماك يشكو لها الخصر ظلماً من مناطقها ... فيعطف العطف منها رقة الشاكي ومذ حكى وجهها بدر الدجى شبهاً ... أبدى الجمال عليه كلفة الحاكي وقال أيضاً - رحمه الله: يا نازلين برامة والمنحنى ... هل ترجع الأيام تجمع بيننا أم هل لماضي عيشنا من مرجع ... ورى رونقات بكم عادت لنا ومناد خلق الشامائل واللمى ... فضح القضيب قوامه لما انثنى تجلوه أذكاري لعين ضمائري ... فيرى قريباً والتباعد بيننا كم قد ضللت بحندس من شعره ... حتى اهتديت بوجهه الباري السنا

قابلته بالبدر ليلة تمّه ... فرأيت أدنى التزين الأحسنا اما هواه فإنه باضالعي ... متمكناً وسلوه ما امكنا يا للعجائب مع دوام ملاله ... لم ذا ترى جعل القطيعة ديدنا وقال أيضاً: يا سعد إن جزت العقيق وعاينت ... عيناك أعلام الحمى فلك الهنا أرح المطايا في ظلال جويلع ... فلقد عناها في سراها ما عنا ولئن سئلت عن الكثيب وحاله ... إن قد قضى شوقاً وما بلغ المنى وقال بديهاً عندما شاهد بناء قبر أصحابه: سقى جدثا ضم الحبيب ترابه ... ندي كل وسمى من الغيث هطال أقول وقد أضحى يجدد بالبنا ... لقد رعت بالي يا جديداً على بالي وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ما بين نجد وبين المنحنى عزب ... رضيت فيهم بتعذيبي فلم غضبوا وبين جفني وبرق السفح عهد هوى ... أن لا يزال له منأدمعي سحب يحلو العتاب لسمعي من حديثهم ... فيحسن الريب عندي كلما عتبوا شنوا الاغارة والاحداق سالبة ... وكل قلب تمنى إنه سلبوا إذا تهيأ بسمر من قدودهم ... أعيت بحسن محيا إنها لهب مبرقعات تراأت من خيامهم ... مصونة ما سوى أنوارها تعب تحجبت وخلت حسناً سلبت به ... فكيف لو ترفع الأستار والحجب

وقال أيضاً: لاتغررن بسيف الغمد مغمده ... وخذ أماناً فمن أحداقها الرهب تلك الجفون تسمى بالعمود كما ... تلك اللواحظ من أسرابها القضب يا عائبين وأشواقي بمثلهم ... حتى يخيل طرفي إنهم قربوا إذا تذكرت عيشاً باسماً بكم ... سررت قدماً به أبكي وانتحب عرب الحمى كيف لا يحمى نزيلكم ... في حيكم وله في حبكم نسب أم كيف يحسن يا جيراننا بكم ... جور وقاماتكم للعدل تنتسب وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: أي يد للواحدات عندي ... إن شارفت بي هضبات نجد معاهد يشتاقها قلبي إن ... طال بها على البعاد عهدي سل يا بريق الحي هل غزاله ... باق على عهد الغرام بعدي يا أهل ودي أنتم قصدي وما ... أحلى نداكم يا أهيل ودي غدي عزيم الشوق إن عز اللقا ... منكم بوصل وأمطلوا بوعد يطول تردادي إلى أبوابكم ... حلا لقلبي فاسعفوا ببرد أخفى الهوى من حبكم بباطني ... أضعاف ما أظهره وأبدى وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: ترى عند من بالسفح علم بأن لي ... لأجلهم دمعاً على السفح يسفح قضى الحب في شرع الغرام لناظري ... يشاهد جفني منه وهو مجرح وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: وماء شجاني في الحمى ورياضه ... وقد شقني شوقاً قوام مهفهف

حمام شكا للغصن وجداً بقده ... إلى أن غدا من رقة يتعطف فإن راح نشر الروض في الأفق ضائعاً ... فإن به عزف النسيم يعرف وما مالت الأغصان سكراً بطيبه ... فمن زهره قد دار ... قرقف وقال أيضاً رحمه الله: يا ليالي الحمى بعهد الكثيب ... إن تنأيت فارجعي عن قريب أي عيش يكون أطيب من عي ... ش محب يخلو بوجه حبيب يقطع العمر بالوصال سروراً ... في أمان من حاسد ورقيب يتجلى الساقي عليه بكأس ... هو منها ما بين نور وطيب كلما أشرقت ولاح سناها ... آذنت من عقولنا بغروب خلت ساق المدام يوشع لما ... رد شمساً بالكأس بعد المغيب نغمات الراووق يفقهها الكأ ... س ويوحي بنشرها للقلوب فلهذت يميل من نشوة الكأ ... س طروباً من لم يكن بطروب يا نديمي اسمأل أم شمول ... رق منها وراق بي مشروبي أم قدود السقاة مالت فملنا ... طرباً بين واجد وسليب أم نسيم من هاجرت هب وهنا ... فسكرنا بطيب ذاك الهبوب أم سرى في الأرجاء من عنبر الج ... وأريج بالبارق الشبوب ما ترى الركب قد تمايل سكرى ... وأمالوا مناكبها لجنوب

لست أبكي على فوات نصيب ... من عطايا دهري وأنت نصيبي وصديقي إن عاد فيك عدوي ... لا أبالي ما دمت لي يا حبيبي وقال أيضاً رحمه الله: حدّث فقد حدثتنا نسمة السحر ... عن جيرة بظلال الضال والسمر واستودعت سرهم في طيها وسرت ... فأسكرتنا بنشر المندل العطر موهت صحبي عنها إذ غرفت بها ... غرفاً فقلت نسيماً فاح عن زهر فكيف يخفي وريّاها روى خبراً ... يشيم طيباً بها من ذلك الخبر أمر بالدار من شوقي لمن رحلوا ... عنها فأقتنع بعد العين بالأثر يا نسمة الغصن في لين وفي هيف ... لا كان قلب عليك الدهر لم يطر أراك في كل مشهود لأنك في ... طرفي مقيم فقد أصبحت لي نظري وقال أيضاً رحمه الله: ذكرت مرابعها بجرعاء النقا ... فصبت لمغناها القديم تشوقا فتفرقاً يا حادياها حسبها ... حاد من الأشواق أن يتفرقا حنت لعهدة أنسها فتجردت ... وصبت إلى مرقي عزيز المرتقى يا صاحبيّ تعرضا بي للحمى ... إن أنتما جاوزتما كثب النقا وخذا إماماً من لحاظ ظبائه ... فيغير قلبي سهاماً لا يتقى

آها لفتنة مقلة سحارة ... أعيت بقلبي ما يداوي بالرقى راجعت في شرع الغرام صبابتي ... لما غدا صبري عليه مطلقا أملت أن تدنو الديار وتكتفي ... هذي الديار دنت وعز الملتقى أمرت قلبي بالتصبر طلة ... فوجدت باب الصبر عنه مغلقا أحبابنا قسماً بليلة وصلنا ... وبغيرها وحياتكم لن أصدقا عندي لعرفتكم حديث صبابة ... أودعتها سرى ليوم الملتقى وقال أيضاً رحمه الله: سفرت وقد ستر الجلال جمالها ... فاهجر منامك إن أردت وصالها إياك يخدعك الحسود بقوله ... قلب هواك فقد تمل ملالها ولربما عتبت عليك تذللاً ... فكن الذليل فما ألذ دلالها شمس بقلبي ... أو ما ترى ... شفقاً بدمعي مذ بكيت زوالها ونباله الأجفان درع تصبّري ... مما يعين على نفوذ نبالها الورد يشبه أن يكون شقيقها ... في وجنة والمسك يشبه خالها ما انطلق الخصر النطاق بسقمه ... إلا وأخرس ساقها خلخالها غار النسيم وقد توهم قدها ... ألفاتميل لإلفتي فأمالها لي مدمع دفق على جريانه ... بين المنازل سائل أطلالها تلك المنازل إن أتاها سائل ... غير المدامع لا يجيب سؤالها وحشاشة رضيت بأن تفنى اسى ... في حبكم ما للعذال ومالها

وقال أيضاً - رحمه الله: ما للركائب من نشر الصبى سكر ... هل جاء في طيها من رامة خبر أولا فما لرجال القوم قد عبقت ... وفاح في الجو نشر عرفه عطر لطيب نفحتها برد على كبدي ... ونار شوقي بها في القلب تستعر أية سيري بأخبار الحمى كرماً ... كرّر عليّ فأخبارالحمى سمر يا جيرة غدروا من غير ما سبب ... رقوا فأدمع عيني بعدكم غدر أهلاً لأيام وصل كلها أصل ... ولّت وليلات قرب كلها سحر أفدي بروحي الذي ما غاب عن بصري ... إلا وتجلوه لي الأشواق والفكر ولا سرى البرق يهدي منه لي خبراً ... إلا وعند فؤادي ذلك الخبر وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: نقل الأراك بأرن ريقة ثغره ... من قهوة مزجت بماء الكوثر قد صح ما نقل الأراك لأنه ... يرويه نصاً عن صحاح الجوهري وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: أبياتاً سمعتها منه فطلبتها منه بعد صلاة المغرب، فراح يكتبها لي، فسيرها بعد عشاء الآخرة من تلك الليلة، وقد أضاف إليها على الوزن والروى ما يتضمن المدح، فأضربت عن معظم ذلك، وهذه الأبيات الأولة: مقلقل القلب بكم ساهر ... ما آن أن يجبره الكاسر ومشتك منكم إليكم متى ... ينظر في قصته الناظر ووارد صار إلى وصلكم ... تراه عن رأي بكم صادر

يا هاجراً أثبت لي رتبة ... من شرفي إنك لي هاجر وجائر يطعمني عذله ... قلت له لا عدم الجائر وواعد يعجبني مطله ... إن كنت أحرى أنني صابر وما على حتفي من جفنه ... سل حسام لأنبأ باتر يا غصناً قلبي على قده ... إذ انثنى غيرة طائر بالله ما كان الحمى منزلاً ... حتى حماه طرفك الفاتر وروضة ما طاب لولا سرى ... فيه سحيراً نشرك العاطر بي حاجر عني لذيذ الكرى ... تشوقي من أجله حاجر لا غزو إن حن فؤادي به ... وقد دعاني طرفه الساحر أكن موسى عادني باسمه ... يا من شكا إني له شاكر رب اليد البيضاء كم سودت ... مولى وأولى فضلها الغابر أنامل عشر غدت آية ... أولها ليس له آخر كم ضربت صخرة إعدامنا ... في سفره ناه بها الساتر فانبجست منها عيون الندى ... فللوجا عين له ناظر ترى سواد المجد مستيقظاً ... يرقبها إن هجع السامر وقال منها أيضاً: إذا حبال الحرب في سعيها ... حلها من سحره الكافر تلففت يفتته إفكها ... فانقلب الساحر والساخر بلاغة يسجد شكراً لها ... أن أنصف الناظم والناثر

موروثة عن نسب طاهر ... يا حبذاك النسب الطاهر مولاي قطب الدين يا ابن الذي ... بوجهه نور الهدى الباهر ومن وجوه الحق إن أعطيت أبدى سناها كشفه السافر ومن إذا ما هتكت حرمة ... غطى عليها ذيله الساتر ينبوع حين الجمع واردها ... إن صدّ عنها وارد صادر والمشرع العذب الذي صدره ... بحر من العلم به زاخر مدير كأس الحب في حضرة ... يغيب فيها خاطر حاضر إذا جلا من كشف عرفانه ... والعرف من أنفاسه عاطر في مجلس التذكير من وعظه ... خير فيه فاهتدى الحائر خطبت من عبدك يا مالكي ... عروس سقر صانها الشاعر ولم يكن أهلاً لأمثالكم ... وإنما لطفكم الجابر وهي على استخبائها أقبلت ... وذيلها من خجل عاثر لا تبتغي مهراً سوى ودكم ... أشرف ما حصّله تاجر لو رامها غيركم لانثنت ... وعطفها من صلف شامر زارت حماكم في الدجى خلسة ... فقل لها يا حبذا الزائر وليس بالقصد لها عادة ... لو اقتضاها جودك الآمر إن كان في عصيانها فاطر ... يوماً ففي طاعتها غافر وذكر - رحمه الله تعالى: إنه رأى الحسين بن علي عليهما السلام في المنام، فقال له: مدّ المقصورة؛ قال: فوقع في خاطري إنه يشير إلى مقصورة

ابن دريد، فخمّسها ورثى بها الحسين رضي الله عنه وهي: لما أبيح الحسين صونه ... وخانه يوم الطراد عونه نادي بصوت قد تلاشى كونه ... أما ترى رأسي حاكي لونه طرّة صبح تحت أذيال الدجى معفراً على الثرى بخدّه ... لم يرع فيه حرمة لجده والسيف من معرفه بغمده ... واستعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جذل الغضا ومنية بالله من مخلفي ... يا رائحاً بالهودج المشرفي ما هتكوا من سترة المتحف ... وكان كالليل البهيم حلّ في أرجائه ضوء صباح فانجلى تلك الدماء أجرت من العين الدما ... لما سرى الليل وغارت أنجما قاض لها دمع جرى منسجماً ... وغاض ماء شرتي دهر رمى خواطر القلب بتبريح الجوى حبائب اسمين لي أغاديا ... أمضى مصابي بهم البواكيا إذ بات جسمي في التراب ناديا ... وآض روض اللهو يبساً ذاويا من بعد ما قد كان مجاج الثرى أصبح حالي عبرة بل قدوة ... بعد ديار كي تسمى ندوة رماني الدهر فأقضى عدوة ... وضرم النأي المشت جذوة ما تأتلي تسفع أثناء الحشا

مبرقعاً على العقيق قد عفا ... إذ غدر الدهر به بعد الوفا وقفت فيه باكياً على شفا ... واتخذ التسهيد عيني مألفا لما جفا أجفانها طيف الكرى هم أهل ودادي إن وفوا أو غدروا ... أفديهم إن وصلوا أو هجروا إن كان يرضيهم دم قد هدروا ... فكل ما لقيته يغتفروا في جنب ما أسأره شحط النوى يا زمني عن مجتني ماذا العما ... فوقت لي من الرزايا أسهما الماء طرق وأموت من ظما ... لو لابس الصخر الأصم بعض ما يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا يا دهركم هذي الجفون والأحن ... صبراً لها صبراً عليها من محن هو الهزال لا يغرنك سمن ... إذا رأى الغصن الرطيب فاعملن أن قصاراه نفاد وتوى أشكو إلى الله وتلك قصة ... وعزم مثلي ليس فيه رخصة وفي الجواب المشاع خصة ... شجيت لا بل أجرضتني غصة عنودها أقتل لي من الشجا

أفاطم على مصابي عددي ... فلو رأيت مصرعي بمشهدي مثال ما سرك يوم مولدي ... أن يحم من عيني البكا تجلدي فالقلب موقوف على سبل البكا وأحربا من جائر تحكماً ... فتياً فأضحى نفساً مقسماً ما مر بي هذا القضاء توهماً ... لو كانت الأحلام نا جتني بما ألقاه يقظان لأصماني الردى إن الليالي تبارزت بحربها ... وأخفت بركبها لنهبها وأنزلت أهل العلى من عربها ... منزلة ما خلتها يرضى بها لنفسه ذو أدب ولا حجا قوسي ليوم عاقتني عائقه ... وساقني إلى الردى سائقه أخلفني من وعده صادقه ... شيم سحاب خلب بارقه وموقف بين ارتجاء ومنى يا عصبة الحلم علينا تجهلوا ... كذى بأعضاء النبي تفعلوا كأن على سواكم يرسل ... في كل يوم منزل مستوبل يشتف ماء مهجتي أو مجتوى هتك وفتك وأسار وجلاً ... ونسبة تسبي على رأس الملا لو أنني في الجاهلين الأولا ... ما خلت الدهر يثنيني على ضراء لا يرضي بها ضب الكدا

علقت في أشراك خطب وتهن ... أرجو أنشاطاً في زمان قد زمن وربما كنت وخوفي قد أمن ... أرمق العيش على برض فان رمت ارتشافاً رمت صعب المنتسا أصبحت محمولاً وكنت حاملاً ... وعامل الرمح بكفي عاملا أيام وصل كان شملي شاملاً ... أراجع لي الدهر حولاً كاملاً إلى الذي عوّد أم لا يرتجى بقي العدو في عنادي مجتهد ... وخان من كنت عليه أعتمد لا أعتب الدهر فعتبي لم يعد ... يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد فإن أراودك والعتبي سوا رجحت بالعدل فلم بغضتني ... وقمت في الحق فلم عصيتني حفظ عليك بعض ما.. ... رفّه عليّ طالما أنصبتني واستبق بعض ما غصن ملتجي أنا الذي قارعت القوارع ... وشيّبت عذاره الوقائع فلم يرعه بعد ذاك رائع ... لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرقني عرق المدى

أوصى إلينا أوبة لما دفن ... قال إذا ما خشن الدهر فلن فكنت جلداً بوصاياه فمن ... مارست من لو هوّت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا أصبحت من مس الأذى معوذاً ... مجدداً صبراً غدا مجذذا فإن شكوت لمن ذاك عن أذا ... لكنها نفثة مصدور إذا جاش لغام من نواحيها غما لست لما يرضي الحبيب مبغضاً ... ولا على أحكامه تعرضا إن كنت لا أرضى اختياراً بالقضا ... رضيت قسراً وعلى القسر رضى من كان ذا سخط على صرف القضا يا صاحبي واللذان استعليا ... عن مصرعي بالله لا تخليا وبالبقاء بعدي فلا تمليا ... إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أدنياه للبلا يا سائق الظعن عساك ترجع ... يا ديارا فرقت هل تجمع لما أنادي والنوى لا يسمع ... ما كنت أدري والزمان مولع بشت ملموم وتنكيث قوى ابداني بالضعف بعد قوة ... دهر في رجائي رجوة فهل فتي يسعد عن فتوة ... إن القضاء قاذفي في هوة لا تستبل النفس من فيها هوى

لله أيام على الخيف خلت ... قد سالت النفس وعنها ما سكت جهلت فيها غاية ما جهلت ... فإن عثرت بعدها وإن وألت نفسي من هاتاً فقولا لالعا لأنكصن جهلها مهولة ... فإن وصلت غاية مأمولة عقدت من عروقها محلولة ... وإن تكن مدتها موصولة بالحتف سلطت الأسى على الأسى وإن حدا بمهجتي حادي الردى ... واقتاد مني مطلقاً مقيدا ما خبرني مجرداً عن مبتدي ... إن امرئ القيس جرى إلى مدا فاعتاقه حمامه دون المدى هي المنون طالما هدّت القوى ... وأورثت داء وما أعطت دوا أما هوى قبل تقابيل الهوى ... وخامرت بفس أبي الجبر الجوى حتى حواه الحتف فيمن قد حوى وحتف سمون أعاد شمسه ... كاسفة سود منها عرسه حتى لقد غيبت عنها حسه ... وابن الأشج القيل ساق نفسه إلى الردى حذار أشمات العدى

إن راح رأسي مفرداً عن جثتي ... أو مت عن قصد العلا بغصتي قد قتلت عثمان شبه قتلتي ... واخترم الوضاح من دون التي أملها سيف الحمام المنتضى كذا فتى الخطاب جاء خاطباً ... فردا مغلوباً وكان غالبا قضى عليه الدهر حتفاً واجبا ... فقد سما قبلي يزيد طالبا شأو العلا فما وهي ولا ونى وقام قبلي من عليه المعتمد ... أي الذي بحكمه حل العقد يدعو إلى الحق بطرف ما رقد ... فاعترضت دون الذي رام وقد جد به الجد اللهيم الأربي لا غرو أن ساهمت سادتي الأولى ... في كل ما مر وإن كان خلا ألست من بيت له يعزى الولا ... هل أنا بدع من عرانين علا جار عليهم صرف الدهر واعتدى فإن أحب سعياً يخطو يحتذي ... صبراً على النار فلست باللذي كان يرى الموت بطرف قد قذى ... فإن أنالتني المقادير الذي أكيده لم آل في رأب الثأي ولا يلام الحظ في إدباره ... والضرب ما قصر من تثاره إن قام فاستعلى لأخذ ثأره ... وقد سما عمرو إلى أوتاره فاحتط منها كل عالي المستمى

فطاول الهول قصير وضمن ... الثأر أخذاً فوفى بمن ضمن وساق خيراً فيه مر مكتمن ... فاستنزل الزباء قسراً وهي من عقاب لوح الجو أعلى منتمى ورب وعد ما ارتضت همته ... حتى دعت لنفسه أمرته ولم يزل وانقضت مدته ... وسيف استعلت به همته حتى رمى أبعد شأو المرتمى وراح نهب المنى مسارعاً ... وهجرها قواضباً قواطعا طافت كؤوساً قطفت مواقعاً ... فجرّع إلا حبوش سما ناقعا واحتل من غمدان محراب الدمى وابن الفتي الجعد غزت فرسانه ... هوازناً فانبسطت بنانه وأدرجت في هودج أكفانه ... ثم ابن هند باشرت نيرانه يوم أوارات تميماً بالصلا لم يتعلق بالدنايا ذمتي ... ولم تدنس بالخطايا عصمتي وفي ترقي كل عال رتبتي ... ما اعتن لي بأس يناجي همتي إلا تحداه رجاء فاكتمي

من مبلغ مواردي بزمزم ... فإنني ضرح الحمى ودمي يا سائقاً بمنجد ومتهم ... إليه باليعملات يرتمي بها النجاء بين أجواز الفلا ذكرت رمل الكثيب الأعفر ... فانجذبت مع سائق التذكر تضرب في الرمل بتر مضمر ... خوص كأشباح الحنايا ضمّر يرعفن بالأمشاج من جذب البرى مورها من دمعها لا يرتحى ... حزناً وإن كان لقوم مزحا سفائن البر ترآى سبّحاً ... يرسبن في بحر الدجى وبالضحى يطفون في الآل إذا الآل طفا مل أيها الحادي بها معرجاً ... للسهل أن الحزن ضاق منهجا فقد سراها في الشجا ما قد شجا ... أخفافهن من حفاً ومن وجا مرثومة تخضب مبيض الحصا حدا بها الحادي لأرض النجف ... عيس جهلن العبر عن معرف فابتدرت من غير ما توقف ... يحملن كل شاحب محقوقف من طول تدآب الغدوّ والسرى

قد صافحت ترب الحمى أردانه ... وناح للبين فأختي بانه ولم يفارق قلبه أشجانه ... برّ بري طول الطى جثمانه فهو كقدح النبع محنى القرا من الأولى ولي أرباب الولا ... حيا الحياء قتلاهم بكربلا يتلو مديح نبيهم مزملاً ... ينوي اللتي فضلها رب العلا لما دحا تربتها على البنى راح لها يقطع أجواز الفلا ... مكبراً. بدلوها فهلهلا مكفكف الدمع لها تجملاً ... حتى إذا قابلها استعبر لا يملك دمع العين من حيث جرى غني له الحادي بليلي سحرة ... فصيرته العبرات عبرة لقد أصاب إذ رماها جمرة ... وأوجب الحج وثنّى عمرة من بعد ما عج ولبّى ودعا في موقف يجري به الدمع دماً ... أشكو الليالي عنده تظلما كم واقف قابله مسلماً ... ثمت طاف وانثنى مستلما ثمت جاء المروتين فسعى دعاه داعي الحج من رب العلا ... فابتدر السعي لها مهر ولا يا حسنه في الرمل جاء مزملاً ... ثمت راح في الملبين إلى حيث تحجى المازمان ومنى

يميل إن هبت صبا يلفتا ... يستنشق المسك بها تعنتا عجبت منه محرماً موقناً ... ثم أتى التعريف يقرو مخبتا مواقفاً بين إلال فالنقا مذ قربت من كان يخشى بعدها ... ادى صلاة الوصل يتلو حمدها وتلك نعمى ليس يحصى عدها ... واستأنف السبع وسبعاً بعدها والسعي ما بين العقاب والصوى بات يراعيها بطرف ما رقد ... مقدماً في الهدى روحاً قد تقد أو حل من إحرامه ما قد عقد ... وراح للتوديع فيمن راح قد أحرز أجراً وقلى هجر اللغا أقسم ولو أقسم بها مفرطاً ... ولم أخف من لي خرج تورطا وجبريل معنا تحت الغطا ... بذاك أم بالخيل تعدو المرطى ناشرة أكتادها قب الكلى خيل إذا اشتاقت إلى المناهل ... أعرضن إلا عن دم المقاتل صواهل بعنية صوائل ... يحملن كل شمّرى باسل شهم الجنان خائض غمر الوغى

سوى لبان المجد يوماً ما اغتذى ... وفي طريق الحد بالحمد احتذى في البأس والبأساً لا يشكو أذى ... يغشى صلا الموت بحديه إذا كان لظى الموت كريه المصطلى لا حكماً يرضي محكماً ... إلا حساماً هزه مصمما يشق جدول بحر الدما ... لو مثل الحتف له قرناً لما صدته عنه هيبة ولا انثنى تبسم والأهوال تبكي فرجة ... وكلما ضاقت رآها فرجة فلو أباحت لحامها فرجة ... ولو حمى المقدار عنه مهجة لرامها ويستبيح ما حمى صاح الدما........ سكره ... شاك على الطعن استحق شكره رب حروب ما أعز نصره ... تغدو المنايا طائعات أمره ترضي الذي يرضى وتأبى من أبى أقسمت بالداعي قد ابتهل ... بفيئة سباقة على مهل من كل من في الحرب شاب واكتهل ... بل قسماً بالشم من يعرب هل لمقسم من بعد هذا منتهى

أمدحهم أهل العبا وكيف لا ... ولم أخف من مقول تقوّلا قوم على المدح علوا تنزلاً ... هم الأولى إن فخروا قال العلا بفي امرئ فاخركم عفر البرى السادة الأبرار أعلام الهدى ... قبيلهم لم يرض بالدنيا فدا قف باشراً ربعهم أو منشراً ... هم الأولى أجروا ينابيع الندى هامية لمن عرا أو اعتفى بحار علم حملوا الدنيا سخاً ... عليهم الدين بكاء مصرخا أجبال حلم راسيات شمخاً ... هم الذين دوّخوا من انتخى وقوّموا من صعر ومن صغا هم الغيوث والزمان ماحل ... أبحر جود ما لها سواحل مروا لمن عاد ومن وجلوا ... هم الذين جرعوا فما حلوا أفاوق الضيم ممراة الحسا اما وأسرار لها مكنونة ... سفن النجاة بالولا مشحونة بل بسيوف منهم مسنونة ... أزال حشو نثرة موضونة حتى أواري بين أثناء الحثي

يحلني مع المنى وأمنه ... واليل في سهل الرجا وحزنه بناظر سل عذار جفنه ... وصاحبي صارم في متنه مثل مدب النمل يعلو في الربا سيف يشام البرق عند ندبه ... يأبى الدماء اكلي من كسبه قرابه يشلو الحفي عن قربه ... كأن بين عيره وغربه مفتأداً تأكلت فيه الجذى في نهره ما يشب جمره ... أزرقه بالموت يجلو أحمره يصل إذا سل فأندى فجره ... يرى المنون حين تقفو أثره في ظلم الأكباد سبلاً لا ترى إن صادرته هجمة صادرها ... أو بادرته صدفة بادرها وكم له من وقعة بادرها ... إذا هوى في جثة غادرها من بعد ما كانت خساً وهي زكا ما أحمر إلا أبيض منه عرضه ... وأوجب المنون ندباً فرضه عضب غدا يبسط باعاً قبضه ... ومشرف الأقطار خاط نحضه حابي القصيري جرشع عرد النسا

مضمّر يتبعه سرب القطا ... إذا تنزى في طلب طوى الوطا .........مع قرب الخطا ... قريب ما بين القطاة والمطا بعيد ما بين القذال والصلا لا عوج في الأصل راح ينتمي ... ويحتمي بالذابل المقوم كان في لينه من صلدم ... سامي التليل في دسع مفعم رحب اللبان في أمينات العجي كأنه من ملك أوجنة ... يحتال من ربا الوغى في حنة فديتها حوافر في حنة ... ركبن في حواشب مكتنة إلى نسور مثل ملفوظ النوى برهاب أوصاف له مقسومة ... عشر وخمس عدة مضمومة ومع ثمان أربع مضمومة ... يدير إعليطين في ملمومة إلى لموحين بألحاظ اللأى قد ثبت القلب منيعاً صدره ... وصير الشرح رفيعاً قدره وغادر النهج وسيعاً كسره ... مداخل الخلق رحيباً شجره مخلولق الصهوة ممسود وأي

بمثله تدرك أسباب الرجى ... وينجلي ليل الخطوب إن دجا من ركب الهوى به فقد نجا ... لا صكك يشينه ولا فجا ولا دخيس واهن ولا شطا كم يقصد أعجل من أناته ... وطائر أجمع من شتاته إن طاب للحرب فهو عاداته ... يجري فتجري الريح في غاياته حسرى تلوذ بجراثيم السحا إن سمعت صهيله بيض الظبا ... تهتز في صليلها تطرّبا ويطرف السمر له تهيباً ... تظنه وهو يرى محتجبا عن العيون أن دأي أو أن ردى يرد أطراف القنا بصدره ... ويلتقي حد الظبا بنحره أعيده في كره وفرّه ... إذا اجتهدت نظراً في أثره قلت سنا أومض لو برق حفا يسير صفراً لما في مصاغه ... كانصل إذ يعمد في فراغه فانظر إلى التحجيل في إسباغه ... كأنما الجوزاء في إرساغه والنجم في جبهته إذا بدا

مضمّر بين الهزال والسمن ... كميت حسن في العيون قد كمن وصارفي الإحسان أذخان الزمن ... هما عتادي الكافيان فقد من أعددته فلينأ عني من نأى ما زال سعي الدهر في مثوبة ... اما لبرء عادة منهوبة أو لأقر الحق في معصوبة ... فإن سمعت برحى منصوبة للحرب فاعلم أنني قطب الرحى من غير فضل لم يكن تلفظي ... ولا بغير عصمة تحفظ يا نائماً عن نصرتي تيقظ ... وإن رأيت نار موت تالتظى فاعلم بأني مسعر ذلك الظى يا صاحبي لا تخشى مني فترة ... والحرب قد متنت بقلبي جمرة دعني فإما قتلته أو مرة ... خير النفوس الخابرات جهرا على ظبات المرهفات والقنا قل للذي فار قعلمي جهله ... ما هكذا الخيل يخبن خله بنى النفاق قد أنجزتم نزله ... إن العراق لم أفارق اهله عن شنآن صدني ولا قلى وبالحجاز فتية راضعتهم ... واصلت أحزاني مذ قاطعتهم لم يصبني الأقمار مذ شاهدتهم ... ولا اطبى عيني مذ فارقتهم شيء يروق الطرف من هذا الورى

سرت وقلبي في ماهم ماسرى ... وما أرى عنهم أتاني مخبرا قوم عليهم وقف دمعي قد جرى ... هو الشناخيب المنيفات الذرى والناس ادحال سواهم وهوى أبي الذي ناب الديار نأيها ... على أسبق له عليها من يهدي الهدى مهديها ... هم الحروب زاخراديها والناس ضحضاح ثعاب وأضى ما خا با قط نائب بقصدهم ... بل آثروا بزادهم من زهدهم فضلهم لم يحصى مثل عدهم ... إن كنت أبصرت لهم من بعدهم شبهاً فأغضيت على وخز السفا أبكى الحسين بل أخاه السيدا ... أفديهما وقل مثلي الفدا ولا يد تمدني ولا مدا ... حاشا الميرين اللذين أوفدا عليّ ظلاً من نعيم قد ضفا الحسنان الطاهران استنزلا ... ذكرهما متصلاً ومجملا أبغي الشهيد منهما بكربلا ... هما اللذان أثبتا لي أملا قد وقف اليأس به على شفا

مدحهما وفّق من وفقه ... فكل من أسمعه صدقه أسكرني ساق سقى ريقه ... تلا فيا العيش الذي رنّقه صرف الزمان فاستساغ وصفا كم طوفا فأنطقا مغردا ... يستعيد الألحان منه معبدا وأوقفاني للثناء منشدا ... وأجريا ماء الحيالى رغدا فاهتز غصني بعد ما كان ذوي عليهما أثنى بطيب عاطر ... زاه غداً يصبى الصبا بزاهر ما بين باد في الورى وحاضر ... هما اللذان سموا بناظر من بعد إغضائي على لذع القذى حبهما فرض أراه واجباً ... بغضهما صبّ أراه راضبا حابيت في حبهما أقاربا ... هما اللذان عمّرا لي جانبا من الرجاء كان قدماً قد عفا إليهما عيس تعاجى لا ونت ... وعنهما بيض حجاجى لانبت قد حركا لي ألسنا لا سكنت ... وقلداني منه لو قرنت بشكر أهل الأرض عني ما وفى

ترى مؤونتي على قوم نزل ... في الذكر لا أسألكم أجراً وسل تسمع بأنبائهم تشفي العلل ... بالعشر من معشارها وكان كل حسوة في آديّ بحر قد طما إن الحسين مدحه قد زانني ... من سواه ذكره قد رابني فلم أقل الجد قول ما جن ... إن ابن ميكال الأمير انتاشني من بعد ما قد كنت كالشي اللقا والحسن السيد خوفي قد أمن ... منه بحب في الضمير مكتمن إن قلت في التقصير للقولضمناً ... ومدّ ضبعي أبو العباس من بعد انقباض الذرع والباع الوزى إن الحسين والنقي الطهر الحسن ... إن لم أنافس فيهما يوماً فمن هل بهما قيس يقاس أو يمن ... نفسي الفداء لأميريّ ومن تحت السما لأميريّ الفدا أصبح سحبان لديّ باقلاً ... إذ عنهما قمت خطيباً ناقلا مفاضلاً أعد لهما مفاصلاً ... لا زال شكري لهما مواصلا لفظي أو يعتاقني صرف المنى

أبكي الحسين فيهما وكيف لا ... وقد غدا مفضلاً مفصلا لما ذكرت قتله بكربل ... إن الأولى فارقت من غير قلى ما زاغ قلبي عنهم ولا هفا ولم يكن كفوى من ناويته ... حتى يعاطى فضل ما أعطيته ولا جهلت الحزم ما عاديته ... لكن لي عزماً إذا امتطيته فمبهم الخطب فاآه فانفأي لم أرى في غير المعاليمأرباً ... وللعوالي لم ازل محببا أهوى عليه مقعداً مطببا ... ولو أشاء ضم قطريه الصبا عليّ في ظل نعيم وغنى كأنني حمامة حنّانة ... حامت على الدوح وقال حبّانة لم يصبني غير العلى مكانة ... ولا عبتني غادة وهنّانة تضني وفي ترشافها برء الضنى ... حفت فلأعرف من بعلها ... واعتدلت حيث الصبا ميلها وجملة الأمر الذي فصلها ... لو ناحت الأعصم لانحط لها طوع القياد من شماريخ الذرا يبعد ان يرقى المهابة بقى ... أحداقها تفرى دلاص الحلق نبالها لا يتقيها متقي ... أو صابت القانت في مخلولق مستصعب المسلك وعز المرتقى

مسلم نفس في يد حنينه ... راهب دير فان من كمينه مستوحش كالليث في عرينه ... ألهاه عن تسبيحه ودينه تأنيسها حتى تراه قد صبى وخشية ألفه لعربها ... إذا حدا في الليل حادي ركبها أسكرني وهل نسيم قربها ... كأنما الصهباء مقطوب بها ماء جنى ورد إذا الليل عسا يخالها النعمان أو شقيقها ... يا زيد أنعمت في حريقها كالكأس تجلى في جلي رحيقها ... يمتاحها راشف برد ريقها بين بياض الظلم منها واللمى يا معجباً من دمع عيني مهملاً ... يذكر روضا بالحمى ومنهلا ومنزلاً إلى العقيق قد خلا ... سقى العقيق فالحزيز فالملا إلى النحيت فالقريان الدنا ربع العلا أفقر من أربابه ... وسورة الفتح على أبوابه ومبسم الأفواه الأمير يترابه ... فالمربد إلا على الذي تلقى به مصارع الأسد بألحاظ المها ربع على منزله بقربه ... وأشرقت أنواره بغربه وقد زها نوارها بتربه ... محله كل مقرم سمت به مآثر الآباء في فرع العلا

لئن زرد يوماً مقدماً فما رزوا أكم خلق الله حوراً وحوز ... من الأولى جوهرهم إذا اعتزوا من جوهر منه النبي المصطفى فهم بحار العلم أو سفن النجا ... أطواد حلم لم يخب فيه الرجا وثبت وحي لهداه الملتجى ... صلى عليه الله ما جنّ الدجى وما جرت في فلك شمس الضحى عين يزيل الغيم منها حاجباً ... فيشيم البرق العبور قاضبا ويرسل الغيث لدمعي ساكباً ... جون أغارته الجنوب جانبا منها وواصت صوبه يد الصبا الشمس في غيوبه قد كورت ... والوحش من بريمه قد حشرت ينظم وهرا كالنجوم انثرت ... نأي يمانياً فلما انتشرت أحضانه وامتد كسراه غطا صفا بها شاباً من الشوائب ... بكل لطف شابت الذوائب ممدودة الأطناب في المضارب ... فجلل الأفق فكل جانب منها كأن من قطريه المزن حبا

حار على السرح وما أعدله ... لما حمى السبل لما سبله وأطفا النور بما أشعله ... إذا خبت بروقه عنّت له ريح الصبا تشب منها ما خبا قنطارة توسع في إغرابها ... فيبعد المحل من اقترابها هذا مع الإسراع في إيابها ... وإن ونت رعوده حدابها راعى الجنوب فحدت كما حدا إن نثرت جواهر من سلكه ... وانحل عقد خيطه وفركه هبت صبا تجمع شعل هتكه ... كان في أحضانه وبركه بركاً تداعى بين سجر ووحى طاهره يبدو لمن تأملاً ... ركب يوالي أولا فأولا ولو تراه طالعاً يا ابن جلا ... لم تر كالمزن سوا ما بهلا تحسبها مرعية وهي سدى رأى حمولاً قد تأمن رفعة ... وأقبلت أنواره من دفعه فاعرف البلدة نور هقعة ... فطبق الأرض فكل بقعة منها تقول الغيث في هاتا ثوى ما نافعي منها بفلك أو سقت ... من بعد قتلى الطف لطمت أو سقت هل من سواء أنجزهم إن استقت ... تقول للأجراز لما استوسقت بسوقه تسقي بريّ وحيا

فأخرج الحب به بعد الجبا ... وأطلق السبت ما ها للحبا وفرق اللطف به كف الصبا ... فأوسع الأحداب سيبا محسبا وطبق البطنان بالماء الروى وطالما استخرجه من عيبه ... مستسقياً غمامه بسيبه فأضحك العباس فضل شيبه ... كأنما البيداء غبّ صوبه بحر طما تياره ثم سجا إذا أناخ في الثرى بركبه ... اطلع تبراً زاهراً من تربه يعرب في النادي بداً عن عربه ... ذاك الجدا لا زال مخصوصاً به قوم هم للأرض غيث وجدا سقتني الاخلاص منه درة ... وبالرضا قد حيلت لي قطرة فلي على الصبر بذاك فطرة ... لست إذا ما بهظتني غمرة ممن يقول بلغ السيل الزبى كم وقفة للرمح فيها خطرة ... لم يجر فيها من دموعي قطرة كفكفها وتلك نفس حرة ... وإن ثوت تحت ضلوعي زفرة تملأ ما بين الرجا إلى الرجا

لمتها بعفتي تسترا ... أو يرجع المظهر منه مظهرا وإن دهتني أزمة كما ترى ... نهنهتها مكظومة كما يرى مخضوضعاً منها الذي كان طغى لست وإن أرب حيا في كربة ... وأعوزتني لمساغي شربة يخضع يوماً من تناهي هضبة ... ولا أقول إن عرتني نكبة قول القنوط انقدّ في الحرب السلا أنا الذي طود حياتي قد رسا ... فلا ألين للعدو إن قسا ابسم والخطب يرى معبساً ... قد مارست مني الخطوب مارسا يساور الهول إذا الهول عسا واعتدلت أفعال بطشي في القوى ... وصح ميزاني فخلاني سوا فلا أميل لهواء وهوى ... لي التواء إن معادي التوى ولي استواء إن موالي استوى خلائق قد جبلت طهارة ... خذ عن عبير عيرها عبارة في الذي يخشى ويرجى عارة ... طمعي شريّ للعدو تارة والأري والراح لمن ودي ابتغى ساءني الأضداد في تألفي ... أبدع في تركيبها مؤلفي تنكرا ضمّ إلى تعرفي ... لدن اذ لوينت سهل معطفي ألوى إذا خوشنت مرهوب الشدا

لم يتقلقل الرزايا ربتي ... ولا دنت طوع لدينا همتي وكل فضل راسخ من فضلتي ... يعتصم الحلم بجنبي حبوتي إذا رياح الطيش طارت بالحبي شيطان دنياي لا يوسوس ... وباطني كظاهري مقدس عفة طهر حرها لا تنجس ... لا يطبئني طمع مدنس إذا استمال طمع أو اطبى إن شرفت فلم يشنع شاربي ... إذا شرقت من الدماء معاربي فطا لما أدنى المنى مآربي ... وقد علت بي رتبا تجاربي أشفين بي منها على سبل النهى صفوت أخلاقاً فذا ... معوداً من صغري معوذا من كل ما يخشى الفتى إلا إذا ... إن امرؤ خيف لافراط الأذى لم يخش مني نزق ولا أذى سجية في غير دأبي لم يكن ... إن خانني دهر ظلوم لم أخن أو هزّ خل..حقاً أحن ... من غير ما وهن ولكني امرؤ أصون عرضاً لم يدنسه الطخا

كم ليلة بت بها أحمي الحما ... أرعى بها نجمي سنان وسما صوناً وبذلاً لدمي أو دما ... وصون عرض المرء أن يبذل ما ضنّ به مما حواه وانتصى إن أسمعت قوس الرزايا رنّه ... وأرسلت رسماً أصاب مجنّه تلقه بالشكر تلق منّه ... والحمد خير ما اتخذت جنه وأنفس الاذخار من بعد التقى إن قعدت في كبوة من زمني ... وقام في العلياء منكوس دني خلف الدنيا بالميل الدون مني ... وكل قرن ناجم في زمن فهو شبيه زمن فيه بدا لم تبد لي من مبسم بوارق ... إلا انجلت لي تحتها بوائق يعرفها من هو مثلي ذائق ... والناس كالنبت فمنهم رائق غض نضير عوده مرّ الجني وكلما نجني على طرف الفطن ... بظاهر ببطن سرا؟ ً مكتمن فمنه ما بان بمعنى لم يبن ... ومنه ما تقتحم العين فإن ذقت جناه انساغ عذباً في اللها رمى الذي أكفيت في طعانه ... قد كفت الأيام من سنانه فليت لي عوداً إلى إبانه ... يقوم الشارخ من زيغانه فيبستوي ما انعاج منه وانحنى

هيهات إن يرجعه لهيفه ... يبعثه على الدماء وبيغه وهو عليه قد قضى نبيغه ... والشيخ إن قومته من زيغه لم يقم التثقيف منه ما التوى قد كان والنصر به يحفه ... يشقى دماء فيميل عطفه أعطشه الدهر وهان قصفه ... كذلك الغصن يصير عطفه لدناً شديد غمزه إذا عسا هو الذي أطمع حلماً خصمه ... حتى استباح السيف ظلماً قسمه لو حارب القوم يبوء سلمه ... من أظلم الناس تحاموا ظلمه وعزّ منهم جانباه واحتمى هذا الزمان لا يرى ناجبه ... أو ليحيل للادى واجبه وكلما أسند انتهى عاصبه ... وهم لمن لان لهم جانبه أظلم من حيات أنباث السفا ان اسمعوا داعي الهدى لم يسمعوا ... وحركوا إلى الضلال أزمعوا لهم على العين عيون تدمع ... عبيد ذي المال وإن لم يطمعوا من غمره في جرعة تشفي الصدى لا يغترر منهم بوجه قد دهن ... ما نفاف من نفاق قد حزن ما حبهم إلا لمهزول سمن ... وهم لمن أملق أعداء وإن شاركهم فيما أفاد وحوى

خالطت أرباب العصور والدمن ... وذقت من حال هزال وسمن فما ثنى عن ناب الزمن ... عاجمت أيامي وما الغر كمن تأزد الدهر عليه واعتدى على الحظوظ فليكن معولاً ... وبعد ها كن معزلاً او معولا من سلبت حطت ومن أعطت علا ... لا ينفع اللب بلا جد ولا يحطك الجهل إذا الجد علا كم ساقط علمت به إعلامه ... ولم تزل في الوغى أقدامه وسائق آجره أقدامه ... من لم تفده عبراً أيامه كان العمى أولى به من الهدى وفي الليالي عبر فاعجب لما ... يأتي به في الأرض عن رب السما ما فيه شك والمقال قلّما ... من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما راح به الواعظ يوماً أو غدا ما زال مني دانياً من انثنى ... يخطو فكر كلما شاء شأي وطرف رأي في العيون لا رأى ... من قاس ما لم يره بما رأى أراه ما يدنو إليه ما نأى فأعتق فديت النفس من رق الأمل ... وحيّ في الزهد على خير العمل وأقنع من المهل وتاب لعل ... من ملك الحرص القياد لم يزل يكرع في ماء من الذل سرى

لي نفس حر الدنايا ما دنت ... وهمة على العلا قد أمنت من أجلها عين الجنان لي عنت ... من عارض الأطماع باليأس رنت إليه عين العز من حيث ما رنا وكم لطمت الخيل في شدوهها ... فصدمه عراء في وجوهها والحرب لم تعقل على معتوهها ... من عطف النفس على مكروهها كلان الغنى قرينه حيث انتوى عذر جوادي ما انتهى عن كرّه ... حتى التقى حد الظبا بنحره وآل بعد مدة لحرزه ... من لم يقف عند انتهاء قدره تقاصرت عنه فسيحات الخطا السهم إن أطلقه من حبسه ... قوس شعيف النبض عند خبسه أخطأ راميه مكان حدسه ... من ضيع الحزم جنى لنفسه ندامة الذع من سفع الذكا لم يحبس العنان في رباقه ... إلا الذي أطلق من وثاقه فأسرع الإعداء في إلحاقه ... من ناط بالعجب عرى أخلاقه نيطت عرى المقت إلى تلك العرى

إن قصر الخطى في خطواته ... فلم يكد يخرج عن خطته فطالما بالغ في رفعته ... من طال فوق منتهى بسطته أعجزه نيل الدني بله القصا وصارم قلل منه توقه ... لمورد من الوريد ذوقه فلم ينل منه دروع شوقه ... من رام ما يعجز عنه طوقه ملعبء يوماً آض مجزول المطا لما تجلى ساعد المساعد ... ولم أجد لي صلة من عائد لقيت وحدي جمعهم عوائدي ... والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عني نفس ترد غلانه لا سلمت ... في بذلها صون لها لو علمت ستجمع الحمد إذا ما اقتسمت ... وللفتى من ماله ما قدمت يداه قبل موته لا ما اقتنى ولي سنان في الجلاد لسن ... كما لساني في الجدال ألسن كلاهما تكليمه مستحسن ... وإنما المرء حديث حسن فكن حديثاً حسناً لمن وعى قل للذي أيقظن حرى ورقد ... فلا انطفا من حقده ما قد رقد ولا أحذر الموت أحال أو فقد ... إني حلبت الدهر شطريه فقد أمرّ لي حيناً وأحياناً حلا

نشطت للحرب فسلى عن العقل ... وقمت فيها مستخفاً ما ثقل وبالقرار فأولت فلم أقل ... وفرّ عن تجربة نابي فقل في بازل راض الخطوب وامتطى إن أصولاً الأمير يالتراب غرسهم ... عرائس يوم الممات عرسهم سل عنهم الأقران هل يجسّهم ... والناس للموت خلا يلسّهم وقلّما يبقى على اللّس الخل يا من غدا في حربنا ثم اعتدى ... ما قد لقينا اليوم نلقاه غدا أفق لما أنشأ الزمان منشدا ... عجبت من مستيقن إن الردى إذا أتاه لا يداوي بالرقى وذاهل عن سير مرويّة ... مفصحة عن عبر علوية يوقع في أنشوطة ملويّة ... وهو من الغفلة في أهويّة كخابط بين ظلام وعشا ومعشر بعدي بكوا تندماً ... ظنوا أن يرووا إذا متّ ظما حلواً فأجروا مثلاً تلوّما ... نحن ولا كفران لله كما قد قيل للسارب أخلى فارتعي والثابت الأروع والقلب الفطن ... من عثرات ما يخاف قد أمن والحائر الجأش الذي إذا امتحن ... إذا أحسّ نبأة ريع وإن تطامنت عنه تمادى ولها

إنا وإن تقللت جموعنا ... ومزقت يوم اللقاء دروعنا ..... ... نهال للمسير الذي يروعنا ونرتعي في غفلة إذا انقضى وإن قضيت والقضاء لا يدفع ... فلي بجنات النعيم موضع وقاتلي في قعر الجحيم موضّع ... إن الشقاء بالشقي مولع لا يملك الردّ له إذا أتى مع الكرام تصنع الصنائع ... وللملام عندهم مسامع وفي اللئام ما غرست ضائع ... واللوم للحرّ مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا ما خاب سعياً في الرجا من عقلا ... ولم يزل بالعقل نجحا معقلا ومن علا بالجهل يوماً سفلا ... وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا لي خلق زكية أعراقه ... راق لمن قد شمنى مذاقه تجمع لي فاروقه فراقه ... كم من أخ مسخوطة أخلاقه أصفيته الود لخلق مرتضى وصاحب بعد الولا تململا ... وصارم بعد الوفا تقلقلا حفظت للثاني الزمان والأولا ... إذا بلوت السيف محموداً فلا تذممه يوماً تراه قد نبا

ولئن أصاب الدهر مني صلدما ... فعاد بالى ثراه مقدما وطال ما حليتها وقلما ... والطرف يجتاز المدى وربما عنّ لمعداه عثار فكبا اسمع أخي نصح قد غذى ... من فاطم صفو رضاع ما قذى قائل بفضل المديح وااللفظ البذى ... من لك بالمهذب الندب الذي لا يجد العيب إليه مختطى وإن عصيت الحق مع خلّ ظلم ... كما اقتضى العلم وأجراه القلم صفحاً فذو النقص بفضل لم يلم ... إذا تصفحت أمور الناس لم تلف امرءاً حاز الكمال فاكتفى وابك على ربع من الأهل خلا ... مطلع بدر صار بعدي منزلا وناد في النادي به تمثلا ... إن نجوم المجد أمست افلا وظله القالص أضحى قد أزى ربع العلا والفضل والتكرم ... يبكي له الركن بدمع زمزم ما فيه للسائر المسلم ... إلا بقايا من الناس بهم إلى سبيل المكرمات يقتدى

أرى النسيم يعتل في حماهم ... وغار في الروض على خلاهم كأنما هواهم لهواهم ... إذا للأحاديث انتضت أنباهم كانت كنشر الروض غاداه السدى أبكي لشمل منهم مشتتاً ... وغنه المسك غدا مفتتا من لي بطيب راح قد أتى ... ما أنعم العيشة لو أن الفتى يقبل منه الموت أسناء الرشا ولم يزل يجلو الليالي بدره ... ولم يخف من بعد وصل هجره فكان يقضي في نشاط دهره ... أو لو تحلى بالشباب عمره لم يستلبه الشيب هاتيك الحلى ترى لأيام الشباب مرجع ... أم في البقا مع داء المصاب مطمع أم لي خلع منهما تخلع ... هيهات مهما تشعبه يسترجع وفي خطوب الدهر للناس أسى وليلة كنت بها نجم السرى ... وكان فيها النصل سنخاً مسفرا أيقظت طرفاً بات عنه مبصراً ... وفتية سامرهم طيف الكرى فسامروا النوم وهم غيد الطلى

والسير يطوى ويمد عركه ... وهنا وخيط الصبح وقت فركه وستره ما حان بعد هتكه ... والليل ماق بالموامى بركه والعيس ينبثن أفاحيص القطا أهدت لعيني طيف ليلى هدأة ... حفت لها على الجفون وطأة سرى فعادت من هيامى ندأة ... بحيث لا تهدى لسمع نبأة إلا نئيم البوم أو صوت الصدى وصحبتي من كل من تنبذا ... خمراً حلا لا من نعاس وشذا قد أخذ النوم عليهم مأخذاً ... شايعتهم على السرى حتى إذا مالت أداة الرحل بالجبس الدوى مالت بهم تعريسه بحبها ... من هون البعد عليه قربها فعند ما راق إليهم سربها ... قلت لهم إن الهوينا غبّها وهن فجدّوا تحمد واغب السرى إذا الرجا سالت بهم بطحاؤه ... في مهمه أسنة حصباؤه إنسه مع الضنا ضناؤه ... وموحش الأرجاء طام ماؤه مد عثر الآعضاد مهزوم الجبا

لا يتأتى وارد لمائه ... في الأرض ما لم يأت من سمائه أما ترى الطير من ارتمائه ... كأنما الريش على أرجائه زرق نصال أرهفت لتمتهى يستهول الخائض فيه هوله ... حيث الصدى فيه يعيد قوله ويومه يحسب طولاً حوله ... وردته والذئب يعوي حوله مستك سمّ السمع من طول الطوى اعددت لليل الطويل همه ... عوناً أخوه إن نسيت عمّه إذ كان منه جسمه وقسمه ... ومنتج أم أبيه أمه لم يتخون جسمه مسّ الضوى عنت له في الفرعين أو عنت ... أن يتوطا مع القرين أو طنت فعند ما أسرّ ما قد أعلنت ... أفرشته بنت أخيه فانثنت عن ولد يورى به ويشتوى ورب واد كمنت أحشاؤه ... أفاعياً دانت له حصباؤه سلكته ليلاً إذ ردى أرداؤه ... ومرقب مخلولق أرجاؤه مستصعب الأقذاف وعر المرتقى

في شقة قد اطلعت شقيقها ... وما عرب فارقت فريقها لا عقّ أن يودى الندا عقيقها ... أوفيت والشمس تمج ريقها والظل من تحت الحذاء محتذى كم خائف أوسعه الدهر إذا ... ملّ على الذل البقا فانتبذا رأى طريق الصبر وعراً فاحتذى ... وطارق يؤنسه الذئب إذا تضوّر الذئب عشاء وعوى دارت به في الليل طرف يقنف ... جرت عليه الليل ريح صفصف حتى إذا لاح منار يعرف ... أوى إلى ناري وهي مألف يدعو العفاة ضوءها إلى القرى في ليلة طافت بنشر عابق ... فأسكرت بصائح وعائق أدنت فأنشدت بها مفارقي ... لله ما طيف خيال طارق تزفه للقلب أحلام الردى عجبت منه كيف أهداه السرى ... والنجم قد بات به محيرا وبيننا بحر وبرّ أقفرا ... يجولها جواز الفلا محتقرا هول دجى الليل إذا الليل انبرى يا ناظراً متع في إعفائه ... لئلا يطيف ضامن لألائه ها قد بلغت السول من لقائه ... سائله إن أفصح عن انبائه أنىّ تسدى الليل أم أنى اهتدى

وهل ترى تخيل الوساوس ... ونفسه في مثلها ينافس إن غزال حاجرى آنس ... أو كان يدرى قبلها ما فارس وما مواميها القفار والقرى ومجتنىً ذاق لذوق مجتن ... فارقته من سكن ومسكن وأحزنني لفقد من حزن ... وسائلي بمزعجي عن وطني ما ضاق بي جنابه ولا نبا يسائلني وحقه أن يسكتا ... لم ولما وكيف حتى ومتى كان له عند الجواب مسكتاً ... قلت القضاء مالك أمر الفتى من حيث لا يدري ومن حيث درى يا عاذلاً عن شرعه الحق عذل ... دع عنك عذلاً سبق السيف العذل يسائلني لم أعتصم من الزلل ... لا تسألني واسأل المقدار هل يعصم منه وزر ومذدرى سعى الفتى بتعلّي قسطه ... أبداً رضاه عنده أو سخطه فلا تطيل قبضه أو بسطه ... لا بد أن يلقى امرؤ ما خطّه ذو العرش مما هو لاق ووحى

إذ عاد نفع الدهر وهو ضائر ... فانفطرت من دونه مرائر وراح بعد الجبر وهو كاسر ... لا غرو إن لجّ زمان جائر فاعترق العظم الممخ وانتقى فلا يغرنك انطفاء نور قد وقد ... يوماً لا نور إذا الحلّ انعقد في كل عين لو نظرت منتقد ... فقد يرى القاحل مخضراً وقد تلقى أخا الاقتار يوماً قد نما قل للذين قد أباحوا قتلنا ... واستحسنوا على الرماح حملنا في السبي سرب ظبية أصلنا ... يا هؤلي هل نشدتن لنا رافعة البرقع عن عيني طلا راحت بخشفين مما بحشرتي ... فراح بعضي معها بل جملتي لامت من ريقها بغضتي ... ما انصفت أم الصبيين التي أصبت أخا الحلم ولما يصطبي يا صاحبي ومن له سرى علن ... كم بيع حر في الهوى بلا ثمن وانقاد طوعاً جامح كالممتهن ... استحى بيضاً بين أفوادك أن يقتادك البيض اقتياد المهتدي

لئن جلوت للشباب حلة ... يحتمل العاقل فيها جهلة فخذ بذا التفصيل مني جملة ... هيهات ما أشنع هاتا زلة أطربا بعد المشيب والجلا رجعت في الغزلان عن تغزلي ... إلى رثاء السيد الطهر الولي به مستشفعاً توسلي ... يا رب ليل جمعت قطريه لي بنت ثمانين عروساً تجتلي عذراً في قتلي قبلت عذرها ... شمطاً لكن ما تعد عمرها بشيعة الأكباد وقعاً حرها ... لم يملك الماء عليها أمرها ولم يدنسها الضرام المحتضى بكر إذا ما شق عن جذورها ... يستتر الأنوار من ظهورها أما ترى البدر اختفى من نورها ... كأن قرن الشمس في ذرورها بفعلها في الصحن والكأس اقتدى من كأسها الملآن ما الدهر حلا ... من عدها بأول فأولا قد شبه يثرب مع اهل الولا ... نازعتها أروع لا تسطو على نديمه شرّته إذا انتشى بات يراعى خاطري بلحظه ... حتى أفاد ذا الرقى من حظه غيث ندى في ندبه ووعظه ... كأن نور الروض نظم لفظه مرتجلاً أو منشداً أو إن شدا

أمطرت وادي الحزن وأسبلته ... فحطّ عني بعض ما حملته مقالة فانقضت ما نقلته ... من كل ما نال الفتى قد نلته والمرء يبقى بعده حسن النثا لا تجز عن بصري رفقتي ... إني فرحت راضياً بقتلتي خذوا تفاصيل النهى من جملتي ... فإن أمت فقد تناهت لذتي وكل شيء بلغ الحد انتهى ما إثمي قد رجعت مواسماً ... وذا بلى قد اهتز غصناً ناعما بجنّة فيها البقاء دائماً ... وإن أعش صاحبت دهري عالما بما انطوى من صرفه وما انتشى أليس من قربي أعلام الهدى ... الطاهرين مولداً ومشهدا فكيف أرضى بأضاليل العدى ... حاشا لما سأره فيّ الحجا والحلم أن أتبع روّاد الخنا لا تحسبن دهر قضى بغربة ... إني إليه شاكياً من كربه أو شاكراً لرفعه في ركبه ... أو أن أرى مختضعاً لنكبه أو لابتهاج فرحاً ومزدهى تمت بحمد الله

علي بن محمد بن سليم أبو الحسن بهاء الدين الصاحب الوزير المعروف بابن حنّاء وزير الملك الظاهر ركن الدين وولده بعده إلى حين وفاته. مولده بمصر في سنة ثلاث وست مائة، وتوفي بها وقت العصر نهار الخميس سلخ ذي القعدة، وصلي عليه يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن بتربته بالقرافة الصغرى - رحمه الله - ومات وهو جد كان من رجالة الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً، تنقلت به الأحوال، وتنقل في المناصب الجليلة، وظهرت كفايته ودرايته وحسن تأنّيه، فاستوزره الملك الظاهر - رحمه الله - في أوائل دولته، وفوّض إليه أمور مملكته مما يتعلق بالأموال والولايات والعدل لا يعارض في ذلك، ولا يشارك بل هو المتصل بأعباء ذلك، والمرجع إليه فيه، ولم يزل مستمراً على ذلك إلى حين وفاة الملك الظاهر - رحمه الله - فدبّر الأمور أحسن تدبير، وساس الأحوال في سائر المملكة، واحمل خلقاً كثيراً ممن ناوله، وكان عنده حسن ظن بالفقراء والمشايخ يحسن إليهم - نفع الله بهم - ويقضي حوائجهم ويبالغ في إكرامهم وكان أرباب الحوائج يتوسلون بهم إليه فلا يرد لهم شفاعة. حكي لي أن بعض الصلحاء المتورعين قدم القاهرة في أواخر شعبان فكلف بالاجتماع به لسبب شخص مصادر فاجتمع به وحدثه في ذلك فأجابه ثم قال له: هذا شهر رمضان قد أقبل، واشتهى أن تصومه هنا وتفطر عندي وأقضي لك في كل ليلة عشر حوائج كائنة ما كانت، فنظر ذلك الرجل على ما يترتب في إجابته من المصالح فصام عنده شهر رمضان وأفطر عنده فوفى له بوعده، وكان كلّ ليلة يقضي

له عشر حوائج من إطلاق محبوس وولاية بطال ومسامحة من عليه ماله وهو عاجز عنه إلى غير ذلك. وكان واسع الصدر لا يدري مقدار ما يلزمه من الكلف للأمراء والرؤساء ومن يلوذ بخدمته، وأما عفته من الأموال فإليها المنتهى لا يقبل لأحد هدية إلا أن يكون من المشايخ الصلحاء، ويهدي له ما لا قيمة له فقبله تبركاً ويبرّ الذي سيّره إليه، وقصده جماعة من أكابر الأمراء وغيرهم من أرباب الدولة فلم يبلغوا منه مقصودهم، ولم يجدوا ما يتعلقوا عليه به، ولما توفي الملك الظاهر استمرّ به ولده الملك السعيد - رحمه الله - وبالغ في إكرامه وإعظامه ولم تزل حرمته وافرة تامة ومكانته عالية، وكلمته نافذة، وأوامره مطاعة إلى حين وفاته، وله برّ وأوقاف وكان يتصدق بالجمل الكثيرة سراً وجهراً، وله متاجر تعود نفقتها إليه فمنها معظم نفقاته وصدقاته، ولما ابتلاه الله تعالى بفقد ولديه الصاحب فخر الدين والصاحب محيي الدين - رحمهما الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما وحاز لأجر فقدهما، عوضه الله من ذريتهما بأولاد نجباء صدور رؤساء تقرّ بهم عينه وبهم في المعروف وفعل الخير طرائق لم يسبقوا إليها، وفيهم الأهلية التامة والوزارة وغيرها، غير أنهم كانوا يختارون العزلة، وكان الصاحب بهاء الدين - رحمه الله - ممدّحاً مدحه جماعة كثيرة من الشعراء بغرر القصائد، وكان يهش لذلك، ويجزيهم الجوائز السنية، عمل فيه الحاج رشيد الدين الفارقي الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله.

وقائل قال لي نبّه لها عمراً ... فقلت إن علي قدر تنبه لي مالي إذا كنت محتاجاً إلى عمر ... من حاجة فليتم حتى انتباه علي ولسعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي كاتب الدرج المختص بملازمته فيه: يمّم علياً فإنه يمّ الندى ... وناده في المضلع المعظل فرفده مجد على مجدب ... ووفده مفض إلى مفضل يسرع أن سيل نداه وهل ... أسرع من سيل أتى من علي محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر أبو عبد الله مجد الدين. ولد سنة اثنتين وست مائة بإربل وتوفي بدمشق القيمازية ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة بمقابر الصوفية - رحمه الله تعالى. كان إماماً في علم الأدب ونقد الشعر ومعرفته، وله اليد الطويلة في النظم، فاق به نظراءه، وكان فقيهاً جيداً، درّس بالمدرسة القيمازية بدمشق مدة سنين، وكان وافر الديانة، كريم الأخلاق، واسع الصدر، محتملاً للأذى، يتصدق دائماً، يحسن إلى معارفه وتلامذته، ويكارم أصحابه وإخوانه. صحبته في طريق الحجاز في سنة ثلاث وسبعين، ورأيت من مكارمه وحسن عشرته وجميل أوصافه ما لم يجمع في غيره - رحمه الله تعالى ورضي عنه، وكان رقيق الحاشية دمث الأخلاق علوّ النادرة، قال شهاب الدين محمود كاتب الدرج أنشدني الشيخ مجد الدين لنفسه: أواصل فيه لوعتي وهو هاجر ... ويؤنسني تذكاره وهو نافر

ويعدى هواه ناظري بأدمع ... يوردها ورد بخديه ناضر ويغتر في تيه الملاحة خاطراً ... فكلّ خليّ في هواه مخاطر ويزوّر سخطاً ثاني العطف معرضاً ... فلا عطفه يرجى ولا الطيف زائر محياه زاه بالمحاسن زاهر ... فقلبي فيه ساهر وساهر يحيل على القد المهفهف معجباً ... جبالة شعركم بها صيد شاعر غزال منيع الحذر دون مزاره ... مطللة بالبيض قدّ جؤاذر جلا طلعة كالروض دبجه الحيا ... ترفّ بماء الحسن فيها أزاهر وشهّر خدّا بالعذار مطرزاً ... فما لفؤاد لم يهم فيه غادر فإن صاد قلبي طرفه فهو جارح ... وإن فتنت آياته فهو ساحر وكم راح دلّ في الهوى لي شافعاً ... فعوضت عما ارتجى ما أحاذر إذا كان صبري في الصبابة خاذلاً ... فما لي سوى دمعي على الشوق ناصر على أن فيض الدمع لم يرو غلة ... من الوجد إذ كتمها العيون الفواتر وقال - رحمه الله تعالى: لولا الهوى اعدوا أصالي هاجر ... بسؤول منّاع ومرضى مسخط ألف الجفاء وباع ودي مرخصاً ... فكتبت منه بمفرّط ومفرط

وقال أيضاً رحمه الله: كل حي إلى الممات مآبه ... ومدى عمره سريع ذهابه معه سائق له وشهيد ... وعلى الحرص ويحه أكبابه تخرب الدار وهي دار بقاء ... وهو يثني ما عن قليل خرابه هو ضرب من الطيب كالخلوق كي ... ف يلّهيه طيبه وملابه كل يوم يزيد نقصاً وإن عمّ ... ر خلت أو صابه وأصابه والورى في مراحل الدهر ركب ... دائم السير لا يرجي إيابه فتزود إن التقى خير زاد ... ويصيب اللبيب منه لبابه وأخو العقل من يقضي يصدق ... شيبه في صلاحه وشبابه وأخو الجهل يستلذ هوى الن ... فس فيغدو شهداً لديه أصابه كم سلبت مني عقولاً وكم أو ... جب نقضاً لفاضل إعجابه وأحال الهوى الحقائق حتى ... صار عذباً عند المحب عذابه أجمل الفكر في الزمان وأهله ... اعتباراً في الكون جماً عجابه وتحام الأقدار نطقاً وفكراً ... فهي في شاهق يشق عقابه وإذا ما الجهول أغرق فيها ... أغرقته بالسيل فيه شعابه رب أمر يريب العقل صعب ... بالتروي فيه يزول ارتيابه لا تكن حاكماً بأول رأى ... فكثير بين الأمور التشابه رب كأس من الجمال كما يؤ ... ثر عار من الجميل إهابه

وعزيز بمنع ضيم حتى ... أصبحت كالوهاد ذلاً هضابه ودني علا به الجد حتى ... أوطئت هامة الثريا ركابه وسعيد يحظى بكسب سواه ... وشقي لغيره اكسابه وغني صلاحه في غناه ... وفقير إعطاؤه أعطا به وجواد بماله نال ذكراً ... كان ذاك الذكر الجميل ثوابه وكريم يقتر للرزق من ك ... ف لئيم أمواله أربابه وعدو يفيدك القرب منه ... وصديق من الصواب اجتنابه وملولة بحاضر مثمن ... لخيال من غائب تنتابه لا يغرنك قرب خلّ ولا يؤ ... نسك من خلة العدو جنابه فلكم مصحب عزاه حزان ... وحزون أتى له أصحابه وجهول مع الرضى وحكيم ... ليس يغني أعضاؤه أعضابه ومقيم في السوق غير حريص ... وإمام شوق له محرابه ومحل ثوى به غير بانيه ... وعلم أضاعه أربابه وغريق في الجهل مستحسن ... اللحن وخير مستهجن أعرابه موجز القول من أخي الفقر مملو ... ك وذو الجد مؤثر انتهابه لا يضع قدر ذي النباهة إن ... قدّر إعساره ورثّت ثيابه وتأمل فالبدر لانقص بعدوة ... إذا كان بالسحاب احتجابه

زين ذي الفضل فضله وهو عار ... وأخو النقص زينه أثوابه ومعاداة كل حر كريم ... ديدن الأخرق اللئيم ودابه وإذا صادف الوضيع وضيعاً ... ليس يلقى إلا إليه أنصابه ليس بدعا فوز الأراذل بالما ... ل وفوت الغنى الكريم نصابه وبعيد من التوسع في الرز ... ق أذيبت من رزقه إذا به كن قنوعاً بما تيسر فالطا ... مع عند ما ينقضي أرا به وغنياً وأنت في غاية الف ... قر برب طاعاته أبوابه وإذا كان خوفه لك دأباً ... لم تجد في الوجود شيئاً تهابه إن رزقاً طلابه لك مكتوب ... من العجز والشقاة طلابه ولقد يرزق المقيم ويكدي ... من سعي دهره وطال اغترابه ولكم فارق الدنيّة مثر ... ووفى عرض مملق أحدابه إن امرءاً لم يمضه القدر الما ... ضي لتعدو عوائقاً أسبابه إن طول الحياة داء وما نف ... ع حياة لمن قضت أترابه إذا المرء طال عمره أذاقه ... المنايا بفقدها أصحابه وانتهى نقصه وعشش بازي ... المشيب في رأسه وطار غرابه وإذا كان آخر الأمر هذا ... فلماذا على الحياة اكتئابه أيها السائر المقيم على حرص ... مقيم ما يستقل ركابه إن حيل الأعمال والحرص كالأعم ... ار طولاً فبالغنا انقضابه

بالفاقد أوبق النفس لم يكثر ... عليها عويله وانتحابه أمامنا موقف الحساب ولا أح ... سابه جنة ولا أنسابه ولملك أمد في العمر والرز ... ق ومدت من ملكه أطنابه يوسع الخطو في الخطاب أوا ... ن ضاق عليه ضاقت عليه رحابه هل لعبت لاه على ظهر أرض ... وطويل في بطنها ألبابه وغريق من لم يوفق لإقلا ... ع وبحر الذنوب طام عبابه لم لا يعتدي بقلب سليم ... من إلى حضرة يحول انقلابه لم لا تجزع النفوس منها ... رهينة رمس بيد المشفقين يحثى ترابه وبأمر يخلو به كل دار ... من دونها يخلو من الليث غابه يا مطيلاً آفال عمر قصير ... وخطيب الردى فصيح خطابه مغرب معرب وليس بمجد ... فيه إغرابه ولا إعرابه أنت ضعيف في الأهل فارتقب ... الرحلة والصيف لا يدوم سحابه نحن في دار قلعة فاز منها ... من كان لدار المقام اكتسابه دار حزن مريض عقل فتى ... عادته فيها مسرة أطرابه لا تضيقن ذرعاً بعاجل مكرو ... هـ توافي حميدة أعقابه وإذا علمت عاقبة الصب ... ر عليه هانت عليك صعابه ولكم قرب البعيد لك الصب ... ر وكم بعد القريب ارتقابه وإذا لم يكن من الأمر بد ... فارتكبه ولا يرعك ارتكابه

ينصب الذلة الجبان ولا يد ... فع عنه المقدار استصعابه يفرج الضيق باللطف في الأمر ويؤ ... دي بالعمر فيه اضطرابه أومأ الماء وهو في باطن الصخ ... رة باللطف رشحه وانسيابه وإذا ما أحس بالشرك الصي ... د دهاه نفوره وانجذابه ومن الحزم أن يشاور في الأم ... ر فكم فات ذا صواب صوابه ولقد يخرق اللبيب وقد يح ... سن من قد أخرق جهول مثابه وينال الضعيف بالعجز أمراً ... يئست من حصوله أخطابه وعسى أن يجر يوماً إليك ال ... رفع من طال العناد انتصابه ولقد تحسن المجاور صنعاً ... وهو يؤذي من زاد منه اقترابه أو ما النصل كافل لك بالنص ... ر شقي بالحد منه قرابه والسر في الطباع ولي ولا ... عنه عز في الورى أعبابه ومن الناس عاد بالشم والش ... مخ حزماً نسر الملا وعقابه ومن الناس من يرضى بأوشا ... ل مياه من القطا أسرابه ومن الناس مشبه الليث لا ير ... ضيه إلا عدوانه واغتصابه ومن الناس عاقر الضيف كالكل ... ب ومنهم من لا تهر كلابه حكم قدر......... عدلاً ... عم معروفه فخل جنابه

فاستعذ بالإله من شر عاف ... في حبال الشيطان طال اختطابه لم يرعه الإرهاب شرعاً ولا ... ألبسه ثوب طاعة أرغابه يوحش الجاهل الإقامة في الأه ... ل ولا يوحش اللبيب اغترابه والحليم الرشيد يخجله العت ... ب ولا يخجل السفيه سبابه ويجد الفتى يعود وداداً ... وولاء من العدو ضبابه وإذا ولت السعادة خانت ... هـ وصارت أعداؤه أحبابه وإذا ما القضاء عاند عبداً ... حاربته سيوفه وحرابه وغدا شمله شتيتاً واحزا ... ناً عليه لضده أحزابه يعجل المنفى ويبقى سليباً ... من توالي طعناته وضرابه لا يغرنك الوجوه فما كل ... سحاب يروق يرجى ذهابه وتجنب عتب الملوك فما يج ... لب أعتابه إليك عتابه وأصحب نصحاً من استشا ... ر فما أنكر في مشروع قلة إيجابه وإذا قابل النصيحة بالعس ... ر فدعه فما عليك حسابه وإذا اغتابك اللئيم فشكراً ... حيث أضحى جهل اللئيم اغتيابه وإذا سال السفيه بما شا ... ء فترك الجواب عنه جوابه وإذا الخطب ناب فاصبر فقد ... يفرج غماؤه ويكهم نابه وافعل الخير ما استطعت فقد يع ... جز عن فعله ويغلق بابه واخشين كاتب الشمال فيا خس ... ر امرئ في الشمال منه كتابه

واغتنم لذة الخمول اختياراً ... فهنئ طعامه وشرابه واجعل البأس للمطامع شرباً ... فكفيل برئهن شرابه عش وحيداً ولو دعاك إلى صح ... بته مخلص الدعاء مجابه وانظر الجمر وهو يطفي بالما ... أتجده به يزيد التهابه وانتسب طائعاً إلى باب مولا ... ك فما خاب من إليه انتسابه كيف يرجو الوفاء من أهل دهر ... قد تساوت أبناؤه وذبابه طاف فيه العدول عن سنن العد ... ل وطالت رؤوسه أذنابه كم قرب بإتيانه الهم قلباً ... وفرّت همام أهله أنيابه وأباحت ملكاً منيعاً حماه ... وأذلت ملكاً عزيزاً جنابه وأعادت حسن الثناء أخا قب ... ح ملاء من العيوب عتابه وأعادت سعوده لاثم الت ... رب مهيباً ملثومه أعتابه هذه سنّة الزمان قديماً ... وعلى مثلها مضت أحقابه فقرين التوفيق من ذاته في ... كل ما شاء صبره واحتسابه يا أسير الذنوب بت عائداً من ... ها بغفّارها المخوف عقابه وخليق بعاجل الفوز من كا ... ن إلى الخالق الكريم مثابه وقال رحمه الله تعالى: وكتب بها من العلاء عند عوده من الحجاز الشريف في سنة أربع وسبعين وستمائة إلى المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج رحمه الله تعالى:

بلغنا العلى والشوق يحدو ركابنا ... وذكركم زاد لنا وسمير لعل النوى ينجاب عنا ظلامها ... فيدنو ويبدو للعيون ستير وتروى أحاديث الغرام صحيحة ... وتروى بكم بعد القليل صدور ويحدث في اللقيا أمور عجيبة ... ويحدث من بعد الأمور أمور وكتب إلى شهاب الدين محمود ملغزاً: أيها العالم الذي يهز العا ... لم فضلاً وفاق طبعاً وذهنا ابن أسماء مؤنثاً مفرداً وض ... عا ويعدو مذكراً إذا يثنى وإذا شئت حال فعلاً وحرفاً ... وعن الجملتين في اللفظ أعني وإذا ما تركته كان لفظاً ... وإذا ما عكسته صار معنى فأجابه شهاب الدين رحمه الله تعالى: يا إماماً أضحى حماه لأهل ال ... فضل مأوى من الضلال وحصنا كلما قلت قد سلوت هوى الش ... عر بدت لي بروق نظمك وهنا أنا من معشر إذا ما حبا الفك ... ر استبقنا إليك ثم اقتبسنا لم يكن مغرماً بنعم فإني ... بمعانيك مستهام معنّى أنت لغزت في اسم زنة حذر ... خذها مثل ما حماه المثنى وأجبنا عما ذكرت سريعاً ... غير أنا على الأمور اقتصرنا ولمجد الدين بن الظهير رحمه الله يقول: أما والمطايا في الأزمة تمرح ... وقد شفها طول السرى فهي طلّح

تيمم من أرض الحجاز منازلاً ... لها دونها مسرىً فسيح ومسرح قسى عليها كالسهام سواهم ال ... وجوه كما أمسوا على النوق أصبحوا يحجون من بطحاء كعبة مكة ... تحط بها الأوزار عنهم وتطرح يميل بهم سكر السهاد....... ... على كل كور غصن بان مرنح أضاء لهم من بارق لمع بارق ... فألحاظهم تدنو إليه وتطمح لاسم منى الصب الكثيب وأنتم ... ملكتم أبيّاً من قيادي فاسجحوا فصيح لساني أعجم جيرة بكم ... وأعجم دمعي بالصبابة مفصح فإن لك بالشكوى إليكم معرضاً ... فشأني بشأني في هواكم مصرح إذا لم يكن ذنباً سوى الحب فاعذروا ... وإن كان ذنباً فرط حي فأصفحوا بمرتاح قلبي لوعة مطمئنة ... وأعلاق وجد برحها ليس يبرح يلح عزيم في غرامي كلما ... لحاني عليكم عادل مستنصح ومن بإخفاء الهوى مذيعة صبىً ... لنائلكم بالحزن يقرى ويفرح وقال أيضاً رحمه الله تعالى: غش المفند كامل في نصحه ... فاطلب وقوفك بالغوير وسفحه واخلع عذارك في محل رأيه ... يزداد دمع العاشقين وشحه وإذا أسرى سحراً طليع نسيمه ... مالت به سكراً ذوائب طلحه ودع الوقار بحب ساكنه ولا ... تحفل بذم أخي الوقار ومدحه

ما صادق في الحب من هو عالم ... فيه بحسن صنيعه أو قبحه جهل الهوى قوم فراموا شرحه ... حل الهوى وحبابه عن شرحه وبي الذي يغنيه فاتر طرفه ... عن سيفه وقوامه عن رمحه صب يؤنس بالغرام نفاره ... ويجد في نهب القلوب بمدحه ذو حبة شرقت بماء نعيمها ... كالورد أشرقه نداه برشحه وكأن طرته ونور جبينه ... ليل تألق فيه بارق صبحه استعذب التعذيب من كلفي به ... والحب لذة طعمه في برحه يا ساهياً من جفنه غصناً غدا ... ماء المنية بادياً في صفحه ومعربداً في صبحه ومباعداً ... في قربه ومحارباً في صلحه ثم لا جناح عليك في سهري وما ... ألقاه في ليلي الطويل وجنحه وسعى إليك بي العذول وإنني ... لأجيب أن ظفر العذول بنجحه طرفي وقلبي ذا يفيض دماً وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه وهنا يحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام لفتحه وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إذا حان من شمس النهار غروب ... تذكر مشتاق وحن غريب وإن صدعت أبكيه صدعت حبيباً ... بها من تباريح الغرام يذوب أأحبابنا والدار منكم قريبة ... هل الوصل يوماً إن دعوت مجيب

وهل عندكم حفظ بعهد متيم ... حليفاه منكم لوعة ونحيب يحنّ إليكم والخطوب تنوشه ... ويشتاقكم والنائبات تنوب لم أنه لا يملك الحلم ردهاً ... إذا هب من ذاك الجناب جنوب وقال أيضاً رحمه الله تعالى: طاف بدر الدجى بشمس النهار ... في رياض أنيقة الأزهار مشرقات يضم شمل الأماني ... في رباها بفتحة النوار وأتانا بها يقد أديم الل ... يل منها صوارم الأنوار بنت كرم حفت بكأس زجاج ... ثم زفّت بنغمة الأوتار جاء يسعى بها إلينا وقد حا ... طت يد النوم أعين السمار وكأن النجوم نور رياض ... وكأن المريخ شعلة نار ذو دلال ما زال يحيى ويجني ... زهر الحسن منه بالأبصار رقّ جسماً حتى لقد كان يدمي ... هـ هبوب النسيم بالأسحار خاف ألحاظنا فحط سباجاً ... حول ورد الخدين أس العذار شنآن راضته لي سورة الرا ... ح وقد كان آنساً بالثغار لابس حلتي جمال وتيه ... في هواه خلقت ثوب الوقار كنت ذا عفة ونسك فآثر ... ت افتضاحي في حبه واشتهاري وإذا رمت سلوة عن هواه ... خل عزمي بعقدة الزنار مسكر باللحاظ يحسب في عين ... يه كأنها حانة الخمار

ما رأينا من قبله بدر تم ... بادياً نوره من الأزرار وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أنس الطرف بالرقاد مآقناً ... وأطعت العذول واللواما وتناسيتكم وأقصر قلب ... لم يزل مغرماً بكم مستهاما هدأت مني الضلوع فلا أت ... لف وجداً ولا أذوب غراما والمحب الذي عهدتم جزوعاً ... خيّم الصبر عنده وأقاما كم جنيتم وكم تجنيتم ظلماً ... وحلّلتم الدماء الحراما لا دنا نازح الديار ولا ... قدّر الطيف أن يزور لماما كان قربي بكم يزيد أوامي ... فغدا بعدكم يزيل الأواما وقال من أبيات: ما شأنه الألم الملم ولم يزل ... لأليم أدواء القلوب طبيبا فالريح تزداد اعتلالاً كلما ... هبّت ولا تزداد إلا طيبا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قلة الحصن مانعي قصد أرض ... أنت فيها وكثرة الإفلاس ولو أني ملكت أمري لوافي ... تك سعياً على قدمي وراسي لو ترق بعدكم دمشق ولا ... ما يزيد كلاّ ولا بانياس ولو أن النسيم يحمل شكري ... لأتاكم معطر الأنفاس وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قد دفعنا إلى زمان لئيم ... لم تنل منه غير غلّ الصدور

وبلينا من الورى بأناس ... تركتهم أعجازهم في الصدور وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أكثر اللوم في الحبيب أناس ... عيّروني ببذله بعد منع قلت شمس الضحى أشد ابتذالا ... وهي محبوبة إلى كل طبع وكان مجد الدين المذكور قد كتب إلى محي الدين بن زيلاق قصيدة رأئقة صدر كتاب فأجابه على وزنها يقول: يا أيها المولى الذي ما ونى ... عن حبه القلب ولا قصرا ومن صحبنا العيش في قربه ... طلق المحيا ضاحكاً مسفرا وافى كتاب منك وفيته ... غاية الفضل جلّ أن يحصرا حلّ محل الوصل من عاشق ... شرّد عنه الهجر طيب الكرا يميل في إنشاد ألفاظه ... كأنما ضمنته مسكرا زيد من التقبيل حتى غدت ... شفاهنا مرقومة أسطرا إذا أحال الشيء تكراره ... أعطاك حسناً كلما كررا كأنه روض سقاه الندى ... ريّاً فأضحى بيته مزهرا وما رأينا قبله روضة ... نمقها الحبر ولا خبرا يخبرنا عن مثل أشواقنا ... أكرم به مستخبراً مخبرا يذكرنا والعهد لم ننسه ... فيوجب النسيان أن يذكرا

وكيف لا يرعى عهود امرئ ... ما شأنها شين ولا كدرا لله أيام تدان غدا ... ليل المنى في ظلها مقمرا أيام تدنو بك أفراحنا ... إذ اتقاها الهم أو نفرا إذا وردنا مورداً للضنى ... لم يرض إلا مثله مصدرا ما ينسى لا ينسى حمى جلّق ... مطرد إلا مواه رطب الثرى كأنما الأسباط حلّوا بها ... ففجروا أحجاره أنهرا في أي فصل زرت أوطانها ... قلت الربيع الطلق قد أخضرا يقصر الواصف عن حسنها ... وإن غدا في وصفه مكثرا ترى صباها نشراًعطرها ... كأنما قد ضمّنت عنبرا والطير في مزهر عيدانها ... تحسب في ترجيعها مزهرا يا حبذا الربوة من موطن ... الأنس ما أبهى وما أنضرا وحبذا أخضر ميدانها ... حبت بصيد الصبي أسد الشرا والشرف العلى الذي حسنه ... مستوقف ناظر من أبصرا أرض دمشق لا أعب الحيا ... رياك إن راح وإن بكرا لولا صروف الدهر ما خلتني ... للبعد عن أوطانها مؤثرا يا مجدنا إن قيل مجد ويا ... سيدنا المستعظم الأكبرا أمتى أخذ الدهر أمنية ... كنت المنى الصادق دون الورى

وقال المولى شهاب الدين محمود أعزه الله يرثي الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير رحمه الله: تمكن ليلي واطمأنت كواكبه ... وسدت على صبحي فغاب مذاهبه وولي بأنسي من أتى لطفه به ... ونازعني ثوب المسرة واهبه إلا في سبيل من ضيم بعده ... حمى لي حتى لان للجهل جانبه وفي ذمة الرضوان بحر ندي غدت ... مشرّعة للواردين مشاربه ولله من فاق المجارين سعيه ... وإن أدرك المجد المؤثل طالبه إمام مضى بالفضل والجود والحجي ... وكل إلى الميقات يرجع ذاهبه بكته معاليه ومن ير قبله ... كريماً مضى والمكرمات نوادبه ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودي وهنّ صواحبه فأي إمام في الهدى والندي عدت ... ولاملّه آرابه ومآربه وأي كريم الأصل والنفس ينتمي ... إلى شرف العلم النسيب شاسبه أظن الردى نشر السماء وأنه ... علا فوقه فاستنزلته مخالبه أما والذي أرسى تيسر حكمه ... لقد طاش حلمي يوم رست ركائبه وقد كدت أن أقضي غراماً كما قضى ... فؤادي الذي قد أدرك الفرض واجبه سوى فوق أعواد المنايا وإنها ... وإن كرهت نحو النجاة نجائبه وأمّ ثرى ما كان لولا حلوله ... به يكتسي ثوب السماء سباسبه

ثوى منه في روض أريض أنيسه ... تقى كان في كل الأمور مصاحبه مضى وينأى كالنجوم لأنه ... مدى الدهر لا ينفك يطلع غاربه وولي ودمعي مثل جود يمينه ... وفيض إياديه سواد سواربه أمرّ عليّ إيثاره ودياره ... فيلعب بي حزناً عليه ملاعبه وترفع حجب الهدب عن ماء أدمعي ... ويخفض طرفي عن سواه مناصبه ألا يا فؤادي دم حبيساً على الأسى ... فقد حقق الدهر الذي أنت راهبه وقد أوجد الوجد المبرح فقده ... وشابت هنى العيش فيه شوائبه وأصلى فؤادي فقده النار فالذي ... ترفّقه أجفان عينيّ ذائبه تضعضع طود العلم والحلم بعده ... وحدّت عليه يوم مات ذوائبه وأضحى أخياً إذ أتاه نعيه ... ودكت أعاليه ورجت جوانبه وأصبح بحر الفضل ملحاً نميره ... وطاميه الطامي سواء وناضبه إليه انتهى علم البلاغة وانتمى ... ومنه استعاد به فعاد أعاربه وحين عذت عز الفضائل بعده ... يتامى علمنا أنهن ربائبه وقفنا وقد جد الوداع عشية ... فممسك دمعاً يوم ذاك وساكبه ليودع نفس المجد بيتاً مصرعاً ... طويلاً على زواره متقاربه تولى وهل يلوى علينا وقد غدت ... تلقاه من حور الجنان حبائبه ظننت باني مخلص في وداده ... وأخطأت لا بل أسوأ الذنب كاذبه رجعت وأمسي الجود يصحب نفسه ... إلى رمسه فالجود لا أنا صاحبه

وقد كان لي منه إذا الخطب أظلمت ... أوائله رأى رضىً عواقبه وكنت إذا ما تهت في الجهل والصبى ... هداني لرشدي علمه وتجاربه فمن لي بجفن مسعد لي في الأسى ... عليه فجفني عليه والجفن خاضبه أمولاي مجد الدين دعوة مفرد ... غدوت على قرب المزار مجانبه سلكت سبيلاً عشت خوف سلوكها ... وأنت خميص البطن بالصوم شاحبه وعمرت داراً لم تزل لتحلّها ... تحن إلى يوم النوى وتراقبه وخلّفت علماً يستضاء بنوره ... إذا الجهل سارت في الوجود غياهبه ليهنك خير كنت قدماً تسره ... وتستره عنا ويحصبه كاتبه وسر في سنا الذكر الذي كنت دائماً ... تحثّ على تكراره وتواظبه وزر سيداً قد كنت إن رمت مدحه ... هدتك إلى النظم البديع مناقبه ودونك ما أملته من رغائب ... فمدحك فيه باهرات غرائبه إذا جئته تسعى إلى الحوض طامياً ... وطوبى لك العذب الذي أنت شاربه ولا زال وفد العفو نحوك والرضى ... تفوض عادته وينزل آئبه وقال إن مجد الدين محمد بن الظهير رحمه الله اجتاز بحماة ومعه بضاعة فطلب منه المكس، فكتب إلى الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وزير صاحب حماة، إذ ذاك يقول: يا أيها الصدر الذي أضحى بإن ... كار العلى كلفاً بغير تكلّف هل يعذروا النواب في تكليفهم ... حق الجوار لشاعر متصوف

متسربل حلل الظلام مشمّر ... في جمعه الرزق الشتيت يطوف صوناً لها لأحبابه عن بذله ... في ردّه أو في إجابة مسعف يطرى ويطرب في الحديث كأنما ... في كل قافية عتيق القرقف والألمعية وهي فيك خليقة ... تغني عن التعريف من لم يعرف أنا واثق وجميل ظني فيك مه ... ديّ فكن بجميل شكري مكتف ومتى توقف عنه أمرك ساعة ... بذل الذي طلبوا بغير توقف فكن الكفيل بمنع باغ معتد ... عمر الزمان ومنح باغ معتف محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن الحسين أبو المعالي نجم الدين الشيباني الدمشقي. مولده بدمشق في الساعة الرابعة من نهار الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة، وتوفي بدمشق ليلة الأحد رابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن خارج باب توما عند قبر الشيخ رسلان رحمة الله عليه. ذكر نجم الدين المذكور، أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، واستوطنوا دمشق، وأنه صحب الشيخ أبا الحسن بن منصور اليسري الحريري رحمه الله سنة ثماني عشرة وستمائة بعد أن لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد السهروردي رحمة الله عليه وأجلسه في ثلاث خلوات، وكان المذكور أديباً فاضلاً قادراً على نظم الشعر مكثراً منه، نفع الله به الأبيات الجيدة والمعاني النادرة، ومدح الأمراء والكبراء وغيرهم،

وأشعاره كثيرة منها مادحاً فيه جده والشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله تعالى، ومنها غير ذلك، فمن شعره يقول: لقد عادني من لاعج الشوق عائد ... فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد وهل نارها بالأجرع الفرد يعتلي ... لمنفرد ساب الدجى وهو ساهد نديميّ من سعد أديراً حديثها ... فذكر هواها والمدامة واحد منعمة الأطراف دقت محاسنا ... كما جلّ في حبي لها ما أكابد فللبدر ما لانت عليه خمارها ... وللغصن ما حالت عليه القلائد فديتك هل المامة من خيالكم ... تعود لفاقد مل منه العوائد وكيف يزور الطيف والليل عاكر ... عليه ولا الطرف المسهد راقد وقال أيضاً رحمه الله تعالى: رفقاً حنانيك بي يا أيها الحادي ... وأنزل بنجد متى ما رمت إيجادي وأبلغ تحية من أودي الغرام به ... أهل الكثيب والإبانة الوادي وقل لها يا فدتك النفس كيف بأن ... يغيب أعناك قلب الهائم الصادي أطلت مدة هذا الهجر ظالمة ... ما كان أغناك عن صدي وأبعادي قد ملّ صحبي ثوائي في منازلكم ... وطال في عرصات الدار تردادي وشاع في الحي أني مغرم بكم ... فصرت فيكم حديث الرائح والغادي يا هذه وأحاديث المنى صدع ... هل ينجز الدهر من لقياك ميعادي

غادرت بالليل دمعي جعفراً فمتى ... أرى ولو بمنامي وجهك الهادي وقال أيضاً: يا من ثنائي وفؤادي داره ... مضناك قد أقلقه تذكاره صددت عنه قبل ما وصلته ... وكان قبل سكره خماره ما كان يا بدر الدجى أسعده ... لو هتكت في حبكم أستاره لي غصن يحمل بستاناً غدت ... ناضره في ناظري أزهاره نرجسه لحاظه وورده ... وجنته وآسسه عذاره وقال أيضاً رحمه الله تعالى: منكم إليكم مهربي ومآلي ... وبكم عليكم في الهوى إدلالي يا من أردت بذلتي في حبهم ... وأخو لهوي من لد بالإذلال إني أجلّ محبكم عن أن يرى ... مستوسلاً بسواكم بسؤالي وأكاد أكتم عنكم وجدي بكم ... لولا أطالعكم على أحوالي لا تحسبوني خائفاً من هجركم ... أو راجياً منكم دوام وصال هيهات لي وحياتكم بهواكم ... شغل عن الأعراض والإقبال لم تنعموا كرماًعليّ بودكم ... إلا لينعم بالمحبة بالي أهلاً بأدواء الغرام وحبّذا ... برح الهوى ولواعج البلبالي ما كان فيه رضاكم فهو المنى ... والقصد وهو نهاية الآمال وله مما نقلته من خطه: من لي ببرق من حماك لموع ... يقضي لبانة قلبي الموجوع

يا شاكياً بمحل سرى من حمى ... قلبي ومن طرفي مكان هجوعي مالي أذاد عن الورود وحوض ... كم عن وارد به ليس بالممنوع أحبابنا لم أستمح مباخلاً ... منكم ولا ناديت غير سميع عودوا تعود سقم من أو ... دعتم أعضاءه الأسقام بالتوديع وصلوا محبكم فليس نوالكم ... عن طالبي الإحسان بالمقطوع أيجوز أن أقضي وقد أحببتكم ... بالبعض من ذاتي وبالمجموع منكم عليكم مهربي وترحلي ... عنكم بحكم الدهر غير رجوعي مذ أشرقت في أفق ذاتي شمسكم ... أضحى غروبي عنكم كطلوعي وله، مما نقلته من خطه: يا رب من ليل خيال مسلم ... يجوب إلى البيداء والليل مظلم فيا حبذا الوداد طرفاً مهوماً ... ومن أين للمشتاق طرف مهوم وبي جيرة جاروا فأجروا مدامعي ... وبانوا ولكن في فؤادي خيموا أشاهدهم حتى كان لقاؤهم ... يقين ومصدوق الفراق توهم وأسمر معسول اللمى رمح قده ... يميل على العشاق وهو مقوّم حوى خده وطرفى معينه ... وناراً ولكن في فؤادي تضرم أموت به عشقاً وأنكر حبه ... وأسأل عن أخباره فأجمجم وأحجم إجلالاً عن وصاله ... ويغلبني صدق الرجاء فأقدم وأكتم حبي عنه ما بي تصرفاً ... فيا من رأى حباً عن الحب يكتم وأبخل عن غيري بأسرار حبه ... ويحلى بأسرار الغرام تكرم

وله مما نقلته بخطي منه: صد تيهاً وأعقب الصد وصلاً ... ظالم رق لي فأحدث عدلا إن من سفرة الصدود منيباً ... من ذنوب الجفا فأهلاً وسهلا وثنى عطفه الرضى دون صب ... مال عنه مع الوشاة وملا فأعاد السرور بل عاد مضناً ... مذ رآه من عائديه وبلا ذو خيال الحبيب حلو ولكن ... هو من بعد روعة الصد أحلى يا قضيب الأراك إذ يتثنى ... وهلال في السماء إذ يتجلى كيف عادرني لديك دليلاً ... يا أعز الورى لدي وأجلى وأطعت العذال في مستهام ... لم يطع فيك مذ أحبك عذلا لا يليق الصدود وهو كثيف ... بك يا ألطف البرية شكلا إن حالي في الحب يعجب منها ... كل من كان للمحبة أهلا ربع جسمي بغيث دمع محيل ... من رأى الغيث فذا واجب محلا يا عزيز الذات بالذل فيه ... وعزيز من في المحبة ذلا حسدت مقلتي الثرى إن تطاها ... فتمنت لو أصبحت لك نعلا وله مما نقلته من خطه أيضاً: إن أم صحبي سمراً أو أراك ... فإنما مقصودهم أن أراك وإن ترنمت بذكر الحما ... فإنما عقد ضميري حماك وإن دعا غيرك داع فما ... عندي إلا أنه قد دعاك وإن بكى صب حبيب فما ... أحسب إلا أنه قد بكاك

يا جملة الحسن وتفضيله ... أجملت إذ قرعتني سواك ويا غنياً عن غرامي به من لي ... بأن يرحم فقري غناك أحبيت باللطف موات الهوى ... وجدت حتى عم كلا جداك ما أعرضتك نعماك عن سائل ... في كل ناد عارض من نداك وقد ملأت الكون عشقاً فما ... أعرف قلباً خالياً من هواك وله مما نقلته من خطه أيضاً: لعرفكم في كل شارقة نفح ... لنار اشتياقي منه في كبدي لفح وبالسفح منكم بارق متألق ... لسحب جفوني كلما شمته سفح وبالمنحنى ربع قديم يد البلى ... يجدد أحزاني عليه ما يمحو ومنها أيضاً: علام ترى للبين عيساً طلائحاً ... ولما يلح لي منكم البان والطلح أبيت أشيم البرق من نحو أرضكم ... فمن ومضه لمع ومن ناظري لمح واستشرح النكباء عنكم صبابة ... رموز حديث عند قلبي لها شرح وحقكم ما قرح الدمع ناظري ... ولامسني للبين من بعدكم قرح وكيف ولم يبرح فؤادي بعدكم ... يحلّ بدار قد أقمتم بها برح وحبكم كالشمس في أفق باطني ... فمغربة ليلاً ومقبوضة صبح فحتام استسقى الحيا لدياركم ... وفي سحبه شح وفي ناظري سمح وله، مما نقلته من خطه أيضاً: أقوت معالمهم وخف قطين ... ونأوا فطار فؤاده المحزون

صب يلوم العيس في قطع الفلا ... بهم وحاديهم منه حنين يا برق إن أهلّ شأن ربوعهم ... هملت لها من ناطريه شؤون ما قيّد الأظعان مهجة نفسه ... إلا ليطلق دمعه المسجون ظعن هتكن الليل حين سرينه ... وحبابهن عن العيون مصون حجبن بالاشباه وهي ذوابل ... ومعاطف وصوارم وجفون وجرعن نقب المنحني فتأرجت ... بنسيمهن أجارع وحزون ولقد وقفنا للوداع عشية ... وعلى ملاحظة العيون عيون أبكي الدما بين الذوابل شرعاً ... وكأنني في ناظري طعين يا حيرتي بلوى الأراك دنا النوى ... وعليكم للمستهام ديون ما كنت أعلم أن عهد فتاتكم ... مين ولا أن الفراق منون بنتم فأخفاني الأسى من بعدكم ... سقماً فما أنا لا أكاد أبين عجباً لطرفي كيف لم يجئ الكرى ... فيه وماء الدمع منه معين وقال أيضاً رحمه الله: أما آن أن تبدو لعينك نارها ... وهذي المطايا قد براها سفارها شققت بها وهنا على الأين والوجا ... بطون موام كالظلام نهارها وجئت بها والآل يلمع بالضحى ... ظهور فياف لا تجاب قفارها إذا العتب قد أنكرتها بطويلع ... مرابع يزهو شيحها وعرارها

وإن ظمئت منيتها ماء وحرة ... ومن دونه أدلاجها وابتكارها طلائع دار العامرية قصدها ... وأين من البزل المصاعيب دارها وهل قربتك العيس منها أترتجي ... زيارتها هيهات منه مزارها ما هي إلا الشمس تحسب ضوءها ... قريباً وفي الأوج الرفيع منارها ممنعة أشجار ساحتها الفنا ... يظل الأماني والمنايا ثمارها تحف بها تحت العجاج كتائب ... إلى مضر الحمراء ينمى نجارها تعيد الرجا صبحاً بلمع خدودها ... وتجعل ضوء الصبح ليلاً غبارها فعد لا يمنيك الأماني غرورها ... فقد طال ما بالنفس أودي اعتبارها يميناً بعهد سالف كان بيننا ... وأسرار حب لا يحل خمارها لأقتحمن الهول فيها بعزمة ... إلى الفلك الأعلى يطير شرارها فإن حان ميقاتي لديها ولم أفز ... بتقريبها فليهن نفسي افتخارها وفيمن أخاف الموت فيها أهل لنا ... سواها وهل غيري تكن ديارها وما الوصل إلا الفصل عن رسم منزل ... متى فارقته العيش قرّ قرارها وهل حاجب عنها سواك فإن يبن ... عن المنزل الأدنى يزول استتارها متى بان ما فارقت بعد فراقه ... بكتها بلا شك وجادك جارها وقال أيضاً رحمه الله تعالى: عسى الطيف بالزوار منك يزور ... فقد غاب عنه كاشح وغيور

وكيف يزور الطرف طرفاً مسهداً ... له النجم بعد الظاعنين سمير ظعائن تغزو الجيش وهي رديفة ... عليهن من سمر الرماح ستور إذا نزلوا أرضاً تولّت محولها ... وأصبح فيها روضة وغدير وإن فارقوا أرضاً غدت رمالها ... من الطيف مسك والتراب عبير أأحبابنا النأون أدعوا بيننا ... سهول وغور قطعهن عسير وداركم بالبان عن أيمن الحمى ... يلوح عليها نضرة وسرور قريبة عهد بالخليط رسومها ... مواثل ما محت لهن سطور كأن مواطي الخيل فيها أهلة ... وآثار أخفاف المطي بدور وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا هاجري وله خيال واصل ... أتراك تسمع بعض ما أنا قائل ما كان ذنبي حين خنت مودتي ... وهجرتني ظلماً وهجرك قاتل أصبحت تظلمني وظلمك بارد ... وتميل عن وصلي وقدك مائل وأراك مقترب المزار وبيننا ... يخفاك يا أمل النفوس مراحل أصبحت من ذهبي خدك في عنا ... عما سواه فلم عذارك سائل ديوان حبك فيه طرفك ناظر ... والصبر مصروف وسقمي حاصل وعذار خدك بالغرام موقع ... وهواك مستوف وقدك عامل أذكي الصبي نار الجمال بخده ... فلذاك نرجس ناظريه ذابل وله وكتب بها إلى كحّال: يا سيد الحكماء هذي سنة ... أفنيتها في الطب أنت سننتها

أو كلما كلت سيوف جفون من ... سفكت لواحظه الدماء سننتها وقال أيضاً من أبيات: أنت الأمير على الملاح بأسرهم ... وعليك من قلبي لواء خافق وله أيضاً رحمه الله تعالى: ما سر ناظره مذ غبتم نظر ... ففيم حكم فيه الدمع والسهر قد كان يكفيه هجران الخيال له ... لكن قدرتم فلم تبقوا ولم تذروا يا راحلين في أعقاب ظعنهم ... قلب يقلبه الأشواق والفكر ما الدار بعدكم داري وإن حسنت ... مغنىً ولا أهلها أهلي وإن كثروا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أيها المعتاض بالنوم السهر ... ذاهلاً تسبح في بحر الفكر سلم الأمر إلى مالكه ... واصطبر فالصبر عقباه الظفر لا تكونن آيساً عن فرج ... إنما الأيام تأتي بالغير كدر يحدث في وقت الصفا ... وصفا يحدث في وقت الكدر وإذا ما شاء ذهن مرة ... سرّ أهليه ومهما شاء سر فارض عن ربك في أقداره ... إنما أنت أسير للقدر وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كتم الغرام ولج في كتمانه ... زمناً فخر بشأنه عن شانه والصب من نصحي بجمر غرامه ... ثملاً يفوح الطيب من أردانه

لا ترتجي فوزاً بجنة وصل من ... تهوى ولا تخشى لظى نيرانه متلذذاً بالذل مغتبطاً بها ... يلقاه من إهماله وهوانه وبمهجتي ريان من ماء الصبا ... نشوان لا يلوى على نشوانه حلو الشمائل والمعاطف مطمع ... مضناه بعد الناس في إحسانه شاكي السلاح ورمحه من قده ... وسنانه المفتاك من وسنانه متلثم بعذاره متقلد ... بالصارم المصقول من أجفانه بستان حسن في قضيب مائس ... ولقد عهدنا الغصن في بستانه يدنو ويبعد رقة وتغررا ... ويظل يمزح حرفه بأمانه وإمام ظعن الحي مهروب الشظى ... لا يتقي السطوات من سلطانه يجلو تبسمه الدجى وجبينه ... فعلى تبسمه هدى ركبانه ويميس في ظل الإراك قوامه ... فتخاله للبين من أغصانه وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لصرف الليالي عندي الحمد والشكر ... وقد صار يعموراً بك السرّ والجهر ظهرت وسيرت الوجود مظاهراً ... وكان الذي يجلو محاسنك الستر ومعتذر بالحسن أمسيت عبده ... وأصبح لي مولى له النهي والأمر معاطفه بالعطف تطمع صبّه ... وخط عذاريه لعاشقه عذر وقامته النشوى وعيناه واللوى ... ثلاث خمور عال عقلي بها السكر فعذبه يحلو..... لديه عذابه ... وما سورة العاني يلذ له الأسر ونشوان من سكر الشباب قوامه ... يقر له الخطى والغصن النضر

على غصنه بدر وفي فرعه دجى ... وفي ثغره خمر وفي طرفه سحر وفي قربه بعد وفي وصله جفا ... وفي ظلمه جور وعندي له شكر ومطرورة ترضى بوحشة طرده ... ومهجورة ظلماً يطيب لها الهجر وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وحقك ما عنك لي مذهب ... وحبك لي أبداً مذهب وفيك يلّذ لجسمي الضنا ... ويرتاح قلبي بما يتعب ومحتلم الطرف في بهجتي ... يجور وفي عدله أرغب غرير غريز له ناضر ... يقر له الصارم المقتضب ونشوان من مسكرات الدلا ... ل توهم أن الحفي يحجب ترى أنني راغب في رضاه ... وإني من صده أرهب وإني إذا فاه لي منطق ... بذكر فضائله أخطب ومن راح سكران من حبه ... فليس يصح له مطلب ولي معرض لدى إعراضه ... وكل الذي يرتضى طيّب وكم ليلة نلت من كفه ... مداماً ومن طرفه أشرب صبرت على ما ساءني ... وأعتبه وهو لا يعتب ويختلف الطرف والقلب فيه ... فيصدق هذا وذا يكذب وبالمنحنى عرب بيضهم ... إلى أسود أجفانهم ينسب نسيمهم يستتر الهوى ... وبرقهم للجوى يلهب

وعن كل غارة جيش لهم ... قدود غدائرهم تغرب وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وفي لي من أهواه جهراً بموعدي ... وأرغم عذالي عليه وحسّدي وراد على شحط المزار تطولا ... على مغرم بالوصل لم يتعود فيا حسن ما أبدي لعيني جماله ... ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدى ويا صدق أحلامي ببشري وصاله ... ويا نيل آمالي ويا نجح مقصدي تجلى وجودي إذ تجلى لباطني ... بجد سعيد وبسعد مجدد لقد حق لي عشق وأهله وقد ... علقت بكفي جميعاً بموجدي نديميّ من سعد أريحا ركائبي ... فقد أمنت من أن تروح وتغتدي ولا تلزماني النسك فالحب شاغلي ... ولا تذكرا لي الورد فالراح موردي ولا تقفاني في الرسوم التي عفت ... فقد طال حبسي بين نوء وموقد ومرّا على حيّ بمنعرج اللوى ... فقولا لغزلان الصريم ألا ابعدي ولا تسعداني بعدها لكما البقا ... فما لي بعد اليوم فقر لمسعدي أمن بعد ما قد برّد الوصل غلتي ... وزاد الكرى أجفان طرفي المسهد وهامت بي الصهباء وجداً فكل من ... سقاها له قلب إلى رؤيتي صدي وأمسيت والكأسات شمى وأصبحت ... عروس حمياً الحان تجلّى على يدي ونادمت في دير الخنيس غزالة ... وزخرف لي في هيكل الدير مقعدي

وأضحت ظباء الحي صيد خلاعتي ... وإن صدن من أهل النهى كل أصيد وصارت لقلبي قوة نبوية ... مميزة بين الهدى والتهود أضلّ وفي نور الجمال تقلبي ... وأخشى وفي ظل الحلال ترددي ويدركني نقص ومعنى كماله ... إذا سرت في بيداء قصدي مزودي وأرضى بدين المانوية ملّة ... وديني في حييه دين موحد ودأبي وعزمي والدجى وقراره ... فقد أبت العلياء إلا تفردي وجدا وحدا في العلاء كل عائق ... ولا تصغيا يوماً لعذل مفند ولا تيأسا من روحه وتأسيا ... فكم معرض في اليوم يقبل في غد فتى الحي صبّ باع مهجة نفسه ... لجيرة ذاك الحي نقداً بموعد هو الحب إما منية أو منية ... ودون العلى حدّ الحسام المهند ألم تريا أني وجدت تلذذي ... برؤياه عقى جيرتي وتلددي وقد عشت دهراً والجمال يهزني ... ويطربني الإلحان من كل منشد وأغزو وفي ليل الغدائر دائباً ... أضلّ ومن صبح المباسم أهتدي ويسقم جفني كل جفن وتارة ... يورّد دمعي كل خدّ مورّد فطوراً أرى في الربع يبدو تولهي ... وطوراً وراء الظعن يوهن تجلدي أحنّ للمع النار شبّ ضرامها ... بنعمان في ظل الطراف المعمّد وأصبو متى هبّت صباحاً جدية ... يخبرني عن منجد غير منجّد ويخجل أجفاني السحاب بوبلها ... حتى لاح برق برقة ثهمد

فصل في المشاهد الجمالية:

أحال حضيض السكر أوج ترفعي ... وأحسب وادي الفوق مطلع فرقد فلما تجلى لي على كل شاهد ... ساقرني بالرمز في كل مشهد تجنبت تقييد الجمال ترفعاً ... وطالعت أسرار الجمال المبدد وصار سماعي مطلقاً منه بدؤه ... وحاش لمثلي من سماع مقيد ففي كل مشهود لقلبي شاهد ... وفي كل مسموع له لحن معيّد فصل في المشاهد الجمالية: أراه بأوصاف الجمال جميعها ... بغير اعتقاد للحلول المعبّد ففي كل هيفاء المعاطف غادة ... وفي كل مصقول السوالف أغيد وفي كل بدر لاح في ليل شعره ... على كل غصن مائس العطف أملد وعند اعتناقي فيه قد مهفهف ... ورشفي رضاباً كالرحيق المبرّد وفي الدر والياقوت والطيب والحلي ... على كل شاجى الطرف لدن المقلد وفي حلل الأثواب راقت لناظري ... بزبرجها من مذهب ومعمد وفي الراح والريحان والسمع والغنا ... وفي سجع ترجيع الحمام المغرد وفي الدوح والأنهار والروح والندى ... وفي كلّ بستان وقصر مشيد وفي الروضة الغنّاء غبّ سمائها ... تضاحك نور الشمس نوارها الندي وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى ... وقد جعلته الريح صفحة مبرد وفي اللهو والأفراح والغفلة التي ... تمكن أهل الفرق من كل مقصد وعند انتشاء الشرب في كل مجلس ... بهيج بأنواع الثمار منضّد وعند اجتماع الناس في كل جمعة ... وعيد وإظهار الرياش المجدد

فصل في المظاهر العلوية:

وفي لمعان المشرفيات بالوغى ... وفي ميل أعطاف الفتى المتأود وفي الأعوجيات العتاق إذا انبرت ... تسابق وفد الريح في كل مطرد فصل في المظاهر العلوية: وفي الشمس تجلى في تبرج نورها ... لدى الأفق الشرقي مرآة عسجد وفي البدر بدر الأفق ليلة تمّه ... حلته سماء مثل صرح ممرد وفي أنجم زانت دجاها كأنها ... فتار لآل في بساط زبرجد وفي الغيث روى الأرض بعد همودها ... قبال نداه متهم بعد منجد وفي البرق يبدو موهناً في سحابة ... كباسم ثغراً أو حسام محدّد فصل في المظاهر المعنوية: وفي حسن تنميق الخطاب وسرعة الجواب وفي الخط الأنيق المجرّد وفي رقة الأشعار رقت لسامع ... بدائعها من مقصر ومقصّد وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة ... وفي أمن أحشاء الطريد المشرّد وفي رحمة المعشوق شكوى محبّه ... وفي رقة الألفاظ عند التودد وفي أريحيات الكريم إلى الندى ... وفي عاطفات العفو من كل سيد وحالة بسط العارفين وإنسهم ... وتحريكهم عند المساع المقيّد وفي لطف آيات الكتاب التي بها ... تبسم روح الوعد بعد التوعد فصل في المظاهر الجلالية: كذلك أوصاف الجلال مظاهر ... أشاهده فيها بغير تردد

ففي صولة القاضي الجليل وسمته ... وفي سطوة الملك الشديد التمرد وفي جلدة الغضبان حالة طيشه ... وفي نخوة القرم المهيب المسوّد وفي سورة الصهباء حار مديرها ... وفي يبس أخلاق النديم المعربد وفي الحر والبرد الذين تقسما الزمان وفي إيلام كل مجسد وفي سر تسليط النفوس ونشرها ... عليّ وتحسين التعدي لمعتد وفي عثر الغارات يستعرف الفضا ... ويكحل عين الشمس منه بإثمد وعند اضطرام الخيل في كل مأزق ... يعثر فيه بالوشيج المقصد وفي شدة الليث الهصور وبأسه ... وشدة عيش بالسقام منكد وفي جفوة المحبوب عند وصاله ... وفي عذره من بعد عهد موكد وفي روعة البين المشيب وموقف الوداع لحران الجوانح مكمد ومن فرقة الألاف بعد اجتماعهم ... وفي كل تشتيت وشمل مبدد وفي كل دار أقفرت بعد إنسها ... وفي ليل ناد أو دراس معهد وفي هول أمواج البحار ووحشة القفار وسيل بالمذاهب مزبد وعند قيامي بالفرائض كلها ... وحالة تسليم لسر التعبد وعند خشوعي في الصلاة لعزة المناجى وفي الأطواف عند التشهد وحالة إهلال الحجيج وحجهم ... وإعمالهم للعيس في كل فدفد وفي عسر تخليص الحلال وفرّة الملال لقلب الناسك المتزهد ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى ... برؤيته شيئاً قبيحاً ولا ردى

فكلّ مسيء بي إليّ كمحسن ... وكل مضلّ إليّ كمرشد ولا فرق عندي بين أنس ووحشة ... ونور وإظلام ومدن مبعد وسيان إفطاري وصومي وفترتي ... وجهدي ونومي وادعاً وتهجدي أرى تارة في حانة الخمر خالعاً ... عذارى وطوراً في حنية معبد تجلى فسرى بالحقيقة مشرب ... ووقتي ممزوج بكشف سرمد وقلبي مع الأشياء أجمع قلب ... وسرّى مقسوم على كلّ مورد تعمرت الأوطان بي وتحققت ... كظاهرها عندي بعيني ومشهدي فهيكل أوثان ودين لراهب ... وبيت لنيران وقبلة مسجد ومسرح غزلان وخانة قهوة ... وروضة أزهار ومطلع أسعد ومنبع عرفان وإسراج حكمة ... وأنفاس وجدان وقيظ تبلد وجيش لضرغام وحذر لكاعب ... وظلمة حيران ونور لمهتدي تقابلت الأضداد عندي جميعها ... كمحبة مجهود ومنحة مجتدي وأحكمت تقرير المراتب صورة ... ومعنىً ومن عين التفرد موردي فما موطن إلا ولي فيه مقصد ... على قدم قامت بحق التفرد ولا غرو إن فتّ الأنام غلاّ وقد ... علقت بحبل من حبال محمد عليه صلاة الله يشفع دائماً ... بروح تحيات السلام المسّود وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: جهد المحبة لوعة وغرام ... وكآبة وصبابة وسقام ومدامع مسفوحة وأضالع ... مقروحة وتولّه وهيام

وتذكره إن لاح برق بالغضا ... أو ناح في هدب الغصون حمام ورضىً يزور رياضة طيفية ... يأتي بها وكفاك ذاك مقام ومتى عدت للمرء من قضائه ... حجب فموطن كشفه الأحلام وتذلّل وتصبّر وتجلّد ... إن عزّ مطلوب وشطّ مرام ورضىً بأحكام الحبيب وإن جفا ... ونأى وعزّ من الخيال لمام أوصاف باق لم تبن عن اسمه ... وبقاء أبناء الغرام حرام والعاشقون على اختلاف شؤونهم ... عما تحققه الفناء نيام كل تسيّر إلى سواه ولا سوى ... إلا إذا ما ظلت ... الأفهام وذروا المعارف ما يكون لأهلها ... تجنى لهم بثمارها الأيام وقوم بهم قام الوجود لأنهم ... قعدوا بعرفان الإله وقاموا ظهروا وقد خفيت صفات نفوسهم ... فهم لأعلام الورى أعلام وردوا بعين الجمع فاجتمعت لهم ... صور العوالم فالشتات نظام وجهاتهم في العلم وجه واحد ... سيّان خلف عندهم وإمام وحقائق الأشياء في ميزانهم ... ....فما بين الأنام خصام فظلامهم عين الصباح حقيقة ... وصباح أبناء الرسوم ظلام والعارفون بفضلهم وراثهم ... والجاحد إنعامهم إنعام ووراءهم قوم معارفهم إلى ... حدّ الصفات تردّها الإعظام وهم على رتب تفاوت قدرها ... وكذاك تقسّم فضله القسام

فصل:

فصل: فمن اجتلى صفة الجمال فدهره ... عشق وقصف والغرام ملام وتشوقه الريحان والأغصان والكثبان والغزلان والآرام وبروقه غصن غلالة خدّه ... ورد وآس عذاره تمام ولذلك يعجبه فتاة فضلها ... شمس عليها للسحاب لثام ويحب إخبار الغرام وأهله ... وتهزّه الأوتار والأنغام هش تراه للخلاعة باسماً ... كالبدر جلى عن سناه غمام يرتاح عند وجود كل لطيفة ... في الكون فهو متى بدا بسّام ويرى المليحة في القبيح فما له ... لسوى الجمال على المدى إلمام فصل: ومن انتحى صفة الجمال فإنه ... قبض وكل زمانه إحجام ولديه عن كل اللطائف نفرة ... وله على أضدادها إقدام ويلذه الإنعاب والأوصاب وال ... إنصاب والآلام والأسقام وجميع آثار الجلال مظاهر ... لعلومه بظهورها إتمام فترى على ضد فمن هو قبله ... فالوقت مزن والدموع سجام أنى يرى شيئاً يلايم طبعه ... فلطرفه بدموعه إستحمام فصل: والسالكون أمان من يسرى على ... أثر الدليل فما عليه ملام

فصل:

بل حقه أن لا يقيم بمنزل ... إلا إذا ما الركب فيه أقاموا ومعذر ركب المهابة راجياً ... بالجهد أن تبدو له الآرام فلعل ذلك في خفارة قصده ... ولكل قصد حرمة وذمام فصل: والزاهدون بأسرهم صنف وفي ... إثبات زهد الزاهدين كلام والزهد في ترك الفتى بحظوظه ... أولى فكيف تفوته الأقسام فصل: والعابدون عداد أربعة فمن ... عيد له ... إمام ثاني عبادته عليها ينبغي ... التطهير والأركان والأحكام وله وقد تمت ظواهر أمره ... بالعلم عن علل النفوس فطام فتراه ليس يرى الرياء ولا له ... بالخلق إشراك وذاك همام ويرى العبادة ... ... وفعالها من ربه إكرام هذا للذي وفي العبادة حقها ... وله دلائل تقتفى وترام منها إنارة وجهه وحصول ما ... يقضي بها الإخلاص وهو لزام ومتى أتى بعبادة في مشهد ... أرضى بها من عقّد الاسلام فصل: ومثمر العلم لكن سرّه ... دنس وكل قصوده آثام ومقصر في ظاهر من علمه ... والجهل مع لقيا التعلم ذام

ولربما أهدى له إخلاصه ... بقبيض من يهدي به الإفهام ومقصر في الحالتين فذاك من ... أربت عليه بفضلها الأنعام صلى بلا علم وصام لأنه ... عظمت صلاة عنده وصيام فتراه كالغضبان يشمخ أنفه ... ويقول كل العالمين عوام ويقوم في الليل الطويل وربما ... أضحى بوجه قد علاه سخام قد أنشدت رؤيا العبادة لبّه ... وكذاك رؤياها أذى وسمام فافهم رسالة سرّ لاهوت أثر ... قد أنهكت ناسوته الأسقام جاءت تقاد مطيعة فكأنما ... في كلّ قافية إليّ زمام ما ظنها سن الشباب وربما ... قد كان كهل الحلم وهو غلام حذرتها في بعض ليلة جمعة ... والفجر ما نشرت له أعلام وعلام لا تعنوا المعارف لي ولي ... بمقام سيدنا الجليل مقام صلّى عليه الله ما متع الضحى ... ومتع الصلاة تحية وسلام على نبيه ومن هو على الهدى ... الهادي نبيّ الرحمة القوّام من ليس ينقض ما تولى برمّه ... أبداً وليس لنقضه إبرام وقال يمدح الشيخ علي الحريري - رحمه الله - نقلته من خطه: حيّا الديار على علياء حورانا ... مستهزم الرعد تسكباً وتهتانا وكيف أحمل فيها للسحاب يداً ... وربما عمّ كل الأرض إحسانا داراً يلاقي بها العافون رحمة ... كما يلاقى بها الجانون غفرانا

تهوى القلوب لها شوفاً فلو قدرت ... طارت إليها زرافات ووحدانا حيث المواعيد لا تفضي المواهب لا ... تحصى وعين الرضى لم يعص إنسانا ويورد الوصل مشروع لوارده ... لم يلق من دونه سداً وهجرانا فطائر المدح غريد على فنن العلياء مورد أسجاعاً وألحانا والمشرفيات لا تنبو مضاربها ... والسمر تحمل رايات وخرصانا وللقرى النار على بالعلياء مضرمة ... يعشو إلى ضوءها من جاء عريانا وكل غير أن يخشى الموت سطوته ... ويلبس الدهر ثوب الذل ألوانا دار إذا حل ذو منّ بساحتها ... رأى غرائب لا تحصى وأفنانا إن حلّها عابد الغيّ بساحتها ... ديراً يضمن تسبيحاً وتحيانا حفت بهيكله العباد قد لبسوا ... تحت المسوح من الأحزان قمصانا فعابد قد أسال الفقر مهجته ... دمعاً وأصلاه خوف النار نيرانا وعابد يرتجي حيث الجزاء غداً ... فما يدين به حور وولدانا فذاك في قبض خوف لا انبساط له ... وذا تروحه الآمال أحيانا أو حلها مسالك ألقى بجانبها ... وكائب العزم لا يسأمن وجدانا يحملن كل بعيد إليهم قد بذل القرار والنوم للعلياء إيمانا كالسيف يقطع من تلقاه شفرته ... والنجم يهدي لدى الظلماء ركبانا أو حلّها عارف مذلّ بمعرفته ... رأى معارفه جهلاً ونكرانا حتى إذا ما ارعوى أهدى نسيم ريّا ... ذاك الحباب له عرفاً وعرفانا

وقابتله بمعنى منه ناطقة ... بسرها بجوى وجداً ووجدانا أو حلها عائق والخان مرتعه ... يلقى الندامى بها شيباً وشبانا فواحد في رياض الإنس منبسط ... يجرّ للتيه أذيالاً وأردانا بادي الخلاعة لا يرجو النعيم ولا ... يخشى الجحيم ولا تلقاه محزانا وفاقد أرعشت كفيه مقلته ... وولته وهدّت منه أركانا وصيرت بطشه عجزاً وصحته ... سقماً ووجدانه محواً وفقدانا وصاحب لم يؤثر فيه قهوتها ... قد صار ... قصفاً وإدمانا يقول رائيه إعجاباً بيقظته ... في السكر هل تسكر الصهباء نهلانا خان حدسها حدثت عن عجب ... تمد تغازل آراماً وغزلانا ونشوة لو بدت في الكون ما نزلت ... في عالم الكون لا إنساً ولا جانا وإلى كؤوس عتيق الراح دائرة ... لما يصر بعدها الندمان ندمانا راح لو أن ابن نوح شام بارقها ... لم يخش إذ نبع التنور طوفانا ملك التي تلبس الأقداح شاربها ... حقاً وباباتها هما وأحزانا يسعى بها مائس الأعطاف تحسبه ... قد ركب السحر في عينيه أجفانا بادي الجمال ترى في كل جارحة ... منه شموساً وإقماراً وأغصانا تبدو فتحسب بدر التمّ مقتبلاً ... وينثني فخيال الغصن ريّانا يجلو عليك بما يحوي الوشاح وما ... يحوي المآزر ... ونعمانا

مؤثر الخصر مطبوع على صلف ... تريك رؤيته روحاً وريحانا يا مالكي والذي لا شيخ أعرفه ... سواه أدعوه إسراراً وإعلانا أجللت مدحك عن ان أقوم به ... فعجت أبعث آثاراً وأوطانا لا يقدر المرء أن يثني عليك ولو ... أعيت بلاغته قساً وسحبانا أنت الذي يقحم التقصير مادحه ... إلا إذا أنزل الرحمن قرآنا أنت الذي ما له ابن فنعرفه ... وليس يملك عنه الحرف بنيانا سرادق العز مبنى عليك وهل ... يرضى لك الله غير العز تبيانا أنت الذي تنزل الخيرات دعوته ... لنا ويعلم ما يخفي طوايانا أنت تنشر الأموات قدرته ... لطفاً وينطق الصمت خرسانا أنت الذي جزت صحو الجمع متنصحاً ... بالاتحاد مراداً للذي كانا كم رمت كائن ما أوليت مجتهداً ... فما استطعت لنور الله كتمانا أنت الذي كلّ ما في الكون مظهره ... حقاً أقيم على ما قلت برهانا وأنت ... في موله فلا عجب ... إن فات إدراك نور الشمس عميانا خفيت لبساً على أهل الرقاد كما ... ظهرت كشفاً لمن يلقاك يقظانا مصداق قولي أن قد صرت محتجباً ... في عزنا وكفاني ذاك عنوانا أنت الذي لم ينل ما نلته أحد ... ولا أحاشى من الأشياخ إنسانا أنت الذي من حفت يمناك بعد رضى ... يمناه ألبسته يمناً وإيمانا

أنت الذي من رأى مغناك واحده ... لم يخش الدهر إملاقاً وخسرانا منحتها ليلاً إسعافاً لطالبنا ... بما يروم وعفواً عن خطايانا ألبستنا وصف عزّ لا نفاد له ... فأصبح الدهر يرجونا ويخشانا أحللتنا حيث لا ترمى لمرتفع ... إذ صرت.... برّاً وترعانا ولا يزال الذي غلا بنا أبداً ... يعمّ بالفضل أقصانا وأدنانا فالوقت يسعدنا والوصل يسعفنا ... والسمع والراح والألحان تهوانا والمجد يصحبنا والعز يخطبنا ... وموجد الكلّ يرضينا ويرضانا والعلم والكشف والأحوال أجمعها ... لمن يؤصلنا أدنى عطايانا وكل عارفة من فيض أنعمنا ... وكل فضل يعار من سجايانا فمن يفاخرنا أو من يساجلنا ... قد قلّ أكفاءنا قصرت مولانا وتاه والحق لا يخفى لوائحه ... على أئمة هذا الشأن أدنانا مكاشفون بأسرار الوجود يرى ... في كل كائنة في الكون معنانا ونحن فرسان بيد القصد يقطعها ... عسفاً ويقبلها خيراً مطايانا أنت الذي جئت عرض البيد معتسفاً ... إليك أحمل أشواقاً وأحزانا وكيف لا يعسف الأخطار في مهل ... وأنت قائد مرآنا ومغدانا يا واحد كلّ ما نلناه موهبة ... من فضله أنت محياها ومحيانا رجاك لم تبق أشواقي على أذىً ... وهل يطيق النهي للشوق سلطانا

أم هل يلام محب فيك مصطبح ... خمر المحبة إن وافاك سكرانا قدمت نفسي علىأن لست ما قدمت ... ...بين يدي نجواك قربانا فاغفر لجرمي وهب لي العفو عن زللي ... عما أتيت فقد فارقت طغيانا أهوى المقام بجسمي في حماك كما ... معناي فيه فألقى منك حرمانا ولي علائق آمال حضائضها ... السبع العلى وأعالي برج كيوانا فارحم فتى في انتهاء الأوج همته ... قد أكرمته بقايا الحظ نقصانا حتام أطوى الفلا عسفاً على قدم ... تحدىإذا احمرت الرمضاء صوانا أخوض لجّ سراب القفر ذا ظما ... مود وأطوي ملاء البيد طيانا ولا يراح فؤادي عن مفارقتي ... داراً وأهلاً وأحباباً وجيرانا طوراً أرى لسفين البحر ممتشطاً ... إذ يرعش الرعيب ثوبنا وربّانا وتارة يرتمي في كل مقفرة ... يهماء يستوقف الحريب حيرانا أرخى قلائص عزم لا يعجن على ... ورود صدىً ولا يرعين سعدانا كأنما أخذت أيدي الخطوب على ... عزمي بذرع بساط الأرض إيمانا فتم إغرابي أسعى في اكتساب على ... أمر هل يشهد أمصاراً وبلدانا أم هل لأطلب لا مهدي سواك إذاً ... فلا برحت عميد القلب حيرانا حاشاي أرضى وقد وجدت حبك أن ... أشرك بحبك أنصاباً وأوثانا أوردتني لجة البحر الخضيم فهل ... أرضى لوردي أنهاراً وخلجانا

لولاك لم أشم لبرق الشآم ولم ... أودّ بالمنحنى أثلاً ولا بانا ولا تمنيت من بطحاء خيف منى ... حزن الديار الذي غربي نجرانا ولم يبق لي في نوى نعماك من أمل ... ففيم أستوثق الركبان نشدانا الكلّ أنت وبرّ الأرض أجمعها ... وكأس فضلك لا يجتاز حمانا فهب لتفرقتي جمعاً أعيش بها ... حباً لديك وهب لي منك رضوانا أنت السلام فإن يهدي السلام إلى ... مهدي السلام مجازا صار مهدانا كان نجم الدين، ناظم هذا القطع لا شك في جودة شعره ومعرفته بالأدب، لكنه أطلق لسانه في هذه القصيدة النونية بما ينبو عنه السمع، ورده الشرع، ولا يحتمل التأويل. والعجب أن مدحه بما لا ينبغي في حق بشر، ثم قال: مصداق قولي أن قد صرت محتجباً ... في عزنا وكفاني ذاك عنوانا وكان الشيخ عليّ الممدوح - رحمه الله تعالى - صاحب دمشق في ذلك الوقت بحصن عزتا قريب وادي بردا وبقي محبوساً به مدة سنين، فجعل الدليل على صحة ما ذكره من الصفات العظيمة المنسوبة إلى حبسه، وهذا في غاية التناقض والقبح، والعجب منه كونه خفي عنه ذلك، وإنه استشهاد ساقط لا مناسبة له ولا في غير هذه القصيدة ألفاظه ينقد عليه فيها غير أنها محتملة لها تأويل يحمل عليه، وكان مع هذه المبالغة يقول عنه، إذا ذكره صاحبنا كأنه يترفع أن يقول شيخنا ماذا قيل له في ذلك يقول: شيخي شهاب الدين السهروردي وإنما الشيخ صحبته بعد ذلك مدة زمانية إلى حين وفاته، هذا سمع منه وما هو في معناه غير مرة في آخر عمره - رحمه الله أجمعين.

محمد بن عبد القادر بن عبد الكريم بن عطايا أبو عبد الله شرف الدين القرشي الزمري المصري الشافعي الفقيه العدل. كان من أعيان المصريين وهو ناظر الخزانة بالديار المصرية، وكان عنده ديانة وافرة وعبادة وتعاني الرياضة والمجاهدة، والذكر، ومحبة الفقراء وبرّهم ومخالطتهم، فتوفي في هذه السنة ودفن بالقرافة الصغرى، وقد نيف على ثمانين سنة - رحمه الله تعالى. محمد بن عربشاه بن أبي بكر أبو عبد الله ناصر الدين الهمداني الدمشقي. كان رجلاً فاضلاً له معرفة بالحديث، سمع الكثير على مشائخ عصره، واسمع وكتب من كتب الحديث شيئاً كثيراً، وكان متقناً متفنّناً محرراً لما يكتبه. كتب صحيح البخاري في ثلاث مجلدات، وقابلها، وحررها، وسمعها على المشائخ، وصارت من الأصول المعتمد عليها بعد وفاته إلى الشيخ علاء الدين علي بن غانم - أعزه الله - فوقفها بدار الحديث المعيدية ببعلبك المحروسة على الشرط المكتوب بخطه عليها. وكانت وفاة ناصر الدين المذكور يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن يوسف بن شاهنشاه المنعوت بالتاج المعروف بابن المصري. كان فاضلاً، صنف تاريخاً للقضاة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر المحرم بمصر، ودفن بسفح المقطم - رحمه الله. محمد بن محمد بن بيدار أبو الثناء عز الدين المعروف بابن النوري. كان فقيهاً فاضلاً، دمث الأخلاق، عنده كرم وسعة صدر، واحتمال، وحسن

عشرة، وحسن المحاضرة، ناب عن القاضي صدر الدين ببعلبك مدة طويلة إلى حين وفاة صدر الدين، فتولى الحكم بعجلون وغيرها، وتوفي ببعض بلاد الاسماعيلية، وقد تولى الحكم بها بحصن الكريف وهو في عشر الثمانين - رحمه الله تعالى. أبو بكر بن عبد الله بن مسعود جمال الدين اليزدي البغدادي التاجر المقيم بدمشق. يعرف بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي - رحمه الله - إذ كان نائب السلطنة بالشام المحروس، فولاه نظر الجامع الأموي، والمارستان النوري، والخوانك بدمشق، وجعله شيخ الشيوخ، ورفع من قدره فبقي على ذلك مدة. وفي مباشرته للجامع أذهب رؤوس العمد ورخّم الحائط الشمالي، وأعجله العزل فلم يتمه، وأصلح كثيراً من المواضع المتشعثة. وكذلك فعل في غيره، وكان عنده نهضة في ذلك، ثم صرف بعد عزل الأمير جمال الدين وسفره إلى الديار المصرية، وغرم مبلغاً، ولزم بيته إلى أن توفي ليلة الخميس سابع صفر، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، وهو في عشر الثمانين - رحمه الله تعالى. أبو القاسم بن الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحنبلي الفقيه على مذهب الشيعة. كان إماماً يقتدى به في مذهبهم، ويرجع إلى قوله عندهم، وعنده فضيلة ومشاركة في علوم شتى، وحسن عشرة، ومحاضرة بالأشعار والحكايات والنوادر، رافقته من ظاهر بعلبك إلى ظاهر دمشق فوجدته نعم الرجل، يقوم كثيراً من الليل في السفر على صعبه، وصار بيني وبينه إنسة شديدة، وكانت وفاته ليلة الاثنين نصف شعبان بقرية جزين،

وبها دفن في المجلس الذي كان يجلس فيه بداره، وجدت بخط الفقيه شمس الدين محمد الأنصاري المقيم بنحوسية ما كتب به إلى أن وفاة المذكور كانت ليلة الاثنين سادس عشر شعبان سنة سبع وسبعين وستمائة، ومولده في سنة إحدى وثمانين وخمس مائة، ورثاه الفقيه جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي بقوله: عرس بجزين يا مستعبد النجف ... ففضل من حلها يا صاح غير خفي نور ثوى في ثراها فاستنار به ... وأصبح الترب فيها معدن الشرف نجل الحسين الذي فاق العلى شرفا ... وطود علم هوى من حيرة السلف حتى إذا عبثت أيدي المنون به ... فأوردته سريعاً مورد التلف لا تلزموني وإن خفتم على كبدي ... صبراً ولو أنها ذابت من الكهف لمثل يومك كان الدمع مدخراً ... بالله يا مقلتي سحي لا تقف لا تحسبن جود عيني بالبكا سرفا ... بل سحّ عيني محسوب من السرف سارى مصابك بين الناس في حزن ... كان يساق له قسط من الأسف ما زلت تهدي لهم ما عشت مجتهداً ... نوراً فما لك من فضل لمعترف فأظلمت بعدك الأيام قاطبة ... لما اعترى شمسها خطب من الكسف وقد يبقى لنا من بعده خلف ... يا حبذا لك من أصل ومن خلف كأنهم حين طافوا حول تربته ... بدور تم بدت من مطلع السدف صلى الإله على ترب تضمنه ... لقد تبوأ أنواعاً من التحف

ترب تناكره الآمال زائرة ... من وارد نحوه يهوى ومنصرف ولما بلغت هذه الأبيات جمال الدين محمد بن يحيى بن مبارك بن مقبل الغساني الحمصي قال: لقد تجاوز حل الكفر والسحب ... من قاس مقبرة ابن العود بالتحف ما راقب الله أن يرمي بصاعقة ... من السموات أو يهوي بمنسخف واعجب بجزين ما ساحت بساكنها ... مجاهل لعظيم الوزر مقترف وقد تحيرت فيما فاه من سفه ... ومن ضلال وإلحاد ومن سرف أتيت ويك يقول لا يفارقه ... مقال مفترش الحراء ملتحف جهلت مقدار ما فاقت فضائله ... على النبيين والأملاك في الصحف وقال ما ازددت إتقاناً ولو كشف ... الغطاء ورفع مسدول من السجف وما أنت إلا كمن قد قاس منطقه ... البيت المحرم ذا الأستار بالكنف ولا أقول لمن قاست جهالته ... الدر الثمين بمكسور من الخزف أو من يقيس الجبال الشامخات بمن ... حط الحضيض وعرف المسك للجيف أو من يقيس النجوم الزاهرات إذا ... سمت إلى أوجها والسعد بالحرف ودون ذا قست نفسي قول مبتهج ... أراه فوق محلي غير ذي أنف إني وكيف ومن أين القياس إلى ... ضوء الذي كان للرب الودود صفي هو الذي شرفت رجلاه إذ علتا ... كيف البناء فبالله من شرف وكان وعده خوض الحروب وقد ... ألقاه فيها بحمد الله حدّ وفيّ

وأي ما بطل لاقاه في رهج ... عنه تولى جباناً غير منتصف أم أي ما.. قد حل في يده ... ما راح منقصفاً في صدر مقتصف يعان طعن المولّى عنه مزدلفاً ... وليس يطعن غير المقبل الدلف ليوم صفين نجا عمرو حين هوى ... عن الجواد بدبر منه منكشف وكان إن زاد فقر ومسكنة ... يحنو عليه حنوّ الوالد الترف وهو الذي إذا دعى يوماً إليها سما ... الأنام من منكر منهم ومعترف فتب إلى الله وأسرع وابتهل لعسى ... تنال منه الرضى في عرصة النجف ولم أوقك ما استوجبت من فزع ... ولست أجمع سوء الكيل والخشف وما أردت بهذا العض من رجل ... بمثله خلف من غابر السلف ما كان مجرىً له إلا ليقطع عن ... تكفير أهل التقى والدين والصلف وإن عتبت عليه وهو يسمعني ... لقد بكيت عليه وهو في الحذف ومن يكن بينا من أخيه يبحث عن ... التنازع في الأموال والتحف وكان صاحبنا بالأمس في حلب ... صدقاً وكنت به بالله حدّ خفي كم مجلس جمعتنا فيه مسألته ... ثم افترقنا بشمل غير مؤتلف وكان يحملني طوراً وأحمله ... طوراً وأكرمه بالبرّ واللطف فلا عدت قبره في رحمة سمحت ... تجود تربته بالوابل الذرف ما كان إلا كمصباح أضاء وخبا ... صاف ذبالته ما عاش ثم طفى

وقد أتيت بها شنعاء منكرة ... في أخريات القوافي بغتة السلف وكان من خلفه عن نفيه عوضاً ... لو كنت تفرّق بين الباء والألف وإن حملتم على ما قلته غرضي ... فقد يحام من الحنيّ إلى كنفي وإن ظننتم بي السوء فلست إذا ... أرضيت جيرة الهادي بذي أسف وقال الجمال إبراهيم المذكور المشار إليه يرثي نجيب الدين المشار إليه بقول: جد بالدموع فلست تلقى مثله ... خطباً فتدّخر الدموع لأجله لا تلجأن إلى التصبر إنما ... كان التصبر ملجأ من قبله تبغي السلوّ به وتلك شريعة ... نخت وغير حكمها من أصله هذا نجيب الدين أصبح ثاوياً ... في لحده منفرداً من أهله مات الهدي وتهدمت أركانه ... إذ مات واندرست معالم فضله فالآن قد طاب البكاء ولذّ لي ... ما كنت أحرس مقلتي من مثله فلأبكينك ما حييت بكاء من ... قرحت حشاشته بحرقة ثكله متسربلاً جلباب حزن لم يزل ... ولهان لم يحفل بوافر عدله من للضعيف أتاك مقتبساً هدىً ... يشكو العناية هارباً من جهله حتى إذا ما حلّ ربعك غلّة ... في ريقه فأرحته من غله من للدروس مبيناً أشكالها ... تبدو غوامضها بواضح فضله ما زلت للدين الحنيف مكابداً ... حتى استبان حرامه من حلّه فجزيت خيراً من إمام عصابة ... وضح السبيل بقوله وبفعله

جعلوك سبلهم إلى باريهم ... فأريتهم حقاً معالم سبله ومقسماً لحظاته ما بينهم ... كل يرى ما يرضى من عدله ومراقباً حال الضعيف معاهداً ... لا يزدريه لضعفه ولعلّه جعلوك ظهرهم فكلّ منهم ... يرجو قواك بأن تقوم بحمله فازت مصابيح الهداية بعد ما ... ركض الضلال بخيله ورجله فالآن قد صار الزمان جميعه ... ليلاً يحير في يسير بطله كذباً يموت صبابة في شؤمه ... لولاه لترجى في أفاضل نسله حاشى علاه أن يموت وإنما ... علم الإله نعيمه في نقله ودّت قلوب العارفين بأنها ... دون التراب مجله لمحله صلى الإله على قرى حلب ... صلواته من فرضه ونفله كلاّ ولا برح الغمام مداوماً ... يهمى عليه بطلّه وبوبله وحكى لي أن الشيخ النجيب - رحمه الله - لما كان بحلب كان يكشر غشيان السيد عز الدين المرتضى رحمه الله نقيب الأشراف، وكان من سادات الأشراف، له رياسة، وجلالة، وديانة، وفضيلة، وعظم محل، فاسترسل مع الشيخ النجيب يوماً، وذكر أبا بكر الصديق، وعمر، وعثمان - رضوان الله عليهم - بما نبى عنه سمع المرتضى وأكبره، فأمر بالشيخ النجيب فجرّ من بين يديه وركب حماراً مقلوباً، وطيف به شوارع حلب وأسواقها،

وهو يضرب بالدرة، فعظم محل المرتضى في صدور الناس، وتحققوا ماكان ينطوي عليه من حب الصحابة - رضي الله عنهم - ومعرفته بمحلهم، وكان ذلك من آكد أسباب انتقال الشيخ النجيب عن حلب، وعمل في هذه الوقعة أشعار كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها، وكان هذا الشريف عز الدين له المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز - رحمه الله تعالى - ويحضر عز الدين محمد بن القيسراني - رحمه الله تعالى - المقدم ذكره في هذا الكتاب سنة ست وخمسين فيروم للترفع على المرتضى، فيتمعض المرتضى من ذلك، ويشق عليه، فلما كان في بعض الأيام حضر مجلس الملك العزيز أحفل ما كان، فسلك عز الدين ابن القيسراني ذلك، وقعد أعلى منه قال عز الدين المرتضى للسلطان: يا مولانا هذا يقعد أعلى منّي، وأنا رجل شريف من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، وجدّي علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - وفي أحد أجدادي يقول أبو العلاء ابن سليمان المعري: يا ابن مستعرض الصفوف ببدر ... ومبيد الجموع من غطفان أحد الخمسة الذين هم الأغ ... راض في كل منطق والمعاني والشخوص الذين خلقن طيباً ... قبل خلق المريخ والميزان وقبل أن تخلق السموات أو تؤ ... مر أفلاكهن بالدوران

وفي جدّ هذا يقول ابن منير الطرابلسي: أتراني أكلت جور عيالي ... مثل ما كان يفعل القيسراني أو.. الفلوس من خالد ... أنى قادت عليه أمّ سنان فخجل ابن القيسراني، وأمر السلطان أن لا يترفع على الشريف في مجلس. والأبيات الأولى من قصيدة طويلة مدح بها أبو العلاء الشريف أبا إبراهيم محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو جدّ النقيب عز الدين، مجيباً له عن أبيات نظمها الشريف أبو إبراهيم المذكور، وسيرها إلى أبي العلاء يقول: غير مستحسن وصال الغواني ... لابن ستين حجة وثمان وكان الشريف أبو إبراهيم محمد بن أحمد يعرف بالحراني، وهو من سادات أهل بيته في عصره، وبينه وبين أبي العلاء مكاتبات، ومراسلات، وهو معدود من الفضلاء - رحمه الله، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة. وأما ابن القيسراني الشاعر، فذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله تعالى - في وفيات الأعيان ونسبته فقال هو أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير بن داغر بن نصر بن داعر

بن محمد بن خالد بن نصر بن داغر بن عبد الرحمن بن المهاجر بن خالد بن الوليد، المخزومي، الخالدي، الحلبي، الملقب شرف الدين أبو المعالي عدة الدين المعروف بابن القيسراني، ولد سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعكاً وتوفي ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمدينة دمشق، ودفن من الغد بمقبرة باب الفراديس - رحمه الله - هكذا ذكر بعض حفدته في نسبه، وأكثر المؤرخين وعلماء النسب يقولون: إن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يتصل نسبه، بل انقطع من زمان، والله أعلم. والقيسراني نسبة إلى قيسارية. بليدة بالشام على ساحل البحر. وذكر أيضاً ابن منير في الوفيات وهو أبو الحسين أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسي، الملقب مهذب الدين، عين الزمان، الشاعر المشهور، وكان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات، وأجوبة، ومهاجاة، وكانا مقيمين بحلب، ومتنافسين في صناعتهما، ومولد ابن منير سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بحلب، ودفن في جبل جوشن بقرب المشهد الذي هناك، وقيل إنه توفي بدمشق، ونقل إلى حلب فدفن بها - والله أعلم - انتهى كلام قاضي القضاة رحمه الله. وعز الدين هو أبو حامد محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن نصير بن داغر رحمه الله، وقد تقدم ذكره في هذا الكتاب، والشريف عز الدين فهو أبو الفتوح المرتضى بن أبي طالب أحمد بن محمد بن جعفر

بن أبي إبراهيم محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. توفي عز الدين بحلب فجاءة ليلة السادس عشر منشهر شوال سنة ثلاث وخمسين وستمائة، ودفن بعد ثلاثة أيام بجبل جوشن، ومولده سنة تسع وسبعين وخمسمائة بحلب، سمع من ابن النقيب أبي علي محمد بن أسعد النسابة والشريف أبي هاشم بن الفضل الهاشمي والشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان والقاضي أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم وغيرهم - رحمهم الله تعالى.

السنة الثامنة والسبعون وستمائة

//بسم الله الرحمن الرحيم السنة الثامنة والسبعون وستمائة استهلت هذه السنة يوم الأحد، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية والملك السعيد بدمشق ففي شهر المحرم منها ترتب بدمشق حاكم مالكي المذهب بعد خلوها منه مدة، فإن الشيخ زين الدين الزواوي رحمه الله كان يباشر الاحكام بها ثم استعفى فأعفى. وفي العشر الأوسط من ربيع الأول وقع بين المماليك الخاصكية الملازمين بخدمة السعيد عن تلاقي ذلك، وخرج عن طاعته سيف الدين كوكندك الظاهري نائب السلطنة بالمماليك، ومقدم العساكر مغاضباً له،

ومعه أربعمائة من الظاهرية، منهم جماعة كثيرة أمراء مشهورين بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيفة في نظرة العساكر التي ببلاد سيس. ففي العشر الآخر منه عادت العساكر إلى جهة دمشق من بلاد سيس، فنزلوا بمرج عذراء إلى القصير، وكان قد اتصل بهم سيف الدين كوكندك ومن معه ولم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد في معنى الخلف الذي حصل، وكان كوكندك مائلاً إلى البيسرى، ولما اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الالفي، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمراء الكبار، وأوحى إليهم ما غلت صدورهم، وخوفهم من الخاصكية، وعرفهم أن نيتهم له غير جميلة، وأن الملك السعيد موافق لهم على ذلك، وكثر من القول المختلق بما يعديهم وينفرهم، وكان من جملة ما اقترح الأمراء الكبار على الملك السعيد إبعاد الخاصكية عنه وتفرقهم، وأن لايكون لهم في الدولة والتدبير حديث، بل يكون على ذلك أخيارهم ووظائفهم مقيمين فلم يجب الملك السعيد إلى ذلك، ولا اقدر عليه، اتوه شوكتهم، واجتماع كلمتهم. فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة سحوراء بأسرهم، ولم يعبروا على المدينة، بل جعلوا طريقهم من المرج، وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرسل تتردد إليهم، وبينهم وبين الملك السعيد؛ ثم رحلوا من هناك، ونزلوا بمرج الصفر، وعند رحيلهم رجع الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام، وأكثر عسكر دمشق، ودخلوا البلد من وقتهم في طاعة الملك السعيد. وفي رحيلهم إلى مرج الصفر سير الملك السعيد والدته

ابنة بركة خان في محفة، وفي خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر الأشقر فإنه كان مقيماً عند الملك السعيد بدمشق، لم يتوجه إلى بلاد سيس، ولحقوا العسكر، فلما سمعوا بوصولها، خرج الأمراء الأكابر المقدمون لملتقاها، وقبلوا الأرض أمام المحفة وبسطوا العتابى وغيره تحت حوافر البغال كما جرت العادة، فلما استقرت بالمنزلة تحدثت معهم في الصلح، والانقياد، واجتماع الكلمة فذكروا ما بلغهم من تغريبة الملك السعيد فيهم، وموافقته الخاصكية على ما يرمونه من ابعادهم، وامساكهم وغير ذلك، فحلفت لهم على بطلان ما نقل إليهم من ذلك، وعدم صحته فاشترطوا شروطاً كثيرة ألزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها، وعرفته الصورة، فمنعه من حوله من الخاصكية من الدخول تحت تلك الشروط، وقالوا له: ما القصد إلا إبعادنا عنك ليتمكنوا منك، وينزعوك من الملك فأبى قبول تلك الشروط، فرحل العسكر من مرج الصفر قاصداً إلى الديار المصرية، فخرج الملك السعيد بنفسه جريدة، وساق في طلب اللحاق بهم، ويلاقي الأمراء في معناهم إلى أن بلغ رأس الماء، فوجدهم قد عبروه وبعدوا، فعاد من يومه، ودخل قلعة دمشق في الليل، وذلك ليلة الخميس سلخ ربيع الأول. وفي يوم الجمعة بعد الصلاة مستهل ربيع الآخر، خرج الملك السعيد بجميع من يخلف عنده من العساكر المصرية والشاميين إلى جهة الديار المصرية في طلب العساكر المتقدمة، وجهز والدته وخزانته إلى الكرك،

ووصل الملك السعيد بلبيس يوم الجمعة خامس عشرة فوجد العسكر المتقدم ذكره قد سبقه إلى القاهرة، فلما رحل من بلبيس بعد العصر من النهار المذكور فارقه الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، وصحبته أكثر أمراء دمشق. وفي ربيع الأول وربيع الآخر من هذه السنة جرى بين صاحب طرابلس وصاحب جبيل والداوية اختلاف، وأغار بعضهم على بلد بعض، وقتل بينهم جماعة كثيرة، وكذلك التتار اختلفوا، وقتل بينهم ما لا يحصى عدده إلا الله. وفي داخل البحر اختلفت الفرنج وقتل بينهم خلق كثير. واختلفوا في عكا، والكرج، وفي سائر الأطراف، واختلفوا في العراق واختلف العرب، والقبائل والفلاحون؛ وقتل بين هذه الطوائف خلق كثير. وأما الملك السعيد فوصل بمن معه إلى ظاهر قلعة الجبل، ونائبه بها وبالديار المصرية الأمير عز الدين ايبك الأفرم. وهو بالقلعة فوجد العساكر محدقة بها فحصل بينهم مقاتلة يسيرة، وكان الذين مع الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من في مقاتلته فحمل الأمير علم الدين سنجر الحلبي بدمشق، وشق الأطلاب، ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن قتل الفريقين نفر يسير. فلما استقر بها، ورفع علمه عليها انضاف جميع من بقي ظاهر القلعة ممن كان معه اليهم، وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بقي في المطر لم يدخل معه إلى القلعة، ولا انضاف إلى العسكر المباين له، وأحاطت العساكر بالقلعة، وضايقوها، وقطعوا الماء الذي يطلع إليها في المرارات عنها

ورجعوا إليها وجدوا في ذلك السعيد يخلى من كان يرجو نصره عنه، وتخاذل من بقي من الخاصكية، وأنه لا طاقة له بهم، وكان المشار إليه في هذه الأمور والمخاطب إنما هو الأمير سيف الدين قلاوون فجرت المراسلات بأنهم ينصبوا في السلطنة أخاه بدر الدين سلامش، ويعطون للملك السعيد وأخيه نجم الدين خضر الحلبي، الكرك، والشوبك، واعمالها فسير الأمير علم الدين سنجر الحلبي والمولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمهما الله تعالى إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق منهم فحلفوا له على الوفاء بما التزموه. ونزل من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر الشهر المذكور إلى دار العدل التي على باب القلعة. وكانت مركز الأمير سيف الدين قلاوون حال المضايقة للقلعة فلما نزل حضر أعيان الأمراء والقضاة والمفتيين وخلعوه من السلطنة، ورتبوا مكانه أخاه لأبيه بدر الدين سلامش ونعتوه بالملك العادل، وتقدير عمره يوم ذاك سبع سنين، وجعلوا اتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي، وهو حمو الملك السعيد، وحلف الأمراء، والعسكر له، ولأتابكه بعده في اليمين وضربت السكة أحد الوجهين باسم العادل، والآخر باسم اتابكه، وذكر الاتابك في الخطبة، ودعى له على المنابر، واستقر الأمر على هذه الصورة، وتصرف الاتابك في المملكة والعساكر، والخزائن، وعامله الأمراء، وجميع الجيش بما يعاملون به السلطان وعمل بخلع الملك السعيد مكتوب شرعي متصل باستفتاء، ووضع الأمراء خطوطهم، وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتيون، والقضاة، وجعلوا نسخاً

عدة وعوضوا الملك السعيد الكرك، وعملها، وأعطوا أخاه نجم الدين خضر الشوبك وعملها. وفي ليلة الاثنين ثامن عشرة خرج الملك السعيد إلى بركة الحجاج ونزل بها متوجهاً إلى الكرك، ومعه جماعة من العسكر، صورة ترسيم مقدمهم سيف الدين بيدغان الركني ثم أعيد إلى القلعة نهار الاثنين لأمر أرادوه وقدروه، ثم توجه ليلة الثلاثاء إلى الكرك بمن معه فوصلوها يوم الاثنين خامس عشرين منه، ودخلوها، وتسلم أخوه الأمير نجم الدين خضر الشوبك وكان بيدغان، ومن معه قد فارقه من غزة، ورجع إلى الديار المصرية. وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر فإنه اجتمع بخشداشيته الاتابك سيف الدين قلاوون وصار في جملته. وأما الأمير عز الدين ايدمر فإنه وصل بمن معه إلى ظاهر دمشق يوم الأحد مستهل جمادى الأولى فخرج لملتقاهم من كان تخلف بدمشق من الأمراء والجند، والمقدم عليهم، والمشار إليه فيهم الأمير جمال الدين اقوش الشمسي فلما وصلوا إلى مصلى العيد بقصر حجاج، احتاط بالأمير عز الدين ايدمر الأمير جمال الدين الشمسي، والأمراء الذين معه، وأخذوه بينهم، وفصلوه عن العسكر الذي حضروا معه، ودخلوا به من باب الجابية، وحملوه إلى الدار المعروفة باستاد دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بقرب ماذنة فيروز، واستمروا عليه بها إلى آخر النهار ثم نقلوه إلى قلعة دمشق تحت الحوطة، واعتقلوه بها، وكان الملك السعيد لما خرج من قلعة دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، سلمها إلى

الأمير علم الدين سنجر الدواداري، وجعله النائب عنه بالبلد وبها، فاستمر الحال على هذه الغاية، ولما اعتقلوه طلبوا التضييق عليه، فلم يوافق الأمير علم الدين على ذلك، ثم طلبوه منه فلم يسلمه إليهم، وقال: أنتم حبستموه بيد الاتابك وهو في حبسه لا أسلمه إلا بأمره ودفعهم بذلك. وفي العشر الأوسط منه وصل إلى دمشق من الديار المصرية جمال الدين اقوش الباخلي، وشمس الدين سنقر حاالكجي، وعلى ايديهما نسخة الأيمان بالصورة التي استقر الحال عليها بمصر، وأحضروا الأمراء والجند والقضاة والعلماء وأكابر البلد للحلف، وكان مع القادمين من الديار المصرية نسخة بالمكتوب المتضمن خلع الملك السعيد وكتبه إلى الأمراء وغيرهم من الاتابك بصورة الحال فقرئ ذلك على الناس، وحلفوا واستمر التحليف أياماً. وفي هذا الشهر عزل قضاة الديار المصرية الثلاثة دفعة واحدة، وهم تقي الدين محمد بن رزين، ونفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي؛ وباشر الأحكام عوض تقي الدين القاضي صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز. وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة صار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق نائب السلطنة بها وبأعمالها وما أضيف إليها من البلاد، ومعه جماعة من الأمراء والعسكر خرجوا في خدمته من القاهرة، فخرج الناس من الشام لتلقيه احتفالاً عظيماً وعاملوه قريباً من معاملة الملوك،

ونزل بدار السعادة، وكانت له بسطة عظيمة في الخزائن والقلاع والعساكر والأموال خلاف من تقدمه، وتقدم عند وصوله إلى الأمير علم الدين الدواداري بالنزول من القلعة فنزل إلى داره، وأقام بها مباشراً لتنفيذ الأشغال، وتدبير الأحوال، وشد الدواوين وبدار المملكة بأسرها عليه، وقرأ تقليد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بمقصورة الخطابة عقيب الفراغ من الجمعة، وحضروا أعيان الدولة، ولم يحضر هو قراءته. وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رجب اجتمع الأمراء والأعيان بقلعة الجبل من الديار المصرية، وخلعوا الملك العادل بدر الدين سلامش بن الملك الظاهر من السلطنة ورتب عوضه اتابكه سيف الدين قلاوون الصالحي ونعت بالملك المنصور، وحلفوا له بأسرهم، ولم يكن لسلامش في مدة سلطنته غير الاسم وكان السبب في توليته أولاً تسكين ثورة الظاهرية، فإنهم كانوا معظم عسكر الديار المصرية، وأيضاً فكانت بعض القلاع في نواب الملك السعيد فأرادوا استنزالهم منها، فلما تم معظم المقصود خلعوه واستقل الملك المنصور بالسلطنة، ووصلت البرد إلى دمشق يوم الأحد سادس وعشرين منه، ومعهم نسخة يمين لتحليف الأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الرعايا فأحضروا إلى دار السعادة بدمشق، وحلفوا، وقيل أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف، ولم يرضه ما جرى. وفي يوم الجمعة ثاني شعبان خطب الملك المنصور سيف الدين قلاوون

بجامع دمشق، وجوامع الشام بأسرها، خلا مواضع يسيرة جداً توقفوا ثم خطبوا بعد ذلك، وكان الكتاب الوارد من الملك المنصور على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمه الله وفيه: " لا زالت أيامه عجابها. تهتنى وترى من النصر ما كانت تتمنى. ويتأمل آثارها. فيملأها حسناً. ويشاهد من أمائر الظفر ما يوسع العباد أمناً. ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك الذي أولى كلاً منا مناً. المملوك يهدي من لطيف أنبائه، ووظائف دعائه. وما استقر من عوارف الله لديه. وما جناه من النعم التي ملأت يديه ما يستروح به، ويستفتح لسان الحمد بتقديمه، ويزداد به مسرة نفسه ابتهاجاً وتزدان به عقود السعود، وإنما تزين انسلاك في العقود ازدواجها، ويقوى به قوى الغرائم وبمثله الأعدء في أوكارها. فيكاد يتجرد ذيول الهزائم. وتبعث الآمال على تمسكها بالنصر، ويظهر منه المحاب التي لو قصدت الأقلام بحصرها، لعجزت عن الحصر، وهو أن العلم الكريم قد أحاط بالصورة التي استقرت من دخول الناس في طاعة المملوك، واجتماع الكلمة عليه، واستقلاله بأمر السلطنة المعظمة ". ولما كان يوم السبت الثالث من شعبان المبارك سنة ثمان وسبعين وستمائة ركب المملوك بشعار السلطنة وأبهة المملكة، وسلك المجالس العالية والأمراء الأكابر، والمقدمون، والمفاردة والعساكر المنصورة من آداب الخدمة، واخلاص النية، وحسن الطاعة كل ما دل على انتظام الأمر واتساق عقد النصر، ولما قضينا من أمر الركوب وطراً وأنجزنا

الأولياء وعداً من السعادة منتظراً، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة والأيدي بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا محترمة، والآمال قد توسعت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرق من التأييد مطلع أنواره، وشرعنا من الآن في أسباب الجهاد، وأخذنا في كل ما يؤذن ان شاء الله تعالى بفتح ما في أيدي العدو من البلاد، ولم يبق إلا أن نثنى الأعنة ونسدد الأسنة. ونظهر ما في النفوس من مضمرات المقاصد المسكنة، والمولى أدام الله نصرته يأخذ بحظه من هذه المسرة، وهذه المواهب التي ظهرت منها خفايا الاقبال المستسرة، ويتقدم بأن يزين دمشق المحروسة، ويضرب البشائر في البلاد. وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله يجعل أوقاته بالتهاني مفتتحة، وبشكر مساعيه التي ما زالت في كل موقف ممتدحة إن شاء الله تعالى. وفي السادس والعشرين من شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السنجاري عن الوزارة بالديار المصرية، ولزم مدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين بالقرافة الصغرى، ورتب مكانه في الوزارة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الانشاء الشريف. وفي يوم الخميس حادي عشر ذى القعدة توفي بالكرك الملك السعيد رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي يوم الثلاثاء سادس عشرة حمل الأمير عز الدين ايدمر الظاهري

من قلعة دمشق في محفة إلى الديار المصرية لمرض لحقه في أطرافه منعه من الركوب بمرسوم ورد من هناك، وعند وصوله إلى الديار المصرية اعتقل بقلعة الجبل بالديار المصرية، وحضره الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهو لابس البياض، وحضرت القضاة والعلماء وأرباب الدولة والوعاظ والمقربون على ما جرت العادة. وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر، ومعه جماعة من الأمراء والجند، وهم رجالة وهو راكب وحده، وقصد القلعة من الباب الذي يلي المدينة فهجمها بمن كان معه راكباً، وجلس بها من ساعته، فحلف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن، ولقب بالملك الكامل. وفي آخر النهار المذكور نادت المنادية بالمدينة بسلطنته واستقلاله. وفي بكرة السبت خامس وعشرين منه طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد واكابره واعيانه إلى مسجدأبى الدرداء رضى الله عنه بقلعة دمشق، وحلف بقية الأمراء والعسكر. وفي يوم الأربعاء سبع وعشرين منه توجهت العساكر إلى غزة لحفظ البلاد ومنعها، ودفع من يتطرق إليها من الديار المصرية. وفي هذه السنة جدد في قبة النسر بجامع دمشق خمسة أضلاع من الجهة الغربية بشمال. وفيها تسلم نواب الملك المنصور سيف الدين قلاوون قلعة الشوبك من أربابها بالأمان، وهدموها، وذلك بعد أن حاصروها مدة، وكان

انتقل منها الأمير نجم الدين خضر إلى عند أخيه الملك السعيد إلى حصن الكرك قبل منازلة على الملك المنصور لها من حين أحس بقصدهم بها ولم يحصن نفسه فيها. وفيها توفى أحمد بن سلامة بن إبراهيم أبو العباس الحنبلي، وكان شيخاً صالحاً سمع الكثير، واسمع وروى بالاجازه من اصحاب الحداد وحدث بالكثير عن الكندي وغيره، واضر في آخر عمره، وكانت وفاته في عاشر المحرم، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. إسحاق بن إبراهيم بن يحيى صفي الدين الشقراوي الحنبلي الفقيه المحدث. مولده بشقراء من ضياع برزاء من عمل دمشق سنة خمس وست مائة، وتوفى بدمشق يوم السبت تاسع عشر ذى الحجة، ودفن بسفح قاسيون، وكان عالماً فاضلاً دمث الأخلاق عنده كرم وسعة صدر، وقوة نفس، سمع الكثير وحدث، وكان ثقة رحمه الله تعالى. اقوش بن عبد الله جمال الدين الركني المعروف بالبطاج. أحد أمراء دمشق، كان جرد مع العساكر إلى بلاد سيس، فتوجه صحبتهم، فلما عاد تمرض وتوفي بحلب يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول، ونقل إلى حمص، فدفن بظاهرها بالقرب من قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمة الله عليه. والركني نسبة إلى الأمير الكبير الذي لقى الفرنج بأرض غزة، وكسرهم الكسرة المشهورة، وكان من أعيان الأمراء، وله عدة مماليك يعرفون به، منهم الأمير عز الدين أبغان المعروف

بسم الموت، وعلاء الدين الركني الذي أضر في آخر عمره صاحب العمائر المشهورة بالقدس والخليل والحجاز الشريف وغيره رحمه الله تعالى. اقوش بن عبد الله جمال الدين الشهابي السلحدار. أحد أمراء دمشق الأعيان كان صحبة العسكر بسيس، فتمرض وانقطع بحماة، فتوفي بها في تاسع وعشرين ربيع الآخر، ونقل إلى دمشق، ودفن عند خشداشه علاء الدين ايدكين الشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الخادم الكبير الصالحي النجمي. بلبان بن عبد الله الأمير ناصر الدين النوفلي العزيزي. أحد أمراء دمشق، كان من أعيان العزيزية، وافر الديانة، كثير البر والخير، عنده حشمة ورياسة، ولين جانب، وحسن عشرة، وتواضع، ومحبة في الفقراء والعلماء، وكان صحبة العساكر بسيس، فلما عاد إلى حلب، تمرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى بها يوم الجمعة رابع وعشرين ربيع الأول وعمره خمس وستون سنة رحمه الله. والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الكبير رحمهم الله تعالى. حبق بن صون بن إيل الأمير جمال الدين. أحد أمراء دمشق، وتوفي بها ليلة الأحد سادس جمادى الآخرة، ودفن من الغد، وعمره مقدار خمسين سنة رحمه الله. ويقال أنه من أولاد صول التركي ملك جرجان الذي أسلم على يد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة لما حاصره بها، وأخذ بها منه، والله أعلم. عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين

أبو محمد عز الدين الأنصاري المقدسي المولد، المصري الدار والوفاة، الواعظ المشهور. كان شاباً فاضلاً عالماً، اشتغل أول عمره بالكتاب العزيز، ثم بالعلم، فحصلت له مشاركة جيدة، ثم بعد ذلك لازم كلام جده الشيخ غانم رحمه الله فانتفع به، وكان مبدأ شروعه في الواعظ أنه طلب منه مجلس تذكير في حال الخلوة ابن عمه أبو الحسن في حياة عمه الشيخ عبد الله فأطربه، وبلغ الشيخ عبد القادر ذلك فطلبه إليه، وسأله الجلوس، فجلس واشتهر وقصد لسماع كلامه لا عن قصد منه، ثم توجه إلى الديار المصرية، فطلب منه الجلوس بها فجلس وحصل له قبول، فأقام بالقاهرة، وبنى له زاوية وبالغ جماعة في الناس في الاحسان إليه، فأقام بالديار المصرية على كره لفراق والده وأهله، وعقد بها مجالس، وفتح عليه في ذلك، قيل: إنه كان يعمل خطب المواعيد ارتجالاً، ولا يثبت شيئاً يقوله، وكان يتردد إلى القدس لزيارة والده وأهله، ويتردد من القدس إلى دمشق فيجلس بها في الجامع الأموي، ويحضر مجلسه جماعة من العلماء والفضلاء والزهاد وغيرهم، ويستحسنون كلامه، وينتفعون به، وعمل بدمشق مجلساً في حدود السبعين والستمائة فارتجل فيه خطبة، أولها: " الحمد لله الذي ملأ الوجود جوداً وإحساناً. وأسبغ على كل موجود من سوابغ نعمه سراً وإعلاناً. وجعل السجود لقربان حضرته قرباناً. وأوفر القلوب بتحقيق شهوده اتقاناً. نور بصائر أوليائه، فشاهدوه بعين اليقين عياناً. كلما جليت عليهم صفاته، هاموا إليها ولهاناً. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم

إيماناً. زفت عليهم عروس محبته، فجعلوا النفوس عليها سكراناً. واستبدلوا من الملبوس أشجاناً وأحزاناً. ونثروا الدموع على الخدود فسالت غدرانها. فلما وثقوا العقود وحفظوا العهود، أعطوا من الصدود أماناً. فلو رأيتهم وقد جن عليهم الليل، لحسبتهم في ثياب الخشوع رهباناً. وفي مصابرة الولوع فرساناً. صفوا على سرير الصفا إخواناً. لا تجد فيهم خواناً. وأصبحوا في خلوة الوفاء ندماناً. لا تعرف فيهم ندماناً. نصبوا للنصب أشباحهم، ورفعوا للرعب نواحهم. وخفضوا من الرهب جباهم، وفيهم نائح باك، وصائح شاك. يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً. قد تجلى لهم الجليل، ونادى يا جبريل! أنم فلاناً وأقم فلانا. وقل يا طالبي وصلى هلموا ... فإنا لا نخيب من أتانا حمانا للذي نهواه رحيب ... إذا ما جاءنا يبغي لقانا يراق له شراب من وصال ... يمازجه رضاب من رضانا هوانا للذي نهوى نعيماً ... فلا كان الذي يهوى سوانا فلو كشفت الحجاب لعاشقينا ... وأيدينا الجمال لهم عيانا لهاموا عند رؤيتنا وطابوا ... وطاشوا من تخلينا زمانا ولكنا جعلنا الوصف سراً ... نصون بسره حسناً مصانا يا جبريل! أكحل بالنوم أجفان من جفانا. فإنا لا نرضى لهوانا. من رضى لنفسه هوانا. ولا يدخل إلى حمانا. إلا من وقف على أبوابنا زمانا. ولا يفوز

بلقانا. إلا من صرف وجهه تلقانا. فمن كان بالمحبة عنانا. أطلق في ميدان المحبة عنانا. ومن تفرد لهوانا. تجرد عمن سوانا. يا جبريل! ما ضر من فرقه الشوق ألوانا. إذا ما حشر تحت لوانا. ولا ضل من فتنة الوحد أفنانا. إذا ما انتهى إلى فنانا. يا جبريل! بعينا يعمل المتجملون سراً وإعلانا. وبسمعي ما لاقى المحبوب شيباً وشبانا. فمن بات بما قضيت له فرحانا. أهديت له روحاً وريحانا. ومن جعل قلبه لمحبتي ميدانا. ملأته عرفاً وعرفانا. ومن هجر في هواي أهلاً وأوطانا. أمنتهم عند لقائي صداً وهجرانا. ومن تحمل بالافتراق عصيانا. أنزلته بالاعتراف عفواً وغفرانا. ومن أبحته النظر إلى جمالي عيانا. فقد وجب الشكر عليه شكراً وسكرانا. قم يا نديمي فإن الوقت قد حانا ... واسمع إذا ما دخلت الخان ألحانا فثم ساقي الحميا في خصيرته ... يدنى إليك من الراووق نشوانا واتلوا المثانى ووجدان عزمت ... على ذكر الحبيب فحبي ذاك قرآنا وادخل إذا ما دخلت الخان منفرداً ... عن كل فرد وقف مسلوب عريانا وسلم فؤادك للخمار مرتهماً ... واخلع ذلوقك للندمان شكرانا وقل لمن كاس هات الكأس مصطحباً ... واسقني كي يراني الناس سكرانا ان ظمآن لا الورى على عذل ... نشوان ولهان ما بقيت حيرانا وقل لمن لا منى في حبها غلطاً ... قل ما تشاء فيها قد كان ما كانا لو كنت تعرف ما أصبحت تنكره ... من سرها فجعلت السر إعلانا

هي المدام التي في دنها قدمت ... وعتقت فيه أحياناً وأزمانا هي التي في دياجي ليلها جليت ... في كأسها فاهتدى موسى بن عمرانا هي التي جعلت نار الخليل له ... نوراً وقد أخطأت نمرود كنعانا صهباء لما دنت من قلب شاربها ... ألفت أشعتها نوراً ونيرانا ومن شعره: سادتي لو وصلتم ... مغرماً قد قطعتم قلبه قد أذبتم ... حبذا لو رحمتم في يديكم قياده ... فاحكموا قد ملكتم أنا راض وحقكم ... بالذي فيه تحكم كيف لا أبتغي رضى ... بالذي قد رضيتم ما رضائي ومن أنا ... أنتم الكل أنتم إن يكن با أحبتي ... بعذابي قضيتم فعلى كل ما جاء في الحكم منكم يا عذولي عليهم ... حل مني ومنهم يا صاحبي وجيرتي ... سلموا الأمر تسلموا وقال أيضاً أثناء كلامه في مجلس وعظ ارتجالاً: يا عذولي سلم إلى قيادي ... ثم دعني فما عليك رشادي وفؤادي إذا لقيت فلمه ... قل لي بالله أين فؤادي لا تلمني إذا سكرت فحبي ... قد سقاني صرفاً بكأس ودادي

وحبيبي مواعدي بوصال ... فخماري من نشوة الميعاد واستماعي لأمره إذ دعاني ... ما استماعي لنغمة الانشاد حبه راحتي وروحي وراحي ... وكذا ذكره بلاغي وزادي وإذا ما مرضت فهو طبيبي ... كلما عادني بلغت مرادي وإذا ما طلت أو طل ركب ... عن حماه فوجهه لي هادي يا عذولي فكن عليه عذيراً ... أو افعل لي ما حيلتي واعتمادي إن تلمني أو لا تلمني فإني ... حبه مذهبي وأصل اعتقادي وقدم مرة بدمشق، وبلغ قدومه قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فكتب إليه: لله در مبشري بقدومه ... فلقد أتى بأطائب المسموع لو كان يقنع بالخليع وهبته ... قلباً يقطع ساعة التوديع فأجابه رحمه الله بقوله: حاشاك يا قاضي القضاة بأمرتي ... حكماً تخالف سنة التشريع أهل القضية إنني عبد لكم ... والاصل لا ينفك بالتفريع القلب يعمى كيف أملك رده ... من بعد ما ملك الغرام جميعي وقال أيضاً رحمه الله: زودزني بنظرة ... قبل يوم التفرق هذه ساعة الفراق مهجتي ... في مطاياك فارفقي

قف قليلاً على الحمى ... يشتكي الصب ما لقي أودعوا حين ودعوا ... في فؤادي تحرقي من جفاهم وصدهم ... شاب رأسي ومفرقي سادتي بالذي قضى ... إن حظي هو الشقي سامحوا في الذي مضى ... وارفقوا بالذي بقي فأنا المغرم الذي ... دمعه في تدفق يا عذولي فخلني ... لست عندي بمشفق إن تردد تعرف الهوى ... ومعانيه فاعشق وأجل في الكأس جمرة من شراب المعتق بين ندمان حضره ... كل من خانهم شقي بات ساقي مدامهم ... من محياه يستقي وينادي عليهم ... بأنك أماني من بقي وحكى الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع ابن ضياء الفزاري رحمه الله قال: حججت في سنة خمس وسبعين وست مائة، واجتمع في الحج من علماء الأقطار ابن العجيل من اليمن، وتقي الدين بن دقيق العيد من الديار المصرية، والشيخ تاج الدين الفزاري من الشام، وغيرهم، واجتمعوا في الحرم الشريف، وكان عز الدين عبد السلام المذكور قد حج من مصر، فجلس تجاه الكعبة المعظمة، وحضر أمير مكة

وغيره، فارتجل خطبة أولها: " الحمد لله ذى القدرة التي لا تضاهى. والحكمة التي لا تتناهى. والقسمة لا يطيق خلق أن يتعداها. الذي تعزز في أزليته. فلا يعرف الأول أولها. تسرمد في أبديته، فلا يدرك الآخر أخراها. وتقدس في أحديته فلا تتحيل العقول خلاها. كيف تعرفه العقول، وقد عقلها عن بلوغ مناها. وكيف تنكره النفوس، وقد ألهمها فجورها وتقواها. وكيف يمثله الجهول، وقد أعجزه عن معرفة نفسه كيف سواها. وكيف يعطله العطول، وقد أغطش ليلها وأخرج ضحاها. من ذا الذي سمك السماء، وعلى غير عمد بناها. من ذا الذي دور أفلاكها، وفي قضاء بيد مشيئته مشاها. ومن ذا الذي سخر أفلاكها وفي حمى حمايته حماها. من ذا الذي قال للسماوات ائتينا طوعاً وكرها، فأتت طائعة حين دعاها. من ذا الذي يعلم خفايا الغيوب وما في طواياها. من ذا الذي يبصر طوايا القلوب وما في رؤياها. من ذا الذي يسمع أنه العليل إذا هو في علته أبداها. من ذا الذي ينقع غلة الغليل إذا اشتكت ظماها. من ذا الذي يرحم ذلة الذليل إذا الخطب الجليل وافاها. من ذا الذي يستر زلة الخاطي وغطاها. من ذا الذي يغفر زلة العاصي، وفي صحائف السيئات محاها. من ذا الذي تجلى على قلوب أوليائه، ومن دون الشك جلاها. ومن ذا الذي أدار كؤوس محبته على ندمان حضرته يستقاها. من ذا الذي جعل خليقته في قبضتين،

فهذه أسعدها وهذه أشقاها. من ذا الذي صورك. فأحسن صورك. وفتق سمعك، وخرق بصرك. ثم برحمته شملك. وعلى أكف رأفته حملك. وجعل عن يمينك ملك، وعن شمالك ملك، ينقلان عملك إلى من ملك. في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. انظر إلى الرياض، كيف أخباها. فاستخرج منها ماءها ومرعاها. وانظر إلى الغياض، كيف اهتزت رباها. إذ هو بلطيف حكمته رباها. انظر إلى الأرض، كيف دحاها. ونشرها من تحت هذه البقعة الشريفة بعد ما طواها. فسبحان من شرف هذه البنية واصطفاها. وجعلها حمى لمن حام حول حماها، وحرما امنا لمن وفى ما عليه حين وافاها. ووجهه لمن واجهها الجاها. وأراد عندها جاها. فهي التي هاجر منها الحبيب، ما هجرها ولا قلاها. وما انقلب قلبه سواها. حتى أنزل عليه جبريل في آيات تلاها: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها " فول بوجهك الحسن المفدى ... إليها حيث وجهت اتجاها فإن ابك إبراهيم قدما ... لأجل رضاك عنا قد بناها وإسماعيل طاف بها ولبى ... وطهرها لمشتاق أتاها هي البلد الأمين وأنت حل ... فطأها يا أمين فأنت طه ولولا أنت حل في ذراها ... لما شرفت ولا حميت حماها فوجه حيث كنت لها وكبر ... ولا تعدل إلى شيء سواها ووجه الله قبلة كل قلب ... لمن شهد الحقيقة واجتلاها هذا البيت قبلة كل قلب ... لمن شهد الحقيقة واجتلاها هذا البيت بيت الله بشرى ... لنفس فيه قد بلغت مناها

فهلل عند مشهد كفاحاً ... وزمزم عند زمزمه سقاها فيا حجاج بيت الله طوفوا ... بكعبتها ولبوا في ذراها فهذا الفخر إن حاولت فخراً ... وهذا الجاه إن حاولت جاها وسئل عن السماع فأجاب بكلام طويل ليس هذا موضع ذكره، ثم أنشد لنفسه يقول: ان يسكن عارفاً بشرح غرامي ... هات حدث عن سكرتي وهيامي أو فقل لي إن كنت تعرف خمري ... أين خمار خمرتي ومدامي يا فقيها إن كنت تفقه قولي ... هات قل لي ما سرد من كلامي أنا اقرءيت بالمحبة حرفاً ... معرباً معجماً على الأفهام هو معنى ليس في كل معنى ... بصلاة وقيام وصيام هو سر وأنت عنه حجاب ... فهو نور مستر بظلام فانخلع عنك وانتزع منك تشهد ... ثم معنى اعنى جميع الأنام وتجرد عن الوجود وجاهد ... كي تشاهد سرائر الأحكام قل لعراعرى بتلذيذ حالي ... ما لحالي من مشية ومقامي قم فردد في الخان الحان ذكرى ... فسماع الألحان غير حرام واسقني من مدامة الحب صرفاً ... تمح عني كبائر الآثام واصطبح واغتبق بها وتهتك ... وتمرد تيها على اللوام وإذا قيل من أباحك هذا ... قل بفتوى الفقير عبد السلام

وخطر له قبل موته فصل أنشأه وهو: " إلهي أنت قلت، وقولك الحق: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. فأنت على لطفك دللتني. وفي جنب جودك أطعمتني. وإلى كرم حرمك أوصلتني. فقد حسن بك ظني. على ما كان مني. فحاشاك عن بوارد أوليائك تمنعني. وعن موارد نعمائك تدفعني. سيدي ان أقلعني تخليطي فعفوك ينهضني. وإن رماني تفريطي فجودك ينعشني. إلهي أنا في أسر نفسي، ولو شئت خلصتني. وفي حبس هواي، ولو شئت عتقتني. وفي رقدة غفلتي، ولو شئت أيقظتني. إلهي فهل لي منك توفيق يسعفني. وإلى طاعتك يعطفني. ومن هذه الأوزار ينقذني. إلهي أسألك رحمة تشملني. وأسبلك مغفرة تعتقني. فخوفي منك يؤنسني ... وظني فيك يطعمني وديني عنك يقعدني ... وسوء الفعل يقطعني فلولا الفضل يعتقني ... لكان العذل يحرقني وحقك أن تعذبني ... فعدلك ليس تظلمني ولكني بتوحيدي ... أرتجي منك ترحمني إلهي إنك أمرتنا بالوصية عند حلول المنية. وقد تهجمت عليك، وجعلت وصيتي إليك. عند قدومي لديك. فأول ما يبدأ به من أمري إذا نزلت قبري وخلوت بوزري. وأسلمني أهلي أن تؤنس وحشتي. وتوسع حفرتي. وتلهمني جواب مسألتي. ثم تكتب علي منصوب نصيبي. في لوح صحيفتي

بقلم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فإذا جمعت رفاتي وحشرتني يوم ميقاتي ونشرت صحيفة سيئاتي وحسناتي. انظر عملي فما كان من حسن فاصرفه في زمرة أوليائك وما كان من قبيح فمد به إلى ساحل عتقائك واغفره في بحر عفوك وغفرانك. ثم إذا وقف عبدك بين يديك، ولم يبق إلا افتقاره إليك، واعتماده عليك. فقس مني بين عفوك ودينه، وبين غناك وفقره. بين حلمك وجهله، وبين عزك وذله. ثم افعل فيه ما أنت أهله. فهذه وصيتي إليك. تطفلاً بفضلك عليك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأن الموت حق، وأن الحياة باطل، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ". وله رحمه الله تعالى: يا من أناجيه في سري وفي علني ... ومن أرجيه في بؤسي وفي حزني أفردتني عن جميع الناس يا سكني ... وأنت أنى إذا استوحشت من سكني وأنت روحي إذا جردت عن بدني وأنت راحة قلبي في تقلبه ... وأنت غاية قصدي في تطلبه من لي من مغيث أستغيث به ... إذا تضايق أمر في تكربه ومن أرجو إذا أدرجت في كفني إذا ذكرتك زال الهم من فكري ... وإن شهدتك عاد الكل عن نظري وإن حضرتك لا ألوي على بشر ... وإن مررت على شيء من السمر فغير ذكرك لا يصغى له أذني

ما لي وحقك عن جدواك منصرف ... ولا عناني إلى الأغيار منحرف فامنى فإني بما قدمت معترف ... فإن عطفت فكل الناس منعطف وإن وصلت فكل الناس يسعدني وبحق حبك ما قلبي بمنقلب ... إلى سواك ولا حبلي بمنجذب ولا أراك بدمع فيك منسكب ... حتى أراك بطرف غير محتجب في حضرة القدس لا في حضرة الدمن وقال: إن كان أطماع قلبي فيك قد قطعت ... والعين عن حفظ ذاك العهد ما رجعت وفي سواك فلا والله ما طمعت ... والاذن ما سمعت والعين لا هجعت حتى أرى بارقاً للوصل يؤنسني توفي إلى رحمة الله تعالى ورضى عنه شهيداً، لأنه وقع من موضع مرتفع، فتوجع قليلاً، ومات يوم الأربعاء ثامن عشر شوال سنة ثمان وسبعين وست مائة بالقاهرة، ودفن بمقبرة باب النصر، ولم يبلغ الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن سلفه. ومن لطائفه: أيا حادي العيس قف لي قليلا ... أطيب النجيب وأندى العليلا على جيرة أودعوا في الحشا ... لهيباً يشب وحزناً طويلا فيا ليتني يوم حد الرحيل ... لزمت الركاب حقيراً ذليلا فيا جيرة الحي نوحوا معي ... فإن الخليل يواسي الخليلا ويندب بكل شج شجوة ... فحادي الرحيل ينادي الرحيلا

وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه: أأحبابنا إن جرتم أو هجرتم ... وحقكم لا حل عقد ولا كم ولا استحسنت عيني جمالاً رأيته ... سواكم ولا سرت بغير لقاكم قضيتم بوشك البين بيني وبينكم ... فما حيلتي إلا الرضا بقضاكم وإن مناي أن يدوم لي الصفا ... وكان الجفا والهجر كل مناكم ولي حرمة الجار القديم ومن له ... لحاظ ومن والاكم واصطفاكم والله لا أنسى وقد مر لي بكم ... زمان رضي في ظلكم وحماكم أتيه على الأكوان عجباً بحبكم ... وأغدو وقلبي آمن من جفاكم وما كان ظني أنني بعد صفوتي ... أعد على حكم الهوى من عداكم على شؤم بحتي كان عنوان شقوتي ... صدودكم عني ومالي سواكم وكان رضاكم في رضائي وسخطكم ... علي فأهلا في الهوى برضاكم وما حيلتي إلا وقوفي ببابكم ... لعلكم إن تعطفوا وعساكم أمد إلى إحسان حسنكم يدي ... أرجي عن فقري بفضل غناكم دعاني إليكم جودكم فأجبته ... وعادتكم أن تجيروا من أتاكم فإن تحرموني نظرة من جمالكم ... فلا تحرموني عقبة من سراكم وإني لآت أرضكم لا لحاجة ... لعلي أراكم أو أرى من يراكم ومن تصانيفه: تفسير القرآن العظيم مجلد. خطب مجلد، ديوان شعر مجلدان، مختصر الشفا للقاضي عياض مجلد، الأثمار والأطيار مجلد،

تفليس إبليس بما معه مجلد، شرح أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مجلد، وعظ مجلدان، حل الكنوز مجلد، اعتذارات مجلد، مسائل في علم الطريق وأجوبة، ومجاميع مختلفة، وتفسير آيات كل آية بمجلس يتنبه عليها ولا يخرج عن حكمها في أول المجلس إلى آخر مجلد؛ وله غير ذلك مما أوقفه بزاوية مصر وكفى بالله حسيبا. عبد الله بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه أبو بكر شرف الدين شيخ الشيوخ بن شيخ الشيوخ تاج الدين بن شيخ الشيوخ عماد الدين الجويني، وامه عالى النسب ابنة الامام عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري. توفي الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن شوال بجبل الصالحية. ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون بتربة الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله تعالى عليه، ومولده في المحرم سنة ثمان وست مائة. كان عنده فضيلة ورياضة، وحسن خلق ورياسة، وشرف نفس، ومعرفة بأخبار الناس والتواريخ، وعنده احتمال وصبر، وله نظم متوسط وإن لم يكن براكب، فمنه ما كتبه إلى أخيه سعد الدين مسعود: أرى بك أفكاراً وأنت مروع ... وسرك مشغول وقلبك موجع فاشرك أخاك اليوم فيمن تحبه ... من الأمر واعلم بأنه لك يطبع ألم تسمع البيت الذي سار ذكره ... وقيت الردى والخوف والهم أجمع ولابد من شكوى إلى ذى حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع

فأجابه سعد الدين: سواك الذي ودي إليه مضيع ... وغيرك في حسن الوفا يتضيع ومثلك من يرجى لكل ملمة ... ويدرأ عن قلبي الهموم ويدفع وحقك لو أبديت ما أنا كاتم ... لكان به صم الجبال تصدع ولكنني رفهت سرك عالماً ... بأنك فيما مسني تتوجع وكتب شرف الدين في صدر كتاب إلى أخيه سعد الدين: فهبكم تباعدتم وآثرتم الجفا ... وملتم مع الواشي وما كان ذا ظني فهلا حفظتم بعض ما كان بيننا ... من الود وفيتم صروف الردى أنى أحبكم لا أبتغي بدلاً بكم ... فأنتم إلى قلبي ألذ من الأمن وقال الشيخ شرف الدين في صنعة البساتين بدمشق، سنة ست وستين وست مائة: قالت الأشجار يا قوم اسمعوا ... فكلامي كله صدق وحق خلفنا أعد منا أحبابنا ... من غصون وثمار وورق إنما الناس مع السلطان في ... كل ما يأمر أمراً تحت رق فاجتهد يا صاحبي واسمع وطع ... فمتى خالفت يوماً تحترق عبد الله بن محمد بن علي بن كرب أبو محمد زين الدين القرشي الزبيري الحنفي. كان إماماً عالماً فاضلاً محدثاً، سمع من الافتخار الهاشمي وغيره، ومولده في يوم الثلاثاء ثالث ذى الحجة سنة ثلاث وست مائة بدمشق، وتوفى يوم الأربعاء رابع شوال، ودفن بباب الفراديس رحمه الله تعالى.

عبد الله بن محمد أبو الصلاح محيي الدين قاضي قضاة مصر ويعرف بابن عين الدولة الصفراوي الاسكندراني الأصل المصري الشافعي. باشر الحكم بمدينة مصر الوجه القبلي عقيب وفاة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز رحمه الله مدة سنين، ولحقه الفالج وأقعد وعجز عن الكتابة، وأقام على هذا الحال مستمراً في الأحكام نحو خمس سنين، وكاتب الحكم يعلم عنه، ثم عزل في سنة ست وسبعين، فأقام بطالاً في بيته إلى حين توفي في احدى الجمادين، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده في سنة سبع وتسعين وخمس مائة. وكان عنده فضيلة ورياسة، ولطف أخلاق، وديانة كبيرة، وحسن مجالسة ومكارم. ووالده قاضي القضاة شرف الدين المشهور بالديانة والصلابة في الأحكام وتحرى الحق، ومعناه الذائد والنوادر الحسنة. قال له بعض العدول وهو في بيت قليل الهواء كثير البق، وهو البرغش، ويسمونه الناموس ما أقل الهواء في هذا البيت وأكثر الناموس فقال: هكذا ينبغي أن تكون مجالس الأحكام. ودخلت إليه امرأة في محاكمة فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: ست من يراها، فوضع كمه على عينيه وكان ينشد، وقد بلغ ثمانين سنة: إن الثمانين وبلغتها ... ما احوجت سمعي إلى ترجمان الرواية إنما هي احوجت وإنما قال ذلك لئلا يؤخذ بقوله، والطرش قادح

في ولاية الحكم عن بعض العلماء. ومن شعره أعني القاضي شرف الدين: وليت القضاء وليت القضاء لم يل شيئا توليته فأوقعني في القضاء القضا ... وما كنت قدما تمنيته ومدح الشهاب محمد بن عبد المنعم الخيمي للقاضي محي الدين بقصيدة أولها: سلام على معنى الجلالة والهدى ... وبادي الحجي والعلم والحلم والندى أحن إليه معظم الود والولا ... ويمنعني الاخلاص أن أتوددا وما زال عندي مضمر الشوق نحوه ... بظاهر وصف الحال منى موكدا وقلبي محضور التسلي واجب ... مباح كبدت الحب فيه تعبدا ويروي حديث الوجد عني بحبه ... بمتصل من مرسل الدمع مسندا أحاول منه القرب زلفاً لعلني ... أفوز به الفوز المبين أسعدا ومنها: واعلم أني لست أهلاً لقربه ... ولكنني لا أستطيع التجلدا ولولا ألتقي صبرت بابك قبلة ... وتربته استغفر الله مسجدا وعفواً ففي كاف الخطاب تعلل ... لقلبي المعنى إن لي منك مشهدا أدام لك السعادة والرضى ... عليك وعزا في المحلين سرمدا ونوراً من العرفان بالله من رأى ... مخائله في حسن وجهك اهتدى عبد الله بن محمد بن أبي الحسين أبو الفرج نجم الدين الشيخ الزاهد العارف المعروف بابن الحكيم. مولده سنة ثلاث وست مائة، وتوفى في ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة بحماة رحمه الله تعالى، ويعرف

بابن سطيح، ويقال أنه من ذرية سطيح الكاهن، وله فضيلة بطريق القوم، وكان له حرمة وافرة عند الملك المنصور، وصاحب حماة بحيث إذا صادفه في طريق ترجل وسلم عليه راجلاً ولا يركب حتى يبعد عنه، وله زاوية مشهورة بحماة يردها الفقراء وغيرهم رحمه الله تعالى. علي بن عمر بن محمد أبو محمد بن مجلى أبو الحسن الأمير نور الدين الهكاري. ولى نيابة السلطنة بحلب، وأعمالها في سنة تسع وخمسين وست مائة إلى سنة ثمان وسبعين وست مائة، وكان حسن السيرة، عالي الهمة، لين الكلمة، كريم الأخلاق، كثير التواضع للعلماء والفقراء، والأصحاب محسناً إليهم. وعزل عنها قبل موته بالأمير علاء الدين ايدغدى الكبكي، وكانت وفاته بحلب بعد عزله بقليل يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الآخر، ودفن بها، وقد نيف على سبعين سنة من العمر، وكان والده الأمير عز الدين من أكابر الأمراء بحلب وأعيانهم، وشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمه الله تعالى. قالاجا بن عبد الله الركني الأمير سيف الدين أحد أمراء دمشق. كان توجه صحبة العساكر إلى مسيس، وتوفى بحلب عند عود العساكر في الرابع والعشرين من ربيع الأول، ودفن بالأنصاري، وقد نيف على أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. والركني نسبة إلى الأمير ركن الدين بيبرس العلائي وقد تقدم البينة عليه. لولو بن عبد الله حسام الدين. أحد كتاب الجيوش بالشام، وهو عتيق

بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي أو عتيق أخيه موفق الدين علي بن محمد وهو ممن استفاد صناعة الكتابة والتصرف وبرع في ذلك، وخدم الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وتوفه عنده حتى كانت مداراة أموره عليه وهو في رتبة وزير صغير، فلما توفى الملك الأشرف انتقل من حمص إلى دمشق، واستوطنها، واستخدم في مشارفة ديوان الجيش بها، وكان الديوان بأسره عبارة عنه والرفقة تبعاً له، وكان غزير المروءة طاهر اللسان، متفضلاً على معارفه وأصحابه، كثير البر لمن يقصده في حاجة والمسارعة إليها حسبما يمكنه، وكان شيعياً متغالياً في التشيع داعية إليه، ركناً لأهل مذهبه، يلجأون إليه في أمورهم ولم يسمع عنه ملاعنة كلمة يؤخذ عليها فيما بلغني عنه، وكنت أسمعه إذا ذكر أحداً من الصحابة رضي الله عنهم يترضى عنه، ويذكره بأجمل ذكر، وأما أهل البيت عليهم السلام فيوفيهم حقهم من الموالاة والمبالغة في ذلك. وتوفي بدمشق يوم الأحد سادس وعشرين ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله، وهو في عشر الستين. محمد بن بركة بن دولة خان الأمير بدر الدين. هو خال الملك السعيد ومن أعيان الأمراء بالديار المصرية، وحصل له عند ما أوصى الملك السعيد إلى ابن أخيه تقدم كثير في الدولة، ومكانة عالية، وقدم معه إلى دمشق، فتمرض بها، وكان نزوله في دار صاحب حماة داخل باب الفراديس

المجاورة لمدرسة ابن المقدم، وبها توفي في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول، وصلى عليه يوم الخميس الثالثة من النهار بالمصلى خارج باب الفرج، ودفن بسفح قاسيون بالتربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله بعد أن جعل في تابوت لينقل وقعدا معمره يومئذ خمسون سنة، وعمل له في هذا الشهر عدة اعزية وقرى بالتربة التي دفن بها عدة ختمات حضر احداها الملك السعيد رحمه الله ومد خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة والحلاوات فأكل من حضر وتناهبه الفقراء وغيرهم، وخلع السلطان على والدته ومماليكه وخواصه، وهو في العزاء، فلبسوا الخلع وقبلوا الأرض، ثم نقل تابوته إلى القدس الشريف في العشر الأول سنة تسع وسبعين، فدفن عند قبر والده رحمهما الله تعالى. محمد بن بيبرس بن عبد الله أبو المعالي الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة ابن الملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله تعالى. قد تقدم في هذا الكتاب نبذة من أخباره، وما جرى له وآل أمره إليه، ولما استقر بالكرك قصده أجناد من الناس، وكان ينعم على من يقصده ويعطيه ويستخدمه، فتكاثروا عليه بحيث نفذ كثير مما كان عنده، ولما بلغ ذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله تأثر منه، فقيل أنه سم، وقيل غير ذلك، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه يوم الجمعة حادي عشر ذى القعدة بقلعة الكرك، ودفن من يومه بأرض موته عند قبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق في سنة ثمانين وست مائة فدفن إلى جانب والده بالتربة التي أنشأها قبالة المدرسة العادلية السيفية، وألحده قاضي

القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله تعالى. ولما توفى ترتب مكانه في مملكة الكرك أخوه لابنه نجم الدين خضر ولقب بالملك المسعود. ومولد الملك السعيد رحمه الله بالعر من ضواحي القاهرة سنة ثمان وخمسين وست مائة، وكان ملكاً جليلاً كريماً، سخي الكف، كثير العدل، محسناً إلى الخاص والعام، لا يرد سائلاً، ولا يخيب آملاً، ولا في خلقه عسف ولا ظلم، كثير الشفقة والرحمة للرعية، لين الكلمة، محباً لفعل الخير رحمه الله تعالى وقيل أنه ولد له مولود ذكر يوم دخوله قلعة الجبل على الصورة المذكورة في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وابن أم ولد، وكانت ابنة المنصور سيف الدين قلاوون زوجته فوجدت لفقده ولمأتم عليه وجداً شديداً، ولم تزل باكية حزينة إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى بعده بمدة في مستهل شهر رجب سنة سبع وثمانين وست مائة، وكانت شقيقة الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ودفنت في تربة معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة. ولما مات الملك السعيد بالكرك، صلى عليه بجامع دمشق يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجة سنة ثمان وسبعين رحمه الله تعالى. يحيى بن أبي المنصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي أبو زكرياء الحراني الحنبلي المنعوت بجمال الدين المعروف بابن الصيرفي. كان إماماً عالماً فاضلاً مفتياً عارفاً بالفقه متبحراً فيه، كثير الافادة والأشغال، وللطلبة به نفع كثير، روى عن الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدائم المعروف بابن الغزال الحنبلي وغيره، وحصل العلوم، كان كثير

السنة التاسعة وسبعون وستمائة

الديانة والتعبد، عارفاً بالحديث وعلومه، وسمع منه الكثير وحدث واشتغل وأفاد، وانتفع به الناس وأخذوا عنه، ومولده بحران سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، وتوفي بدمشق آخر نهار الجمعة رابع صفر، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله تعالى، وكانت له جنازة حفلة مشهودة جداً. السنة التاسعة وسبعون وستمائة استهلت يوم الخميس وافق ذلك ثالث أيار والخليفة الامام الحاكم بأمر الله وهو بقلعة الجبل من الديار المصرية، وصاحب الديار المصرية وبعض الشام الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ودمشق وما والاها بيد الملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود نجم الدين الخضر بن الملك الظاهر وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف نجم الدين أبو نمى الحسني، وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنيها الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب حماه والمعره الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق والجزيرة والموصل وأربل وآذربيجان وديار بكر وخلاط وخراسان والعجم وما وراء ذلك بيد التتر، والروم بيدهم أيضاً قربة غياث الدين بن السلطان ركن الدين ولا حكم له. وفي يوم الخميس مستهل السنة في الساعة السادسة منه ركب الملك

الكامل شمس الدين سنقر الأشقر نائب السلطنة من قلعة دمشق، ودخل الميدان الأخضر وبين يديه الأمراء ومقدمي الحلقة رجاله بالخلع يحملون الغاشية، والقضاة والأعيان ركاب بالخلع، وسير في الميدان لحظة يسيرة، وعاد إلى القلعة. وقد ذكرنا في أواخر حوادث السنة الخالية تجريده بعض عسكر دمشق إلى غزة، وكان بها طائفة من عسكر الديار المصرية مقيمين بها لمطابقة الكرك، وعند وصول العسكر الشامي إليها في أوائل شهر المحرم من هذه السنة اندفع عسكر الديار المصرية من بين أيديهم، ودخلوا الرمل، فنزل الشاميون غزة واطمأنوا بها ساعة من النهار، وكان فيهم قلة فكر عليهم عسكر الديار المصرية وكبسوهم ونالوا منهم منالاً كثيراً، ورجع عسكر الشام منهزماً إلى مدينة الرملة. وفي يوم الاثنين خامسه وصل إلى خدمته في طاعة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشرقية والشمالية، ودخل عليه وهو على السماط، فقام له الملك الكامل، فقبل الأرض وجلس على يمينه فوق الحاضرين. وفي يوم السبت عاشره وصل الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي بن يزيد ملك العرب بالبلاد الحجازية إلى طاعة الملك الكامل، فأكرمه غاية الاكرام، وكان وصوله من جهة العراق، وذكر أنه كان انتهى في يقظته هذه إلى بلاد البصرة وأغار وانتهب.

وفي العشر الآخر منه تقدم الملك الكامل بإضافة الأعمال الحلبية إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان، وأن يعطي تدريس المدرسة الأمينية بدمشق، وكان ذلك بيد قاضي القضاة نجم الدين محمد بن سنا الدولة، وكتب له بالمدرسة الأمينية تقليد من إنشاء كمال الدين أحمد بن العطار نسخة، مضمونة: " الحمد لله الذي اطلع في فلك ساداتنا شمس الدين بازغة الأنوار. وأقام بنا بناء الحق، مشيد الأركان على المنار. وجعل روض الفضل في أيامنا زاهراً. تصبو إليه الأبصار. وقلوب ونفوس فيما يحف منه نجم إلا نشف من بعده سناء نجوم وأقمار. وشموس ولا يذوى منه عود إلا يروى بماء الرعاية منه أصول وفروع وغروس. يبر بها لأيامنا أن يبذل فيها الحسنات. أو يتعطل فيها مدارس آيات. والصلاة على سيدنا محمد ذى الحسيب الصميم. والدين القويم. والشرع الهادي إلى الصراط المستقيم. صلاة يحلى اللسان تكرارها. ويملأ سواد القلب أنوارها. وبعد فإن أحق من عمرت به ربوع العلوم الدارسة. وطلعت شموس فضله، فتجلت بها كلمات الجهل الدايسة. من كانت آية فضله شمسية، إذا طلعت حجب النجم سناها. وإذا تناهى في إشادة عليائه أعربها بمساعيه، وحسن بناها. وإذا تسابقت جياد الأفكار في حلبة جدال عطف اعنتها إلى الصواب وثناها. طالما حل الرتب العالية بجليل مقداره ودقيق أفكاره. وجلا الرتب العالية بخفي تدبيره وجلى أنواره. وماضت على معاطف مناقبه

ذوائب فخاره. وهامت الأفكار في أودية محامده، وما بلغت وصف محله ومقداره. وافتخر قلم الفتيا براحته وتباعد السيف عن قربه خوفاً من مهابه. وسدد الحق سهام أحكامه. فأصابت الأغراض، وشيد الصدق نظام كلامه. فشفى صحيحه الأمراض، فإن شرع في علم الشرع شفى إنسان عن الجهل الارمداء. روى الحديث النبوية بإسناده، فيما يصل أحد إلى مسند أحمد، وإن صال في الأصول فإليه منتهى فخار الفخر الرازي. أو حكم في الحكمة، فابن سينا غير مساو له ولا موارى له، وإن نطق في المنطق، فهو أنير زمانه وسراجه المنير، أو يحدث في علم العربية، فهو أبو العباس تحقيقاً غير تقدير، أو تكلم في علم الخلاف، فهو الأوحد على الحقيقة، وكم له إلى الحق من طريق وطريقه، وإن قص أبناء السلف والخلف، وكل خطيب يثني عليه، وابن عساكر لا تتخذه عساكر معلوماته لو كان بين يديه ". ولما كان المجلس العالي القضائي الأجلي الصدري الكبيري الأوحدي الرئيسي الأفضلي العالمي العاملي الكاملي الناسكي العارفي الأثري الحافظي الشيخي الامامي الحاكمي الشمسي، شرف الإسلام فخر الأنام زين العلماء أوحد الفضلاء وارث الأنبياء محبة العرب العرباء بقية السلف مفتي الفرق صدر الحفاظ شمس الشريعة قاضي القضاة سيد الحكام صفي الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن خلكان البرمكي الشافعي ضاعف الله جلاله، وحقق في الدارين آماله، نظام هذا العقد المليح. ومعنى هذا اللفظ الفصيح.

وثمرة هذه الدوحة النضرة. ونشر هذه الروضة الخضرة. رسم الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الكاملي الشمسي لا زال يقر الحق في يد مستحقه، ويوضع لسالكه في سبيله. وطرفه أن يفوض إليه تدريس المدرسة الامينية. ويجري باسمه العلوم الشاهد به كتاب وقفها المبرور، وذلك لما تعين سرف مباشرها عند تبين إجلاله بشروط واقفها، فتقدم على خيرة الله تعالى، ويذكر بها دروس فضله التي لا تدرس للأنام آثارها. ويغرس في قلوب طلبتها حب فرائده، ليجتني ساعة غرسها ثمارها. ويحلو وجوه معارفه على خطابها، ليبلى بمحاسنها، ويتمتع، ويغذى أطفال الأذهان الرضع بلبان فضله إلى أن يتسنى بين يديه، ويترعرع، ويعمر معناها بالعلم الذي تنكرت فيها معالمه، وخفى سناه، حتى لا يدركه شاتمه، ليجني بها فضله الحسن السهل خالداً ويغذو كل ظام من جعفره المعروف، ومعروف جعفره وارداً، وتصبح هذه المدرسة كنيفاً ملئ علماً وقليباً حشي فهماً وفلكاً يبدى شمساً، ويخفى نجماً وكنانة يخرج من طلبتها في كل حين سهماً يراه متأمله شهماً. والله تعالى يحيى ببقاء علمه ما أماته الجهل، ويؤنس بأنفاسه ما استوحش من معاهد الخير والفضل ان شاء الله تعالى. كتب في ثالث عشرين المحرم سنة تسع وسبعين وست مائة، وذكر الدرس بها في هذا الوقت وكان القاضي نجم الدين مدرسها بحلب وقد استناب ولده بها ولم يكن تام الأهلية لمباشرة مثلها.

وفي أواخر شهر المحرم وردت الأخبار أن الملك المنصور أرسل جيشاً كثيفاً إلى دمشق، ومقدمه الأمير علم الدين سنجر الحلبي، ولما اتصل ذلك العسكر بعسكر الملك الكامل الذين بالرملة تأخروا قليلاً ولما تقدم المصري تأخر الشامي لقلته إلى أن وصل أوائلهم دمشق في أوائل صفر. وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر خرج الملك الكامل بنفسه وبجميع من عنده من العساكر، وضرب دهليزه بالجسورة وخيم هناك بجميع الجيش، واستخدم وأنفق هو جمع خلقاً عظيماً، وحضر عنده عرب الأميرين شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجي، ونجدة حلب، ونجدة حماة، مقدمها الملك الأفضل نور الدين علي أخو صاحب حماة، ورجالة كثيرة من جبال بعلبك. وفي يوم الأحد سادس عشره وقت طلوع الشمس، التقى الجيشان في المكان المذكور وتقاتلا أشد قتال، وثبت الملك الكامل، وقاتل قتالاً كثيراً، واستمر المصاف إلى الرابعة من النهار، ولم يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جداً، وخامر أكثر عسكر دمشق، وانهزموا من أنضاف إلى العسكر المصري وعند ما وقعت العين في العين قبل أن يلتحم القتال انهزم الحمويون، وتخاذل عسكر الشام وتفرقوا، فمنهم من دخل بساتين دمشق واختفى بها، ومنها من دخل خواطر دمشق، ومنهم من ذهب إلى بعلبك، ومنهم من سلك طريق المرج والقطيفة وعذراء والدرب الكبير إلى القطيفة، واجتمع جميع العسكر على القصب من عمل حمص، ثم عاد أكثر

الأمراء إلى دمشق، وطلبوا الأمان من الأمير علم الدين الحلبي، فأمنهم ودخلوا في أيام متفرقة، ثم حضر الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي إلى دمشق بالأمان، ودخل في طاعة الملك المنصور، وأما الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا فإنه توجه صحبة سنقر الأشقر، ولازم خدمته ونزل به وبمن معه من الأمراء والعسكر في نوبة رحبة مالك بن طوق ونصب لهم بيوت شعر وأقام بهم، وبدوابهم مدة مقامهم عنده، وأما الجيش المصري، فإنه ساق من ساعته إلى المدينة وأحاط بها، ونزلوا في الخيم ولم يتعرضوا إلى زحف، وراسلوا من بالقلعة إلى العصر من ذلك النهار، ففتح من المدينة باب الفرج، ودخل منه بعض مقدمي الجيش، وفتحت القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة، وكان التسليم بالأمان وأفرج عن جماعة كان اعتقلهم سنقر الأشقر، منهم الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق، وتقي الدين توبة التكريتي، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري وغيرهم، وكتبت المطالعات إلى الملك المنصور بصورة ما جرى وسيرت على البريد. وفي بكرة يوم الاثنين سابع عشرة جهز الأمير علم الدين الحلبي قطعة جيدة من الجيش المصري

تقارب ثلاثة آلاف فارس في طلب شمس الدين سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء والجند. وفي هذا اليوم ركب قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان للسلام على الأمير علم الدين الحلبي، فقبض عليه واعتقله بعلو الخانكاة النجيبة.

وفي يوم الخميس العشرين منه صرفه عن قضاء الشام كله، وتقدم إلى القاضي نجم الدين محمد بن سنى الدولة، وكان قدم من حلب بمباشرة الحكم بدمشق فباشره. وفي يوم الخميس سابع عشرين منه أعادت الأجوبة من الملك المنصور فجلس الأمير علم الدين الحلبي في دهليز ضرب له بالميدان الأخضر الصغير، وحضر عنده الأمراء، والأعيان من عسكر الشام ومصر، وأعيان الناس، وقرئ عليهم كتاب الملك المنصور، ومضمونه: " التهنئة للإسلام بدفع هذا الضرر والعتب على كل طائفة بما يليق بهم ". وفي آخره: " وإنا قد عفونا عن جميع الناس الخاص والعام، أرباب السيف والقلم، ولم نؤاخذ أحداً منهم، وأمناهم على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ورسمنا أن لا نغير على أحد منهم وظيفته إلا إن ورد في حقه تخصيص ". فارتفعت الأصوات بالدعاء وانصراف الناس مسرورين. وفي أوائل ربيع الاول، ترتب في نيابة السلطنة بالشام الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري، ودخل دار السعادة ودخل معه الأمير علم الدين الحلبي ورتبه بها، وفي خدمته سائر أمراء مصر والشام، وهذا الأمير حسام الدين كان الملك المنصور سيره إلى دمشق أميراً ونائباً لقلعتها في أواخر السنة الخالية، فبقي بالقلعة مدة يسيرة وجرى ما جرى من سلطنة شمس الدين ينقر الأشقر واعتقله، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر الأمير علم الدين الحلبي، واستولى على المدينة والقلعة، فأفرج عنه وبقي في خدمته

إلى أن ورد المرسوم بمباشرة نيابة السلطنة فباشرها، وهو شاب له خير كثير، الدين والكرم والشجاعة، محب للعلماء والصلحاء، مؤثر للعدل في الرعية. وفي يوم الثلاثاء تاسع ربيع الأول أفرج عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان وضرب إلى منزله، ثم تقدم إليه الأمير علم الدين الحلبي بعد أيام بالانتقال من المدرسة العادلية الكبيرة، وتسليمها إلى قاضي القضاة نجم الدين، فشق عليه ذلك وتكرر عليه القول بسرعة النقلة فبينا هو في ذلك قد أحضر جمالاً لنقل قماشه إلى جبل الصالحية، وإذا بكتاب الملك المنصور قد ورد على الأمير علم الدين الحلبي، ومن مضمونه: " إن عفونا قد شمل الخاص والعام، وما يليق أن تخصص بسخطنا أحداً على انفراده، وغير خاف مما يتعين من حق المجلس السامي القضائي شمس الدين أحمد بن خلكان أعزه الله تعالى وقديم صحبته لها وحدته عليها، وأنه من بقايا الدولة الصالحية سقى الله عهدها، وقد رسمنا بإعادته إلى ما كان عليه بقضاء القضاة بالشام، وبسطنا يديه في القبض والإبرام وما هذا معناه ". فركب القاضي شمس الدين من ساعته، وطلع إلى الأمراء وسلم عليهم، ونزل وقت الظهر باشر الأحكام وأحضر له تشريفه لنسبه، وصلى به الجمعة، وكتب مطالعة إلى الملك المنصور يدعو له ويتنصل بما نسب إليه ويعتذر؛ فورد عليه الجواب بالشكر وقبول العذر. وفي أوائل ربيع الآخر خرج من دمشق عسكر من الجيش المصري، مقدمهم الأمير عز الدين الأفرم، ولحق بالذين كانوا توجهوا قبل ذلك في طلب سنقر الأشقر، فأدركوهم على حمص، ورحلوا بأسرهم طالبين المذكور ومن معه، فلما بلغه ذلك فارق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وتوجه بمن معه في البرية إلى الحصون التي كانت بقيت بيد نوابه فتحصن هو ومن معه بها في أواخر الشهر المذكور وهي: صهيون، وكان بها أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضاً، وبلاطنس وحصن برزية وحصن عكار وجبلة واللاذقية والشعر وبكاش وشيزر. وكان يوم المصاف قد انهزم الأمير عز الدين ازدمر إلى جبل الحرديين، وأقام عندهم هذه المدة كلها تحصن بهم وحموه، فلما بلغه وصول سنقر الأشقر إلى القلاع المذكورة وصل إليه بجماعة من الجبليين، وأقام شيزر يحفظها، ولما بلغ العسكر دخولهم القلاع واعتصامهم بها، نازلوا شيزر مضائقة لأبقية العسكر المنازلين لشيزر مصممين على حضرتها، وترددت الرسل بينهم وبين شمس الدين سنقر الأشقر في تسليمها، فبينا هم في ذلك، وردت الأخبار في أوائل جمادى الآخرة أن التتار خذلهم الله تعالى قد قصدوا بلاد الشام، فخرج من كان بدمشق من العسكر المصري والشامي، ومقدمهم الأمير ركن الدين أباجي، ولحق بقية العساكر التي على شيزر وكانوا قد تأخروا عنها، ونزلوا بظاهر حماة، ووصل من الديار المصرية عسكر مقدمه الأمير بدر الدين بكتاش النجمي فلحق بهم، واجتمع الجميع على حماة وأرسلوا كشافة إلى بلاد التتر في العشر الأوسط منه، ووصل

إلى دمشق وبعلبك خلق عظيم من الجفال من حلب وبلادها وحماة وحمص والبلاد الشمالية جافلين من التتر، ولم يتخلف في تلك البلاد إلا من عجز عن السفر، وأخليت حلب من العساكر التي لها والتجؤا إلى حماة، وعزمكثير من أهل دمشق والبلاد الشامية أن يتوجهوا إلى الديار المصرية، واضطرب الناس لذلك اضطراباً شديداً، وكان سبب حركة التتر لما بلغهم من اختلاف الكلمة، وظنوا أن نقر الأشقر ومن معه يتفقون معهم وأن يكونوا جميعاً على العسكر المصري، فأرسل أمراء العسكر المصري إلى سنقر الأشقر يقولون: هذا العدو قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا، وما ينبغي أن نهلك الاسلام في الوسط، والمصلحة أن نجتمع على دفعه. فنزل عسكر شمس الدين سنقر الأشقر من صهيون والحاج ازدمر من شيزر، وخيمت طائفة تحت قلعتها، ولم يجتمعوا بالمصريين، واتفقوا على اجتماع الكلمة ودفع العدو عن الشام. وفي يوم الجمعة حادي وعشرين منه وصل طائفة عظيمة من عساكر التتار، وأحرقوا الجامع والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء الكبار، وأفسدوا فساداً كثيراً، وكان أكثر من تخلف بها قد استتر في المغائر وغيرها، وأقاموا بحلب يومين على هذه الصورة. وفي يوم الأحد ثالث وعشرين منه رحلوا منها راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدمهم الغنائم التي كسبوها ونقلوا من الغلال شيئاً كثيراً إلى أماكنهم، وكان سبب رجوعهم إلى بلادهم لما بلغهم من اتفاق الطائفتين

على دفعهم، وحكى أن سبب خروجهم من حلب أن بعض من استتر بها يئس من الحياة، فطلع منارة الجامع وكبر بأعلى صوته على التتر، وقال: جاء النصر من عند الله، وأشار بمنديل كانمعه إلى ظاهر البلد، وأوهم أن إشارته إلى عسكر المسلمين، وجعل يقول في خلال ذلك: اقبضوهم من بيت البيوت مثل النساء، فتوهم التتر من ذلك وخرجوا من البلد على وجوههم، وسلم الذي فعل ذلك، ولما رجعوا عن حلب ظهر من كان مستتراً بها، ورجع من كان يجفل عنها، وحصلت الطمأنينة للناس. وفي هذه الأيام هرب من عند شمس الدين سنقر الأشقر جماعة من الأمراء ودخلوا في طاعة الملك المنصور وتوجهوا إلى خدمته. وفي أواخر هذا الشهر خرج الملك المنصور بجميع العساكر لنصرة الإسلام ودفع العدو عن البلاد. وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه قرئ على المنبر بجامع دمشق بعد صلاة الجمعة مثال سلطاني ورد على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بدمشق، مضمونه: أن الملك المنصور جعل ولده علاء الدين علياً ولي عهده، ولقبه الملك الصالح، وخطب له على المنبر، وعقيب الفراغ من قراءة هذا المثال وردت البشائر برجوع التتر من حلب، وخلوا البلاد منهم، فاستبشر الناس بعزة ولي العهد. ولما وصل الخبر برجع التتر تفرقت العساكر في طلبهم، فمنهم من توجه إلى عين تاب وتلك النواحي، ومنهم من توجه إلى جهة الفرات والبيرة، وجاسوا خلال الديار في تلك الجهات، ثم رجعوا. وكان الملك المنصور

لما رجع ولده ولي العهد، كتب له تقليد بخط محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر من انشائه، مضمونه: " الحمد لله الذي شرف سور الملك بعلية. وحاطه منه بوصية. وعضد منصوره بولاية عهد مهدية، واسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عدية. وأبهج خير الآباء من خير الأبناء عن سموا أبيه منه، ومسارعة وليه بحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر، وأضافت إلى نور الشمس هداية القمر، وداركت بالبحر، وباركت في النهر، وأجملت المبتدأ وأجنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيها بين رونق الأصائل، ورقة البكر. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تلبس الألسنة منها كل ساعة جديداً، ويتفيأ ظلاً مديداً، ويستقرب من الآمال ما يراه سوانا بعيداً. ونصلي على سيدنا محمد الذي طهر الله به هذه الأمة من الأدناس. وجعلها بهداية زاكية الغراس. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس. ومنهم من بنى الله به قواعد الدين، وجعله موطد الآساس. ومنهم من جهز جيش العسرة، وواسى بما له حين الطراء والباس. ومنهم من قاله عنه صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فحسن الالتماس بذلك الاقتباس. وزاد في شرفه بأن طهر أهل بيته، وأذهب عنهم الأرجاس. صلاة لا تزال

تتردد الأنفاس. ولا تبرح في الابناء حسنة الأنباس. وبعد، فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله. وفوقت ملابس التحكيم لقبوله. ومن تزهى مطالع الملك باشراقه. وتبادر الممالك مذعنة لاستحقاقه. ومن يزدهى ملك منصوره، نصرة الله موطدة وولي عهده مكنه الله بأبيه. ومن يتشرف ايوان عظمة أن غاب والده في مصلحة الاسلام فهو صدره. وان حضر فهو ثانية. ومن يتحمل عاب الابالة منه بحيرسل كفيل لثناء. ويتكمل غوث الأمة بخير وابل خلف..... ومن الهم الاخلاق الملوكية وأوفى حكمها صبياً. ومن خصصته أدعية الأبوة الشريفة بصالحها. ولم يكن بدعائها شقياً. ومن رفعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها علياً. ومن هو أحق بأن يبحث للأمل وينجح. وأولى بأن تبلى له أخلفني في قومي وأصلح. ومن هو بكل خير ملى. ومن إذا فوضت أمور المسلمين كان أشرف من لا نورهم بلى. ومن يتحقق من والده الماضي الغزار. ومن اسمه عالي المنار. ان لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي ". ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحي العلائي عضد الله به الدين، وجمع إذعان كل مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين حتى يصبح وهو صالح المؤمنين. هو المرجو لتدبير الأمور والمأمول لمصالح البلاد والثغور. والمدخر من النصر لشفاء ما في الصدور. والذي تشهد الفراسة لأبيه، وله بالتحكم أليس الحاكم أبو علي هو المنصور. فلذلك

افضيت الرحمة والشفقة على الأمة أن ينصب لهم ولي عهد يتمسكون من الفضل بعروة كرمه. ويسعون بعد الطواف بكعبة أبيه لحرمه. ويقطفون أزهار العدل وثمار الجود من علمه وقلبه. ويستشعر الأمة منه بالملك الصالح الذي يقسم الأنوار بجبينه، وتقسم المبار بكراماته وكرمه. فذلك خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري السيفي أخدمه الله القدر. ولا زالت الممالك تتناهى منه، ومن ولى عهده بالشمس والقمر. أن يفوض إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة الشريفة ولاية تامة عامة شاملة. كافلة جامعة وارعة قاطعة ساطعة شريفة منيفة. عطوفة رؤوفة لطيفة عفيفة. في سائر أقاليم الممالك الشريفة. وعساكرها، وجندها، وعربها، وتركمانها، وأكرادها، ونوابها، وولاتها، وأكابرها، وأصاغرها، ورعايتها، وحكامها، وقضاتها، وسارحها، وسائحها بالديار المصرية، وثغورها، وأقاليمها، وبلادها وما احتوت عليه؛ ومملكة الحجازية، وما احتوت عليه، ومملكة النوبة، وما احتوت عليه؛ والفتوحات الصفدية، والفتوحات الاسلامية الساحلية، وما احتوت عليه؛ والممالك الشامية، وحصونها، وقلاعها، ومدنها، وأقاليمها، وبلادها، والمملكة الحمصية، والمملكة الحصنية، والأكرادية، والجبلية وفتوحاتها، والمملكة الحلبية وثغورها، وبلادها وما احتوت عليه؛ وسائر القلاع الاسلامية براً وبحراً سهلاً ووعراً. شاماً ومصراً ويمناً وحجازاً. شرقاً وغرباً بعداً وقرباً. وأن يلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة.

وأن يستخلفه سلطنة والده خلد الله دولته ليشاهد الأمر منه في وقت واحد سلطاناً وخليفة وولاية واستخلافاً، يسندها الرواة، ويترنم بها الحداة وتفهمها الاسماع. وتنطق بها الأفواه. وتفويضها يعلن لكافة الأمم. ولكل رب سيف وقلم. ولكل ذى علم وعمل بما قاله صلى الله عليه وسلم لسمية رضي الله عنه حين أولاه من الفخار ما أولاه. من كنت مولاه فعلي مولاه. فلا ملك اقليم إلا وهذا الخطاب يصله، ويوصله، ولا زعيم جيش إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله. ولا اقليم إلا وكل به يقبله ويقبله. ويتمثل بين يديه ويمثله. ولا منبر إلا وخطيبه يتلو فرقان هذا التقدم ويرتله. وأما الوصايا فقد لقنا ولدنا. وولي عهدنا منها انطبع في صفاء ذهنه وسرت تعديته في سماء غصنه. ولابد من لوامع الوصايا للتبرك بها في هذا التقليد الشريف تنير. وجوامع يصير الخير بها حيث يصير. وودائع سك بها ولدنا أعزنا الله ببقائك، ولا ينبئك مثل خبير، فاتق الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وانصر الشرع فإنك إذا نصرته، نصرك الله على أعداء الدين وعداك. واقض العدل مخاطباً وكاتباً حتى تستبق إلى إلا يغازيه لسانك ويمناك. وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالماً أنه ليس يخاطب غداً بين يدي الله تعالى عن ذلك سوانا وسواك. وأنه عن نيل الهوى حتى لا يراك حيث نهاك، وحط الرعية ومر النواب تحملهم على القضايا المرعية، وأقم الحدود

وجند الجنود، وابعثها براً وبحراً من الغزو إلى كل مقام محمود، واحفظ الثغور ولاحظ للأمور. وازدد باسترشاد بأرائنا نوراً على نور. وأمر للإسلام للأكابر وزعماؤه فيهم بالجهاد. والذب عن العباد، وأصفياء الله وأحباؤه فضاعف لهم الحرمة والاحسان، واعلم أن الله قد اصطفانا على العالمين وإلا فالقوم إخوان. لا سيما أولى السعي الناجح والرأي الراجح ومن إذا فخروا بنبسة صالحة قيل لهم: نعم السلف الصالح. فشاورهم في الأمر وجاورهم في مهمات البلاد كل سر وجهر، وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين هم نحايا الدول وذخائر الملوك الاول، اجرهم هذه المجرى. واشرح لهم بالاحسان صدراً. وجيوش الاسلام هم البنان البنيان فوال إليهم الامتنان، واجعل محبتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المدى وطاعتك في عقائدهم وقد شغفها حباً ليصبحوا لك بحسن نظرك إليهم طوعاً، وليحصل كل جنس منهم من التقرب إليك بالمناصحة نوعاً والبلاد وأهلها فهي وهم عندك الوديعة فاجعل أوامرك بها بصيرة، ومنهم سميعة. وأما غير ذلك من الوصايا فستنجو لك منها ما ينشأ معك يوماً ويلقنك من آياتها محكماً فمحكماً والله تعالى ينهى هلالك حتى توصله إلى درج الابدار ويغذى غصتك حتى تراه قد انبع بأحسن الأزهار وأطيب الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، وعدل وإحسان، حتى لا يخشى سوءاً ولا تخاف دركاً إن شاء الله تعالى. يعة فاجعل أوامرك بها بصيرة، ومنهم سميعة. وأما غير ذلك من الوصايا فستنجو لك منها ما ينشأ معك يوماً ويلقنك من آياتها محكماً فمحكماً والله تعالى ينهى هلالك حتى توصله إلى درج الابدار ويغذى غصتك حتى تراه قد انبع بأحسن الأزهار وأطيب الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، وعدل وإحسان، حتى لا يخشى سوءاً ولا تخاف

دركاً إن شاء الله تعالى. وفي أواخر هذا الشهر أعيد الصاحب برهان الدين السنجارى إلى الوزارة بالديار المصرية على عادته الأولى، ورجع فخر الدين إبراهيم بن لقمان إلى ديوان الانشاء على عادته. وفي العشر الأوسط من شهر رجب وصلت العساكر المصرية والشامية من حلب، والبلاد الشمالية من تطلب التتر والسير في آثارهم، وتوجه الجيش المصري إلى خدمة الملك المنصور بغزة، وأقام عسكر الشام بدمشق. وفي حدود منتصف الشهر وصل الملك المنصور غزة، وكان بلغه رجوع العدو وهو بالرمل فأقام بها، وتوقف عن الوصول إلى دمشق لعدم الحاجة إلى ذلك وقصد تخفيف الوطأة عن بلاد الشام. وفي يوم الخميس عاشر شعبان رحل الملك المنصور عن غزة راجعاً إلى الديار المصرية. وفي أواخر شهر رمضان المعظم أعيد القاضي تقي الدين محمد بن رزين الشافعي إلى القضاء بالديار المصرية وصرف القاضي صدر الدين عمر بن بنت الأعز عن ذلك وكان قبل ذلك قد أعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي، ورتب معهما حاكم حنبلي وهو عز الدين المقدسي فاستمر البلد مع القاضي تقي الدين كل منهم يباشر الحكم استقلالاً على مذهبه. وفي شهر ذى القعدة كان طائفة من عسكر الشام نازلين بمرج المرقب

الحصن المعروف مضائقين لمن فيه، وداخلهم طمع فيه، فركبوا من الليل وصبحوا المرقب صباحاً للغارة إليه فأحس الفرنج المقيمون به بهم، وكان قد وصلهم نجدة في البحر المالح فخرجوا بأجمعهم، وكروا على عسكر المسلمين فانهزموا بين أيديهم في أودية وعرة لا خبرة لهم بها، فنالوا منهم منالاً عظيماً، وأسروا خلقاً كثيراً، وغنموا غنائم عظيمة، وعندما انبرم الصلح بين الملك المنصور وبين الفرنج في شهر المحرم سنة ثمانين وست مائة، استنقذ أكثر من حصل بالمرقب من أسرى المسلمين في هذه الواقعة، وأخفوا من أمكنهم إخفاءه، وسفروهم إلى الجزائر. وفي يوم الأحد مستهل ذى الحجة خرج الملك المنصور من الديار المصرية بالعساكر كلها قاصدا الشام، وترك ولده الملك الصالح يباشر الأمور عنه بالديار المصرية. وفي يوم الأحد ثامنه أضيف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله الحكم بمدينة حلب وأعمالها معها بنده، وأذن له أن يستنيب عنه في ذلك. وفي يوم عرفة منه وقع بالديار المصرية برد من كبار الحجم فأهلك من الغلال والزراعات ما لا يحصى، وكان معظم ذلك بالوجه البحري، ووقع بظاهر القاهرة تحت الجبل الأحمر صاعقة على حجر فأحرقته فأخذ من ذلك الحجر قطعة وسبكت فاستخرج منها قطعة حديد بلغت زنتها أربع أواقي من المصري، ووقع في ذلك اليوم بعينه صاعقة بثغر الاسكندرية.

وفي يوم الثلاثاء سابع عشره نزل الملك المنصور بجميع عساكره على منزلة الروحاء من عمل الساحل، قبالة عكا في معنى تجديد الهدنة، فراسله الفرنج من عكا في معنى تجديد الهدنة، فإنها كانت قد انقضت مدتها، وأقام بهذه المنزلة حتى استهلت سنة ثمانين وست مائة. وفي هذا الشهر قدم من جهة العراق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشمالية وبرية العراق، داخلاً في الطاعة ووصل إلى خدمة الملك بمنزلة الروحاء. فركب السلطان في موكبه وتلقاه على بعد، وبالغ في إكرامه وإحترامه، وعامله بالصفح والاحسان. وفيها توفي أحمد بن عبد الواحد بن السابق أبو العباس محيي الدين الحلبي العدل. من أكابر بيوت حلب. كان رجلاً كثير التحري في شهاداته، وعنده ديانة وعقل وسداد، وكتب لحكام حلب مدة، ولحكام دمشق أيضاً مدة أخرى. ومولده بدمشق سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وتوفي بها يوم الأربعاء بعد العصر ثامن ذى الحجة، ودفن من الغد بجبل قاسيون، وكان صلى العصر من يوم الأربعاء، ولحقه قولنج فمات من ساعته رحمه الله. ازبك بن عبد الله صارم الدين الحلبي كان من أعيان أمراء دمشق وهو منسوب إلى الامير عز الدين الحلبي الكبير، وقد ذكرناه في سنة ست وخمسين وخمس مائة، وكان جرد هذا صارم الدين إلى بعلبك، فتمرض بها، وحمل منها في محفة على بغال إلى دمشق، فوصلها، وأقام بها أياماً، وتوفي في تاريخ ليلة الأحد الرابع والعشرين من شوال، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون، وقد نيف على خمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.

اقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين الشمسي. كان من أعيان الأمراء وأماثلهم وشجعانهم، وهو الذي أمسك الأمير عز الدين ايدمر الظاهري وهو الذي باشر قتل كتبغانوين مقدم عساكر التتر بعين جالوت، وقد تقدم ذكر ذلك كله، وولى نيابة السلطنة بحلب في السنة الخالية، فأدركته وفاته يوم الاثنين خامس شهر المحرم من هذه السنة، ودفن هناك، وهو في عشر الخمسين رحمه الله تعالى. والشمسي نسبة إلى الأمير بدر الدين بيسرى وغيره من الشمسية رحمهم الله. داوود بن حاتم بن عمر بن الحبال. كان شيخاً صالحاً، وله كرامات وأحوال وأخبار صادقة. قال أخي رحمه الله أخبرني مراراً عديدة بأشياء تأتي، فكان الأمر كما أخبر. ولما توفي عمه بكر بن الحبال، طلب إلى دمشق، فنزل واجتمع بالصاحب بهاء الدين، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وأحسن به الظن، ولم يزل بعد ذلك يكاتبه، ويقضي حوائجه، ويقبل إشاراته إلى أن توفى الصاحب بهاء الدين رحمه الله وهو على ذلك. وكان الحاج داود حنبلي المذهب، وأصل أجداده من حران. وتوفي ليلة الأربعاء بين المغرب والعشاء في شهر ذى الحجة من هذه السنة، وعمره يومئذ خمس أو ست وتسعون سنة، ودفن في قبر حفره لنفسه في عقبة عمشكا شرقي بعلبك. قال أخي رحمه الله تعالى: ذكر لي أنه أمر أن يحفره هناك رحمه الله تعالى. حدثني ابن عمه الحاج أبو بكر، قال: كنت معه في بستانه باللجوج، وجرى ذكر التتر وما الناس فيه من أمرهم، فقال لي: متى نثرت هذه الفستقة إنكسروا قال: ونحن تحت شجرة فستق. قال:

فطلعت إلى ذلك البستان، وتذكرت قوله، وجئت إلى تحت تلك الشجرة، فوجدت ثمرها قد قاربت أن تنثر فلم يبق بعد ذلك إلا دون أسبوع، وكسروا بعين جالوت، وصح قوله رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن محمد بن عطاء أبو محمد كمال الدين الحنفي. كان من أعيان العدول، كثير الديانة والخير والتعبد، وعنده مكارمه، وحسن عشرة، صحبته في طريق الحجاز الشريف، فوجدته نعم الرجل، وهو أخو قاضي القضاة شمس الدين الحنفي رحمه الله تعالى. علي بن عمر أبو الحسن الأمير نور الدين الطوري. كان من أبطال المسلمين وشجعانهم المشهورين وفرسانهم المعدودين، وله صيت عظيم عند الفرنج، وله فيهم بالبلاد الساحلية نكايات كثيرة، وآثار جميلة، ومواقف محمودة، جمع الله له بين قوة البدن والقلب، كان.... من حديد، ثقيل الوزن، عظيم القدر، يعجز كثير من الشبان عن حمله، وكان يقاتل به بلا كلنه، وما برح هو وعشيرته مرابطين ببلاد الساحل في وجه العدو سنين كثيرة، وكان من كرماء الناس، ونقل في الولايات الجبلية في عدة جهات من بلاد الشام، ونيف على تسعين سنة، ولم يزل محترماً في الدول، مكرماً عند الملوك يعرفون مقداره، وحضر المصاف الذي بين سنقر الأشقر وعسكر مصر، فجرح في المصاف المذكور ووقع بين حوافر

الخليل، وبقي إلى أواخر صفر أو أوائل شهر ربيع الأول، فتوفى بجبل الصالحية، ظاهر دمشق، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. عمر بن موسى بن عمر بن محمد بن جعفر أبو حفص محي الدين قاضي غزة وما جمع إليها. مولده سنة ثمان وست مائة، توفي بغزة ليلة الثلاثاء ثالث ذى الحجة، ونقل إلى القدس، ودفن به يوم الخميس خامسه بالمقبرة المعروفة بساهرة، الشمالي القدس رحمه الله تعالى. كان والده حاكماً بغزة مدة سنين، وتولاها محي الدين، واضيف إليه عدة أماكن يستنيب فيها من جهته، وهي: لد، والرملة، وفاقون، وبيت جبرين وغيرها. سمع وحدث ودرس بالمدرسة الصلاحية بالقدس، وكان وافر الديانة، كثير الكرم، لا يكاد يمر بغزة أحد يعرفه إلا ويكارمه، ويضيفه حسبما يمكن، وهو مشهور بالشجاعة والاقدام، وقوة النفس، وله حرمة وافرة في الدولة وكلمة مسموعة، وكان نزهاً عفيفاً حسن السيرة، وعنده تورع كثير. فمن ذلك أني سافرت مع أخي رحمه الله إلى الديار المصرية وأجزنا بالقدس في شهر رمضان المعظم سنة تسع وخمسين وست مائة وهو بالقدس الشريف إذ ذاك. فنزلنا عنده؛ فلما كان وقت الفطر أحضر شيئاً كثيراً من أنواع المأكول، ولم يكن فيه لحم، واعتذر عن ذلك بما معناه أن الشهرزورية لما مر في هذه البلاد في السنة الخالية نهبوا أغنام الناس ومواشيهم، ثم باعوا لأهل البلاد فاختلطت، وتعذر تمييز الحلال من الحرام

في ذلك، فتركت اللحم لهذا السبب، وهذا غاية الورع، فقلت له: المولى قد قارب بفعله ما يروى عن أمير المؤمنين، لم نعهد لي بخيلاً. فقال: ما أفعل هذا بخلاً، لكنني منذ قتل عثمان رضي الله عنه ونهبت داره وما فيها لا آكل شيئاً إلا أتحقق حله، وأعلم أصله أو ما هذا معناه. وكان القاضي محي الدين المشار إليه من أصحاب والدي رحمه الله. سمع عليه الكثير ولازمه لما نزل دمشق في أواخر سنة خمس وخمسين، وكان والدي يكرمه ويحبه ويثني عليه. وكان أهلاً لذلك، وحضر عدة مصافات مع الفرنج وحصارات لبلادهم، وله المواقف المشهورة والآثار المذكورة في ذلك رحمه الله تعالى. حكى لي أخي رحمه الله عنه ما معناه، قال: لما قصد الفرنج غزة، جهز إليهم الملك الصالح نجم الدين عسكراً، مقدمه ركن الدين بيبرس الصالحي، وهو من أكابر الأمراء وأعيانهم، ثم بلغه أنهم في كثرة لا يقاومهم العسكر المسير إليهم، فكتب بطاقة إلى ركن الدين مقدم العسكر يأمره بالتأخر، وأنه لا يلقاهم بمن معه إلى حين يصله مدد يقوى به عليهم، وحضر الفرنج، وركب الأمير ركن الدين ومن معه لملتقاهم، ووقف العين في العين، وبقي بين العسكرين مقدار شوط فرس، فحضرت البطاقة إلى ركن الدين في ذلك الوقت، وأنا إلى جانبه فقال لي: تقف على هذه البطاقة وتعرفني مضمونها، فلما وقعت عليها، قلت في نفسي: متى عرفته اندفع، وطمعوا فيه وفيمن معه، والكذب في مثل هذا الموطن

فيه مصالح، فقلت له: مضمونها، أنك تجتهد وتفعل ما تصل قدرتك إليه، ولا يهولك كثرتهم. وقلة من معك. وأنتم بين الظفر والجنة، وقلت ما أمكنني في هذا المعنى، فقوى قلبه والتقاهم، وكسرهم الكسرة المشهورة، بحيث أتى على معظمهم قتلاً وأسراً، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا الوفا كثيرة فلما انقضى المصاف، هنأته بالنصر، وقلت: لو كان في البطاقة أنك تتأخر عنهم بعد وقوع العين، قال: كنت أتأخر، فأخرجت البطاقة، وقرأتها عليه، فوجم وقال: ما كان يؤمنك والعياذ بالله إن هم كسرونا أين كنت تروح من السلطان؟ قلت: والله والعياذ بالله إن هم كسرونا ما كان يراني السلطان ولا غيره يعني أنني كنت أقتل. وهذا ركن الدين هو أستاذ الأمير عز الدين سم الموت، وعلاء الدين ايدغدى الأعمى، وبيدغان، وقلاجا، وعدة أمراء أكابر رحمهم الله تعالى. محمد بن أيوب بن أبي رحلة أبو عبد الله شمس الدين الحمصي مولداً ومسكناً، البعلبكي وفاة. كان يحضر بالأشياء اللطيفة، والأشعار الحسنة. قال أخي رحمه الله: أنشدني المشار إليه يوم الجمعة ثالث وعشرين شهر شوال سنة تسع وسبعين وست مائة ببعلبك: والدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... عن غير قصد فلا تحمد ولا تلم لا تسأل الدهر في البأساء يكشفها ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم توفى بكرة السبت تاسع وعشرين ذى القعدة من هذه السنة، ودفن من يومه خارج باب القفاعة في مقبرة برتيا رحمه الله. محمد بن داود بن الياس أبو عبد الله البعلبكي المنعوت بالشمس. سمع

الكثير من الشيخ موفق الدين وطبقته، والشيخ تاج الدين الكردي وابن الزبيدي، وحنبل وغيرهم، وخدم وادي رحمه الله تعالى ولازمه واشتغل عليه، وسمع على المشايخ الكبار ما لا يحصى كثرة واسمع، وكان عنده ديانة وافرة وتحر في الشهادات والأقوال، كثير الأمانة والعدالة والعبادة وقيام الليل بالقرآن العزيز. خدم والدي رحمه الله فوق أربعين سنة، وانتفع به دنيا واخرى، وحفظ المقنع، وعرف الفرائض، ورحل في طلب الحديث، وحدث بكثير من مسموعاته. ومولده في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وتوفى ببعلبك يوم السبت حادي عشر شهر رمضان المعظم، ودفن بالجبل قريباً من قبر سيدنا عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى. محمد بن سالم أبو عبد الله نجم الدين المعروف بقاضي نابلس. كان صدراً رئيساً كاملاً حسن المثاني كريم الأخلاق، مبسوط اليد، له وجاهة عند الملوك، وتقدم في الدول، ترسل عن الملوك وعن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دار الخلافة، وكانت منزلته كبيرة عنده، وحرمته وافرة لديه. وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة الشيخ نجم الدين عبد الله البادرائي رحمه الله. سمع نجم الدين هذا الحديث واسمعه، وأقعد في آخر عمره، وانقطع عن ولده جمال الدين أحمد قاضي نابلس بها إلى أن توفي في ثالث وعشرين ربيع الآخر، ودفن بنابلس؛ ومولده سنة تسعين وخمس مائة. ووالده القاضي شمس الدين، كان كبير القدر، له مكانة عند الملك الكامل، ولما سلم القدس إلى الأنبرتور

سيره معه ليسلم إليه ما وقع الاتفاق عليه بينهم، وبيتهم بيت كبير مشهور بالحشمة والمكارم، ولما ترك قاضي نابلس بأيديهم من سنين متطاولة وإلى الآن، وكان هذا القاضي نجم الدين قد اشتغل، وعنده فضيلة حسنة رحمه الله تعالى. يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي أبو الحسين جمال الدين المصري المعروف بابن الجزار. ذكر أن مولده سنة إحدى وست مائة والله أعلم، وتوفى يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال بمصر، ودفن بإحدى القرافتين رحمه الله تعالى. سمع أبا الفضل أحمد بن محمد بن الحباب، وروى عنه، وسمع من غيره أيضاً، كان إماماً أديباً فاضلاً، جيد البديهة، حلو المجون، دمث الأخلاق، حسن المحاضرة، وله أشعار كثيرة مدح الملوك والأمراء والوزراء والأعيان وغيرهم، وكان من محاسن الديار المصرية، وله نوادر مستطرفة، ووقائع مستملحة، ومداعبات ظريفة، ومكاتبات إلى الأدباء وغيرهم. كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان في عيد النحر: مولاي شمس الدين يا من سمت ... با خمصيه الرتب العاليه يا منعماً راجيه بالندى ... لم يبق في أمواله باقيه قد أصبع الملوك لا تشتهي ... شيئاً سوى لقياك والعافيه والعيد عيد النحر قد جاءه ... وهو من الأمرين في ناحيه لم يلف جزاراً ولا شاعراً ... ولا الحرفة الأولى ولا الثانيه

قال أبو الحسن الجزار المذكور: لما قدم الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله تعالى إلى الديار المصرية، نخبت شيئاً من أشعار أجداده ومضيت به إليه، فصادفت الأمير ناصر الدين حسن بن شاور الكناني، فأخذني وأدخلني الدار، فوجدت عنده السراج عمر الوراق، فتذاكرنا ما كتب من ذلك فقلت: للصاحب ان في جرادة معشر ... فضلوا الورى في السلم والهيجاء ببراعة ويراعة ودراسة ... ودراية وخطابة وقضاء فقال السراج الوراق: لم يهجو بالشعر إلا حيلة ... منهم على الاحسان للشعراء يتواضعون لكي يفدى منهم ... حتى كأنهم من الأكفاء فقلت: حاكت فزوعهم الكرام أصولهم ... ما أشبه الأبناء والآباء لهم الفتوة والفتوى إذ هم ... خير الكرام وجلة الأدباء فقال ناصر الدين حسن بن شاور الكناني: فاصغ بسمعك حين تتلى أنهم ... ان كنت ذا فهم وذا إصغاء واسمع لما يوحى هناك من العلى ... وثناء أفعال وطيب ثناء فقال السراج الوراق: يصلون بالأدب إحساناً لهم ... كالفجر متصلاً بنور ذكاء هم دوحة مخضرة الأفنان إن ... حف النداء مخضل الأفناء

فقال ناصر الدين حسن بن شاور: بيت تسامى قدره ومحله ... عن أن يسامى في ندى وغلاء فيه المواطن والزواهر منهم ... وسل الحيا وكواكب الجوزاء وللجزار أيضاً من أبيات: أدركوني فبي من البرد هم ... ليس ينسى وفي حشائي التهاب ألبستني الأطماع وهماً فها ... جسمي عار ولى قرى وثياب كلما ازرق لون جسمي من البرد تخيلت أنه سنجاب وقال أيضاً: من منصفي من معشر ... كثروا علي وكشروا صادقتهم وارى الخروج من الصداقة يعسر كالخط يسهل في الطروس ومحوه يعتذر ومتى أردت كشطته ... لكن ذاك يؤثر وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ألا أيها السائل عن قومي وعن أهلي لقد سائلت عن قوم ... كرام الفرع والأصل يريقون دماء الأنعام في الحزن والسهل يرجيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل

وقال من أبيات: تزداد بالذم إسرافاً عراضهم ... وكل أيامهم تشريق وكتب إلى شرف الدين صاحب ديوان البيوت: لا تلمني يا سيدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصابا كيف لا أشكر الجزارة ما عشت زماناً وأهجر الآدابا فيها كانت الكلاب ترجيني ... وبالشعر صرت أرجو الكلابا وقال أيضاً رحمه الله: أكلف نفسي كل يوم وليلة ... سروراً على من لا أفوز بخيره كما سود القصار بالشمس وجهه ... ليجهد في تبييض أثواب غيره وقال أيضاً وقد ذكر الشواء الشاعر: إن النجوم وإن تكامل ضوءها ... ليست كشمس الأفق في الأضواء ومحاسن الجزار في أقواله ... نسيت بذكر محاسن الشواء وقال أيضاً: تزوج الشيخ إلى شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن كأنها في فرشها ورمة ... وشعرها من حولها قطن وقائل قال لي كم سنها ... فقلت ما في فمها سن لو سفرت غرتها في الدجى ... ما حسرت تبصرها الجن

وقال: وقد توجه إلى عند الأمير شهاب الدين أحمد بن يغمور رحمه الله تعالى يتقاضاه برسم له عليه، وأخذ معه هدية سمك: لي تهيأت أمور قط ما اتفقت ... قبلي لسوقة مثلي ولا ملك بالخير يصطاد أسماك البحار وقد ... أصبحت وحدي أصيد الخير بالسمك وقال: وكتب بها إلى ضياء الدين القرطبي، وأهدى له ابلوجين سكر في قدر نحاس: وأبيات تسامح حين تلقى القدر نهدين ففي العربة والعربة ... ما يهدى كهاذين وبات ليلة في شهر رمضان عند الصاحب بهاء الدين أحمد بن حناء رحمه الله، فصلى عنده التراويح، وقرأ الامام في تلك الليلة سورة الأنعام في ركعة واحدة؛ فقال: ما لي على الأنعام قدرة ... لا سيما في ركعة واحده فلا تسوموني حضورا سوى ... في ليلة الأنفال والمائده وجلس السراج الوراق في باذهنج ينظم فقال الجزار: إن السراج نسيم الريح يوقظه ... إلى فوائد كالابريز ينتقد يزيده الريح ايقادا لخاطره ... وما رأينا سراجاً في الهوى يقد

وقال يمدح جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله بقصيدة أولها: هو ذا الربع ولى نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه فقبيح بي في شرع الهوى ... بعد ذاك البر أن أرضى عقوقه لست أنسى فيه ليلات مضت ... مع من أهوى وساعات أنيقه ولئن أضحى مجازاً بعدهم ... فغرامي فيه ما زال حقيقه يا صديقي والكريم الحر في ... مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه صبح بدا منك على قلبي عسى ... أن يهدى بين جنبي خفوقه فاض دمعي مذ رأى ربع الهوى ... ولم فاض وقد شام بروقه يقد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر في الترب عقيقه قف معي واستوقف الركب فإن ... لم يقف فاتركه يمضي طريقه فهي أرض قلما يلحقها ... آمل والركب لم أعدم لحوقه طالما استجريت في أرجائها ... من بيته البدر إذ يدعى شقيقه يفضح الورد احمراراً خده ... ويود الخمر لو يسبقه ريقه فيه الحسن خليق لم يزل ... والمعالي بابن مطروح خليقه ولما ورد فخر القضاة ابن بصاقة رسولاً إلى مصر من الملك الناصر داود رحمه الله، دخل عليه وأنشده في قصة جرت له مع صاحب كان يألفه:

لمثلها كان رجائي انصرك ... فأدرك فتى من الخطوب في درك لم أخش خذلاناً وأنت ناصري ... وإنما يخذل من لا استنصرك عليك يا فخر القضاة عمدتي ... فانظر إلي لا عدمت نظرك واسأل كما عودتني عن خبري ... بلطفك المعهود حتى أخبرك هيهات أن أشرح ما قد حل بي ... أن لم يقل حلك لا تخش درك مثلك من قام بنصر عاشق ... مثلي أن العشق أمر مشترك فقل من قام بنصر عاشق ... مثلي أن العشق أمر مشترك فقل لطرف بات مثلي هاجعاً ... يا طرف لا تنس قديماً سهرك ونار قلبي قد تناسى وجده ... يا قلب خف ذاك الجوى أن يذكرك ولا يغرنك امهال الهوى ... فالحب قد يأخذ بعد ما ترك إياك أن تهزأ بالعشق فقد ... أعذرك الآن به من أنذرك جار على الدهر في أحكامه ... فليته في العذل يقفو إثرك تم على العبد وأنت هاهنا ... ما لا يتم لو تكون في الكرك وقال في بعض مشايخ الأدب، وقد أدهن بالكبريت لجرب ظهر به: أيها السيد الأديب دعاء ... من محب خال من التسكيت أنت شيخ قد قربت من النار فكيف إذا دهنت بالكبريت وقال أيضاً: سر الجفون بديعة الأجفان ... هيهات ينفع مغرماً كتمان طرف المحب فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان تبكي الجفون على الكرى فأعجب لمن ... يبكي عليه إذا نأى الأوطان

أتلفت روحي في رضاك وأنني ... راض بذلك أيها الغضبان يا مسقمي مهلاً على جسد الذي ... لم يبق فيه للسقام مكان حاشى معاليك التي أنا عبدها ... أن لا يكون لحسنها إحسان وقال أيضاً: أقاموا بأرحاء الحشا عندما ساروا ... فكيف يضام القلب وهو لهم جار بروحي من ودعتم وبمقلتي ... لتوديعهم ماء وفي كبدي نار ولست بناسيهم وللقلب نحوهم ... حنين على بعد المزار وتذكار أيا عاذلي إني وإن بعد المدى ... على عهدكم باق فدعهم وما اختاروا إذا وصولوا حبلى فبالفضل منهم ... وإن أعرضوا عني فللناس أعذار ترى ترجع الأيام تجمع بيننا ... وللنفس حاجات إليهم وأوطار بذكر منهم كل غصن مهفهف ... وكل هلال أشرقت منه أنوار ولولا تثنيهم وحسن وجوههم ... لما خدعت عيني غصون وأقمار وقال أيضاً: بهذا الفتور وهذا الصلف ... يهون على عاشقيك التلف أطرف قلبي بهذا الجمال ... وأوقعتها في الأسى والأسف يكلف بدر الدجى إن حكى ... محياك لو لم يشنه الكلف وقام بعذري فيك العدى ... وأجرى دموعي لما وقف وقالوا به صلف زائد ... فقلت رضيت بذاك الصلف

بجوهر ثغرك ماء الحياة ... فماذا يضرك لو يرتشف أكاتم وجدي حتى أراك ... فيعرف بالحال من لا عرف وقال أيضاً: عاقبتني بالصد من غير جرم ... ومهاجرها بقية رسمي وشكوت الظمأ من ريقها العذب فجادت ظلماً بمنع الظلم ورأتني أصبو إلى ذلك الخصر فاهدت منه السقام لجسمي أنا حكمتها فجارت وشرع الحب يقتضي أن أحكم خصمي ذات ثغر نحميه من طرفها الفتاك سحر يصبى الفؤاد ويصمي حدت عنها لما انتضت صارم اللحظ حذاراً من تبوء باثمي يا زماني أراك من بخلك المفرط وفرت من خطوبك سهم قسمي لست ممن يرى بذم بني الدهر لمعى والدهر أولى بذمي قصدتني أيامه ولياليه ... بشهب تعدو على ودهم وقال منها في المدح: يا أميراً يرجى ويخشى لبأس ... ونوال في يوم حرب وسلم أنت موسى وقد تفر عن ذا الخطب فغرقه من نداك بسيم

وقال أيضاً: يا مالك القلب رفقاً ان ثاركفي ... أضالع الصب لا تبقى ولا تذر فضحت غصن النقا لينا فراح إذا ... ما ماس قدك الأغصان تستر ما أنكر الطرف أن الشعر منك دجى ... وإنما عزه من وجهك القمر إني لأعجب من جفن يدير به ... على ندامك خمر وهو منكسر سمح إذا خل معناه أخا أدب ... فالمدح ينظم والأموال تنتثر يثنى على فعله أخلاقه وكذا ... يثنى على حسن أفعال الندى الزهر وقال أيضاً: وأهيف يحكي الغصن لين قوامه ... ويفعل أفعال الشمول شمائله يلين إلى أن يخرج الوهم جسمه ... ويعرف في ماء النسيم غلائله إذا ما بدا من شعره ذوائب ... رأيت غزالاً لا ترعه حبائله وقال منها أيضاً: وإن علياً إن أردت مديحه ... لاأعظم قدراً أن تعد فضائله أقول لشعري مرحباً ليبقيني ... بأن علياً بالمكارم قاتله وقال يهجو كحالاً رجع صيرفيا: عهدت أبا البشر الحكيم بطبه ... مدى الدهر ما بين الورى طالب الرزق فأصبح ذا شغل جديد لأنه ... غدا صيرفياً يصرف العين بالورق وقال أيضاً: قفا نبك من ذكرى قميص وسروال ... ودراعة قد عفا رسمهما البالي

وما أنا من يبكي لأسماء أن نأت ... ولكنني أبكي على فقر أسمالي لو أن امرء القيس بن حجر رأى الذي ... أكابده من فرط هم وبلبال لما مال نحو الخدر خدر عنيزة ... ولا يأت إلا وهو عن حبها سالي ولي من هوى سكنى القياس عن الهوى ... بتوضح فالمقراة أعظم أشغالي ولا سيما بالبرد وافى يزيده ... وحالي على ما اعتدت من عسرة خالي ترى هل تراني الناس في فرجية ... أجربها تيهاً على الأرض أذيالي ويمشي عدوي غير خال عن الاسى ... إذا بات من أمثالها بيته خالي وإني قد أسعى لتفصيل جبة ... كفاني ولو أطلب قليل من المال ولكنني أسعى لمجد يحوجه ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وقال منها أيضاً: وكم ليلة أستغفر الله منها ... بحد وريق بين ورد وجريال تبطنت فيها بدر تم مسنف ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال وقال يمدح الصاحب تاج الدين محمد بن حناء رحمه الله من أبيات: ذو همة يفتخر النجم إذا ... ما لاح من تحت حضيض تربها وعزمه حين حكته في الوغى ... بيض الصباء تباعدت عن قربها

وقال في المداعبات: حسبي حرافاً يحرفني حسبي ... أصبحت منها معذب القلب موسخ الثوب والصحيفة من ... طول القسابى ذنباً على ذنب أعمل في اللحم العشاء ولا ... أنال منه العشاء فما ذنبي ذاب فؤادي وجسمي قد وسخ ... كأنني في حراري كلبي وقال في محتجب عنه: ماذا يفيدك أن تكون محجباً ... ولعبد بات للكريم يلوذ إن أنت إلا في الحصار معي فلا ... تعب فكل ما حاصره مأخوذ وأراد الدخول على الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فضربه البرددار وأخرجه لعدم معرفته به فعمل أبياتاً مزحاً بها: أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته الخمول وجئت لبابك أبغي الغنى ... فأخرجني الضرب قبل الدخول وقال القاضي جمال الدين محمد بن واصل: اجتمعت بالجمال بن عبيد وكنت سمعت أنه دخل دار بعض الأكابر فأخرجه البرددار فقال: معن ويخرج بعد الدخول ... وأقبح شيء خروج المعنى ذلك فأنشدته بيت الجزار فأعجبه وقال إلا أنا أخرجت وما ضربت. وللجزار: إن كنت ممن راعه هجركم ... أو ضقت ذرعاً بتجنيكم فلا أدام الله لي سلوة ... ورد قلبي عاشقاً فيكم

وأنشدني أيضاً: لقد رضى الرحمن عن كل منفق ... فما بالنا نلقى رضا الله بالسخط قبيح على الانسان يعطيه ربه ... بغير حساب وهو يحسب ما يعطي وقال يمدح الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ رحمه الله: بذل وجهي إلا لمثلك بذله ... واغتراري إلا بجاهك ذله يا جواد سحاب كفيه بالجود على كل قاصد مستهله والذي لو حكاه في دسته ... الفضل بن يحيى سخا يطلب فضله لي نصفيه تعد من العمر شيئاً غسلتها ألف غسله لا تسألني عن مشتراها ففيها ... منذ فصلتها نشا يحمله كل يوم يحوطها العصر والدف ... مراراً وتقر بعمله نسف الريح صدرها والمرازب ... فباتت تشكو هزاء نزله أين عيشي بها القديم وذاك التيه فيها وخضرتي والشمله قال لي الناس حين أطنبت فيها ... بس أكثرت حلها فهي تقله وأطلق بعض الرؤساء قمحاً مترباً مسوساً فقال: أتاني برك المقبول براً ... وقصداً للثناء وللثواب فكدر صفوه الكتال حتى ... عذرنا منه في أمر عجاب رضيناه وقد وافى عتيقاً ... إلينا فاستحال أبا تراب وأهدى إلى سراج الدين عمر الوراق تفاحاً وكمثرى ونرجساً، وكان أرمد

وبينهما مداعبة وكتب إليه: أكافيك عن بعض الذي قد فعلته ... لأن لمولانا على حقوقا بعثت خدوداً مع نهود وأعينا ... ولا غرو أن يحرى الصديق صديقا وإن حال عنك البعض عما عهدته ... فما حال يوماً عن ولاك وثوقا بنفسج تلك العين صار شقائقا ... ولؤلؤ ذاك الدمع عاد عقيقا وكم عاشقاً يشكو انقطاعك عندما ... قطعت على المزار منه طريقا فلا عدمتك العاشقون فطال ما ... أقمت لأوقات المسرة سوقا يقبل الأرض، ويسأل بسط عذره في التهجم على مولانا بما هو من وظائفه. والبحث في العلم الذي هو من معارفه. وأنه قد فاق الأصاغر والأكابر، وأنسى الأوائل والأواخر. وعجيب كون مولانا يبدي عند من يباسطه ويداعبه. ويماجنه ويلاعبه. ويصبح متعجباً من هذا السبب المقيل. وهو المتقن لعلم الجليل. وما أظنه عافاه الله بذهيل. عن أن الشباب قد قوضت خيامه. وانقضت أيامه. ومضى ذلك الزمان. ونقص ذلك الادمان. والذي يشكوه مولانا في العين، يشكوه المملوك في الأثر. وما برح المملوك يتكرم به، والله آخذ بيد الكريم إذا عثر. ومولانا يحرض أن لا يتكلف الجواب عن هذه الخدمة خال. ورودها عليه، ولا يجيب المملوك عليها سفاهاً عند مثوله بين يديه، بل إذا صلح مزاجه وتم سروره وابتهاجه. حمى على العباد فيها لعادته، وألقى على المملوك أشعة

سعادته. فأجابه سراج الدين المذكور: أعيني يا بشراكما هجعتما ... وزاد كما طيف الخيال طروقا وجاء بأمثال الخدود تصرحت ... تذوب نفوس العاشقين خلوقا يعار بها مثل النهود تحققت ... وكان باهداء النهود حقوقا ونرجس روض كاللحاظ نواعسا ... وكان جديراً بالنعاس خليقا وقد جاءنا من جامع الشمل والذي ... بداكم من وجدنا للوصال طريقا فكم راض من صعب وذلك جامحا ... ولين قاس ورد مروقا يقبل الأرض وينهي ورود الملجئين من فاكهة، والمتحيين من هديته وهدايته وقد سقاهما در بنابه، وأبدى فيهما عزائم إحسانه. من يده ولسانه. فلثمت تلك الخدود. وضممت تلك النهود. وهممت بالأعين لو أنهن سود. وقد كانت النفوس صدفت عن هذه اللذات. ووقعت بمعزل عن الشهوات، وأنشد: فانتهى طبه.... عارفه ... يخلط الجد مراراً باللعب يغلظ القول إذا لانت.... ... ويراجي عند سورات الغضب رسالة تقود السمع بغير خطام. ويدعوك بالسحر الحلال إلى الأمر، ذلك سهمه. وأعلى في درجات المؤلهين اسمه. ومحا أهل هذه الصناعة، وأثبت رسمه، والعجب أن يتفرس في سبب الرمد. ويعتقد أني وجدت ما وجد. كلا أن الأسباب لتخلف. وإنما لكل أمر ما ألف. والناس تعرف. من أين توكل الكتف. ولا ينجو أحد مع الأوراق مثل هذه الأنحاء

ولا يقول له ما أريد إلا من الالجاء أرشد. وفق الله الشيخ للصواب وسدد رأيه تسديد هذا الجواب: أعانتنا لهذا يا فلان ... تأمل ليس كالخبر العيان أماني بالنفوس لها خداع ... وليس من الحتوف لها أمان ومن بعد الحراك لها سكون ... وصمت بعد ما مرج اللسان أيا من حبذ الآمال ركضا ... بأمن قفي به الأجل العنان تزوفد زاهر الدنيا ومنها ... جنى ثمر الردى إنس وجان ويخدع لامس منها بلين ... أيؤمن إذ تميس الاقحوان محاذر مكرهاً حلا تحاذر ... فما يبقى الشجاع ولا الجبان لو وضع الزمان لو اتعظنا ... وبالغ في نصائحه الزمان ونحن على اغترار من هوانا ... وليس مع الهوى إلا هوان بلغت أبا الحسين مدى إليه ... لمستبق ومستبق رهان وكنت وطالما قد كنت أيضاً ... تقول ... سيقول كانوا الأعز القوا في اليوم عمن ... بكته البكر منها والعوان وسقت بما منعناه حبيباً ... عليه والبيان لها بنان لها أيضاً لحزن بعد حزن ... وألفنا لدمع لا يصان واقذاء برفع فوق نعش ... وخفض في اللحود له مكان

وناح النحو بعده والمعاني ... لها مع كل نائحة حنان ولا بذل بحل عنك يرجى ... ولا عطف لمن غدروا وخانوا فلا تحتج إلى تمييز حال ... لنا حفظت فقد سخن الزمان ولو رقت بحور الشعر دمعاً ... وكان على الخليل لها الضمان لما أدت ولا وأبيه حقاً ... ولو بسلوكها نظم الجمان كفاها ذوقة التقطيع فيما ... يجوزه ويأباه الوزان ولجج سالكاً في كل بحر ... تعين به الرفاق ولا تعان فنالت منه فاصلة الرزايا ... ودائرة الحمام ولا اعتنان ويا أسف البديع على بديع ... وكل فنونه منه افتنان إذا التفت استطال على جرير ... وأخرس من فرزدقه اللسان ويستعر استعارته بنار ... وغيلان اسعار به دخان فلا تنسى به سحبان يوماً ... ولا قسا إذا ذكر البيان ولو هرم رآه سلا زهيراً ... وكان له عليه ثم شان وكم عادت محافلنا عكاظاً ... به وله بها ذاك الجنان فأذنته الملوك فكان منها ... بحيث السمع ينصت والعيان واسنت من جوائزه فلولا ... غناه غدا نداه يستعان

له بالله حالفه وفوق ... يعز به ودرهمه يهان وفي خير الورى أبيات مدح ... جوائزه عليهن الجنان وكل بديعة الالفاظ تعزى ... لحسان بدائعها الحسان جمال الدين أنت جميل ظن ... بربك جل ديا يدان وعفو الله أكثر من ذنوب ... لنا وعلى الشفيع لنا الضمان يوسف بن نجاح بن موهوب أبو الحجاج الزبيري المعروف بالفقاعي. هو من أهل عقربا قرية من أعمال نابلس، وله بها زاوية، وكان يتردد إليها في كثير من الاوقات، وله زاوية ورباط بسفح قاسيون. بناه له الامير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله. كان كثير العبادة والزهد، وحسن التربية، كريم الأخلاق، لطيف الحركات. كثير التواضع، لين الكلمة من المشايخ المشهورين بالعرفان، ولكثير من الناس فيه عقيدة صالحة. وتوفى ليلة الأربعاء بجامع الجبل، واعيد إلى زاويته، فدفن بتربته التي أنشأها جوار زاويته، وقد نيف على ثمانين سنة رحمه الله تعالى. قال الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله تعالى: اجتمعت به فسمعته يقول: الطالب المشيخة جاهل بحقيقة. الأمر مستور عليه، إن أهل الله تعالى يكرمون بها، فيسألون الله تعالى الاقالة. قال: وسمعته يقول: ليس أبناء المشايخ كغيرهم فإن الحاصل للطالب المريد من غيرهم أكثر وأجل فإن أولاد المشايخ عندهم اذلال بآبائهم، فلا تزال نفوسهم مرتفعة، وغيرهم يطلب بالذل

والانكسار، وإنما حصل الناس على الخير بهما. قال: وسمعته يقول: لقد جرى لهؤلاء الذين عندي وقت اجتهدت على ادخال أولادي فيه بكل طريق فلم أقدر. قال: وسمعته يقول: إنما نهى الشيخ الشخص من صحبة غيره إذا كان مريداً مشتغلاً قد سلكه. وعرف مزاجه، لأنه ربما لاذ بجاهل لحاله ففسد عليه امره، ومثال هذا كالمريض الذي له طبيب قد خبر عليه، وعرف دواءها، وعالجها مدة، ولو شاركه في تعليله طبيب آخر، ربما أدى إلى هلاك المريض. وقال: وسمعته يقول: كان ابن محمد يرى الغنم مدة طويلة لم يأخذ الذئب له شيئاً قط، فلما كان بعد تلك المدة أخذ الذئب منه سخلة، فقلت له: قد أخذت شيئاً فأنكر، فكشفت عن حاله فإذا به قد أكل طعاماً من وقائع بعض الصبيان الرعيان، فقلت بهذا أخذ الذئب منك ما أخذ. أبو بكر بن محمد بن إبراهيم عرش الدين الاربلي. كاد ديناً خيراً صالحاً، حسن العقيدة، كثير الذكر والتلاوة، عنده فضيلة تامة، ومعرفة بالنحو والعربية. وحل المترجم، مقتدر على نظم الشعر، وعمل الألغاز. ومن نظمه الألفية في الألغاز المخفية. وهي ألف لغز في ألف اسم. توفى بدمشق ليلة الجمعة ثالث عشر ذى القعدة سنة تسع وسبعين وست مائة، وصلى عليه بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة، ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى. وله أشعار كثيرة، فمنها: قلت لما بدا بيته كبدر ... فوق غصن على كثيب مهيل

عجباً من سقام حصر نحيل ... كيف يقوى لحمل ردف ثقيل ومريض الأجفان بلبل عقلي ... بعذار من فوق خد أسيل جؤذري اللحاظ حلو الثنايا ... طاب سقمي في حبه ونحولي مقلة الروم من بني الروم رام ... بسهام تصمى قلوب الفحول ما عليه لو جاد لي برضاب ... من لماه عساه يشفى غليلي أو عساه يرد قلباً رهيناً ... في يديه من وقت يوم الرحيل وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ولى رشأ أحوى حوى الحسن كله ... بمشرف صدغيه بمائل قده تبدى فخلنا البدر تحت لثامه ... وماس فخلنا الغصن في طي برده وقفت له أشكو إليه توجهي ... وما نال قلبي من مرارة صده وسعرت الأنفاس نار صبابتي ... فمن حرها أثر الحريق بخده ولولا ارتشافي من برود رضابه ... لأحرقت نبت الآس من حول ورده وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ما زال يرميني بكل بلية ... ويتحفني من هجره بالعظائم إلى أن رماه الله بالحب بغتة ... وأصغر ممشاه إلى غير راحم وقفت له كالمشفى في طريقه ... وأنشدته بيتاً كضرب الصوارم وقد كنت أرجو ان أراك معذباً ... بنار الهوى يشجيك نوح الحمائم وقلبك ملآن من الهم والأسى ... وطرفك مسلوب الكرى غير نائم بليت بما قد كنت لي مبتلى به ... ولا ظالماً إلا سيبلى بظالم

وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لا تائسي يا نفس إن عتبت بنا ... أيدي الخطوب وخانت الأيام وتضايقت أوقاتنا فلربما انفرجت شدائدنا ونحن نيام كم قد رأينا من مريض فصلوا ... أكفانه حر عليه همام يشفى وقام ومات من قد فصلوا ... أثوابه للعيد وهو مهام والدهر يرفع الفتى ويحطه ... والعمر فيه صحة وسقام والبدر يكمل بعد نقصان به ... ويحل فيه النقص وهو تمام والموت يأتي بعد ذاك وتخرب الدنيا ويذهب بعدها الأقوام وقال أيضاً رحمه الله تعالى: شبت وجزت السبعين وارتحل ... الصبى فصبحي من بعده غلس لا معدتي تقطع الطعام ولا ... الوسيط فيه روح ولا نفس فكيف يرجو طيب الحياة أخو ... شيب بيوت السقام يلتمس وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أقول إذا عزى جزع لقلبي ... لبعدكم وضاق بي الفضاء ولم أملك لوقع البين صبراً ... أعيش به إذا غلب الهواء تصبر أيها القلب المعنى ... وكن راض بما حكم القضاء وقال أيضاً في السلو: ها أنت قد سلوت ولد طرفي بالكرى ... وسمعت من قول العواذل ما جرى وأجابني قلبي إلى سلوانكم ... وأبت جفوني بعدكم ان تسهرا

بناكم بنتم وخنا مثلما ... خنتم وها حبل الوداد انبرا كذب الذي قال البعاد مرارة ... ما ذقت طعم البعد إلا سكرا إني لأبغض من يمر بذكركم ... متعرضاً وأراه شيئاً منكرا ما في فؤادي موضع لعتابكم ... كلا ولا بحديثكم أن يذكرا أنا قد سلوتكم وكنتم أضلعي ... فيعلم العادي ويدري من درا وقال أيضاً في هذا المعنى: سطا جيش السلو على غرامي ... وكنتم بعد فترتها عظامي أناس كنت اعشقهم قديماً ... وأهجر فيهم سمع الملام تناسوا بعد وصل واتفاق ... وبانوا بعد قرب والتيام وطنوا بعد حسن الظن فيهم ... على الصب المتيم بالسلام ولما أن نأوا عني عنادا ... بلا جرم ولم يرعوا ذمامي رفضت هواهم وسلوت عنهم ... بلا جزع كذا فعل الكرام وها أنا قد هجرت النوم كيلا ... أرى منهم خيالاً في المنام ولو أن الليالي ساعدتني ... جعلت بغير أرضهم مقامي وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ومورد الوجنات معسول اللمى ... يزهو كغصن الثاية المياس ريان من ماء الشباب معقرب ... الصدغين قد جعل السقام لباسي ساجي اللحاظ مريضة أجفانه ... عذب المراشف طيب الأنفاس لما رأى ورد الملاحة تجتني ... باللحظ سبح خده بالآس

عجباً له حمل الثياب وجسمه ... كالماء كيف يضمر قلباً قاسي ما زال يعذلني عليه عاذلي ... ويزيد في عذلي وينقب رأسي حتى رآه فصار من عشاقه ... فأقام عذري فيه بين الناس فإذا انثنى خلناه غصن اراكة ... وإذا دنا خلناه ظبي كناس أنا من هواه من الصبابة في غنى ... ومن التصبر عنه في إفلاس يبدو فتحسبه هلالاً مشرفاً ... من تحت طرة شعره الدعاس وقال أيضاً في الشيب: قل للذي لبس السواد والبس الشعر السوادا ضيعت عمرك في المحال ولم تنل أبداً مرادا لو مت في رجع الشباب ولو فرشت له الرمادا وزمان لهوك والصبا ... ولى وارائك الكسادا أفسدت صنعتها وما ... حب الفساد فنى فسادا فافعل بنفسك ما تشا ... واجعل لك الاحزان زادا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: بنفسي حبيب كامل الحسن وافر ... الجمال سريع السخط عند عقوقه إذا ماس حار الغصن من شرف به ... وإن لاح غار البدر عند شروقه فما السحر إلا من نفاثة طرفه ... وما الخمر إلا من سلافة ريقه لقد عمه بالحسن خال بخده ... تحامى عن الازهاء فوق شقيقه على مثله يرض أخو الشكر هتكه ... ويجفو الصديق المرتضى لصديقه

وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا كامل الحسن الذي ... حزني طويل فيه وافر أمرضتني بجفونك المرضى الصحيحات الفواتر وقبلتني بالحال وهو سواد عيني فيه حائر وأسلت بالخد الأسيل الدمع من أنف النواظر وقال أيضاً رحمه الله تعالى: الحمد لله إني في مجاهدة ... مما أقاسي وحسبي ذاك يكفاني إني لأعجب من حال ولا عجب ... من أمروي فليت الله عافاني أموت في الليل من داء يكابده ... قلبي واحيى إذا ما الصبح وافاني والعمر ينقص والآمال زائدة ... والحرص يأمرني والشيب ينهاني ولست أبغي سوى عفو ومغفرة ... من الاله إذا ما الموت فاجأني فإن بلغت الذي أرجو وآمله ... زالت همومي وأوجاعي وأحزاني وقال وذكر أسماء جماعة من الخدام: قد مضى عنبر وولى ... وتولى من بعده كافور وغدا جوهر الصبا ورشيق القد مني انحنى وعيش مرير فصديقي بكى لذاك عفيف ... لما رأى ومسرور كدر العيش بعد ما كان صافي مذ أتاني من المشيب نذير فانحرافي عن الملاهي صواب ... وانصرافي عن الغرور سرور واكترافي بخالص العمل المرضي فمثقال ذرة مسطور

والهدايا تهدى لم شكر ... الله ومسعاة صالح مسرور ويجازي في الحشر روح وريحان فذو العرش منصف وغفور يا صبيح الوجه اتعظ بمقالي إن اقبالاً فضله مشهور ما يفي ما أقول إلا رشيد ... فهو هاد ومرشد ونذير وقال رحمه الله تعالى: رنا نافراً عنا كخشف غزال ... وماس فخلنا الغصن تحت هلال وأسبل ليلاً من غدائر شعره ... وأبدى بذاك الشعر نور كمال رب الجمال قد حاز في الحسن خده ... ورب جمال فاق كل جمال يزيد سواد العين في صحن خده ... فتحسبه خالاً فليس يخال واعجب من ذا أن من رقة به ... يؤثر فيه وهو طيف خيال أبو بكر بن هلال بن عباد عماد الدين الحنبلي الحنفي، معيد المدرسة الشبلية. كان عالماً صالحاً منقطعاً عن الناس، مشتغلاً بنفسه وأشغاله، ونفع لمن يقرأ عليه، ومولده في العشرين من شهر رجب سنة خمس وسبعين وخمس مائة، وتوفى في تاسع عشر رجب من هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وست مائة، وكمل له مائة سنة وأربع سنين. روى عن ابن الزبيدي وروى بالاجازة العامة عن السفلي، وحدث رحمه الله تعالى. أبو القاسم بن محمد صفي الدين الحنفي والد قاضي القضاة صدر الدين علي قاضي دمشق، كان كبير السن خيراً صالحاً، منقطعاً ببصرى، وكانت وفاته بها ليلة نصف شعبان رحمه الله تعالى.

السنة الثمانون وستمائة

أبو بكر سيف الدين المعروف بابن اسباسلار. ولى مصر مدة سنين ثم ولى القاهرة في آخر عمره، وكان عنده فتوة، ومروءة، تعصب، وكرم مفرط، ومحبة للفقراء، واعتقاد في المشايخ، وبر لهذه الطائفة، وله في تكرمه غرائب تفرد بها في وقته، وكان حصل له سمن مفرط جداً، وعانى شدة، وأشار عليه الأطباء بعدم النساء متى استعرف النساء ولى عليه التلف فبقي مدة لم يقربها، وتوفى في شهر ربيع الأول بمصر، ودفن بإحدى القرافتين، وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى. السنة الثمانون وستمائة استهلت يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من نيسان، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية، والملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله نازل على منزلة البروحا من عمل الساحل بعساكره. وفي يوم الخميس عاشر المحرم رحل منها ونزل اللجون، وعاد رسوله من عكا صحبه من صحبه من رسل الفرنج من عكا والمرقب، فاستحضرهم يوم الجمعة حادي عشره بمنزلة اللجون بحضور الأمراء، وسمع رسالتهم، وحصل الاتفاق، وحلف الملك المنصور على الصورة التي وقع الاختيار عليها، واقتضتها المصلحة، وانبرم الصلح، وانعقدت الهدنة. وفي يوم الأحد ثالث عشره قبض الملك المنصور على سيف الدين كوندك الظاهري وعلى جماعة من الأمراء الظاهرية لمصلحة اقتضاها بمنزلة

حمراة بيسان وقت الظهر بالدهليز، وعند قبضهم هرب الأمير سيف الدين بلبان الهاروني، ومعه جماعة، وقصدوا صهيون، وركبت الخيل في طلبهم فلم يدركوهم. وفي ليلة الأربعاء سادس عشره هرب الأمير سيف الدين ايتمش السعدي، ومعه جماعة إلى صهيون من منزلة خربة اللصوص، وركبت في طلبهم جماعة من الأمراء، منهم الأمير ركن الدين بيبرس الناصري المعروف بطقصو، فأدركه، وجرح طقصو، ولم يقدر على رده فعاد عنه. وفي يوم السبت تاسع عشره دخل الملك المنصور سيف الدين قلاوون دمشق ونزل بقلعتها، وخرج الناس كافة إلا من قل لتلقيه. وفي عشية يوم الاثنين تاسع وعشرين منه صرف قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله عما كان يباشره من الحكم بالبلاد الشامية، وولى القضاء عز الدين محمد بن عبد القادر المعروف بابن الصائغ عوضه. وفي العشر الأول من صفر ترتب بدمشق حاكم على مذهب الامام أحمد ابن حنبل رحمة الله عليه بعد خلوها منه مدة، والذي ولى القضاء نجم الدين أحمد بن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر المقدسي. وفيه خرج قطعة جيدة من العسكر، مقدمهم الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسي، وأعقبهم مجانيق عدة جهزت على العجل لحصار شيزر. وفي العشر المذكور من صفر أيضاً ولى بحلب وأعمالها القاضي تاج الدين يحيى بن محمد الشافعي مستقلاً من جهة الملك المنصور.

وفي هذا الشهر جاء الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق لخدمة السلطان الملك المنصور والسلام عليه، فخرج لتلقيه في موكبه، ونزل بداره المعروفة بابن المقدم داخل باب الفراديس، وترددت الرسائل بين الملك المنصور وشمس الدين سنقر الأشقر في تقرير قواعد الصلح، فلما كان يوم الأحد رابع ربيع الأول، وصل من جهة سنقر الأشقر الأمير علم الدين الدويداري، ومعه خزندار سنقر الأشقر في معنى إبرام الصلح والوقوف على اليمين، فحلف الملك المنصور يوم الاثنين خامسه، ونادت المنادية في دمشق بانتظام الصلح واجتماع الكلمة، فرجع الذين حضروا من جهة سنقر الأشقر، وصحبتهم الأمير فخر الدين اياز المقرى ليحضر يمين شمس الدين سنقر الأشقر، فحلفه، وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشره فضربت البشائر بالقلعة، وسر الناس بذلك غاية السرور، وصورة ما انتظم عليه الصلح: أن سنقر الأشقر يرفع يده عن شيزر، ويسلمها إلى نواب الملك المنصور وعوضه عنها فامية، وكفرطاب، وأنطاكية، والسويدية، ولا سفر، وبكاس، ودركوش بأعمالها كلها، وعدة ضياع معروفة، وأن يقيم على ذلك، وعلى ما كان استقر بيده عند الصلح، وهو: صهيون وبلاطنس، وحصن مرزية، وجبلة واللاذقية، وست مائة فارس، وخوطب بالمقر العالي المولوي السيدي العادلي الشمسي، ولم يصرح في مخاطباته بالملك ولا بالأمير، وكان يخاطب قبل ذلك في مكاتباته من الملك المنصور بالجناب العالي الأميري الشمسي.

وفي العشر الأوسط منه دارت الجهة المفردة بدمشق وأعمالها، وضمنت، وأقام لها ديوان، ومشد، وكانت أبطلت من الشام في الأيام الظاهرية من مدة تزيد على خمس عشرة سنة، وأعيدت هذه الحالة في الديار المصرية قبل هذا التاريخ بمدة، فلما كان يوم الأحد الخامس والعشرين منه، خرج مرسوم السلطان بإبطال الجهة المفردة من دمشق، والبلاد الشامية، وباراقة الخمور، وإقامة الحدود على مرتكب ذلك، وبتعظيم الانكار في ذلك، فركب الولاة، وطافوا على مظان ذلك بدمشق وظاهرها، وأراقوا الخمور، وأزالوا ما يناسب ذلك، وشددوا غاية التشديد في ذلك، وتضاعفت الأدعية للسلطان على ذلك. وفي بكرة يوم الأحد تاسع وعشرين منه عادت العساكر الشامية بكمالها، ويسير من العساكر المصرية من جهة سيزر إلى دمشق للاستغناء عنهم بالصلح. وفي اليوم المذكور انبرم الصلح بين الملك المنصور سيف الدين قلاوون والملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر صاحب الكرك، وحلف الملك المنصور على الصلح بما استقر عليه الحال، ونادت المنادية بذلك، ففرح الناس باجتماع الكلمة، ولله الحمد. وفي الشهر المذكور قبض بالديار المصرية على وزيرها برهان الدين السنجاري، وصرف عن الوزارة، واعتقل بقلعة الجبل، وكان قد تقدم بأيام قلائل، قبض ولده وحاشيته، وخواصه، وأتباعه، وغلمانه، وحبسوا عن آخرهم، وطولب برهان الدين بمال كثير.

وفي العشر الوسط منه عاد الملك المنصور ناصر الدين صاحب حماة إلى حماة، وخرج السلطان لوداعه إلى القابون. وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر وصل إلى ظاهر دمشق زوجة الملك الظاهر ابنة بركة خان الخوارزمي من الكرك، وصحبتها تابوت ولدها الملك السعيد ناصر الدين محمد رحمه الله نقل من مشهد جعفر الطيار رضي الله عنه، فلما كان ثلث الليل من ليلة الخميس العشرين منه استبقى تابوته بالحبال من الصور الذي لباب الفرج، وحمل إلى تربة أبيه الملك الظاهر، أنزلوه من ساعته على ضريح والده بالتربة المذكورة رحمهما الله تعالى، ونزلت والدته بدار صاحب حمص تجاه المدرسة العزيزية، وأكرمت غاية الاكرام، وأجرى لها الاقامات الوافرة. وفي بكرة الجمعة حادي وعشرين منه عقد عزاءه بالتربة المذكورة وحضر الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وأعيان الأمراء وأرباب الدولة، والوعاظ والقراء. وفي يوم الخميس العشرين من جمادى الأولى أحضر إلى الملك المنصور سيف الدين، وهو بالميدان الأخضر أمير منكوتمر بن هولاكو أسير تحت الحوطة، وأخبر أن التتر على عزم الحركة والركوب، فخرج أمر السلطان من ساعته بعرض الجيوش والاهتمام بأمر الجهاد، وملتقاهم، وكان المذكور أسره الكشافة الذي للسلطان من كينوك. وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة وصل إلى دمشق خلق عظيم

من العربان صحبة الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي ملك العرب ببرية الشام والحجاز، وعبر معهم نجدة الملك المسعود صاحب الكرك في تجمل عظيم، وكان الملك المنصور ققد تقدم إلى جميع الأطراف بالحضور إلى دمشق بسبب قرب العدو من أطراف البلاد، وحضر في هذا الشهر أيضاً من تأخر من العساكر بالديار المصرية، ولم يتأخر أحد من العربان والتركمان وسائر الطوائف وكثرت الأراجيف بقرب العدو، وخرجت العساكر في هذا الشهر كل يوم طائفة بالعدد. وفي العشر الوسط منه تقدم العدو إلى أطراف حلب، فخلت حلب من أهلها وجندها، ونزحوا إلى جهة حماة وحمص، وتركوا الغلال، والحواصل، والأمتعة، وخرجوا جرائد على وجوههم، وترادف لذلك خروج العساكر من دمشق. وفي العشر الآخر منه وصل منكوتمر بن هولاكو إلى عين تاب وما جاورها من المرج، ونازلت طائفة منهم قلعة الرحبة يوم الأحد سادس وعشرين منه نحو ثلاثة آلاف فارس. وكان ابغا ملك التتر معهم مستخفياً بنواحي الرحبة على شاطئ الفرات ينتظر ما يكون من الملتقى. وفي يوم الأحد سادس وعشرين منه خرج الملك المنصور سيف الديت قلاوون بنفسه من دمشق، وخيم بالمرج، ولم يتخلف أحد من العساكر والجموع بدمشق، ووصل العدو إلى بغراس، وقنب الخطيب بجامع دمشق، وسائر الأئمة في الصلوات.

وفي يوم الخميس سابعه رحل السلطان من المرج لاحقاً بالعساكر المتقدمة إلى ظاهر حمص. وفي هذا الشهر وهو جمادى الآخرة خرج مرسوم الملك المنصور سيف الدين قلاوون بأن يعرض على أهل الذمة من المستوفيين والدواوين الاسلام، فان أبوا صلبوا، فجمع جماعة من ديوان الجيش والمستوفيين نصارى وسامرة، وعرض عليهم الاسلام فأبوا، فأخرجوا إلى سوق الخيل ظاهر دمشق، ونصبت لهم المشانق، وجعلت الحبال في أعناقهم فأسلموا، وأحضروا إلى الحاكم بدمشق، فجددوا إسلامهم على يده. وفي يوم الأحد ثالث شهر رجب نزل السلطان وجميع العساكر والجموع على حمص، وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن عنده من الأمراء والعسكر، وكذلك الأمير سيف الدين ايتمش السعدي ومن معه، فوصل سنقر الأشقر أولاً واجتمع بالسلطان، واستحلفه لسيف الدين ايتمش يميناً ثانية ليزداد طمأنينة، ثم أحضره، وتكامل حضورهم يوم الجمعة ثامن رجب، وحصل الاجتماع والاتفاق على العدو المخذول، وعومل سنقر الأشقر ومن معه بالاحترام التام، والخدمة البالغة، والاقامات العظيمة والرواتب. وفي بكرة الأربعاء ثالث عشره فزع الناس كافة إلى جامع دمشق بالضعفاء والصغار والشيوخ متضرعين إلى الله تعالى في نصرة الاسلام وهلاك عدوهم، وأخرج المصحف الكريم العثماني وغيره من المصاحف العظيمة على رؤوس الناس، وصحبتها الخطيب والقراء والمؤذنون إلى المصلى

بقصر حجاج يسألون الله تعالى النصر والظفر، وكذلك فعل أهل بعلبك وصعدوا إلى ضريح الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله. وفي هذه الأيام ما برحت التتار تتقدم قليلاً قليلاً على خلاف عادتهم، فلما وصلوا إلى حماة فسدوا في ضواحيها، وشعثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحبها، وجوسقه، وما به من الأبنية، وعسكر المسلمين بظاهر حمص على حاله، فلما كان يوم الخميس رابع عشره التقى الجمعان عند طلوع الشمس، وكان عدد التتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون، وعسكر المسلمين على مقدار النصف من ذلك أو أقل، وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره، وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها في هذه الأزمان، ولا من سنين كثيرة، وكان الملتقى ما بين مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الرستين والعاصي، واضطربت ميمنة المسلمين، وحمل التتار على ميسرة المسلمين، فكسروها وانهزم من بها، وكذلك جناح القلب الأيسر، وثبت الملك المنصور سيف الدين قلاوون في جمع قليل بالقلب ثباتاً عظيماً، ووصل جماعة كثيرة من التتر خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص، وأحدق جماعة من التتر بحمص، وهي مغلقة الأبواب، وبذلوا نفوسهم وسيوفهم في من وجدوه من العوام، والسوقة، والغلمان، والرجالة المجاهدين ظاهرها، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأشرف الاسلام على خطة صعبة، ثم أن أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم؛ مثل شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وعلم الدين الدويداري، وعلاء الدين طيبرس الوزيري، وبدر الدين

أمير سلاح، وسيف الدين ايتمش السعدي، وحسام الدين لاجين المنصوري، والأمير حسام الدين طرنطاى وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا على التتار وحملوا فيهم عدة حملات فكسروهم كسرة عظيمة، وجرح منكوتمر مقدمهم، وجاءهم شرف الدين عيسى بن مهنا في عربة عرضا، فتمت هزيمتهم، وقتلوا مقتلة عظيمة تجاوز الوصف، واتفق أن ميسرة المسلمين انكسرت كما ذكرنا والميمنة ساقت على العدو، ولم يبق مع السلطان إلا النفر اليسير، والأمير حسام الدين طرنطاى قدامه بالسنجقية، فعادت الميمنة الذين كسروا الميسرة في خلق عظيم، ومروا به وهو في ذلك النفر اليسير تحت السناجق، والكوسات تضرب، ولقد مررت به في ذلك الوقت، وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا دون ذلك، فلما مروا به ثبت لهم ثباتاً عظيماً، فلما بعدوا قليلاً ساق عليهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وكان ذلك تمام النصر، واكن انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب، وافترقوا فرقتين، ففرقة أخذت جهة سلمية والبرية، وفرقة جهة حلب والفرات. فلما انقضى الحرب في ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته. وفي بكرة يوم الجمعة خامس عشره جهز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من العسكر والعربان، مقدمهم الأمير بيليك الايدمري؛ ولما ماج الناس نهب المسلمون من الأقمشة، والأمتعة، والخزائن، والسلاح ما لا يحصى كثرة، وذهب ذلك كله، أخذه الحرافشة والغلمان وغيرهم. وبعد صلاة الجمعة خامس عشره جاءت بطاقة إلى دمشق من القريتين

يتضمن الظفر والنصر وانهزام العدو، فضربت البشائر على قلعة دمشق وسر الناس، وزينت القلعة والمدنية، وأوقدت الشموع. فلما كان ليلة السبت سادس عشره بعد منتصف الليل وصل إلى ظاهر دمشق جماعة كثيرة من جيش المسلمين منهم جماعة من الأمراء الأعيان، وأخبروا بما شاهدوه في أول الأمر وأن الكسرة كانت عليهم، ولم يعلموا ما تجدد بعدهم بعدهم، فحصل لأهل البلد قلق عظيم وخوف شديد، وتجهز منهم خلق للهزيمة، وفتح بعض أبواب الميدنة، ولم يبق إلا الشروع في الانتزاح، فوصل في تلك الساعة بريدي من جهة السلطان يخبر بالنصر، وكان وصوله عند آذان الصبح، فقرئ كتاب السلطان المتضمن البشارة في تلك الساعة بالجامع، فطابت قلوب الناس، ثم ورد بريدى آخر موكداً لما جاء به الأول فتكامل السرور، وتم الأمن، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الزينة، ومضمون بعض الكتب الواردة: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين، صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس، نعلمه أننا صربنا مصافاً مع العدو المخذول على ظاهر حمص في يوم الخميس رابع عشر رجب الفرد سنة ثمانين وست مائة، وكان العدو المخذول على ظاهر حمص في مائة ألف فارس أو يزيدون، والتحم القتال من ضحوة النهار إلى غروب الشمس، ففتح الله ونصر، وساعدنا بمساعفة القدر، ونصرنا، والحمد لله على أن أذل الأعداء وكسرهم، وظفر المسلمون ونصرهم، وكتابنا هذا والنصر قد ضربت بشائره، وحلق طائره وامتلأت القلوب سروراً، وأولى الله الاسلام من تفضله علينا وعليهم

خيراً كثيراً، والمجلس فيأخذ حظه من هذه البشرى العظيمة، ويتقلد عقودها النظيمة، والله تعالى يخصه بنعمه العميمة إن شاء الله تعالى، وأجلت هذه الوقعة عن قتل جم غفير من التتر لا يحصون كثرة، واستشهد من عسكر المسلمين دون المائتين على ما قيل. منهم الحاج ازدمر، وسيف الدين الرومي، وشهاب الدين بويل الشهرزورى، وعز الدين بن النضر، من بيت اتابك صاحب الموصل المشهور بالسيرة المفرطة، والبأس الشديد والصرامة، وكان يسكن جبل الصالحية، وغيرهم رحمهم الله أجمعين وسنذكر أعيانهم إن شاء الله تعالى. ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص إلى البحيرة التي لها ليبعد عن الجيف ثم توجه عائداً إلى دمشق، فدخلها يوم الجمعة الثاني والعشرين منه قبل الصلاة، وخرج الناس إلى ظاهر البلد للقائه، ودخل بين يديه جماعة من أسرى التتار، وبأيديهم رماح، عليها شعف رؤوس القتلى منهم، وكان يوماً مشهوداً، ودخل في خدمته جماعة، منهم: سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين التميش السعدي والامير علم الدين سنجر الدواداري وسيف الدبن بلبان الهاروني وغيرهم، ودخل قلعة دمشق، وكان سنقر قد ودعه من حمص، وعاد إلى صهيون. ولما استقر الملك المنصور بدمشق. جرد عسكراً عظيماً إلى الرحبة لدفع من عليها من التتر. فلما كان يوم الاثنين خامس وعشرين منه وصلت قصاد الرحبة، وأخبروا برحيلهم عنها في يوم الجمعة ثاني وعشرين منه، ووصل الأمير بدر الدين الايدمرى

دمشق بمن معه من العسكر عائداً من تتبع التتار. وقد أنكى فيها نكاية عظيمة، ووصل إلى حلب وأقام بها وسير أكثر من معه فتبعوهم إلى الفرات فهلك منهم خلق عظيم، غرقوا بها عند عبورهم، وأنكوا فيهم نكاية عظيمة، وتفرقت شملهم، وما برحت الأسرى في هذه الأيام متواصلة إلى دمشق، والأخبار مترادفة بما نالهم من الضعف والمشقة، وهلاك خيولهم، وتخطف أهل البلاد لهم، وأنهم تمزقوا في البراري والجبال وهلكوا جوعاً وعطشاً. وفي يوم الأحد ثاني شعبان خرج الملك المنصور من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له، ودخل الديار المصرية يوم السبت ثاني وعشرين منه، وعقيب وصوله اعتقل الأمير ركن الدين اباجى الحاجب، وبهاء الدين يعقوب مقدم الشهروزورية بقلعة الجبل. وفي سلخه باشر الأحكام بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية القاضي وجيه الدين البهنسي الفقيه الشافعي. وفي هذا الشهر بعد سفر السلطان ترتب الأمير علم الدين سنجر الدوادارى مشدا على الدواوين بالشام منطلق في المهام، والمصالح، والأموال، والاستخدام والعزل، وله مشاركة في الجيش، وكان خرج مع السلطان، ووصل معه إلى قريب غزة، ثم عاد من خدمته على هذه الصورة، وعين له خبز سبعين فارساً.

وفي يوم الأحد سابع شهر رمضان المعظم فتحت المدرسة الجوهرية وذكر بها الدرس قاضي القضاة حسام الدين الحنفي وذلك في حياة منشئها وواقفها نجم الدين محمد بن عباس بن مكارم التميمي الجوهري وهو بقرب المدرسة الريحانية بدمشق. وفي سحر يوم الأربعاء عاشره وقع بدمشق ثلج كثير بهواء عاصف، وبقى إلى ضحى يوم الخميس مستمراً بحيث بقى على الأرض منه في بعض الأماكن قريب نصف ذراع، وكان قارنه برد مفرط يلبس، وجليد، وطالت مدة بقائه على الأرض وضعفت الخضروات، وفسدت الفواكه من الجليد في المخازن، وأما بعبلك فجمد فيها كيزان الفقاع، وذلك غير منكر بها، وأما دمشق فقل أن يقع بها الثلج على هذه الصورة. وفي شوال وصل إلى دمشق صاحب سنجار مقفراً من جهة التتر في طاعة الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وكان وصوله بأهله وحريمه وأمواله، فخرج نائب السلطنة لتلقيه، واحترمه، ثم جهزه إلى الديار المصرية. وفي شوال أيضاً استفتى أهل الكتاب الذين أسلموا على ما تقدم شرحه بأنهم أسلموا مكرهين، وعقد لهم مجلس، ورسم القاضي جمال الدين المالكي أن يسمع كلامهم، ويحكم فيهم بما يوافق مذهبه، فكتب لهم محضر، وشهد فيه جماعة من المسلمين بأنهم كانوا مكرهين، وأثبت المحضر، وعاد أكثرهم إلى دينه، وضربت على من عاد الجزية، وقيل إنهم غرموا

جملة كثيرة حتى تم مقصودهم من ذلك. وفي يوم الاثنين خامس ذى القعدة قبض السلطان الملك المنصور على سيف الدين ايتمش السعدي بقلعة الجبل وحبسه. وفي يوم السبت عاشره قبض نائب السلطنة بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني بمرسوم ورد عليه بذلك، وكان في الصيد مع نائب السلطنة بمرج دمشق فقيده، وحمله إلى قلعة دمشق. وفي بكرة يوم الخميس ثامن وعشرين منه خرج أهل دمشق إلى المصلى، ونائب السلطنة، والأمراء، والجند، رجاله جميعهم، وصلوا صلاة الاستسقاء، وحضروا الخطبة، وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء، وطلب الغيث، وذلك بعد أن صام كثير من الناس ثلاثة أيام عملاً بالسنة، وكان هذا اليوم الثاني عشر من آذار، وسبب ذلك انقطاع الغيث، وعوزان المياه واستمرار الضحو. وفي شهر ذى القعدة أخرج السلطان الملك المنصور لبدر الدين سلامش مملوك الظاهر، وجميع العترة الظاهرية من النساء، والأتباع لهم من الخدام وغيرهم من الديار المصرية، وجهزهم إلى عند الملك المسعود نجم الدين الخضر بالكرك. وفي يوم السبت ثاني ذى القعدة وقع الغيث بدمشق ولله الحمد. وفي عشية عرفة أفرج عن برهان الدين السنجاري من الانتقال، ولزم بيته بعد مكابدة مشاق كثيرة.

وفي هذه السنة تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق واللوق، وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس، وساحل باب البحر، والرملة، وبين جزيرة النيل الوقف على الشافعي رحمه الله تعالى وهو المار تحت منية الشيرج، وانسد ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة النيل، ولم يعهد هذا فيما تقدم، وحصل لأهل القاهرة مشقة يسيرة من نقل الماء الحلو لبعد البحر عنهم. وفيها توفى إبراهيم بن سعيد الشيخ الصالح المولد الشاغوري المعروف بجيفانة، وكانت وفاته يوم الأحد سابع جمادى الأولى بدمشق، ودفن من يومه بمقبرة المولهين بسفح قاسيون، وله من العمر نحو سبعين سنة، وكانت له جنازة حفلة، ولجماعة من أهل البلد فيه عقيدة حسنة، ويذكرون عنه كرامات، ومكاشفات، مع تولهه، وعدم صلاته وصيامه رحمه الله تعالى. إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى شرف الدين بن القاضي محي الدين بن الزكى القرشي الأموي العثماني. كان شاباً فاضلاً عالماً من بيت العلم والدين والرياسة، توفى يوم الجمعة رابع عشر شعبان المبارك رحمه الله تعالى. ابغا بن هولاكو. كان ملكاً عظيماً، جليل المقدار، عالي الهمة، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالحروب، لم يكن بعد والده مثله، وهو على مذهب التتار، واعتقادهم، ومملكته متسعة جداً، وعساكره جمة، وأمواله غزيرة، وكلمته

في جنده مع كثرتهم مسموعة. وله رأي وحزم وتدبير. ولما توجه أخوه منكوتمر إلى الشام بالعساكر، لم يكن ذلك عن رأيه بل أشير عليه به، فوافق ونزل في ذلك الوقت بالقرب من الرحبة في جماعة من خواصه المغل ينتظر ما يكون، فلما تحقق الكسرة رجع على عقبه إلى همذان، فمات غماً وكمداً بين العيدين، ووصل الخبر إلى دمشق بموته في أوائل سنة احدى وثمانين، وله من العمر نحو من خمسين سنة، وكان سبب موته أنه دخل الحمام، وخرج منه فسمع أصوات جملة من الغربان، وهي تنعق. فقال: هذه الغربان تقول مات ابغا، وركب من الحمام، فإذا كلاب صيد قد صادفها في طريقه، فعوت كلها في وجهه فتشاءم بذلك، وبلغه أنه خزانته وخزانة أبيه وكانتا في برج على البحر، وأنه قد خسف بالبرج، وغار في الأرض بجميع ما فيه، فلم يسلم سوى قطعة منه، فمات في نصف ذى الحجة سنة ثمانين وستمائة في قرية من قرى همذان إسمها بابل، وقيل: في بلدة إسمها كرمانشهان من بلاد همذان، ودفن في قلعة تلا عند أبيه، ومات بعده بيومين أخوه اجاى. أحمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن أحمد أبو العباس محيي الدين المصري الأصل الشافعي المعروف بقاضي عجلون ويعرف والده برشيد الدين قاضي قليوب. وكان فقيهاً فاضلاً. رئيساً، كثير الكرم، واسع الصدر، حسن الخلق، أقام حاكماً بعجلون وما أضيف إليها مدة طويلة، يكرم المجتازين به، ويضيفهم ويزودهم، ويتنوع في المكارم، وله شهرة بالكرم، وعلو الهمة، وكان له عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد

رحمه الله مكانة كبيرة، ولما ملك الشام أقطعه عدة قرى، وكذلك كانت حرمته عند أكابر أمراء الدولة، وأعيانها من أرباب السيوف والأقلام، وخدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس في الدولة الناصرية كثيراً عند تردده في تلك الأرض، فلما ملك ترجى محي الدين أن يجازيه على خدمته، ومعرفته له، فلم ينل في أيامه ما أمله، وقد قيل لا تتمنوا الدول فتحرموها، ولما ملك الملك الظاهر جعل محيي الدين المذكور وكيل بيت المال بالشام في أول الدولة، وأعطاه تدريس الشامية البرانية على قاعدة الشيخ تقي الدين محمد ابن رزين وكيل بيت المال في الأيام الناصرية، ثم صرف عن ذلك سريعاً، وطلبه إلى الديار المصرية، ومنعه من العود إلى الشام، وحصل له في إقامته هناك ضرر عظيم، وربما عوق في بعض تلك المدة، ثم جلس مع الشهود بين القصرين، وميز عليهم بأن فوض إليه عقد الأنكحة ثم ولى في آخر عمره قضاء دمياط، وكانت وفاته بها في شهر ذى القعدة، ودفن بها، وقد نيف على الستين رحمه الله. أحمد بن علي بن المظفر أبو العباس نجم الدين المعروف بابن الحلى التاجر. كان ذا نعمة ضخمة وثروة ظاهرة ومتاجرة متسعة ومعاملات كثيرة وأموال جمة، وله التقدم في الدول، والوجاهة عند الملوك، ويكثر من خدمتهم، ومعاملتهم، وكانت وفاته في أواخر شهر رمضان بالقاهرة سنة ثلاث وست مائة، وخلف تركة عظيمة، حمل منها جملة كثيرة إلى بيت المال، وكان شيخاً لطيف الشمائل، حسن العشرة، كثير المواددة، وعنده تشيع،

وإليه أو إلى والده ينسب الأمير عز الدين ايدمر الحلى رحمه الله تعالى. وكان الصاحب بهاء الدين رحمه الله يتمغص منه لعدم تمكنه من الوصول إليه مع وجود الأمير عز الدين الحلى، فلما توفى الأمير عز الدين تمكن منه، فحدث الملك الظاهر في معناه، وعرفه كثرة أمواله ومتاجره وأنه لم يكن يقوم بما جرت العادة من الحقوق الديوانية والمكوس بطريق الأمير عز الدين، فأطلق يده فيه فغرمه مائة ألف دينار، فلما مرض الصاحب بهاء الدين بمرض الموت طلبه، فلما حضر قال: سيدي، وأخي، وصاحبي، واعتنقه وقبل ما بين عينيه، وقال له: يا سيدي نجم الدين، قد ترى ما أنا فيه، واشتهى أن تحاللني، فربما توهمت أن ما أخذ منك الملك الظاهر كان بإشارتي فتحاللني لطيب قلبي، فقال: أعيذك بالله يا مولانا من هذا القول، أنا رجل على تبعات كثيرة، ولي غريم ملى مولانا فإذا طولبت بما علي أحلت عليك، فلو أبريتك كنت تقول لهم أبراني، وما بقي له عندي حق فيعودون إلى مطالبتي والله! هذا لا فعلته أبداً، وخرج من عنده فعظم ذلك على الصاحب. وحصل له كمد كبير، وفكر عظيم إلى حيث فارق الدنيا والله يعفو عنا وعنهم وعن جميع المسلمين بكرمه ورحمته. أحمد بن النعمان بن أحمد أبو العباس فخر الدين المعروف بابن المنذر الحلبي ناظر الجيوش بالشام. كان رئيساً عنده مكارم، وحسن عشرة، وهو من أعيان الحلبيين، ولى المناصب الجليلة، وله الوجاهة التامة مشكور السيرة بين الناس، لا يصدر منه في حق أحد إلا الخير، وكان عنده تشيع، ولم يسمع

منه ما يؤخذ عليه، وكان ظاهر حمص وقت المصاف. واتفق وقوفه في الميسرة، فلما كسرت على ما تقدم شرحه، كان في جملة المنهزمين، ووصل إلى بعلبك وقد خامره الرعب، والتاث مزاجه من السوق، وشدة الحركة مع الخوف، فتوفى بدمشق ليلة الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بسفح قاسيون، وقد ناهز ستين سنة من العمر رحمه الله. أحمد بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن الحسين بن محمد أبو العباس علاء الدين القرشي الأموي العثماني. كان رئيساً عالماً فاضلاً في علوم شتى، يعرف الفقه معرفة حسنة، واشتغل بالأصول، وعلم الأدب، وكتب الانشاء في الدولة الظاهرية بدمشق، وفي الدولة الناصرية، ودرس بالمدرسة العزيزية والتقوية بدمشق، ومولده بدمشق سنة اثنتين وثلاثين وست مائة، وكانت وفاته بها في ليلة الجمعة الثامن وعشرين شعبان، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون بالتربة المعروفة بهم رحمه الله. أحمد بن يوسف أبو العباس موفق الدين المعروف بالكواشي. الشيخ العالم صاحب التفسير الكبير والتفسير الصغير، وقد أجاد فيهما، وأحسن ما شاء وغير ذلك. كانت له اليد الطولى في التفسير والقرآآت، ومشاركة في غير ذلك من العلوم، وعمر مقدار تسعين سنة، وكان مقيماً بالجامع العتيق بالموصل منقطعاً عن الناس، مجتهداً في العبادة، قائماً بوظائفها، لا يقبل لأحد شيئاً، ويزوره الملك فمن دونه، فلا يقوم لهم. ولا يعبأ بهم، وله مجاهدات، وكشوف، وكرامات، ولأهل تلك البلاد فيه عقيدة عظيمة،

وعمى قبل وفاته بأكثر من عشر سنين، وهو يتلقى ذلك بالرضى والتسليم، وكانت وفاته في سابع شهر رجب بالموصل، ودفن بها رحمه الله ورضي عنه. كواشة قلعة من عمل الموصل. الحاج ازدمر بن عبد الله الجمدار الأمير عز الدين. وهو من أعيان الأمراء وأماثلهم، وعنده فضيلة ومعرفة وحسن تدبير، وفيه مكارم كثيرة، ومراعاة لمعارفه، وتفقد لأحوالهم، وبر لهم، ولم يزل محترماً في الدول، ولما تملك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله زاد اقطاعه، فلما قدم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق لازمه واختص به، وكان لا يصدر إلا عن رأيه، فلما تسلطن بدمشق، جعله نائب السلطنة عنه، ولما ضرب المصاف مع المصريين وحصلت الكسرة، قصد الأمير عز الدين الجبل، وأقام به مدة، ثم اتصل بسنقر الأشقر، وأقام بقلعة شيزر وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب، وبقى عند سنقر الأشقر وفي حضر مصاف التتار، وقاتل قتالاً شديداً، وأبلى بلاء حسناً، وقتل مقبلاً غير مدبر شهيداً يوم المصاف، وهو رابع عشر رجب من هذه السنة بظاهر حمص، ودفن في جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعمره نحو ستين سنة، وكانت نفسه تحدثه عن أمور قصر عنها أجله، وكان يزعم أنه شريف النسب والله أعلم رحمه الله. ليبك بن عبد الله الأمير عز الدين الشجاعي الصالحي العمادي، والي الولاة بالجهات القبلية. كان ديناً خيراً أميناً صارماً عفيفاً، حسن السيرة

لين الجانب، شديداً على أهل الريب، وجيهاً عند الملوك. ولى في حال شبابه استاد دارية الملك الصالح عماد الدين اسماعيل رحمه الله وتنقلت به الأحوال، وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يتعمد عليه ويتحقق أمانته وهو مسموع الكلمة عنده، وعزل وقطع خبره بسؤاله اختياراً منه في أول هذه السنة، فلزم بيته إلى أن أدركته منيته بدمشق في يوم الخميس ثاني جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وقد بلغ من العمر خمساً وثمانين سنة رحمه الله. بكتون بن عبد الله الخزنداري الأمير بدر الدين. كان نائب الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري رحمه الله بالشام، وتقدم الطلب الذي له بدمشق، واستولى على اقطاعاته، وأملاكه، وسائر تعلقاته بالشام، وأمره على قلعة الصبيبة، وبانياس، وتلك الأعمال، وكان مشكور السيرة، حسن المعاملة، لين الكلمة، كثير البر والصدقة، كريم الأخلاق، حسن الشكل، وقاتل يوم المصاف الذي ضربه المسلمون مع التتر، وأبلى بلاءً حسناً. وقاتل، وفقد، ولم يقع له أحد والظاهر: أنه استشهد والله أعلم وهو في عشر الخمسين رحمه الله. بلبان بن عبد الله الرومي الأمير سيف الدين الدوادار. كان من أعيان الأمراء وأجلائهم، عمده معرفة، وحزم، ورياسة، ومكارم أخلاق، وإحسان لمن خدمه ويتصل به، وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يعتمد عليه، ويثق به، ويسكن إليه، وهو المطلع على أسراره، وتدبير

أمور القصاد، والجواسيس، والمكاتبات، وغير ذلك، لا يتركه في ذلك وزير ولا نائب سلطنة بل كان هو والأمير حسام الدين لاجين الايدمرى المعروف بالدرفيل، فلما توفى حسام الدين في التاريخ المقدم ذكره انفرد الأمير سيف الدين بذلك، وأضيف إليه عز الدين ايدمر الدوادار الظاهري تبعاً له، ولم يزل على ذلك إلى أن انقضت الدولة الظاهرية. ولم يؤمر فيه بطبلخاناة، فلما أفضى الملك إلى الملك السعيد رحمه الله أمره وأعطاه خمسين أو ستين فارساً بالشام، وهو ملازم خدمته، فلما انقضت الأيام السعيدية، بقى على خبزه وحرمته إلى أن حصل المصاف بين المسلمين والتتار في هذه السنة ظاهر حمص، حضر المذكور، وقاتل فيه قتالاً كبيراً، واستشهد إلى رحمة الله تعالى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، ودفن ظاهر حمص جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد نيف على خمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى. بهادر بن بيجار بن بختيار الأمير بهاء الدين. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم مشهوراً بالشجاعة والنجدة، وله مواقف معروفة، وهو الذي كان سبب حضور والده الأمير حسام الدين بيجار ومن معه إلى بلاد المسلمين وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. توفى بهادر المذكور بغزة. وهو متوجه صحبة العساكر إلى الديار المصرية في يوم الجمعة رابع عشر شعبان، ودفن من يومه بها، وهو في عشر السبعين تقريباً رحمه الله تعالى. ووالده الأمير حسام الدين بيجار في قيد الحياة يومئذ، وهو مقيم بالقاهرة، وقد كف بصره.

بويل بن الأمير بهاء الدين الشهرزورى. من أمراء دمشق، كان من الأبطال الشجعان والفرسان المعدودين، استشهد يوم المصاف ظاهر حمص، وهو يوم الخميس رابع عشر شهر رجب من هذه السنة بعد أن قاتل قتالاً شديداً، وأنكى في العدو نكايات كثيرة، وقتل منهم عدة وافرة بيده رحمه الله تعالى وقد نيف على ستين سنة من العمر. خضر بن محاسن موفق الدين الرحبي. كان من رجال الدهر شجاعة وإقداماً وحزماً وتدبيراً، ومكراً وحيلاً، ومداراة وسياسة، وتيقظاً وفطنة وذكاء، وكان في بدايته جماساً بالرحبة لشخص من أهلها فاتفقت وفاة ذلك الشخص، فتزوج زوجته، وكفل ولده منها، فحاز موجوده، فصلح حاله يسيراً، فتوصل إلى أن صار قزل غلام بالرحبة في حياة الملك الأشرف صاحبها، فلما توفى وانتقلت إلى الملك الظاهر ركن الدين، خدم نوابه فقربوه ووجدوا عنده كفاية تامة، وخبرة بالبلاد وأهلها، فزادوا معلومه، وتوفى عندهم، ويعرف بالأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، واعتضد به، فلما ولى النيابة بتلك الناحية الأمير عز الدين ايبك الاسكندري رحمه الله تعالى زاد في معلومه، وأكرمه ورأى أنه مفتقر إلى مثله لما هو بصدده، فلما أخذ الأمير عز الدين قرقيسيا من نواب التتر، وأخربها، وكانت كثيرة الأذية والضرر لبلاد المسلمين، فسير التتر إلى الملك الظاهر رحمه الله لأخذها وعزمه أن الموفق سعى في ذلك، وطلب خبزاً فأعطى له خبزاً جيداً..... وعظم شأنه،

وانبسطت يده، وكثر أتباعه، وزاد تمكنه، فلما توفى الأمير عز الدين رحمه الله وتولى عز الدين ايبك الموصلى من البحيرة الصالحية، وكان أصله قبجاقا تضاعف تمكنه، فلم تطل مدة المتولى، وتوفى فرتب الموفق مكانه مستقلاً، وأعطى خبزه فدبر الأمور، وجهز القصاد إلى بلاد العدو، وتضاعف اجتهاده، وظهرت ثمرت ثمرة ولايته، فلما تملك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، أقره على ذلك، وطيب قلبه، فلما كان المصاف بين سنقر الأشقر والأمير علم الدين الحلبي، وانكسر سنقر الأشقر لحق بالرحبة، ومعه جماعة كبيرة من أعيان الأمراء والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، فطلب منه تسليم القلعة، فجعل يخادعه، ويماطله، ويرسل في كل وقت الاقامات، وما يطلبه مما هو عنده، وهو في غضون ذلك يطالع الملك المنصور بأحواله، وأموره، ويرد عليه الأجوبة بما يعتمد، وأنه يسعى في افساد من عنده من الأمراء، واتصالهم ملاطفات ترد عليهم من الملك المنصور وأمانات، وهو يسعى في ذلك بتأني إلى أن حصل المقصود، وفارق سنقر الأشقر معظم من عنده من الأمراء، ووردت كتب الملك المنصور إلى الموفق يشكر سعيه، ويعده مواعيد جميلة، وأمره بطبلخاناة وغير ذلك، فلما حضر الملك المنصور إلى دمشق في هذه السنة سير الموفق يطلب الاذن في الحضور، فأذن له فحضر بتقدمه سنية وآماله تحدثه بنبيل نهاية مناه، فلما وصل أقبل عليه الملك المنصور، واتفق حضور تجار أخذوا في ذلك البر ووجدوا بعض قماشهم عنده، فشكوه، وعضدهم الأمير علم الدين الحلبي، فرسم

عليه، وكان غاية الانعام عليه خلاصه من تبعتهم، فحصل له غم شديد، وتمرض بدمشق، ومات بها كمداً، ودفن بمقابر باب الصغير، وقد قارب سبعين سنة من العمر لم يستكملها، وكانت وفاته في أحد الربيعين من هذه السنة رحمه الله تعالى. سلامة بن سليمان بن سلامة بهاء الدين الرقى الشيخ العالم. كان فاضلاً في علم العربية والتصريف، اشتغل عليه جماعة كثيرة، وانتفعوا به، وكانت وفاته في العشر الأوسط من صفر بالمقس ظاهر القاهرة، ودفن هناك، وقد ناهز ثمانين سنة من العمر رحمه الله تعالى. سنقر بن عبد الله الأمير شمس الدين الألفي. كان من أعيان الأمراء الظاهرية، وممن له عنده مكانة مكينة، ومحل لطيف، وهو ممن ارتجع عن الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله، وكان في بداية أمره أول دخوله البلاد قد اشتراه الشمس العذار، ثم باعه فتنقل عنه إلى أن اتصل بالملك المظفر قطز رحمه الله وهو صغير السن، وكان الملك الظاهر يوليه الولايات الكبار، لكنه لم يكن يؤثر مفارقته، ولما افضت السلطنة إلى الملك السعيد رحمه الله، ومات الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله، وأمسك الأمير شمس الدين الفارقاني رحمه الله على ما تقدم شرحه، رتب المذكور في نيابة السلطنة بالديار المصرية وسائر الممالك، وبقى على ذلك مدة، وكان حسن السيرة في مباشرته لذلك محبوباً إلى الجند والرعية، ثم استعفى فأعفى، ورتب عوضه الأمير سيف الدين كوندك، فكان ذهاب الدولة على يده، وكان شمس الدين هذا ديناً، عنده فضيلة

ومعرفة بالأدب والكتابة، وتوفى معتقلاً بالاسكندرية، وقيل: بقلعة الجبل في هذه السنة، وله من العمر نحو من أربعين سنة رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن عبد الملك بن يوسف بن محمد بن قدامة أبو محمد سبط الشيخ أبي عمر الزاهد. كان شيخاً جليلاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً، نير الوجه، ملحوظاً بالصلاح، مشهوراً بالعبادة والديانة، حضر على ابن خليل الرصافي، وسمع من ابن طبرزد، والكندى، وابن الحرستاني، والخضر ابن كامل، وداود بن ملاعب، وجماعة كثيرة، وأجاز له جماعة من العجم والعراق، منهم أبو جعفر الصيدلاني، وحدث بالكثير. مولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وتوفى يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة ثمانين وست مائة، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. عبد العزيز بن الحسين بن الحسن أبو محمد مجد الدين الرازي عرف بابن الخليلي من ولد تميم الدارى الصحابي رضي الله عنه. كان رجلاً مباركاً كثير الدين والتعبد، وقصد المزارات، حسن الظن بالفقراء والصالحين، فيبرهم ويحسن إليهم ويخدمهم بنفسه، وله وجاهة في الدول وثروة، وعنده مكارم وحسن محاضرة بالكتابات والحكايات والنوادر، وعلى ذهنه من التواريخ وأيام الناس قطعة صالحة، ومولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة بمصر، وتوفى ليلة الخميس ثالث عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عثمان بن القاسم بن جعفر

أبو محمد اليونيني السيخ الصالح شيخ الاسلام وأسد الشام. أما مناقب أبيه وجده رحمهما الله فأشهر من أن تذكر، وأما هو فكان رجلاً كثير التعبد، سليم الصدر، لين الكلمة، متواضعاً خير حسن الملتقى، كريم الأخلاق، واسع الصدر، عنده احتمال كثير وصبر ومروءة غزيرة وشجاعة وإقدام، وحضر مصاف حمص بين المسلمين والتتر، وقاتل قتالاً شديداً، واستشهد فيه رحمه الله تعالى، ودفن بقرب مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه. مولده ظاهر بعلبك سنة أربع وست مائة. علي بن أحمد بن بدر أبو الحسن بن أبي القاسم ولي الدين الدين الشيخ الصالح الزاهد العابد الرباني العارف. أصله من بلد الجزيرة العمرية، اشتغل بالفقه في الموصل، ثم بحلب وبدمشق وبالديار المصرية، ثم أقبل على العبادة والتبتل لها، وبنى له معبد في جامع بيت لهيا من غوطة دمشق، وانقطع فيه سنين كثيرة وهو على قدم التوكل والتجرد من الدنيا، وللناس فيه عقيدة عظيمة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ليلة الخميس ثالث شوال بالمدرسة القيمرية الناصرية بدمشق، وقد نيف على خمسين سنة، ودفن يوم الخميس بعد الصلاة بجامع دمشق بسفح قاسيون بالقرب من مغارة الجوع، وهو كردي الأصل، قيل: أنه عباسي النسب لكنه لم يدع ذلك رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى الأمير مجير الدين ولد الملك الظاهر بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى. كان شاباً جميل الصوورة والأوصاف، تام الخلقة بارع الحسن،

عنده عقل وسكون، ورياسة وكرم، وأخلاق ملوكية، ووالدته يومئذ زوجة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، وكانت وفاته بالقاهرة فيشهر شوال، وله جنازة مشهودة لم يتخلف عنها من يعتبر حضوره، وحزن الناس كافة لفقده، وعمره يوم مات يقارب ستاً وعشرين سنة رحمه الله تعالى. علي بن محمود بن الحسن بن نبهان بن سيد بشير أبو الحسن علاء الدين اليشكري ثم الربعي. مولده في مستهل ذى القعدة سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وتوفى يوم السبت سابع وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة بدمشق. وصلى عليه بجامعهما، ودفن بسفح قاسيون، وكانت له اليد الطولى في علم الفلك وتفرد بحل الأزياج، وعمل التقاويم، وغلب ذلك عليه مع فضيلته التامة في علم الأدب وجودة النظم وحسن الخط رحمه الله تعالى. قال المولى شهاب الدين محمود أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه في مفتصد: لا تضع بالفصاد من دمك الطيب واستبقه فما ذاك رشد فهو إن حال ريقه كان خمرا ... وإذا جال في الخدود فورد قال وأنشدني لنفسه: إني أغار من النسيم إذا سرى ... بأريج عرفك خيفة من ناشق وأود لو سهدت جفوني في الكرى ... حذراً عليك من الخيال الطارق وله أيضاً يمدح الأمير مظفر الدين عثمان صاحب صهيون: ما لليلي ما له سحرا ... أتراهم فقدهم مقلتي سحروا غدروا ولا ذقت فقدهم ... فدموعي بعدهم عذروا

همو أحبابي فديتهم ... وصلوا المشتاق أو هجروا لا أبالي مذ كلفت بهم ... عذل العذال أم غدروا وحفاظي والوفاء فما ... غيرته فيهم الغير طاعتي فرض لحكمهم ... إن نهوا في الحب أو أمروا حكموا في مهجتي فجنوا ... غير أني بت اعتذروا هكذا حكم الهوى فما ... لك في العشاق معتبر من عذيري من هوى قمر ... بات يحكي حسنه القمر ماس في برد الشباب كما ... ماس خوط البانة النضر ريقه ماء الحياة لمن ... ذاقه والشارب الخضر حربي إذ راح مبتسماً ... من عقيق حشوه درر وكحيل بات يفتك بي ... حين يرنو وهو منكسر ظالمي هجرانه فمتى ... بوصال منه انتصر أترى يحنو على دنف ... موارده السقم والسهر فإذا ما الشوق أقلقني ... واعتراني الوجد والفكر ليس لي غير الصبا رسل ... وهو لي من نحوه خبر فإذا أجذبت منتجعاً ... فندى عثمان والمطر فهو إن ضن الغمام على ... كل عاف بات ينهمر من يد تولى ندى وردى ... فلذ بها الأرى والصبر لأمير لا يساجله ... في الفخار البدو والحضر

إن روى عن غيره خبر ... صح منه العين والأثر فالندى والعدل ما رويا ... عنه لا عمرو ولا عمر ليث غاب والفتى اجم ... بدر تم جوده بدر كسيا من نور وجنته ... النيران الشمس والقمر حار فكري فيه هل ملك ... ما أرى في الدست أم بشر صدق المداح فاتفق ... السائران الخبر والخبر فتحلت من فضائله ... بالصفات الكتب والسير جللا أعداء نعمته ... المزعجان الخوف والحذر أنفذا طوعاً أوامره ... الماضيان السيف والقدر وإذا ما هم أنجده ... السعدان النصر والظفر فهم شمس الجود لا أفلت ... وبنوه الأنجم الزهر كل فياض اليدين له ... في العلى التحجيل والغرر تحسد الأرض السماء بهم ... فتكاد السمت تنتثر فلديهم منك شنشنة ... ظهرت بالجود إذ ظهروا دوحة للمجد مورقة ... طاب منها الفرع والثمر ليس إلا بابكم وطن ... للندى وجودكم وطر أعين الحساد دونكم ... بضياء السعد تنحسر دمتم للدين فهو له ... بكم دون الورى وزر ما شدت ورقاء في فنن ... أو سرى برق له شرر

وقال يمدح أيضاً: يا برق عج بالحمى واستخبر السبانا ... هل خيم الحي بالجرعاء أم بانا ويا نسيم الصبا عرج بحيهم ... واجرر على الربع أذيالاً وأردانا ثم ائتني بشذى من طينهم عبق ... يكون رياه لي روحاً وريحانا فبي تباريح وجد لو نقص على الواشي لرق لما ألقاه أولانا قلب تقسمه أيدي الجوى فرقاً ... ومدمع الأسى ينهل ألوانا وذات شجو عدت بالبان باكية ... مثلي واردفنا للدمع أجفانا وذات شجو دعوى الحب ما لبست ... طوقاً ولا رجعت في الدوح ألحانا أشكو إلى الله من بانوا بودهم ... عنى وإن أصبحوا بالسفح جيرانا كأنما كان طيفاً حسن عهدهم ... أو هاتفاً قولهم لا كان من خانا يا نافرين ولا والله ما ألفت ... روحي سواهم ولا أنست إنسانا خذوا بقية ما أفناه حبكم ... أو فارددوه علينا مثل ما كانا لا تحسبوا أن ما ظهرت من جلدي ... صبراً وأن الذي أظهرت سلوانا سلوا عن الدمع إذ يهمى ووجدي ... إذ ينمى وحبكم بالسقم عنوانا لا خير في العيش ما لم تسمحون به ... أو ترفقون بنا منا وإحسانا كم أكتم الناس أشجاني ويظهرها ... دمع يغادر سر الحب إعلانا وربما رمت أن أطفي بساجمة ... جمر الصبابة زاد القلب نيرانا ردوا علينا ليالينا بكاظمة ... يا حبذا هي أوطاراً وأوطانا

إذ نجتني ثمرات العيش يانعة ... ندنو ونعطف غصن الوصل ريانا فغيرتنا الليالي في تلونها ... بنا وما زال هذا الدهر خوانا أخشى الزمان وأرجو في تقلبه ... مظفر الدين رب الجود عثمانا من بأسه يطرد اللاواء إن نزلت ... بنا ويصرف صرف الدهر إن آنا فذاك معتصم اللاجي ومفترح ... الراجي وحسبي بما يوليه برهانا يمنه نحو الأماني في ذرى ملك ... ومالك تلق من نعمان رضوانا محجب لم يحجب عنك نائله ... يوليك منا ولا يوليك منانا أجرى الندى بعد أن ملت مطامعنا ... من الكرام فأحياها وأحيانا المبتدى بالعطايا قبل مسألة ... ما أن يشوب بها مطلاً وليانا غيث إذا أخلف العيث الشحوح همت ... يمناه جوداً على العارفين هنانا ما إن يخف له حلم يزينه ... ولو وزنت به رضوى وثهلانا مهابة تذر الأكباد راجفة ... رعباً وتذهل ألباناً وأذهانا خلائق كالصبا هبت معطرة ... فأرجت بشذاها الرند والبانا ورأفة تمنح الجاني وإن عظمت ... منه جنايته عفواً وغفرانا قد رام من رتب العلياء منزلة ... غدت تريك حضيضاً أوج كيوانا هيهات يدرك من رام اللحاق به ... شأواً وقد جعل العلياء ميدانا راموا مداه وما نالوا لأنهم ... ناموا عن المجد لما بات يقظانا

مطعام جدب ومطعان بيوم وغى ... حبذا هو مطعاماً ومطعانا كالسيل مدفقاً والسيف منصلتاً ... والغيث منسجماً والليث غضبانا ورب يوم وغى كالليل عنترة ... تريك أنجمه في النقع خرصانا أضحت كؤوس المنايا فينه دائرة ... فكم بها من كمى راح نشوانا ترى النفوس رخاصاً في تلاحمها ... وربما قد علت في السلم إثمانا وافى به أسد للحرب متخذ ... من الذوابل لا للخوف خفانا أبدى البديع ولا بدع كسلوته ... فيهم ففارقت الأرواح أبدانا راح ينثرهم بالضرب آونة ... بأساً وينظمهم بالطعن أحيانا في فتية قد غذوا محصن الندى وسقوا ... من المكارم والعلياء البانا وهذبته على فضل خلائقه ... حتى اغتدوا في اكتساب المجد أعوانا قوم إذا سمعوا صوت الصريخ بهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا مظفر الدين كم ظفرت ذا أمل ... فرداً فعاد عزيزاً بعد ما هانا تكفي العفاة لدى ناديك إذ نزلوا ... سعداً ونزعوا قلاص الركب سعدانا أرى مديح سوى عليك مختلفاً ... ميناً ومدحك لي أمناً وإيمانا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أحن شوقاً والنياق رزم ... لها من الوجد لسان أعجم حنينها ترجم عن غرامها ... وعبرتي عن لوعتي تترجم دعها تبيد البيدا عناقاً فقد ... لاح لها من الغوير علم

وقد عداها طربي فأصبحت ... بنجد إن عن البريق المتهم ريح الصبا إذا تحياني إلى ... حمى على ما التقيت خيموا من كل بيضاء إذا ما نظرت ... كانت لها البيض الرقاق خدم واسمر إذا بدا قوامه ... يحار منه الأسمر المقوم كم من بها في تلك الخيام غارم ... وكم بذياك الغزال مغرم وبي هوى من لو بدا جماله ... قال الأنام ملك لا صنم يميل عطفيه الدلال مثل ما ... يميل غصن البانة المقوم لا تعجبوا إني سليم حبه ... وقد بدا في الخد منه أرقم يا عاذلي في حبه جهالة ... في أذني عما تقول صمم دعه على ضعفي به تعمدا ... فإنه في مهجتي محكم إن كان قتلي في الهوى مراده ... فإنني لأمره مستسلم أو كان دهر قد طغا فرعونه ... فإن موسى الملك المعظم وقال أيضاً: ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض وقد بهتوا لما رأوني شاحباً ... وقالوا به عين فقلت وعارض عمر بن عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم أبو حفص صدر الدين عرف والده قاضي القضاة تاج الدين بابن بنت الأعز العلامي المصري الشافعي. تولى الحكم بالديار المصرية في سنة ثمان وسبعين وست مائة، وعزل

في أواخر شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وبقى بطالاً إلى حين وفاته، وكان فاضلاً عارفاً بالمذهب، يسلك طريقة والده في الصلابة في الأحكام، وتحرى الحق وأتباعه، ودرس بالمدرسة الصالحية بين القصرين بالقاهرة للطائفة الشافعية، وأفتى وسمع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وأبا الحسين محمد بن علي المقرئ، وأبا الكرم لاحق الاتارحي، وغيرهم، وحدث. ومولده في سنة خمس وعشرين وست مائة بالقاهرة، وكانت وفاته بها يوم الخميس عاشر المحرم، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى. عمر بن مظفر جمال الدين الهكارى الحاجب. كان من أعيان مفاردة الحلقة بدمشق وأكابرهم كثير الديانة، والمروءة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، والترصد لقضاء حوائج الناس، والمثابرة على راحتهم، والبر بالفقراء والضعفاء، وحسن الظن بالصلحاء، مشكور السيرة، محمود الطريقة، سديد الأفعال والأقوال، ختم الله أفعاله بالشهادة، فقتل في المصاف بسيوف التتار في يوم الخميس رابع عشر شهر رجب ظاهر حمص، وقد نيف على الخمسين سنة رحمه الله تعالى. القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الدارمى البصراوي الحنفي أبو محمد صفي الدين. كان من أعيان فقهاء الحنفية، ودرس بالمدرسة الأمينية ببصرى سنين متطاولة إلى حين وفاته، وكان فاضلاً، فيه مكارم ورياسة، ومولده ليلة السبت منتصف شعبان سنة ثمان وست مائة ببصرى، ودفن بها.

القاسم بن أبي بكر بن القاسم الاربلي التاجر المنعوت بأمين الدين المعروف بالمقرئ. مولده سنة أربع وتسعين وخمس مائة باربل، وكان من أعيان التجار، وتردد إلى الديار المصرية وبلاد العجم مراراً، وانتهى إلى خوارزم، وسمع صحيح مسلم على المؤيد بن محمد بن علي الطوسي بنيسابور، وتوفى بالمدرسة العادلية الكبيرة بدمشق يوم الثلاثاء ثاني جمادى الأولى، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر دمشق، وكان قد رق حاله، وقل ما بيده رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد بن مكتوم أبو عبد الله شمس الدين البعلبكي المعروف بابن أبي الحسين رحمه الله تعالى. كان فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة، مستقلاً بعلم الأدب والنظم، وحفظ القرآن العزيز، وأتقنه واشتغل بالفقه على مذهب الامام الشافعي رحمة الله عليه، وكان أولاً حنبلي المذهب ثم صار شافعياً وحفظ التنبيه، وكان معيداً بمدرسة أمين الدولة على بن العقيب رحمه الله بجامع بعلبك، وحفظ المقامات الحريرية، وأتقنها دراية، وكان يحفظ من الأشعار شيئاً كثيراً، وعلى ذهنه قطعة صالحة من التاريخ وأيام الناس، وأما حسن محاضرته، ودماثة أخلاقه، وشرف نفسه، وكثرة قنعه، فقل من يضاهيه فيه، وكان رحمه الله كثير الملازمة لي، لا يكاد يفارقني ليلاً ولا نهاراً إلا في النادر، وإذا عرض لي سفر صحبني فيه، فلما كان المصاف ظاهر حمص بين الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وبين التتار في شهر رجب هذه السنة، توجهت لحضوره، وهو صحبتي فاستشهد إلى رحمة الله تعالى في ذلك اليوم، وهو يوم الخميس

رابع عشر رجب، ولم يستكمل أربعين سنة من العمر. وله أشعار كثيرة فمن ذلك قصيدة كتبها في صدر كتاب وأنا بدمشق، أولها: رام أن يترك الهوى فبدا له ... فرأى حسن وجهه فبدا له كلما لمته على الجهل يزداد ضلالاً فخله والجهالة كيف يرجى الشفاء وما لصب ... لم يخلى السقام إلا خياله ناقص صبره كثير بكاءه ... لو رآه عدوه لرثى له دنف ظل مستهاماً ببدر ... عمه الوجد حين عاين خاله فاتر الطرف فاتن الوصف ألمى ... يفضح البدر حسنه والغزاله يخجل الأسمر المثقف إن رأى ... حسن قده واعتداله ويغير الغصن المهفهف ليناً ... كلما راح ينثني في الغلاله يتجنى تدللاً صانه الله ... فما أحلاه وأحلى دلاله قلت لما عاينته يا منى النفس إلى كم هذا الجفا والملاله أي يوم أنال منك به الوصل فولى وقال لي لن تناله أنا صب به وإن حال عني ... وعبيد له على كل حاله فاق كل الورى جمالاً وحسناً ... ضاعف الله حسنه وجماله وقال أيضاً رحمه الله تعالى: فديتك لا تعجب لطرفك إن كبا ... وخامره ضعف وليس له ذنب ومن فوقه طود وبحر سماحة ... ويعقل عن شامخ كيف لا يكبو

محمد بن أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي أبو بكر نجم الدين الثعلبي الشافعي ابن قاضي القضاة صدر الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين بن أبي البركات المعروف بابن سنى الدولة. كان فقيهاً عارفاً بمذهب الشافعي رحمة الله عليه عالماً بأصوله وفروعه، متبحراً فيه، ناب عن والده بدمشق سنين كثيرة، وكان شديداً في أحكامه، يتحرى الحق ويقوم به، وشكرت سيرته في ذلك، ثم ولى في أول الدولة المظفرية، وهو بالديار المصرية، وقدم دمشق بعد سفر الملك المظفر قطز رحمه الله منها، وباشر الأحكام بها قريب سنة واحدة، ثم صرف، ورسم له بالتوجه إلى الديار المصرية، فتوجه إليها، وأقام بها سنين عديدة، وتولى بها تدريس الزاوية التي كان الشافعي رحمة الله عليه يذكر بها الدرس بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر، وحصل له نكد كثير، ومصادرات استوعبت معظم ما يملكه، ثم قدم الشام وباشر به تدريس المدرسة الأمينية بدمشق مدة، ثم ولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وست مائة، فتوجه إليها، وأقام بها مدة يسيرة، ثم عاد إلى دمشق، وقارن ذلك كسرة سنقر الأشقر. وصرف الأمير علم الدين الحلبي قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فرسم له بمباشرة الحكم، فباشر مدة أيام دون شهر، ثم أعيد قاضي القضاة شمس الدين، ونفى القاضي نجم الدين مقتصراً على تدريس الأمينية بدمشق، وكان معه تدريس الركنية أيضاً إلى أن توفى

إلى رحمة الله بجبل الصالحية في يوم الثلاثاء ثامن المحرم. ودفن يوم الأربعاء بسفح قاسيون بعد الصلاة عليه بالجامع المظفري بالجبل في التربة المعروفة بجده جوار المدرسة الصاحبية، ومولده سنة ست عشرة وست مائة رحمه الله تعالى. محمد بن الحسين أبو عبد الله تقي الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً إماماً عالماً عارفاً بمذهب الشافعي رحمة الله عليه، اشتغل على الشيخ تقي الدين عثمان ابن الصلاح، وتميز في حياته، وأفتى ودرس وتولى وكالة بيت المال بالشام في الأيام الناصرية، وتدريس الشامية البرانية ظاهر دمشق وغير ذلك، ثم سافر إلى الديار المصرية في حفل التتار سنة ثمان وخمسين وست مائة، واستوطنها، وتولى بها جهات جليلة دينية من تدريس، وكا جرى مجراه، ثم ولى الحكم بالقاهرة وأعمالها، ثم أضيف إليه مع ذلك في شهور سنة ست وسبعين مصر وأعمالها، فكمل له ولاية الاقليم، وولى تدريس الشافعي رحمة الله عليه مدة، وتدريس المدرسة الصالحية للطائفة الشافعية مدة أخرى، وتولى تدريس الظاهرية التي بين القصرين أيضاً، وتوفى بالقاهرة يوم الأحد ثالث شهر رجب من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده سادس شعبان سنة ثلاث وست مائة رحمه الله تعالى. روى عن السخاوي، وكريمة، وابن الصلاح، والصريفيني وغيرهم، وحدث رحمه الله.

محمد بن علي بن علون المنعوت بالشمس المزى مفسر الرؤيا. حفظ الكتاب العزيز وأتقنه، واشتغل بشيء من الفقه، وسمع الحديث، وتفرد بعلم تعبير الرؤيا، وبهر فيه، وفاق أهل عصره في ذلك، صحبته في طريق الحجاز الشريف، ورأيت منه في ذلك ما يحكى عن ابن سيرين واضرابه، وكان ضرير البصر، وتوفى بدمشق ليلة الأحد سابع عشر ذى الحجة، ودفن يوم الأحد بمقابر باب الصغير، وقد ناهز خمسين سنة رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن محمود أبو عبد الله جمال الدين المحمودي الصابوني الدمشقي المحدث. سمع الكثير وأسمع، وأفاد، وانتفع الناس به، وكان فاضلاً في فنه، نبيهاً عارفاً بالشيوخ، وتولى دار الحديث النورية بدمشق، وبها مات في ليلة الخميس خامس عشر ذى القعدة، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، ومولده منتصف رمضان المعظم سنة أربع وست مائة رحمه الله تعالى. المسلم بن محمد بن المسلم بن مكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن علان أبو محمد شمس الدين القيسي الدمشقي. أحد أعيان دمشق، وكبرائها وأرباب البيوت المشهورة بها، كان من كرماء الناس، رئيساً، أصيلاً، وجيهاً في الدول وما أضيف إلى ذلك مدة، ونظر الجهات القبلية مدة أخرى، ونظر بعلبك وأعمالها غير مرة، وانفصل في آخر ذلك عنها، وترك الخدمة، وأقام بدمشق، ورتب بدار الأشرفية سمعاً للحديث، ولازمه الطلبة

يسمعون عليه في منزله، وفي دار الحديث وغيرها؛ وكان له مسموعات كثيرة بسند عليه، وروى تاريخ بغداد عن الشيخ تاج الدين الكندي، وروى مسند الامام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وسمعه منه جماعة كثيرة. مولده بدمشق ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وخمس مائة، وتوفى بدمشق في يوم الاثنين خامس عشرين ذى الحجة من هذه السنة، وصلى عليه بعد العصر بجامع دمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. حكى لي الشمس محمد بن خالد رحمه الله قال: كنت بدمشق في عيد النحر، ومعي جماعة من بعلبك فوق العشرة، فصلينا في صحن جامع دمشق، فلما قضينا الصلاة صادفنا شمس الدين المذكور، فدعانا إلى منزله، فلما حضرنا منزله، وجدنا من الأطعمة الفاخرة والحلوى ما لا مزيد عليه، فلما فرغنا من الأكل أمر بإحضار غنم على عددنا فأحضرت وقال: تضحوا على هذه، فامتنعنا فحلف أنه لابد من أخذها، فسقناها إلى المكان الذي كنا به وتصرفنا فيها. وحكى لي ناصر الدين بن قرقين رحمه الله ما معناه أنه اشترى تبن بعض القرى الكبار، وأظنها عذراء بمبلغ عشرين ألف درهم، وكان في مشتراه غبطة ظاهرة قال: ولم يكن معي من الثمن إلا مقدار يسير جداً، فصادفته في الطريق، فتسالمنا وسألني عن قصدي، فحكيت له الصورة، وأنني أسعى إلى من أستدين منه ذلك، فأخذني إلى داره، وأعطاني المبلغ بكماله، وتوقف بيعه، وهو يلقاني ولا يذكر الدراهم، فشرعت له مرة في الاعتذار من التأخير فقال: والله!

ما لي عزم أن آخذها بالكلية، واتفق بيع التبن، وكسبت فيه أكثر من مقدار ثمنه، وأحضرت له الدراهم فامتنع من أخذها فحلفت بمغالظات الأيمان أنه لا بد من أخذها فأخذها، وهو كاره رحمه الله. وسافرت مع أخي رحمه الله إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وست مائة، فاجتزنا بغزة في شهر رمضان المعظم، وهو ناظر تلك الأعمال، وكنت أنا مفطر لرخصة السفر، ونزلنا عنده أياماً فكان في كل نهار يتقدم إلى طباخه أن يطبخ في النهار طعاماً لأجلي، فكان يطبخ من الألوان الفاخرة ما يكفي جماعة كثيرة، وكنت أسأله اختصار ذلك فيأبى إلا كرماً وتفضلاً رحمه الله. ونسخ في آخر عمره من كتب الأحاديث الشريفة النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها وغير ذلك شيئاً كثيراً، وكان يكتب في يومه الكراستين والثلاثة، وكان ينظم الشعر. وليس بذاك. فمن شعره ما نقلته من خط سبطه قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم ابن صصرى الثعلبي أيده الله تعالى. قال: أنشدني جدي يشير إليه رحمه الله لنفسه: يا شامتاً بمصاب من هو ضده ... كأس الردى من بعده هو عنده لا تشمتن فقد مضى لسبيله ... وبقيت أنت تخافه وتعده قال وأنشدني لنفسه، وقد سافر في شهر رمضان وكان زمن الخريف: قالوا أتى شهر الصيام فصمه تنج من العقاب

فأجبتهم قد صمته ... فوقعت في وسط العذاب هذا وهو في زمن الخريف فكيف لو في شهر آب قال وأنشدني لنفسه أيضاً: خان دهري عند احتياجي إليه ... وجفاني من كنت أحنو عليه ناظري ثم عقلي وفؤادي ... وكذا خلى الذي اعتمادي عليه أذكر الشيء ثم أنسى لوقتي ... ما تذكرته وما أرتجيه قد تجاوزت تسعة ثم سبعين ولم أرعوى لما أنا فيه فالاله الكريم يعفو عني ... من ذنوب أسلفت بين يديه لا تضره الذنوب مني ولا ... ينقصه العفو إذا تبت إليه قال وأنشدني أيضاً لنفسه: يا مليح القد والوجه الحسن ... بان لما بنت عن جفني الوسن صل محباً مستهاماً مغرماً ... حائراً يسأل سكان الدمن هل أهيل الحي أنا ارتحلوا ... ففؤادي بهواهم مرتهن ليت دهراً جار في فرقتهم ... عادلاً بالوصل يوماً في الزمن يا أصحابي أعينوني على ... صرف الأيام تقضت في المحن مازجت روحي غادة فاغتدى ... حبه يا صاح روحاً للبدن ليس لي عنهم خروج أبداً ... لا ولا أدرجت في طي الكفن موسى بن داود بن شيركوه بن شاذى أبو الفتح الملك الأشرف

مظفر الدين بن الملك الزاهر محي الدين بن الملك المجاهد أسد الدين. كان شاباً حسناً بهياً، جميل الصورة، واسع الصدر، كريم الأخلاق، حسن العشرة، لين الجانب، شديد الحب للفقراء، كثير الاحسان إليهم بنفسه وماله، وكان عنده رياسة وحشمة، وأخلاق ملوكية، وأمه بنت الملك العظيم شرف الدين عيسى بن الملك العادل، واقتبس هذه الصفات الجميلة منها، ولما توفى حزن عليه والده حزناً مفرطاً، وكانت وفاته يوم السبت العشرين من ذى القعدة، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله وخلف ولداً ذكراً، وكان يعاشره المولى علاء الدين بن غانم حرسه الله تعالى فرثاه، يقول: لو أستطيع قضيت حقك منصفاً ... وقضيت لما أن قضيت تأسفاً ولو أن في إتلاف روحي فدية ... نفديك كنت لها بودي متلفا بالرغم من أن أراك محجباً ... في الترب والفى جنابك قد عفا من للعفاة وقد تقلص عنهم ... ظل النوال وطالما بك قد صفا من للملوك ولم يزل بك مجدهم ... في العالمين مؤثلاً ومشرفا من للعدى يوم الجلاد ولم تزل ... تروى المثقف منهم والمرهفا كم من عدو من سطاك قد اغتدى ... في ليله ونهاره متخوفا يخشاك في اليقظات منه وفي الكرى ... فإذا انتبه رعته وإذا غفا ما عم رزؤ مثل رزءك قادح ... أضحى به كل الأنام على شفا لا الدمع غار والتصبر منصف ... أسفاً عليك ولا التجلد لي وفا

يا دهر كف فقد كفى ما قد جرى ... ما أدمعي ولقد جرى ما قد كفى لم يبق في قوس الرزايا منزعا ... من ذا تركت وقد أصبت الأشرفا ملكاً كان على الأنام فضائلا ... وفواضلا وتورعاً وتعففا من سادة ورثوا المكارم كابرا ... عن كابر لم يخف منها ما خفا ما زال ربعهم مآل مؤمل ... ومآل من وفاهم مستسعفا كل تفرد بالمعالي منهم ... كلفا يرى بالمجد لا متكلفا فالحلم منهم يهتدي والفضل منهم يقتدي والهدى منهم يعتفى أبني المجاهد لا رأيتم بعدها ... خطبا تجوز ولا زماناً محجفا لا تجزعوا وتثبتوا وتصبروا ... فلكم تأس بالنبي المصطفى رحم الإله فقيدهم واحله ... الفردوس منه تحية وتعطفا وكان يصحبه المولى شهاب الدين أحمد بن غانم أعزه الله تعالى فرثاه بقوله: قد بنت بيناً لا لقاء بعده ... يا نائنا لو أن دنا مزاره يا وارداً بالرغم مني مورداً ... عز على كل الورى اصداره فالأرض قد أوحشها وأهلها ... كأنها جميعها دياره فكل قلب بعده من جزع ... لفقده خفوقه شعاره وكل طرف قد غدا من دمعه ... أنهاره وليله ونهاره يا غصن لما تثنى ما يشا ... ء أتاه عند زهوره انكساره

بكلى الحيا عليك والبرق غدت ... مشقوقة من الأسى أطماره ومزقت ريح الصبا جيوبها ... والجو من دموعه أمطاره وانشق قلب الأرض يوم دفنه ... وانصدعت من حزنه أعشاره أعزز على أن أراك ثاوياً ... ببطن لحد نصبت أحجاره لو كنت تفدى لفداك ناظري ... بكل ما يروقه ادخاره أو كان يعني المدمع عنك لارتوى ... من كل مذروب الظبا غراره أما وقد فارقت دار محنة ... وزمناً لم تصفه أكداره وصرت جار الله والجار له ... رعاية أوجبها جواره فلا عدا قبرك صوب رحمة ... وجاده من الرضى مدراره هبة الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن جرير لأيو محمد نفيس الدين الحارثي الشافعي قاضي الزبداني. كان صدراً، رئيساً، عالماً، فاضلاً، كثير الكرم، واسع الصدر، دمث الأخلاق، له وجاهة عند الخاص والعام، وحرمة وافرة عند أرباب الدول، وكان يختار الزبداني لكونها وطنه، وله بها ملك يعود نفعه إليه. ولما توفى القاضي صدر الدين عبد الرحيم قاضي بعلبك رحمه الله عرضت عليه بعلبك ويترك الزبداني فأبى وامتنع، وبالجملة فكان من حسنات الزمان مع وفور الديانة والتقوى، وتوفى ليلة الخميس تاسع صفر بدمشق فجاءة، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله تعالى. حكى عنه ما معناه أنه احتاج إلى ثمان مائة درهم في أوائل فصل الشتاء، وكان له بالزبداني بستان، عادته أن

يبيع ثمره في السنة بمبلغ ألف درهم أو ما يقاربها، فطلب بعض أهل الزبداني، وقال له: قد احتجت إلى ثمان مائة درهم تعطيني إياها، وهذا البستان ثمرته في هذه السنة لك، فأعطاه المبلغ؛ واتفق أن بساتين الزبداني ضعفت في تلك السنة سوى أماكن يسيرة من جملتها ذلك البستان، فلما أدرك مغله، حرص من دفع ثمرته ثلاثة آلاف درهم، فقال القاضي: ثمرته لفلان، وأما الشخص فإنه يئس منه لعلمه بفساد البيع، وأن ما قاله القاضي له لا يلزمه الوفاء به، وقنع بعود الدراهم إليه فحضر إلى القاضي وخاطبه في ذلك، فقال: البستان ثمرته لك كما وعدتك، بل لو صقع أعدت إليه دراهيمك فحرض به كل الحرض على أن يعطيه الدراهم ويتصرف في البستان، فأبى ذلك، فأباع ذلك البستان بما ينيف عن ثلاثة آلاف درهم وأخذها. فانظر إلى هذه النفس الشريفة واحتقارها للدنيا فرحمه الله ورضى عنه. ولقد أذكر في ذلك شيئاً وقع وهو أن بعض من ولى القضاء ببعلبك طلب خبازاً في فرن المدرسة النورية بها، وقال له: قد أستحق لي جراية شهر تشتريها وتقبضها من القلعة وفاصلها عليها بمبلغ ثلاثين درهماً، وقبضها منه، وطلع الخباز إلى القلعة وتسلمها، فوجدها رديئة لا توافقها فباعها في العرضة بثلاثة وثلاثين درهماً، وبلغ القاضي فطلبه وقال له: البيع لم يصح، فإني ما رأيت القمح؛ وأخذ منه الثلاثة الدراهم، فانظر إلى ما بين الرجلين رحمهما الله تعالى وإيانا وجميع المسلمين.

يحيى بن عبد المنعم أبو زكريا جمال الدين الفقيه الشافعي المصري المعروف بقاضي الغربية. ناب في الحكم بمصر سنين عديدة، وتولى التدريس بمشهد الحسن رضي الله عنه بالقاهرة سنين كثيرة، وكان من أعيان القدماء الفقهاء المكثرين من النقل، المحققين في المذهب، ولم يزل محمود السيرة، وتوفى بمصر يوم الأحد عاشر شهر رجب، ودفن بإحدى القرافتين، وقد ناهز ثمانين سنة رحمه الله تعالى. يحيى بن محمد بن إسماعيل أبو زكريا تاج الدين الكردي الاربلي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً ديناً، باشر الحكم ببلاطنس وحمص وبعلبك وغيرها من البلاد، وناب في الحكم بدمشق مدة عن القاضي عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله، ثم ولى القضاء بحلب وأعمالها بتقليد سلطاني في أوائل هذه السنة، وتوجه إليها وباشر أحكامها مدة شهرين فلما جفل الناس من حلب، انتزح إلى حمص، وخرج يوم الخميس بكرة النهار من البلد للاجتماع بالقاضي عز الدين محمد بن الصائغ بمشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتحم القتال وهو هناك، فقتل يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، وقد نيف على الستين من العمر، ودفن بمقابر حمص جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه ورحمة الله تعالى. يوسف بن إبراهيم بن قريش أبو المحاسن شمس الدين المصري. أحد كتاب الدرج بالديار المصرية وهو من قدمائهم، كتب للملك الصالح نجم الدين فمن بعده من الملوك، وكان وافر الرحمة كثير النعمة، وله صلة

بذرية القاضي الفاضل رحمه الله، وحضر شمس الدين المذكور المصاف وفقد، ثم أخبرني من شاهده مقتولاً بتل فروحية، وهذا التل قبلي حمص بفوق فرسخين، وقتل، وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله. يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله بدر الدين الذهبي الأديب الفاضل والشاعر المحسن. كان أبوه عتيق الأمير بدر الدين دلدرم الياروقي صاحب تل باشر، ومولد البدر يوسف سنة سبع وست مائة، وتوفى يوم السبت ثاني عشرين شهر شعبان من هذه السنة بدمشق، ودفن يوم السبت ثاني عشرين شهر شعبان من هذه السنة بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله. كان فاضلاً نبيهاً شاعراً مجيداً يغوص على المعاني المبتكرة فيجيد فيها. كتب إلى نجم الدين محمد بن إسرائيل، وللنجم صاحب يميل إليه يقال له الجارح بقوله: قلبك اليوم طائر ... عنك في الجوانح كيف يرجى خلاصه ... وهو في كف جارح ثم بلغه أنه تركه، فكتب إليه: خلصت طائر قلبي العاني يرى ... من جارح يغدو به ويروح ولقد يسر خلاصه إن كنت قد ... خلصته منه وفيه روح وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا

من حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى وقال أيضاً: وجنان ألفتها حين غنت ... حولها الورق بكرة وأصيلا نهرها مشرعاً جرى وتمشت ... في رباها الصبا قليلاً قليلا وقال في قصة جرت: يا شادناً أخطى السبيل بقصده ... وعصى النصيح فيمن عصى قد كنت بلا خصى في نعمة ... فتركته غلطاً وجئت إلى خصى وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إن الذين ترحلوا نزلوا بعين ساهرة ... أنزلتهم في مقلتي فإذا هم بالساهرة وقال أيضاً: ضممته في ساعدي ضمة ... في ليلة قد غاب واشيها وفي يدي من شعره حية ... لم أخشها مذ صرت حاويها وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا عاذلي فيه قل لي ... عن حبه كيف أسلو يمر بي كل حين ... وكلما مر يحلو وقال أيضاً: ومعذر قد بايتوه جماعة ... ولووا بما وعدوه كل الميل واكتاله كل هناك وما رأى ... منهم سوى حشف وسوء الكيل وأنشدني المولى تقي الدين عبد الله بن تمام حرسه الله تعالى للبدر يوسف

المذكور يقول: هلم يا صاح إلى روضة ... يحلو بها العاني صدى همه نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه وهذا مأخوذ من قول ابن عمار: يا ليلة بها في ظل أكتاف النعيم ... من فوق أكمام الرياض أذيال النسيم وقال في الزين البغدادي وقد لبس ثوب صوف أسود: لبس السواد فخلته متعبدا ... ومشى قليلاً في الطريق قليلا في هيئة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا وقال وقد احتيل على الحشر: أمولاي شمس الدين طال ترددي ... بحائرة قد عيل من دونها صبري وقد كنت قبل الحشر أرجو نجازها ... فكيف بها قد صيروها إلى الحشر وقال يتذكر أيام شبابه: هل ذاق برق بالغوير أنارا ... أم أضرموا بلوى المحصب نارا وكلاهما إن لاح من هضب الحمى ... لي شائق ويهيج تذكارا فيما التعلل والشباب منكث ... عنى وقد شط الحبيب مزارا وقد استرد الدهر ثوب الصبا ... وكذلك يؤخذ ما يكون معارا فارفق بدمعك في الفراق فما الذي ... يبقى لتشفى أربعاً وديارا ودع النسيم يراوح القلب الذي ... أروى زناداً للتشوق نارا مع أنني أصبو إلى بان الغضا ... إن شمت برقاً أو شممت عرارا

فاليوم لا وار بمنعرج اللوى ... يدنو بمحبوب لنا فيزارا كلا ولا قلبي المشوق بصابر ... عنهم فأندب دمنة أو دارا فسقى اللوى لا بل سقى عهد اللوى ... صوب الغمائم هامياً مدرارا ولقد ذكرت على الصراط مرامياً ... ينسى بحسن وجوهها الأقمارا وعلى الحمى يوماً ونحن بلهونا ... نصل النهار ونقطع الأنهارا في فتية مثل النجوم تطلعاً ... وتخيروا صدق المقال شعارا من كل نجم في الدياجي قد لوى ... في كفه مثل الهلال فدارا متعطفاً من حرم داود الذي ... فاق الأنام صناعة وفخارا فالآن قد حن المشوق إلى الحمى ... وتذكر الأوطان والأوطارا وصبا إلى البرزات قلب كلما ... طارت به حرز اللغالغ طارا فلأى مرمى ارتميه وليس لي ... قوس رشيق مدمج خطارا حيل على ضعفي إذا استعطفته ... الوى على العنف والدستارا ثلاث له من كل صنف قد حوى ... أعنى الرماة تحسناً إكثارا وبوجهه المنقوش أول ما بدا ... وبه أقام وأقعد الشطارا وبدا بتحريمي بلا سبب بدا ... مني وأودعه الرماة مرارا يا حسنه من مخلف ولكنه ... في الجو عال لا يسف مطارا ويطير خطفاً عن مقامي عاضداً ... ولشقوتي لا يدخل المقدارا لا بندقى مهما خطرت نباله ... أنى ينال مراوغاً طيارا وسنان من حرز اللغالغ لم يزل ... يرعى الرياض وليس يرعى الجارا

لا راحل بل قائم عني إلى ... ماء الفرات يخوض منه غمارا وأما تراني فاقداً ومنعماً ... في الجو ليلاً خلفه ونهارا دعني فقد برد الهواء وقد أتى ... أيلول يطفى للهجير جمارا ووراء تشرين جاور عدة ... عجلان يحدو للسحاب وطارا والبارق الهامي على قلل الحمى ... سرى هناك خيوطه كالتارا والفيض طام ماؤه متدفق ... والطير فيه يلاعب التيارا والنهر حن به فراح مسلسلاً ... صبا تحيراً لا يصيب قرارا بهر النواظر حين أنبت شطه ... للناظرين شقائقاً وبهارا والصبح في آفاقه يا سعد قد ... أخفى النجوم وأطلع العرارا فانهض إلى المرنى الأنيق بنا وقد ... هب الصباح ونبه الأطيارا وتباعث جناتها في أفقها ... مثل النعام قوادماً يتسارى من جو زور للعراق قوادماً ... يا مرحباً بقدومها زوارا فاصح إلى رشق القسى إذا ارتمت ... مثل الحريق أطار عنه شرارا وأطرب على نغمات أطيار بدت ... في الجو وهى تجاوب الأوتارا من كل طيار كأن له دما ... عند الرماة فثار يبغي الثارا هل جاء في طلب العش لحتفه ... أم جاء يطلب عندها الآثارا فاكتم يطرب بالجناح كأنه ... أيدي القيان تحرك الأوتارا خاض الظلام وعب فيه فسود ... الرجلين منه وسود المنقارا

وأتى يبشرها اللقاء فضمخت ... تلك المغارز عنبراً ونضارا والكىء كالشيخ الرئيس مزمل ... في بردنيه هيبة ووقارا والكئ على الأسماك يوماً كلما ... أذكى له حر المجاعة نارا والوز كم قد هاجها تنغيمه ... ليلاً وكم قد ساقنا أسحارا فإذا تباشر بالصباح بنى له ... عطفاً وصفح بالجناح وطارا وترى اللغالغ تستهل بأعين ... خرزية صغر الجفون صغارا وكأن ورشا ذاب في أجفانها ... فحكى النضار وخير النضارا فترى الأنيسات الأوانس تنثني ... بين الرياض كأنهن عذارى يسلبن أرباب العقول عقولهم ... ويرعن منه جيلة ونفارا وترى الحبارج كالقطا أرياشها ... أو كالرياض تفتحت أزهارا هجرت مناهلها على برح الظما ... واستبدلت من دونها وقفارا والبر سلطان لها لكنه ... لم يلفه لدمائها هدارا قد شاب منه رأس من طول ما ... كرت عليه عصوره أدوارا أرخى جناحيه عليه كجوشن ... لو كان يمنع دونه الأقدارا وإذا العقاب سطا وضال بكفه ... عاينت منه كاسراً جبارا يعطي ويمنع عزة وتكرماً ... ويبيح ممنوعاً ويحفظ جارا وترى الكراكي كالرماد وربما ... فرت فأذكت في القلوب نارا

قد سطرت في الجو منها أسطرا ... وطوت سماء سجلها أسفارا فإذا انصرعن فلا تكن ذا غفلة ... عن أن تيقظ حلهن مرارا وبدت غرانيق لهن ذوائب ... لولا البياض لحلتهن عذارى حمر العيون تدير من أحداقها ... فينا كؤوساً قد ملئن عقارا والصوغ في أفق السماء محلق ... مثل الغمام إذا استقل وسارا ذو مغرور ذرب فلو يسطو به ... نضح السنان واخجل التبارا مرازم بيض وحمر ريشها ... كالورد بين الياسمين نثارا خفقت بأجنحة على مجمرة ... كمراوح أضرمن منه جمارا وعجت كيف صبت إلى صلبانها ... تلك الرماة وما هم بنصارى وسبيطر ما أن يحل له دم ... مهما علا شجراً وحل جدارا والأشرفية الفت لمنازل ... فاصبر له حتى يفارق دارا وكأنما العناز لما أن بدا ... لبس السواد على البياض غبارا وكأنه قد ضاق عنه مزورا ... فوق القميص فحلل الأزرارا هل عب من صرف العقار بمغرز ... أم كان خاض من الدماء بحارا يوسف بن يعقوب بن يعيش أبو المحسان جمال الدين السلمي المعري الاصل شيخ الغارة المعروفة بالعزيز بن الملك الاحمد صاحب بعلبك. كان شيخاً، صالحاً، ورعاً، محققاً، عارفاً بكلام المشايخ، مشتغلاً فيه، مسلكاً للمريدين والطلبة، خبيراً بالكتب المشكلة في هذا الفن، وكان يعرف كتاب

السنة الحادية والثمانون وستمائة

خلع النعلين لابن قسى، ويتكلم على شرحه كلاماً مفيداً، وكان شيخنا تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله تعالى يعظمه، ويجتمع به، ويصفه بالتقدم الراسخ في معرفة طريق القوم. ومولده سنة اثنتي عشرة وست مائة، وكانت وفاته بالمغارة العزيزية بسفح قاسيون ليلة السبت ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمانين وست مائة، وحمل إلى مقابر الصوفية فدفن بها رحمه الله. السنة الحادية والثمانون وستمائة استهلت هذه السنة يوم السبت والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية، والملك المنصور سيف الدين قلاوون مقيم بالديار المصرية. وفي أوائل هذه السنة ترتب في مملكة التتار مكان ابغا أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو وهو مسلم، حسن إسلامه على ما يقال عنه، وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة، ووردت الأخبار إلى الشام بأن كتبه وأوامره وصلت إلى بغداد تتضمن إظهار شعائر الاسلام، وإقامة مناره وإعلاءكلمة الدين، وبنيان الجوامع، والمساجد، والأوقاف، وتنفيذ بالأحكام الشرعية، والوقوف معها، وتشيد قواعدها، وإلزام أهل الذمة لبس الغيار، وضرب الجزية عليهم، ويقال: إن إسلامه كان في حياة والده هولاكو. وفي عشية يوم الأحد مستهل صفر قبض الملك المنصور سيف الدين قلاوون على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، وعلاء الدين كشتغدى الشمسي، واعتقلهما بقلعة الجبل.

وفي يوم الأربعاء عاشره فوض إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله التدريس بالمدرسة الأمينية بدمشق، وذكر الدرس بها يوم الأربعاء ثامن عشره، وكان قد درس بها مدة، ثم انتزعت منه، وأعيدت إليه، وكتب له بها تقليد من إنشاء المولى القاضي شرف الدين بن فضل الله ديوان الانشاء، ومضمونه: " الحمد لله الذي أقر الحق في نصابه وأعاد الأمر إلى من هو أولى به. ورد الفضل إلى وطنه بعد معاناة اغترابه. ورفع منار العلم للمسترشدين من طلابه. نحمده حمداً نستزيد به النعم، ونستفيد ونسترد به فائت الشكر ونستعيد. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من تيقن شهادته فأداها وأجزى الله المشيئة بتزكية نفسه فأتاها هداها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم رسله. ونبيه الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام. أئمة الدين وخلفاء الاسلام. الذين سبقوا ونصروا وعلنوا بالاسلام، وصابروا في الله وصبروا. وطلقوا الدنيا وهجروا. ما توج مفرق الصبح من الشمس بتاج. وأمسى لذهب الأصيل الأفق امتزاج. وبعد! فأما الأمور الدينية أولى ما كانت عيون العناية بها متأملة، وركائب الأفكار نحوها متحملة. ليوضع الأشياء في مواضعها. ويقع الأمور في أحسن مواقعها. فلا يقع الاشتباه مع غير الانظار والاشباه. ولا يوضع غير التيجان بمكانها من المفارق والجباه. وإذا رقدت لحظة الخط أو سهت. وتخطت خطوة الخطأ

فما وقفت حيث انتهت أيقظت، تلك العناية الخط من هجوعه. وصدت الخطأ عن قصده، وحكمت عليه برجوعه، فتمسى النجم له استقامة بعد الرجوع. ويصبح وللشمس من بعد الغروب طلوع. ولذلك رسم بالأمير العالي المولولى السلطاني الملكي المنصوري السيفي زاد الله شرفاً، وملأ بمحامده من الأيام صحفا. أن يفوض تدريس المدرسة الأمينية بدمشق المحروسة إلى الجناب العالي المولوي القضائي الأمامي الأوحدي الأفضلي الأرشدي الزاهدي العابدي الورعي الناسكي العلوي العلامي الشمسي ضياء الاسلام صدر الأنام بقية الكرام، علامة العلماء بمصر والعراق والشام، كهف الملة ركن الشريعة شيخ المذاهب مفتي الفرق قدوة العالمين ظهير الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين أحمد بن الشيخ الامام العالم العلامة بهاء الدين بن خلكان ضاعف الله جلاله إذا كان المعنى بهذا المعنى. والأوحد الذي لا نظير له فما يجمع، ولا يتثنى وهو الأولى بأن ينعت بواحد الزمان. والمراد به من مفهوم هذه الخطاب وغيره هو الذي أردناه بقولنا مضى هذا من هذا الباب. لتزين سماء العلوم منها بشمسه المنيرة، ويحتوي صدرها من تصدره بها على حاوي العلوم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. وليفوض نظرها إليه فقد حكم له بها الاستحقاق، وأصبحت نظامية الشام لما درس بها، وقد أربت على نظامية العراق، وقد درس بها الشيخ أبو اسحاق. وشهادة فضله الآن مغنية عن فضل امسه. والأخبار عن الماضي من الأمر لا يفتقر إليه والعيان شاهد لنفسه. ومتى احتاج النهار إلى دليل مع طلوع فجره.

وشروق شمسه. والواصف لمناقبه ما عساه أن يورد بين يدي فضائله وسماعه لدرسه. ويوجز ويطنب فلا يخلى ولا يملى، وكيف يمل وتوفيق مفيد العقول عليه تملى. فليقصر في هذا المقام على إفادته. وتحصيل الاكتفاء بابانته. عن تكرر المقال وإعادته. وليباشر ذلك على قاعدته فيه وعادته. والاعتماد على الخط الكريم اعلاه إن شاء الله تعالى ". كتب في ثالث عشر صفر سنة إحدى وثمانين وست مائة وهذا التقليد من نائب السلطنة بالشام الأمير حسام الدين لاجين رحمه الله. وفي يوم الأحد سابع صفر دخل الحجاج دمشق في تامه. وفي يوم الأحد حادي عشر ربيع الآخر ترتب بالديار المصرية نجم الدين المعروف بابن الاصفواني وزيراً عوض برهان الدين السنجاري وباشر الوزارة في التاريخ المذكور وهو من أهل صعيد مصر من بليدة يقال لها اصفون من أعمال قوص، ولم يزل متنقلاً في الخدم والأقطار الكبار، ثم ترقى إلى الوزارة في هذا التاريخ ورفعت يد الأمير علم الدين الشجاعي أحد المماليك الكبار المنصورية عن شد الدواوين بالديار المصرية واستمر على إمرته. وفي أواخر جمادى الآخرة ترتب بالقاهرة والوجه البحري القاضي شهاب الدين محمد بن القاضي شمس الدين الخوى عوضاً عن القاضي وجيه الدين البهنسي، وانفرد وجيه الدين بقضاء مدينة مصر والوجه القبلي على عادة من تقدمه، وكان شهاب الدين قاضياً بالغربية نيابة عن الحاكم بالقاهرة مدة، ثم أعفى عنها وتوجه إلى حلب حاكماً بها مستقلاً، وأقام بها مدة، ثم

أعفى عنها وتوجه إلى الديار المصرية فأعيد إلى الغربية وأقام بها إلى حين استقلاله بالقاهرة على ما ذكرنا. وفي ليلة الاثنين حادي وعشرين شهر رجب وصل إلى دمشق رسل من جهة الملك أحمد بن هولاكو ملك التتر قاصدين السلطان، فأنزلوا بدار رضوان بقلعة دمشق. واهتم بأمرهم غاية الاهتمام، وتلقاهم سيف الدين كبك أمير حاجب بجماعة من العسكر إلى حلب فتوجهوا إلى الديار المصرية ليلة الخميس رابع عشرين منه، ومعهم سيف الدين كبك المذكور، وكانت طريقهم على القدس والخليل لقصده الزيارة، ومسيرهم في الليل دون النهار في جميع بلاد المسلمين في المجيء والعود، وهم بهاء الدين أتابك الروم، وشمس الدين بن شرف الدين التبتي وزير صاحب ماردين، وقطب الدين قاضي شيراز، لديه فضيلة تامة في الهيئة وعلوم الأوائل من المعقولات. وفي ليلة الجمعة حادي عشره دخل الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام على زوجته ابنة الأمير ركن الدين بيبرس الناصري المعروف بطقصو حملت إليه من الديار المصرية، وكان دخولها عليه بدار السعادة، وعمل عرس عظيم حضره نائب السلطنة المذكور، وسائر الأمراء، والجند، وكثير من العوام، وأحضر فيه المطربون، وعند الفراغ منه أحضر الأمراء ومقدمو الحلقة تقادم جليلة من الخيول والثياب، الأطلس والنسيج، والعتابى وغير ذلك في البقج، والمماليك لابسين عدد الحرب على الخيول المثمنة وغير ذلك، واستمر عرض التقادم من بعد السماط إلى الظهر، ولم يقبل من

ذلك إلا اليسير، وبعد الفراغ من عرضها، ركب إلى دار السعادة. وفي يوم الأربعاء ثاني عشرين شعبان طافوا بالكسوة الشريفة التي عملت برسم الكعبة عظمها الله تعالى بمصر والقاهرة على العادة. وفي ليلة الأحد عاشر رمضان المعظم احترقت اللبادين بدمشق الشمالية بكمالها، وجسر الكتبيين بأسره، وأكثر اللبادين القبلية العلو والسفل من ذلك جميعه، والفوارة والسوق الذي يليها للقماش المعروف بسوق عسا الله، وسقاية جيرون، ووصلت النار إلى الربع الملاصق لحمام الصحن من قبلية، فاحترق بعضه إلى باب درج العجم بوسط جيرون، وإلى جدر المسجد العمري الذي على درج باب الجامع الملاصق لسجن زين العابدين رحمة الله عليه إلى داخل مشهد علي رضوان الله عليه وإلى جدار دار الخشب وخزائن السلاح وإلى الرابع المستجد بجيرون قبالة درب العجم، واحترق أكثره، واحترق من الكتب ما يزيد على ستة آلاف مجلد، ومن عجيب الاتفاق أنه وجد وريقة عتيقة من كتاب وقد احترق أكثرها وبقي فيها مكتوب: فوض الأمر راضياً ... جف بالكائن القلم ليس في الرزق حيلة ... إنما الرزق بالقسم ذل رزق الضعيف ... وهو لحم على وضم وافتقار الغنى إذ ... يرهب الأسد في الأجم إن للخلق خالقاً ... لا مرد لما حكم

وبالجملة فكان حريقاً عظيماً لم يشهد مثله، وخيف على الجامع منه وكان بداية الحريق بين المغرب والعشاء، والناس على الفطر، واستمرت النار تعمل إلى الثلث الأخير من الليل، وهي في قوة وتزيد، ثم تناقصت وخمد لهبها قبل طلوع الشمس، وكان السبب في إخمادها الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة رحمه الله فإنه لما بلغه خبرها، بطل الفطر وحضر بنفسه وخواصه ومماليكه مسرعاً، وحضر إليه جميع الأمراء ومماليكهم وكثير من الجند، وظهر من اهتمامه في إخمادها ما تضاعفت الأدعية له بسببها، وأقام الدخان يصعد من خلال الأبنية والردوم نحو أسبوع، وتقدم من غد يومه إلى الصاحب محي الدين محمد بن النحاس بعمارة ما احترق، وإعادته إلى ما كان عليه، وندب من جهته مشدا بين يدي الصاحب محي الدين لذلك، وقطعت رواتب الناس كافة على المصالح، وحصل الاهتمام التام من الصاحب محي الدين، فبنى أحسن مما كان، وأتم بالانقاش في مدة قريبة. وفي ليلة الخميس حادي وعشرين منه وصل إلى دمشق رسل الملك أحمد بن هولاكو من مصر عائدين إلى مخدومهم، ونزلوا بدار رضوان بالقلعة، وسافروا ليلة الأحد رابع عشرين منه إلى بلادهم، ولم يتوجه معهم رسول من جهة الملك المنصور. وفي يوم عيد النحر وهو يوم الخميس قدم الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة إلى دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية إلى خدمة السلطان

الملك المنصور سيف الدين قلاوون، ونزل بداره داخل باب الفراديس، وسافر بعد يومين من مقدمه. وفي يوم عرفة قبض بدمشق على زين الدين من ذرية الشيخ عيسى ابن أبي البركات، وأبو البركات هو أخو سيدنا عدى بن مسافر رحمة الله عليه، وسير إلى الديار المصرية، وصحبته أميران من أمراء دمشق مقبوض عليهما أيضاً حسبما ورد به مرسوم الملك المنصور سيف الدين قلاوون من الديار المصرية. وفيها توفى: إبراهيم بن اسماعيل بن يحيى بن علوى أبو اسحاق الدمشقي الملقب بالبرهان المعروف بابن الدرجى المحدث. سمع الكثير وأسمع، وكان بالحجاز الشريف فمرض في عوده بالطريق، وتوفى يوم دخول الحجاج دمشق، وهو يوم الأحد سابع صفر، ودفن من يومه بمقبرة باب الفراديس، ومولده بدمشق يوم الثلاثاء رابع عشر شعبان سنة تسع وتسعين وخمس مائة رحمه الله تعالى. أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو العباس الأنصاري المقدسي. كان شيخاً كبيراً جليلاً، منقطعاً عن الناس، مشتغلاً بأوراده وأذكاره وتلاوته على قدم السلف، لا يشتغل بما لا يعنيه، ولا يضيع أوقاته في شيء من أمور الدنيا، أجهد نفسه في العبادة والتقلل من الدنيا، وملازمته الورع والزهد، وعدم التطلع إلى مشيخة أو رياسة أو منصب، ربى صغيراً على قدم الانفراد، والتجريد، والعبادة؛ واستمر

فصل

على ذلك إلى حين وفاته. قال والده الشيخ غانم رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى عابد من عباد بني إسرائيل فلينظر إلى أحمد. وتوفى بالقدس في شعبان سنة إحدى وثمانين وست مائة، وقد تجاوز تسعين سنة رحمه الله تعالى وصلى عليه بجامع دمشق بالتيه يوم الجمعة سابع عشر شعبان. فصل وفيها توفى: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان بن ناول بن عبد الله بن شاكل بن الحسين بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أبو العباس البرمكي الاربلي الشافعي شمس الدين قاضي قضاة الشام، وصدر صدور الاسلام. وله ليلة الأحد حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وست مائة باربل، وبها نشأ، وذكره الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله في تاريخ حلب، وساق نسبه رحمه الله إلى خالد بن برمك، وقال: فقيه شاعر من بيت معروف بالفقه والأدب والمناصب الدينية، قدم حلب وتفقه بها. أنشدني قصيدة يرثي بها الملك العزيز بن الملك الظاهر، وهي هذه: طوى من نظام الملك واسطة العقد ... ولم يك من صرف المنية من يد فما للرماح السمر مشرعة القنا ... وما للصفاح البيض مرهفة الحد أمن بعد فقدان العزيز محمد ... تدور رحى الحرب على صافن نهد إذا عطلت من بعده حومة الوغى ... فما تصنع الفرسان بالقصب الملد

لقد جل هذا الذرء من وصف واصف ... كما جل عن إدراكه حد ذى حد سقى جدثاً ضم المكارم تربه ... ولحداً حوى تلك المناقب من لحد مواطر دمع ما يزال تمدها ... سحائب تحدوها بواسم من نجد فلله ما أذكى ثراه كأنما ... تنفس في روض المرحم عن خد لئن أظلمت دنيا الغفلة لفقده ... فقد أشرقت من وجهه جنة الخلد عليك سلام الله يا خير مالك ... ويا غير مصحوب سوى الشكر والحمد وتفقه بالموصل على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس، وعلى القاضي بهاء الدين أبي المحاسن يوسف بن رافع عرف بابن شداد وغيره، وقدم دمشق في عنفوان شبابه، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى الديار المصرية، فاستوطنها واشتغل بالعلوم، وحصل من كل فن طرفاً جيداً، وكان فقيهاً إماماً بارعاً متقناً، مجموع الفضائل، معدوم النظير في علوم شتى، حجة فيما ينقله، محققاً لما يورده، منفرداً في علم الأدب والتاريخ، تولى الحكم بالقاهرة مدة زمانية خلافة عن قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاري رحمه الله، ودرس وأفتى، وصنف واشتغل جماعة كثيرة؛ ثم ولى قضاء القضاة بالشام من العريش إلى سلمية. وفوض النظر في سائر أوقافها، وبسطت يده في ذلك، وفوض إليه تدريس عدة مدارس بدمشق، فكان يذكر الدروس فيها بنفسه، وتارة نوابه، وأقام على ذلك مدة عشر سنين، ثم صرف وتوجه إلى الديار المصرية، فأقام بها سبع سنين بطالاً، وباشر في

بعضها تدريس مدرسة فخر الدين عثمان رحمه الله بالقاهرة، ثم ولى الشام مرة ثانية، وقدم دمشق في أواخر سنة ست وسبعين، فباشر الحكم بدمشق إلى سنة ثمانين ثم صرف ولزم منزله متوفراً على العلم والافادة والاشتغال إلى حين وفاته، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب، وأما رياسته، وعلو همته، وشرف نفسه، وخبرته بقوانين الأحكام والحشمة فلم يكن له في ذلك نظير، وكان جواداً مفضالاً ممدحاً، مدحه شعراء عصره بغرر القصائد، وكان يجيزهم الجوائز السنية، وكان عنده صبر واحتمال وستر على العورات وعفو عن الزلات عفا الله عنه وأدخله في سعة رحمته التي وسعت كل شيء. حكى لي أنه حضر إليه وهو بالمدرسة العادلية الكبيرة بدمشق بعد عشاء الآخرة من أخبره أن ثم جماعة من أعيان العدول في مكان يشربون الخمر وعندهم نساء أجنبيات، وشنع شناعة كثيرة، فاستوقف المخبر عنده، وسير من باب السر من ثيق به إلى ذلك المكان، وعرفهم الصورة وأن والى الليل يحضر لكشف ذلك، وأمرهم برفع ما عندهم من المنكرات، والتأهب لمن يحضرهم، ثم احضر والى الليل، وعرفه ما ذكر الناقل، وأمره أن يأخذه، ويتوجه إلى المكان لكشف حقيقة ذلك، فتوجه والى الليل، وطرق الباب ففتح، ودخل فوجد جماعة يتحدثون وعندهم فقير مزمزم ومأكول لا غير، فعاد والى الليل، ومن معه وأخبروه بما شاهدوا فعزر الناقل

فانحسمت مادة السعايات بمثل ذلك. ولما كان بالقاهرة بعد صرفه من الشام حضر عنده عز الدين محمد بن شداد رحمه الله بكتب..... وانتقالها إلى الملك الظاهر وهي نابتة عليه، ورام منه أن يشهد عليه بما فيها ليثبت عند الحكام بالديار المصرية، قال له: كيف أشهد على ذلك؟ قال: يأذن لك قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، قال: والله! لو كنت متولياً ما كنت آذن له ولا أراه بهذه الصورة فأشهد عليك بإذنه، هذا ما لا يكون أبداً؛ فعرف الملك الظاهر فعظم في صدره، وعرف شرف نفسه، فأذن له أن يحكم بالديار المصرية، ويشهد عليه، ففعل ذلك على كره منه، كان حصل له طائفة عظيمة في تلك المدة؛ وبلغ الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله فأمر له بنفقة فوق ألفي درهم ومائة أردب قمح، وحضر إليه من جهة الأمير بدر الدين من أخبره بذلك فامتنع من قبوله، وقال للرسول: تجوع الحرة ولا تأكل تبد بها فلاطفه الرسول، وسأله وتضرع إليه، فلم ينفذ وأصر على الامتناع مع الحاجة المفرطة. كان وجيه الدين محمد بن سويد صاحبه، ومكانته مشهورة، فكان يحضر إليه ويسومه قضاء أشغال كثيرة، فيقضيها، فحضر إليه في بعض الأيام ورام منه ما هو معتذر، فاعتذر إليه بأن ذلك لا يجوز فعله، فقال الوجيه: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال له

قاضي القضاة: يا وجيه الدين! نحن قد صرنا معك قتليش وما ترضى. قلت: من يذكر أن قاضي القضاة إنما خرج له النسب إلى البرامكة على ما تقدم شهاب الدين المعروف بأبي شامة، وليس الأمر كذلك، فإن قاضي القضاة أخبر بالأنساب من الشهاب وغيره، ثم وقفت على مجلد من تاريخ إربل لوزيرها شرف الدين بن المستوفى رحمه الله، وقد ذكر وفاة ابن عم لقاضي القضاة، وقد نسبه إلى البرامكة من ذلك الزمان، لعل قبل خروجه من إربل، ثم ذكره الصاحب كمال الدين رحمه الله في تاريخ حلب أعني قاضي القضاة ونسبه إلى البرامكة، وكانت وفاته بالمدرسة النجيبية جوار المدرسة النورية بدمشق عصر نهار السبت سادس عشرين شهر رجب، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون رحمه الله ورضي عنه. وله نظم كثير، فمنه ما كتبه في صدر كتاب إلى بعض أصحابه وهو نبهان، يقول: نهار السبت سادس عشرين شهر رجب، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون رحمه الله ورضي عنه. وله نظم كثير، فمنه ما كتبه في صدر كتاب إلى بعض أصحابه وهو نبهان، يقول: سكنمتم فؤادي لا تغيبون ساعة ... وقلبي على طول الزمان لكم مغنى وما الدهر إلا لفظة مستعارة ... وأنتم له روح وأنتم له معنى لئن نزحت أرواحنا ونفوسنا ... ففي أي أرض كنتم معكم كنا وله أيضاً رحمه الله: أحبابنا لو لقيتم في مقامكم ... من الصبابة ما لاقيته في ظعني لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً ... والبر من أدمعي ينسق بالسفن

وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كأنني يوم بان الحي من إضم ... والقلب من سطوات البين مذعور ورقاء ظلت لفقد الألف ساجعة ... تبكي عليه اشتياقاً وهو مأسور وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا جيرة القلب هل من عودة فعسى ... تفيق من سكرات الوجد مخمور وإن ظفرت من الدنيا بوصلكم ... فكل ذنب جناه الدهر مغفور وقال في محلاح أربعة يلقب أحدهم بسيف: ملاك بلدتنا في الحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا تملكوا منهج العشاق وافتتحوا ... بالسيف قلبي ولولا السيف ما ملكوا وقال في ملاح بسيحون: ورب ظباء في الغدير تخالهم ... شموساً بأفق الماء تبدو وتغرب يقول خليلي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذه الصبابة مذهب وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت لهم ذرهم يخوضوا ويلعبوا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كم قلت لما اصلعت وجناته ... حول الشقيق الغصن روضة آس لعذاره الساري العجول بوجهه ... ما في وقوفك ساعة من باس وقال أيضاً رحمه الله: لما بدا في خده عارض ... بشرت قلبي بالسلو المقيم

وقلت هذا عارض ممطر ... فجاءني فيه عذاب اليم وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أعديتني بالهوى يا فاتر المقل ... فصح وجدي على ما بي من العدل وملت عني إلى الواشي فلا عجبا ... فالغصن ما زال مطبوعاً على الميل يا واحد الحسن عدني زورة حلما ... وها يدي إن نومي قد جفا مقلي يا جيرة بأعالي الخيف من إضم ... خبيتم بجفاكم في الهوى أملي وملتم بجميل الصبر عن دنف ... أجل ما يتمنى سرعة الأجل تجري على الربع مذ بنتم مدامعه ... وما عسى ينفع البالي على الطلل وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ولما إن تفرقنا ... وحاولت نوب الدهر رأيت الشهد لا يحلو ... فما ظنك بالصبر وقال أيضاً: وما سر قلبي مذ شطت بك النوى ... نعيم ولا لهو ولا متصرف ولا ذقت طعم الماء إلا وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف ولم أشهد اللذات إلا تكلفاً ... وأي سرور يقتضيه التكلف وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا رب إن العبد يخفى عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه

وقال رحمه الله تعالى: أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم جماله يزجر العيس طاوياً يقطع المهمه عفا سهوله ورماله أيها السائر المجد ترفق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله وأنخنا هنيئة وأرحها ... قد براها فرط السرى والكلاله لا تطل سيرها العنيف فقد ... برح بالصب في سراها الاطاله قد تركتم وراءكم خلف وجد ... نادياً في محلكم إطلاله يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله وحمال من النخيل جواب ... غير أن الوقوف فيها علالة هذه سنة المحبين يبكون على كل منزل لا محاله يا دار الأحباب لا زالت الأدمع في ترب ساحتيك مداله وتمشي النسيم وهو عليل ... في مغانيك ساحباً أذياله أين عيشي مضى لنا فيك ما ... أسرع عنا ذهابه وزواله حيث وجه الشباب طلق نضير ... والتصابي غصونه مياله ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقى مثاله وبأرجاء جوك الرحب سرب ... كل عين تراه تهوى جماله

من فتاة بديعة الحسن ترنو ... من جفون لحاظها مغتاله ورخيم الدلال حلو المعاني ... تنثني أعطافه مختاله ذى قوام تود كل غصون البان لو أنها تحاكي اعتداله وجهه في الظلام بدر تمام ... وعذاره حوله كالهاله ظبية تبهر البدور جمالاً ... وغزال تغار منه الغزاله فرعى الله ذلك الغصن حفظاً ... وسقاه من الوفاء سجاله يا خليلي إذا أتيت ربي الجزع وعاينت روضه وقلاله قف به ناشداً فؤادي فلي ... ثم فؤاد أخشى عليه ضلاله وبأعلى الكثيب بيت اغض الطرف عنه مهابة وجلاله حوله غلمه تبرمن من ... الخوف عليه ذو بلاء عساله كل من جئته لأسأل عنه ... أظهر الغي غيرة وتباله أنا أدرى به ولكن صوناً ... أتعامى عنه وأبدي جهاله كيف لي لو أطلت لشم ثراه ... وهات في الهجر ظلاله منزل حقه على قديم ... في زمان الصبا وعصر البطاله يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله حاش لله غير أني أخشى ... من عدو يسيء فينا المقاله فتأخرت عنكم قانعاً من ... طيفكم في المنام يهدى خياله

أتمنى في النوم زور خيال ... وللأماني أطماعها قتاله يا أهيل النقا وحق ليالي ... الوصل ما صبوتي عليكم ضلاله لي مذ غبتم عن العين نار ... ليس تخبو وأدمع هطاله فصلونا إن شئتم أو فصدوا ... لا عدمناكم على كل حاله وقال رحمه الله تعالى: أيا عاذرا خانت مواثيق عهده ... لقد جرت في حكم الغرام على الصب وأقصيته من بعد أنس وصحبة ... وما هكذا فعل الأخلاء بالصحب فلله أيام تقضت حميدة ... بقربك واللذات في المنزل الرحب وإذ أنت في عيني ألذ من الكرى ... وأشهى إلى قلبي من البارد العذب فلهفي على ذاك الزمان لقد غدت ... عليه دموع العين دائمة السكب ومذ صرت ترضيني بقول منمق ... وتظهر لي سلماً أشد من الحرب ثنيت عناني عن هواك زهادة ... وإن كنت في أعلى المراتب من قلبي لأني رأيت القلب عندك ضائعاً ... تعذبه كيف اشتهيت بلا ذنب ولم تحفظ الود الذي هو بيننا ... ولم ترع أسباب المودة والحب ولا أنت في فيد المحب إذا غدا ... تقلبه الأشواق جنباً على جنب ولا أنت ممن يرعوي لمقالتي ... فأشفى قلبي بالشكاية والعتب ولا رمت منك القرب إلا جفوتني ... وأبعدتني حتى يئست من القرب

وأصغيت للواشي وصدقت قوله ... وضيعت ما بيني وبينك بالكذب فلم يبق لي والله فيك إرادة ... كفاني الذي قاسيته فيك من عجب ولا لي في حبيك ما عشت رغبة ... أبى الله أن تسبى فؤادي أو تصبي ومن ذا الذي يقوى على حمل بعض ما ... تجرعته بالذل من خلقك الصعب فلا ترجها مني بعد حسن صحبة ... فحسبي سلو بعض ما قلته حسبي ولا تعتبي قد قطعت مطامعي ... وخففت حتى في الرسائل والكتب وقال رحمه الله تعالى في المعنى: أيا معرضاً عني بغير جناية ... أما تستحي من فرط تيهك والعجب سلوتك فاصنع ما تشاء فإنه ... محا كثرة التقبيح حبك من قلبي وقال رحمه الله لغزاً في تاريخ: ما اسم إذا صحفته الفتيه ... من بعد ذاك ولفظه تاريخ في ضمنه نار إذا خففتها ... لا جمرها وار ولا منفوخ يا ريح بلغ من أحب تحيتي ... إن الحبيب لما يقول مصيخ قال ابن المستوفى: نقلت من خط أحمد بن خلكان لنفسه يقول: وافى كتابك ساطعاً أنواره ... ومضمناً من كل فضل بارع فغدوت أنشر طيبه بتلطف ... وأطيل لثم سطوره بتواضع

وجعلته مني مكان تمائم ... نيطت على المجنون خوف التابع وقال رحمه الله تعالى في الاستعطاف: يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... وقصدتم هجري وفرط تجنبي لا تحرموا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس حمالكم في الموكب لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من نكد إذا لم تركب لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي ومن البلية والرزية إنني ... أقضي وما تدري الذي قد حل بي يا من كلفت به فعذب مهجتي ... عطفاً على كلف الفؤاد المعذب إن فاته منك اللقاء فإنه ... يرضى بلقيا طيفك المتأوب إن كنت تسمح للجفون بهجعة ... فلقد أضر بها ارتقاب الكوكب قسماً بوجدي في الهوى وتحرقي ... وتحيري وتلهفي وتلهبي لو قلت لي جد لي بروحك لم أقف ... فيما أمرت وإن شككت فجرب مولاي هل من عطفة تصغي إلى ... قصصي بطول شكايتي وتعتبي من بعد ذاك القرب والاقبال قد ... أصبحت عندك كالغريب الأجنبي قد كنت تلقاني بثغر باسم ... واليوم تلقاني بوجه مقطب ما كان لي ذنب إليك سوى الهوى ... فعلام تهجرني إذا لم أذنب

والهجر يقبح بالكرام تعنتاً ... من غير ما سبب ولا من موجب قل لي بأي وسيلة أدلي بها ... إن كنت تبعدني لأجل تقربي وإلى متى هذا الصدود وإنني ... ليطول من هذا الصدود تعجبي ما كنت أحسب أن عهدك حائل ... حتى دهاني فيك ما لم أحسب وحياة وجهك وهو بدر طالع ... وسواد طرتك التي كالغيهب وبياض مبسمك النقي الواضح ... العذب الشنيب اللؤلؤي الأشنب وبقامة لك كالقضيب ركبت من ... أخطارها في الحب أصعب مركب لو لم أكن في رتبة ادعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب لهتكت ستري في هواك ولذ لي ... خلع العذار ولج فيك مؤنبي لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي فاستر فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي لا تفضحن بحبك الصب الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب قد خانني جلدي وضاقت حيلتي ... وتقسمت فكري وعقل قد سبي فانظر إلى رحمة أحيى بها ... وتريح قلبي من غرام متعب وقال رحمه الله دوبيت: بالأبريق منزل عفاه القدم ... فسقت دموعي إن جفاه الديم لم أدر زماننا الذي كان به ... من لذة أيقظة أم حلم وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ما شمت على الخيف بروقاً لمعت ... إلا وحسبتها لقلبي صدعت

يا من يعدو لا تبعثوا طيفكم ... نحوي فجفوني بعدكم ما هجعت وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا من رحلوا فأودعوني الأسفا ... من بعدكم ما راق عيشي وصفا ما افكر في طيب زمان سلفاً ... إلا وسألت الله عنه الخلفا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كم يخجل قدك القنا والبانا ... يا من فتنت لحاظه الغزلانا عذبت قلوبنا فنادت قلقاً ... سبحان إله بك قد أشقانا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: حتام وكم نسائل الركبانا ... عمن نزل الحمى وعمن بانا أحبابي ما على من غيركم ... ما القصد سواكم كائناً من كانا وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ليت النسمات عرجت بالعلمين ... واستقبلت الجزع وقرب بحنين كي أسأل من أحب عن حالته ... أو يسألها عن حالتي كيف وأين وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا حادي عيسهم ويا سائقها ... أثقلت بطول سيرها عاشقها ما ضرك لو رحمتها اليوم عسى ... نقضى وطر المغرم فارقها وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قوم ألفوا طول الجفا والهجر ... في حبهم ضاع جميع العمر أرجو بدلاً عنهم وإلا فعسى ... أن يرزقني الباري جميل الصبر

وقال أيضاً رحمه الله: يا مخترق البيد سهولاً وحزون ... في منن شمله على السير أمون إياك وأيمن الحمى إن به عرب ... سهروا دون ظبي الهند عيون وقال أيضاً رحمه الله تعالى: العين عليك نومها ممتنع ... والقلب لما تقوله متبع يا من سلب الفؤاد مني ... نادى من بعدك بالحياة ما انتفع وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا من لهم الجميل والانعام ... بنتم فتزايدت بي الآلام عندي وحياتكم من الشوق لكم ... ما يعجز أن يشرحه الأقلام هل تسمح لي بطيفك الاحلام ... يا من حكمت ببعده الايام ما أطمع في وصلك هيهات بلى ... يكفني من خيالك الالمام وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قاسوك ببدر التم قوم ظلموا ... لا ذنب لهم لأنهم ما علموا من أين لبدر التم يا ويحهم ... جيد وعيون وقوام وفم وقال أيضاً رحمه الله: قاسوك بغصن البان لما وصفوا ... لا ذنب لهم لأنهم ما عرفوا هب إن له ملامحاً منك بلى ... من أين لغصن البان هذا الهيف

وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قد أعرض عني جيرتي وانتزحوا ... كم أصغي إلى العذال فيما نصحوا ناشدتك ما عليك دعني وهم ... لا تدخل بيننا عسى نصطلح وقال أيضاً رحمه الله تعالى: هذا الصلف الزائد في معناه ... قد حيرني فلست أدري ما هو كم يحمل قلبي من نجنيك ولا ... يدري أحد بذاك إلا الله وقال أيضاً رحمه الله تعالى: انظر إلى عارضه فوق جفونه ... يرسل منها الحتوف فعاين الجنة في خده ... بارزة تحت ظلام السيوف ولقاضي القضاة رحمه الله تعالى أشعار كثيرة، أضربنا عن ذكر بعضها طلباً للاختصار. وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم لما صرف قاضي القضاة عن دمشق سنة تسع وستين: وليت فأوليت الورى كل نعمة ... وزلت وما زال الثناء ولا الشكر فإن عدت عاد الخير والفضل والندى ... وأن تكن الأخرى وحوشيت والصبر وقال الشيخ شهاب الدين يرثيه: يا شمس علوم في الثرى قد غابت ... كم بنت عن الشمس وما نابت لم تأت بمثلك الليالي أبداً إما ... عجزت عنه وإما هابت

وقال أيضاً فيه: يا شمس علوم الدين والأحكام ... يا نادرة القضاة والحكام أنساني كل الناس منه نظري ... إنسان سواد مقلتيه الاسلام أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة بن عمر أبو العباس أمين الدين الأشتري الحلبي الشافعي الامام العلامة ذو الفنون. كان إماماً عالماً فاضلاً بارعاً ورعاً زاهداً ناسكاً. كثير التلاوة، ظاهر الخشوع، كبير القدر، ممن جمع بين العلم والعمل، وأقرأ الفقه مدة، وكان أحد أصحاب الشيخ محي الدين النوراني، وانتفع به، وسلك مسلكه في العلم والعبادة والتدقيق في العلم والعمل، ووقف كتبه التي كتبها من تصانيف الشيخ محي الدين وغيره بدار الحديث الأشرفية، وكان سمع من أبي محمد بن علوان، وأبي الحسن بن روزبه، وأبي المجد القزويني، وعبد اللطيف بن يوسف، وأبي المحاسن بن شداد، وأبي الحسن بن الأثير، وابن يعيش النحوي صاحب شرح المفصل وغيرهم، وحدث بالكثير، وكان له مع الفقه وغيره اعتناء كثير بالحديث. وله بحلب سنة خمس عشرة وست مائة، وتوفى فجاءة في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وست مائة بدمشق المحروسة رحمه الله تعالى. إدريس بن صالح بن وهيب الفقيه زين الدين المصري القليوبي. قرأ الفقه والمقامات الحريرية على قاضي القضاة شمس الدين أحمد ابن خلكان رحمه الله المقدم ذكره بمدرسة سيف الاسلام طغتكين بن أيوب صاحب اليمن،

وكانت المدرسة المذكورة داره إذ كان بالقاهرة، ثم جعلها مدرسة وهي بخط البندقانيين بالقاهرة، وكان زين الدين المذكور إمام المدرسة إذ ذاك، وذلك في سنة سبع وثلاثين، ثم اتصل بخدمة الأمير عز الدين أيدمر الحلى، وكان الحلى يسكن جوار الجامع الأزهر بالقاهرة، فسعى في أمره حتى جعله تقام فيه الجمعة، ورتب زين الدين المذكور خطيباً به، وهو أول من خطب فيه، وغالب الظن أن ذلك كان في سنة اثنتين وستين وست مائة، ولم تزل طريقة زين الدين إدريس المذكور حسنة، وكان آدم شديد الأدمة، ومولده سنة ثمان عشرة وست مائة، وتوفى ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر هذه السنة بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى، وكان ينظم نظماً متوسطاً، فمن شعره من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله إذ كان ينوب بالحكم في القاهرة: تراءت له بالرقمتين مخائل ... فتمت عليه بالغرام بلابل وأجرى دموع العين أو ملأ الملا ... ونمق في أكتاف سلع حمائل وأصبحت.... الفراق منغصاً ... وحزني لا يحنو ودمعي هاطل وجفني إذا نام الخليط مسهد ... وخدي مخلود وجسمي ناحل تجلى دجى حزني سنا مدح أحمد ... ولون حياتي كاسف النور حائل

فمن نور شمس الدين فضائل ... تضيء علينا نورها متكامل إمام إمام المكرمات صفاته ... وقاض عليم فاضل الحكم فاضل له قدم في المكرمات رفيعةفرائضهاخفت بهن نوافل له من سجاياه وسيط مهذب ... وجيز مقال عامر الجود شامل كريم بسيط الكف جوداً مديدة ... سريع العطايا وافر الحلم كامل يبقى الثناء بالجود مستخرجاً له ... ومصروفه الموجود والفضل حاصل إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين أبو الفداء عماد الدين. كان إماماً عالماً فاضلاً ورعاً عاملاً، لازم والدي رحمه الله من صغره، واشتغل عليه إلى حين وفاته، وسمع البخاري على الزبيدي، وسمع كثيراً على المشايخ، وحصل طرفاً جيداً من العربية، وكان ينظم الشعر، ويترسل ترسلاً حسناً، ويكتب خطاً منسوباً، وكان كثير العبادة والاجتهاد والاخلاص في أفعاله، يحرص على كتمان ما يفعله من ذلك وإخفائه عن الناس، حسن العشرة، كثير المروءة، كريم الأخلاق، تمرض أياماً، فلما دنت وفاته، لم يزل يتلو القرآن الكريم بحضور إلى حيث فارق بمنزله ببعلبك وهو في عشر الثمانين رحمه الله، ودفن بمقبرة جده لأمه شمس الدين محمود بن قرقين ظاهر باب سطحاء من بعلبك المحروسة. قال أخي رحمه الله: لم أر من مات وهو مستحضر كما ينبغي سواء.... دخلت عليه قبل موته

بساعتين وهو يتلو القرآن العزيز وسمعته يردد الآية في سورة الواقعة " فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ". وكان رحمه الله قد صحب والدي خمسين سنة، واستفاد منه، وروى عنه، وأخذ وانتفع به ظاهراً وباطناً، وكان عنده علوم جمة، وآداب وفضائل، ومروءة يعجز الواصف عن وصفها، يسارع إلى الخيرات، ويتصدق سراً، كثير قيام الليل، يحب الخمول، ويلازم قعر بيته، يعاشر الناس بالمعروف، ويحسن إلى جيرانه ومعارفه، روى عن الشيخ موفق الدين بن قدامة الحنبلي، وبهاء الدين إبراهيم بن المقدسي، والقزويني، وابن رواحة، وغيرهم، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين صفر رحمه الله تعالى. بيجار بن بختيار الأمير حسام الدين اللاوي الرومي، قد ذكرنا قدومه إلى الشام، وتروحه عن بلاد التتار، وكان له بتلك النواحي قلاع، وبلاد، وأموال جمة، فجرى لولده بهاء الدين بهادر المقدم ذكره ما اقتضى تروحه مع رغبته في الحضور إلى بلاد الاسلام، ومكاتبة الملك الظاهر له، ولما حضر وصل مع خلق كثير من أمراء الروم، وأعيانه، وطائفة كثيرة من غلمانه، وأتباعه، وذريته، ولما استقر بالديار المصرية قصد الحج فتوجه، وأدى فريضة الحج، وتصدق في الطريق، وبالحرمين الشريفين بصدقات كثيرة، وأنفق في حجته أموالاً جمة، وعاد ولزم بيته، وترك الإمرة، وكف بصرة قبل موته بدون ثلاث سنين وكان قد عمر عمراً طويلاً وتعدى المائة سنة بسنين كثيرة، وتوفى بالقاهرة في أوائل شهر شعبان من هذه السنة رحمه الله تعالى.

الخضر بن عبد الرحمن بن الخضر أبو العباس سديد الدين الشيخ الصالح. مولده يوم الثلاثاء في إحدى الجمادين سنة أربع وثمانين وخمس مائة، وتوفى في رابع شوال سنة إحدى وثمانين وست مائة بحماة. ودفن ظاهرها في عقبة نفرين رحمه الله تعالى. قال أخي أبو الحسين علي بن محمد رحمه الله: أنشدني سديد الدين المشار إليه في الخانكاة النورية بحماة في يوم الاثنين تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وست مائة للشيخ أبي الحسين النوري رحمه الله: وكم رمت أمراً حزت لي في انصرافه ... فلا زلت بي مني أبر وأرحما عزمت على أن لا أحسن بخاطر ... على القلب إلا كنت أنت المقدما وأن لا تراني عند ما قد كرهته ... لأنك في قلبي الكبير المعظما قال وأنشدني أيضاً: أنا من يراك وإن تباعد شخصه ... بنواظر القلب الذي لا تهجع ولذاك أسمع ما تقول وبيننا ... مرمى تحث العيس فيه وتوضع فعلام أقترح الدنو وقد أرى ... ما شئت منك على البعاد وأسمع قال وأنشدني أيضاً: طبع المحبوب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمح ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يعرف تأليف الكحح قال وأنشدني أيضاً: تمنيت من أهوى فلما لقيته ... بهت فلم أملك لساناً ولا طرفا

وأطرقت إجلالاً له ومهابة ... وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يخفا وقد كان في قلبي خطوب كثيرة ... فلما التقينا ما نطقت ولا حرفا قال وأنشدني أيضاً: رضينا من وصالك بالكلام ... ومن بذل المودة بالسلام فهل شيء يكون أقل من ذا ... لمشغوف بحبك مستهام فيوم لا أراك بألف شهر ... وشهر لا أراك بألف عام قال أخي رحمه الله وأنشدني أيضاً: تمر الليالي لا أراك وإنني ... جليد على حكم الهوى وصبور لقد طال عهدي باللقاء ولم أزل ... أرجى لقاكم والمحب شكور ولولا رجائي أن ذا البين ينقضي ... قضيت وأن الموت فيه يسير وقال أنشدني رحمه الله تعالى: سعاد تسبني ذكرت بخير ... وتزعم أنني مذق خبيث وإن مودتي زور ومين ... وإني للذي ألقى تبوث ولست كذاك لا ردا عليه ... ولكن الملول هو النكوث ولي وجد يجادبني إليها ... وشوق بين أحشائي حثيث رأت ولهي بها وقم تم وجدي ... فلمتني كذا كان الحديث سليمان بن عبد الله بن ابرين، ويقال ابن عمران، أبو الربيع قطب الدين الزيلعي الحنفي خادم المصحف العثماني الشريف بمقصورة الخطابة. كان شيخاً صالحاً زاهداً حسن السمت؛ سمع من ابن الزبيدي، وابن اللتي،

وأبي الحسن بن المقير، وحدث. توفى رابع ذى الحجة سنة إحدى وثمانين وست مائة عن سن عالية وخلف بنتاً واحدة رحمه الله تعالى. شيتركى صاحب جبل. كان من الفرسان المشهورين عند الفرنج، محبوباً إليهم لشجاعته وكرمه، وكان من معظم الخيالة بطرابلس، وقد مالوا إليه وتغيروا على صاحبها، فكاتبهم شيركى وكاتبوه وتقرر بينهم أنه متى حضر سلموا إليه البلد، وكان بينه وبين صاحب طرابلس عداوة شديدة، وكان شيركى قد انتهى إلى الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بواسطة الأمير سيف الدين بلبان الصالحي، وشرط على نفسه أنه متى ملك طرابلس تكون مناصفة بينه وبين الملك المنصور، وطلب أن يتعضد بجماعة من المسلمين الجبليين لقربهم منه، فسمح لهم النواب بذلك، وتردد إليه، وأخذوا خلعه، فلما كان في أواخر شوال، أو أوائل ذى القعدة من هذه السنة، ركب شيزكى في أصحابه وجماعة من الجبليين في البحر، ودخلوا ميناء طرابلس ليلاً، وخرجوا من المراكب. ودخلوا البلد، وطرقوا أبواب من كان كاتبهم، فلم يخرج إليهم لأن صاحب طرابلس قد نمى إليه الخبر، واحترز فجاء شيزكى إلى قصر صاحب طرابلس فقيل له: قد علم صاحب طرابلس علم صاحب طرابلس بباطن الحال فارجعوا فلم يفعل شيزكى: فلم احس صاحب طرابلس بدخولهم البلد، أخرج غلمانه وأصحابه وخيالته في طلبهم، فأمسكوا من ظفروا به، وأما شيزكى فقصد دار الدواية ليحتمي بها،

فجاء صاحب طرابلس فقبضه منها بعد فصول يطول شرحها، وسيرهم لوقته إلى أنفه، وحبسهم بها، وأما شيزكى وأصحابه الخصيصون به فيقال إنه غرقهم في البحر بعد إمساكهم بثلاثة أيام، وسير غلمانه تسلموا جبيل فصارت له مع طرابلس وما معها، وأما الجبليون فبقوا في القيود إلى حيث نازل الملك المنصور المرقب، وحضر إليه رسول صاحب طرابلس فطلبهم منه، ولم يسمع له رسالة، فعاد إلى صاحبه، وأخبره ما رسم به السلطان فكساهم جميعهم وجهزهم إلى عند السلطان بظاهر المرقب فأطلقهم. شاذى بن داود بن عيسى بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى الملك الظاهر غياث الدين بن الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى. مولده في الخامس والعشرين من ذى الحجة سنة خمس وعشرين وست مائة بقلعة دمشق، ووالده إذ ذاك صاحبها، وأظنه أكبر ولد أبيه وأمه ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل وهو شقيق الملك الأمجد مجد الدين المقدم ذكره في سنة سبعين وست مائة، وتوفى الظاهر شاذى ليلة الخميس حادي وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة بقرية الناعمة من الغور، وحمل إلى القدس الشريف، فدفن بعد الصلاة عليه بالأقصى عقيب صلاة الجمعة ثاني وعشرين شهر رمضان المعظم رحمه الله تعالى. كان ديناً خيراً عاملاً شجاعاً صادق اللهجة، كريم الأخلاق، كثير التواضع، لين الكلمة، يعاني ملابس العرب ومراكبهم كعمه الملك القاهر رحمه الله تعالى، وكان شريف النفس،

غير مبتذل إلى أحد من أرباب الدولة، ويسكن بسفح قاسيون ظاهر دمشق، وخلف أولاداً صغاراً رحمه الله تعالى. عبد السلام بن علي بن عمر بن سيد الناس أبو محمد زين الدين الزواري شيخ المالكية وكبيرهم ومدرسهم والمتعين منهم. كان وصل إلى الديار المصرية في سنة خمس عشرة وست مائة قبل موت العادل بقليل. وانتقل إلى دمشق في سنة ست عشرة واستقر بها، وولى القضاء بدمشق والشام على مذهبه مستقلاً مكرهاً على ذلك في سنة أربع وستين وست مائة، ثم عزل نفسه يوم وفاة قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله، وتوفى الشيخ زين الدين إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ليلة الثلاثاء ثامن شهر رجب من هذه السنة بمدرسة أم الملك الصالح عماد الدين بدمشق، ودفن يوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر بمقابر باب الصغير، وكانت له جنازة حفلة عظيمة حضرها الخاص والعام، ونائب السلطنة وغيره، ومولده سنة تسع أو ثمان وثمانين وخمس مائة بظاهر بجاية من أعمال إقريقية، وكان إماماً عالماً عاملاً ورعاً متقللاً من الدنيا، قانعاً منها بالكفاف، سالكاً، أنموذج السلف، يشتري حاجته بنفسه من السوق ويحملها، وهو قاضي قضاة الشام، وكان عارفاً بالقراآت، وإليه علم ذلك بالشام في وقته، وكان رحمه الله في غاية المعرفة بأمور الدنيا وتدبير أحوالها، وله العقل المعيشي الوافر مع كثرة الديانة، وكرم الطباع، ووفور الايثار للفقراء، والبر لهم، ولين الكلمة للخاص والعام، وشدة التواضع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القانون شرعي، ولم يكن يثبت بالخطوط، ولم يكن

يشهد عليه إلا جماعة يسيرة معدودين من الأعيان المعروفين ببروز العدالة. فكان للشهادة عليه في النفوس موقع كبير، ولما عزل نفسه على ما تقدم ذكره، استمر نائبه جمال الدين في مباشرة للطائفة المالكية، واستقل بذلك إلى حين وفاته رحمه الله تعالى. علي بن عيسى بن أبي الحسن بن أبي الفوارس أبو الحسن الأمير عز الدين ابن الأمير ناصر الدين بن الامير سيف الدين بن الأمير أسد الدين القيمري، كان هو صاحب قلعة قيمر المشهورة انتقلت إليه عن سلفه، وكانت بيده إلى أن أخذها منه التتر وهي بالقرب من مدينة إسعرد، وانتقل إلى الديار المصرية وخدم بها ثم بطل الخدمة قبل وفاته بمدة ولزم السكن جوار البيمارستان الذي أنشأه جده الأمير سيف الدين أبو الحسن بسفح قاسيون، وكانت وفاته ليلة الأحد ثالث عشر شهر رجب من هذه السنة بالنيرب ظاهر دمشق، ودفن يوم الأحد بعد صلاة الظهر بتربة جده الأمير سيف الدين المذكور معه في الضريح والتربة تجاه المارستان المذكور، وعمره مقدار أربعين سنة رحمه الله. لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين العينتابي. كان له مشاركة في نيابة السلطنة بحلب، وتقدم للعسكر بها، وكان شجاعاً بطلاً جواداً خيراً، حسن السياسة، جميل الصورة، تام الخلق، عنده رياسة وعقل ومعرفة، وكان قبل وفاته بمدة يسيرة ثبت أنه باق على الرق، فاشتراه الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، وأعتقه وزاد في حرمته، وبسط يده وأقطاعه، وكانت وفاته بحلب ليلة السبت ثاني عشر ذى الحجة، ودفن

يوم السبت ظاهرها، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى. محمد بن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي الحسن بن محمد بن المهذب أبو عبد الله شرف الدين السلمي الشافعي. قد تقدم ذكر والده شيخ الاسلام عز الدين رحمه الله في سنة ستين وست مائة، وكان الشرف أكبر أولاده وأوجههم، يباشر إمام المدرسة الظاهرية بالقاهرة للطائفة الشافعية وغيرها من الجهات الدينية، وتوفى بالقاهرة يوم الاثنين سابع وعشرين شعبان من هذه السنة عقيب عوده من الشام إلى الديار المصرية، ودفن بالقرافة الصغرى بتربة والده، وقد نيف على تسعين سنة، وكانت له جنازة حفلة رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن محمود أبو عبد الله صلاح الدين الشهرزورى الشافعي مدرس المدرسة الناصرية القيمرية بدمشق، وناظرها الشرعي. كان شاباً، نبيهاً، حسن الشكل، لين الكلمة، كريم الأخلاق، حسن العشرة، ولى تدريس المذكورة بعد والده القاضي شمس الدين، واستمر بها إلى حين أدركته منيته بالمدرسة المذكورة في يوم الثلاثاء ثاني وعشرين شهر رجب من هذه السنة، ودفن من يومه إلى جاني والده بتربة الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، ولم يبلغ من العمر أربعين سنة رحمه الله تعالى. محمد بن سليمان أبو عبد الله المعروف بابن العلم الحموي. كان شيخاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً فاضلاً أديباً، حسن العشرة والفضيلة، تجاوز التسعين سنة، وكانت وفاته بدمشق بالمدرسة الرواحية ثامن عشر ذى القعدة هذه

السنة، وصلى عليه بجامع دمشق، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. وقال أخي رحمه الله: أنشدني أبو عبد الله محمد المذكور يوم السبت رابع عشر شعبان سنة سبع وسبعين وست مائة ببعلبك لنفسه: يمشي ويعثر بالعيون وراءه ... وإذا استدار تعثرت من خلفه وحلى مكان نطاقه فكأنه ... شعبان كل حلاوة في نصفه محمود بن سلطان بن محمود أبو الثناء البعلبكي الشيخ الصالح العارف الزاهد العابد. كان من الأولياء الأفراد وأرباب الأحوال والمعاملات، أقم أربعين سنة يجمع المباح ووالده من قبله ستين سنة، وكان كثير الذكر ليلاً ونهاراً، صحب والده الشيخ سلطان رحمة الله عليه كثيراً، وخدمه ولازمه وأخذ عنه كثيراً، وانتفع به، ويقال: إنه جمع بينه وبين رجال جبل لبنان رضي الله عنهم، فكانوا يجتمعون به في كل وقت إلى آخر عمره، وصحب والدي كثيراً، ولازمه إلى حين وفاة والدي، وصحب الشيخ إبراهيم بن جوهر البطائحي، ولبس منه خرقة تبركاً، وقصد الاتصال بخرقة سيدنا الشيخ محي الدين. وتوفى الشيخ محمود المذكور يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان المعظم عند صلاة العصر، ودفن من الغد بتربة سيدنا الشيخ عبد الله الزمن إلى جانب قبر والده الشيخ سلطان نفع الله به، وقد ناهز المائة سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه. قال: إن والده أخبره لما عاد من وقعة حطين، كان عمر الشيخ محمود أحد عشر شهراً، ووقعة حطين كانت في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ومات والده رحمه الله

سنة أربعين وخمس مائة عن مائة وخمس عشرة سنة رحمه الله تعالى. محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو الثناء برهان الدين المراغي الشافعي. كان إماماً عالماً عاملاً، كثير العبادة والتقوى، عليه آثار الصلاح ظاهرة، ولى تدريس المدرسة الفلكية بدمشق إلى حين وفاته، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة بالشام، فامتنع قنعاً وورعاً، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة بالشام، فامتنع قنعاً وورعاً، وعرض عليه أن يكون شيخ الشيوخ بالشام فامتنع أيضاً، وكان كريم الأخلاق، لطيف الشمائل، حسن العشرة، عارفاً بالمذهب والأصول، مكمل الأدوات من أعيان العلماء، له قلم راسخ في الفتيا، وتحقيق النقل، ومولده سنة خمس وست مائة، توفى بدمشق ليلة الجمعة ثالث وعشرين ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى. المقداد بن أبي القاسم بن هبة الله بن المقداد بن عبد الله بن المقداد بن علي أبو المرهف نجيب الدين القيسي. كان من أهل الخير والعدالة والأمانة، سمع الكثير وتفرد بأشياء، وأسمع وانتفع بالسماع عليه جماعة من الطلبة، وتوفى بدمشق يوم الأربعاء ثامن شعبان، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى. منكوتمر بن هولاكو بن قازان بن جنكز خان ملك التتار. وهو من بيت الملك، وهو مقدم الجيش الذي ضرب المصاف مع المسلمين في السنة الخالية ظاهر حمص، فكان عنده شجاعة وإقدام، وبطش وسفك للدماء،

وهو نصراني الدين، وكان جرح يوم المصاف، والذي جرحه الأمير علم الدين الدويدار رحمه الله، وحصل له غم شديد على ما جرى عليه، وعلى عساكره، وكمد زائد، وحدثته نفسه بجمع العساكر من سائر مماليك بيت هولاكو، وقصد الشام، وأخذ بثأره، فقدر الله تعالى موت أخيه ابغا، فعبء ذلك في عضده، وتملك بعد أخيه أخوه الملك أحمد، وهو مسلم لا يرى محاربه المسلمين، فانكسرت همته، واعترته صرع متدارك، فتوفى في العشر الأول من المحرم ببلد الجزيرة العمرية يقال لها: تل خنزير، وقيل: كانت وفاته في آواخر سنة ثمانين والله أعلم وقيل: انه لم يمت حتى أكل لسانه بأسنانه، وأتى على أكثر من نصفه، وكفن في أربعة أثواب نسيج، وجعل في تابوت، وسير إلى تلا، فدفن بها، وقد نيف على ثلاثين سنة من العمر والله أعلم. هبة الله الملقب بالسديد النصراني القبطي المنيوز بالماعز. مستوفى الديار المصرية وقوانينها وأحوال المملكية، لا يشاركه في ذلك مشارك، وكان مدار الوزارة عليه، والوزير يستضئ به في سائر الأحوال، وكان رجلاً جيداً، كبير المروءة، والخدمة للمسلمين، والتودد إليهم، والترصد لقضاء حوائجهم، وعنده رياسة وبراهة وعفة، وستر على عورات الكتاب، وعدم مؤاخذة لمن يقصده بضرر، متمسكاً بدينه وشريعته، كثير الصدقة على فقراء النصارى، ويتصدق على فقراء المسلمين أيضاً،

السنة الثانية والثمانون وستمائة

ولم يكن في أهل ملته من يضاهيه في وقته، وكانت وفاته بالقاهرة يوم الاثنين عاشر المحرم وهو في عشر السبعين، ورتب ولد الأسعد جرجس مكانه، وتضاعفت منزلته، وفعله للخير، ومنافسته في المعروف، وفعل الجميل مع المسلمين بحيث أطلقت الألسن بشكره، والثناء عليه، ثم أسلم فيما بعد. يعقوب بن غنائم الموفق الساوى. كان حكيماً فاضلاً حاذقاً في الصناعة الطبية، جامعاً للعلوم الحكمية، أتقن صناعة الطب علماً وعملاً، واحتوى على جملتها، لم يكن في زمانه أعرف منه بقوانين الطب ومعرفته، له اليد الطولى فيه، وله تأييد في اجتلاب الصحة، وتحرر في استقراء الأعراض، ومعرفة تامة بالبحث في علم الطب، والتفرد فيه، وله حلقة اشتغال فيه لكل من قصده، وله تصانيف جليلة، منها: شرح الكليات من كتاب القانون لابن سينا، وحل شكوك نجم الدين أحمد بن المفتاح على الكليات، وكتاب المدخل إلى علم المنطق والطبيعي والالهي وغير ذلك، وكانت وفاته يوم السبت في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين، وهو دمشقي المولد والوفاة. السنة الثانية والثمانون وستمائة استهلت هذه السنة يوم الخميس، والخليفة الامام الحاكم بأمر الله أحمد العباس أمير المؤمنين، وسلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، مقيماً بقلعة الجبل من الديار المصرية. وفي يوم الأحد سابع وعشرين شهر صفر وصل إلى دمشق

الملك المنصور صاحب حماة، وخرج نائب السلطنة، والموكب للقائه، ونزل بداره داخل باب الفراديس، وعزمه التوجه إلى الديار المصرية. وفي يوم الاثنين عاشر ربيع الأول فوض إلى الصاحب برهان الدين السنجاري التدريس، والنظر بمدرسة الامام الشافعي رحمه الله بالقرافة الصغرى، ووقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قدس الله روحه بالجامكية، والجراية، والرسوم، الشاهد بها كتاب الوقف على التمام والكمال وهي في كل شهرمن الجامكية أربعون ديناراً معاملة على التدريس، وعشرة دنانير على النظر، والرسوم في كل يوم من الخبز ستون رطلاً بالمصري، ومن الماء الحلو راويتان وهذا المدرسة خلت من مدرس بالكلية من مدة تزيد على ثلاثين سنة، والفقهاء يلازمزن الاشتغال بها، وحضور حلق معيديها فان بها عشرة معيدين، واستمر الحال على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين، فرتب التدريس بها في نصف المعلوم المذكور القاضي تقي الدين محمد بن رزين الحموي عند صرفه من القضاء بالديار المصرية، وانتقلت بعد وفاته إلى غيره بالربع من أصل المعلوم، وبقي الامر كذلك إلى يوم تاريخه ففوضت إلى الصاحب برهان الدين المذكور بالمعلوم بكماله. وفي يوم الجمعة حادي عشرين رجب ولى الخطابة بدمشق جمال الدين عبد الكافي واعتقل قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ رحمه الله تعالى في القلعة، ومنع من صلاة الجمعة بعد أن حضر الجامع لصلاة الجمعة، فأمسك ورسم لقضية برأه الله تعالى منها إدعى عليه أنه أودع حياصة مجوهرة،

وأمور اتفقت عليه، وأثبتت بالزور والبهتان، وتعصب عليه وصرف عن الحكم بسببها، وولى قضاء القضاة بهاء الدين بن الزكي عوضه. وفي يوم الأحد ثالث عشرين رجب شافهه السلطان بالولاية وقعد للحكم، وتطاول أمر القاضي عز الدين، وعقد له مجالس كثيرة إلى العشرين من شهر رمضان أحضر ابن الحموي، والشهاب عازكي الأميني، والعز التبان، فأمر نائب السلطنة أن يركبوا حميراً ويحرضوا، ففعل بهم ذلك بدمشق، وحبس ابن الحموي بعد ذلك في حبس باب الصغير، بقي فيه يومين، وشفع فيه، فأطلق وظهر عند بهاء الدين البرزالي إشهاد مثبوت على الحكام ببراءة القاضي عز الدين مما ادعى عليه به، ولم يجسر على إخراجه. وفي بكرة الأحد حادي عشر شوال ذكر الشيخ شمس الدين الايكي الدرس بالغزالية، وذكر قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي بالمدرسة العادلية الكبيرة بكرة الاثنين ثاني عشره، وحضر عنده أعيان البلد من القضاة والعلماء والفضلاء على اختلاف المذاهب، وذكر الدروس الفائقة، وتصدي لإيراد الأجوبة عليها وبحث بحثه الفائق إلى أن أطرب المسامع بعلومه التي فاق بها الأواخر والأوائل، وأتى بما عجز به الحاضرون. وفي يوم الخميس منتصف شوال خرج محمل الحاج من دمشق، وأميرهم صارم الدين المطروحي، ودخل الملك المنصور صاحب حماة دمشق من القاهرة يوم الأحد رابع عشر صفر، وتوجه إلى حماة يوم الجمعة

ثاني عشرين منه، ودخل الحاج دمشق في خامس صفر، وأميرهم الطواشي بدر الدين الصوابي. وفيها توفى: إبراهيم بن جامع بن أبي البركات أبو إسحاق القفصي الضرير الامام المقرئ العلامة. كان إماماً فاضلاً، عارفاً بالقراآت، واللغة، والعربية، وله تصانيف كثيرة، أخذها عنه المقرئ أبي الحسن علي بن أحمد بن موسى الجزيري، وسمع منه أبو العلاء الفرضي، وروى عن عمر بن الناقد، وأخته تاج النساء عجيبة، ورحل إلى الشام، ومصر، والاسكندرية، وسمع من شيوخها، ومولده سنة ست وست مائة، وتوفى ببغداد في صفر رحمه الله تعالى. إبراهيم بن عثمان أبو إسحاق العدوي. كان من أولاد المشايخ، وله صورة، وصيت وأتباع، وكان حسن الأخلاق، كثير المكارم، لطيف المحاضرة، حسن المذاكرة، جميل الصحبة، لم يجتمع به أحد إلا وانتفع به، وكان من حسنات الدهر من ذوي البيوت الكبيرة، عزيز النفس، كثير المروءة، عنده خير وصلاح وانقطاع بقرية دير ناعش عند ضريح والده الشيخ عثمان بن سادات المشايخ، اجتمع بمشايخ الشام في زمانه، وأخذ عنهم علم الطريق، وتخرج بهم، وكانت له الكرامات الظاهرة،

والأحوال الباهرة، والمناقب المشهورة، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين الفقيه اليونيني رضي الله عنه يكثر من زيارته ويحبه، وحكى عنه أن شخصاً قرأ عند قبره بعد موته القرآن فغلط فرد عليه من قبره، وهذا مشهور عند أهل قريته، وله غير ذلك، وكانت ولادته سنة إحدى وخمسين وست مائة، ودفن بدير ناعش عند جانب والده رحمهما الله. أحمد بن حجي بن يزيد البرمكي الأمير شهاب الدين أمير آل مراء. وهو من الفرسان المشهورين، والشجعان المذكورين، كانت سراياه تغار إلى أقصى نجد، وبلاد الحجاز، ويودون له الخفر، وكذلك صاحب المدينة الشريفة النبوية يؤدي له القطيعة، وله المنزلة العالية عند الملك الظاهر والملك المنصور وغيرهما من الملوك يدارونه، ويتقون شره، ويزعم أنه من نسل جعفر بن يحيى البرمكي المشهور، وكان كتب إلى عيسى ابن مهنا كتاباً، وأغلظ له فيه، وكان عنده المولى شهاب الدين أحمد بن غانم، فسأله المجاوبة عنه، فكتب عنه إليه يقول: زعموا أنا هجونا جمعهم كذبوا ... فيما ادعوه وافتروا بالأدعياء إنما قلنا مقالاً لا كقول السفهاء ... آل فضل آل فضل أنتم آل مراء فوقع ذلك عنده بموقع شديد وغضب. إسماعيل بن أبي عبد الله بن حماد أبو الفداء الصالحي العسقلاني. أحد الشيوخ المتدينين والرواة المكثرين، كان شيخاً صالحاً زاهداً ورعاً، ولد

في حدود سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وسمع من حنبل المسند المكثر بمكاله، ومن ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحدث، وأجاز له أبو جعفر الصيدلاني وغيره من أصبهان، توفى في ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين وست مائة بقاسيون، ودفن به رحمه الله تعالى؟ شرف بن عمر بن أحمد الأصفهاني المعروف بالبلاسي. كان شيخاً صالحاً كريماً، خادماً للفقراء، متصدياً لخدمتهم، عمر قريباً من ثمانين سنة، ومات بالديار المصرية في يوم الاثنين ثاني عشر المحرم، كان قصدها مسترفداً، ودفن قرب قبة الامام الشافعي رحمه الله تعالى. شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن محمد الجذامي النواوي الحاج الصالح والد السيخ محي الدين النواوى، كان من الصالحين، مقتنعاً بالحلال، يزرع له أرضاً يقتات منها هو وأهله. وكان يمون الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى منها يرسل له مؤنته وقتاً بوقت، ولا يأكل من عند غير أبيه، لما يعلمه من صلاحه، واستعماله الحلال الخالص، وكان خيراً لا يأكل شيئاً فيه شبهة، ولا يطعم أولاده إلا مما يعرف حله. قال الشيخ الصالح محي الدين يحيى الذهبي، وكان صاحبه: كنت أتردد أنا وأخوالي إلى نوى، وننزل عنده، ويخدمنا خدمة بالغة، فاتفق أن توجهنا إليها في شغل، وأخذنا معنا هدية لبعض الأصحاب، وفضل معنا سلة انجاص، فلما دخلنا بها بيت الحاج شرف، قلت لأخوالي، وقد حضر ولد صغير لولد شرف المذكور: أعطه إياها يداخلها للصغار، فقال له ذلك، فغضب وقال: متى رأيتنا نأكل

هذا أو غيره أو أكلنا من مال أحد شيئاً، وتغير عليه، ولم يقبلها. ولما مات الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى خلف كتبه التي صنفها، وغيرها من العلوم الاسلامية مما كتبه بخطه، واشتراه فلم يتعرض والده إليها، وهي تساوي جملة كبيرة، وجعلها عند الشيخ برهان الدين الاسكندري تلميذ الشيخ محي الدين ينفع بها المسلمين، ولم تزل عنده يعيرها لكل من قصد الانتفاع بها، وحصل للناس بها نفع كثير إلى أن مات شرف المذكور، وأولاده الكبار، ولا يتعرض أحد إليها فلما انقرضوا، ولم يبق منهم من له صورة، وافترقوا في سنة تسع وتسعين وست مائة عندما دخل العدو الشام، واحتاجوا إلى بيعها، فحضر من بقي من أولاد شرف، وذلك في سنة سبع مائة إلى التربة الأشرفية، وكانت الكتب في بيت الشيخ برهان الدين، فأخرجت وبيعت بجملة كثيرة، وبلغ ثمنها مبلغاً طائلاً، وتغالى الناس في شرائها، وهم من أثر الخوف، وأخذوا المال، فذهب منهم كله في تلك السنة، ولم يبارك لهم، وأبقوا عندهم من كتب الشيخ بخطه: رياض الصالحين، والأربعين في الأحكام بنوى، لأجل التبرك. وكانت وفاة الحاج شرف يوم الأحد سابع عشر صفر سنة اثنتين وثمانين وست مائة، ودفن بنوى رحمه الله تعالى. وكان قد حج مع والده القدس مراراً، وعادت بركة كل منهما على الآخر رحمهما الله تعالى. عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أبو محمد شهاب الدين الحراني الحنبلي.

كان فقيهاً فاضلاً، قدم دمشق بعد استيلاء التتار على حران، واستوطنها إلى أن توفى بها ليلة الأحد سلخ ذى الحجة، ودفن يوم الأحد بمقابر الصوفية، وقد نيف على الستين رحمه الله وهو من بيت العلم، والحديث، والديانة، وله شهرة ببلده، وكان والده مجد الدين عبد السلام من الأعيان، وكذلك غير واحد من أهل بيته رحمهم الله تعالى. عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة أبو محمد شمس الدين المقدسي الحنبلي، شيخ الاسلام علماً، وزهداً، وورعاً، وديانة، وأمانة، كبير القدر، جم الفضائل، إليه انتهت الرياسة في الفقه، على مذهب الامام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وشرح كتاب المقنع في الفقه تأليف عمه شيخ الاسلام موفق الدين رحمه الله تعالى. وكانت له اليد الطولى في معرفة الحديث، والأصول، والنحو، وغير ذلك من العلوم الشرعية مع العبادة الكثيرة، واللطف وكرم الأخلاق، ولين الجانب، والاحسان إلى القريب والبعيد، والاحتمال، وولى قضاء القضاة بالشام يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وست مائة مكرها، وباشر ذلك مدة سنين، ثم عزل نفسه، وامتنع من الحكم، وبقي متوفراً على العبادة، والتدريس، والاشتغال، والتصنيف، وكان أوحد زمانه في تعدد الفضائل، والتفرد بالمحامد، وحج غير مرة، ولو يكن له نظير في خلقه، ورياضته، وما هو عليه، وتمرض أياماً، ثم توفى إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر بمنزله بجبل قاسيون ظاهر دمشق. ودفن يوم الثلاثاء عند قبر والده الشيخ أبي عمر رضي الله عنهما. سمع الكثير وأسمعه، وانتفع به خلق كثير، وكان على

قدم السلف رضي الله عنهم في معظم أحواله، ورثاه غير واحد، فمن رثاه شهاب الدين محمود كاتب الدرج بدمشق، وهو ممن اشتغل عليه، وانتفع به، بقوله: ما للوجود وقد علاه ظلام ... أعراه خطب أم عداه مرام أم قد أصيب بشمسه فغدا فقد ... لبست عليه حدادها الأيام لم أدر هل نبذ الظلام نجومه ... أم حل للفلك الأثير نظام فلقد تنكرت المعالم واستوى ... في ناظري الأشراق والأظلام وذهلت حتى خلت أني ليس لي ... بعد الفراق سوى الدموع كلام أترى درى صرف الردى لما رمى ... أن المصاب بسهمه الاسلام أو أنه ما خص بالسهم الذي ... أصمى به دون العراق الشام سهم يقصد واحداً فغدا وفي ... كل القلوب لوقعه آلام ما خلت أن يد المنون لها على ... شمس المعارف والهدى إقدام من كان يستسقى بغرة وجهه ... إن عاد وجه الغيث وهو جهام وتنير المسرى لسرة فضله ... فكأنما هي للهدى إعلام ما خلت أن الدين لولا فقده ... ممن يروع شربه ويضام كانت تطيب لنا الحياة بأنه ... وبقربه فعلى الحياة سلام كانت ليالينا بنور بقاءه ... فينا تضيء كأنها أيام كانت به ترى العيون وتنثني ... ولها إليه تعطش وأوام من للعلوم وقد علت وعلت به ... أضحت تسامى بعده وتسام

من للحديث وكان حافظ سربه ... من أن يضم إلى الصحاح سقام وله إذا ذكر العلوم نراتب ... تسمو فتقصر دونها الأوهام تروى فيروى كل ذى ظمأ له ... بحمى الحديث تعلق وهيام ببديهة في الفضل يقسم من رأى ... في ذاك شرعاً أنه إلهام من للقضايا المشكلات إذا ثنت ... عنها العقول وحارت الأفهام هل للفتاوى من إذا وافى بها ... قاضي القضاة وجفت الأقلام من للمنابر وهو فارسها الذي ... يحي القلوب به وهن زمام وله إذا أتم الدروس مواقف ... مشهودة ما نالهن إمام يجلى بها صدى القلوب وترتوي ... منها العقول وتعقل الأحكام ولديه في علم الكلام جواهر ... غرر يحير بحسنها النطام من للزمان وكان طول حياته ... الليل يحي والهجير يصام من للعفاة والغباة وهل لهم ... من بعد في ذاك المقام مقام كانت لهم منه عواطف مشفق ... فمضى فيهم من بعده أيتام لم يخل منهم بابه ولطالما ... عاينته ولهم عليه زحام وذوو الحوائج ما أتوه لحادث ... إلا ونالوا عنده ما راموا يلقاهم بشر يبشرهم بما ... قصدوا من الحاجات وهي جسام من للطريد وهل له من بعده ... يوماً من الدهر الذميم ذمام فجعت به الدنيا فإن لم تصف من ... أكدارها يوماً فليس تلام

فعلام يبقى الطرف فيه بقية ... أيروم أن يرد الجفون منام أو أن يصون الدمع كي يطفى الجوى ... ولناره بين الضلوع ضرام أو أن يكون ذخيرة هيهات ما ... لملمة من بعدها إيلام هذا الذي عفا المضاجع خشية ... من أن تخيله لنا الأحلام فعلام تجزع للحوادث ما اشتهت ... من بعده فلتصنع الأيام بتنا نودعه وقد جاءته ... دار السلام تحية وسلام ويقوم إجلالاً لديه ولم يحل ... إن الملائكة الكرام قيام وافته من خلع القبول ملابس ... شرفت فليس ترى وليس ترام وسرت إليه من الجنان نسيمة ... في طيها كلف به وغرام فليهنه الدار التي لنعيمه ... فيها إذا زال النعيم دوام دار له فيها السرور محقق ... لا كالحياة فان تلك منام حيا الحياة ذاك الزمان فإنه ... لملابس بك للمكرمات حتام وسقى العهاد عهوده فإذا رثت ... فالدمع إن ظن الغمام غمام إن كان عاندنا الزمان بفقده ... فله بمن أبقى لما أنعام أو غالنا في الشمس وهي منيرة ... فلقد سخا بالبدر وهو تمام نجم به ألف الهدى وبنوره ... عادت وجوه الدهر وهي وسام أبقى لنا منه الزمان بقية ... أثنى عليه بتركها الاسلام شرف القضاء بعلمه وتشرفت ... بوجوده الأحكام والحكام وبه علينا الدهر لما أن مضى ... منا إمام قام منه إمام

درت به ضرع العلوم وأنها ... لولاه بعد أبيه طال فطام حسن الزمان به فألقت جيده ... له ما.... الأعوام ولكم غدت من زلة وفريضة ... هدى يقال به وتلك تقام من دوحة شرفت وكم ضرع بها ... زاك تأخر عنه وهو إمام من كان في حجر العلوم وطالما ... سبق الكهول تقاه وهو غلام مولاي نجم الدين دعوة من غدا ... الصبر الجميل عليه وهو حرام طب عن أبيك فدتك نفسي أنه ... ولى ولم تعلق به الآثام فلمثل هذا كان يتعب نفسه ... الليل ذكر والنهار صيام لكم الكرامات الجليلات التي ... لا يستطيع جحودها الأقوام في وقت دفن أبيك هب نسيمة ... في طيها كلف به وغرام إن لم تكن روح الجنان فقبلها ... ما طابه من لفح الهجير مقام فاسلم ودم تحي المائر والعلى ... ما ناح في فرع الاراك حمام ذكر الشيخ محي الدين النواري رحمه الله تعالى فقال عنه شيخنا الامام العلامة ذو الفنون من أنواع العلوم والمعارف، وصاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن واللطائف، أبو الفرج، وأبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ الامام أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، سمع الكثير وأسمعه قديماً في حياة شيوخه، وهو الامام المتفق على إمامته، وبراعته، وورعه، وزهادته، وسيادته، والعلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة. وذكره الشيخ زكي الدين

أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز الكوري المالكي، فقال: شيخنا شمس الدين ممن يفتخر به دمشق على سائر البلدان، يزهو به عصره على متقدم العصور والأزمان، لما جمع الله تعالى فيه من المناقب، والفضائل، والمكارم. منها التواضع مع عظمته في الصدور وترك التنازع فيما يفضى إلى التشاجر والنفور كانت به صدور المجالس والمحافل. مع ما أمده الله تعالى به من سعة العلم، وفطره عليه من الرأفة، والحلم، ألحق الأصاغر بالأكابر في رواية الحديث. وحكى الشيخ أبو الفضل بدر بن برغارم الشاغوري قطب وقته في زمانه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول صلى الله عليه وسلم: يا أبا الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: أبشر بالخير من الله تعالى، فإنك من أهل الجنة؛ فقلت: يا رسول الله! فقلت يا رسول اللهوأصحابي: فقال: وأصحابك أيضاً من أهل الجنة طيب قلبك: فقلت: يا رسول الله فالشيخ شمس الدين خطيب الجبل والشيخ عز الدين؟ ثم قال: يا أبا الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: قل لهما وبشرهما أنهما من أهل الجنة. عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن عيسى أبو علي المادراني المصري الشافعي شمس الدين بن القاضي كمال الدين أبي حامد بن قاضي القضاة صدر الدين أبي القاسم. مولده بالقاهرة المعزية من الديار المصرية في ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وتوفى بالقاهرة بالقرافة الصغرى في خامس شوال من هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين وست مائة. سمع

جده قاضي القضاة صدر الدين، وأبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن المحلى، وأبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن الثبت، وهو آخر من روى عنهم بالسماع، وسمع أبا بكر بن باقا وغير واحد، وكانت له إجازات عالية من نيسابور، وأصفهان، وبغداد، وغير ذلك، وحدث. ومن نظمه رحمه الله تعالى يقول: ألقاك بالفقر وبالذل ... إن لم يكن لي راحماً من لي إذا أتى الناس بأعمالهم ... فحاصلي إفلاسي الكلي فافعل معي ما أنت أهل له ... فأنت رب الجود والفضل وارحم لمن في لحده مفرداً ... خال من الأموال والأهل جفته أهلوه وأحبابه ... وقد غدا منصرم الحبل فالويل لي إن لم تكن راحمي ... لا عملي ينجي ولا فعلي علي بن يعقوب بن شجاع بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي زهران أبو الحسن عماد الدين الموصلي الفقيه الشافعي المقرئ المجود. وكان فقيهاً فاضلاً، كرر على الوجيز في بداية اشتغاله، وحفظ الحاوي الصغير في آخر عمره، وله مشاركة في المنطق. والأصول. والخلاف، وكان إماماً مبرزاً في علم القراآت، والتجويد، وانتهت إليه الرياسة في ذلك بدمشق في آخر عمره، وصنف للشاطبية شرحاً يبلغ أربع مجلدات، ولم يكمله، ولا بيضه، وباشر التصدر للاقراء بتربة أم الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل بدمشق

بعد وفاة الشيخ زين الدين الزواوي المقدم ذكره رحمه الله وشرط هذا المكان أن يتولاه أفضل من يوجد في علم القراآت. وتوفى العماد المذكور يوم الأحد سابع عشر صفر بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير، وهو في عشر الستين ومولده بالموصل رحمه الله، ووالده وجده فاضلان، لهما يد في النظم. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في كتابه قلائد الجمان: يعقوب بن شجاع الموصلي أخبرني أنه ولد ليلة الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وخمس مائة، وهو شاب من حفاظ القرآن، والمتفقهة، وقرأ من النحو صدراً حسناً، ومن أهل الدين والخير والصلاح رحمه الله تعالى وأنشدني لنفسه: قلت لما رق حالي ... وجفاني من أوالي ورماني الدهر قصداً ... بسهام ونبال ودعتني رقة الحال ... إلى ذل السؤال لست إلا مستجيراً ... بك يا رب المعالي قال وأنشدني لنفسه: أمولاي محي الدين بادر إلى ... الوعد الكريم بلا فتور فلست أفي بشكر يديك عفواً ... ولو عمرت أعمار النسور وأنت ذخيرتي ما دمت حياً ... وأنك عدتي يوم النشور قال وأنشدني أيضاً لنفسه: صروف هذا الدهر قد صوبت ... سهامها نحوي فلم أجزع

لأنني معتمداً إن سطت ... على إمام بطل افزع الفارس الكرار يوم الوغى ... وصاحب الغوث إذا ما دعى جدك يا محي دين الهدى ... وحامل الراية في المجمع يا من إذا ما جئته راغباً ... رجعت والدنيا جميعاً معي عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون أبو الخطاب محي الدين بن قاضي القضاة أبي سعد شرف الدين التميمي الشافعي، كان المذكور يلبس زي الجند في صدر عمره، ثم لبس زي الفقهاء في آخر عمره بعد وفاة أخيه شرف الدين عثمان، وادعى المشاركة في النظر على الأوقاف النورية، ثم أوصى قبل وفاته على ولده شمس الدين محمد بن سلمان ابن جمائل الشافعي سبط الشيخ غانم رحمه الله وتحدث في الأوقاف النورية، وتناول النصيب فيها أسوة من يدعى ذلك، وكانت وفاة المحي عمر المذكور في يوم الاثنين ثالث ذى القعدة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وقد نيف على سبعين سنة من العمر. عيسى بن الخضر بن الحسن بن علي شمس الدين الزرزاري المعروف والده بالسنجاري. كان مليح الصورة، حسن الشكل، ناب عن والده برهان الدين في الوزارة، تقلده إياها في سنة ثمان وسبعين، ثم صرف عن ذلك في شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وتولى نظر الاحباس بالديار المصرية، وخانقاة سعيد السعداء بالقاهرة، وعندما باشر والده الوزارة في المرة الثانية لم يمكن من استنابته، وباشر تدريس المدرسة المعروفة

بزين التجار بعد وفاة الشريف السلماني مدة، ثم قبض عليه قبل وفاته بمدة، وامتحن محنة شديدة، ثم أفرج عنه، وأقام بطالاً في منزله بالمدرسة المعزية المطلة على النيل إلى أن توفى في سابع وعشرين المحرم، ودفن بالقرافة الصغرى بالتربة المعروفة بهم، ومولده بعد الأربعين وست مائة رحمه الله تعالى. عيسى بن المظفر بن محمد بن إلياس بن عبد الرحمن الأنصاري المنعوت بعز الدين المعروف بابن الشيرجى. كان من أعيان أهل دمشق، ورؤسائهم، وعدولهم، ولى المناصب الجليلة. وآخرها حسبية دمشق، وكان عنده مكارم، وحسن ملتقى. وعلو همة، ومولده في أواخر سنة ثمان وعشرين وست مائة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى بدمشق في رابع عشر رجب، ودفن بمقابر باب الصغير ظاهر مدينة دمشق رحمه الله تعالى. كشتغدى بن عبد الله علاء الدين المشرفي الظاهري المعروف بأمير مجلس. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم بالديار المصرية، وظهر قبل وفاته بمدة يسيرة أنه باق على الرق فاشتراه الملك المنصور سيف الدين قلاوون بجملة من المال ثم أعتقه، وكان شجاعاً بطلاً مقداماً، وله مواقف مشهورة، وتوفى بقلعة الجبل من الديار المصرية، وقد نيف على خمسين سنة من العمر، وحضر جنازته السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله. محمد بن أحمد بن نعمة بن أحمد أبو عبد الله شمس الدين المقدسي الشافعي. اشتغل على الشيخ تقي الدين محمد بن رزين وغيره وناب عنه في تدريس

المدرسة الشامية البرانية، ثم تشارك هو والقاضي عز الدين محمد بن عبد القادر في تدريسها ثم اشتغل بها إلى حين وفاته بها، وناب في الحكم بدمشق مدة سنين إلى أن توفى، وكان فقيهاً ديناً مشكور السيرة، سمع، وحدث، وأفتى. توفى يوم الاثنين ثاني عشر ذى القعدة بدمشق، ودفن من يومه ظاهر دمشق بباب كيسان بين باب الصغير، وباب شرقي، وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى. محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المعالي علاء الدين الأنصاري الشافعي المعروف بابن الصائغ. كان من العدول وهو أخو قاضي القضاة عز الدين شقيقه، وتولى نظر الأسرى وغيره، وكان فيه أهله، وأمانة، وديانة، وحصل له مرض طال به، وتوفى يوم الأربعاء ثالث عشر ذى القعدة بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون، وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى. محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو حامد الأنصاري الشافعي المنعوت بمحي الدين المعروف بابن الحرستاني. كان في حياة والده القاضي عماد الدين أبي الفضل مقيماً بصهيون مدة، ثم قدم دمشق، وولى الخطابة بجامعها بعد والده في سنة اثنتين وستين وست مائة، ودرس بالزاوية الغزالية بجامع دمشق، وكان وافر الديانة، كثير الخير، وفي سمعه ثقل، ودرس بالمدرسة المجاهدية التي بالقرب من النورية بدمشق، وتوفى إلى رحمة الله تعالى بدمشق يوم الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة،

ودفن من يومه بسفح قاسيون، ومولده في أحد الربيعين سنة أربع عشرة وست مائة بدمشق رحمه الله تعالى.... حصلت صعقة بساتين دمشق في سنة ست وستين وست مائة، وكان الملك الظاهر قد أوقع الحوطة عليها، نظم محي الدين في ذلك: لما وقفت على الرياض مسائلاً ... ما حل بالأغصان والأوراق قالت أتى زمن الربيع ولم أرى ... من كان بالمغنى من العشاق تناشدت أطيارها في دوحها ... لما أضاء الجو بالاشراق فتذكرت أيامهم في دوحها ... لما أضاء الجو بالاشراق فتذكرت أيامهم فتنفست ... فأصابها لهب من الاحراق أبلغهم عني السلام وقل لهم ... ها قد وفت بالعهد والميثاق فغدوت أندب ما جرى متأسفاً ... والدمع يسبقني من الآماق كان رحمه الله ديناً خيراً ملازم للخير، ولم يعرف له صبوة. محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان شمس الدين الأنصاري الشافعي النحوي، كان فاضلاً ديناً، اشتغل بالنحو على الشيخ جمال الدين محمد بن مالك رحمه الله وأتقنه. وكان أمثل تلامذته. وسمع الحديث الكثير، وحصل من الفقه طرفاً، وكان له معرفة بالأدب، وله طبع مطاوع في النظم، وتوفى بدمشق ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى، ومن نظمه يمدح

قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ: لله در زمان عاد فيه إلى ... أحكامه العز عز الدين ذو النعم أبو المفاخر فخر الشام حاكمه ... قاضي القضاة حليف الجود والكرم ومن له مثل محي الدين حق له ... هذا التكني ففيه أفخر الشيم أكرم بأصل وفرع دام فخرهما ... ففي علائهما أعلى أولى الهمم يا ناصر الشرع قد أشبهت قومك في ... نصر الشريعة والأنصار كالعلم كفاهم مشرفاً قول الرسول لهم ... وقوله الحكم في الأنصار في كلم ملائك الله في تسديد حكمك إذ ... خطبت للحكم وعداً غير متهم فالله يبقي لأهل الشام دولتكم ... ممتعين بها إبقاء ذى سلم وقال أيضاً وكتب بها إلى أهله من تبوك سنة ست وسبعين وست مائة يقول: كتبت من تبوك لتسعة ... مضت بعد عشر في المحرم ولت وأنى بحمد الله أرجو لقاءكم ... إذا صفر عشرون منه تبقت محمد بن محمد بن هبة الله أبو عبد الله عماد الدين الدمشقي الشافعي المعروف بابن الشيرازي. كان رئيساً، عنده فضيلة، ويكتب خطاً منسوباً تفرد به في آخر عمره، وهو من أعيان الدمشقيين، وأماثلهم وأولى الثروة منهم، والوجاهة فيهم، وكان والده القاضي شمس الدين أبو نصر قد ولى نيابة الحكم بدمشق مدة زمانية، وكان من العلماء العارفين بالمذهب، وكان عماد الدين المذكور طلب إلى الديار المصرية، ورتب ناظراً على الأملاك

الظاهرية، والتعلقات السعدية، وذلك في أواخر الدولة الظاهرية بعد وفاة الرئيس مؤيد الدين أسعد ابن القلانسي رحمه الله وبقي على ذلك، فلما كان في شهر صفر ركب من المدينة. وقصد الخروج إلى بستانه بالمزة، فعرض له فالج في الطريق، وهو راكب فركب غلامه من ورائه، وأمسكه حتى أوصله إلى البستان، واستمر به الحال إلى بكرة يوم الاثنين ثامن عشر صفر، فتوفى إلى رحمة الله تعالى ببستانه بالمزة، ودفن من يومه بسفح قاسيون، ومولده في سادس عشر ذى القعدة سنة ست وست مائة في بستان كان لهم بسطرا ظاهر دمشق رحمه الله وإيانا. محمد بن الحردتكي الشيخ الصالح، الحلبي المولد والمنشأ. كان له قدم راسخ في الفقر، والمجاهدة، وشهرة بين الفقراء في الأقطار، خدمهم في جميع عمره، وأنفق عليهم جميع ما ملكت يده من ميراث والده وغيره، وكان جملة عظيمة، وكان دمث الأخلاق، كثير الصمت والرياضة، محباً للعزلة، وهو من بيت كبير معروف بحلب بالامرة، وكبر القدر، وظهور الثروة. وخرج عن ذلك كله عن قدرة وتمكن، وفرغ منه طالباً لما عند الله تعالى، وخرقته ترجع إلى عند سيدنا محي الدين بن عبد القادر رضي الله عنه، وأقام في آخر عمره بدمشق، وحصل له طرف من فالج، ولازمه إلى حين وفاته، وتوفى إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد ثاني ربيع الأول بالقاعة التي داخل مقصورة الحنفية بالزاوية الشرقية من الحائط الشمالي بجامع دمشق، ودفن يوم الخميس بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى، وقد نيف

على ثمانين سنة من العمر، ولم يتخلف عن شهود جنازته أحد من الأعيان، ولا من الفقراء، ولم يخلف شيئاً من الدنيا ألبتة رحمه الله تعالى ورضي عنه. محمود بن إسماعيل بن معبد أبو الثناء شرف الدين البعلبكي. كان من صدور بعلبك، وأولى الثروة بها، وله قبول عند الحكام، ومكانة عند كثير من الأمراء وغيرهم، وكان يعاني الزراعة في أملاكه، وعنده كرم نفس، وسعة صدر، وتحمل، ومكارمة، وتوفى وهو في عشر الستين، وخلف أولاد نجباء، وكان أوقف في حال صحته وقفاً جيداً على وجوه البر أثابه الله وتقبل منه وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأربعاء العشرين من ذى القعدة، ودفن من الغد عند قبر أبيه برثيا ظاهر باب القطاعة رحمه الله وإيانا. يحيى بن علي بن محمد بن سعيد أبو الفضل محي الدين التميمي المعروف بابن القلانسي الدمشقي المعروف. كان من أعيان الدمشقيين وأماثلهم، سمع الكثير، وأسمع، وتولى المناصب الجليلة، وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم، وبيته مشهور بالرياسة والتقدم، وتوفى إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء ثامن وعشرين شوال بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون. ومولده بدمشق في تاسع جمادى الأولى سنة أربع عشرة وست مائة. ومن شعره لما وقعت الحوطة على بساتين دمشق، وصعقت تلك الصعقة العظيمة التي لم يعهد مثلها، وكان ذلك في شهر أيار من شهور الروم: يا جلق الخضراء وقيت الردى ... لم ذا كسوت الدوح ثوب سواد قالت لقد فارقت أهل مودتي ... فلبست للهجران ثوب حداد

السنة الثالثة والثمانون وستمائة

ونظم محي الدين أشعاراً كثيرة وألغازاً يأتي شيء منها فيما بعد، في ترجمة العرز إن شاء الله تعالى. أبو بكر بن داود بن عيسى بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى سيف الدين الملقب بالملك العادل. كان قد جمع بين حسن الصورة، والأوصاف، ومكارم الأخلاق، وسعة الصدر، وحسن العشرة، وكثرة الأفضال، واحتمال الأذى، وبذل المعروف، لا يضاهيه في ذلك أحد من أبناء جنسه، وكان له ميل إلى الاشتغال بالعلم، والأدب، وعنده ذكاء مفرط، وحدة ذهن، وعبارة حلوة، وآداب حسنة ملوكية، لم ير أكثر عقلاً منه في زمانه، ولا أكثر حشمة ووقاراً وسكوناً، ولا ألطف كلاماً، ولا أحسن بياناً، عليه هيبة وحشمة، وكان له ميل كثير إلى أصحاب القلوب، وأرباب الإشارات، يلازمهم، ويقتدي بهم، ويتأدب بآدابهم، ويتسلك بما يأمرونه به، يزور الصلحاء حيث سمع بهم، وكانت وفاته - رحمه الله - يوم الخميس عاشر شهر رمضان المعظم هذه السنة، وصلى عليه يوم الجمعة بالجامع الأموي، وحمل إلى تربة جده الملك المعظم عيسى بسفح قاسيون، فدفن بها، وهو في عشر الأربعين لم يبلغها رحمه الله تعالى. السنة الثالثة والثمانون وستمائة إستهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون بالديار المصرية، وفي أثنائها خرج إلى الشام، ووصل إلى دمشق مع جماعة من عسكره، وخواصه يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة.

وفيها توفى الملك أحمد بن هولاكو ملك التتار، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي عاشر شوال توفى الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة والمعرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ولما اتصلت وفاته بالأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، طالع بذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله واستمطر صدقاته في إقرار ولده الملك المظفر محمود عوضه، فورد عليه الجواب بذلك، فكتب إلى الملك المظفر المذكور كتاباً بخط المولى شهاب الدين محمود من إنشائه، مضمونه: " أعز الله أنصار المقام العالي الملكي المظفري التقوى، وأطلع شمس ملكه مشرقة الأنوار. وألبس الدنيا من شعار سلطانه حلل الافتخار. وقلد المماليك من تقاليده ما يود ذهب الأصيل لورقه على صفحات النهار. وحلى أعطاف الملك من نعوته الشريفة بما هو أحسن من انتظام عقود الكواكب على هالة الأقمار. وشرف به التشاريف التي هو في لبسها كالحرم لا تكسى الأستار إلا ليشرف الأستار. وهنأه من حسن النظر الشريف بما بلغ به أول رتبة لا تطاول إليها زهر الكواكب إلا وهي شاخصة الأبصار. حتى يستقر الملك في مقامه المحمود. وينتظم عقد السلطنة لديه بين ذوائب الألوية وعصائب البنود. ويشرق من لألاء ملكه ما تضيء الآفاق بنوره. ويشرق بحد سطواته نحور الأعداء حتى يعجب لسفاح ورث الملك من منصوره. المملوك يقبل الأرض تقبيل تخلص تضاعفت

لديه النعم. ووجب عليه أن يستعين على الشكر بكل لسان ناطق حتى لسان القلم. وتعبد ولى نذر الرجاء لديه واكتمل. ونال بإقبال ملك مولانا كل ما يؤمله، فأصبح يصحب الدنيا بلا أمل. وينهى أنه سطرها، ووفود التهاني تزدهم على ما قلمه. وعقود البشائر تتحذر من بين كلمه. وسماء الممالك قد أشرقت بالسعد كواكبها. وحدقت لتحدق ببدر ملكه مواكبها. وقلائد الجوزاء قد ترصعت لديه مناطقها. والفراقد قد توطأت لوطئ أجناده مفارقها، والبروق قد مرحت لتغالب الحاد على العلو بركابه سوابقها، والمنابر قد كادت تحضر للشرف باسمه أعوادها. والصوارم وقد انفت إذ جرت أن تكون سوى أعناق ملوك الأعداء أغمادها ". وكان ورد كتاب السلطان بسببه من القاهرة إلى دمشق يوم الخميس الخامس والعشرين من شوال، وصحبه تقليد الملك المظفر من السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون باستقراره بحماة على قاعدة والده. وفي يوم الأربعاء ثامن صفر دخل الحجاج دمشق، وأميرهم المطروحي. وفي يوم الجمعة عاشر صفر جلس الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على المنبر برواق الحنابلة بجامع دمشق مكان والده يفسر القرآن الكريم وغير ذلك. وفي هذه السنة توفيت الخاتون بنت بركة خان والدة الملك السعيد بمصر، وكانت من سادات النساء كثيرة المعروف، والاحسان، والصدقات،

وقفت جميع الكتب التي بالخزانة الظاهرية، وجميع الربعات، والختم التي بالتربة الظاهرية، وشرطت أن لا يخرج شيء من ذلك من المدرسة، بل من أراد الانتفاع به ينتفع بالمدرسة، وكان وقفها كذلك في سنة إحدى وثمانين. وفي جمادى الآخرة توفى بدمشق الأمير علم الدين سنجر بن زريق الخولاني، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزى ببستانه ببيت لهيا، ودفن بالجبل رحمه الله تعالى. وفي يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان سافر الأمير حسام الدين طرنطاى من دمشق إلى القاهرة متمرضاً. وفي ثامنه ليلة الأحد توفى الأمير بدر الدين بيليك الجاشنكير، ودفن يوم الاثنين بتربة سليمان الرقى بالجبل الغزير. وفي ليلة الأربعاء العشرين مطرت السماء من نصف الليل، وتوالى المطر الشديد مع الرعد القاصف، والبرق الخاطف، إلى أول النهار، وجاءت الزيادة، وارتفع الماء على الأرض قامة، وفي بعض الأماكن أكثر، وكانت طائفة من العساكر المصرية نازلين ظاهر دمشق، فعمهم ذلك. وغرق خلق من الناس، وأما الجمال، والدواب، والغنم فما لا يحصى، ووقعت عدة بيوت على من فيها. وكانت آية عظيمة وأصبحت يوم الأربعاء الشمس طالعة، وجفت الماء. وفي شعبان أقبل الأمير علم الدين الدويدارى رحمه الله من مباشرة المشد، وكان كثير القلق، وطلب الانفصال منه، والسعي في ذلك باطناً، فأجيب، وباشر الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.

وفي يوم الاثنين منتصف شوال توجه ركب الشام إلى الحجاز، وكان ركباً كبيراً، وأميرهم عز الدين القيمري. وفي العشرين من جمادى الأولى وفي النيل ووردت البشرى بذلك إلى دمشق. وفي ليلة السبت ثلث الليل الآخر ثالث وعشرين شعبان سافر من دمشق الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى الديار المصرية من جهة ولد المنصور صاحب حماة، وتوجه الأمير علم الدين الدوادارى إلى القاهرة يوم السبت حادي عشر ذى القعدة بطلب سلطاني. وفي ثامن جمادى الأولى من سنة ثلاث وثمانين وست مائة ركب السلطان الملك المنصور من قلعة الجبل متوجهاً إلى الشام بسبب ما ورد عليه من جهة مصالحة الملك أحمد بن هولاكو، فلما وصل غزة وردت الأخبار عليه بأن الملك أحمد قد مات، وقيل أسر ثم عدم، وأن أرغون اتفق مع جماعة من المغل على إمساكه، وخلعه من الملك، وأن فرقة منهم تقدير أربعة آلاف فارس حضرت مفقرة طالبين الشام، فجد الملك المنصور في السير، فدخل دمشق يوم السبت ثاني جمادى الآخرة، فأحضر رسل الملك أحمد وهم الشيخ عبد الرحمن وسمداغو ومن معهم وكانوا منذ وصلوا أطراف البلاد، استعجمت عليهم الأخبار، وبقي كل من يحضر إليهم يمسك، ويؤخذ كتبه، فجلس الملك المنصور في الليل، وأوقدت شموع كثيرة، ولم يكن حوله سوى خواص مماليكه، وهم في أحسن زي، وأكمل

صورة، فدخل الشيخ عبد الرحمن بزي الفقراء، فرسم له بتقبيل الأرض، فأبى فأهوى به إلى الأرض غصباً، وفعل برفاقه كذلك، وسمع كلامهم، أخذ الكتاب الوارد من الملك أحمد على يد الشيخ عبد الرحمن فقرأه، وقاموا بين يديه، فسير لهم الخلع الفاخرة، وتفقدهم، ثم أعلمهم بموت الملك أحمد، ثم أحضرهم مرة أخرى، وكان الشيخ عبد الرحمن قد أحضر هدية حسنة، فقبلت، واستقروا على حالهم، وكان قدوة الملك أحمد ومشيره، وتحكم في دولته تحكماً كبيراً، وتحدث في البلاد والأوقاف جميعها في العجم، وبلاد العراق، والشرق، والروم، وظهر للمغل من كراماته ما أخذ عقولهم، ووصل إلى ماردين في رابع ربيع الآخر، ثم وصل البيرة، وصحبه جماعة مغل وغيرهم يخدمونه ويحملون الخبز على رأسه، والسلحدارية وغيرهم وراءه، فتلقاهم جمال الدين أقوش الفارسي أحد الأمراء بحلب، فمنعهم من الخبز والسلاح، وركنهم في الليل، ومنعهم من الحديث مع أحد، وساق بهم منكباً على الطريق، فعز عليهم ذلك، ووصل بهم حلب في سادس عشرن شوال، وأخفى أمرهم، ثم أخرجهم ليلاً، ووصل بهم دمشق خفية ليلاً، وأنزلوا بدار رضوان بقلعة دمشق، وفصل عنهم غلمانهم إلى أن حضر السلطان من مصر، وجرى ما ذكرناه. وفيها توفى: أحمد بن محمد بن منصور أبو العباس ناصر الدين الخزامي المالكي المعروف بابن المنير قاضي الاسكندرية. مولده في ثالث ذى القعدة سنة

عشرين وست مائة، وتوفى بالاسكندرية ليلة الخميس مستهل ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، ودفن بتربة والده عند الجامع الغربي رحمه الله. كان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم، وله اليد الطولى في علم الأدب، مجيداً في النظم والنثر. كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان في صدر كتاب: ليس شمس الضحى كأوصاف شمس ... الدين قاضي القضاة حاشا وكلا تلك مهما علت محلا تبث ظلا ... وهذا مهما علا مد ظلا وقال أيضاً يهنئ القاضي زين الدين بن أبي الفرج لما فوض إليه الحكم بالثغر واستنابه: أذعن الدهر سامعاً ومطيعا ... لك يبدي تذللاً وخضوعا فاحتكم في ريعان أشهره ... تلبس فيها غصناً وتلقى خليعا كل يوم لك الهناء حقيق ... لا تراعى من الهلال طلوعا ولنا إذ نلنا بدولتك العز ... وعشنا عيشاً هنيئاً وسيعا واتخذنا شهر الولاية عيدا ... نمنح النفس منه مرعى مريعا في ربيع كانت ودانت فلا تبرح أيامنا لديك ربيعا وقال يهجوه لما نازعه الحكم: قل لمن يبتغي المناصب بالجهل تنحى عنها لمن هو أعلم إن يكن في ربيع وليت يوماً ... فعليك القضاء أمسى محرم

وقال وكتب بها في صدر كتاب إلى الفائزين يسأله رفيع التصقيع عن الثغر: إذا اعتل الزمان فمنك يرجو ... بنو الأيام عاقبة الشفاء وإن ينزل بساحتهم قضاء ... فأنت اللطف في ذاك القضاء وله تصانيف مفيدة في الأدب، وغيرها من العلوم الاسلامية، وله ديوان كبير، وخطب مشهورة، فمنها خطبة خطب بها يوم الجمعة خامس عشر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وست مائة، والعدو المخذول قد ملك الشام بأسره: " الحمد لله الذي يرحم العيون إذا دمعت. والقلوب إذا خشعت. والنفوس إذا اتضعت. والعزائم إذا اجتمعت. والموجود إذا الأسباب انقطعت. والمقصود إذا الأبواب امتنعت. اللطيف إذا صدمت الخطوب وصدعت. رب أقضية نزلت بما تقدمت حتى جاءت ألطاف دفعت. فسبحان من وسعت رحمته كل شيء. وحق لها إذا وسعت. وسعت إلى طاعته السموات والأرض حين قال: " ائتيا طوعاً أو كرهاً " فأطاعت وسمعت. أحمده بصفات بهرت. وأشكره على نعم بطنت وظهرت. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عن اليقين صدرت. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه والفتنة قد احتدت. والحاجة قد اشتدت. ويد الضلال قد امتدت. وظلمات الظلم قد اسودت. والجاهلية قد أخذت نهايتها. وبلغت غايتها. وحربت أحزانها. وهديت إحسانها. ونسيت أديانها. وجحدت ديانها. فجاء الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فملك عنانها. وكبت أعيانها. وظهرت آياته في الجبابرة، فأهلكت فرسانها. وفي

القياصرة، فنكست صلبانها. وفي الأكاسرة، فصدعت أيوانها. وأوضح على يده محجة الحنيفية وأبانها. صلى الله عليه وعلى آله فروع الأصل الطيب فما أكرم الشجرة وأغصانها. وعلى أصحابه ومن حوى الحوزة وصانها. صلاة إذا أفضت صحيفة الحسنات كانت عنوانها. أيها الناس! خافوا الله تأمنوا من ضمان وعده الوفي. ولا تخافوا الخلق وإن كثروا، فإن الخوف من الخلق شرك خفي، ألا وإنه من خاف الله خاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. وشأن أخي الدنيا أن يخاف عليها الذهاب. ولابد من أن يذهب كالفئ، وإنما يخاف عز الربوبية. من عرف نفسه ذل العبودية. واثنان لا يجتمعان في القلب، ولا تنعقد عليهما النية، فاختاروا لأنفسهم إما الله، وإما هذه الدنيا الدنية. فمن كانت الدنيا أكبر همته، لم يزل مهموماً. ومن كانت زهرتها نصب عينه، لم يزل مهزوماً. ومن كانت حدتها غاية وجده، ولم يزل معدماً حتى يصير معدوماً. فالله! الله! عباد الله! الاعتبار! الاعتبار! وأنتم السعداء إذا وعظتم بالاعتبار. أصلحوا ما أفسد، فإن الفساد مقدمة الدمار. إتقوا الله وأصلحوا تفلحوا. وأسلموا تسلموا. وصمموا على التوبة قبل أن لا ينفع أن تصمموا. فما أشقى من عقد التوبة بعد هذه العبر تم حلها. ألا وإن ذنباً بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها ". كان الشيخ ناصر الدين المذكور إماماً عالماً فاضلاً خيراً متقناً، جامعاً

للعلوم الاسلامية: التفسير وعلومه، والحديث وعلومه، وأصول الفقه، والدين، والنحو، واللغة، والمعاني، والبيان، مستقلاً بالأدب نظماً ونثراً؛ صنف التصانيف الدالة على غزارة علمه، منها: الرد على الكشاف للزمخشري، وبين خطابه في اعتزاله والاجوبة عن شبهه وإبطالها لم يصنف مثله وكان أحد تلاميذ الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع كونه مالكي المذهب، لازم الشيخ وقرأ عليه هذه العلوم كلها، وأتقنها، وكان الشيخ يقول عنه في أيامه ما معناه: أنه يمت به لكونه تلميذه، لأنه لم يكن مجموعه في زمانه في غيره، وكان بحراً لا يجاريه أحد في مناظرة، وله الصيت المشهور بسعة العلم وإتقانه رحمه الله تعالى. أحمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو العباس محي الدين الأنصاري الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً بارعاً، متضلعاً في الفقه، وله مشاركة في غيره، وكان ديناً صالحاً ناسكاً سالكاً مسلك والده قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ في الصلابة في الدين والتحرز، ولما باشر والده الحكم ثانياً طلبه لنيابته، فعاقه عن ذلك ما جرت عليه من الأمور المشهورة، وكانت له صورة كبيرة عند القضاة والأعيان مشكوراً في فضيلته، وسمته، ودينه، ولما توفى والده قد ولاه خزانة الكتب بالمدرسة الأشرفية، فسلك فيها من الأمانة، والصيانة، والضبط، والتحرز ما لا يسلكه غيره بحيث أنه أعار منها نسخة لكتاب الصادح والباغم، جزء لطيف ما يسوى خمسة دراهم لشخص، فعدم فألزمته باستكتاب نسخة به، وأوقفها

في الخزانة عوضها، وبالخزانة لهذا الكتاب قريب عشر نسخ، وكان كثير التحرز في ذلك والتشديد لم يفرط في شيء منها، وحصل بطريق لها ضبط عظيم، ولم يتولها مثله، لا قبله ولا بعده، ولا عمل أحد فيها ما عمل من الصيانة، وعدم إضاعة شيء منها، ولما توفى أخذ قاضي القضاة بهاء الدين الكلاسة، وولاها لأخيه كمال الدين عبد الرحمن، واستمر أخوه محي الدين في الدماغية والعمادية، وناب عنهم فيها الشيخ زين الدين الفارقي بغير معلوم إلى أن تأهل القاضي بدر الدين محمد ولد قاضي القضاة عز الدين، وذكر الدرس فيها بنفسه وحضر عنده شيخه الشيخ تاج الدين والأعيان، وكان يوماً مشهوداً. وكانت وفاة محي الدين المذكور ليلة الأربعاء ثامن رجب، ودفن يوم الأربعاء بالجبل إلى جنب والده رحمهما الله تعالى. أحمد بن هولاكو بن قاآن بن جنكز خان ملك التتار. كان ملكاً شهماً خبيراً بأمور الرعايا، سالكاً أحسن المسالك، متبعاً دين الاسلام، لا يصدر عنه إلا ما يوافق الشريعة النبوية صلوات الله وسلامه على صاحبها وانقياده إليها، واعتماده عليها في جميع حركاته بطريق الشيخ عبد الرحمن فإنه كان قد أقبل عليه، وانقاد إليه، وامتثل ما يأمره به، فكان يأمره بمصالحة

المسلمين والدخول في طاعتهم، والعمل على مراضيهم، وأن يكونوا كلهم شيء واحدا، ولم يزل به على ذلك إلى أن أجاب إلى مصالحة الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله فكتب على يد الشيخ عبد الرحمن كتباً بديعة دالة على دخوله في الاسلام، واتباعه أوامر الله تعالى في الحلال والحرام، وتوجه بها الشيخ عبد الرحمن، فلما وصل الشام بلغه خبر وفاة الملك أحمد، فبطل ما كان جاء بسببه وما كان أسسه، لكن وقع أجرهما على الله تعالى، وبقي الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى مدة يسيرة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. ولما مات ابغا، وقع الاختلاف فيمن يقعد في التخت، فتعصب جماعة لأحمد المشار إليه، واسمه الحقيقي تكدار، واسم أمه قو خاتون نصرانية، واتفقوا على إقعاده في تخت الملك، وما هان على بعض المغل قعود أحمد لأنه ادعى أنه مسلم، فحضر أخوه قنقرطاى، وقال لأرغون: إن ابغا شرط في الباسه أنه إذا مات ملك ما يقعد عوضه إلا الأكبر من أولاده، وقد رتبنا أحمد، ومن خالف يموت، فأطاعوه وسروا إلى الألجية لاحضار الملوك ليكتبوا خطوطهم بالارتضاء بملك أحمد، ولما جرى ذلك تحدثوا فيما بينهم في أن قدرتهم قد ضعفت، ورجالهم قتلت، وأن المسلمين كلما راحوا.... وأنه لا حيلة في هذا الوقت أتم من إظهار الاسلام، والتقرب إلى مراضي مولانا السلطان، واكتفاء بأسه بذلك، وسير في سبب ذلك

رسل إلى الملك المنصور سيف الدين قلاوون يلتمس الصلح، وكان بين الملك رحمه الله وبين أرغون بن بغا عداوة شديدة، فسير أحمد عسكر نحو أرغون مقدار أحد عشر ألف فارس، وقدم عليهم على نياق أحد خواصه، فقصدوا أرغون، ونزلوا قريباً منه، فركب أرغون، وكبسهم، فقتل منهم ألفي فارس، وبلغ الملك أحمد، فركب في أربعين ألف فارس، وقصد جهة خراسان، فالتقى هو وأرغون، فقتل من عسكر أرغون أكثر من النصف، وضربت البشائر في بلاد العجم، وأمسك خمسة من الأمراء من المصاف وقررهم، فاعترفوا أن أرغون طلب العبور إلى ايلخان، فمنعه جماعة من أصحاب الملك أحمد، ومنعوه من الدخول في طاعة أحمد، فأمسك اثني عشر أميراً من كبراء المغل، وقيدهم، فعند ذلك قام المغل عليه، وجاهروه، فهرب، ثم أخذ، وأحضر إلى أرغون، فقتله، واستبد أرغون بالملك، وقيل في كيفية قتله غير ذلك والله أعلم. الحسين بن عبد الرحمن بن هبة الله أبو محمد قطب الدين ابن المشترى رحمه الله. كان دمث الأخلااق، كثير الاحتمال، حسن العشرة والمحاضرة، له معرفة بالتاريخ، وإلمام بالأدب، ووالده الصاحب فلك الدين شهرته تغنى عن شرح حاله، ووالدته ابنة شيخ الشيخوخ تاج الدين ابن حمويه رحمه الله وكان قطب الدين المذكور قد خدم جندياً، وبقي على ذلك مدة، ثم ترك ذلك، وانتقل إلى بعلبك في أوائل سنة ثمان وخمسين،

واستوطنها، وترك الجندية، ولبس البقيار، وخدم في ديوان بعلبك مدة سنين، ثم انتقل إلى مشارقة الضواحي في آخر عمره إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى، وكان منذ قدم بعلبك إلى أن توفى شيخ الخانكاة النجمية، وتوفى في العشر الآخر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وست مائة، وهو في عشر الخمسين تقريباً، ودفن بباب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى. طالب بن عبدان بن فضائل الرفاعي، المقيم بقصر حجاج في زاويته المشهورة. كان من أصحاب الزوايا، والناس يترددون إليه، وكان رجلاً مباركاً. توفى بزاويته يوم الخميس سادس عشر صفر رحمه الله تعالى. قال أخي رحمه الله حدثني الشيخ طالب البطائحي قال: نزلت مع الشيخ موفق الدين رحمه الله من الجبل، فذهب نحو ميدان الحصاء، ودخل بعض الخانات، فصعد، ودخل بعض بيوت الخان، وتذاكرا نحو ساعة، فقال له الشيخ الموفق: يا شيخ أبا بكر! ما أحسنكم وأحسن طريقكم، لولا حضور السماع! فقال له الشيخ أبو بكر: وأي شيء في سماعنا مما ينكر؟ فدعا الشيخ أبو بكر بفقير عنده، وقال: أنشد شيئاً ليسمع الشيخ موفق الدين ويرى؛ فأنشد الفقير أبياتاً، فحصل للشيخ موفق الدين طيبة، ودمعت عيناه، فلما رأى ذلك الشيخ أبو بكر، أنشد: إن أنكرت أهل الشريعة كلها ... أمر السماع فإنني لمحله أو أغمدوا بسيف سنة أحمد ... إني ببدعة حبكم سأسله

والله لو سمحت عليك بنظرة ... لتزعزعت أركان جسمك كله فصار الشيخ موفق الدين يبكي، ويقول: أي والله، لو سمحوا على بنظرة، ويردد ذلك كله. خذا مضمون ما حكاه الشيخ طالب لأخي رحمه الله. عبد الرحمن بن عبد الله رسول الملك أحمد بن هولاكو. حدثني الشيخ عبد الله الموصلي المتصوف، وكان ممن قدم معه، وله خبرة بحاله، أن المذكور كان من مماليك الخليفة المستعصم بالله رحمه الله، وكان يسمى قراجاً، فلما ملك التتر بغداد وتلك البلاد، تزهد، وتسمى بعبد الرحمن، واتصل بالملك أحمد بن هولاكو، وعظم شأنه لديه، وحصل له من المكانة عنده ما يقصر عنه الوصف بحيث كان الملك يحضر إلى زيارته، وإذا شاهده من بعد ترجل، فإذا وصل إليه قبل يده، وقعد بين يديه، وامتثل جميع ما يشير به، وكان معظم ما يصدر من الملك أحمد من الأفعال الجميلة، والمبالغة في الميل إلى المسلمين بطريقه، وأشار إليه أن يتفق مع الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، ويجتمع كلمتهم، فندبه لذلك، وسير في خدمته جماعة كثيرة من المغل والأعيان من أهل الموصل، وماردين وغيرهما، من صدور تلك البلاد، فحضر إلى دمشق في العشر الأوسط من ذى الحجة سنة اثنتين وثمانين وست مائة، وأقام هو ومن معه في دار رضوان بقلعة دمشق، ورتب لهم من الاقامات ما لا مزيد عليه، وبولغ في إكرامهم، وخدمتهم بكل طريق، وقدم السلطان الملك المنصور إلى الشام في هذه السنة أعني ثلاث وثمانين وست مائة، ومن أعظم أسباب قدومه الاجتماع به، وأبرام ما قدم بسببه، فبلغ الملك المنصور عند وصوله

إلى الشام أن الملك أحمد قتل، وتملك بعده أرغون بن أبغا بن هولاكو، فاستحضر الشيخ عبد الرحمن بقلعة دمشق ليلاً، واجتمع به، وسمع رسالته، ووعاها ثم أخبره بما اتصل به من قتل الملك أحمد مرسله، وعرفه أن رسالته انتقض حكمها بوفاة صاحبها، ثم أن الملك المنصور قضى إربه من سفرته تلك، وعاد إلى الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن ومن معه بقلعة دمشق في مكانهم، لكن اختصر شيء كثير مما كان يحضر إليهم، ورتب لهم قدر الكفاية التامة، فلما كان يوم الجمعة ثامن عشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين، توفى الشيخ عبد الرحمن المذكور رحمه الله تعالى بقلعة دمشق، فجهز وغسل بعد أن وقف عليه الأمير حسام الدين نائب السلطنة وغيره من الأعيان، ودفن بعد العصر بمقابر الصوفية، وقد نيف على الستين سنة من العمر، وبقى من معه على حالهم، وتطاول بهم الاعتقال، وأهمل جانبهم بالكلية، وضاق بهم الحال في المطعم والملبس، وكان معظمهم من أهل الموصل، فعمل النجم يحيى شعراً في معناهم، وبعث به إلى الأمير حسام الدين نائب السلطنة: يا قاطع البيداء يرتقب الغنى ... ها قد بلغت مطالب النعماء هذا المقام المولوى العادلي ... العالمي ... ملك الأمراء قبل لديه الأرض تعظيماً وبلغه رسائل ساكني الحدباء واجأر إليه وناده متضرعاً ... ومذكراً يا كاشف الغماء الله قد أعطاك فضل عناية ... عقلاً وتبصرة وفرط ذكاء

أحباك تأييداً ونور بصيرة ... وسياسة مقرونة بحياء أولى بسجنك أن يحيط ويصطفى ... مبيد الملوك وأفخر العظماء ما قدر فراش وحداد ... وتغاط خربند إلى سقاء خدموا رسولاً ما لهم علم بما ... يخفى وما يندى من الأشياء بل رغبة في نيل ما يتصدق السلطان من كرم وفيض عطاء ويؤملون فواضلاً تأتيه من ... لحم وفواكه ومن حلواء حاشاه أن يغشى حماة معشر ... قصدوه للاحسان والنعماء نفروا من الكفار والتحوا إلى ... الاسلام واتبعوا سبيل نجاء فيقابلون بطول سجن دائماً ... ويحشرون مجاعة وعناء أخبارهم مقطوعة فكأنهم ... موتى وهم في صورة الأحياء إن الذي منهم تولى كبره ... ولى وزال توهم الغوغاء إن كان خيراً قد مضى أو كان ... شراً قد أمنت عواقب الأسواء وإذا قطعت الرأس من نسر فلا ... تبخل بما يبقى من الأعضاء هلا مننت عليهم بسراحهم ... يجزيك رب العرش خير جزاء والله أعلم بالسرائر طالما ... أخذ البرئ بتهمة الأعداء فلما عرضت هذه الأبيات إلى الأمير حسام الدين طالعه في أمرهم، وأطلق معظمهم، وبقى في الاعتقال نفرين أو ثلاثة، قيل: إن صاحب ماردين أشار بإبقائهم لأمر نقمه عليهم. وأما هذا الشيخ عبد الرحمن رحمه الله

فكانت مقاصده جميلة، وظاهره وباطنه منصرف إلى نصرة الاسلام، واجتماع الكلمة على أعداء الدين، وكان له عدة سفرات إلى الحجاز والشام والديار المصرية، ولما تلقى إلى البلاد الفراتية وأحضر إلى حلب ثم إلى دمشق فكانوا يسيرون به في الليل، ويعرجون عن الطرق، فقال لهم: أنا قد سافرت في هذه الطريق عدة سفرات، ولعلي أخبر بها بكثير من الناس، وكانت منيته رحمه الله مقاربة لمنية صاحبه رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد ابن منصور بن أحمد البارزى أبو محمد نجم الدين الجهنى الشافعي. وله بحماة سنة ثمان وست مائة، واشتغل بالعلوم الشرعية، والأدبية، والكلامية، والحكمية، وصنف في كثير من ذلك، وروى الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله عن جماعة، منهم: الحافظ ضياء الدين موسى بن سيدنا محي الدين عبد القادر الجبلي رضي الله عنهما بدمشق، والشيخ عبد الرحمن بن رواحة بحماة، والشيخ عبد المنعم بن الدقاق الدمشقي وغيرهم؛ وحدث وسمع منه الظاهري وغيره، وتولى القضاء الدمشقي وغيرهم؛ وحدث وسمع منه الظاهري وغيره، وتولى القضاء بحماة نيابة عن والده رحمه الله، وقد تقدم ذكر والده، ثم اشتغل بعد وفاة والده، ولم يأخذ على القضاء رزقاً، وصرف عن الحكم قبل وفاته بسنين يسيرة، وكان شديداً في أحكامه، موفقاً في نقضه وإبرامه، وافر الديانة، حسن الاعتقاد في الفقراء والصالحين، وقصد الحجاز الشريف في سنة ثلاث وثمانين وست مائة، فأدركته منيته في طريق مكة شرفها الله تعالى ليلة الخميس بعد عشاء الآخرة

عاشر ذى القعدة بعد نزولهم من تبوك بفلاة تعرف بالديسة، وغسل، وكفن، وصلى عليه، وحمل إلى المدينة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ودفن بالبقيع بين قبة سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبة العباس رضي الله تعالى عنه، ضحى يوم الخميس الرابع والعشرين من ذى القعدة، وكان رجلاً فاضلاً، معروفاً بالديانة والعلم، وله يد طولى في النظم، فمن شعره ما اعتذر به عن زيارة قادم، يقول: قدمتم فجاء الناس يسعون نحوكم ... وما عندهم لاعج الشوق ما عندي فنكبت عنهم لا لأني مقصر ... ولكن لكي أحضر بخدمتكم وحدي قال: وكتبت بها إلى الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة رحمه الله: خدمتك في الشباب وها مشيبي ... أكاد أحل منه اليوم رمسا فراع لخدمتي عهداً قديماً ... وما بالعهد من قدم فينسى وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وكم محنة لله في طي محنة ... وبالعكس لو أن امرأ يتيقظ ومن قبل الأيام خيراً يعظنه ... بما قلت والأيام بالدهر توعظ وقال أيضاً رحمه الله: إذا شمت من تلقاء أرضكم برقا ... فلا أضلعي تهدأ ولا أدمعي ترقا وإن ناح البان ورق حمائم ... سحيرا فنوحي في الدجى علم الوقا وحقكم ما كان حبي تخلقاً ... فأسلوكم بل كان حبي لكم حقا

فرقوا لقلب في ضرام غرامه ... حريق وأجفان بأدمعها غرقا سميري من سعد خذا نحو أرضهم ... يميناً ولا تستبعدا نحوها الطرقا وعوجا على أفق يوشح شيحه ... بطيب الشذى المكى أكرم به أفقا فإن به المغنى الذي يبرأ به ... وذكراه يستسقى لقلبي ويسترقا ومن دونه عرب يرون نفوس من ... يلوذ بمغناهم حلالاً لهم طلقا بأيديهم بيض بها الموت احمر ... وسم لذا هيجانهم يحمل الرزقا وقولا محب بالشام غدا لقا ... لفرقة قلب بالحجاز غدا ملقا تعلقكم في عنفوان شبابه ... ولم يسل عن ذاك الغرام وقد أبقا وكان يمنى النفس بالقرب فاغتدى ... بلا أمل إذ لا يؤمل أن يبقا عليكم سلام الله أما ودادكم ... فباق وأما العهد عنكم فما أبقى وإن أنتما استنشقتما طيب طيبه ... تضوع كعرق المسك احكمته سحقا وعاينتما قبر النبي الذي غدا ... لفرط سناه الغرب بالنور والشرقا فقولا فلان فوق ما تعهدونه ... غراماً بكم ما حبه لكم مذقا

رفيقكم مملوككم عبد ودكم ... فصارا مناه تديموا له الرقا ولا تعتقوه إن إرقاقكم له ... يؤمل من نار الجحيم به عتقا يعود ندى القبر الذي قد حواكم ... إذا ما الجاهل السعادة أن يشقى ووالده مع ولده وأبوهم ... محبك كل فاز بالعروة الوثقى وقائلها كم رام نظماً فصده ... جلالك حتى ما يطيق به نطقا أينطق مخلوق بمدحك بعد ما ... أتى منه في القرآن ما يعجز الخلقا عليك صلاة الله تبرى فإنها ... إلى جنة المأوى لقائلها مرقا أيا سيد العرب الكرام ومن ... غدت سيادتهم للناس كلهم حقا أجرني فإني قد أحاطت بساحتي ... ذنوب لاثقال الرواسي عدت طبقا والغرب عادات أجار بهم لمن ... إليهم على خوف مقاليده ألقى إذا كنت في قلبي مقيماً وكنت لي ... غدا شافعاً حاشاي في النار ازلقا فرفقاً بعبد ما تعود خفضكم ... وما زال في عليا إحسانكم يرقا وخيرا له خيرا كما اعتاد منكم ... ولطفاً به لطفاً ورفقاً به رفقا الهى على حب بشرع محمد ... أبو بكر الصديق قاتل من عقا وسماه عمر الفاروق لم يبق ملبسا ... وأظهر بين الحق والباطل فرقا وسماه في القرآن فنزل وحيه ... بصاحبه فخراً وسماه بالانقا كذا عمر الفاروق لم يبقى ملبسا ... وأظهر بين الحق والباطل فرقا بسطوته في نصرة الحق جاهداً ... غدا كل جبار بمد له العنقا

فيا صاحبيه يا ضجيعيه أنتما ... وسيلة من يرجوه المنزل الأتقى سلا خير مسحوب فريد عنائه ... بمن لم تزايله سهام الهوى رشقا وعثمان ذو النورين بالمصحف اعتنى ... فأتققنه خطا وأودعه رقا وفاق على من بعدهم كل صاحب ... وتربيتهم فضلاً كبير بهم سبقا أدين بهذا والذي بخلافه ... يدين فلا حقا يراه ولا صدقا فسقيا ورعيا للذي يبصر الهدى ... وسحقاً لمن يعمى بصيرته سحقا ومشهدها عنى أعان تفضلاً ... بحسن أداء فالثواب له حقا قال وأنشد قصيدة لبهاء الدين زهير المقدم ذكره، مطلعها: رسول الرضى أهلاً ... وسهلاً ومرحبا فعمل رحمه الله: وكان الرضى منى إليه ولم يكن ... رسول فأخشى أن يتم ويكذبا وناديت أهلاً بالحبيب ولم أقل ... رسول الرضى أهلاً وسهلاً ومرحبا وقال أيضاً رحمه الله: رسائل لو حلت على حسن فسحها ... بصنعاء استغنت بها عن برودها ولو سمعتها الغانيات لروعت ... وما أمنت إلا بلمس عقودها وقال أيضاً بعد فتح حصن الأكراد وحصن عكار: ولما عبدا الأكراد خبث بقعة ... وعكار إذ عم الأنام بلاهما حللت بها حلة ثم حلة ... فطاف بهذا الواديان كلاهما وقال لما قدم مجير الدين محمد بن تميم من الحجاز الشريف: أتى ابن تميم السامى بفضل ... تصرف في الحقيقة والمجاز

حويت فصاحة الصنفين لما ... حججت بني تميم والحجاز عبد الرحيم بن سعد بن أبي المواهب بن سعد أبو حمد زين الدين البعلبكي. كان فقيهاً عالماً ديناً خيراً، حسن العشرة، يحاضر بالحكايات، والأشعار، والنوادر، وسافر إلى بلاد متعددة، وسمع الكثير من الحديث، ثم استوطن بعلبك، وتوفى ببعلبك يوم الجمعة سادس جمادى الأولى، وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى. .... بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم أبو نصر الجزيري الشافعي جمال الدين المعروف بابن العجمية الحاكم بالجزيرة العمرية. كان فاضلاً، حسن الطريقة، كثير المكارم، له حدة كثيرة يقتضى ثلاثين ألف دينار، وكان بينه وبين شخص يقال له القرقوى نسبة إلى أمه خاتون، وقال لها القاضي جمال الدين: سم ولدك عند عبوره إلى الجزيرة في الاقامة التي سيرها له؛ فصدقته، وأحضرت القاضي المذكور إليها، وقتلته بيدها ذبحاً، وسيرت إلى نوابها ببلد الجزيرة تأمرهم بالقبض على أولاده، وحريمه، وقتلهم عن آخرهم حتى كلابهم وقطاطهم، فذهبت أرواحهم وأموالهم، ثم عاد، انعكس الأمر على القرقوى، وحصل له من رافعه، وأخذوه نواب التتر، فقتلوه هو وأولاده وأتباعه أعظم مما فعلوه بالقاضي، وما ربك بظلام للعبيد. روى للقاضي منامات حسنة مبشرة بكل خير، ومن شعره قصيدة أطال فيها النفس يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها: يا ساكني ربع قلبي لأعدمتكم ... صبري وحقكم من بعدكم أبق

محبكم ليس ينساكم وبقلقة ... تذكاركم وهو من فرط الأسى قلق لا يستطيع اعتماضاً بعد بعدكم ... فالعين ساهرة والغمض مفترق من أبيات رحمه الله تعالى. عبد الملك بن إسماعيل بن أبي بكر بن شاذى أبو محمد الملك السعيد فتح الدين بن الملك الصالح عماد الدين بن الملك العادل سيف الدين. كان من أعيان أولاد الملوك وأماثلهم، له الحرمة الوافرة، والمكانة الرفيعة، وكان حسن العشرة، دمث الأخلاق، وافر الحشمة، عنده رياسة، وتعدد، ومكارم أخلاق، وتأنق فيما يعانيه من المآكل والملابس وغير ذلك، وتوفى ليلة الاثنين ثالث شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وثمانين وست مائة، ودفن عند جدته أم والده بتربتها داخل مدينة دمشق، وهو في عشر الخمسين. روى عن ابن اللتى، ومكرم بن أبي الصقر وغيرهما، وحدث رحمه الله تعالى بموطأ يحيى بن بكير عن مالك وغيره، ومولده تقريباً سنة ثلاثين وست مائة، وصنف كتاباً في المآكل وألوانها رحمه الله تعالى. عطاء ملك بن محمد علاء الدين الجويني، صاحب الديوان ببغداد والبلاد الشرقية. كان إماماً عالماً فاضلاً، فقيهاً حنفياً، متبحراً في العلوم. نقالاً لمذهب أبي حنيفة رحمه الله، يعرف العربية، واللغة، والمعاني، وله استقلال بفن الأدب مع الرياسة العظيمة والوجاهة التامة، وله الأمر والنهي على سائر المملكة، يتصرف في الأموال والأقطاعات وغير ذلك،

والناس يتردد إلى بابه وخدمته، ويحضر مجلسه فضلاء بغداد وغيرها، ويجازيهم في العلوم، ويبالغ في الاحسان إليهم، ويمد لهم السماطات الهائلة، وله أموال كثيرة، وآلات نفيسة، وكتب عظيمة، وكان مسكنه آخر وقت في دار الدوادار الصغير على الجسر الجديد، وله يد في النظم والنثر، وكان بين يديه من أمكانات الفضلاء جماعة كثيرة، وتفضلات على سائر الناس، ومكارم أخلاق، وطلاقة وجه، لا يعسف أحداً ولا يظلمه، والناس في أيامه كأيام الخلفاء، وأهل بغداد وغيرها عاكفون على محبته والدعاء له، وعمل في جامع الكوفة بركة عظيمة، ينزل إليها بدرج، وعمل مشهد على رضوان الله عليه رباطاً مزخرفاً، وساق إليه المياه العظيمة من النهر الذي حفره من الفرات مبدأه من الأنبار، وأوصله إلى المشهد، وعمر عليه نحو مائة وخمسين قرية. وغرم عليه من الأموال ما لا يحصى، وحصل بذلك للناس رفق عظيم، فإنهم كانوا يردون الماء قبل عمله من مسافة بعيدة كالصالحية من دمشق، وأبعد، وزرع على هذه المياه النخيل العظيمة، والبساتين، والكروم، والبقول، وكانت أولاً كأرض الحجاز، وكانت سيرته من أحسن السير وأجملها. وأعدلها بالرعية، وأنصفها للمظلوم. عمر البلاد جميعها، وأسقط عن المزارعين مغارم كثيرة كانت من زمن الخلفاء. وكان أخوه الصاحب شمس الدين وزير البلاد في خدمة الملك حيث كان، وكان من صدور الاسلام، وله الكلمة النافذة والأمر المطاع، إماماً عالماً فقيهاً في مذهب الشافعي

رحمة الله عليه وكانت جوائزهما للعلماء المائة دينار فما فوقها إلى الألف. وكان قد عيد أبغا بن هولاكو بالعراق، وحضر علاء الدين، وشمس الدين أخوه إلى بغداد، فأحصيت الجوائز، والانعامات، والوظائف للعلماء والشعراء، وأرباب البيوت، فكانت فوق الألف جائزة. وكان كل فاضل يصنف كتاباً، وينسبه إليهما يكون جائزته ألف دينار، وأجازوا للشيخ شمس الدين بن الصقيل الجزرى ألف دينار على تصنيفه خمسين مقامة فضولها على مقامات الحريرى. وكان لهما حسن الظن في الفقراء والصالحين، وكذلك الأشراف. وكانت لهما عناية عظيمة بأوامر الشريعة. مدح بعض الشعراء لعلاء الدين صاحب الديوان بقصيدة أحسن نظمها، وأكثر فيها المعاني، والجناس اللفظي، والخطي، ثم شرع يمت بقصيدته، ويقول: لم يمدح في هذه الملة الاسلامية أحد بمثلها، ثم قال: أليس هذا أحسن من " قل أيها الكافرون "؟ فلما سمع علاء الدين منه ذلك، أمر غلمانه أن يأخذه بصورة أن يخلع عليه، فإذا خرج به ضرب عنقه، وأحضر رأسه إلى السماط، ففعل ذلك، ثم أنه شرع يعظم النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وقال: ما لكل مبتدع عندي إلا قتله. وكان في زمن هولاكو فما برح الصاحب علاء الدين أخو شمس الدين يعمل عليه حتى قتله. وكان قد قدم مجد الملك من ناحية العجم إلى بغداد قبل توجه العسكر المخذول صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى الشام سنة ثمانين وست مائة بنحو من شهرين، فأخذ صاحب الديوان علاء الدين عطاء ملك بن الصاحب بهاء الدين الجويني،

وغسله وعاقبه، فقال صاحب الديوان في ذلك: لا تيأسن لما جرى فالخير فيه لعله ... قد كان عبداً آبقاً يعصى الاله فغله فلما عاد العسكر مكسوراً، حمل صاحب الديوان في صحبتهم إلى همذان، وهناك مات أبغا بن هولاكو، وأخوه منكوتمر، فولى الأمر الملك أحمد باتفاق من صاحب الديوان علاء الدين، وأخيه الصاحب شمس الدين محمد ابن محمد الجوينى، فبعد أشهر يسيرة دون السنة هلك أحمد، وولى أرغون ابن أبغا، وطلب صاحبي الديوان؛ فاختفيا عنه، وتوفى علاء الدين بعد أشهر من ذلك مختفياً، وطلب شمس الدين، فأخذ له أماناً من أرغون وأحضر عنده فغدر به، وقتله بعد موت أخيه بمدة يسيرة، وكان لهذا شمس الدين ولدان رؤساء، لهم مكارم، واحتفال بالوظائف التي يعملوها. والناس على أبوابهم وهم في سعة صدورهم والاحسان الوافر، وإذا عملوا دعوة غرموا عليها الألوف، ودعوا إليها كل فقير وغني، ولم يكن مثلهم في رياستهم. فلما قتل أبوهم، فوض أمر العراق إلى جماعة مشركين، وهم: سعد الدين العجمي، ومجد الدين بن الأثير، والأمير المعروف بشكسان. فتعلق أحد أولاد شمس الدين المذكور الذي قتل وهو الأمير هارون على ارق وزير أرغون، وصاحب حساب العراق؛ فلما كان بعد سنة. حضر الجماعة عند الوزير ارق في منزلهم من تبريز، وعمل حسابهم، وأوجب عليهم القتل، وفعل ذلك بهم، وطلب كى خاتو أخو أرغون، وهو

الذي كان قاتل مجد الدين بن الأثير، لأنه كان متعلقاً به. فاعتذر ارق إليه بأن هارون هو الذي فعل ذلك بالجماعة، وقتلهم، فأوجب الحال قتل هارون وأولاده مع صغارهم، ومن كان عمره دون التمييز فقتلوا كلهم. واتفق علاء الدين صاحب الديوان سعادات عظيمة، ونزلت به أمور عظيمة سلمه الله منها. فمن ذلك أنه كان معه ببغداد شحنة من تحت يده يعمل ما يأمره به، يقال له الطرغيا، وحديث الأموال، والمناصب، والأمر، والنهي في البلاد كلها راجع إلى علاء الدين، والشحنة ليس له من الأمر إلا إذا حضر بخدمة علاء الدين في دار العدل، ووجب قتل أحد شرعا أمر بقتله فامتثل، أو بتأديبه فأدبه، لا أمر له سوى ذلك. فحسد علاء الدين على ما هو فيه من إنفاذ الكلمة، والاستقلال بالمملكة، ورام أخذ موضعه بمكيدة يعملها في حقه. فكتب على لسان علاء الدين كتاباً إلى الملك المنصور قلاوون يذكر فيه ذلك مناصحة له، وأنه ليحضر هو أو أحد عسكره ليملكه البلاد، وما يناسب هذا الكلام ليدل على مواطأته. وسير الكتاب مع شخص يتوجه به إلى الشام، ويغير به في طريقه على جماعة من المغل ليأخذوه إذا رأوه. فلما توجه إلى ذلك المكان، وجده الفراغون، فأمسكوه وقالوا له: أيش معك؟ وقرروه، فقر أنه رسول صاحب الديوان إلى ملك مصر، فأحضروه إلى بغداد إلى الشحنة الذي كان أرسله، فأعطاه ألف دينار على توجهه به، فقرروه، وأخذ الكتاب منه، وجهزوه مع الفراغون

إلى الملك أبغا، فطلب علاء الدين مقيداً مغلغلاً، وكان أخوه شمس الدين عند أبغا وزيره، فعندما بلغه الخبر، أرسل غلمانه من طريق أقرب من طريق الرسل الواصلين بإحضار أخيه بكتاب يقول فيه: يا أخي! يدك في الكتاب، ورجلك في الركاب، وتطوى المنازل، وكان لم يبرح عنده في الدهليز فرس مشدود، فمجرد ما وصله الكتاب، ركب ودخلوا البريدية الواصلين بسببه فلم يجدوه، وساق الليل والنهار إلى أن وصل إلى أبغا، وسأل المحاقة على ما قيل عنه، وطلب الرسول بالكتاب، وحاقه وسأله من غير ضرب، فقر على الشحنة، وأنه أعطاه ألف دينار على تأدية الكتاب إلى ذلك المكان الذي أمسكوه فيه، فرسم له بالبلاد على عادته، وتضاعف شكره، وخلع عليه، وتسلم الشحنة إليه، وحكموه في البلاد أكثر مما كان، وأما الذي حمل الكتاب المزور، فأخذه، وعاد به إلى بغداد، وتنوع في عذابه وصلبه وسمله، ودور به البلد، ثم أرمى بعد ذلك في الدجلة، وكتب إلى أهل بغداد كتاباً يقول فيه بعد البسملة: " إن لله تعالى ألطافاً خفية، يرى صورتها حسنة، يحسبها الجاهل بجهله نقمة، فإذا انتهت ونمت، عرف أنها نعمة "؛ وما هذا معناه. وعاد إلى بغداد، فاحتفلوا بدخوله احتفالاً عظيماً، وزين البلد، وعملت المغاني في الشوارع، والقباب المزينة. وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، ولما استقر بها وحضر الفضلاء لتهنئته، أنشدهم لنفسه مما عمله في هذه الواقعة أبياتاً خمسها، بعد أن نظم

مصاريعها، وهي هذه: ألا يا صاحبي لا تخش أمراً ... قليل الخطب سوف يعود فجرا أقول وقد تقلت الدهر خبراً ... لأن نظر الزمان إليك شزرا فلا تك ضيفاً من ذاك صدرا فكيف ينال ما يختار مني ... عدو والاله يرد عني فلا تحزن علي بما يعنى ... وكن بالله ذا ثقة لأني أرى آيته في ذا الأمر سرا فما أنا من يخاف من اغتيالي ... ويخشى من تصاريف الليالي ألا قل للمعادي والمواي ... رماني إذ رماني لا أبالي فقد مارسته عسراً ويسرا أأجزع من حوادثه إذا ما ... قصدت إلى وفوقت السماما وقد لامسته نوباً عظاما ... وقد صاحبته ستين عاما مضين وذقته حلو ومرا قطعت قفاره أقصى وأدنى ... وجئت بقاعه خوفاً وأمنى وكم عاينته فرحاً وحزنا ... وسلكت فجاجه سهلاً وحزنا وخضت بحاره مداً وجزرا

أرحبه لكي يرتاح بالي ... فأتعب خاطري وأحل حالي بحالي ذى اغتيال واحتبال ... رأيت الدهر لا يبقى بحال يريك الوجه ثم يريك ظهرا فما أنا من صروف الدهر شكا ... وإن لاقيت بعد الرحب ضنكا ولا أخشى من البأساء فتكا ... وإن وجدت ريح الموت وجها لقد عرفته سراً وجهرا ومن شعره: أحبابنا لو درى قلبي بأنكم ... تدرون ما أنا فيه لذ لي تعبي وإن أيسر ما ألقاه من ألم ... أنى أموت وما تدري الأحبة بي وكانت وفته في سنة ثلاث وثمانين مختفياً رحمه الله تعالى. عيسى بن مهنا أبو مهنا الأمير شرف الدين أمير آل فضل العرب في وقته، والمشار إليه منهم. كان له منزلة عظيمة عند الملك الظاهر، ثم تضاعفت عند الملك المنصور سيف الدين قلاوون بحيث ضاعف حرمته وأقطاعه، وملكه مدينة تدمر بعقد البيع والشراء، وأورد عنه لبيت المال ليأمن غائلة ذلك فيما بعد، وكان المشار إليه كريم الأخلاق، حسن الجوار، مكفوف الشر، مبذول الخير، لم يكن في العرب وملوكها من يضاهيه، وعنده ديانة، وصدق لهجة، لا يسلك مسالك العرب في النهب وغيره، ولما توفى أقر الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله

ولده الأمير حسام الدين مهنا على إمرته وأقطاعه وزاده، وضاعف حرمته، وبسطته، وكان بين وفاته ووفاة الأمير أحمد بن حجي دون السنة، وكان بينهما من المنافسة ما يكون بين النظراء، فكان أجلهما متقارب، وصلى على عيسى رحمه الله بجامع دمشق بالنية يوم الجمعة تاسع ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله عماد الدين الأنصاري المعروف بابن الشيرجى. من أعيان الدمشقيين، وأكابرهم، وعدولهم، وذوى الثروة والوجاهة والرياسة فيهم، وهو ناظر أوقاف ست الشام بدمشق المدرستين والخانقاة. سمع الكثير، وحدث، وبيته مشهور بالرياسة والتقدم. وكان عماد الدين موصوفاً بالخير، والديانة، وكثرة التواضع، وكرم الأخلاق، وحسن العشرة، والموادة، ولى عدة ولايات جليلة آخرها نظر الخزانة بدمشق. وتوفى ليلة الثلاثاء سادس ربيع الأول هذه السنة ببستانه، ودفن يوم الثلاثاء بتربتهم في مقابر باب الصغير. ومولده سنة ثلاث عشرة وست مائة. محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المفاخر عز الدين الأنصاري الشافعي المعروف بابن الصائغ. لازم الاشتغال من صغره على جماعة من الفقهاء، ثم لازم القاضي كمال الدين عمر التفليسي رحمه الله وانتفع به، وتنبه عليه، وصار يعد في أعيان الفقهاء، وأكابرهم، وأشرك بينه وبين القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن نعمة المقدسي رحمه الله تعالى

في المدرسة الشامية بعد فصول، ثم استقل بها شمس الدين، لما حضر الصاحب بهاء الدين رحمه الله إلى الشام في سنة تسع وستين، وولاه وكالة بيت المال المعمور بالشام، ورفع من قدره، فباشر ذلك مدة يسيرة، ثم ولاه قضاء القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله تعالى فباشر الأحكام الشرعية، وسلك الطرق المرضية، واجتهد على تمييز الأوقاف من حفظ أموال الأيتام، وأوقاف الأشراف، وتصدى لذلك، وطار صيته وحمدت طريقته، لولا ما كان يعانيه من التوبيخ، والمحاقة، وكشف العورات، وإطراح الأكابر، فمقته الناس لذلك، وكثرت الشكوى منه بسببه. وتغير عليه الصاحب بهاء الدين رحمه الله ولم يمكنه عزله لأنه كان أطنب في شكره عند الملك الظاهر رحمه الله عزله، وأعاد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فكانت ولايته سبع سنين، فسر معظم الناس بعزله، واقتصر على تدريس العذراوية، وأظن مدرسة أخرى. وكان صرفه عن الحكم في أول سنة سبع وسبعين، واستمر معزولاً إلى حيث تسلطن الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وحضر إلى دمشق سنة ثمانين وست مائة، فأعاده إلى الحكم لأسباب اقتضت ذلك. فباشر في أول السنة المذكورة، وعاد إلى سجيته وما كان يعانيه من الغض من الناس، وكشف عوراتهم، وذكر مساويهم. فحصل التضافر عليه والسعي فيه، فاعتقل في شهر رجب سنة اثنتين وثمانين بقلعة دمشق، وصرف وولى مكانه قاضي القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكي رحمه الله ولزم بيته

وحصل له سوء مزاج، وتخليط في كلامه، ولم يزل ذلك يتزايد إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى في يوم الأحد تاسع ربيع الآخر ببستانه، ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون في التربة المعروفة به، وقد نيف على الخمسين سنة رحمه الله بعد أن صلى عليه مراراً، ولم يتخلف عنه أحد من المشهورين، وختم له بأنواع الصالحات، منها: موته خاملاً غير متول، ومنها: النكبة التي نكبها وحبس عليها شهراً ظلماً، وعدواناً، ومنها: مرضه الطويل حتى اضمحل، ولم يبق عليه من اللحم شيء، وآخر ما ختم له به أنه يوم مات توضأ بنفسه لصلاة العصر، وقال: هللوا معي، فهللوا، وخرجت روحه مع آخر التهليلات، فكان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ فنرجوا له الجنة للحديث في ذلك. وتولى عوضه في المدرسة العذارية زين الدين وكيل بيت المال، وذكر الدرس يوم الأحد سادس عشر الشهر، وعوض ولده محي الدين أحمد بالعمادية، وزاوية الكلاسة، وذكر بها الدرس يوم الأربعاء تاسع عشره. روى الحديث عن ابن اللتى، والسخارى، وابن الجميزى، وابن خليل، وجماعة كثيرة، وكان قد قرأ المحصول بحثاً، والحاصل، والتنبيه، والمفصل للزمخشري، وسافر إلى البلاد في طلب العلم، وحصل علماً كثيراً، وديناً وافراً رحمه الله ومولده سنة تسع وعشرين وست مائة. محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان أبو عبد الله بهاء الدين البرمكي الشافعي. مولده سنة ثلاث وست مائة، أظن باربل، سافر إلى البلاد، واشتغل بالفقه، وسمع الحديث، وكان رجلاً معدوم النظير في

كثير من أوصافه، عنده تواضع مفرط، ولين الكلمة، ورقة القلب، وغزارة الدمعة، وسلامة الصدر، وحسن العقيدة في الفقراء والصالحين، وعدم الالتفات إلى الدنيا والاحتفال بأمرها، ولى الحكم ببعلبك وعملها، وباشر ذلك مدة سنين إلى حين وفاته رحمه الله ولم ينله من جميع ما كان باسمه من الجامكية، والجراية إلا قوته لا غير، ولا يسأل عما عدا ذلك، وأما بشره، وتلقيه بالترحب لمن يحضر عنده، فخارج عن الحد حتى لقد كنت أترك الاجتماع به مع كثرة إيثاري لذلك لما يعاملني به في المبالغة من الاكرام. وتوفى إلى رحمة الله تعالى ولم يترك درهماً ولا ديناراً سوى ثياب بدنه لا غير، وكانت يسيرة جداً، وترك عليه جملة من الدين بيعت كتبه، وفي ما عليه، ودفن في تربة سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني رحمة الله عليه وهو أسن من قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله ومنذ بلغه وفاة أخيه قاضي القضاة شمس الدين حصل له من الحزن ما لا مزيد عليه، ولم يكن دمعه يرقأ في غالب أوقاته، ولازم الحزن والبكاء إلى حيث لحق بهما رحمهما الله تعالى وأسكنهما غرف جنانه فلقد كانا من محاسن الدهر، وكانت وفاة القاضي بهاء الدين محمود المذكور رحمه الله في يوم الأربعاء ثاني عشرين شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وست مائة ببعلبك، ودفن يوم الخميس. محمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن علي أبو عبد الله بدر الدين التغلبي. كان شاباً فاضلاً، أسمعه قاضي القضاة نجم الدين في صغره على مشايخ وقته، وأحضره

على الشيخ تقي الدين بن الصلاح، فسمع منه بعد الأربعين كتاب الفتوى وغيره، ودرس بعد والده بالركنية إلى أن توفى في يوم الاثنين سابع عشرين رجب الفرد، ودفن من يومه بالجبل رحمه الله تعالى. محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذى أبو المعالي الملك المنصور ناصر الدين ابن الملك المظفر تقي الدين ابن الملك المنصور صاحب حماة والمعرة. تملك حماة وما معها عند وفاة والده في يوم السبت لثمان مضين من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ووالدته الصاحبة غازية خاتون ابنة الملك الكامل بن العادل، ومولده في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وست مائة بقلعة حماة، وعملت عقيقة عظيمة بقلعة حماة في اليوم السابع من مولده، وتقلد الملك بعد وفاة والده، وعمره عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً، وقام بتدبير ملكه الأمير سيف الدين طغريل أستاد دار والده، والمشير في الدولة الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، والطواشي مرشد، والوزير بهاء الدين بن تاج الدين، والجميع يرجعون إلى ما تأمر به الصاحبة غازية خاتون والدته. محمد بن موسى بن النعمان أبو عبد الله التلمساني، الإمام العالم العارف شمس الدين. شهرته تغني عن الاطناب في ذكره، سمع بالإسكندرية أبا عبد الله عماد الدين الحزاني، وأبا القاسم الصفراوي، وأبا الفضل جعفر الهذاني،

وخلقاً يطول ذكرهم، وسمع بمصر أبا الحسن بن الصابوني، وأبا القاسم ابن الطفيل، وأبا الحسن بن المقير، وجماعة سواهم، وحدث. مولده بتلمسان في سنة ست أو سبع وست مئة، وتوفي بمصر ليلة الأحد التاسع من شهر رمضان المعظم هذه السنة، ودفن يوم الأحد بالقرافة الكبري رحمه الله وكان يوماً مشهوداً، وله يد في النظم، فمن ذلك: أتطمع أن ترى ليلى بعين ... وقد نظرت إلى حسن سواها سواها لا يروق الطرف حسنا ... وأوصاف الجمال لها حماها حماها منزل الأحباب قدماً ... وإن كان الجلال لها حماها أتنظرها بعين بعد عين ... فتلك العين يمنعها قذاها قذاها إن أردت يزول عنها ... بعين الغير دهرك لا تراها ترى الحسناء تسفر عن لثام ... سحيق المسك يعبق من شذاها شذاها عطر الأكوان طيباً ... ونشر الطيب ينفح من ثراها ثراها للعيون خلا خلاء ... فحسبك لا دوا إلا دواها سناها يعجر الأوصاف عنه ... وحسب الفكر يقصر لو ثناها ففخر المرء في دنياه حقا ... برؤية من رأى من قد رآها فأقسم لا يرى الحسناء إلا ... محب لا يرى إلا هواها هواها يحجب الأبصار طرا ... عن الكونين لا تبصر سواها وكانت له مصنفات جليلة مفيدة تدل على إطلاعه، ويذكر ما كان يعانيه

من المعارف، منها: كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام. أتى فيه بكل شيء مليح بديع. ومن كلامه: " من قطع بشفرة السكوت لسانه، أسكن الله تعالى الحكمة جنانه. وعمر بطاعته جوارحه وأركانه. ورفع في الدارين قدره وشأنه. ووقاه منهما ما شانه. ونفع به أهله وإخوانه وجيرانه ". ومن شعره: تزود أخي التقوى فأنت به تقوى ... فليس يفيد المرء علم بلا تقوى عليك بها واقبل نصيحة مرشد ... فإن أصول الخير أجمع في التقوى وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إن كنت تقصد صحبة النصاح ... فاطلب حديث القوم في الأصحاح أصحاب خير العالمين محمد ... رحماء بينهم فشمل صحاح لا تقبلن سوى نصيحة مؤمن ... تحيا بها والفتح للفتاح فاصحبهم ولا تصحب سواهم ... قد بان هذا النصح بالإيضاح وقال أيضاً رحمه الله تعالى: من أحمل النفس في دنياه أحياها ... نعم وروحها حقاً وزكاها هدى الفلاح لنا قال الإله لنا ... قد خاب والله من في الخير دساها نصر الله بن محمد بن نصر الله صفي الدين وزير حماة. وليها بعد وفاة أخيه علاء الدين سنة أربع وسبعين وست مائة، وكان حسن المعاملة للناس، لين الكلمة، توفي بحماة سلخ رجب رحمه الله وإيانا.

السنة الرابعة والثمانون وستمائة

يوسف بن عبد الله بن عمر أبو يعقوب جمال الدين الزواوي المالكي قاضي القضاة. كان إماماً عالماً فاضلاً، ديناً صالحاً مشتغلاً، كثير الكتب، عاقلاً، عارفاً بالأحكام والأمور، كريماً، ملازماً لبيته، قليل الحكومات والإثبات، يجلس في الجمعة مرة واحدة، وكان ابن عم الشيخ زين الدين الزواوي ناب عنه في الحكم مدة، ثم عزل الشيخ نفسه، فاستمر جمال الدين يحكم مدة سنين بإذن السلطان من غير تولية مستقلة، وكان يداري الشيخ زين الدين، ويخدمه، ويهاديه، ثم سعى لنفسه في الاستقلال، فأجيب إلى ذلك في حياة الشيخ، فاستمر واتفق له حج هذه السنة، فلما كان يوم الخميس ثالث ذي القعدة، توفي وهو راكب في المحارة ذاهباً في الطريق، ودفن بعد نزول الحاج في الفلاة بعد رحلتهم من حفر المعظم، وكان دفنه بعد عشاء الآخرة من ليلة الجمعة رحمه الله تعالى. السنة الرابعة والثمانون وستمائة إستهلت هذه السنة، والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية سوى الملك أحمد بن هولاكو، فإنه قتل، وترتب مكانه أرغون بن أبغا، وسوى الملك المنصور صاحب حماة، فإنه توفي في السنة الخالية على ما تقدم، واسنقر عوضه ولده الملك المظفر تقي الدين محمود، والملك سيف الدين قلاوون قد خرج من الديار المصرية إلى الشام، ودخل دمشق يوم السبت ثاني وعشرين من المحرم بالعساكر المصرية، وعرض العسكر الشامي مدة أيام، وخرجوا جميعاً يوم الاثنين ثاني صفر قاصدين المرقب، وكان قد بقي

في يد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر قطعة من البلاد، منها: صهبون وبلاطنس وبرزية وغير ذلك، والعمل في الباطن على انتزاع ما يمكن انتزاعه من يده، وإفساد نوابه، فاتفق الحال بين من ببلاطنس من النواب وبين نواب الملك المنصور على تسليم بلاطنس، فسلمت في أول صفر، ووافى الملك المنصور البشري بتسليمها، وهو على عيون القصب متوجه إلى حصار المرقب، فسر بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب، وقد تقدم ذكر ما فعله أهل المرقب بالعسكر النازل لهم، فأثر ذلك في نفس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وحضر بنية قصدهم، فلما كان في مستهل صفر، خرج من دمشق بالعساكر المنصورة لقصده، وتقدمته المجانيق، ونازل الحصن المذكور يوم الأربعاء العاشر منه، وشرع العسكر في عمل الستائر للمجانيق، فلما انتهت الستارة للمجانيق المقابل لباب الحصن، سقطت إلى بركة كبيرة فيها ماء مجتمع، وكان عليها جماعة كبيرة من أصحاب الأمير علم الدين الدواداري، منهم: شمس الدين سنقر أستاذ داره، وعدة من مماليكه، فاستشهدوا رحمهم الله تعالى. وفي يوم الأحد رابع عشرة، راسل الفرنج من بيت الأسبتار، وسألوا السلطان الأمان لأهل المرقب على أنفسهم وأموالهم، ويسلمون الحصن المذكور، فلم يجبهم السلطان في ذلك، وكمل نصب المجانيق، ورمى بها، وشعث الحصن، وهدم معظم أحد أبراجه، واستمر الحال إلى سادس عشر ربيع الأول، زحف السلطان على الحصن، فأذعن من فيه بالتسليم، وحصلت

المراسلة في معنى ذلك، فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور سلم ورفعت عليه الأعلام الإسلامية، ونزل من به بالأمان على أرواحهم، فركبوا، وجهز معهم من أوصلهم إلى أنطرسوس. وبالقرب من هذا الحصن مرقية، وهي بلدة صغيرة على البحر، وكان صاحبها قد بنى في البحر برجاً عظيماً لا يرام، ولا يصله النشاب، ولا حجر المنجنيق، وحصنه، واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان يطلب مراضيه، فاقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيراً من الجبليين الذين كانوا مع صاحب جبيل، فأحضر من بقي في قيد الحياة منهم، واعتذر عن البرج أنه ليس له، فلم يقبل اعتذاره عن ذلك، وصمم على طلبه منه، فقيل: إنه اشتراه من صاحبه بعدة قرى وذهب كثير، وهدمه، وحصل الاستيلاء في هذه الغزوة على المرقب، وأعماله، ومن فيه، وبليناس؛ وهذا المرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة، وهو كبير جداً، ولم يفتحه السلطان الشهيد صلاح الدين رحمه الله بل ادخره الله تعالى للملك المنصور رحمه الله فحاز أجره وشكره، ولو لم يكن من ضرورة إلا ما فعل أهله بالمسلمين في شهور هذه السنة لكفى، وضرره لا يحد، وأبقاه الملك المنصور، ورم ما تشعث منه، واستناب فيه، ورتب أحواله، وهو لبيت الأسبتار، وأنشئت الكتب بالبشائر بفتحه، فمن ذلك كتاب من السلطان إلى ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير تغمده الله برحمته ومن إنشائه وهو:

" أعز الله نصرة جناب العالي الملكي الأشرفي الصلاحي، ولا زالت جيوشه تفتتح من الممالك حصونها. وتبتذل مضمونها. وتستثمر من العادة غصونها. ويطوى لهم الأرض، فلا يبعد عليهم مرمى، يعملون العزائم المهمة ويصونها. وتحدث ألسنة العالم بنعم الله التي يرونها في أيامه ويروونها. ويقصون أجنحتها بالشكر ويقصونها. تهدى له كل ساعة خبر عن جنوده وما ملكت. وخيوله وما سلكت. وسيوفه وما قتلت. ومهابتها وما أخذت. ومواهبها وما تركت. هذه البشرى تقص عليه من غزوتنا أحسن القصص. وتمثل صورة الفتح التي انتهزنا فرصته، وقلما تنتهز الفرص. وتبدى لعلمه الكريم. أن الهمم بها تنال الممالك. وترتقي المسالك. وتجتني ثمرات النصر. وتطفئ جمرات الغدر. وقلما ظفر بالمراد وأودع. وكل أنف لا يأنف.... فهو أحق الأعضاء أن تجدع. ولم نزل نمثل في أفكارنا الصورة التي أقدم عليها أهل حصن المرقب في مبدأ الأمر عند اضطراب النيات وضعف البنيات. وغرور الآمال الكاذبة. واشتمالات الخيلات الجاذبة. حتى نالوا من عسكرنا بحصن الأكراد ما نالوه، وتخيلوا أن عزمنا قد صرفوه عن قصدهم، أو أمالوه بأخذ أمرهم في الظاهر بالرخصة دون العزيمة، ويعمل على ما لو تمثل لهم صورة لجروا منه ذيل الهزيمة. ويغضون من نواميس المجاورة، ويغضى ويمضون بما يبدو منهم، وتنزل المحاورة وتمضى. ويستر ما يسدده إلى نحورهم من سهم، ويريهم أنا ندفع في صدور الحقيقة بالوهم،

ونعرض عن مناقشتهم في الحساب؛ ونمسك عنهم، " وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب ". ومن لم يؤاخذ المشئ بفعله ويعرف مقدار حمله، استدام طعمه. واستقام طلقه، وحركته دواعي الشره للسرة، والحيل السلامة في كل مرة، فلم يزل يتربص لهم ريب المنون، وينزل ما كان منهم في جنب ما يكون، ويرتقب فيهم الوقت المنتظر، ويدب لهم الضراء، وتمشي لهم الحمر إلى أن آن مكان الفرصة، جمعنا لهم بين الشرقة والغصة، فأبعدنا إليهم المدني، واعتدنا مسعانا في طاعة الله عما إذا كانت مساعي الملوك عزماً، ووصلنا المسير بالسرى، وطرقناهم كما يطرق الطيف الكرى، وأوطأنا بهم حوافر الخيل، وجئناهم مجيء السيل، وظللنا عليهم ظلل الغم. وغشيهم منا ما غشى فرعون وجنوده من أليم. مع كون مكانهم قد جمع له منعة البر والبحر. وحل منهم بين السحر والنحر. تحامت قصده الملوك. وحمته الإعادة، فلم تبق الأماني إليه طريق مسلوك. ولم يظفر به ملك من الملوك في الإسلام، ولا طرقته خيلهم في اليقظة، ولا خيالهم في المنام، يصد الرياح الهوج عند مخافة، ويرجع عند الطرق حسيراً لبعد المسافة بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته، وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب بالخطب، وعسكرنا بحمد الله تعالى مثل البحر ذا طما. والغيث إذا هما. والطود إذا سما. والليث إذا حمى. قد ملأ الفجاج. واستعذب الأجاج. وقاسمهم الرياج. فأعطاهم الأسنة، وأبقى له الزجاج. يتعرض أبطاله المنايا، ولو كانت عرضاً، ويقول كل منهم " وعجلت إليك رب لترضى ". فلم يزل القتال ينوبهم. وسهام المنون تصيبهم. وسحابها يصوبهم. والسيوف تغمد في الطلى. والرماح تركف في الكلى. والمجانيق تدلك سورتهم، وتسلك فورتهم بنجومها. وتصميهم برجومها. ونقذفهم من كل جانب دحوراً. ونعيد كل منهم مذموماً مدحوراً. وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسلم وببنانهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. إلى أن فتحناها، ولله الحمد عنوة. وحللنا مكايدهم فيها عقدة عقدة، ونقضنا عروة عروة. وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت بنودها. وذلت لها علوج الكفر وكنودها. والسيف من دمائهم يقطر. والصليب جريان ينظر. والأذان مكان الناقوس. والقراء موضع القسوس. والكنيسة قد عادت محراباً. والجنة قد فتحت للمجاهدين، فكانت أبواباً. وكنا نود أن الولد معنا في هذه المشاهد. وأن ينظرها بعين المشاهد. ونرجو أن يكون ممن يستكين المرقد. وإن لم يحضر هذه الغزوة فيتأهب للأخرى. فكان قذفاً لهمم تجعل ثمار النصر دانية القطوف، والسعيد من لا يستظل إلا بسيفه، فإن الجنة تحت ظلال السيوف ". ولا خيالهم في المنام، يصد الرياح الهوج عند مخافة، ويرجع عند الطرق حسيراً لبعد المسافة بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته، وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب بالخطب، وعسكرنا بحمد الله تعالى مثل البحر ذا طما. والغيث إذا هما. والطود إذا سما. والليث إذا حمى. قد ملأ الفجاج. واستعذب الأجاج. وقاسمهم الرياج. فأعطاهم الأسنة، وأبقى له الزجاج. يتعرض أبطاله المنايا، ولو كانت عرضاً، ويقول كل

منهم " وعجلت إليك رب لترضى ". فلم يزل القتال ينوبهم. وسهام المنون تصيبهم. وسحابها يصوبهم. والسيوف تغمد في الطلى. والرماح تركف في الكلى. والمجانيق تدلك سورتهم، وتسلك فورتهم بنجومها. وتصميهم برجومها. ونقذفهم من كل جانب دحوراً. ونعيد كل منهم مذموماً مدحوراً. وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسلم وببنانهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. إلى أن فتحناها، ولله الحمد عنوة. وحللنا مكايدهم فيها عقدة عقدة، ونقضنا عروة عروة. وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت بنودها. وذلت لها علوج الكفر وكنودها. والسيف من دمائهم يقطر. والصليب جريان ينظر. والأذان مكان الناقوس. والقراء موضع القسوس. والكنيسة قد عادت محراباً. والجنة قد فتحت للمجاهدين، فكانت أبواباً. وكنا نود أن الولد معنا في هذه المشاهد. وأن ينظرها بعين المشاهد. ونرجو أن يكون ممن يستكين المرقد. وإن لم يحضر هذه الغزوة فيتأهب للأخرى. فكان قذفاً لهمم تجعل ثمار النصر دانية القطوف، والسعيد من لا يستظل إلا بسيفه، فإن الجنة تحت ظلال السيوف ". وكتب المولى تاج الدين رحمه الله عن السلطان رحمه الله في المعنى إلى الأمير علم الدين الشجاعي يقول: " إذ أمر الله بهائي المجلس العلمي، وأحل البشائر بساحته. وسره

باستيلائنا على كل ثغر واستباحته. وأسمعه من أنبائنا الجميلة ما يعجز عن التعبير عنه لسان القلم على فصاحته. ولا زال مهنأ بأيامنا التي تؤرخ بالفتوح. وتنجد في مواقف الحرب بالملائكة والروح. وتختص بالمدح دون كل ممدوح. وترى ما يطوى بجيوشنا من الأرض، ولا يبعد عليها مكان به طروح. قد علم المجلس حركتنا إلى الشام، وإنا أنشأناها عجالاً، وجئنا بها على البديهة، فلو كانت قصيدة لأنشدناها ارتجالاً. وكانت مباديها توجد بأطراف الأنامل. ومناديها يعود بحينة الأمل. ومهامها متلقاة بالهمم القاصرة، وعزائمنا فيها كلها توقدت جمراتها، صادفت نيات إن لم تكن باردة فهي قارة، وإذا مر ذكرها بمن له غرض أو في قلبه مرض ظن الظنون. وخيل له أن أمرها لا يتم، وسرعتها لا تكون. ونحن نوسع للجهال حلماً. ونزداد بعواقب التدبير علماً. وكان الباعث عليها أمور مهمة. ومرأى تستفرغ قوى الأفكار المستجمة. وكل وقت نصعد النظر ونصوبه. ونتصفح وجه الرأي ونقلبه. ونرتاد جهات القصد التي كان منها منشأ المفاسد. وبها لشياطين النفاق نفاق، وكل سوق كاسد. فلما أخذت الأناة مآخذها ونفدت الآراء منها منافذها. وتمحضت زبدة الحلب. وأسفر وجه الطلب، ولم يبقى إلا أن تزم الركائب وترى الكتائب وتشرع الاسنة وتبدو ضمائر النفوس المستكنة، أخلصنا النية لله عز وجل في نصرة الإسلام. وتقاضينا ديونه على الأنام. وجعلنا منهم مقدماً على ما عداه. وصممنا على جهاد من نازعه رداء ملكه وعاداه.

تركنا حظ النفس بمعزل. وكان في عزمنا أن نرتاد منزلاً، فعرجنا على ذلك المنزل، وقلنا: يا خيل الله! اركبي. ويا ملائكة النصر! اصحبي. ويا أقلام البشرى! اكتبي. وصلنا إلى الشام في جنود تقبل مثل قطع الليل، وتندفع اندفاع السيل. وكلما مررنا بمملكة سالت بجموعنا أوديتها. وغصت بعساكرنا أنديتها. وانضم إلينا جنودها. وخفقت علينا بنودها، ولم نزل نطوي المراحل. ونتجاوز الخصب والماحل. إلى أن نزلنا بعيون القصب من عمل حمص، فوافاها البشير بما كان من أمر بلاطنس التي تقدمت بها البشرى. وفنيت فيها عضد من كان بها قد استطار شرر طعمه واستسرى. ولم تزل بعد السير. وتود لو استعرنا أجنحة الطير. إلى أن وافينا المرقب، وهي المقصد ومناخ ركائب العزم الذي هو لها مرصد، فكانت محط رحالنا. وإليها مطارح آمالنا. وأصحابها الذين بدأوا بالسنان، وقعقعوا لنا بالشنآن. وامتدت لهم الأيدي والألسنة، وجعلوا السيئة مكان الحسنة. وطمعوا بالبلاد وارتجاعها، وارتادوا موارد الحرب على بعد أشجاعها. واستلانوا من عسكر حصن الأكراد جانباً ظنوا به الغلب. وفعلوا أمراً عادوا منه بسوء منقلب. وصاروا يتكلمون من رؤوس ملأى من الجهل. ويأخذون في الحزن إذا أخذتهم إلى السهل. ونحن نعمل على الأمر الذي يلف العماء، ويعيرهم أذناً سميعة، لا أذناً صماً. ونرتاد منهم أمكنة الفرص، ونوحي لهم جمالة القنص. فلما رجمتهم

الظنون. وتمحضت لهم المنون. وثبنا لهم وثبة الليث المغضب. وأوردناهم بأسيافنا " ماء " لا ينزح قليبه ولا ينضب. وما وردنا حتى قامت جيوش الجو على ساق، وجاءت بعوث الغمائم من الآفاق. ورشقت سهام السحائب. وتغلغت ريح الصبا والحبائب. وجفت الرعود بجنودها. وجردت البروق بيضها من غمودها. والقطر يرسل الحجارة إلا أنها من برد البحر إذا مرت به الريح صار كأنه درع موصونة الزرد، فنزلناها ونازلناها. وأمطنا حجب المهابة وأزلناها، وأحدقنا بها إحداق السوار وأحطنا بها. كما يحيط باليد السوار، وكانوا يغترون بمنعهم، ويعتزون بما يحرى من سيل قلعتهم، ويعتقدون أن المعتصم بمكانهم واثق بأن يمس السماء بكفه، ويرى النجم دونه إذا لمحه بطرفه، فلم تزل تعاديهم الفتك وتراوحهم، وتماشيهم الحرب وتصاحيهم، وترسل إليهم رسل المنايا، وتوقر سهامهم إلا أنها من الحبايا، ونرميهم بعذاب واصب، ونكلهم إلى هم ناصب، والمنجنيقات تفوق إليهم سهامها قسيها وتخيل لهم أنها تسعى إليهم حبالها وعصيها، وهي الحصون من ألد الخصوم، وإذا أمت معصماً، حكم أنه ليس بإمام معصوم، ومتى افترى خلق في آلات الفتوح لم يكن أحد من الممترين، وإذا نزلت بساحة قوم فساء صباح المنذرين، تدعي إلى الوغى، فتكلم، وما أقيمت صلاة حرب عند حصن إلا كان ذلك الحصن من يسجد لها، ويسلم إلى أن أقوت ربوعهم، وصبت على مثل جمر الغضا ضلوعهم. وأخذناهم أخذاَ وبيلاً، وأوردناهم مهاوي المهالك، وساءت سبيلاً، وخسرت صفقة غدوهم وتراوحهم وتحللت أعقد أجسامهم من أرواحهم، ووجدوا من أنفسهم حداً كليلاً، وجداً عثورا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، وملكناها بالأمان وهو في المعنى بالسيف، وهجمناها هجوم الطيف، وكانت هي الني قد بقيت للأسبتار رحلة شتائهم وصيفهم، فلم يبق لهم رحلة شتاء ولا صيف، وسطرنا هذه البشرى والحرب قد وضعت أوزارها، والنفوس قد قضت منهم أوطارها، والبلاء قد دهم بلادهم وأقطارها، والعلم يبني على العلم، والسيف يملي على القلم، والثغر قد جدد على أيدينا إسلامه، وأبدلنا بعد قطوبه ابتسامه، والدهر لمن عادانا عادى، ولمن ولانا والى، وسيوفنا قد أصبحت مفاتح المعاقل، فإذا ملكناها عادت لها أقفالاً، والبشائر مخترقة الأمصار، والعساكر التي هجرت أوطانها، ونصرة الله قد كتبت من المهاجرين والأنصار ". إلى أن أقوت ربوعهم، وصبت على مثل جمر الغضا ضلوعهم.

وأخذناهم أخذاَ وبيلاً، وأوردناهم مهاوي المهالك، وساءت سبيلاً، وخسرت صفقة غدوهم وتراوحهم وتحللت أعقد أجسامهم من أرواحهم، ووجدوا من أنفسهم حداً كليلاً، وجداً عثورا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، وملكناها بالأمان وهو في المعنى بالسيف، وهجمناها هجوم الطيف، وكانت هي الني قد بقيت للأسبتار رحلة شتائهم وصيفهم، فلم يبق لهم رحلة شتاء ولا صيف، وسطرنا هذه البشرى والحرب قد وضعت أوزارها، والنفوس قد قضت منهم أوطارها، والبلاء قد دهم بلادهم وأقطارها، والعلم يبني على العلم، والسيف يملي على القلم، والثغر قد جدد على أيدينا إسلامه، وأبدلنا بعد قطوبه ابتسامه، والدهر لمن عادانا عادى، ولمن ولانا والى، وسيوفنا قد أصبحت مفاتح المعاقل، فإذا ملكناها عادت لها أقفالاً، والبشائر مخترقة الأمصار، والعساكر التي هجرت أوطانها، ونصرة الله قد كتبت من المهاجرين والأنصار ". وكتب الأمير حسام الدين لاجين رحمه الله نائب السلطنة بالشام إذ ذاك كتاباً إلى الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور رحمهما الله تعالى يهنئه بفتح المرقب، وهو من إنشاء المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج رحمهما الله تعالى من مضمونه: " لا زالت آيات النصر تتلى على سمعه من صحف البشائر. ونفائس الظفر تجلى على سره في أسعد طالع، وأيمن طائر، وفواتح الفتح تملى لديه بما تزهى به الأسرة، وتزهر بنوره المنابر. ومحكمات التأبيد تنهي إليه بما يحد

مثل الدجى عليه سواد المحابر. وينهي أنه سطرها والنصر قد لمعت بوارقه. ونصب بعد النصب على فرق الفرقد سرادقه. والظفر قد أسفر على الفتح المبين صباحه، والتأييد وقد طار به محلق البشائر، فخفق في الخافقين جناحه، والإسلام وقد وطئ هام الكفر بقدمه، والدين وقد عز بفتكات سيفه، فأنف أن يكون الشرك من خدمه، والأفلاك وقد علم أن لهذا الفتح افترقت كواكبها، والأملاك قد نزلت لتشهد أخت النصرة البدرية في صفوفها ومواكبها، وحصن المركب وقد ألفت عليه الملة الإسلامية أشعر سعدها، وأنجزت الأقدار التي ذللته الإسلام أن يتطاول إليه يد الحوادث من بعدها، وقد أحاطت العلوم الشريفة بأن هذا الحصن طالما سحت الأحلام أن تخيل فتحه لمن سلف في المنام، فما حدثت الملوك أنفسها بقصده إلا وتناهى الخجل، ولا خطبته ببذل النفس والنفائس إلا وكانت من روعة الحرمان على وجل، وحوله من الجبال كل شامخ بنهيب عقاب الجو قطع عقابه، ولفف الرياح حسرى دون التوقل في هضابه، ومن الأولى به خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها، ولا تعرف فيه الأهلة إلا بأوصافها، وهو مع ذلك قد تفرط بالنجوم، وتفرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في النجوم، تخال الشمس إذا علت أنها تنتقل في أبراجه، ويظن من سها إلى السها أنه ذبالة في سراجه، فكم ذي جيوش قد أمات بعضه، وذي سطوات أعمل الحيل على رؤيته، فلم يفز من نظره على البعيد بغرضه، ولا يعلوه من الطير سوى نسر الفلك ومرزمه. ولا يرمق متبرجات أبراجه غير

عين شمسه، والمقل التي تطرق من أنجمه، وقد نصبت عليه من المجانيق ما سهامه أقتل من سهام الجفون، وخطراته أسرع من لحظات العيون، لا يخاطب إلا بواسطة رسله الصم الصلاب، ولا يرى لسان سهمه إلا كما يرى خطفات البرق إذا تألق في علو السحاب، فنزلت عليه الجيوش المنصورة نزول القضاء، وصدمته بهممها التي تستعير فيها الصوارم سرعة لمضاء وروعة الانتضاء، فنظرت منا حصناً قد رد عليه الجو جيب غمامه، وافتر بعزة، كلما حذر عليه البرق، فاضل لثامه، فذللت صعابه، وسهلت عقابه، وركزت الخبويات في سفحه، وطالما رامت الطير أدناه، فلم يقومها القوادم، وكم همت العواصف أن تبتسم رباه، فأصبحت محلقة تبكي عليها الغمائم، فعاد مصفحاً بصفاحها مشرفا بما علا من أسنة رماحها، وأرسلت إلى أرجائها ما أربى على العمائم، وزاد في لفحه على السمائم. وكان بها مثل الجنوب فأصبحت. ومن حيث القتلى عليها تمائم. ونصبت أمامه المجانيق المنصورة، فلم ترع حق حسبها، وسطت على نظائرها، فأصبح غدها في التحامل أبعد من أمسها، واستنهضها العدى، وأعلمتهم أنها لا تطيق الدفاع عن غيرها، بعد أن عجزت عن نفسها، وبسطت أكفها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها، إما إجابة إلى بذل التشهد، وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخوفوا من ظهور هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق المنصورة فحول لا تثبت لها الإناث التي عريت من النفع بأيديهم، واستعانوا عليهم مع الغرى بطول الحذار، فعند ذلك غدت تكمن كمون الأوساد، ووثبت

وثبات الأسود، وتبارى بها الحصن السماء، فكلما قذفت هذه بكواكبها الزهر، قذف هذا بكواكبه السود، ولم يكسر له منجنيق إلا نصبوا عشراً مكانه، ولا قطعت لأحدها إصبع إلا ومد لآخر بنانه، فتطلب بتجارب مثل الكماة، وتتحايل تحايل الرماة، حتى فتحت وفسحت الرحال مجالاً، ونالت ونيل منها، وكذلك الحرب تكون سجالاً، هذا، والنقوب قد دبت في بواطنه دبيب السقام، وتمشت في مفاصله كما يتمشى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أخالعه ناراً تشبه نار الهوى تحرق الاحشاء ولا يبدو لها ضرام فقد أحل من حلة الوجل، وتحققوا حلول الأجل، وأيقن الحصن بالانتظام في سلك ممالك الإسلام، وكاد يرقصه ممن فيه فرط الجدل. وزاد شوقه إلى التشريف بوسمها، وما صبا به مشتاق على أمل اللقاء كمشتاق بلا أمل، لكنهم أظهروا الجلد. وأحفظوا إضرام نار الكمد. وكيف يخفى وقد انحلوا في أشراك إشراكهم، لعلمهم أنه لا مقاض من يد أهل التوحيد لأهل الأحد، وتدفقت إليهم الجيوش المنصورة، فملأت الأفق، وأحاطت بهم إحاطة الطوق بالعنق، ونهضت إليهم مسندة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاح أرواح العدى على يدها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون. ودارت عليهم رحى المنون. وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون، لمن بها من اللهب تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في نواحيها أنهار الدماء، فهلكوا بالسيف والسيل والنار. ولما ركب مولانا السلطان خلد الله ملكه وسلطانه لأول الزحف في جيوشه الذي كاثرت البحر بأمواجه، وسقت العدى على ربها بالخوف كؤوساً أو من أجاجه. تزلزلت الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف غضبه، فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه، فانحلت وانشقت سماؤه من الجزع، فألقت الأرض ما فيها وتخلت، مشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابل مولانا السلطان خلد الله سلطانه ما شمخ من أبراجه حتى أهوى يلثم بين يديه التراب، وتأدب بآداب الطاعة حين نظرت إليه، فخر راكعاً وأناب. فهاجمهم الجيوش المنصورة مهاجمة الحتوف، وأسرعت المصاف الابتضاء، فلم يدر العدو أهم أم الذي في أيديهم السيوف، فحل بهم الذل ونزل، وخافوا فتكات تلك السيوف التي تسبق العذل، وثبت من لم يجد وراءه مجالاً، وهو يقول: مكره أخوك لا تبطل. فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعد الإيمان، تشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فسألوا أن يكون العفو مولانا السلطان من بعض الصنائع، وتضرعوا في أن يجعل أرواحهم لسيوفه من جملة الودائع، فتصدق عليهم بنفوسهم كرماً، وظلوا على معنى الخير المأثور يرون الموت يقظة، والحياة حلماً، وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الأمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض قبضتها، فمتى يشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرى خوفاً من سيوفه التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والنضر قد يتسنم أعلاها، وشعر الإيمان قد جردها من وحشة لباس الكفر وأعرارها، والأعلام المتصورة قد سلكت إلى ذلك الترقب أعلى ترقي، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد، ومحاريبه قبلة، وكانت شرفاً فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة، فأجرس جرس الحرس به صوت الأذان، وعاد سهماً مسدداً في كنانة الإسلام، ودراً منضداً في عقد المملكة فحسن به فتم النظام، لا يسلك البحر طاغ إلا ويقذفه الموج إليه، لا يختلس أكبر باغ إلا " و " توقعه ضيق مسالكه في يديه، فهو أحسن من إرم، وأوضح من علم، وأنكى في الإصابة على البعد من السهم الذي أصاب وراميه بذي سلم، فيأخذ مولانا حظه من هذا النصر الذي هو إليه وأن بعد منسوب، والفتح الذي عددت الفتوح على كثرتها فهو بجميعها محسوب ". بالعنق، ونهضت إليهم مسندة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاح أرواح العدى على يدها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون. ودارت عليهم رحى المنون. وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون، لمن بها من اللهب تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في نواحيها أنهار الدماء، فهلكوا بالسيف والسيل والنار. ولما ركب مولانا السلطان خلد الله

ملكه وسلطانه لأول الزحف في جيوشه الذي كاثرت البحر بأمواجه، وسقت العدى على ربها بالخوف كؤوساً أو من أجاجه. تزلزلت الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف غضبه، فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه، فانحلت وانشقت سماؤه من الجزع، فألقت الأرض ما فيها وتخلت، مشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابل مولانا السلطان خلد الله سلطانه ما شمخ من أبراجه حتى أهوى يلثم بين يديه التراب، وتأدب بآداب الطاعة حين نظرت إليه، فخر راكعاً وأناب. فهاجمهم الجيوش المنصورة مهاجمة الحتوف، وأسرعت المصاف الابتضاء، فلم يدر العدو أهم أم الذي في أيديهم السيوف، فحل بهم الذل ونزل، وخافوا فتكات تلك السيوف التي تسبق العذل، وثبت من لم يجد وراءه مجالاً، وهو يقول: مكره أخوك لا تبطل. فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعد الإيمان، تشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فسألوا أن يكون العفو مولانا السلطان من بعض الصنائع، وتضرعوا في أن يجعل أرواحهم لسيوفه من جملة الودائع، فتصدق عليهم بنفوسهم كرماً، وظلوا على معنى الخير المأثور يرون الموت يقظة، والحياة حلماً، وأطلقتهم اليد التي لا يخيب

لديها الأمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض قبضتها، فمتى يشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرى خوفاً من سيوفه التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والنضر قد يتسنم أعلاها، وشعر الإيمان قد جردها من وحشة لباس الكفر وأعرارها، والأعلام المتصورة قد سلكت إلى ذلك الترقب أعلى ترقي، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد، ومحاريبه قبلة، وكانت شرفاً فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة، فأجرس جرس الحرس به صوت الأذان، وعاد سهماً مسدداً في كنانة الإسلام، ودراً منضداً في عقد المملكة فحسن به فتم النظام، لا يسلك البحر طاغ إلا ويقذفه الموج إليه، لا يختلس أكبر باغ إلا " و " توقعه ضيق مسالكه في يديه، فهو أحسن من إرم، وأوضح من علم، وأنكى في الإصابة على البعد من السهم الذي أصاب وراميه بذي سلم، فيأخذ مولانا حظه من هذا النصر الذي هو إليه وأن بعد منسوب، والفتح الذي عددت الفتوح على كثرتها فهو بجميعها محسوب ". وكتب المولى كمال الدين أحمد بن العطار عن الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة إذ ذاك بالشام إلى الأمير علم الدين الشجاعي يهنئه بالفتح المذكور، يقول: " نصر من الله وفتح قريب. يسره الله بعزائم الجناب العالي. لا زالت عزائمه تسهل من النصر مراداً. وهممه تفسح من الفتح مراداً. وسطوته تستأصل من الأعداء مراداً. ومسامعه الكريمة تستعذب معاداً من حديث

البشائر إذا كان معاداً معاذاً، قد أحاط العلم الكريم بالحركة المباركة، والنزول على المرقب الذي كم تحته من مربأ زاد علوه على علو الرصد، و " ما " حل أحد بواديه، ورام رؤية الهلال في مغربه، والشمس في مشرقه إلا وصده عما قصد، فما ترى الهلال منه إلا بدار، ولا تشاهد الشمس المنيرة إلا ظهراً، ونازلنا منه القلعة التي مسامت السماء، فزاحمت البروج منها البروج، وحلت الجوزاء لسوارها المحكمة، متى اتصلت بدناءتها بمنازل الكوكب، وما لها من خروج، وإذا رام القطر سقا أهلها، عرج عن قصد النزول، وأخذ في تعاريج العروج، ولربما حاول منازلتها من تقدم من الملوك، فصده عنها قسى الرعود، ونبل الوبل، وأسوار الثلوج، وأرخت السماء عز اليها على جيشه وحال بينهما الموج فكان من المغرقين، والتفت عليها أشجارها فبات من المدبقين، وأصبح من الموبقين وعادت كل من قصد الصعود إليها يمشي على أربع بعد أن كان يمشي على رجلين، وردته عقابه ناكصاً على عقبيه، وكان يحجل في حجلين، فاستدارت عليها جنوباتنا، فشاهدنا منها منطقة البروج، واستجنت بها الجيوش من سهام الجروح، فأبقت كل سريع الخروج عن بدناتها إلى الأبدان سريع الولوج، وقامت المجانيق بسفراء من الحجارة عن السهام، وأشارت إليها بأصابع كفوفها بالانتقال عن ذل الكفر إلى عز الإسلام، وفي أول الحال عجل منجنيق الواحد كسر منجنيقهم الثلاثة، ونقلن من صورة الحال بسرعة، نصر الواحد على من يدين بالثلاثة، ولم تزل مناجيقنا ترقى القلعة بحجارة

تطيل محلقة نحوها كالطيور، وتعلو نسور أحجارها طالبة قبة قلتها، والجبال الشاهقة، وكون النسور، فما رميت حجراً إلا أثرتها أثراً، ولا راجعتها ضرباً إلا أسمع وأرى بظاهرها وباطنها ندباً، لكنها على مراجعة الحرب، ومعاودة الضرب، كأنه تضرب من حجارة أسوارها في حديد بارد، وهي وإن لم تكن حديداً، فإنها حجارة حديدة لا تعمل فيها المعاول، ولا تؤثر فيها المبارد إلا أن نوازلها مصيبة فيها نازلة، وأما أشبه سهامها بسهام العيون يقضي بالمنون، ولا تفارق الجفون، أو بالنجوم في الرجوم تصيب وهي بمكانها المعلوم، ودامت ذمة حسناتها مطالبة المحاصرة بما في يدها للملة الإسلامية من الاعتصاب والفرض، والنقابة تعمل من خوارجها في داخل بنيانها عمل الخلد في الأرض حتى أخلد الله الأرض، وتقضت النقوب نظام أساساتها فانحلت، وألقيت النار في أحشائها، فألقت ما فيها وتخلت، هذا، والمجانيق منا ومنهم تارة وتارة، وأكفها ترمي من النفط أصابعها بشرر كالقصر، وقودها الناس والحجارة، إلى أن تمكن الهد من أحد أبراجها، فهدم بناءه المنظم، ولما أراد جداره ينقض، سارع إلى تقبيل الأرض، وبادر إلى الخدمة فسلم، وزحفت عليها الجيوش المنصورة من جوانبها، وأحاطت بها إحاطة الأغماد بقواضبها، وضمتها ضم الأطواق للأعناق، وأطبقت بها إطباق الجفون على الأحداق، إلا أن الله سبحانه وتعالى سهل أمرها، وأول الإسلام كفرها، وسلط المجانيق المسلمة على المجانيق الكافرة، فكفى المؤمنين شرها، فلم يزل كل منها يرميهم بأحجاره. حتى استنزلهم على

اختياره. وسألوا الإجارة من الحجارة. وطلبوا الأمان من الإيمان. وأذعنوا بالاستسلام إلى الإسلام. وكتابنا هذا، وقد علت على قلعتها أعلام الإيمان، وصرح بها إعلان الأذان، ورمى بالحرس رجس الحرس، وأذهب ظهر الإيمان منها جرس النجس، واقترب عن فتحها ثغور الأيام، وغدت مغلقة بمسك المداد أصداغ الأقلام، فيأخذ حظه من هذه البشرى التي شرحت للإسلام صدراً، وجددت لكل صباح من تباشيره بشراً، وخلدت لأيام هذه الدولة فخراً، يبدو في صبيحة كل نهار فجراً، وهذا الفتح المبين وإن لم يكن الجناب من حضار حصارها ولا تضمخ درعه بردعه، ولا تمسك ذيله بعثاره، فإنه مجهز جيش كتائبه التي فتح الله على يدها، وأجراها من النضرة على جميل عوائدها، فله أجر الغازي وهو المقيم، والسهم إذ أصاب الغرض فراميه المصيب وهو بمكانه لا يريم ". وقال المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج بدمشق يذكر فتح المرقب ويذكر قصيدة يمدح السلطان الملك المنصور قلاوون رحمه الله تعالى: الله أكبر هذا النصر والظفر ... هذا هو الفتح لا ما يزعم السير هذا الذي كادت الآمال إن طمحت ... إلى الكواكب ترجوه وتنتظر فانهض وسر واملك الدنيا فقد نحلت ... شوقاً منابرها وارتاحت السرر كم رام قبلك هذا الحصن من ملك ... فطال عنه وما في باعه قصر وكيف يمنحه الأيام مملكة ... كانت لدولتك الغراء تدخر

وكيف يسمو إليها من تأخر عن ... إسعاده متحد إلى القدر والقدر غر العدى منك حلم تحته همم ... لأشقر البرق من تحجيلها عرر لها وإن اشتهت لطف النسيم سرى ... معنى العواصف لا يبقى ولا يذر أوردتها المرقب العالي وليس سوى ... ماء المجرة في أرجائها نهر كأنه وكأن الجو يكنفه ... وهم ويمثله في طيها الفكر يحتال كالغادة العذراء قد نظمت ... منه مكان الآلي الأنجم الزهر لها الهلال سوار والسما سنف ... والقلب قلب وسود الدجى طرر تعلو الرياح إليه كي تحيط به ... خبراً وتدنو وما في ضمنها خبر ويومض البرق يهفو نحوه لدى ... أدنى رباه ويأتي وهو معتذر وليس يروي بماء السحب مصعدة ... إليه من فيه إلا وهو منحدر .... جنود الله تقدمها ... ما شك البدر إلا الخوف والحذر فاستوطأت حزنه واستقربته ... وكان مكبواً حسيراً دونه البصر وأضرمت حوله ناراً لها لهب ... من السيوف ومن نبل الوغا شرر وألجأته سهام الجمته ... ... فاغتاله القائلان الخضر والخضر وأمطرته المجانيق التي نشأت ... ولم يكن قبلها يهمي به المطر فكان للكسر منها كلما صنعوا ... من جنسها ولا يدري الهم ما عمر

كأنها ومجانيق الفرنج لها ... فرائس أسد أظفارها الظفر وكم شكا الحصن ما يلقى فما كثرت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر وللنقوب دبيب في مفاصله ... تثير سقماً ولا يبدو له أثر أضحى به مثل صب لا يبين به ... نار الهوى وهي في الأحشاء تستعر فحين أدرك فيه ما غرست به ... منها ولم يبق إلا أن يرى الثمر ركبت في جندك الأولى إليه ضحى ... والنصر يتلوك منه جندك الأخر قد زال ... تجلى عن قواعده ... وخر أعلاه نحو الأرض يبتذر وساخ وانكشفت أفتاره وبدا ... لديك من مضمرات النصر ما ستروا فمال يهوى إليهم كل ليث وغى ... له من البيض ناب والقنا ظفر كأنهم وهم آساد معركة ... حمر براثنها عنت لها حمر فاستصرخوا عمري الفتح واعتصموا ... بعفوه ورجاه من له عمر ؟ ولاذ بالصفح واستعطى الأمان لهم إحسان يقظان يعفو وهو مقتدر فجدت حلماً وعلماً أنهم خول ... في جوزة القتل إن غابوا وإن حضروا ومن غدا وفجاج الأرض قبضته ... فهم وإن أطلقوا منه فقد أسروا فأبرزوا مثل ربات الحجال إذا ... ما غض أبصارهن الخوف والخفر وقد علاهم شعار الذعر منك فلو ... حكمت بأسك في الأروح ما شعروا وأصبح الحصن غلاً في نحورهم ... وعلة ما لهم في وردها صدر

فصل

وقد تقلد من أشراف ملكك ما ... به على أنجم الجوزاء يفتخر رفعت أعلاه إعلاماً معودة ... أن لا يزال بها الإسلام ينتصر تبدو بها غرر الطلعات طالعة ... فكل ناحية من وجهها قمر وكسوته عندما جردته حللاً ... من المهابة يعشى دونها النظر جددت ربع الهوى حتى عدت بدلاً ... فيه من الصور المعبودة السور إن لم ينوف الورى بالشكر ما فتحت ... يداك فالله والأملاك قد شكروا ولما كان السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله على حصار المرقب، وردت عليه البشرى بولادة ولده السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد، فمولده في تلك السنة أيده الله تعالى. ودخل الملك المنصور عائداً من المرقب يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، وطلب محيي الدين محمد ابن النحاس، وقلده الوزارة بدمشق والشام، وخلع عليه خلعة كاملة يوم الخميس سادسه، وصرف شرف الدين توبة من الوزارة موقراً، وسافر الملك المنصور إلى الديار المصرية بكرة الاثنين ثامن عشر جمادى الأولى، وسافر تقي الدين توبة إلى القاهرة يوم الأحد حادي عشر رجب، وتوجه شمس الدين الدمشقي إلى حلب حاكماً يوم الخميس حادي عشر شوال، وخرج ركب الحجاز من دمشق يوم السبت تاسع شوال، وأميرهم بدر الدين ابن أبي القاسم. فصل وفيها توفي: أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الأندلسي الإشبيلي

الأصل، المنعوت بزين الدين، المعروف بكتاكت المصري الواعظ المقرئ. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وقيل في مولده غير ذلك، وتوفي بالقاهرة في ليلة الثالث عشر من ربيع الأول هذه السنة أعني سنة أربع وثمانين. كان إماماً في الوعظ، وعنده فضيلة، ومعرفة بالأدب، وله نظم حسن، فمنه: ظهرت كالشمس لا يقوى لها بصر ... فلا تلم عنك من ولي ولا من نظرا تزيد تفهمنا حرفاً وتعجمه ... وكيف يقرأه من لا عليك قرا لكأس طرفك في يمناك بارقة ... تكاد لألاؤها إذ يخطف البصرا وإن لم تروها فإن الكل قد قنعوا ... عمن سقاك بأن يروى لهم خبرا وقال أيضاً رحمه الله: أدارت خمرها الأحداق سراً ... على الأرواح واتصل النعيم وبتنا واعتبقنا واصطحبنا ... ولم يشعر بوصلنا الجسوم فها أنا والعروسة تحت ستر ... به ألقاب عفتنا رقوم وما فهمت بروق الحي عنا ... إشارتنا ولا فطن النسيم وقال أيضاً رحمه الله: من أنت محبوبه ماذا يغيره ... ومن صفوت له ماذا يكدره هيهات عنك ملاح الكون يشغلني ... والكل أعراض حسن أنت جوهره وقال أيضاً رحمه الله: اكشف البرقع عن بكر العقار ... داخل في ليلك مع شمس النهار وانهب العيش ودعه ينقضي ... غلطاً ما بين هتك واستتار

وإن تكن شيخ خلاعات الصبي ... فالبس الصبوة في خلع العذار وارض بالعار وقل قل لذلي ... في هوى خمار كأسي ليس عاري وقال أيضاً رحمه الله: حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكل مذ سمعوا خطابك طابوا فكأنهم في جنة وعليهم ... من خمر حبك طافت الأكواب يا سالب الألباب يا من حسنه ... لقلوبنا الوهاب والنهاب القرب منك لم يحبك جنة ... قد زخرفت والبعد عنك عذاب يا عامراً مني الفؤاد بحبه ... بيت العدول على هواك خراب أنت الذي ناولتني كأس الهوى ... فإذا سكرت فما عليك عتاب وتركتني في كل واد هائماً ... وأخذتني مني فأين أصاب وعلى التقى حزم لعلوه ... آمن من حوله يختطف الألباب لفريقها كيف الوصل ودونه ... نار لها بحشاشتي إلهاب وبسمريات القدود على لحمى ... بحمى خيام شرعت وقباب خاطرت مني بالفؤاد وزرته ... ليلاً ولم يشعر بنا مرتاب قال: وأنشدني الشيخ سعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي رحمه الله: حثوا إلى نجد نياق الهوى ... فثم واد حوله معشب

وانتظروا حتى يلوح الحمى ... والعيش فيه طيب طيب إسماعيل بن إبراهيم بن علي المعروف بالفراء. كان شيخاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً ناسكاً قدوة ذاكراً، له كرامات، وأحوال باهرة، وعلوم ظاهرة، ويعرف اسم الله الأعظم وغيره من الأسماء الجليلة التي انتفع بمعرفتها، ونفع بها، وكان حنبلي المذهب صحيح الاعتقاد. قال أخي رحمه الله: صحبته من سنة إحدى وأربعين وست ومائة من المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها فرأيت منه الكرامات الظاهرة، والأخلاق الطاهرة، والمعاملات الباطنة ما يقصر عنه الوصف، صحب والده رحمه الله من سنة ثمان وثلاثين إلى حين وفاته سنة ثمان وخمسين، وكان وفاة الشيخ إسماعيل المذكور رحمه الله يوم الخميس سابع شهر رجب بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون. وكان مخزومي النسب رحمه الله. أيدكين بن عبد الله الأمير علاء الدين البندقدار الصالحي النجمي. كان في بداية أمره مملوكاً للأمير جمال الدين موسى بن يغمور، ثم انتقل عنه إلى الملك الصالح نجم الدين، فجعله بندقداره، وأمره، وكان من أكابر الأمراء وأعيانهم، وكان الملك الظاهر مملوكه، وعنه انتقل إلى الملك الصالح لما حبسه، واحتاط على موجوده، ولم يكن الملك الظاهر يعرف قبل السلطنة إلا البندقداري، وكان الملك لظاهر يعظمه، ويحترمه، ويرى له حق التربية، وكان هو يبالغ في خدمة الملك الظاهر، والنصح له، وهو الذي انتزع دمشق وقطعة من الشام من يد الأمير علم الدين الحلبي، وكان عنده حشمة، وحسن ترتيب ما لا مزيد عليه، توفي بالقاهرة في ربيع الآخر سنة

أربع وثمانين، ودفن بتربته قريب بركة الفيل، وقد ناهز السبعين سنة من العمر، وصلى عليه بالنية بجامع دمشق يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى رحمه الله وسبب انتقال الملك الظاهر إلى لملك الصالح أنه لما ملك قلعة عجلون في أواخر سنة ثلاث وأربعين، ترتب فيها الأمير علاء الدين البندقدار بعسكر. فلما استقر بها، تزوج سرية الأمير سيف الدين علي بن قليج النوري من غير مشاورة الملك الصالح فنقم عليه، وأمره أن يخرج من عجلون، ويذهب حيث شاء مالكاً لأمره، فخرج متوجهاً إلى العراق على البرية، فلما بلغ الملك الصالح خبره، ندم، وكتب إلى سعيد بن يزيد أمير آل مراء إذ ذاك يأمره بإدراكه، ورده تحت الحوطة، فلما رده وافى الملك الصالح بعمتا، قد خرج من مصر متوجهاً إلى دمشق في شوال سنة أربع وأربعين، فأمر بالقبض عليه، وأخذ ما كان معه من المماليك وغيرهم، وحبسه بعجلون، وكان فيمن أخذ منه الملك الظاهر، فقدمه على طائفة من الجمدارية، فلما مات الملك الصالح سنة سبع وأربعين، وملك بعد ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على الأمير عز الدين أيبك التركماني، فولوه الأتابكية لأمر جليل؛ ثم ملكوا الملك الأشرف ابن الملك الناصر ابن الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل، وكان صغيراً. وأقروا التركماني على الأتابكية، ثم خطب الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار بنت صاحب حماة، وأجيب، فخشي التركماني إن هو دخل بها عظمت نفسه، وتاقت إلى الملك لقوة شوكته بالبحرية، فقتله يوم الاثنين سادس عشر شعبان سنة اثنتين

وخمسين وست مائة. الحسن بن محمد بن علي بن محمد أبو محمد نجم الدين الأنصاري الدمشقي. خدم الأمير عز الدين أيبك المعظمي رحمه الله صاحب صرخد، ثم الطواشي شهاب الدين رشيد، وتنقل في مباشرة سد الجهات والولايات، وآخر ما ولي قلعة بعلبك ومدينتها بعد وفاة كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله وقدمها مستهل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين، واستمر بها إلى أن استولى على دمشق وما معها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائباً عن الملك المنصور رحمه الله فصرفه، وولى عوضه سعد الدين عمر ابن قليج، فلما اتصل ذلك بالملك المنصور أنكره، وأمر بإعادته فأعاده، واستمر إلى شهر رجب سنة اثنتين وثمانين، وطلب إلى دمشق، وصرف عن الولاية، ورسم عليها أياماً، ثم أفرج عنه، ولزم منزله بدرب الفراش بدمشق إلى أن خرج الملك المنصور رحمه الله لحصار المرقب، فخرج في جملة العساكر، وبعد فتوح المرقب حصل له مرض، وأدركته منيته في أرض القصب من أعمال حمص، ودفن هناك وهو في عشر الثمانين، وكان عنده أمانة وخبرة بالولاية والتصرف، وهو من كبراء رماة البندق، ويحاضر بالحكايات والأشعار والتورايخ، وله حدة، وكان يزعم أن بدر الدين بن نقادة الشاعر المشهور نسيبه من جهة والدته والله أعلم. وكانت وفاته يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، وكان يتهم بمال كثير فلم يظهر له منه شيء، والظاهر أنه خفي والله أعلم. ثم بلغني بعد موته بقريب خمس وعشرين سنة

وقد خربت داره أنه كان صبيان يمفرون في الدار فوجدوا شيئاً، واتصل ذلك بالدولة، فسيروا من استقصى في الحفر، فوجدوا مقداراً صالحاً من الذهب والدراهم. وحكى لي نجم الدين حسن المذكور ما معناه أن الملك المعظم عيسى رحمه الله رسم للأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد أن يسير جماعة من حجي بن يزيد أمير آل مراء، فسير جماعة، وكان نجم الدين منهم، قال: فسيرنا في البرية، ومع حجي قداحة، إذا قدحها ينهر منها النار، ومع غيره من العرب وغيرهم قداحات، وهم يقدحون، والناس يتبعونهم، فبينا نحن نسير في أرض محجر، سقطت القداحة من يد حجي فتركها، ورحنا في المهم الذي نحن قاصدوه، وقضينا الشغل، وعدنا، ومررنا بتلك الأرض بالليل، فلما صرنا بالمكان الذي سقطت فيه القداحة، قال حجي: في هذا المطرح سقطت قداحتي؛ وضرب الأرض برمحه، فطنت القداحة. فأسرجنا ضوءاً. ووجدناها، وهذا من غريب الاتفاق. سعيد بن علي بن سعيد أبو محمد رشيد الدين البصراوي الحنفي مدرس الشبلية. كان إماماً عالماً فاضلاً، كثير الديانة والورع، عرض عليه القضاء غير مرة فامتنع، وله معرفة تامة بالعربية، ويد في النظم، وكانت وفاته في شعبان بمنزلة المجاور للمدرسة الشبلية، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وقيل أنه توفي في ثالث شهر رمضان وصلى عليه بعد العصر بجامع الجبل. قال الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالي أنشدني من لفظه لنفسه في ذي القعدة سنة ثمانين وست مائة:

ألا أيها الساعي على سنن الهوى ... رويدك آمال النفوس غرور أتدري إذا خان الرحيل وقربت ... مطايا المنايا منك أين تسير أطعت دواعي اللهو في سكرة الصبا ... أما لك من شيب العذار نذير كأني بأيام الحياة قد انقضت ... وإن طال هذا العمر فهو قصير وفاجاك مرتاد الحمام وما لها ... زيارة من لا تشتهيه يزور وأصبحت مصروع السقام معللاً ... يقولون داء قد ألم يسير وهيهات بل خطب عظيم وبعده ... عظائم منها الراسيات تمور ولما تيقنت الرحيل ولم يكن ... لديك على ما قد أتاك نصير وما لك من زاد وأنت مسافر ... ولا من شفيع والذنوب كثير بكيت وما يغني البكا على الذي ... جرى وتلافى المتلفات عسير فبادر وأيام الحياة مقيمة ... وحالك موفور وأنت قدير وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم منه الهداية للحمد صحيحاً خلقت الجسم مني مسلماً ... ولطفك بي ما زال مذ كنت في المهد وكنت يتيماً قد أحاط في الردى ... فأويت واستنقذت من كل ما يردي وهبت لي العقل الذي يصبى به ... إلى كل خير يهتدي صاحب الرشد ووقفت للإسلام قلبي ومنطقي ... فيا نعمة قد جل موقعها عندي ولو رمت جهدي أن أحل فضيلة ... فضلت بما لم يمحو أطرافها حدي ألست الذي أدعوك في كل كربة ... ففرجتها لولاك طارت بها كبدي ألست الذي أرجو جنابك حيثما ... تخلفني الأهلون وحدي في لحدي

فجد لي بلطف منك يهدي سريرتي ... وقلبي ويهديني إليك من البعد وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا عين سحي دماً وسحي ... غدا تخلين في الضريح ويصبح النور منك يمحى ... والحسن من وجهك الصبيح فتمسين والدود سوف يغشى ... سواد إنسانك المليح يا طول غمى وما تلا في ... صفحة وجهي من الصفيح كأنني بي وقد أتاني ... رسول ربي ليقبض روحي ينزعها من يدي حريص ... على موالاتها شحيح ضاق لخوف الورد صدري ... وساحة النهج الفسيح وكل من في الورى عليل ... فأين أشكو إلى صحيح أنطق بخير فسوف تأتي ... صمت على نطقك الفصيح كل كتاب وما خلقنا ... له سينجاب بالضريح وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قل لمن يحذر أن يدركه ... بكتاب الدهر لا يعني عن الحذر أذهب الحزن اعتقادي أنه ... كل شيء بقضاء وقدر ليت لا أصبح ليلى إنما ... ينطرق الآفات في وقت السحر ما لي من يدري يقيناً أنه ... راحل يغفل عن زاد السفر وقال أيضاً رحمه الله تعالى: أرى عناصر طيب العيش أربعة ... ما زال منها فطيب قد زالا

أمناً وصحة جسم لا يخالطها ... معاً نزف الشباب الغض والمالا وقال أيضاً رحمه الله: استجري دمعك ما استطعت معيناً ... فعساه يمحو ما جنيت شيئا أنسيت أيام البطالة والهوى ... أيام كنت لدى الضلال قرينا وقال أيضاً دو بيت: أشر عليك اجتهد في فك انحلالك ... لا ترخصن حياتك في أغلالك واصحب إذا شئت من لا يختفي حالك ... عنه ولازم حبابه ذو نصيحة لك وقال أيضاً: يا من يداري وما دارى مرض قلبه ... قد مات قلبك فقل لي كيف تصنع به أقرن عليه الماثم في دجى نح به ... هذا الشقي المعذور قد قضى نحبه وقال أيضاً موالياً: كيف اعتمدت على الدنيا وتجريبك ... أراك فلك تراها كيف تجري بك ما زالت الخادعة تدنو وتعتري بك ... حتى رمتك بأبعادك وتغريبك عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن أيوب بن شاذي بن محمد جلال الدين الملك المسعود ابن الملك الصالح عماد الدين أبي الفداء ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. كان من اجمل الناس صورة مع مكارم الأخلاق، جمع بين حسن الصورة والمعنى. وتوفي إلى رحمة الله بقرية بالمرج. وحمل إلى جبل قاسيون، فدفن بتربة عمه الملك الأمجد تقي الدين عباس

رحمه الله يوم الأحد خامس وعشرين جمادى الآخرة، وقد نيف على الخمسين من العمر رحمه الله. عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة شمس الدين المقدسي الحنبلي. مولده سنة خمس وثلاثين وست مائة، وتوفي بقرية جماعيل من عمل نابلس في يوم الاثنين ثامن وعشرين شعبان، ودفن بها رحمه الله. كان من الفضلاء الصلحاء الأخيار، سمع الكثير، وحدث، وكتب بخطه، وشرع في تأليف كتاب، وجمعه من الأحاديث النبوية مرتباً على أبواب الفقه. ولو تم لكان نافعاً. ورأى بعض الصلحاء بجبل الصالحية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. وقد جاء إلى الجبل فقال له الرائي: يا رسول الله! فيما جئت إلى هنا؟ أو كلاما هذا معناه، فقال: جئنا نقيس عبد الله من نورنا، وكان شيخنا شمس الدين عبد الرحمن رحمة الله عليه يحبه كثيراً. ويفضله على سائر أهله وأولاده، وكان أهلاً لذلك رحمه الله ورضى عنه. فلقد كان من حسنات المقادسة كثير الكرم، والخدمة، والتواضع. والسعي في قضاء حوائج الإخوان والأصحاب. علي بن بلبان بن عبد الله أبو القاسم علاء الدين الكركي المعروف والده بالناصري. سمع الكثير، وحدث، وتوفي بدمشق ليلة الخميس مستهل شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الصغير، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. عمر بن إسحاق بن وفاء شمس الدين الناصري. كان له اختصاص بالملك

الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وملازمة له في خلواته، وعنده مروءة، ومثابرة على قضاء حوائج من يقصده من لطفه وكرمه وسعة صدره، وبقي بعد انقضاء الدولة الناصرية، وحرمته وافرة، وجانبه مرعى، وأقام بدمشق إلى أن أدركته وفاته بها يوم الاثنين منتصف صفر. وأخرج يوم الثلاثاء إلى الجامع. فصلى عليه، وحمل إلى سفح قاسيون، فدفن بتربته المجاورة لتربة ابن وداعة. والألسن مجمعة على شكره والترحم عليه، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. كافور بن عبد الله أبو المسك شبل الدولة الصوابي الخادم. توفي بقلعة دمشق ليلة الخميس مستهل شهر رمضان، ودفن يوم الخميس، وقد نيف على الثمانين رحمه الله. كان من عقلاء الدينة الأخيار. سمع الحديث، وأسمعه، وتولى عدة ولايات، وكان في آخر عمره قد رتب خزندار بقلعة دمشق، والصوابي نسبة إلى الأمير شمس الدين صواب العادلي الأمير الكبير المشهور رحمه الله تعالى. محمد بن إبراهيم بن علي بن شداد أبو عبد الله عز الدين الحلبي. مولده بحلب في سادس ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وست مائة. وتوفي بمصر في سابع عشر صفر هذه السنة، ودفن بسفح المقطم. كان رئيساً، حسن المحاضرة، وصنف تاريخاً لحلب، وسيرة الملك الظاهر ركن الدين، وكان من خواص الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد، وترسل عنه إلى هولاكو وغيره من الملوك، واستوطن الديار المصرية بعد أخذ التتار حلب في سنة

ثمان وخمسين، وكان له مكانة عند الملك الظاهر ركن الدين، والملك المنصور سيف الدين رحمهما الله تعالى وحرمته وافرة، وله توصل ومداخلة، وعنده بشر كثير، ومسارعة إلى قضاء حاجة من يقصده رحمه الله تعالى. محمد بن الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الملقب شرف الدين المعروف بالأخميمي الشيخ المشهور. كان كثير التعبد والاجتهاد، ولكثير من الناس فيه عقيدة حسنة، وبعض الناس ينسبه إلى التصنع، وكان يتحصل له من الأمراء والأكابر جمل كثيرة، وإذا قوبل بقدر يسير لا يقبله، وتوفي بمنزله بسفح قاسيون ليلة الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى غسله الشيخ فخر الدين بن عز القضاة، والشيخ شرف الدين أحمد الفزاري، والشيخ برهان الدين الإسكندري، وصلى عليه الشيخ جمال الدين الشريشي، وحضر جنازته خلق كثير، وكان عليه روح، وسكون، وهيبة رحمه الله تعالى وهو الذي ذكره الشيخ كمال الدين بن طلحة في تصنيفه في علم الحروف من الحروف المفردة غير المكررة في القرآن المجيد، وأن الشيخ محمد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وأنه أوراه دائرة الحروف. قال الشيخ كمال الدين بن طلحة رحمه الله في تصنيف أفرده لذلك: أما بعد، فإنه لما رزقني الله من مبار ألطافه، ورفده مؤاخاة عبد صالح من صلحاء عباده فيه، تحكم له فيه من قلبي منزلة ما وصلت إليه أخوة النسب من قبلها، ولا تصل إليها من بعدها، ونمت بيننا المحبة في الله تعالى وتقدس

نمواً بلغت بها نهاية حدها، وأحرزت به اليقين حصل وحدها، ومنح الله جل وعلا كل واحد منا بصاحبه ما ظهرت له به زيادة عبادته، وثبت ذلك عنده بإقرار قلبه وشهادته، وكان كثيراً من مطالبه من ربه تعالى أن يمنحه ما يعرف به الاسم الأعظم، واقتدى بذلك ممن سلف من أئمة الطريق الأقوم، وتكرر لذلك تقلب وجهه في السماء، ورفع يديه إلى الله تعالى بأنواع الدعاء، فبينما هو في بعض خلواته مشتغل بصلواته تحت جلباب حندس الظلماء، إذ كشف له عن لوح شاهده بحيث لا يتطرق إليه شبه الشك ولا ريب الامتراء، فأعرض عنه مشتغلاً بذكر ربه في مقام قربه، فوكزه بدمع صوت يقول له: خذ ما ينتفع به، فأخذه، واستبث ما فيه، فوجده دائرة، وخطوطاً، وأسماء، وحروفاً، وأحاط علماً بصورها دون معانيها، ولم يعلم شيئاً من الأسرار المودعة فيها، فلما سمر الليل ذيل ظلمته، وتنفس الصبح لأسفار أنوار غرته، وقضى الواجب عليه من أداء حق الوقت وفريضته، عشيته غيبة صافحته بها يد سنته، فرأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبي رضوان الله عليه فسلم عليه وقال له: أين اللوح الذي أوتيته؟ فأخرجه فأخذه عليه السلام، فنظر فيه واستعظمه، ثم قال له في معناه: أشياء لم يفهمها ولا يعرف منها سوى كلمة واحدة، فقال: يا أمير المؤمنين! ما فهمت ما قلت لي. فقال له: إن فلاناً يعني الشيخ كمال الدين بن طلحة يشرحه لك إن شاء الله تعالى، فلما علا النهار، حضر عند الشيخ كمال الدين، وعرفه عين الواقعة بصورتها، وتلا عليه آيات صورتها، وخط صورة الدائرة، وما عليها

خارجاً وداخلاً عنها وفيها، فوقف عليه تأملها، فرآها من عجائب الأقدار وضعاً. وغرائب الأسرار أصلاً وفزعاً، ونظر في حروفها المرتبة وتراً وشفعاً، وأسمائها المركبة تفرقة وجمعاً. قال الشيخ كمال الدين: فعلمت أنه لا يمكن الوقوف على كنه مقصدها. ولا الوصول إلى جل عقدها، ولا محض أوطان مطالبها باستخراج زبدها إلا بتأييد رباني، وتوفيق إلهي، فرفعت يدي متضرعاً إلى عالم السر والنجوى، وسألته أن يفتح لي رتاج مكنونها، ويمنحني بنتاج مصونها، ويوضح لي منها مخزونها ويشرح صدري باستخراج اسرار مضمونها فأحست نفسي بأنفاس إجابة دعائها، وتضرعها، ونشطت إلى استشراق أنوار الأسرار من مطلعها، فلما لاحت الأنوار، وظهرت الأسرار بأمر مبدئها ومبدعها، وتخبير مرها ومطلعها، علقت هذه الرسالة. قلت: ثم أثبت الشيخ ذكر الدائرة وتخطيطها وصفتها، وصورة ما في وسطها، وما أحاط بها محيطها، وكيفية وضع حروفها وأسمائها وخطوطها، ثم ذكر أنها سر من أسرار الاسم الأعظم، ثم شرع في حل تلك الحروف المفردة وتبيين أسرارها وإظهار معانيها بما يذهل العقل، ولقد حذا في استنباط المعاني من تلك الدائرة ما سلكه الإمام أبو الحكم ابن برجان في تفسير قوله: " وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " وبين تدوير الحروف هناك، وسر البضع في كلام العرب. ثم ذكر أنه إن صح ذلك، فتح البيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، فوقع الأمر كما قال. ومات هو قبل فتحه في سنة ست وثلاثين وخمس مائة مغرباً عن وطنه بمراكش، فهؤلاء المشايخ الأطهار أطلعهم الله تعالى على أسرار العلوم، وبنى الشيخ كمال الدين أمر الدائرة على سر التوحيد، وبيان عظمة الله تعالى وقدرته، وسير أسرار الحروف بما يشرح الصدور ويسر القلوب، وسمى هذه الرسالة المتضمنة شرح هذه الدائرة " الدر المنظم في شرح الاسم الأعظم " فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه والله تعالى يوفق للصواب. هـ في سنة ست وثلاثين وخمس مائة مغرباً عن وطنه بمراكش، فهؤلاء

المشايخ الأطهار أطلعهم الله تعالى على أسرار العلوم، وبنى الشيخ كمال الدين أمر الدائرة على سر التوحيد، وبيان عظمة الله تعالى وقدرته، وسير أسرار الحروف بما يشرح الصدور ويسر القلوب، وسمى هذه الرسالة المتضمنة شرح هذه الدائرة " الدر المنظم في شرح الاسم الأعظم " فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه والله تعالى يوفق للصواب. محمد بن عثمان بن علي أبو عبد الله شرف الدين المعروف بابن الرومي، الشيخ الصالح الزاهد العارف. كان رحمه الله من أكرم الناس كفاً، لا يدخر شيئاً بل مهما فتح الله به ينفقه على الفقراء، وكان كبير النفس، عالي الهمة، كثير التواضع، لطيف الأوصاف، منقطعاً في زاويته بسفح قاسيون، لا يتردد إلى أحد إلا في النادر، ويعمل السماعات، ويصعد إلى الخلق الكثير من الفقراء وغيرهم، فيرقص من أول السماع إلى آخره، ويخلع جميع ثيابه على المغاني، ويرقص عرياناً ليس عليه إلا السراويل، وله الحرمة الوافرة عند الأمراء والملوك، ويحمل إليه من الفتوح شيء كثير، فيخرجه من وقته، وكان حضر حصار المرقب، ثم عاد إلى دمشق، وتوفى إلى رحمة الله تعالى عقيب عوده بأيام، ودفن بزاويته بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وهو في عشر الثمانين، وكانت وفاته ثالثة نهار الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وست مائة. وتوفي والده يوم الجمعة ثامن المحرم سنة ست وثلاثين وست مائة بمدينة حماة، وحمل على أكتاف مريديه، ودفن بزاويته بسفح قاسيون عشية الاثنين حادي عشرة،

ودفن ليلاً، وقد جاوز السبعين رحمه الله تعالى. محمد بن عبد الله أبو عبد الله ناصر الدين الحراني الحنبلي. ولي دمشق بعد وفاة والده رحمهما الله وأضيف إليه شد الأوقاف والنظر فيها مستقلاً من غير مشاركة، يولي ويعزل، ويصرف كيف شاء، وكان مدار أمور الدولة بدمشق وأعمالها عليه؛ ونائب السلطنة لا يخالفه، ولا يخرج عن رأيه. وله المكانة العالية عند الملك الظاهر ووزيره وأكابر أمراء دولته، وكلمته مسموعة في سائر المملكة، وكتبه نافذة في الأقطار، وعنده معرفة تامة، ورياسة كبيرة، وخبرة بسائر الأمور، ويكتب خطاً منسوباً، رأيته يكتب وهو ينظر إلى جهة أخرى، وكان كثير المكارم والستر، وقضى حوائج الناس، يصلح لكل شيء، ولقد سمعت بعض الأمراء الأكابر يقول عنه: والله يصلح لوزارة بغداد في زمن الخلفاء، ولا يقوم غيره مقامه، ثم استعفى من ولاية دمشق، وسأل ذلك فأجيب عليه، ثم رسم له الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بنيابة السلطنة بحمص وأعمالها، فتوجه إلى كره منه، فهذب أمورها، وأصلح أحوالها، ولم تطل مدته بها، فأدركته منيته ليلة الثلاثاء منتصف شعبان، فغسل بها، وكفن، وصلي عليه، وحمل إلى دمشق، فوصل يوم الخميس سابع عشره، فصلي عليه، ودفن بسفح قاسيون بتربة الشيخ أبي عمر رحمة الله عليه ولم يبلغ الستين رحمه الله تعالى وكان وقف في حال حياته قبل موته بمدة سنين وقفاً كثيراً على عتقائه، وعلى وجوه البر، وأثبته، وحكم به الحكام، وصرف ريعه في حال حياته كما شرط، فنفعه بعض الكلمة فيه، وقال الواقف:

أثبته على الشيخ في حال حياته كما شرط، ونل نظر الوقف عند عدم من أسند إليه الواقف إلى الإمام المجامع المظفري، وإمامه ابن الشيخ شمس الدين، فتمنع منه، وأبطل الوقف، واحتيط عليه، وباء بإثمه من سعى في ذلك مع أن جماعة كثير من أعيان العدول الذين شهدوا على الواقف رحمه الله أحياء مرزوقين، أما الواقف فوقع أجره على الله تعالى. سمع الأمير ناصر الدين الحديث الكثير، وكانت أوقاته معمورة بتلاوة القرآن العزيز، وسماع الحديث، ومصالح المسلمين، ولم يخلف ولداً رحمه الله تعالى. محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف أبو عبد الله رضى الدين الأنصاري الشاطبي الإمام العلامة في علم العربية واللغة. توفي بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى في ثامن عشرين شهر جمادى الأولى وقد جاوز ثمانين سنة من العمر رحمه الله تعالى ومولده سنة إحدى وست مائة، روى عن ابن المقير وابن الجميزي، وجماعة يطول شرحهم. قال أخي رحمه الله أنشدني: رب سهل على فتاتي لتراى ... هل سلا فتاها فتاها علمته جفونها أي سحر ... ما تلاها عن حسنها مذ تلاها وأنشده أيضاً: لولا ثباتي وساتي ... لطرت شوقاً إلى الممات لأني في جوار قوم ... تعصني قربهم وحياتي

وأنشده أيضاً رحمه الله بمصر: منغض العيس لا يأوي إلى دعة ... من كان في بلد أو كان ذا ولد والساكن النفس من لم ترض همته ... مسكني مكان ولم يسكن إلى أحد محمد بن يعقوب بن علي أبو عبد الله فخر الدين المعروف بابن تميم. وهو سبط ابن تميم، أظنه دمشقي الأصل والمولد والمنشأ، ونقل إلى حماة واستوطنها، وخدم صاحبها الملك المنصور ناصر الدين رحمه الله جندياً، وكان له به اختصاص وقرب. وكان فاضلاً عاقلاً شجاعاً، كريم الأخلاق، حسن العشرة، وحج إلى بيت الله الحرام، وهو من الشعراء المعدودين في عصره، وتوفي بحماة - رحمه الله تعالى - في هذه السنة. ومن شعره قوله في الحماسة: صبح بنا أرض الفرنج بغارة ... تحوي بها أموالها ورجالها محتادنا قد حرمت أوساطها ... نحو المسير وشمرت أذيالها وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كم فارس صاحبته يوم الوغى ... وتركته إذ خانه أقدامه حتى بلغت بحد سيفي موضعاً ... في الحرب لم تبلغ إلى سهامه وقال أيضاً رحمه الله: دعني أخاطر في الحروب بمهجتي ... إما أموت بها وإما أرزق فسواد عيشي لا أراه أبيضاً ... إلا إذا احمر السنان الأزرق

وقال أيضاً رحمه الله: لو كنت تشهدني وقد حمس الوغى ... في موقف ما الموت عنه بمعزل لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دماً تحت ظل القسطل وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ألا من مبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظبي حولي صليا وأني جلت في جيش الأعادي ... برمحي وهو في فكري يجول وقال أيضاً رحمه الله تعالى: يا قوم قد بلغ قول الحيا ... عني إلى المحب بلا علم من خنجري أطل من سيفي ... ورمحه أقصر من سهمي وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لمنجنيق وللحصون وقائع ... فيها عجيب للذي يتفهم يومي إليها بالركوع مخادعاً ... فتخر ساجدة له وتسلم وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لا تحقرن قليل السر إن له ... زيادة كضوارم النار في القبس فحرب وائل صرع الباب أسعرها ... وحرب قيس حسها لطمة الفرس وقوله في صفة الرياض والأزهار ونحوه: مولاي قد وافى زمان لم يزل ... بقدومه تستبشر الندماء

زمن كأن الأرض فيه ألبست ... خلعاً أجادت صنعها صنعاء ....بلحظ عين لا ترى ... إلا غديراً حال فيه الماء وترى بنفسك عزة في دوحة ... إذ فوق رأسك حيث سرت لواء لا تهملن لذاذة الدنيا فقد ... رق النسيم وراقت الصهباء واشرب من الحمراء في مبيضة ... ليحافل الصفراء والسوداء وقال أيضاً رحمه الله تعالى: رعى الله وادي النيرين فإنني ... قضيت به يوماً لذيذاً من العمر درى أنني قد جئته متنزهاً ... فمد لأثوابي بساطاً من الزهر وأقدمني الماء الفراح فحيثما ... سبحت رأيت الماء في خدمتي يجري وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وحديقة بستان فيها جدول ... طرفي برونق حسنه مدهوش تبدو ظلال غصونه في مائه ... فكأنما هو معصم منقوش وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لم لا أهيم إلى الرياض وزهرها ... وأقيم منها تحت ظل صافي والغصن يلقاني بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صافي وقال أيضاً رحمه الله تعالى: شبهت نرجسه أهدي إلي بها ... خلي وقد جئت في التشبيه بالعجب

كفا من الفضة البيضاء ساعدها ... زمرد حكيت كأساً من الذهب وقال أيضاً رحمه الله تعالى: عاينت ورد الروض يضم خده ... ويقول وهو على البنفسج محنق لا تقربوا وإن تضوع نشره ... ما بينكم فهو العدو الأزرق وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وناعورة شبهتها حين ألبست ... من الشمس ثوباً فوق أثوابها الخضر بطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها ثلل القطر محمود بن الحمصي. كان إماماً عالماً فاضلاً، متقناً بارعاً، فقيهاً عارفاً، ورعاً زاهداً، متقللاً من الدنيا، صاحب معاملات وكرامات، مجاب الدعوات، صحيح الاعتقاد، له الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، صام أربعين سنة بصوم نهارها، ويقوم أكثر ليلها، ثقة حجة، ما أظن حافظيه كتباً عليه سيئة واحدة منذ سلك هذه الطريقة، وكانت بدايته أنه اجتاز بقرية يونين في حال صباه، فزار الشيخ عيسى اليونيني رحمه الله تعالى فلزمه وانتمى إليه، وصحبه إلى أن مات الشيخ رحمه الله تعالى فدخل مدينة بعلبك وأقام بمسجد الحنابلة مكباً على العبادة والاشتغال بالعلم إلى أن أدركته منيته في ليلة الاثنين حادي عشر جمادى الأولى هذه السنة، ودفن من الغد بمقابر باب سطحاء ظاهر بعلبك رحمه الله تعالى.

السنة الخامسة والثمانون وستمائة

السنة الخامسة والثمانون وستمائة إستهلت هذه السنة والخليفة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون، والملوك على القاعدة في السنة الخالية، والملك المنصور بالديار المصرية. أخذت الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ودقت البشائر بدمشق ثلاثة أيام، أولها يوم الجمعة سابع صفر. وحصل في شهر صفر من الرعود والبروق ما خرج عن العادة خصوصاً في الأطراف. وورد كتاب الأمير بدر الدين بكتوت العلائي إلى الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، ومن مضمونه أنه لما كان يوم الاثنين رابع عشر صفر سنة خمس وثمانين وست مائة وقت العصر حصل بالغسولة إلى عيون القصب غمامة سوداء إلى الغاية، وأرعدت رعداً كثيراً زائداً، وظهر من الغمامة شبه دخان أسود من السماء ومتصل بالأرض، وصور من الدخان صورة أصلها هائلة في مقدار العمد الكبير الذي لا يحضنه جماعة من الرجال، وهي متصلة بعنان السماء يلعب بذنبها، فتتصل بالأرض شبه الزوبعة الهائلة، وصارت تحمل الحجارة الكبار المقادير، وترفعها في الهواء كرمية سهم نشاب وأكثر، وما صادف شيئاً من الأشياء من السيوف، والجواشن، والعدد، والتراكيش، والغشى، والقماش، والشاشات، والنحاس، والأسطال إلا صار طائراً في الهواء كشبه الطيور، ومن جملة ذلك أنه كان في أسطبل بعض الناس خرج ادم ملآن تطابيق نعال بيطارية

حمله في الهواء والجو كرمية نشاب، ورفع في جملة ما رفعه عدة من الجمال بأحمالها قدر رمح، وحمل جماعة من الجند، والغلمان، وأهلك شيئاً كثيراً من السروج التي صدفها في الرماح. وطحن ذلك إلى أن بقي لا ينتفع به، وأتلف شيئاً كثيراً مما صادفه في طريقه، وأضاع شيئاً كثيراً من العدد والقماش لمقدار ما بقي نفر من الجبد وأصحاب الأمر إلى أن صاروا بغير عدة، ولا قماش، وعاينت تلك الحية عن العين في عنان السماء، فتوجهت في البرية صوب الشرق، والذي عدم من قماش الجند منه ما راح في الغمامة السوداء، ومنه ما أخذه بعض الجند مع أن المملوك ركب بنفسه، ودار في العسكر المنصور، واستعاد كثيراً مما عدم، وبعد هذا عدم ما تقدم ذكره، وهذه الواقعة ما سمع بمثلها أبداً، ثم وقع بعد هذا يسير من مطر، ثم أن اللواحيق الكبار حملها الهواء، وهي منصوبة، وصارت مرتفعة في الجو وحسبنا الله ونعم الوكيل. وفيها وصل تقي الدين توبة إلى دمشق من الديار المصرية متولياً الوزارة بالشام يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر. وفيها توفي: أحمد بن شيبان بن تغلب أبو العباس بدر الدين الشيباني. مولده سنة ست وتسعين وخمس مائة، وكانت وفاته بسفح جبل قاسيون في نهار الخميس ثامن عشرين صفر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة رحمه الله. سمع، وأسمع، وكان رجلاً خيراً، وله نظم، فمنه يمدح قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي عند ما ولى سنة أربع وستين وست مائة، قوله:

شرف الزمان وساد بالإسعاد ... واضت ليالينا بغير زناد ونور شمس الدين شيخ شيوخنا ... مفتي الشريعة أزهد الزهاد سمح الزمان بما نؤمل منكم ... فيكم ترى الأيام كالأعياد أنت الذي أسلكتها سيل الهدى ... وأقمت دنيا ثابت الأوتاد من أبيات له. سمع من حنبل، وابن طبرزد، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم الحرستاني، وأجز له أبو جعفر الصيدلاني، وأسعد بن روح، وعبد الواحد بن أبي المطهر الصيدلاني، وغيرهم، وقيل إن مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة. خليل بن أبي بكر بن محمد بن صديق أبو الصفاء صفي الدين المراغي الفقيه الحنبلي. توفي بالقاهرة في يوم سابع عشر ذي القعدة، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد رحمه الله تعالى. وكان فاضلاً، عارفاً بالمذهب، سمع الكثير، وأسمع، واستوطن دمشق ثم توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدة رحمه الله تعالى. سعيد بن عمر بن إسماعيل بن مسعود سعد الدين بن الشيخ رشيد الدين أبي حفص الفارقي. كان شاباً فاضلاً، اشتغل على والده، وأتقن عليه فن الأدب، وكان له نظم حسن، فمنه:

مشوق يا نيل له عليل ... وسوف يا نيل له غليل وصب دمعه يجري مديد ... ولكن ليله ليل طويل ولي رشأ يملكني عزيز ... غرير والمحب له ذليل نأى عني فصد ولا وصال ... يرجى منذ بان ولا وصول فشوقي ضحو طلعته كثير ... وصبري عند جفوته قليل أيا قمراً له قلبي وطرفي ... منازل ما له عنها رحيل ويا شمساً وليس له كسوف ... ويا نجماً وليس له أفول فيا غصناً يملك قلب صب ... فديتك كم على ضعفي تميل طبعت على هواه فكم عذول ... يلوم ولست أدري ما يقول توفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين سابع عشرين المحرم، ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. طاهر بن عمر بن طاهر بن مفرج بن جعفر المصري الشيخ الصالح. كان كثير الزهد والعبادة، والتقلل من الدنيا، واشتغل بالفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ولما عرف ما يدعو إليه ضرورته في أمر دينه، انقطع إلى رباط ابن يغمور بالصالحية، وكان من أخص أصحاب الشيخ يوسف الفقاعي رحمه الله وأجلهم عنده، وكان له كشف. قال النجم أبو بكر بن شرف رحمه الله: كنت واقفاً بدرب الوزير أريد الرواح إلى الخواصين، وجيش الإسلام حينئذ قبالة جيش التتار على حمص

سنة ثمانين وست مائة، وذلك يوم الأحد فمر بي الشيخ الطاهر المذكور، وحدثني ما لم أفهمه لاشتغال خاطري، فقال: كأنك ما فهمت كلامي! قلت: لا والله، قال: كأنك خاطرك مشغول. قلت: ما هو لقلبي ولكل لآخذ أولادي قال: اسمع ما أقول، واعتمد عليه، اليوم أيش هو؟ قلت: يوم الأحد، قال: يوم الجمعة تكون في هذه البلدة بشارة بكسر التتار، وشموع توقد بالنهار، وسماعات، وتكسر التتار كسرة ما كسروا مثلها، فكان كما قال، ثم بات عندي بعد ذلك وانشرح، فسألته عما أخبرني به، قال: هل تراه يقظة أو مناماً؟ فقال: لا في اليقظة ولا في المنام، بل في حالة بينهما تسمى الواقعة تكون للفقراء؛ فسألته عن حقيقتها فنفر وغضب. قال النجم: وكان قال لي مرة: إن بيت هلاكو لا بد أن تكون، وخوارزمية لا يوجد منهم عشرة في مكان. قال: وكان به سعال مزمن فبقي سنين يأخذ في كوز مكسور ماء شعير مبزر من بكرة، يودعه عندي إلى العشاء يأخذه. قال: وأخبرني أنه يثرد فيه كسرة ويفطر عليها. قال النجم: ودخلت مع الشيخ يوسف إلى بيت طاهر بالرباط المذكور، فرأينا بيتاً لم يكنس قط. وقد نسج العنكبوت على حصيره رثة سوداء، فقال الشيخ يوسف: ما أعفشك يا طاهر! ثم خرج طاهر للوضوء. فقال لي الشيخ يوسف: طاهر يموت طيب. وتزوج طاهر امرأة جميلة جداً. وطلقها على كثرة تعجزه عنها، ولم يكن قربها ومات، ولم يعرف أنثى ولا غيرها، ولم يزل على هذا القدم من الاجتهاد وخشونة العيش والتقلل من الدنيا إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى

في العشر الآخر من شهر رمضان، ودفن عند الشيخ يوسف رحمه الله بالرباط اليغموري بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. وذكر الشيخ علم الدين البرزالي: أن وفاته كانت ليلة السبت خامس شوال رحمه الله تعالى. عبد الدائم بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة أبو محمد تاج الدين المقدسي الحنبلي. كان كثير الصلاح، والتعبد، والاجتهاد، والتمسك بالكتاب والسنة، وتوفي بجبل قاسيون ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وقد نيف على السبعين رحمه الله. عثمان بن سعيد بن عبد الرحيم بن أحمد بن تولو أبو عمرو ومعين الدين الفهري. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وتوفي بمصر يوم الأحد سلخ ربيع الأول، ودفن من يومه بالقرافة الصغرى. سمع القاضي أبا نصر بن الشيرازي وغيره، وله معرفة بالأدب، ويد طولى في النظم، وشعره في غاية الجودة والإتقان، نقلت من خطه قوله بمدح الصاحب زين الدين ابن الزبير فيقول: ماذا على بارق بالغور يأتلق ... لو لم يهج حزن قلب ملؤه حرق ذكرت إذ لاح والذكرى مشوقة ... ثغر السلامي حكاه اللؤلؤ النسق في ذمة الله أيام العقيق وإن ... تملك الليث فيها شادن خرق

ترنو بألحاظ رئم قط ما رمقت ... فغادرت في البرايا من به رمق أما وأهيف ذي خصر بأعيننا ... كما يشاء الهوى العذري ينطبق تألفت فيه أصداد لها أبدا ... على هواه الخلق تتفق فالخد والثغر ذا جمر وذا برد ... والوجه والشعر ذا صبح وذا غسق ما حلت عن عهد سكان العقيق وهل ... يحول عنهم محب حبه خلق كم زرتهموا في الكرى طيفاً واحسبني ... للسقم لو زرتهم شخصاً لما فرقوا خوفاً عليهم من الواشين لا حذراً ... من بارق للصفاح البيض يأتلق تسطو بها فتية غر سيوفهم ... بيض كأحسابهم مصقولة عنقوا لا أدعي أن جفني سحبة مطرت ... من طول ما رعدوا وجداً وبرقوا لكن سلمى لاح بارقه.... ... فكان من سحب جفني عارض يدق ما للجديدين قد أبلى اختلافهما ... جديد حالي فصبري دائماً خلق ألقى الظلام بصدر غير منشرح ... لما ألاقي وجفن ليس ينطبق وأسأل الشمس عن أخت لها غربت ... فادمعي الدهر في آثارها شفق قلبي وطرفي لنأي السائرين ضحىً ... كلاهما بنقاء منه لا أثق ومن هذا كما شاء الجوى حرق ... وملء ذاك كما شاء البكا أرق حبست دمعي فقالت لوعة غلبت ... لا تحبس الدمع إن الركب منطلق وقلت للقلب صبراً بعد بعدهم ... فقال لي نحن قبل البعد نفترق أشكو إلى الدهر قوماً من بنيه إذا ... محضتهم ود خل مخلص مذقوا

يهوون موتي وما لي في بلادهم ... والحمد لله لا تبر ولا ورق إني وإن كنت دهري مملقا لفتىً ... لا يعتري طبعه ميل ولا ملق بذي يدٍ كم لها عند الكرام يدا ... من شينها الحر بعد الله يرتزق بأبلج من قريش نور عز به ... مهما تحلى لأعداء الندى صعقوا مولى تولى الورى حفظا ببذل يد ... لها على الوفي كي ترضى الورى حنق من معشر لا يروق المجد غيرهم ... إن الكريم بما ترضى العلا لبق إن الأولى في جدي كفي الحيا اختلفوا ... على جدي كفه الوهابة اتفقوا بنو الزبير كما تهوى مكارمهم ... إن فوضلوا أو سوبقوا سبقوا عزوا منالاً ونالوا كل مكرمة ... أقلها بنواصي النجم معتلق وجه الزمان بيعقوب سليلهم ... كما تشاء المعالي نير شرق حرى على أصلهم جوداً وفاقهم ... والفرع فيه الحياء الطول والورق يا ابن اللاء ينطق العليا إن سكتوا ... عنهم وسكت أهل الفخر إن نطقوا فتحت للناس باب الجود ودمت له ... مجداً حين دست دونه الطرق وليتهم ما تولته الغيوث جدىً ... فكلهم لطلاب الحمد مستبق أرقت كما ينتهى الوفراء في دعة ... كذا محب المعالي طرفه أرق يفديك من كل ما تخشى عواقبه ... خلق لغير الخنا والبخل ما خلقوا تخلقوا بالندى جهلاً أما علموا ... أن التخلق يأتي دونه الخلق

كم زنت مرتبة رأيتهم زمناً ... وكم قلادة خود زانها عنق أما وجود لياليها وعزتها ... وعرضك المحض كل أبيض يقق وعقدها وثناياها ونظمي في ... مديح مدحك كل لؤلؤ نسق حويت خلقاً وخلقا ضامنين معاً ... صدفي فلست وإن بالغت أختلق قيدتني بحراً أطلقته فكذا ... أصبحت كالجود ما لي عنك منطلق من لم يكن ساكناً في ظل جاهكم ... فقلبه لرزايا دهره قلق لولاكم يا بني عبد الرفيع لما ... أصبحت في خفض عيش سله غرق قال أخي رحمه الله تعالى أنشدني المذكور لنفسه: قلت له إذ غاب عن مقلتي ... في يوم غيم ممطر مدجن لو لم تكن في الحسن شمساً حجبت بالغيم عن الأعين وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وليلة من ليالي البين واحدة ... وددت لو أنها ولت ولم تبن زادت فؤادي فنوناً من صبابته ... بها مطوقة ناحت على فنن ناديتها وكؤوس الشوق دائرة ... والوجد يطربها طوراً ويطربني وإنني بالذي ألقى من حديثتها ... ونوحها بالذي تلقى تحدثني حتى بدا الصبح كالواشي فريع له ... قلب عن بين حالي يخبرني فما رأيت له عن جاهل مثلاً ... ولا رأيت له ميلاً إلى فطن ولا رأيت لئيماً فيه ممتحناً ... ولا رأيت كريماً غير ممتحن طار انتظاري حياً رزق يلين له ... مذموم عيش كما اشتهى خشن

ديني إلى الرزق فضل كنت أحسبه ... مقدماً لي على غيري فأخرنى ما أصدق القائلين العلم مخرقه ... والجهل والحظ مقرونان في قرن ومن شعره وقد أمر قاضي مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى الجزار الشاعر: تقدم القاضي لنوابه ... بقطع رزق البر والفاجر ووفر الجزار من بينهم ... فاعجب للطف التيس بالجازر وقال أيضاً من شعره: يا أهل مصر وجدت أيديكم ... من بسطها بالنوال منقبضه قد عدمت الغذاء عندكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه وقال من شعره أيضاً: أما السماح فقد أقوت معالمه ... فما على الأرض من يرجى مكارمه ولا يغرنك من يلقاك مبتسماً ... فربما غر برق أنت شائمه لا تتعب النفس في استخراج راحتها ... من باخل لونه في الجود لائمه أخي المذلة اعزاز لدرهمه ... ويصحب الذل من عزت دراهمه ماذا أقول لدهر عاش جاهله ... ومات فيه بسيف الفخر عالمه

قد سالم النقص حتى ما يجاز له ... وحارب الفضل حتى ما يسالمه وقال من شعره أيضاً: لم أنسه إذ قال أين تحلني ... حذراً علي من الخيال الطارق فأجبته قلبي فقال تعجبا ... أرأيت ويحك ساكناً في خافق وقال من شعره أيضاً: ذنبي إلى الصفح الجميل وسيلة ... فارحم فتى بذنوبه يتوسل وقال من شعره أيضاً: أعلمت أن الربيع حين دعاكا ... لنزوله جعل الشحون قراكا لما وقفت به تسائل رسمه ... حزناً على رسم الطلول شجاكا محمد بن أحمد أبو عبد الله جمال الدين المعروف بابن يمن العرضي. كان من أكابر رؤساء دمشق، ومن أهل الثروة الطائلة. لم يكن في زمانه من يضاهيه في كثرة المال، وكان كثير التواضع، غزير المروءة، له الصدقات الدائرة سراً، وكان قد أرصد عشرين ألف درهم يقرضها من غير ربح بل درهماً بدرهم لكل من قصد ذلك. ووقف على غلمانه وغيرهم أوقافاً حسنة، وجرى في تركته تخبيط كبير من ولده الشمس خطيب المزة فإنه أثبت أشياء توجب تخصيصه وحرمان أخواته، فصودر، وعكس في مقصوده، وذهب لوالده من الدفائن ما لا يحصى. ولم ينتفع بشيء مما خلفه أبوه، وهلك بعده بمدة يسيرة، وكانت وفاة والده يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة

هذه السنة أعني سنة خمس وثمانين وست مائة بداره، ودفن بسفح قاسيون بتربة ابن نظيف المطلة على الجامع المظفري بسبب زوجته فإنها من ذرية ابن نظيف، ودفنت عنده رحمهما الله تعالى. محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سمحان أبو بكر جمال الدين الوائلي البكري الشافعي الشريشي. كان إماماً عالماً فاضلاً زاهداً ورعاً، طلب للقضاء بدمشق عوض الشيخ زين الدين الزواوي فامتنع، وكان من أعيان العلماء وأكابر المحدثين، ومولده بشريش بلدة بقرب إشبيلية من بلاد الأندلس سنة إحدى وست مائة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين ثامن عشر رجب سنة خمس وثمانين وست مائة بالصالحية برباط الملك الناصر، وهو شيخه يومئذ. ودفن بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري يوم الثلاثاء، وكان مالكي المذهب، وله معرفة بالأدب، وله يد في النظم. وقال رحمه الله ورضي عن سلفه الصالح: لما أتى شهر رمضان الكائن سنة أربعين وست مائة، وأنا بدمشق حرسها الله تعالى أردت أن أريح نفسي من كد المطالعة والتكرار. وأصرف همتي إذ كنت كثير البطالة إلى المواظبة على نوافل الصلوات والأذكار، فحين شرعت في ذلك وجدت في قلبي قسوة. ورأيت في صارم عزيمتي عن المضاء فيها نبوة، وقدت نفسي إلى العبادة بزمام الحرص، فحزنت وما انقادت، وضربتها بسوط الاجتهاد، فمادت على جرانها بل زادت، فلما رأيت ذلك منها، علمت أن داءها صار عضالاً،

وأن ما رمته من الهدى، صار ضلالاً، فسألت عن عالم بهذه الأمور خبير، وطبيب بدواء هذه العلة الدواء، فدللت على أوحد دهره وأفضل علماء عصره أحسنهم هدياً وسمتاً. وأروعهم نطقاً وصمتاً. وأوسعهم في جميع العلوم علماً، وأنعتهم في كل المعاني فهماً. وهو شيخنا العلامة سيد القراء، وحجة الأدباء، وعمدة الفقهاء، وقدوة الفضلاء، علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، فكتبت إليه بهذه الأبيات المبهرجة عند الامتحان العاطلة من حلي الإجادة والإحسان، أشكو إليه فيها بثي وحزني، وما استولت عليه هذه النفس العدوة مني، وأسأله كيف خلاص أسيرها من وثاقه، وكيف السبيل إلى هربه من جورها وإباقه، وهي هذه: أيا عالماً في الناس ليس له مثل ... وحبراً على الأحبار أضحى له الفضل أيا عالم الدين الذي ظل علمه ... بحوراً عذاباً منه يغترف الثكل لقد حزت بين الأنام فضائلاً ... فمنها التقى والعلم والخلق السهل وهديك هدى الصالحين ذوي الهدى ... وصيتك في المعروف ليس له مثل تعلم دين الله ثم كتابه ... على سنن الماضين أهل الهدى قبل نهارك تقريه لمن جاء قارئاً ... وليلك في التهجيد أجمعه يتلو فأنشأ ربي في حياتك أنها ... حياة لها نفع من الخير ما يخلو وبعد فإنني ذاكر لك سيدي ... أموراً قد أعيتني وعندي لها ثقل ولا بد من شكوى إلى ذي بصيرة ... يربك سبيل الرشد إن حادت السبل فأصغ إلى قولي أبث صبابتي ... إليك وأحزاني فقد مضني الكل

أخي ما لقلبي قد قسا فكأنما ... عليه لذي وعظ وتذكرة قفل فلا هو القرآن يخشع إن تلا ... ولا لأحاديث أتتنا بها الرسل ولا يرعوى يوماً إلى وعظ واعظ ... ولا عذل ينهي وإن كثر العذل يسوف بالطاعات مهما أردتها ... ويشرع في العصيان وللغي ما يسلو وما ضعيف العزم في الجد هازلاً ... مجداً قوي العزم مهما بذ الهزل جبان عن الطاعات وقت حضورها ... وإن حضر العصيان فالبطل الفحل وكل عباداتي رياء وسمعة ... مشوب جميع القول فيهن والفعل فإن رمت صوماً كان لغواً جميعه ... وعند صلاتي يعتري السهو والخبل وكل الذي أتى من العرف منكر ... فماذا دهى عقلي أليس له عقل فلا العقل يهديني ولا العلم رافعي ... بلى ليس ذا علماً ولكنه جهل ولي أسأل الله الصلاح نفيسة ... ذليلة ليس يسيء لها الذل تريد المعالي وهي لبست من أهلها ... ومن ضل يهوى في الخصيص متى يعلو إلى الله أشكوها أريد صلاحها ... وتبغي فسادي بئس ما اختلف الفعل إذا قلت يا نفسي إلى الله فارجعي ... تراجعني في القول من عنده الكل فإن شاء يهديني اهتديت وإن ... يشاء يضل فمن ربي الهداية والعدل وإن قلت للجنات والحور فاعملي ... تقل لي وهل معطي الجنان هو الفعل بل الله يعطيني الجنان تفضلاً ... فمن ربي الإحسان والجود والبذل وإن قلت خافي من أليم عقابه ... ومن ناره قالت له العفو والفضل وقد قهرتني ثم أصبحت عبدها ... أسيراً أخا قيد وفي عنقي غل

فكل الذي تبغيه مني حاصل ... وما أبتغي منها فمن دونها المطل تريد الذي لا أستطيع لحظها ... وبعض الذي تبغيه أيسره القتل تكلفني بذلي إلى الناس مهجتي ... وما عند حر بذل مهجته سهل فكيف خلاصي يا أخي من وثاقها ... وهل لأسير النفس من قيدها حل فوا أسفي لهفي لما بي لقد وهت ... قوى حيلتي وانسد بي وجهة السبل لقد خبت إن لم يدركني بلطفه ... ورحمته رب له اللطف والفضل وها أنا مستهد فكن لي راشداً ... أبا حسن فالرشد أنت له أهل ولا زلت تهدي للرشاد سبيله ... على منهج عدل فأنت الرضى والعذل وأبقاك رب الخلق تحيي كتابه ... مدى الليل والأيام تتليه وتتلو فنحن إذا أبقاك للدين ربنا ... بخير وتحيي الفرض في العلم والنقل قال الشيخ جمال الدين منشئها رحمهما الله تعالى: فكتب إلي رحمة الله عليه على كبره وضعفه مجيباً بهذه الأبيات التي حوت معاني رائقة، ولفظاً عجيباً، وهو يشكو ما شكوته، ويرجو من عفو ربه وغفرانه ما رجوته وهي: إلى الله أشكو ما شكوت من اللتي ... لها عن هدى عدل وليس لها عدل تجور عن التحقيق جوراً أخي عمى ... وقد وضحت منه لسالكها السبل وكيف أرجى أن يتوب وللهوى ... عليها يد سلطانه ما له عزل إلى غير مولاها توجه في الذي ... تريد وتخشى والخضوع له ذل وقد سترت عنها العيوب فما لها ... بما هي فيه خبرة لا ولا عقل وليس لها في طاعة الله لذة ... لقسوتها لا الفرض ترجى ولا النفل

إلى باطل تجري وإن كان متعباً ... وما خف من حق ففيه لها ثقل تعيب بما يأتي سواها كأنه ... لهم من قبيح النقص وهو لها فاضل وتستبعد الموت الذي هو نازل ... وفي طلب الآمال عنه لها شغل لها ظاهر ترضى بتزيينه الورى ... وعند الإله ليس يرضى لها فعل تريد نعيماً منه أخرج آدم ... بذنب وأني للعصاة لها نزل تحيل على المقدور في ترك طاعة ... فما بالها في الرزق ليس لها مهل تعز بإطراء الأنام ومدحهم ... ولم يخف عنها أن أقوالهم بطل تديم احتقار الناس نعياً كأنها ... على شامخ تعلو ومن دونها سفل وتكذب إن قالت وتغضب تارة ... وتحرص أحياناً ومن شأنها البخل تمن بما تعطي وإن كان تافهاً ... وتذكر معروفاً ومعروفها قل بذلت لها نصحي وحاولت رشدها ... وبالغت في عذلي فما نفع العذل فناولتها حبل التقى فتقاعست ... إلى أن نفانا العمر وانقطع الحبل وأرسل رب الدار يطلب ثقلها ... وليس لها زاد وقد أعجل النقل ونادى منادٍ يا مضيع حظه ... مما كان من تفريطه فله الثكل فيا ويحها إن لم تسامح بعفوه ... ويا ويلها إن لم تجد من له البذل أتبغي أبا بكر هدى عند مثلها ... وأنت الذي أضحى وليس له مثل حفظت كتاب الله ثم قرأته ... بأقوال مأمون به ختم الرسل ومثلك يرجى أن يعمر برهة ... فدونك فاغنمها فأنت له أهل ولست كمثلي ذا ثمانين حجة ... بها فاتت الأيام وانقطع الوصل

ولم للتأخير وجه وهكذا ... متى انتهت الآجال لم يسع الأجل وأدنى الورى من رحمة الله مذنب ... أتى ما له في الخير عقد ولا حل فقيراً ذليلاً جائراً متذللاً ... عرياً من التقوى كما جرد النصل لدى ملك بر غفور لمن جنى ... ولم يعلم الغفران لم يكن جهل وإن يكن السوأى فذلك عدله ... وإن تكن الحسنى فإحسانه جزل قال الشيخ جمال الدين رحمه الله: أنشدنيها في شهر رمضان المعظم في الخامس والعشرين منه سنة أربعين وست مائة. قال الشيخ جمال الدين المذكور: ولما كانت الليلة السابعة والعشرين من هذا الشهر المبارك، وكانت ليلة الجمعة، حضرت فيها ختمة للكتاب العزيز بدار الحديث الأشرفية عند أوحد زمانه، وعلامة عصره وأوانه، الحبر الذي جمع أنواع العلوم ووعاها، ورقى في مراتب التحقيق إلى ذراها، العالم الذي قرن بعلمه العمل الخالص، ونصح في الله تعالى ليالي يوم القيامة، وهو من التبعات خالص، إمام آتاه الله علماً وحلماً، ورزقه في جميع الأمور بصيرة وفهماً، إن تفقه، ترك عند فقهه فقه أبي العباس بن شريح، وإن حدث نسي عند حديثه حماد بن زيد، وعبد الملك بن جريج مع جماعة كثيرة من أفاضل العلماء وسادة أخيار من أكابر الصلحاء، فقد تنورت بنور اليقين والإخلاص قلوبهم، وتجافت من خوف الله عن المضاجع جنوبهم، وصرفوا هممهم إلى أعمال الطاعة، وليس لهم عمل إلا فعل خير أو سماعه، فباتوا ليلتهم جميعها في صلاة، وخشوع، وتضرع إلى ربهم، وخضوع قد قسموها بين صلاة

ذات تسبيح وتحميد، وقراءة ذات ترتيل وتجويد، يتقربون إلى الله تعالى في كلامه بالترتيل، ويجازون في تنزيهه بالتسبيح والتهليل، وكانت ليلة معتدلة هواءها بالأنوار، أرجاءها قد أزهرت مصابيحها ونجومها، واعتدل حتى طاب نسيمها، ولو لم يكن فيهم إلا من هو لنفسه ناصح، ولم يرتفع لهم في تلك الليلة إلا عمل من الله صالح، فلما ختموا الكتاب العزيز، ولصدورهم بالبكاء أزيز، وافق فراغهم للوقت الذي فيه ربنا إلى السماء ينزل فيستجيب لمن دعاه، فيتعطف عليه ويقبل دعاءه، إذ ذاك أخذ الحاضرون بدعاء خاشع القلب حزين دعاء ذرفت منه العيون، ووجلت منه القلوب، ورقت بعد قسوتها حتى كادت تذوب، ورجى الله تعالى بالتأمين يديه، وأسبل دموعه على خديه، فلما رأيت ما كان من جمعهم، وما صدر من جميل صنعهم، لم أشك أن الله قد استجاب دعاءهم، وحقق ظنهم به ورجاءهم، وغلب على ظني أنها ليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر، ففرحت إذ بت في هذه الليلة المباركة وأنا سهيرهم وأنيسهم، ورجوت أن يغفر الله لي بهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فعند ذلك جرت على لساني هذه الأبيات من غير فكر ولا روية، فجاءت غير مستحسنة ولا مرضية، ولولا ما جرى فيها من ذكر الحال، كان أن يكتم أولى من أن يقال، وهي: يا ليلة طاب فيها الذكر والسهر ... ولد للقارئ الآيات والسور يجلو دجاها مصابيح منورة ... كأنها أنجم في جوفها زهر

لانت قلوب بذكر الله قاسية ... فيها ومن قبل كانت دونها الحجر واستشعر القلب خوف الله وانسفحت ... فيها الدموع على الخدين تنهمر في جمع صدق لدى الرحمن قد ضرعوا ... يبكون خوفاً وبالقرآن قد جهروا فلست تبصر إلا خائفاً وجلاً ... ذا عبرة لرضى الرحمن ينتظر في ليلة الجمعة الغراء مشرقة ... تضيء نوراً ولم يطلع لها قمر تمت بها السبع والعشرون وافية ... من الصيام الذي قد صامه البشر رجوتها ليلة خيراً لذي عمل ... من ألف شهر وفيها الذنب يغتفر فقمت أدعو إلى الرحمن مبتهلاً ... فإنه لعظيم الذنب يغتفر كان الشيخ جمال الدين الشريشي رحمه الله تعالى جامعاً لعلوم كثيرة، منفرداً بها كالنحو، وفنونه من علم التصريف، والعروض، والقوافي، والأصول وفنونه، والتفسير، والفقه على مذهب الإمام مالك، والاستقلال به علماً وإتقاناً، وإفادة لكل من قصده فيها، وكان أحد أفراد الزمان في العلم، لم يكن في زمانه مثله علماً وعملاً، وكان متضلعاً في معرفة الأدب معانيه، ومبانيه، وبديعه، وله الاستقلال بالنظم البديع، والنثر الصنيع، مع المشاركة في غير ذلك كالحديث النبوي، وأسماء رجاله، والكلام على صحيحه وضعيفه، وأحكامه، وله في ذلك التصانيف الفائقة، منها: شرح الألفية لابن معطى مجلدان، وفي أصول الفقه، وكان علماء عصره مجتمعين على علمه وعمله، واستقلاله بالعلوم الإسلامية، وكان حسن المناظرة، مليح المذاكرة، حسن العشرة، كثير الإنصاف، غزير الديانة، واسع الفضيلة،

له الحرمة الوافرة عند الملوك فمن دونهم. ولما ورد دمشق في سنة ست وخمسين وست مائة، أقبل عليه الملك الناصر يوسف رحمه الله إقبالاً عظيماً، وفوض إليه مشيخة الرباط الذي بناه بالجبل. وكان كثير الاحترام له، والإقبال عليه، حتى أنه يحضر إليه، ويبادر معه ويقول: ما جعلناه شيخاً في هذا المكان إلا لنخدمه لا ليخدمنا. ولم يزل مباشره إلى أن توفي. لكن سافر إلى القدس وهو متوليه بعد الستين وست مائة، وتولى بالقدس مواضع. وتنقل في الديار المصرية، والحجازية، والحلبية: ثم عاد إلى دمشق، وباشر الرباط، وكان به من يقوم مقامه، فلم يزل مباشره حتى مات. وكان كثير الاعتناء بالحديث، رحل بسببه إلى البلاد، وأخذ الناس عنه، وانتفع به جماعة من العلماء، وسمع بالإسكندرية من محمد بن عماد الحراني وغيره، وبدمشق من أبي نصر بن الشيرازي ومكرم بن أبي الصقر، وبحلب من ابن يعيش النحوي، وباربل من الفخر الإربلي، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن روزبه، وابن سهرور، وابن اللتي، وابن السباك، ونصر بن عبد الرزاق الحنبلي، وقدم دمشق وطلب للقضاء فامتنع زهداً، وبقي المنصب شاغراً لأجله إلى أن مات رحمه الله. محمد بن عبد المنعم بن محمد أبو عبد الله الأنصاري الشافعي الصوفي

شهاب الدين المعروف بابن الخيمي الشاعر المجيد المشهور، والأديب الفاضل المبرز على نظرائه، والمتقدم على شعراء بلده مع مشاركة في كثير من العلوم، مولده في سنة اثنتين وست مائة، وتوفي بمشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة في التاسع والعشرين من شهر رجب، ودفن بسفح المقطم، روى عن عتيق بن باقا وعن أبي عبد الله بن عبدون، وسمع من ابن البناء وغيره، وحدث. وكان يعاني الخدم الديوانية، ونظمه كثير، فمن ذلك قوله: قسماً بكم يا جيرة البطحاء ... ما حال عما تعهدون وفائي حبي لكم حبي وشوقي نحوكم ... شوقي وأدوائي بكم أدوائي ما خانكم كلفي ولا نسيتكم ... روحي ولم يعهدكم أهوائي وجدي بكم مجدي وذل عزتي ... والافتقار إليكم استغنائي يا أهل ودي يا مكان شكايتي ... يا عز ذلي يا ملاء رجائي كيف الطريق إلى الوصال فإنني ... في ظلمة التفريق في عمياء ما ضركم إن تنقلوا بوصالكم ... سري من الضراء والسراء روحي تدور على الورد نظماً وقد ... حباتكم تمشي على استحياء أشكو عليلاً ليس يملك زيه ... برد النسيم ولا زلال الماء لم يزرني إلا ضريح وصالكم ... فصبابتي لن ترو بالإيماء قد حل حبكم عقود مدامعي ... وأجاد في أحكام عقد ولائي

وإذا بكيت فمن سروري بالذي ... فيكم بلغت من الغرام بكائي وقال أيضاً رحمه الله: يا مطلباً ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التقضي وانتهى الطلب وما طمحت لمرأى أو لمستع ... إلا لمعنى إلى علياك ينتسب وما أراني أهلاً أن تواصلني ... حسبي علواً فإني فيك مكتئب لكن تنازع شوقي ناره أربي ... فاطلب الوصل لما يضعف الأرب ولست أبرح في الحالين ذا قلق ... باد وشوق له في أضلعي لهب وناظر كلما انكفت بأدمعه ... صوناً بحبك يعصيني وينكسب ويدعي في الهوى دمعي مقاسمتي ... وجدي وحزني وبحري وهو مختضب كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال في ليله للنجم يرتقب يا صاحبي قد عدمت المسعدين فساعدي على وصبي لأمسك الوصب تالله إن جئت كثباناً بذي سلم ... قف بي عليها وقل لي هذه الكثب ليقضي الحر في أجراعها وطراً ... من تربها ويؤدي بعض ما يجب ومل إلى البان من شرقي كاظمة ... فلي إلى البان من شرقها طرب وخذ يميناً لمغنى يهتدي بشذى ... نسيمة الرطب إن ظلت بك النجب حيث الهضاب وبطجاها بروضها ... دمع المحبين لا الأنداء والسحب أكرم به منزلاً تحميه هيبته ... عني أونواره لا السمر والقضب دعني أعلل نفساً عز مطلبها ... فيه وقلباً لعذر ليس ينقلب

ففيه عاهدت قد ما حب من حسنت ... به الملاحة واغترت به الرتب دان وأدنى وعز الحسن يحجبه ... عني وذلي والإجلال والرهب أحيى إذا مت من شوقي لرؤيته ... لأنني لهواه فيه منتسب ولست أعجب من جسمي وصحته ... من صحتي إنما سقمي هو العجب يا لهف نفسي لو يجدي تلهفها ... غوثاً وواجزنا لو ينفع الحرب يمضي الزمان وأشواقي مضاعفة ... يا للرجال ولا وصل ولا سبب هبت لنا نسمات من ديارهم ... لم يبق في الركب من لا هزه الطرب كدنا نظهر سروراً من تذكرهم ... حتى لقد رقصت من تحتنا النجب يا بارقاً بأعلى الرقمتين إذا ... لقد حلبت ولكن فاتك الشنب أما خفوق فؤادي فهو عن سبب ... وعن جفونك لي ما هو السبب ويا نسيماً سرى من جو كاظمة ... بالله قل لي كيف البان والغرب وكيف جيرة ذاك الحي هل حفظوا ... عهداً أراعيه إن شطوا وإن قربوا أم ضيعوا ومرادي منك ذكرهم ... هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا ولما نظم شهاب الدين هذه القصيدة بلغت الأديب نجم الدين محمد بن إسرائيل المقدم ذكره في هذا الكتاب فادعاها. حكى لي صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر رحمه الله أن ابن إسرائيل وابن الخيمي اجتمعا بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث في الأبيات المتقدمة، فأصر ابن إسرائيل

على أنه ناظمها، فتحاكما إلى الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله وهو المشار إليه في معرفة الأدب، ونقل الشعر في ذلك الوقت، فقال: ينبغي لكل واحد منكما أن ينظم أبياتاً على هذا الوزن والروى ليستدل بها، فنظم ابن الخيمي هذه الأبيات: لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... حنوا علي ولما أن حنوا عتبوا يا قوم هم أخذوا قلبي فلم سخطوا ... وأنهم غضبوا عيشي فلم غضبوا هم الكريب بنجد منذ أعرفهم ... لم يبق لي معهم مال ولا نسب شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللحاظ السمر والقضب عهدت في دمن البطحا عهد هوى ... إليهم وتمادت بيننا حقب فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيري ذاك العهد قد نسبوا من منصفي من لطيف فيهم غنج ... لدن القوام لاسرايل ينتسب مبدل القول ظلماً لا يفي بمواعيد الوصال ومنه الذنب والغضب في لثغه الراء منه صدق نسبته ... والمن منه يزور الوعد والكذب موحد فيرى كل الوجود له ملكاً ... ويبطل ما يقصي به النسب فعن عجائبه حدث ولا حرج ... ما ينتهي في المليح المطلق العجب بدر ولكن هلالاً لاح إذ هو بالوردى من شفق الخدين منتقب في كأس مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودر ثناياها بها خبب

فلفظه أبداً سكران يسمعنا ... من معرب اللحن ما ينشى لها الأدب تجنى لواحظه فينا ومنطقه ... جناية تجتني من مرها الطرب قد أظهر السحر في أجفانه طرباً ... البرء منه إذا ما شاء والعطب حلو الأحاديث والألفاظ ساحرها ... يلقى إذا نطق الألواح والكتب فداؤها ما جرى في الدمع من مهج ... وما جرى في سبيل الحب محتسب ويح المتيم شام البرق من اضم ... فهزه كاهتزاز البارق الحرب وانسكف البرق من وجد ومن كلف ... من قبله فهو في الأحشاء به لهب فكلما لاح منه بارق بعثت ... قطر المدامع من أجفانه سحب وما أعادت نسمات الغوار له ... أخبار ذي الائل إلا هزه الطرب واهاً له أعراض الأحباب عنه وما ... أخذت رسائله الحسنى ولا القرب ونظم نجم الدين محمد بن إسرائيل قوله: لم يقض من حبكم بعد الذي يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب ولي دمى لرسم الدار بعدكم دمع ... متى جاد صيب بالحيا السحب أحبابنا والمنى تدني مزاركم ... وربما حال من دون المنى الأرب ما رأيكم من حياتي بعد بعدكم ... وليس لي في حياة بعدكم أرب قاطعتموني فأجراني مواضلة ... وحلتم محلاً لي فيكم التعب ويا نسيماً سرى والعطر يصحبه ... أحرت حين مشين الخرد العرب

أقسمت بالمقسمات الدهر يحجبها ... سمر العوالي والهندية القضب لكدت تشبه برقاً من ثغورهم ... بادر دمعي لولا الظلم والشنب وجيرة جار فينا حكم معتدل ... منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا ما حيلتي قربوني من محبتهم ... وحال دونهم التقريب والخبب وعرضت القصيدتان على الشيخ شرف الدين بن الفارض، فأنشد مخاطباً لابن إسرائيل بيت ابن الخيمي، وهو: لقد حليت ولكن فاتك الشنب وحكم بالقصيدة الأولى لابن الخيمي، واستحسن بعض الحاضرين أبيات ابن إسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه! ما الحامل له على إدعاء ما ليس له؟ فقال ابن الخيمي: هذه سرقة عادة لا سرقة حاجة، وانفصل على ذلك، وسافر ابن إسرائيل لوقته من الديار المصرية. هذا مضمون حكاية الموفق رحمه الله. محمد بن يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح أبو عبد الله محيى الدين الحراني المعروف بابن الصيرفي. مولده سنة ست وعشرين وست مائة، وتوفي بدمشق يوم السبت لليلتين خلتا من ذي الحجة، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله. كان عنده فضيلة، وحسن عشرة، وعلى ذهنه من الأشعار، والحكايات، وأخبار الناس، والتواريخ قطعة صالحة. سمع الكثير من صغره، وفي حال كبره، وتولى عدة جهات، وكان له حرمة، ومكانة، وملازمة للأمير افتخار الدين وولده الأمير ناصر الدين

رحمه الله تعالى وتوكل للأمير علم الدين سنجر أمير خازندار الملك الظاهر وغيره رحمه الله. يوسف بن محمد بن عبد الله أبو الفضائل مجد الدين المعروف بابن المهتار. مولده في حدود سنة عشر وست مائة، وتوفي بمسجده داخل باب الفراديس بدمشق بعد الظهر من يوم الاثنين تاسع ذي القعدة، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة باب الفراديس رحمه الله تعالى. كان رجلاً حراً أديباً، يكتب خطاً منسوباً، وجود عليه خلق كثير، وانتفعوا به، وسمع الكثير، وأسمع، وكف بصره قبل وفاته بمدة رحمه الله تعالى، ومن شعره: تعالى الإله الواحد الصمد الفرد ... العليم بما يخفى من العبد أو يبدو له المثل الأعلى على كل خلقه ... فليس له قبل وليس له بعد سميع إذا دبت على الضحر نملة ... وينظر في الظلماء ما هو مسود كريم حليم راحم متعطف ... فظن به الإحسان يا أيها العبد فمن مثل مولى يغفر الذنب كلما ... عصيت إذا استغفرته فله الحمد يوسف بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحيم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي العثماني الشافعي أبو الفضائل قاضي القضاة بهاء الدين بن قاضي القضاة محي الدين بن قاضي القضاة مجير الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن

قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي. مولده سنة أربعين وست مائة، وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة، ودفن بتربتهم المعروفة بسفح قاسيون، كان إماماً عالماً فاضلاً محجاجاً، مناظراً في سائر العلوم الإسلامية، لم يكن له في وقته نظير مع صغر سنه، جمع الله تعالى له في صغر السن حسن الشكل وشرف البيت والفضيلة التي لم تكن في غيره في زمانه ما كان عليه من اللطافة في المحاضرات، وإيراد الأشعار الفائقة الكثيرة من أشعار العرب، وأشعار المتأخرين، والحكايات الغريبة، وإذا أنشد أحد بحضرته بيتاً يستشهد به على شيء من المسائل اللغوية، أنشد هذه القصيدة بكاملها بأحسن إيراد، وكمل ذلك بمكارم الأخلاق، وكرم النفس وطلاقة الوجه، وحسن المحاضرة، وكثرة الديانة، وكان مدرساً بمدارس والده المشهورة، وكان قيماً بدروسها حفظاً، ومناظرة، وبحثاً على اختلاف علومها، وكان كثير الاشتغال لم يتفرغ لحفظ الدروس إلا في طريق الميدانية عند عبوره البلد، يطالع كل درس مرتين أو مرة وهو راكب فتعلق بذهنه، ويورده آخر إيراد، وهذا لم يعهد لغيره، وكان مقصوداً بالفتاوي من سائر الأقطار، وترجح وتفنن بالدليل القاطع، ويقوي بعض الأوجه الضعيفة في المذهب ويفتي بها، ويسأل من يناظره فيها، وكان فقهاء البلد ومشايخه في سائر العلوم فقهاء عنده في مدارسه، ولا يقدر أحد على مجازاته في بحوثه، وكان فاق رجال زمانه في العلوم العقلية، فإنها أتقنها على القاضي الإمام كمال الدين عمر التفليسي لما كان بمصر عند والده، وقال

كمال الدين المذكور في حقه: لم أر أنبه منه ولا أحد ذهناً. هذا وهو في سن الصغر، وليس له عشرون سنة، ومن أغرب ما حدث في الدرس بالعزيزية أن شخصاً من علماء الخلاف حضر إلى درسه، وأورد عليه بلمة خلاف فتلقى الجواب بصدره، وشرع في حلها وعكسها عليه، فادعى الملقى لها عند ذلك بقصوره عن مضمان القاضي بهاء الدين المذكور، وقال: ما رأيت في بلاد العجم ولا العرب مثله. وتعجب الفقهاء الحاضرون من ذلك تعجباً عظيماً، وهذا دليل على غزارة علمه، وعظم قدره، وتوسعه في العلوم، ثم بعد ذلك خلع على الخلافي، وأحسن إليه، وأجازه جائزة سنية، وكان هذا الخلافي قد حضر مدارس الممالك الإسلامية، وأورد عليهم تلك النكيتة التي رتبها، فما أجابه أحد، فلما أجابه القاضي بهاء الدين من غير تفكير ولا تثبت، وعكسها عليه تحير في أمره. وسافر لوقته، وهذا من المناقب التي ما سمعت لأحد قبله. وكانت الشعراء تقصده بالمدائح من سائر الأقطار لكثرة جوائزه، وكرم نفسه، فمن مدحه بقصيدة بديعة الأديب شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني، وأجازه عليها جائزة سنية وخلع عليه. ونقلت من خطه، وهي: وافى وأرواح العذيب بواسم ... والليل فيه من الصباح مباسم أهلاً بمن أسرى به وغدا له ... متأخر وهوى لنا متقادم غصن الشبيبة والملاحة يعذر ... المضني به ويلام فيه اللائم النضر من أعطافه وكتابه ... بلحاظه ولمهجتي هو هاشم

أمعنفين على الغرام وقلما ... يصغي لأوهام العواذل هائم هو ناظر متعشق وجوانح ... فيها مواطن للجوى ومعالم وهوى لقلبي عامراً أبا عادم ... صبري وأخو الملامة راغم هيهات أن أثني عناني والصبى ... نضر وغصن العمر رطب ناعم أو أشتكي حالي ومن أحببته ... أبداً لا خلاف القبول ملازم أو أختشي خطباً أراه ببلدة ... وبها بهاء الدين يوسف حاكم شرف أقيم بعبد شمس أسه ... وله قريش ذو الفخار دعائم لا يلتقي يوم المعاد سواهم ... متبسماً حيث الوجوه سواهم يا خير من نيطت عليه العلى ... ومن المهابة والجلال تمائم حاشا لعزمك أن تقوم لهمة ... والدهر عن إتمامها لك باسم أو أن يلوح وليس يخفى جاهل ... أو أن يثير وليس بعدك ظالم ما كان فداؤك من كريم ينثني ... كلا ولا ولدت سواك أكارم أبني الزكي سقيتم ورويتم ... ونفيتم والأكرمون فداكم ... إذا ما قيل هو أعربت ... أحساب أعراب لكم ومكارم من مثل جدكم ومثل أبيكم ... ما مثل جدكم ومثل أباكم حسب المرجى في المعاد شفاعة ... منكم ومن قبل المعاد نداكم يتسابق الأذهان في إدراككم ... ويفوت أسبقها أقل مداكم من للخلاف وللوفاق مسائلاً ... وحصائلاً والمعلى إلاكم لو أطلق اسم النيران لما سرى ... ذهن الذي هو سامع لواكم

أو كان وحي بعد أحمد منزل ... لبدت لكم آى به وعلائم عثمان جدكم وذلك حسبة ... وكفى وذلك حسبكم وكفاكم فهذه الأبيات تدل على بعض ما يستحقه من المناقب، ولقد جمعت بعض مناقبه، وهي مليحة في بابها، مستوفية لبعض الترجمة رحمه الله تعالى. ومدحه المولى شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء، وأرسلها إليه وقد سافر، وهي: لولا تذكره الحي الذي بانوا ... ما عاج نحو الحمى واستخبر البانا ولا رعى أنجم الجوزاء يحسبها ... لما استقلت بيوت العرب إظعانا ولا صبى للصبا يهفو فيأخذها ... روحاً ويبعثها الأحشاء نيرانا صب بكى الربع بعد الظاعنين وقد ... أبدى له القلب دون الطرف عرواناً مثل الكتاب محا آثار أسطره ... عهد قديم وأبقى منه عنوانا بانوا فلا زال دمع الطل بعدهم ... في الروض يملأ الأزهار أجفانا ولا ونى فيه معتل النسيم إذا ... أخفى السرى ساقه الأغصان إعلانا يحدث الدوح عن هز الصبي مرحاً ... أعطافهم فيميل الغصن نشوانا وكلما عاد عنه نحوهم علقت ... به الرياض وجرت منه أردانا وحملته إشارات لها نطقت ... معنى فرجع فيها الورق ألحانا هل جاد معناكم دمعي فغادره ... من بعد ظنت الأمواه غدرانا أعائد بعد ما شابت بشاشته ... على الحمى عيش غض كما كان

إياهم ألثم جيد الرئم ملتفتاً ... نحوي وأعطف غصن البان ريان وأجتلي من يكاد البدر يشبهه ... لو لم يكن يعتريه النقص أحيانا يبيح طرفي حمى خديه عارضه ... فيجتني منهما ورداً وريحانا وكلما وردت في روض وجنته ... مناهل الحسن عني عدت ظمآنا فاليوم بعد الرضى في القرب أقنع أن ... يزورني في البعاد الطيف غضبانا وكيف يرقد جفن بات ناظره ... أو يطوف الطيف طوفاً بات سهرانا إن لان أظهر سر الوجد بعدكم ... وأنثني سوى الدمع أو اضمرت سلوانا فعفت راح الهوى واخترت أن حليت ... كؤوسها وسها غير أهل الوجد خلانا لله خيف هوى تلقاء التقائه ... حتى لقد حسد الأحياء قتلانا نسخوا بأنفسنا فيه كأن ندى ... قاضي القضاة بهاء الدين إعلانا أبو الفرج بن يعقوب بن إسحاق بن القف الملقب أمين الدولة الحكيم الفاضل من نصارى الكرك. مولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وست مائة بالكرك، كان فاضلاً، ماهراً، بارعاً في الصناعة الطبية، ظهرت نجابته من صغره، وكان حسن السمت، كثير الصمت، وافر الذكاء، اشتغل بالطب على موفق الدين ابن أبي أصيبعة، وقرأ عليه حفظاً مسائل حنين والفضول، ومقدمة المعرفة لأبقراط؛ وعرف شرح معانيها من صغره، وقرأ عليه بعد ذلك في العلاج من كتب أبي بكر محمد بن زكريا الرازي ما عرف به أقسام الأسقام، وحشم العلل في الأجسام، وكان اشتغاله عليه بصرخد، ثم انتقل إلى دمشق، ولازم علماء عصره بدمشق،

مثل الشيخ شمس الدين عبد الحميد الحروشاني، والعز الضرير، والنجم بن السفاح، والموفق يعقوب السامري، وقرأ كتاب أقليدس على مؤيد الدين العرضي، وخدم بصناعة الطب في قلعة عجلون، ثم عاد إلى دمشق وخدم بقلعتها، وكان والده حفظه الأشعار، ونقل التواريخ والأخبار، ولما توفي الحكيم أمين الدولة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين وست مائة، رثاه سيف الدين أبو بكر المنجم بهذه الأبيات: يا مأتماً قد أتى بالويل والحرب ... رميت ركن الحجي والمجد بالعطب شلت يداك لقد أصميت أي فتى ... رحب الذراعين رياناً من الأدب أيتمت طلاب علم الطب قاطبة ... وعوضوا عنك بالأفعال في التعب حق علينا بأن نفديك أنفسنا ... لو كان ذاك لبادرناك في الطلب أبعد درسك يا ابن القف ينفعنا ... أقوال قوم عن التحقيق في حجب قد مات إذ مت حقاً بحر فلسفة ... طماً وجامع العلم في اللحود خبى وبالشفاء سقام مذ نويت وقد ... غدا لفجعتك القانون في صخب والهف قلبي وواحزني ويا أسفي ... ويا مصاباً دهاني فيك واحربى حزني عليك مذ الأيام متصل ... وكل عمري أقضيته مع الوصب أأطمع الآن في درس ومدرسة ... إني إذاً لخؤون غير ذي حسب لهفي على كهف علم كان يجمعنا ... دوي وأضحى رهين الحتف في الترب من أبيات. ولأمين الدولة المذكور من التصانيف: كتاب الشافي في أربع مجلدات، شرح كتاب من كتاب القانون لابن سينا ست مجلدات، شرح الفصول لأبقراط مجلدان، جامع الغرض مجلد، المباحث العربية،

السنة السادسة والثمانون وستمائة

مقالة حفظ الصحة، كتاب العمدة في صناعة الجراح في عشرين مقالة: عشرة علم وعشرة عمل. آخر الجزء. السنة السادسة والثمانون وستمائة إستهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة. والملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بالديار المصرية، وقد جهز طائفة من العساكر صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي إلى الشام لحصار صهيون، وبرزية، وانتزاعهما من يد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فوصل الأمير حسام الدين بمن معه من العسكر المصري دمشق في أثناء المحرم أو أواخره، واستصحب معه الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، وعسكر الشام، وتوجه إلى صهيون بالمجانيق، وقاسوا من الأوحال شدة فوصلوها، وشرعوا في حصارها، فكان الأمير شمس الدين قد استعد لهم، وجمع إلى القلعة خلق كثير من رعية بلده، وبعد منازلته بأيام توجه الأمير حسام الدين إلى حصن برزية، وحصره، واستولى عليه، وهو مما يضرب المثل بحصانته، ففتحه، ووجد فيه خيولاً منسوبة للأمير شمس الدين وغير ذلك، فلما فتح لانت عريكة الأمير شمس الدين، وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها، فأجابه الأمير حسام الدين طرنطاي إليها، وحلف له بما وثق به من الأيمان، ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهراً واحداً، وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وظهر، وحضر بنفسه

وأولاده، وعياله، وأتباعه، وأشياعه إلى دمشق، ثم توجه إلى الديار المصرية صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي، ووفى له بجميع ما حلف عليه، ولم يزل يذب عنه أيام حياته أشد ذب، وأعطي بالديار المصرية خبز مائة فارس، وبقي وافر الحرمة إلى آخر الأيام المنصورية، وانتظمت صهيون وبرزية في سلك الممالك المنصورية، وهما من أحصن القلاع وأشدهما منعة. وفي خامس عشر المحرم ولي قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن الخوبي قضاء القضاة بالشام عوضاً عن قضاء القاهرة، وسافر إلى دمشق من القاهرة في ثالث عشر صفر، وكان وصوله دمشق يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وحكم ليومه بالمدرسة العادلية، واستمر بنيابته الشيخ شرف الدين أحمد بن المقدسي، وقرئ تقليده يوم الجمعة بالجامع. وفي سابع وعشرين شهر رجب سافر الملك المنصور سيف الدين قلاوون من القاهرة قاصداً الشام، فلما وصل غزة، أقام بتل العجول إلى شوال، ثم رجع إلى القاهرة، ودخل القلعة يوم الاثنين ثالث عشر شوال، وكان استناب الأمير علم الدين سنجر الشجاعي. وفي شهر رمضان وصل إلى دمشق بريدي من الديار المصرية بمرسوم يتضمن طلب سيف الدين أحمد السامري بسبب مرافعة ناصر الدين محمد بن المقدسي له، فإنه كان توجه لمرافعة قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن الزكي رحمه الله، فلما وصل الديار المصرية بلغه وفاته، فتوصل

بشمس الدين الأتابكي، ودخل على الشجاعي، وحدثه في معنى ابنة الملك الأشرف موسى بن العادل رحمه الله وأنها باعت أملاكاً جليلة بأيسر ثمن، وعمل يسفهها محضراً شهد فيه أراذل، وثبت عند ابن مخلوف المالكي، ولم يوافق على ذلك غيره، ثم إن الملك المنصور سيف الدين قلاوون شهد عنده أن الملك الصالح نجم الدين أيوب حجر عليها، وأثبتوا ذلك في وجه السامري، وأبطلوا جميع ما باعته، وأخذوا من السامري حزرما. وادعوا عليه بمغلها عشرين سنة، وأخذوا منه بسبب المغل سبعة عشر سهماً بقرية الزنبقية بمبلغ قيمته تسعين ألف درهم، وأخذوا منه مائة ألف درهم تكملة مائتي ألف درهم. وفيها توفي: إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن المحسن بن محمد بن المهذب أبو إسحاق السلمي الشافعي المنعوت بالشمس. ولي خطابة جامع التوبة ظاهر دمشق بعد وفاة أخيه بدر الدين المقدم ذكره في هذا الكتاب، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته. فكان يقول في خطبته: أين سام! وأين حام! وأين عز الدين بن عبد السلام! فتحدث الناس فيه بسبب ذلك، فدخل على قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكي رحمه الله فكتب في حقه ورقة مضمونها: " الله ولي التوفيق، يقول الفقير إلى الله تعالى يحيى بن الزكي: إنني حضرت

صلاة القاضي الأجل الإمام العالم شمس الدين ولد سيدنا قاضي القضاة شيخ العلماء عز الدين بن عبد السلام أيده الله تعالى، وأمتع ببقاء ولده فسمعته خطب خطبة حسنة بليغة وجلت لها القلوب، وذرفت العيون، وأدى أداء حسناً بفصاحة، وطلاقة لسان، وضبط الإعراب، ووقوف على مقاطع الكلام، وإتيان الفرائض، وتوفية السنن، ثم صلى صلاة حسنة، أكمل فروضها، وأتى بسننها، وأحسن أداء القراءة فيها، وأوجز في خطبته، وأطال الصلاة غير ممل في صلاته، وذلك ليس ببدع منه، فإنه نشأ في حجر العلم، وغذى بدر الورع والزهد، فنفع الله تعالى به، وألهم ولي الأمر، وأعانه الله تعالى على ما ولاه من الإحسان إليه، والعاطفة عليه، بمنه وكرمه ". وكان الشمس المذكور يتكلم بكلام مسجوع يشبه سجع الكهان، ويدعي أنه يلقى إليه من الجن، وتمانى الوعظ، فكان فيه منحط الرتبة، وبلغ والده شيخ الإسلام عز الدين رحمه الله، فورد كتابه إلى بعض أصحابه، وفيه: بلغني أن هذا الولد المتخلف إبراهيم قد صار عضة للناس، فترك ما كان يعانيه من ذلك، وكان يترفع في المجالس بسبب والده رحمه الله، فعمل النجم ابن إسرائيل في ذلك: تصدر البطرخل ... وهو الأقل الأذل فلا رعى الله شيخاً ... به علينا بذل وكان الشمس ينبز بالبطرخل وغيره من هذا الجنس، وكانت وفاته بالعقيبة ظاهر دمشق في ليلة الأحد تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقابر باب الصغير

رحمه الله تعالى، ومولده سنة إحدى عشرة وست مائة. أحمد بن عمر أبو العباس شهاب الدين الأنصاري المرسي المالكي الشيخ العارف. كان قطب زمانه وعلامة أوانه في العلوم الإسلامية، وله القدم الراسخ في علم التحقيق، والكرامات الباهرة. وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: أبو العباس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض. وقال أبو العباس: رأيت عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما علامة حب الدنيا؟ قال: خوف المذمة، وحب الثناء. وكان يقول: والله! ما دخل بطني حرام قط. وكان يقول: الورع من ورعه الله تعالى. وقال: عزم علينا بعض الصلحاء بالإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعة من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان ذلك الوقت، بل وصف لنا المكان فتجارينا، ونحن خارجون الكلام في الورع، فكل قال شيئاً، فقلت لهم: الورع من ورعه الله تعالى. فلما أتينا البستان، وكان زمن التوت، كلهم أسرع إلى الأكل، وأكلت، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجداً في بطني، فأرجع فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مراراً، فجلست فلم آكل شيئاً وهم يأكلون، وإذا بإنسان يصيح: كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغر إذني! فإذا هم غلطوا بالبستان، فقلت لهم: ألم أقل لكم: إن الورع من ورعه الله تعالى؟ وقال لرجل جاء من الحج: كيف كان حجكم؟ فقال ذلك الرجل: كثير الماء سعر كذا وكذا، فأعرض

الشيخ عنه، وقال: تسألهم عن حجهم وما وجدوا من الله تعالى من علم ونور وفتح، فيجيبون برخاء الأسعار وكثرة المياه، حتى كأنهم لم يسألوا إلا عن ذلك! توفي إلى رحمة الله تعالى ورضي عنه بالإسكندرية في سنة ست وثمانين وست مائة. الخضر بن الحسن بن علي أبو العباس برهان الدين السنجاري الزرزاري الشافعي. كان من الفضلاء الرؤساء الأعيان. مولده سنة ست عشرة وست مائة، وتوفي يوم الأربعاء عاشر صفر بمنزله بالمدرسة المعزية بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى بمدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين رحمه الله المجاورة للإمام الشافعي رحمة الله عليه. ولي القضاء بالقاهرة عشرين يوماً، وكان ولي القضاء بمصر في دولة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخوه بدر الدين قاضي القاهرة، وبقي على ذلك إلى أيام الملك الظاهر، فتخيل منه الوزير بهاء الدين، وسعى إلى أن عزل عن القضاء، وضرب، وحبس، وبقي معزولاً فقيراً، ليس بيده سوى مدرسته المعزيه. فلما مات بهاء الدين في آخر سنة سبع وسبعين، كان الملك السعيد بالشام، فسير له تقليداً بالوزارة، ورسم له أن يستخرج من أولاد بهاد الدين ما قرر عليهم من الأموال فلم ينتقم منهم، ولا قابلهم بما فعل به الصاحب بهاء الدين، بل أحسن إليهم غاية الإحسان، وبقي على وزارته إلى أن سلطن الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله فأقره عليها إلى أن تولي الأمير علم الدين الشجاعي شد الدواوين، فسعى في عزله، وضربه، وبقي معزولاً إلى أن مات ابن الأصفوني الوزير، فأعيد إلى

الوزارة وبقي مدة، ثم سعى الشجاعي في عزله، وضربه، وحبسه، ثم أفرج عنه، ولما توفي قاضي القضاة بهاء الدين يوسف إلى رحمة الله تعالى، عين لقضاء الشام، فحصل التعصب عليه، وولي شهاب الدين الجويني، وولوه عوض الخويي في قضاء القضاة. فبقي نحو عشرين يوماً، فتوفي، وقيل: إنه سم، وكان رحمه الله حسن السيرة والطريقة، متوفراً على قضاء حوائج الناس رحمه الله تعالى، قال قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن صصرى: كتبت إليه في أثناء تهنئته عند ولايته القضاء بالديار المصرية في المحرم سنة ست وثمانين وست مائة هذه الأبيات: وهنا مصر وأهلها وبلادها ... بالفضل والفخر الرفيع الشان فهي التي شرفت وشرف أهلها ... بمليك رق الجود والإحسان أضحوا متى جحدوا الحسود فخارهم ... قام الدليل عليه بالبرهان وقال: ولي برهان الدين القضاء بالقاهرة وأعمالها. وتدريس المدرسة المنصورية القطبية مضافاً إلى ما بيده من تدريس المدرسة المعزية، ومدرسة الإمام الشافعي رحمة الله عليه بالقرافة الصغرى، ومدرسة القاضي بدر الدين، وخلع عليه. وباشر منتصف المحرم سنة ست وثمانين، وتوفي في تاسع صفر، فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوماً، وولي بعده القضاء والتدريس بالمنصورية، والشافعي، والقطبية القاضي تقي الدين بن بنت الأعز يوم وفاته، وخلع عليه، وباشر ليومه مضافاً إلى ما بيده وهو القضاء بمصر وأعمالها، والخطابة بالجامع الأزهر، وتدريس الصالحية ونظرها، والشريفية،

ونظر الخزانة، والنظر على أولاد الملك الظاهر ودواوينهم، وجميع ما كان للصاحب برهان الدين مباشرة من القضاء والمدارس سوى المعزية والبدرية بالقرافة، فإن نظرهما لورثته، ورتبهم أن يكون تدريسها لهم ويقيموا عنهم فيها نائباً إلى أن تأهلوا. سليمان بن بليمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن بليمان أبو الربيع شرف الدين الهمذاني الأصل الرعياني المولد الإربلي المنشأ الشاعر المشهور صاحب النوادر والزوائد. كان من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله تعالى قدم دمشق واستوطنها إلى أن توفي بها في ليلة الجمعة عاشر صفر سنة ست وثمانين وست مائة. مولده سنة ست وتسعين، وقيل: سنة تسعين وخمس مائة. ذكره شرف الدين بن المستوفي وزير إربل، وصاحب تاريخها. فقال: أبو الربيع سليمان بن بليمان بن أبي الجيش أبوه صائغ، وهو صائغ من أنشاء إربل، وهو ممن ولد بها، له طبع حسن في نظم الشعر، ويحفظ منه جملة، وله بديهة حسنة، وأجوبة مسكتة، أنشدني لنفسه: رويدك إن عذلك غير مجد ... فلا تذكي بقولك نار وجدي ففي أذني وقر عن سماع الملام وفي الهوى عني ورشدي عذولي لا تزد بلواي بلوى ... فسقمي قد تجاوز كل حد

وليس من المروءة عذل صب ... تطير بلبه نفحات نجد أسير لا يفك له قياد ... بنرجس مقلة وبورد خد يعيد غرامه ذكر الليالي ... التي سلفت بنعمان ويبدي ألا يا صاحبي إن كنت ترعى ... مواثيقي الأولى وقديم عهدي علام إذا تألق برق نجد ... يؤرقني خلاف الركب وجدي واسكب في تلمعه شؤوناً ... تفوق السحب إذا هطلت برغد وإن نسمت نسيم الغور تهدي ... إلى أرنج حوذان ورند أو ارتفعت بأعلى الغور نار ... تؤرقني على قرب وبعد أرحني صاح من ذكر البوادي ... وحل عن القباب قباب سعد فقد ملكت بنو الأتراك رقي ... بهزل من تجنيهم وجد ظباً صرعت أسود الغاب فاعجب ... لآرام لأسد الغاب تردي يدور دجىً أقلتها غصون ... غنوا عن كل خطي بقد تحل عزيمتي من أن يصدوا ... بحل من بنودهم وشد كلفت بهم ولا كلفي بمولي ... أمير البدر في حل وعقد جدير المكرمات أبو العطايا ... إلى طرق الندى من ضل يهدي فكم ستر لعرس الدين سارت ... عن العافين من شكر وحمد له أيد على كل البرايا ... ولا سيما خلاف الناس عندي

سخا في المكرمات جدود صدق ... صناديد الوغى وثناة مجد لهم في المبتدا حكم الرواسي ... ويوم الروع سطوة كل ورد إذا ورد الذي لو لاه ضاقت ... لدي مذاهبي وأسبع وردي ومن بمديحه ذهبت نحوسي ... وأقبل حيث يممت سعدي أتاك العيد يأذن بالبقاء الطويل وكل إقبال وجد تهن به ودم ما دام رضوى ... على رغم الحسود وكل ضد قال أبو البركات: وأنشدني أيضاً لنفسه: قم يا أخا المكارم.... نسعى ... لارتشاف الطلي وغصن الخدود واغتنم غفلة الزمان وحاذر ... أن تبيع الموجود بالمفقود وأنشدني الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجا رحمه الله للمذكور يهجو الشهاب بن التلعفري وقد بلغه أنه قامر بخفافه وأنشدها ابن بليمان الملك الناصر يوسف بن محمد رحمه الله تعالى: يا مليكاً فاق الأنام جميعاً ... منه جود كالعارض الوكاف والذي راش بالعطايا جناحي ... وتلافى بعد الإله تلافى ما رأينا ولا سمعنا بشيخ ... قبل هذا مقامر بالخفاف ونهاكم يدق في كل يوم ... في قفاه والرأس والأكتاف

أسود الوجه أبيض الشعر في لو ... ن سحيم في قبحه وخفاف يدعي نسبة إلى آل شيبا ... ن وتلك القبائل الأشراف وهمو ينكرون ما يدعيه ... فهو والقوم دائماً في خلاف مثل نجد لو استطالت لقالت ... ليس هذا الدعي من أكناف فابسط العذر في هجاء رقيع ... عادل عن طريقة الإنصاف من أبيات. وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ويهنئه بعيد النحر: يا قمراً قلبي له منزل ... قد رق لي في حبك العذل فضل معني فيك ذو لوعة ... يعرب عنها دمعه المهمل وأرني لبلوى دنف حاله ... مفضل إيضاحه محمل وأصغي لشكوى كلف ذي جوى ... يدبل من أيسره ويذبل يا طلعة البدر المنير الذي ... في كل يوم حسنه يكمل ومن له طرف إذا ما رنا ... يعار منه الظبية الغزل قدك هذا أم غصن مائس ... تثني الصبا عطفيه والشمأل إذا تثنى من دلال الصبي ... يحسده العسالة الذبل ولحظك الساحر أم صارم ... مهند في جفنه يقبل يا رشا الأتراك عطفاً على ... خلف غرام داؤه معضل ناظرك الفاتك في ... ... فعلك أم حاجبك المقفل

أم جاء في فترة أجفانك ... المرضى بقتلى صدغك المرسل إلى متى تمطلني دائماً ... وحجة الموسر لا تقبل وكم ديون لي تقتضي ... وعن غرامي فيك لا تسأل هل لليالي سلفت عودة ... ونحن في برد الصبي نرفل أيام لا يحذر من كاشح ... بسر أخبار الهوى ينقل والعيش غصن مورق عوده ... وأنت يا كل المنى مقبل وإذ معاني الهوى مأهولة ... وليل فودى حلل أليل وعطرت أرجاؤه نسمة ... تضوع من أنفاسها المندل وروضة منه الثرى ديمة ... ترضعه أخلافها الحفل يحلى بذي نخل العزيز الذي ... يخجل منه العارض المسبل الملك الناصر من جاره ... دون ملوك الأرض الميل يجري ندى عذب لوراده ... ليس يضام دونه منهل طوى الحجى ما لملوك الأرض ... غير حجاه أبداً معقل شمس على أنجم حسارة ... عابرة من نوره أفل يعدل في الحكم ولكنه ... عن طرق المعروف لا يعدل كم سد ... لولاه وكم ... حل لنا من قوله المشكل ليث إذا ما صار في معزل ... دان له لبث الشرى المشبل تعيد ليل النقع أسيافه ... صبحاً إذا ما ازدحم الجحفل

إذا التقى الجمعان في مأزق ... له سماء شادها القسطل وطاشت الألباب في ساعة ... يراع فيها القلب والحول وقامت الحرب على ساقها ... إذا كل قلب ثابت يذهل أقبل كالسيل على سابح ... كأنه من تحته بر أجدل فاعجب لبحر ضمه في الوغى ... نهى له في كفه جدول ينقط في وجهه للعدى ... سمره وبيضه من بعدها يشكل يا مالكاً راش جناحي ولي ... من جوده ماضٍ ومستقبل ظلت ملوك الأرض طراً ... جئت أخيراً أو هم أول وسدت من مجدك فوق الذي ... بناه آباؤك أو أثلوا فالناس في عصرك في جنة ... قطوفها دانية ميل قد بلغوا فيه الذي حاولوا ... وأدركوا منك الذي أملوا فاستجل بكراً نظمها ... رائق بالفضل لها جرول عذراء ينسيك الدمى حسنها ... بنفسها أعينها تكحل لو اجتبت في آل حرب كما ... نكب عن ألفاظها الأخطل وأقبل عن داع لكم مخلص ... رضاك يرجو وله يؤمل سعى به ذو عزة قوله ... كل على الأسماع مستثقل ورام أن يحمل من قدرة ... وعندك الباطل لا يقبل وكيف يلغى عندكم شاعر ... كسيف أحسابكم صيقل

عبد ولاه لم يزل شاكراً ... ليس له عن ظلكم معدل فاسعد بعيد النحر واسلم له ... لا زلت في ثوب الهنا ترفل وذكره الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله في تاريخ حلب، فقال: سليمان بن بليمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن بليمان الهمذاني الأصل الإربلي المولد، أنشدني من لفظه لنفسه: يا شرف الدين الذي لم يزل ... بمجده المنصوب في رفع والكامل الخير الذي لم يزل ... يصدق فيه خبر المسمع رب الصناعات الحسانات ... التي تجمعت في أحسن الصنع طال ندى التذكار في مدة ... لخاطري في النظم أو طبع مرهفة كالقضيب هندية ... تحيل بين الأصل والفرع تسطو على أرقش ماضي السنا ... مؤهل الضر والنفع إذا جرى في طرسه مسرعاً ... فات وميض البرق في اللمع عذرك في تاريخها واضح ... وذاك محمول على الوضع لو وصت كنت معجباً ... لأنها من آلة القطع فحلها واستحل عينيه ... تفرق عن السفح والجزع وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وما زالت الركبان تخبر عنكم ... أحاديث كالمسك الذكي بلا مين إلى أن تلاقينا فكان الذي وعت ... من القول أذني دون ما أبصرت عيني

عبد العزيز بن عبد المتعم بن علي بن الصيقل أبو العز عز الدين الحراني. كان مسند وقته، وله السماعات العالية، انفرد بها، وكان رجلاً جيداً خيراً، توفي بالقاهرة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رجب، ودفن بالقرافة رحمه الله. عبد الله بن محمد بن محمود بن الفقاعي صفي الدين المقريء. كان نادرة وقته في القراءة لم يسمع له ند بحسن قراءته وطيبها. وكان قد بلغ الثمانين ولم يتغير صوته، وكان يقرأ عشراً بدار الحديث كل ميعاد، والعجب أنه ما يقرأ الا ما يناسب ما يقرأ من الأحاديث، وهذا يعد من مناقبه، وكان إمام مقصورة الحنفية بدمشق، والناس يزدحمون على قراءته، وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشرين المحرم، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. علي بن يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب علاء الدين ابن الملك الناصر. كان شاباً حسناً، توفي في تاسع عشرين المحرم يوم الخميس، وأخرج ميتاً من قلعة الجبل بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكان محبوساً بها رحمه الله تعالى. محمد بن عباس بن محمد بن أحمد بن عبد بن صالح أبو عبد الله الربعي الدنيسري المنعوت بالعماد. مولده بدنيسر في سنة ست وست مائة، وتوفي بدمشق في يوم الثلاثاء ثامن صفر سنة ست وثمانين وست مائة، ودفن يوم الأربعاء بمقابر باب الصغير. روى عن ابن المقير، وعن جماعة من أصحاب السلفي وغيرهم. وله معرفة بالطب، وإلمام بالأدب، وينظم الشعر،

وعنده حسن المحاضرة، ومداخلة للرؤساء والأعيان، وعلى ذهنه قطعة من التاريخ وأيام الناس، ولازم بهاء الدين زهير المقدم ذكره رحمه الله، وكان له به اختصاص، اجتمعت به مراراً، ومن شعره: من أعلم القلب أنى كلفت به ... حتى غدا منه في حزن وفي كرب يشكو الغرام ولا يشكو مرارته ... مبلبل البال بين الجد واللعب رام العواذل سلواني فقلت لهم ... والدمع يقطر من جفني عن لهب يا للرجال أنا المضني بفرط هوى ... فلم عذولي لا تحملوا من التعب لم أنس ليلة وافى وهي في يده ... حمراء قد عصرت من رائق العنب جنى بها بعد ما جنى بطلعته ... وذاقها فحلت من ذلك الشنب ودار بالطاس والكأسات في يده ... قد زينت بالحميا ثم بالحبب ونحن في مجلس حف السرور به ... كأننا منه فوق الأنجم الشهب ظبي أقام بقلبي وهو يطلبه ... مع الزمان وهذا غاية العجب مورد الخد معسول المراشف ممشوق القوام كثير الدل والغضب وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كم ليلة بت أستحلي المادم على ... وجه الحبيب وبدر التم في السجف حتى إذا أخذت منه المدامة ... والواشون في غفلة عنا فلم نخف عانقته عندما قبلت مبسمه ... حباً له كاعتناق اللام للألف محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الكناني الأصل بدر الدين. الإمام العلامة في علوم النحو والعربية والبيان مع الذكاء المفرط

وجودة الذهن، ولطافة الأخلاق، وحسن العشرة، وله مشاركة جيدة في الفقه، والأصول وغير ذلك، أقام ببعلبك مدة سنين ثم سكن دمشق وتصدر للاشتغال بعد وفاة والده الشيخ جمال الدين رحمه الله. وكان والده إمام عصره في هذا الشأن، وقد تقدم ذكره في سنة اثنتين وسبعين وست مائة، وسمعت جماعة من الفضلاء العارفين بهذا الفن إن ولده الشيخ بدر الدين المشار إليه التحق به، وبرز عليه في بعض هذه العلوم. وكان كثيراً ما يعتريه قولنج فيجد منه ألماً شديداً، واعتراه قبل وفاته بأيام فكان سبب موته، وتوفي بدمشق يوم الأحد ثامن المحرم. وكان دفنه يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى ولم يترك بعده في هذا العلم مثله في الشام مما علمنا. وله تصانيف مفيدة مختصرة، وشروح حسنة رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن الميمون القيسي الشاطبي المعروف بابن القسطلاني، قطب الدين أبو بكر بن أبي العباس ابن أبي الحسن التوريزي الأصل، المصري المولد، المكي المنشأ، الشافعي الفقيه المحدث الإمام العلامة مجموع الفضائل. كان إماماً عالماً فاضلاً ورعاً زاهداً، لم يكن في وقته مثله. وكان في وقته مثله، وكان له صيت حسن، وتوجه وانقطاع إلى الله تعالى، وكان شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وبيده الوظائف الدينية، وكان من مشايخ العصر المشهورين بسعة العلم. مولده يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع عشرة وست مائة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر المحرم بالقاهرة ودفن من الغد

بالقرافة الصغرى، وكان قد سمع من مشايخ عصره، ونظم الشعر الحسن، فمنه ما أنشده الأمير علم الدين سنجر الدويداري في شهور سنة سبع وخمسين وست مائة: إذا كان أنسى في التزامي لخلوتي ... وقلبي عن كل البرية خال فما ضرني من كان لي الدهر قالياً ... ولا سرني من كان في موال وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ألا هل لهجر العامرية إقصار ... فتقضي من الوجد المبرح أوطار ويشفي عليل من عليل موله ... لنجم من الجوزاء في الليل سمار أغار عليه السقم من جنباته ... وأعزاه بالأحباب نأي وتذكار ورق له مما يلاقي عذوله ... وأرقه دمع يرقرق مدرار يحن إلى برق الأبيرق قلبه ... ويخفق إن ناحت حمائم وأطيار عسى ما مضى من حفظ عيشي على الحمى ... يعود قلبي فيه نجوم وأقمار عدمت فؤادي إن تعلقت غيرها ... وإن زين السلوان لي فهو غدار ولي من دواعي الشوق في السخط والرضى ... على الوصل والهجران ناه وأمار أأسلو وفي الأحشاء من لاعج الأسى ... لهيب أسال الروح فالصبر منهار كان والده قطب الدين من سادات المشايخ وزهادهم، روى عن ابن بري وغيره. سئل عن مولده فقال: في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مائة بمصر.

وتوفي رحمه الله بمكة شرفها الله تعالى في ليلة الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وست مائة، ودفن من الغد بالمعلى، وسمع من مشايخ الطريق، وأخذ عنهم، وكان خصوصه بالشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي الهاشمي الصالح العارف المشهور الذي لم يكن في زمانه مثله. وكان كثير الابتلاء والرضى به، وروى عنه شيئاً كثيراً من كلامه مما رواه عنه أنه قال: من لم يدخل في الامور بالادب لم يدرك مطلوبه وسمعه يقول: الذم الأدب وحدك من العبودية، ولا تتعرض لشيء، فإن أرادك لشيء هيأك له. وسمعه يقول: العاقل يأخذ من الأمور ما صفا، ويدع التكلف فإنه تعالى يقول: " وإن يردك بخير فلا راد لفضله "، وسمعه يقول: إذا أخذت في الأمور فاختر أيسرها، وإلا أسأت الأدب. وسمعه يقول: النافلة لمن أكمل الفريضة. وسمعه يقول: من لم يعرف الزيادة من النقصان في هذه الدار فهو محجوب. وسمعه يقول: من لم يراع حقوق الإخوان يترك حقوقه وحرم بركة الصحبة. وسمعه يقول: من لم يكن له مقام من التوكل، كان ناقصاً في توحيده. وسمعه يقول: لا يصلح التعلم في هذا الشأن إلا لمن يعز عليه فرضه، وخاف العقوبة من ترك الكلام. وسمعه يقول: من نظر إلى المشايخ بعين العصمة حجب رؤيتهم. وروى عنه شيئاً كثيراً رحمة الله عليه. وكان الشيخ أبو عبد الله من السالكين الأبرار الأولياء، ذكره المرحوم تاج الدين بن الأثير في مختصره، فقال:

أبو عبد الله محمد بن أحمد القرشي الهاشمي المغربي من أهل الجزيرة الخضراء، توفي بالقدس الشريف سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وعمره خمس وخمسين سنة، وقبره بالقدس، والجزيرة الخضراء في بر الأندلس. مفضل بن إبراهيم بن أبي الفضل رضي الدين الدمشقي الطبيب المشهور بالفضيلة التامة. كان طبيباً حاذقاً، حسن المعالجة ديناً ورعاً صالحاً، حسن الاعتقاد، كثير المحبة للخير، سافر إلى البلاد بركة وخدمة، وحصل منه أموالاً كثيرة نهبت عند عوده إلى دمشق، وعرضت عليه رياسة الأطباء فأباها، وكان روى عن مشايخ وقته، وخطه في الإجازات كثير، ومولده سنة عشر وست مائة، وتوفي ليلة الأربعاء ثالث عشر صفر، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله تعالى، وكان له في النظم يد، فمن ذلك: الشمعة قالت بلسان الحال ... البعد عن الشهد برء أوصالي ها قلبي كيف حاله أنت ترى ... النار به تذيب قلبي البالي آخر الجزء السابع عشر من ذيل تاريخ مرآة الزمان يتلوه الجزء الثامن عشر: السنة السابعة والثمانون وست مائة استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة. كان الفراغ من كتابة هذا الجزء في يوم الخميس لثمان خلون من شوال سنة 1115 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فغفر الله لكاتبه، ولقارئه، ولسامعه، ولوالديه، وللمسلمين، ومن دعا له بالمغفرة، آمين آمين آمين؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم!

§1/1