ذوق الصلاة عند ابن القيم

عادل الزرقي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا وبعد: فهذا فصل نفيس في جزء لطيف، تكلم فيه ابن القيم الجوزية رحمه الله عن صفة الصلاة في مواضع من كتبه، بطريقة مبتكرة، لم يسبق إليها فيما أعلم. حيث تكلَّم عن لُبَّ الصلاة ومخها، وهو الخشوع من التكبير إلى التسليم، فأتى فيه بكل عجيب ومفيد. أما الموضع الأول: فذكره في طيَّات كتابه عن مسألة السَّماع (¬1) وقال في آخره: «فهذه إشارة ما، ونبذة يسيرة جدًا في ذَوق الصلاة». والموضع الثاني: ففي كتابه عن الصلاة وحكم تاركها (¬2) ولما كان هذا الفصل على نفاسته مغمورًا بين تلك الصفحات، كان من المفيد جدًا إفراده ليعمَّ نفعه المسلمين كافة, معنونًا بكلمات تناسب فقراته. والموضع الثالث: في رسالة له إلى أحد إخوانه. وعن كلمة الذوق قال ابن تيمية رحمه الله: «فلفظ الذوق يستعمل في كل ما يحسُّ به ويجد ألمه أو لذته» (¬3). ¬

(¬1) طبعه دار العاصمة بالرياض عام 1409 هـ بتحقيق راشد الحمد، وقد أثبت أهم تعليقاته على النص. (¬2) طبعته مؤسسة الرسالة عام 1405هـ بتحقيق تيسير زعيتر وقد أثبت أهم تعليقاته على النص، مع تصويب ما يلزم بطبعة دار ابن كثير بتحقيق محمد نظام الدين. (¬3) الفتاوى (7/ 109).

وقال أيضًا: «فهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يُذْكرُ من الوَجْد والذَوْق الإيماني الشرعي دون الضلالي البدعي» ففي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا». وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» (¬1). ونقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية قال: «إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتَّهمْه فإن الربَّ تعالى شكور». قال ابن القيم معقبًا عليه: «يعني أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول» (¬2) أ. هـ كلامه. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. كتبه عادل بن عبد الشكور الزُّرقي ¬

(¬1) الفتاوى (10/ 48). (¬2) مدارج السالكين (منزلة المراقبة).

الرسالة الأولى

الرسالة الأولى قال ابن القيم رحمه الله

حقيقة الصلاة

حقيقة الصلاة لا ريب أن الصلاة قرة عيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمته المهداة إلى عبيده هداهم إليها وعرفهم بها رحمة بهم وإكرامًا لهم؛ لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم، بل منه منًا وفضلاً منه عليهم، وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعمه بحبه وابتهاجه بالقيام بين يديه وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى تقع على الوجه الذي يرضاه. الصلاة مأدبة وغيث ولما امتحن سبحانه عبده بالشهوات وأسبابها من داخل فيه وخارج عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه إليه كل يوم خمس مرات، وجعل كل لون من ألوان تلك المأدبة لذة ومنفعة ومصلحة لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة ليست في اللون الآخر؛ لتكمل لذة عبده في كل لون من ألوان العبودية، ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه, وليثبه عليه نورًا خاصًا وقوة في قلبه وجوارحه وثوابًا خاصًا يوم لقائه.

الصدور من المأدبة

الصدور من المأدبة فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه وَخَلَعَ عليه بخلَع القبول وأغناه؛ لأن القلب كان قبل قد ناله من القحط والجدب والجوع والظمأ والعُري والسقم ما ناله، فأصدره من عنده وقد أغناه عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه. تجديد الدعوة ولما كانت الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا، جدد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا مَنْ بيده غيث القلوب وسقيها مستمطرًا سحائب رحمته؛ لئلا ييبس ما أنبتته له تلك من كلأ الإيمان وعشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات والقلب في استسقاء واستمطار، هكذا دائمًا يشكو إلى ربه جدبه وقحطه وضرورته إلى سقيا رحمته، وغيث بره فهذا دأب العبد أيام حياته.

الغفلة قحط

الغفلة قحط فإن الغفلة التي تتنزل بالقلب هي القحط والجدب، فما دام في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة واقع عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلة واستحكمت صارت أرضه ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات فيها من كل جانب كالسمايم (¬1). عاقبة الغفلة وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرضه وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبست عروقها وذبلت أغصانها، وحبست ثمارها وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددت منها غصنًا إلى نفسك لم يمتد ولم ينقد لك وانكسر فحينئذ تقتضي حكمة قيم البستان قطع تلك الشجرة وجعلها وقودًا للنار. ¬

(¬1) السمايم: الريح الحارة. لسان العرب (12/ 304).

يبوسة القلب

يبوسة القلب فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره، ودعائه فتصيبه حرارة النفس، ونار الشهوات فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها والانقياد إذا قدتها، فلا تصلح بعد هي والشجرة إلا للنار: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]. مطر القلب فإذا كان القلب ممطورًا بمطر الرحمة كانت الأغصان لينة منقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، وأقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريه, فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البر؛ لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه فلم تنشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية.

استعمال الجوارح

استعمال الجوارح ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه، وطاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها وهيَّئت لها. والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام: أحدها: مَن استعمل تلك الجوارح فيما خُلقت له وأُريد منها، فهذا هو الذي تاجر مع الله بأربح التجارة وباع نفسه لله بأربح البيع، والصلاة وضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها. الثاني: مَن استعملها فيما لم تُخلَق له، ولم يُخلق لها، فهذا هو الذي خاب سعيه وخسرت تجارته، وفات رضى ربه عنه وجزيل ثوابه وحصل على سخطه وأليم عقابه. الثالث: مَنْ عَطَّلَ جوارحَه وأماتها بالبطالة، فهذا أيضًا خاسر أعظم خسارة، فإن العبد خلق للعبادة والطاعة لا للبطالة، وأبغض الخلق إلى الله البطال الذي هو لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة، فهذا كَلٌ على الدنيا والدين.

جوارح الطاعة

جوارح الطاعة فالأول: كرجل أُقْطع أرضًا واسعة وأُعين بآلات الحرث والبذار، وأُعطيَ ما يكفيها لسقيها، فحرثها وهيّأها للزراعة وبذر فيها من أنواع الغلال، وغرس فيها من أنواع الثمار والفواكه المختلفة الأنواع، ثم لم يهملها بل أقام عليها الحرس وحفظها من المفسدين وجعل يتعاهدها كل يوم فيصلح ما فسد منها، ويغرس عوض ما يبس وينفي دغلها ويقطع شوكها، ويستعين بمغلها على عمارتها. جوارح المعصية والثاني: بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض فجعلها مأوى للسباع والهوام ومطرحًا للجيف والأنتان، وجعلها معقلاً يأوي إليه كل مفسد ومؤذ ولص، وأخذ ما أعين به على بذارها وصلاحها, فصرفه معونة ومعيشة لمن فيها من أهل الشر والفساد.

جوارح البطالة

جوارح البطالة والثالث: بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل ذلك الماء ضائعًا في القفار والصحاري فقعد مذمومًا محسورًا. فهذا مثال أهل الغفلة، والذي قبله مثال أهل الخيانة والجناية، والأول مثال أهل اليقظة والاستعداد لما خلقوا له. فالأول: إذا تحرك أو سكن أو قام أو قعد أو أكل أو شرب أو نام أو لبس أو نطق أو سكت كان ذلك كله له لا عليه، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد. والثاني: إذا فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طرد وإبعاد وخسران. والثالث: إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط. فالأول يتقلب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة. والثاني: يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدي, فإن الله لم يملكه ما ملكه ليستعين به على مخالفته، فهو جان متعد خائن لله في نعمه، معاقب على التنعم بها في غير طاعته. والثالث: يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة وبهجة النفس وطبيعتها، لم يبتغ بذلك رضوان الله والتقرب إليه، فهذا خسران بَيِّنٌ إذ عطل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجارب. فدعا الله سبحانه الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.

وافد الملك

وافد الملك وكان سِرُّ الصلاة ولبها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره وَلَهًا بحديث النفس، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطئه وزلِله, مستمطرًا لسحايب جوده ورحمته, مستطعمًا له ما يقوت قلبه؛ ليقوى على القيام في خدمته، فلما وصل إلى الباب ولم يبق إلا مناجاة الملك التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك وأقله عنده قدرًا فآثره عليه وصيره قبلة قلبه، ومحل توجهه، وموضع سره، وبعث غلمانه وخدمه، ليقفوا في طاعة الملك، ويعتذروا عنه وينوبوا عنه في الخدمة، والملك شاهد ذلك ويرى حاله. كرم الملك ومع هذا فكرم الملك وجوده وسعة بره وإحسانه يأبى أن ينصرف عنه تلك الخدم والأتباع فيصيبها من رحمته وإحسانه. لكن فَرْقٌ بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين وبين الرضخ (¬1) لمن لا سهم له: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} والله سبحانه خلق هذا النوع الإنساني لنفسه واختصه وخلق له ¬

(¬1) الرضخ: العطية القليلة. انظر النهاية لابن الأثير (2/ 228).

سبب القرب

كل شيء كما في الأثر الإلهي: «ابن آدم خلقتك لنفسي, وخلقت كل شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له». وفي أثر آخر: «خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم، اطلبني تجدني، وإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء». سبب القرب وجعل الصلاة سببًا موصلاً له إلى قربه ومناجاته ومحبته والأنس به، وما بين صلاتين تحدث له الغفلة والجفوة والإعراض والزلات والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، وينحيه عن قربه، ويصير كأنه أجنبي عن العبودية ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو فأسره وغله وقيده وجنه في سجن نفسه وهواه, فحظه ضيق الصدر ومعالجة الهموم والغموم والأحزان والحسرات، ولا تدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمة ربه الرحيم به أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة مختلفة الأجزاء والحالات، بحسب اختلاف الأحداث التي جاءت من العبد وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.

طهارة القدوم

طهارة القدوم فبالوضوء يتطهر من الأوساخ ويقدم على ربه متطهرًا والوضوء له ظاهر وباطن، وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» (¬1). فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا. فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه إذ يخلص من الإباق بمجيئه إلى داره ومحل عبوديته. ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين. ¬

(¬1) الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه الترمذي، كتاب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء (1/ 77).

استقبال القبلة

استقبال القبلة والعبد كان في حال غفلته كالآبق عن ربه وقد عطل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلِق لها، فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه فإذا وقف بين يديه موقف العبودية والتذلل والانكسار، فقد استدعى عَطْف سيده عليه وإقباله عليه بعد الإعراض. وأمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام الذليل الخاضع المسكين المستعطف لسيده وألقي بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس خاشع القلب مطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ولا طرفه يمنة ولا يسرة بل قد توجه بقلبه كله إليه وأقبل بكليته عليه. حقيقة التكبير ثم كَبَّرَه بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه في التكبير لسانه فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه، فإذا اشتغل عن الله بغيره وكان ما اشتغل به أهم عندهم من الله كان تكبيره بلسانه دون قلبه.

دعاء الاستفتاح

فالتكبير: 1 - يخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية. 2 - ويمنعه من التفات قلبه إلى غير الله. فإذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء منعه حق قول الله أكبر والقيام بعبودية التكبير عن هاتين الآفتين اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله. دعاء الاستفتاح فإذا قال: «سبحانك اللهم وبحمدك» وأثنى على الله بما هو أهله، فقد خرج عن الغفلة التي هي حجاب أيضًا بينه وبين الله. وأتى بالتحية والثناء الذي يخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمجيدًا ومقدمة بين يدي حاجته، فكان في هذا الثناء من أدب العبودية ما يستجلب به إقباله عليه ورضاه عنه وإسعافه بحوائجه.

الاستعاذة بالله

الاستعاذة بالله فإذا شرع في القراءة قدم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان فإنه أحرص ما يكون على العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه واقتطاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطله عن القيام بين يدي الرب تعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه، وليحيي قلبه ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة. ولما علم سبحانه حسد العدو وتفرغه للعبد، وعجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه في صرفه عنه فيكتفي بالاستعاذة مؤنة محاربته ومقاومته، فكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو فاستعذ بي واستجر بي أكفكه وأمنعك منه. وقال لي شيخ الإسلام (¬1) قدس الله روحه يومًا: «إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب». فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُدَ منه فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة (¬2) وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، ¬

(¬1) هو ابن تيمية رحمه الله. (¬2) المونق: من الأنق وهو الفرح والسرور، ورياضه المونقة أي بساتينه التي تجلب الفرح والسرور.

القراءة

واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك, النفس والشيطان، والنفس منفعلة للشيطان سامعة منه فإذا بعد عنها وطرد لمَّ بها الملك وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها. القراءة فإذا أخذ في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو معرض عنه ملتفت إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بين يديه، فجعل يخاطبه الملك وقد ولاه قفاه أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة، فما الظن بمقت الملك لهذا، فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب العالمين وقيوم السماوات والأرض. وليقف عند كل آية من الفاتحة ينتظر جواب ربه له وكأنه سمعه يقول: حمدني عبدي حين يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقف لحظة ينتظر قوله: «أثنى علي عبدي» فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} انتظر قوله: «مجدني عبدي» فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر قوله: «هذا بيني وبين عبدي» فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر انتظر قوله: «هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل» (¬1). ¬

(¬1) إشارة إلى حديث أبي هريرة وأوله «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» وقد أخرجه مسلم كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (1/ 296).

طعم الصلاة

طعم الصلاة ومن ذاق طعم الصلاة علم أنه لا يقوم غير التكبير والفاتحة مقامهما، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلكل عبودية من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل من غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخصها. الحمد لله فعند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب تعالى فعلاً ووصفًا واسمًا, وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلاً ووصفًا واسمًا, فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه, منزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال، وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما فالكون كله ناطق بحمده، والخلق والأمر صادر عن حمده وقائم بحمده ووجد بحمده؛ فحمده هو سبب وجود كل موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، وإرساله رسوله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عمرت بأهلها بحمده، والنار عمرت بأهلها بحمده، وما أطيع إلا بحمده وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يحرك في الكون ذرة إلا بحمده، وهو المحمود

لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يوحده العباد، والإله الحق وإن لم يؤلهوه، وهو سبحانه الذي حمد نفسه على لسان القائل: الحمد لله رب العالمين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده» (¬1). فهو الحامد لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه الذي أجرى الحمد على لسانه وقلبه وإجراؤه بحمده. فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية الحمد. ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمد فإذا حمده على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده وهلم جرا. فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه كان ما يجب له من الحمد ويستحق فوق ذلك وأضعاف، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده. ومن عبودية العبد شهود العبد لعجزه عن الحمد وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو المحمود عليه إذ هو مجريه على لسانه وقلبه. ومن عبوديته تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرة وباطنة على ما يحب العبد وما يكرهه، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة وإن غاب عن شهود العبد. ¬

(¬1) إشارة إلى حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مسلم (404).

رب العالمين

رب العالمين ثم لقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية، وأنه كما أنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم وموجدهم ومفنيهم فهو وحده إلههم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم عند النوائب فلا رب غيره، ولا إله سواه. الرحمن الرحيم ثم لقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عبودية تخصها، وهي شهود عموم رحمته وسعها لكل شيء وأخذ كل موجود بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصة التي أقامت عبده بين يديه في خدمته يناجيه بكلامه ويتملقه ويسترحمه ويسأله هدايته ورحمته وإتمام نعمته عليه، فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء, كما أن حمده وسع كل شيء.

مالك يوم الدين

مالك يوم الدين ثم يُعطي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} عبوديتها ويتأمل تضمنها لإثبات المعاد، وتفرد الرب فيه بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين فيه العباد بأعمالهم في الخير والشر وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه. ولما كان قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إخبارًا عن حمده تعالى قال الله: «حمدني عبدي» ولما كان قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إعادة وتكريرًا لأوصاف كماله قال: «أثنى علي عبدي» فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد وتعداد أوصاف المحمود، ولما وصفه سبحانه بتفرده بـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو الملك الحق المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله، سمى هذا الثناء مجدًا فقال: «مجدني عبدي» فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة والجلال. إياك نعبد وإياك نستعين فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر جواب ربه له: «هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل» وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما ومَيِّزَ الكلمة التي لله والكلمة التي للعبد، وَفَقِهَ سرَّ كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَفَقِهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما والدعاء بعدهما, وَفَقِهَ

اهدنا الصراط المستقيم

تقديم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وتقديم المعمول على الفعل مع الإتيان به مؤخرًا، أوجز وأشد اختصارًا، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة، وعلم ما دفع كل واحدة من الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية، وكيف تدخله الكلمتان في صريح العبودية، وَعَلِمَ كيف يدور القرآن من أوله إلى آخره على هاتين الكلمتين بل كيف يدور عليهما الخلق والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمنتا لأجلَّ الغايات وأكمل الوسائل، وكيف جيء بهما بضمير الخطاب والحضور دون ضمير الغائب. اهدنا الصراط المستقيم ثم تأمل ضرورته وفاقته إلى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي مضمونه: 1 - معرفة الحق. 2 - وقصده وإرادته. 3 - والعمل به. 4 - والثبات عليه. 5 - والدعوة إليه والصبر على أذى المدعو. فباستكمال هذه المراتب الخمس تستكمل الهداية وما نقص منها نقص من هدايته.

أمور الهداية

أمور الهداية ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره من: 1 - أمور قد فعلها على غير الهداية علمًا، وعملاً وإرادة فهو محتاج إلى التوبة منها وتوبته منها هي الهداية. 2 - وأمور قد هدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها. 3 - وأمور قد هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها؛ لتتم له الهداية ويزاد هدى إلى هداه. 4 - وأمور يحتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثلما حصل له في ماضيها. 5 - وأمور يعتقد فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتثبت فيه ضده. 6 - وأمور من الهداية هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة يفعلها بها. 7 - وأمور منها هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها. 8 - وأمور منها هو غير قادر عليها ولا مريد لها فهو محتاج إلى خلق القدرة والإرادة له لتتم له الهداية.

الناس والهداية

9 - وأمور هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة وعملاً فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها. كانت (¬1) حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات وفاقته إليها أشد الفاقات، فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال كل يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمس مرات متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب. الناس والهداية ثم بَيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، فانقسم الخلق إذًا ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية: 1 - مُنْعَمٌ عليه بحصولها، واستمرار حظه من النعم بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها. 2 - وضال لم يُعْطَ هذه الهداية ولم يوفق لها. 3 - ومغضوبٌ عليه عرفها ولم يوفق للعمل بموجبها. فالأول: المُنعم عليه قام بالهدى ودين الحق علمًا، عملاً والضال منسلخ عنه علمًا وعملاً والمغضوب عليه عارف به علمًا منسلخ منه عملاً. ¬

(¬1) جواب قوله: «ولما كان العبد مفتقرًا ..».

مشروعية التأمين

مشروعية التأمين ثم شرع له التأمين عند هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته وحصوله وطابعًا عليه وتحقيقًا له، ولهذا اشتد حسد اليهود للمسلمين عليه حين سمعوهم يجهرون به في صلاتهم. الركوع ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع؛ تعظيمًا لأمر الله وزينة للصلاة وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حلية الصلاة، وزينتها، وتعظيمًا لشعائرها. ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن كالتلبية في انتقالات الحاج من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة كما أن التلبية شعار الحج؛ ليعلم العبد أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده. ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمته واستكانة لهيبته وتذللا لعزته، فثنى العبد له صلبه ووضع له قامته ونكس له رأسه وحنى له ظهره معظمًا له ناطقًا بتسبيحه المقترن بتعظيمه، فاجتمع له خضوع القلب وخضوع الجوارح، وخضوع القول، على أتم الأحوال وجمع له في هذا الذكر بين الخضوع والتعظيم لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد

الاعتدال من الركوع

وأن الخضوع وصف العبد والعظمة وصف الرب. وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل بحيث يمحو تصاغره كل تعظيم منه لنفسه ويثبت مكانه تعظيمه لربه وكلما استولى على قلبه تعظيم الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه، فالركوع للقلب بالذات والقصد وللجوارح بالتبع والتكملة. الاعتدال من الركوع ثم شرع له أن يحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيأته منتصب القامة معتدلها، فيحمد ربه ويثني عليه بأن وفقه لذلك الخضوع، ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء بين يديه، واقفًا في خدمته كما كان في حال القراءة. ولذلك الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته كَرُكْن الركوع والسجود سواء؛ ولهذا كان رسول الله يطيله كما يطيل الركوع والسجود ويكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد كما ذكرناه في هديه (¬1) - صلى الله عليه وسلم - وكان في قيام الليل يكثر فيه من قول: «لربي الحمد لربي الحمد» (¬2) يكررها. ¬

(¬1) انظر زاد المعاد (1/ 55). (¬2) جزء من حديث رواه حذيفة وقد أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (1/ 231) والنسائي كتاب الافتتاح، باب: ما يقول في قيامه ذلك (2/ 199) وأحمد في مسنده (5/ 398).

السجدة الأولى

السجدة الأولى ثم شرع له أن يكبر ويخر ساجدًا، ويعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه مسندة راغمًا له أنفه خاضعًا له قلبه، ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه بالأرض ولا سيما على التراب معفرًا له بين يدي سيده راغمًا له أنفه مخضعًا له قلبه وجوارحه، متذللا لعظمته، خاضعًا لعزته مستكينًا بين يديه، أذل شيء وأكسره لربه تعالى مسبحًا له بعلوه في أعظم سفوله، قد صارت أعاليه ملوية لأسافله ذلاً وخضوعًا وانكسارًا وقد طابق قلبه حال جسمه، فسجد القلب كما سجد الوجه، وقد سجد معه أنفه ويداه وركبتاه ورجلاه. وشرع له أن (يقل) (¬1) فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزء منه حظه من الخضوع ولا يحمل بعضه بعضًا. فأحرى به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (¬2). ¬

(¬1) يقل: يرفع النهاية لابن الأثير (4/ 104). (¬2) هذا الحديث رواه أبو هريرة، وقد أخرجه مسلم كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود (1/ 350).

سجود القلب

سجود القلب ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه، أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم لقائه. كما قيل لبعض السلف هل يسجد القلب؟ قال: (أي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله) (¬1). ¬

(¬1) القائل: سهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 138).

أسماء الصلاة

أسماء الصلاة ولما بنيت الصلاة على خمس: القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر سميت باسم كل واحد من هذه الخمس. فسميت قيامًا كقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2] وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. وقراءة كقوله: {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. وركوعًا كقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]. وسجودًا كقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، وقوله {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]. وذِكرًا كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]. وأشرف أفعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بالقراءة وختمت بالسجود ووضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجود.

الاعتدال من السجود

الاعتدال من السجود ثم شرع له أن يرفع رأسه ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين: سجود قبله وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه ثم منه إلى السجود كان له شأن. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيله بقدر السجود يتضرع فيه إلى ربه، ويستغفره ويسأله رحمته وهدايته ورزقه وعافيته (¬1) وله ذوق خاص وحال للقلب غير ذوق السجود وحاله. الجلوس بين السجدتين وذوقه فالعبد في هذا القعود قد تمثل جاثيًا بين يدي ربه, ملقيًا نفسه بين يديه، معتذرًا إليه مما جناه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه, مستعديًا على نفسه الأمارة بالسوء. ¬

(¬1) إشارة إلى حديث ابن عباس وقد أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب الدعاء بين السجدتين (1/ 224) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني».

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرر الاستغفار (¬1) في هذه القعدة، ويكثر رغبته إلى الله فيها. فمثل نفسك بمنزلة غريم عليه حق الله وأنت كفيل به, والغريم مماطل مخادع وأنت مطلوب بالكفارة والغريم مطلوب بالحق. فأنت تستعدي عليه, حتى تستخرج ما عليه من الحق؛ لتتخلص من المطالبة. والقلب شريك النفس في الخير والشر والثواب والعقاب والحمد والذم، والنفس من شأنها الإباق والخروج من رق العبودية، وتضييع حقوق الله التي قبلها, والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها وهي شريكته وأسيرته إن قوي سلطانه. ¬

(¬1) إشارة إلى حديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي رب اغفر لي» أخرجه ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة باب ما يقول بين السجدتين (1/ 288) والنسائي كتاب الافتتاح باب ما يقول في قيامه ذلك (2/ 199).

جماع الخير

جماع الخير فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود, أن يجثو بين يدي الله مستعديًا على نفسه، معتذرًا إلى ربه مما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويهديه ويرزقه ويعافيه وهذه الخمس هي جماع خير الدنيا والآخرة. فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمنها هذا الدعاء، فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه, والعافية تدفع مضارها, والهداية تجلب له مصالح أخراه، والمغفرة تدفع عنه مضارها، والرحمة تجمع ذلك كله.

السجدة الثانية

السجدة الثانية وشرع له أن يعود ساجدًا كما كان ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد لفضل السجود وشرفه وموقعه من الله حتى أنه أقرب ما يكون إلى عبده وهو ساجد، وهو أدخل في العبودية، وأعرق فيها من غيره؛ ولهذا جعل خاتمة الركعة وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحله من الصلاة محل طواف الزيارة، وما قبله من التعريف وتوابعه مقدمات بين يديه وكما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف. ولهذا قال بعض الصحابة لمن كلمه في طوافه بأمر من الدنيا: "أتقول هذا ونحن نتراءى لله في طوافنا" (¬1). ولهذا والله أعلم جعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالا من الشيء إلى ما هو أعلى منه. جلوس التشهد فلما قضى صلاته وأكملها ولم يبق إلا الانصراف منها شرع الجلوس بين يدي ربه مثنيًا عليه بأفضل التحيات التي لا تصلح إلا له ولا تليق بغيره. ¬

(¬1) قائل هذا القول عبد الله بن عمر الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 167).

التحيات لله

التحيات لله ولما كان عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع والثناء وطلب البقاء ودوام الملك، فمنهم من يحيى بالسجود ومنهم من يحيى بالثناء عليه، ومنهم من يحيى بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يجمع له ذلك كله، فكان الملك الحق سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة، ولهذا فسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام وحقيقتها ما ذكرته وهي تحيات الملك، فالملك الحق المبين أولى بها. فكل تحية يحيى بها ملك من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي لله عز وجل، ولهذا أتى بها مجموعة معرفة باللام أداة العموم وهي جمع تحية، وهي تفعيلة من الحياة، وأصلها تحيية بوزن تكرمة ثم أدغم أحد المثلين في الآخر فصارت تحية، وإذا كان أصلها من الحياة فالمطلوب لمن يُحيَّى بها دوام الحياة. وكانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية ولك الحياة الدائمة، وبعضهم يقول: عشرة آلاف سنة، واشتق منها أدام الله أيامك، وأطال الله بقاءك، نحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك وذلك لا ينبغي إلا للحي الذي لا يموت وللملك الذي كل ملك زائل غير ملكه.

والصلوات

والصلوات ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع والتعريف ليشمل كل ما أطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا فكلها لله لا تنبغي إلا له فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبودية واستحقاقًا فالتحيات لا تكون إلا له والصلوات لا تنبغي إلا له. والطيبات ثم عطف عليها الطيبات كذلك، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك. فأما الوصف فإنه سبحانه طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا الطيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب فالطيبات له وصفًا وفعلاً وقولا ونسبة، وكل طيب مضاف إليه، وكل مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبة والأفعال الطيبات، وكل مضاف إليه كبيته وعبده وروحه وناقته وجنته فهي طيبات. وأيضًا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده فإن الكلمات الطيبات تتضمن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده والثناء عليه بآلائه وأوصافه فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها ومعانيها له وحده لا يشركه فيها غيره، كسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك

ولا إله غيرك (¬1) ونحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (¬2) ونحو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (¬3). فكل طيب فله وعنده ومنه وإليه، وهو طيب لا يقبل إلا طيبًا، وهو إله الطيبين، وجيرانه في دار كرامته هم الطيبون. فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلا لله، وهي «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله». فإن «سبحان الله» تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء، وعن خصائص المخلوقين وشبههم. و «الحمد لله» تتضمن إثبات كل كمال له قولاً وفعلاً ووصفًا على أتم الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا. ¬

(¬1) إشارة إلى حديث أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» رواه مسلم كتاب الصلاة باب حجة من قال لا تجهر بالبسملة (1/ 299). (¬2) إشارة إلى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» رواه مسلم كتاب الذكر والدعاء باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4/ 2072). (¬3) إشارة إلى حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» رواه البخاري كتاب الدعاء باب فضل التسبيح (8/ 107).

و «لا إله إلا الله» تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه فباطل، وأنه وحده الإله الحق وأنه من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه. و «الله أكبر» تتضمن أنه أكبر من كل شيء وأجل وأعظم وأعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم، فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هي ومعانيها إلا لله وحده.

السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين

السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين ثم شرع له أن يسلم على عباد الله الذين اصطفى بعد تقدم الحمد والثناء عليه بما هو أهله فطابق ذلك قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] وكأنه امتثال له. وأيضًا فإن هذه تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق وقدم في هذه التحية أولى الخلق بها، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نالت أمته على يده كل خير، وعلى نفسه بعده، وعلى سائر عباد الله الصالحين وأخصهم بهذه التحية الأنبياء، ثم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع عمومها لكل عبد لله صالح في الأرض والسماء. شهادة الحق ثم شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على من يستحق التسليم خصوصًا وعمومًا أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، وهي حق من حقوقها ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي شهادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة

وختمت بها الصلاة، كما قال عبد الله بن مسعود (فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد (¬1). وهذا إما أن يحمل على قضاء الصلاة حقيقة كما يقوله الكوفيون، أو على مقاربة انقضائها ومشارفته كما يقوله أهل الحجاز وغيرهم. وعلى التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة كما شرع أن تكون خاتمة الحياة، فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (¬2). وكذلك شرع للمتوضئ أن يختم وضوءه بالشهادتين (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود وكتاب الصلاة باب التشهد (1/ 254) والدارقطني كتاب الصلاة، باب صفة التشهد (1/ 353). (¬2) إشارة إلى حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من كا ن آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وقد أخرجه أبو داود كتاب الجنائز باب في الثقلين (3/ 190). (¬3) إشارة إلى حديث عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم كتاب الطهارة باب الذكر المستحب عقب الوضوء (1/ 210).

انقضاء الصلاة

انقضاء الصلاة ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته، وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، وليصل على رسوله، ثم ليسل حاجته» (¬1). فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمد الله، والثناء عليه، ثم الصلاة على رسوله، ثم الدعاء آخر الصلاة، وأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمصلي بعد الصلاة عليه، أن يتخير من الدعاء أعجبه إليه (¬2) ونظير هذا ما شرع لمن سمع المؤذن. 1 - أن يقول كما يقول (¬3). 2 - وأن يقول: «رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولًا» (¬4). ¬

(¬1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب (64 - 5/ 517) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وأحمد في مسنده (6/ 18). (¬2) إشارة إلى حديث رواه عبد الله بن مسعود وقد أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد (1/ 212) ومسلم في كتاب الصلاة باب في التشهد في الصلاة (1/ 302). (¬3) إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» رواه البخاري كتاب بدء الأذان باب ما يقول إذا سمع المنادي (1/ 159). (¬4) إشارة إلى حديث سعد بن أبي وقاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينًا غفر له ذنبه» رواه مسلم كتاب الصلاة باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن إلخ (1/ 290).

3 - وأن يسأل الله لرسوله الوسيلة، والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود (¬1). 4 - ثم يصلي عليه (¬2). 5 - ثم يسأل حاجته (¬3). فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها. ¬

(¬1) إشارة إلى حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» رواه البخاري كتاب بدء الأذان باب الدعاء عند النداء (1/ 159). (¬2) إشارة إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا .. إلخ» رواه مسلم كتاب الصلاة باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن إلخ. (1/ 288). (¬3) إشارة إلى حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أحمد في مسنده» (3/ 119) وأبو داود كتاب الصلاة باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة (1/ 144) والترمذي أبواب الصلاة باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة (1/ 159).

الإقبال على الله

الإقبال على الله وسر الصلاة وروحها ولبها هو إقبال العبد على الله بكليته، فكما أنه لا ينبغي له أن يصرف وجهه عن قبلة الله يمينًا وشمالاً, فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره. فالكعبة التي هي بيت الله قبلة وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى هو قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرض أعرض الله عنه وللإقبال في الصلاة ثلاث منازل: 1 - إقبال على قلبه فيحفظه من الوساوس والخطرات المبطلة لثواب صلاته أو المنقصة له. 2 - وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنه يراه. 3 - وإقبال على معاني كلامه وتفاصيل عبودية الصلاة ليعطيها حقها. فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكون إقامة الصلاة حقًا ويكون إقبال الله على عبده بحسب ذلك. فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه فإقباله على قيوميته وعظمته، وإذا كبر فإقباله على كبريائه. فإذا سبحه وأثنى عليه فإقباله على سبحات وجهه وتنزيهه عما لا يليق به والثناء عليه بأوصاف جماله.

فإذا استعاذ به فإقباله على ركنه الشديد وانتصاره لعبده ومنعه له وحفظه من عدوه. فإذا تلا كلامه فإقباله على معرفته من كلامه، حتى كأنه يراه ويشاهده في كلامه فهو كما قال بعض السلف: «لقد تجلى الله لعباده في كلامه» (¬1) فهو في هذه الحال مقبل على ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه. فإذا ركع فإقباله على عظمته وجلاله وعزه؛ ولهذا شرع له أن يقول: سبحان ربي العظيم. فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على حمده والثناء عليه وتمجيده وعبوديته له وتفرده بالعطاء والمنع. فإذا سجد فإقباله على قربه والدنو منه والخضوع له والتذلل بين يديه والانكسار والتملق. فإذا رفع رأسه وجثا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمه وشدة حاجته إليه وتضرعه بين يديه والانكسار أن يغفر له ويرحمه ويعافيه ويهديه ويرزقه. فإذا جلس في التشهد فله حال آخر وإقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، وقد استشعر قلبه الانصراف من بين يدي ربه، إلى أشغال الدنيا وموافاة العلائق والشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه، وقد ذاق قلبه التألم بها والعذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القُرب ونعيم الإقبال على الله وعافبته منها وانقطاعها عنه مدة الصلاة. ¬

(¬1) قائل هذا القول: جعفر بن محمد الصادق «إحياء علوم الدين» (1/ 287).

تسليم النفس

ثم استشعر قلبه عودها إليه بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل هَمَّ انقضاء الصلاة وفراغها ويقول ليتها اتصلت بيوم اللقاء، ويعلم أنه ينصرف من مناجاة من كل السعادة في مناجاته، إلى مناجاة من الأذى والهم والغم والنكد في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا قلب حي معمور بذكر الله ومحبته والأنس به. تسليم النفس ولما كان العبد بين أمرين من ربه عز وجل: 1 - أحدهما: حُكمٌ عليه في أحواله كلها ظاهرًا وباطنًا واقتضاؤه منه القيام بعبودية حكمه فإن لكل حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدري. 2 - والثاني: فعل يفعله العبد عبودية لربه، وهو موجب حكمه الديني الأمري، وكلا الأمرين يوجبان تسليم النفس إليه تعالى. ولهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما أسلم نفسه لحكم ربه الديني الأمري ولحكمه الكوني القدري بقيامه بعبوديته فيه لا باسترساله معه استحق اسم الإسلام فقيل له مسلم.

صورة الصلاة

صورة الصلاة ولما اطمأن قلبه بذكره وكلامه ومحبته وعبوديته، سكن إليه وقرت عينه به فنال الأمان بإيمانه، وكان قيامه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا له، لا حياة له، ولا فلاح ولا سعادة إلا بهما. ولما كان ما بُلي به من النفس الأمارة والهوى المقتضى أو الطباع المطالبة، والشيطان المغوي، يقتضي منه إضاعة حظه من ذلك أو نقصانه, اقتضت رحمة العزيز الرحيم أن شرع له الصلاة مخلفة عليه ما ضاع منه رادة عليه ما ذهب، مجددة له ما أخلق من إيمانه، وجعلت صورتها على صورة أفعاله خشوعًا وخضوعًا، انقيادًا وتسليمًا وأعطى كل جارحة من الجوارح حظها من العبودية، وجعل ثمرتها وروحها إقباله على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها وجزاءها القرب منه ونيل كرامته في الدنيا والآخرة، وجعل منزلتها ومحلها الدخول على الله تبارك وتعالى والتزين للعرض عليه تذكيراً بالعرض الأكبر عليه يوم القيامة.

قرة العين

قرة العين وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال؛ ولذلك لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت قرة عيني في الصوم ولا في الحج والعمرة، وإنما قال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ولم يقل بالصلاة إعلامًا بأن عينه إنما تقر بدخوله فيها، كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه وتقر عين الخائف بدخوله في محل أمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أكمل وأتم من قُرة العين به قبل الدخول. ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه ونصبه قال: «يا بلال أرحنا بالصلاة» (¬1)؛ أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى منزله وقر فيه وسكن. ¬

(¬1) هذا جزء من حديث رواه أنس وقد أخرجه النسائي كتاب عشرة النساء باب حب النساء (8/ 61) وأحمد في مسنده (9/ 199).

راحة الصلاة

راحة الصلاة وتأمل كيف قال أرحنا بها ولم يقل أرحنا منها، كما يقوله المتكلف بها الذي يفعلها تكلفًا وغرمًا، فهو لما امتلأ قلبه بغيرها وجاءت قاطعة عن أشغاله ومحبوباته، وعلم أنه لا بد له منها فهو قائل بلسان حاله وقاله: نصلي ونستريح من الصلاة لا بها، فهذا لون وذاك لون آخر، فالفرق بين من كانت الصلاة لجوارحه قيدًا أو لقلبه سجنًا، ولنفسه عائقًا، وبين من كانت الصلاة لقلبه نعيمًا ولعينه قرة ولجوارحه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة. 1 - فالأول الصلاة سجن لنفسه وتقييد لها عن التورط في مساقط الهلكات وقد ينالون بها التكفير والثواب وينالهم من الرحمة بحسب عبوديتهم لله فيها. 2 - والقسم الآخر الصلاة بستان قلوبهم، وقرة عيونهم، ولذة نفوسهم، ورياض جوارحهم فهم فيها يتقلبون في النعيم. فصلاة هؤلاء توجب لهم القرب والمنزلة من الله ويشاركون الأولين في ثوابهم ويختصون بأعلاه وبالمنزلة والقربة وهي قدر زائد على مجرد الثواب، ولهذا يعد الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب كما قال السحرة لفرعون {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 113، 114].

1 - فالأول عبد قد دخل الدار والستر حاجب بينه وبين رب الدار فهو من وراء الستر فلذلك لم تقر عينه؛ لأنه في حجب الشهوات، وغيوم الهوى، ودخان النفس، وبخار الأماني، فالقلب عليل، والنفس مكبة على ما تهواه، طالبة لحظها العاجل. 2 - والآخر قد دخل دار الملك ورفع الستر بينه وبينه فقرت عينه واطمأنت نفسه، وخشع قلبه وجوارحه، وعَبَد الله كأنه يراه، وتجلى له في كلامه. فهذه إشارة ما، ونبذة يسيرةٌ جدًا في ذوق الصلاة.

الرسالة الثانية

الرسالة الثانية قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة فأمرنا بإقامتها، وهو الإتيان بها قائمة تامة القيام والركوع والسجود والأذكار، وقد علق الله سبحانه الفلاح بخشوع المصلي في صلاته، فمن فاته خشوع الصلاة، لم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعًا بل لا يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعًا وكلما قل خشوعه اشتدت عجلته حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع ولا إقبال على العبودية ولا معرفة حقيقية العبودية والله سبحانه قد قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [المائدة: 55] وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45] وقال: {فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162] وقال إبراهيم عليه السلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] وقال لموسى عليه السلام {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. فلن تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من التنزيل إلا مقرونًا بإقامتها فالمصلون في الناس قليل، ومقيم الصلاة منهم أقل القليل، كما قال عمر رضي الله عنه: «الحاج قليل، والركب كثير» (¬1). ¬

(¬1) رود من قول شريح عند عبد الرزاق (5/ 19).

أقسام المصلين

أقسام المصلين فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على الترويج تحلة القسم، ويقولون: يكفينا أدنى ما يقع عليه الاسم, وليتنا نأتي به ولو علم هؤلاء أن الملائكة تصعد بصلاتهم فتعرضها على الرب جل جلاله بمنزلة الهدايا التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم فليس مَن عَمدَ إلى أفضل ما يقدر عليه فيزينه ويحسنه ما استطاع ثم يتقرب به إلى من يرجوه ويخافه كَمَنْ يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه فيستريح منه ويبعثه إلى من لا يقع عنده بموقع وليس من كانت الصلاة ربيعًا لقلبه وحياة له، وراحة وقرة لعينه وجلاء لحزنه، وذهابًا لهمه وغمه، ومفزعًا إليه في نوائبه ونوازله كمن هي سُحْتٌ لقلبه وقيدٌ لجوارحه، وتكليف له وثقل عليه فهي كبيرة على هذا وقرة عين وراحة لذلك. وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45، 46] فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو قلوبهم من محبة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوع له وقلة رغبتهم فيه فإن حضور العبد في الصلاة وخشوعه فيها وتكميله لها واستفراغه ووسعه في إقامتها وإتمامها على قدر رغبته في الله.

قدر الصلاة

قدر الصلاة قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى: إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم في الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة، فاعرف نفسك يا عبد الله، احذر أن تلقى الله عز وجل، ولا قَدْرَ للإسلام عندك فإن قَدْرَ الإسلام في قلبك كقَدْر الصلاة في قلبك (¬1). وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخرب من ذلك، فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة، وقف هذا بقلب مُخبت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة، وسطع فيه نور الإيمان، وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات، فيرتع في رياض معاني القرآن، وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم، وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله، وصفات كماله فاجتمع همه على الله وقرت عينه به وأحس بقربه من الله قربًا لا نظير له، ففزع قلبه له وأقبل عليه بكليته وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربه فإنه سبحانه أقبل عليه أولا فانجذب قلبه إليه بإقباله، فلما أقبل على ربه، حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول. ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 354).

استفتاح الصلاة

استفتاح الصلاة وههنا عجيبة من عجائب الأسماء والصفات تحصل لمن تفقه قلبه في معاني القرآن وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه، بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعًا من صلاته ومحلاً منها. فإنه إذا انتصب قائمًا بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلب قيوميته. وإذا قال: الله أكبر شاهد كبرياءه. وإذا قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك» (¬1) شاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب، سالمًا من كل نقص، محمودًا بكل حمد، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال، وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك اسمه، فلا يُذكر على قليل إلا كثره ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه، ولا على آفة إلا أذهبها، ولا على شيطان إلا رده خاسئًا داحرًا، وكمال الاسم من كمال مسماه، فإذا كان هذا شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، فشأن المسمى أعلى وأجل. وتعالى جدك أي: ارتفعت عظمته، وجلت فوق كل عظمة وعلا شأنه على كل شأن وقهر سلطانه على كل سلطان فتعالى جده أن يكون معه شريك في مُلكه وربوبيته أو في إلاهيته، أو في أفعاله أو في ¬

(¬1) مسلم (399) (52) في الصلاة: باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة.

الاستعاذة

صفاته كما قال مؤمن الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3] فكم في هذه الكلمات من تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها وغير المعطل لحقائقها. الاستعاذة وإذا قال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقد آوى إلى ركنه الشديد، واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه، ويباعده عن قربه ليكون أسوأ حالاً.

الحمد لله رب العالمين

الحمد لله رب العالمين فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: «حمدني عبدي» (¬1) فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} انتظر الجواب بقوله: «أثنى علي عبدي» فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} انتظر جوابه: «يمجدني عبدي» فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه «عبدي» ثلاث مرات فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورًا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: «حمدني عبدي، وأثنى علي عبدي، ومجدني عبدي». ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة التي هي أصول الأسماء الحسنى وهي: الله والرب والرحمن، فشاهد قلبه من ذكر اسم الله تبارك وتعالى إلهًا معبودًا موجودًا مخوفًا، لا يستحق العبادة غيره، ولا تنبغي إلا له، قد عنت له الوجوه، وخضعت له الموجودات، وخشعت له الأصوات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. ¬

(¬1) هذا وما يليه جزء من حديث رواه مسلم (39) في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة والموطأ (1/ 84، 85) في الصلاة: باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة وأبو داود (821) في الصلاة: باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، والترمذي (2954) تفسير القرآن، ومن سورة فاتحة الكتاب والنسائي (2/ 135، 136) في الافتتاح: باب ترك قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فاتحة الكتاب.

و {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] وكذلك خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة والنار، وكذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، وألزم العباد الأمر والنهي، وشاهد من ذكر اسمه (رب العالمين) قيومًا قام بنفسه، وقام به كل شيء، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها، قد استوى على عرشه، وتفرد بتدبير ملكه، فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل، والقبض والبسط، وكشف الكروب، وإغاثة الملهوفين، وإجابة المضطرين {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} لا مانع لما أعطى، ولما معطي لما منع، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير ويوقت المواقيت ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.

الرحمن الرحيم

الرحمن الرحيم ثم يشهد عند ذكر اسم "الرحمن" جل جلاله ربًا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان متحببًا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلا فوسعت رحمته كل شيء ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته حيث بلغ علمه، فاستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته وشرع شرائعه برحمته، وخلق الجنة برحمته، والنار أيضًا برحمته، فإنها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنته، ويطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته. فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعظه من الرحمة البالغة، والنعمة السابغة، وما في حشوها من الرحمة والنعمة، فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده، كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به، فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة. ومن أخص مشاهد هذا الاسم شهود المصلي نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي ربه، وأهله لعبوديته ومناجاته، وأعطاه ومنع غيره وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره وذلك من رحمته به.

مالك يوم الدين

مالك يوم الدين فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين فيشهد ملكًا قاهرًا قد دانت له الخليقة وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز، فيشهد بقلبه ملكًا على عرش السماء مهيمنًا لعزته تعنو الوجوه وتسجد وإذا لم تعطل حقيقة صفة الملك أطلعته على شهود حقائق الأسماء والصفات التي تعطيلها تعطيل لملكه وجحد له, فإن الملك الحق التام الملك: لا يكون إلا حيا قيومًا سميعًا بصيرًا مدبرًا قادرًا متكلمًا آمرًا ناهيًا مستويًا على سرير مملكته، يرسل إلى أقاصي مملكته بأوامره، فيرضى على من يستحق الرضا، ويثيبه ويكرمه ويدنيه ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويعطي من يشاء، ويقرب من يشاء، ويقصي من يشاء، له دار عذاب، وهي النار، وله دار سعادة عظيمة، وهي الجنة فمن أبطل شيئَا من ذلك، أو جحده وأنكر حقيقته فقد قدح في ملكه سبحانه وتعالى- ونفى عنه كماله وتمامه، وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره فقد أنكر عموم ملكه وكماله، فيشهد المصلي مجد الرب تعالى في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.

إياك نعبد وإياك نستعين

إياك نعبد وإياك نستعين فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففيها سر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في أربعة وهي: التوراة والإنجيل والقرآن والزبور، وجمع معانيها في القرآن، وجمع معانيه في المفصل وجمع معانيه في الفاتحة وجمع معانيها في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما: 1 - توحيد الربوبية. 2 - وتوحيد الإلهية. وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله، فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته فكان أول السورة ذكر اسمه: الله والرب والرحمن، تطابقًا لأجل المطالب من عبادته وإعانته وهدايته، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه، ولا يهدي سواه.

اهدنا الصراط المستقيم

اهدنا الصراط المستقيم ثم يشهد الداعي بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة، فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين، وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، والهداية فيه وهي هداية التفصيل وخلق القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضي المحبوب للرب سبحانه وتعالى، وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله. أمور الهداية ولما كان العبد مفتقرًا في كل إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من: 1 - أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو يحتاج إلى التوبة منها. 2 - وأمور هُدي إلى أصلها دون تفصيلها. 3 - أو هدي إليها من وجه دون وجه فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها ليزداد هدى. 4 - وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في الماضي.

5 - وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو يحتاج إلى الهداية فيها. 6 - وأمور لم يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية. 7 - وأمور قد هدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها، فهو محتاج إلى الثبات عليها. إلى غير ذلك من أنواع الهدايات فَرَضَ (¬1) الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله مرات متعددة في اليوم والليلة. ثم بين أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته دون «المغضوب عليهم» وهم الذين عرفوا الحق، ولم يتبعوه ودون «الضالين» وهم الذين عبدوا الله بغير علم، فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم، فسبيل المنعم عليه مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها علمًا وعملاً. ¬

(¬1) جواب "لما" السابق أول الفقرة.

التأمين

التأمين فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد، شرع له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين يكون كالخاتم له، وافق فيه ملائكة السماء، وهذا التأمين من زينة الصلاة كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة، واتباع للسنة، وتعظيم أمر الله، وعبودية اليدين، وشعار الانتقال من ركن إلى ركن. ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه واستماعه من الإمام بالإنصات وحضور القلب وشهوده وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام، وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام، فخصت بالحمد والثناء والمجد وتلاوة كلام الرب جل جلاله ولهذا نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأنهما حالتا ذل وخضوع وتطامن وانخفاض، ولهذا شرع فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما.

الركوع

الركوع فشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق «سبحان ربي العظيم» فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك، وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: «اجعلوها في ركوعكم» (¬1) وأبطل كثير من أهل العلم صلاة من تركها عمدًا وأوجب سجود السهو على من سها عنها، وهذا مذهب الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الحديث والسنة، والأمر بذلك لا يقتصر على الأمر بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، ووجوبه لا يقتصر على وجوب مباشرة المصلي بالجبهة واليدين، وبالجملة، فسر الركوع تعظيم الرب جل جلاله بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» (¬2). ¬

(¬1) أبو داود (869) وابن ماجه (887) والدارمي (1/ 299). (¬2) مسلم في الصلاة: باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.

الاعتدال من الركوع

الاعتدال من الركوع ثم يرفع رأسه عائدًا إلى أكمل حديثه، وجعل شعار هذا الركن حمدًا لله والثناء عليه وتحميده، فافتتح هذا الشعار بقول المصلي: «سمع الله لمن حمده» أي سَمعَ سَمْعَ قبول وإجابة، ثم شفع بقوله: «ربنا ولك الحمد، ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء» ولا يهمل أمر هذه الواو في قوله: «ربنا ولك الحمد» فإنه قد ندب الأمر بها في الصحيحين وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما فإن قوله: «ربنا» متضمن في المعنى أنت الرب والملك القيوم الذي بيديه أَزِمَّةُ الأمور، وإليه مرجعها فعطفها على هذا المعنى المفهوم من قوله: «ربنا» على قوله: «ولك الحمد» فتضمن ذلك معنى قول الموحد له الملك وله الحمد. ثم أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته قدرًا وصفه، فقال: «ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد» أي: قدر ملء العالم العلوي والسفلي والقضاء الذي بينهما فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود وهو يملأ ما يخلقه الرب تبارك وتعالى بعد ذلك وما يشاؤه فحمده قد ملأ كل موجود وملأ ما سيوجد فهذا أحسن التقديرين وقيل ما شئت من شيء وراء العالم فيكون قوله: «بعد للزمان على الأول والمكان على الثاني ثم أتبع ذلك بقوله: «أهل الثناء والمجد»» فعاد الأمر بعد الركعة إلى ما افتتح به الصلاة قبل الركعة من الحمد والثناء والمجد ثم أتبع ذلك بقوله: «أحق ما قال العبد» تقريرًا لحمده وتمجيده والثناء عليه، وأن ذلك أحق ما نطق به العبد، ثم أتبع ذلك بالاعتراف بالعبودية وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد ثم عقب ذلك بقوله: «لا مانع لما أعطيت ولا

مُعطي لما مَنعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدَّ منك الجد» (¬1) وكان يقول ذلك بعد انقضاء الصلاة أيضًا فيقوله في هذين الموضعين اعترافًا بتوحيده، وأن النعم كلها منه وهذا يتضمن أمورًا. أحدها: أنه المنفرد بالعطاء والمنع. الثاني: أنه إذا أعطى لم يطق أحد منع من أعطاه، وإذا منع لم يطق أحد إعطاء من منعه. الثالث: أنه لا ينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك، إنما ينفعهم عنده التقريب إليه بطاعته وإيثار مرضاته. ثم ختم ذلك بقوله: «اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» (¬2) كما افتتح به الركعة في أول الاستفتاح كما كان يختم الصلاة بالاستغفار وكان الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار وأنفع الدعاء: من حمده وتمجيده والثناء عليه والاعتراف له بالعبودية والتوحيد والتنصل إليه من الذنوب والخطايا، فهو ذكر مقصود في ركن مقصود ليس بدون الركوع والسجود. ¬

(¬1) مسلم (471) (194) في الصلاة: باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام مسلم (477) في الصلاة باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع والنسائي (2/ 19) في الافتتاح: باب ما يقوله في قيامه. (¬2) مسلم (476) (204) في الصلاة: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.

السجود

السجود ثم يكبر ويخر لله ساجدًا غير رافع يديه، لأن اليدين تنحطان للسجود كما ينحط الوجه فهما تنحطان لعبوديتهما فأغنى ذلك عن رفعهما، ولذلك لم يشرع رفعهما عند رفع الرأس من السجود؛ لأنهما يرفعان معه كما يوضعان معه، وشرع السجود على أكمل الهيئة وأبلغها في العبودية، وأعمها لسائر الأعضاء بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية (¬1). والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة، وما قبله من الأركان كالمقدمات له، فهو شبه طواف الزيارة في الحج، فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له. ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وأفضل الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله؛ ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة. ¬

(¬1) سقط من نسخة تيسير زعيتر.

أصل الإنسان

أصل الإنسان ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض، كان جديرًا بأن لا يخرج عن أصله، بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه، فإن العبد لو ترك طبعه ودواعي نفسه لتكبر وأشر، وخرج عن أصله الذي خلقه منه، ولَوثبَ على حق ربه من الكبرياء والعظمة، فنازعه إياهما، وأُمر بالسجود خضوعًا لعظمة ربه وفاطره، وخشوعًا له وتذللا بين يديه، وانكسارًا له فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردًا له إلى حكم العبودية ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله. فتمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه، وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه، وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعًا بين يدي ربه الأعلى، وخشوعًا له وتذللا لعظمته واستكانة لعزته، وهذا غاية خشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدام، واستعمله فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أُمُّهُ وأبوه وأصله وفصله، ضمته حيًا على ظهرها، وميتًا في بطنها، وجُعلت له طهرًا ومسجدًا فأمر بالسجود، إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء، فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعًا وخضوعًا وإلقاء باليدين. وقال مسروق لسعيد بن جبير: ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في هذا التراب له (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أحمد في الزهد (2065).

سنن السجود

سنن السجود وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتقي الأرض بوجهه قصدًا بل إذا اتفق له ذلك فعله، ولذلك سجد في الماء والطين (¬1). ولهذا كان من كمال السجود الواجب أنه يسجد على الأعضاء السبعة: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، فهذا فرض أمر الله به ورسوله، وبلغه الرسول لأمته. ومن كماله الواجب أو المستحب مباشرة مصلاه بأديم وجهه، واعتماده على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه وارتفاع أسافله على أعاليه، فهذا من تمام السجود. ومن كماله: أن يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن بحظه من الخضوع، فَيَقُلُّ بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، ولا يفرشهما على الأرض ليستقل كل عضو منه بالعبودية. ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدًا لله اعتزل ناحية يبكي ويقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار (¬2). ¬

(¬1) البخاري (2/ 246) في صفة الصلاة: باب السجود على الأنف في الطين: وباب من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى ومسلم (1167) في الصيام: باب فضل ليلة القدر، وأبو داود (894) في الصلاة: باب السجود على الأنف والجبهة (911) باب السجود على الأنف والنسائي (2/ 208، 209) في الافتتاح باب السجود على الجبين. (¬2) مسلم (81) في الإيمان: باب بيان إ طلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.

ولذلك أثنى الله سبحانه على الذين يخرون سجدًا عند سماع كلامه، وذم من لا يقع ساجدًا عنده؛ ولذلك كان قول من أوجبه قويًا في الدليل ولما علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون، خروا سجدًا لربهم، فكانت تلك السجدة أول سعادتهم وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السحر؛ ولذلك أخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات له فقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49، 50] فأخبر عن إيمانهم بعلوه وفوقيته وخضوعهم له بالسجود تعظيمًا وإجلالاً وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. فالذي حق عليه العذاب هو الذي لا يسجد له سبحانه، وهو الذي أهانه بترك السجود له، وأخبر أنه لا مكرم له، وقد هان على ربه حيث لم يسجد له وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [الرعد: 15].

تكرار السجود

تكرار السجود ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله بحسب نصيبه من عبوديته، وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية، متضمنة لأقسامها كانت أفضل أعمال العبد، ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه وكان السجود أفضل أركانها الفعلية، وسرها التي شرعت لأجله، وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان، وجعله خاتمة الركعة وغايتها، وشرع فعله بعد الركوع، فإن الركوع توطئه له ومقدمة بين يديه، وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد: «سبحان ربي الأعلى» فهذا أفضل ما يقال فيه، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره في السجود بغيره حيث قال: «اجعلوها في سجودكم» (¬1) ومن تركه عمدًا فصلاته باطلة عند كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد وغيره؛ لأنه لم يفعل ما أمر به، وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه، فذكر علو ربه في حال سقوطه، وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه، ونزه ربه عما لا يليق به مما يضاد عظمته وعلوه. ¬

(¬1) أبو داود (869) وابن ماجه (887) والدارمي (1/ 299) وهو حديث حسن.

الجلوس بين السجدتين

الجلوس بين السجدتين ثم لما شرع السجود بوصف التكرار، لم يكن بد من الفصل بين السجدتين، ففصل بينهما بركن مقصود، شرع فيه من الدعاء ما يليق به، ويناسبه، وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق (¬1)، ودفع شر الدنيا والآخرة، فالرحمة تُحصل الخير، والمغفرة تقي الشر والهداية توصل إلى هذا وهذا، والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب، وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان، وجعل جلوس الفصل محلاً لهذا الدعاء لما تقدمه من رحمة الله والثناء عليه والخضوع له، فكان هذا وسيلة للداعي ومقدمة بين يدي حاجته. فهذا الركن مقصود الدعاء فيه فهو ركن وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة، فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء والمجد، ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب وتعظيمه، ثم عاد إلى الحمد والثناء، ثم كمل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة، بقي سؤال حاجته واعتذاره وتنصله فشرع له أن يتمثل في الخدمة فيقعد فعل العبد الذليل جاثيًا على ركبتيه كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبًا راهبًا معتذرًا إليه مستعديًا إليه على نفسه الأمارة بالسوء ثم شرع له تكرير هذه العبودية مرة بعد مرة إلى إتمام الأربع، كما شرع له تكرير الذكر مرة بعد مرة لأنه أبلغ في حصول المقصود، وأدعى إلى الاستكانة والخضوع. ¬

(¬1) هذه إشارة إلى ما رواه أبو داود (850) في الصلاة: باب الدعاء بين السجدتين، والترمذي (284) في الصلاة: باب ما يقول بين السجدتين: وابن ماجه (898) في إقامة الصلاة: باب ما يقول بين السجدتين، وحسن إسناده النووي في «الأذكار».

جلسة التشهد

جلسة التشهد فلما أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها وتكبيرها، شرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثيًا على ركبتيه، ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها عوضًا عن تحية المخلوق للمخلوق، إذا واجهه، أو دخل عليه، فإن الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يحيون بها قلوبهم، فبعضهم يقول: أنعم صباحًا، وبعضهم يقول: لك البقاء والنعمة، وبعضهم يقول: أطال الله بقاءك، وبعضهم يقول: تعش ألف عام، وبعضهم يسجد للملوك، وبعضهم يسلم فتحياتهم بينهم تتضمن ما يحبه المحيا من الأقوال والأفعال، والمشركون يحيون أصنامهم. قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الدائمة، فلما جاء الإسلام أُمِرُوا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها الله.

التحيات

التحيات فالتحية هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت، وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام، ولا يستحق أحَدٌ هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه، وكذلك قوله: «والصلوات» فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله عز وجل والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك به، وكذلك قوله: «والطيبات» فهي صفة الموصوف المحذوف أي: الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات، والأسماء لله وحده، فهو طيب، وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء وأسماؤه أطيب الأسماء، واسمه الطيب، لا يصدر عنه إلا طيب، ولا يصعد إليه إلا طيب، ولا يقرب منه إلا طيب، فكله طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، وفعله طيب، والعمل الطيب يعرج إليه فالطيبات كلها له ومضافة إليه صادرة عنه ومنتهية إليه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا» (¬1) وفي حديث رُقية المريض الذي رواه أبو داود وغيره «أنت ربُّ الطيبين» (¬2) ولا يجاوره من عباده إلا الطيبون كما يقال لأهل الجنة {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وقد حكم سبحانه شرعه وقدره أن الطيبات للطيبين، فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق ¬

(¬1) مسلم (1015) في الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها. (¬2) أبو داود (3892) في الطب: باب كيف الرقي وأحمد (6/ 21).

السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين

فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات كلها له سبحانه، لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه، فطيب كل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له. السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين ولما كان السلام من أنواع التحية، وكان المسلم داعيًا لمن يحييه، وكان الله سبحانه هو الذي يطلب منه السلام لعباده الذين اختصهم بعبوديته، وارتضاهم لنفسه، وشرع أن يبدأ بأكرمهم عليه، وأحبهم إليه، وأقربهم منه منزلة في هذه التحية بالشهادتين اللتين هما مفتاح الإسلام. فشرع أن يكون خاتمة الصلاة، فدخل فيها بالتكبيرة والحمد والثناء والتمجيد وتوحيد الربوبية والإلهية، وختمها بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وشرعت هذه التحية في وسط الصلاة إذا زادت على ركعتين تشبيهًا لها بجلسة الفصل بين السجدتين، وفيها مع الفصل راحة للمصلي لاستقباله الركعتين الآخرتين بنشاط وقوة بخلاف ما إذا والى بين الركعات، ولهذا كان الأفضل في النفل مثنى مثنى، وإن تطوع بأربع جلس في وسطهن.

الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -

الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلت كلمات التحيات في آخر الصلاة بمنزلة خطبة الحاجة أمامها، فإن المصلي إذا فرغ من صلاته، جلس جلسة الراغب الراهب يستعطي من ربه ما لا غنى به عنه، فشرع له أمام استعطائه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده وسعادته، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده وسعادته، فكأن المصلي توسل إلى الله سبحانه بعبوديته، ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم الصلاة على رسوله، ثم قيل له: تخير من الدعاء أحبه إليك، فذاك الحق الذي عليك، وهذا الحق الذي لك، وشرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه تكميلاً لقرة عينه بإكرام آله والصلاة عليهم، وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم وآله. والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله؛ لذلك كان المطلوب للرسول - صلى الله عليه وسلم - صلاة مثل الصلاة على إبراهيم، وعلى جميع الأنبياء بعده وآله المؤمنين، فلهذا كانت هذه الصلاة أكمل ما يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها وأفضل.

الاستعاذة من مجامع الشر

الاستعاذة من مجامع الشر فإذا أتى بها المصلي أمر أن يستعيذ بالله من مجامع الشر كله، فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه فليس الشر إلا العذاب وأسبابه، والعذاب نوعان: عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة، وأسبابه: الفتنة، وهي نوعان كبرى وصغرى، فالكبرى فتنة الدجال وفتنة الممات، والصغرى فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال، فإن المفتون فيهما لا يتداركها. الدعاء قبل السلام ثم شرع له من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته والدعاء في هذا المحل قبل السلام أفضل من الدعاء بعد السلام وأنفع للداعي، وهكذا كانت عامة أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها، كانت في الصلاة من أولها إلى آخرها فكان يدعو في الاستفتاح أنواعًا من الدعاء، وفي الركوع، وبعد رفع رأسه منه، وفي السجود وبين السجدتين وفي التشهد قبل التسليم، وعلم الصديق دعاءً يدعو به في صلاته، وعلمَ الحسن بن علي دعاءً يدعو به في قنوت الوتر، وكان إذا دعا لقوم أو على قوم جعله في الصلاة بعد الركوع ومن ذلك أن المصلي قبل سلامه في محل المناجاة والقربة بين يدي ربه، فسؤاله في هذه الحال أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يديه.

وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الدعاء أسمع؟ فقال: «جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبة» (¬1) ودبر الصلاة جزؤها الأخير كدبر الحيوان ودبر الحائط، وقد يراد بدبرها ما بعد انقضائها بقرينة تدل عليه كقوله: «يُسبحون الله ويحمدونه ويكبرونه دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين» فهنا دبرها بعد الفراغ منها، وهذا نظير انقضاء الأجل، فإنه يراد به، ولما يفرغ، ويراد به فراغها وانتهاؤها. ثم ختمت بالتسليم، وجعل تحليلاً لها يخرج به المصلي منها كما يخرج بتحليل الحج منه، وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه، فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام. وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام، ثم شرع ذلك لكل مصل، وإن كان منفردًا فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة كما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريمًا لها، فتحريمها تكبير الرب تعالى الجامع لإثبات كل كماله له، وتنزيهه عن كل نقص وعيب، وإفراده وتخصيصه بذلك وتعظيمه وإجلاله، فالتكبير يتضمن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيئاتها. فالصلاة من أولها إلى آخرها تفصيل لمضمون: «الله أكبر» وأي تحريم أحسن من هذا التحريم المتضمن للإخلاص والتوحيد؟ وهذا التحليل المتضمن الإحسان إلى إخوانه المؤمنين. فافتتحت بالإخلاص، وختمت بالإحسان أ. هـ. ¬

(¬1) الترمذي (3494) في الدعوات: باب (80) وحسنه.

الرسالة الثالثة

الرسالة الثالثة قال ابن القيم

المشهد الأول: الإخلاص

فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون ولا تطمئن القلوب ولا تسكن النفوس إلا إليه, والتنعم بذكره والتذلل والخضوع له والقرب منه، ولا سيما في حال السجود، وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها. ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا بلال أرحنا بالصلاة» (¬1) فأعلم بذلك أن راحته في الصلاة، كما أخبر أن قرة عينه فيها. فأين هذا من قول القائل نصلي ونستريح من الصلاة. فالمحب راحته وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنه على الجمر، حتى يتخلص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها، فإنه ليس له قرة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرت عينه بشيء واستراح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة وأكره ما إليه طولها مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله. ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد: المشهد الأول: الإخلاص: وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله ومحبته له، وطلب مرضاته والقرب منه، والتودد إليه، وامتثال أمره بحيث لا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (5/ 364)، وأبو داود (4985).

المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح

يكون الباعث له عليها حظًا من حظوظ الدنيا ألبتة، بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى، محبة له وخوفًا من عذابه ورجاء لمغفرته وثوابه. المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح: وهو أن يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ظاهرًا وباطنًا فإن الصلاة لها ظاهر وباطن فظاهرها: الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها: الخشوع والمراقبة، وتفريغ القلب لله، والإقبال بكليته على الله فيها، بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره, فهذا بمنزلة الروح لها، والأفعال بمنزلة البدن، فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه. أفلا يستحي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك، ولهذا تُلف بالثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، والصلاة التي كمل ظاهرها وباطنها تصعد ولها نور وبرهان كنور الشمس حتى تعرض على الله، فيرضاها ويقبلها وتقول: حفظك الله كما حفظتني (¬1). المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء: وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي كما كان يصلي ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة من الزيادة والنقصان والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء منها ولا عن أحد من أصحابه، ولا يقف عند أقوال المرخصين الذين يقفون مع أقل ما يعتقدون ¬

(¬1) ورد هذا المعنى من حديث أنس بن مالك وعبادة بن الصامت، بأسانيد ضعيفة عند الطبراني وغيره.

المشهد الرابع: مشهد الإحسان

وجوبه، ويكون غيرهم قد نازعهم في ذلك وأوجب ما أسقطوه. ولعل الأحاديث الثابتة والسنة النبوية من جانبه، ولا يلتفتون إلى ذلك ويقولون: نحن مقلدون لمذهب فلان، وهذا لا يخلص عند الله ولا يكون عذرًا لمن تخلف عما علمه من السنة عنده، فإن الله سبحانه إنما أمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه وحده، ولم يأمر باتباع غيره، وإنما يطاع غيره إذا أمر بما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل أحد سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك. المشهد الرابع: مشهد الإحسان: وهو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستويات على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه، ويدبر أمر الخليقة فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه، وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه، فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته، ويشهد قيومًا حيًا سميعًا بصيرًا عزيزًا حكيمًا آمرًا ناهيًا يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها، فإنه يوجب الحياء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذل له ويقطع الوساوس وحديث النفس ويجمع القلب والهم على الله، فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت

المشهد الخامس: مشهد المنة

الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد. المشهد الخامس: مشهد المنة: وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام وأهلهُ له ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك كما كان الصحابة يَحْدُون بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]. فالله سبحانه هو الذي جعل المسلم مسلمًا والمصلي مصليًا كما قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] وقال {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]. فالمنة لله وحده في أن جعل عبده قائمًا بطاعته, وكان هذا من أعظم نعمه عليه وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].

المشهد السادس: مشهد التقصير

وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلما كان العبد أعظم توحيدًا كان حظه من هذا المشهد أتم وفيه من الفوائد: 1 - أن يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته فإنه إذا شهد أن الله سبحانه هو المان به الموفق له الهادي إليه شغله شهود ذلك عن رؤيته والإعجاب به وأن يصول به على الناس فيرفع من قلبه فلا يعجب به، ومن لسانه فلا يمن به ولا يتكثر به، وهذا شأن العمل المرفوع. 2 - ومن فوائده أنه يضيف الحمد إلى وليه ومستحقه فلا يشهد لنفسه حمدًا بل يشهده كله لله كما يشهد النعمة كلها منه والفضل كله له والخير كله في يديه. وهذه من تمام التوحيد، فلا يستقر قدمه في مقام التوحيد، إلا بعلم ذلك وشهوده فإذا علمه ورسخ فيه صار له مشهدًا وإذا صار لقلبه مشهدًا أثمر له من المحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته ما لا نسبة بينه وبين أعلى نعيم الدنيا ألبتة، وما للمرء خير في حياته إذا كان قلبه عن هذا مصدودًا وطريق الوصول إليه عنه مسدودًا، بل هو كما قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]. المشهد السادس: مشهد التقصير: وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر وحق الله سبحانه عليه أعظم والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة

والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها، وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم والتعظيم والاحترام والتوقير والحياء والمهابة والخشية والنصح بحيث يفرغون قلوبهم وجوارحهم لهم، فمالك الملوك ورب السموات والأرض أولى أن يعامل بذلك بل بأضعاف ذلك، وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه ولا قريبًا من حقه علم تقصيره ولم يسعه مع ذلك غير الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه وعدم القيام بما ينبغي له من حقه وأنه إلى أن يغفر له العبودية ويعفو عنه فيها, أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثوابًا وهو لو وفاها حقها كما ينبغي لكانت مستحقة عليه بمقتضى العبودية, فإن عمل العبد وخدمته لسيده مستحق عليه بحكم كونه عبده، ومملوكه فلو طلب منه الأجرة على عمله وخدمته لعده الناس أحمق وأخرق. هذا وليس هو عبده ولا مملوكه على الحقيقة وهو عبد الله ومملوكه على الحقيقة من كل وجه لله سبحانه، فعمله وخدمته مستحق عليه بحكم كونه عبده فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضل ومنة وإحسان إليه لا يستحقه العبد عليه، ومن ههنا يفهم معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه من حديث عائشة وله شواهد أخرى.

§1/1