ذكريات - علي الطنطاوي

علي الطنطاوي

الجزء الأول

ذكريات علي الطنطاوي الجزء الأول طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

بين يدي الذكريات

بين يَدَي الذّكريات كان تدوين هذه «الذكريات» ونَشْرُها حُلماً حمله علي الطنطاوي في قلبه وأملاً ظلّ يراوده سنين طِوالاً، حتى قال -في بعض سطور مقدمته لكتاب «تعريف عام» - إنه يرضى أن يتنازل عن كل ما كتبه ويوفق الله إلى إكمال ذلك الكتاب (تعريف عام) وكتاب الذكريات. وتأخّرَ الأمر، وأجّل جدي الشروعَ فيه ثم ما زال يؤجّل، ومرت السنون بإثر السنين، حتى كان يومٌ من أيام سنة 1981 جاءه فيه زهير الأيوبي، يسعى إلى إقناعه بنشر ذكرياته في مجلة «المسلمون» التي كان قد ابتدأ صدورها في ذلك الحين، فما زال يُلحّ عليه حتى وافق على نشرها فيها. لقد استجاب لهذا الإلحاح وهو لا يتصور ما هو مُقْدم عليه، وأكاد أجزم أنه لو كان يعلم لأحجم وما أقدم، فقد هوّنوا عليه الأمر في البداية حتى راح يتحدث وهم يكتبون ما يقول، وظهرت في مجلة «المسلمون» حلقتان كذلك، ولكنه ما لبث أن استُثيرت همّته ودَبَّت فيه الحماسة فتحول إلى كتابة الحلقات بنفسه، ومضى فيها تجرّ كلُّ حلقةٍ حلقةً بعدها حتى قاربَت ربعَ ألف حلقة. وأحسب أنه لو لم يوافق -في ذلك اليوم- على الشروع بهذا المشروع لما رأينا هذه الذكريات بين أيدينا قط.

ما سبق هو الذي قلته منذ سنوات في الكتاب الذي كتبته عن جدي رحمه الله (علي الطنطاوي: أديب الفقهاء وفقيه الأدباء)، واليومَ أقول عن نفسي المقالَةَ ذاتَها، وأعترف بأنني كنت سأُحْجم كما كان سيُحْجِم لو عرفتُ ما سأنفقه في مراجعة هذه الذكريات من جهد ووقت. لقد تهيّبت الإقدامَ على «الذكريات» منذ البداية ودافعت هذه المهمةَ ما استطعت، وكان من خطتي أن أراجع الكتب جميعَها قبل أن أقحم نفسي في بحر الذكريات اللُّجَاج، لكنني -على ما بالغت في الحساب والتقدير- لم أقدّر أن يبلغ العمل في مراجعتها الصعوبةَ التي لقيتُها فيه ولا أن يستهلك الوقتَ الذي أنفقتُه. وهأنذا اليوم أخط كلمات هذه المقدمة ويكاد عامٌ بأكمله ينصرم منذ بدأت بمراجعة السطور الأولى من الذكريات، لا أقول إني أنفقته كلَّه فيها، لكنني أجرؤ أن أقول غيرَ مبالغ ولا متزيّد إنني قد أنفقت فيها نصف أيام العام كاملة أو تزيد! * * * لقد كان العمل صعباً لطول هذا الكتاب وتنوّع موضوعاته، وأنا زدته على نفسي صعوبةً حين أردت أن أقترب من الكمال؛ أعني أنني سعيت إلى غاية الإتقان الممكن، أما الكمال الحقيقي فلا يقدر عليه الناس، إنما هو من عمل ربّ الناس. اجتهدت -أولاً- في تصحيح أخطاء الطبعات السابقة، وهي كثيرة، ولا سيما في الأجزاء المتأخرة. فقد استغنى جدي -رحمه الله- حين صدرت تلك الأجزاء عن المصحِّحين واعتمد

على تصحيحه. على أنه من المقرَّر في صناعة النشر أن المؤلف لا ينبغي له مراجعة تجارب طباعة ما يكتب، ذلك أنه يقرأ بعقله لا يقرأ بعينيه، أي أنه يمرّ بالكلمات فيرى ما كتبه ابتداءً ويُغفل -لاشعورياً- الاضطرابَ والخطأ الناشئ من عمل طابعي النَّص. ذلك فضلاً عن أنه كان قد كَبُر وكلَّ وملَّ حينما نُشرت الأجزاء الأخيرة، فكان عاقبة ذلك أن ازدحمت تلك الأجزاء بالأخطاء ازدحاماً عجيباً، حتى لا أكاد أبالغ لو قلت إن الجزأين السابع والثامن خاصة قد زادت أخطاء الطباعة في كل منهما على ألف خطأ. بل لقد بلغ الأمر في واحدة من الحالات أن انتقلت صفحات كاملة من حلقة من الحلقات إلى موضع قَصِيّ، فصار يفصل بين جزء من المقالة والجزء الآخر عشراتٌ من الصفحات! ولم يقتصر الأمر على الخطأ المطبعي بل كَثُرَ السَّقْط (الحذف)، فسقطت أحياناً كلمات منفردة وأحياناً أخرى جُمَل كاملة وسطور عدّة، واضطربت أبيات كثيرة من الشعر واختلّ ميزانها بسبب نقص كلمات فيها أو طباعة بعضها خطَأً. وما أكثرَ الكلمات التي طُبعت خطَأً حتى صار المعنى الذي يفهمه القارئ عَجَباً من العجب، وحتى صار البحث لتصحيحها -في بعض الأحيان- أقربَ إلى حل لغز من الألغاز أو فكّ أسرار أُحْجِيّة من الأُحجيّات. كان عليّ أن أقرأ النصّين، نصّ الكتاب ونصّ المقالة المنشورة في الجريدة، لكي أقع على مواطن الخطأ والخلل، واضطررت غيرَ مرة إلى مراجعة الأصل المخطوط أو المادة المسجَّلة بحثاً عن تصويب خطأ خفي أو خلل غامض. فكان

من جملة ما وجدته أن الطبعات السابقة من الذكريات قد فقدت نصفَ إحدى الحلقات بسبب خطأ وقع فيه الذين جمعوا مادة الطبعة الأولى من الكتاب، فأعدتها إلى موضعها (¬1) (وهي في الجزء الثالث). وفي الجزء ذاته أضفت حلقة لم يسبق نشرها من قبل، وهي الحلقة السابعة والتسعون (¬2)، فتغيّر بإدراج هذه الحلقة ترتيبُ سائر الحلقات الآتية بعدها في الذكريات. وقد اجتهدت في ضبط أكثر أسماء الأعلام والأماكن الواردة في هذا الكتاب بالشَّكْل، ولا سيما حيثما أحسست أنها أسماء بعيدة عن مألوف عامة القرّاء، رجاءَ أن يلفظوها لفظاً صحيحاً. وكذلك ضبطت بالشَّكْل كلَّ لفظ غريب قدّرتُ أن يستصعب النطقَ به بعضُ القرّاء، ثم شكّلت كل ما ورد من الشعر (ولم يكن شيءٌ منه مشكولاً في الطبعة السابقة)، فالشعر يفقد وزنه إذا اختلّت قراءته، وغريبُ اللفظ فيه أكثر من سواه. ووحّدت رَسْمَ الكلمات التي وردت في الطبعة السابقة في صور شتى، إذ لا يجوز أن يتعدد رسم الاسم الواحد في الكتاب الواحد، فقد وجدت -مثلاً- «سوريا» و «سورية» عَلَماً على البلد، فجعلتها «سوريا» بالألف حيثما وردت، لأن مذهب كتابة أسماء البلدان بتاء مربوطة قد اندثر اليوم بعدما كان شائعاً في أخريات ¬

_ (¬1) ذلك هو شطر الحلقة السادسة والسبعين؛ انظر صفحة 107 في الجزء الثالث من هذه الطبعة الجديدة. (¬2) انظر تعليقي عليها في الصفحة 379 من الجزء الثالث لمعرفة سبب خلوّ الطبعات السابقة منها.

القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فلم تعد تجد اليوم «فرنسة» و «إيطالية» مثلاً بل «فرنسا» و «إيطاليا». وكذلك وجدت في الذكريات «أمريكا» و «أميركا» و «أوروبا» بواو ثانية و «أوربا» بلا واو، فجعلت ذلك كله «أميركا» و «أوربا» لأنه هو مذهب جدي رحمه الله في كتابة هذه الأسماء. وقل مثل ذلك في اختلاف رسم اسم العلَم (العمودي والعامودي مثلاً)، وعشرات من أمثال ذلك. وقد وقعَت أخطاء الرسم هذه كلها وكثيرٌ من أخطاء الإملاء (التي صحّحتها) وبعضُ الأخطاء المضحكة في تبديل كلمة بأخرى، كل ذلك وقع حينما توقف جدي عن كتابة الحلقات بخط يده وتحوّل إلى إملائها بصوته، فصارت تُسَجَّل على شريط يذهب إلى الجريدة فيَطبع طابِعُها الحديثَ الذي يسمعه كما يسمعه، فما أكثرَ الأعاجيب التي كنتَ تجدها مطبوعة عندئذ، أكثرُها صحّحه جدي في وقته وأقلها وجد طريقه إلى الكتاب المنشور! أما الحواشي التي أضفتها إلى الكتاب فقد سرت فيها على خطتي المألوفة التي اتّبعتها في كل ما راجعته من كتب جدي من قبل؛ فأنا أوضح فيها ما أجده غامضاً غموضاً أقدّر حاجة عامة القراء إلى إيضاحه (وهو في هذه الذكريات أكثر من سواه فيسائر الكتب بسبب خصوصية الزمان والمكان) أو موجَزاً إيجازاً يصلح معه بعض التفصيل والبيان، وإذا أشار إلى مقالة له أو كتاب ذكرتُ المقالة أو ذكرت الكتاب، وربما وجدته قد طرح المسألة في صيغة الشكّ أو التساؤل، فعندئذ أتابعه فيها بقدر ما أملك من التدقيق والتوثيق، كضبط بيت من الشعر أو نسبته إلى قائله، أو تحقيق معلومة تاريخية، وأمثال ذلك مما ستجدونه في مواضعه.

وسوف يجد قارئ هذه الذكريات أن في بعض مواضعها تكراراً، فيقرأ في حلقة وصفاً لأحداث قرأ عنها في حلقة مضت أو حديثاً عن أعلام سبق الحديث عنهم فيما مرّ من حلقات (وهو أمر اعتذر منه المؤلف غيرَ مرّة في ثنايا الذكريات) (¬1)، وكل ذلك تركته لم أمسّ منه شيئاً ولم أعلق عليه مشيراً إلى تكراره، لأن المناسبة جرّت إليه هنا كما جرّت إليه هناك، ولأن الحديث -وإن تكرر- قد جاء بصورة غير الصورة أو بكلمات غير الكلمات. الموضعُ الوحيد الذي تدخّلتُ فيه بالحذف كان حين حذفت قطعة طويلة مكررة بكلماتها وحروفها جميعاً، وهي نحو خمس صفحات كانت في الحلقتين 207 و208 من الطبعة القديمة (وهما اليوم الحلقتان 208 و209 في الجزء السابع)؛ فقد أفرد جدي -رحمه الله- الحلقة الخامسة والسبعين من ذكرياته للحديث عن الخط الحديدي الحجازي، ثم عاد بعد سنتين فكرر عنه الحديثَ في هاتين الحلقتين، فلم أشكّ في أنه قد سها ونسي وتابعه الناشر في سهوه ونسيانه. * * * بقي أن أوضّح أمراً ربما كان قد أثار تساؤل بعض القراء الذين قرؤوا الكتاب في طبعته القديمة: لماذا بدأ علي الطنطاوي الحلقات الأولى من هذه الذكريات بالحديث عن مدرسته، ثم ¬

_ (¬1) قال في أول الحلقة 175: "لمّا اقترحوا عليّ كتابة هذه الذكريات لم يكن لها في ذهني صورة، ولم يكن تحت يدي أوراق مكتوبة أعتمد عليها، وكنت أغبط من يكتب ذكرياته ويرجع إلى مذكرات كتبها في حينها ... أكتب والله الحلقة ولا أكاد أذكر ما قلت قبلها، ولا أدري شيئاً عمّا سأكتب بعدها".

عاد بعد خمسَ عشرةَ حلقة ليتحدث عن جدّه وأصل أسرته، وبعد عشرين حلقة ليحدثنا عن أبيه، وأربع وأربعين حلقة ليحدثنا عن أمه؟ نعم، لقد عوّدَنا أن يقفز من موضوع إلى آخر وأن يقطع موضوعاً فيَصِلَه بعد عشر حلقات أو عشرين، أو لا يصله أبداً، لكن المنطق أن يبدأ المرءُ حديثَه عن نفسه بالحديث عن منشأ أسرته وعن أجداده وآبائه، وذلك قبل أن يتفرّع مشرّقاً ومغرّباً. والجواب هو أن ما ترونه أمامكم بعد هذه الصفحات وفي رأسه رقم (1) ليس هو الفصل الأول في الحكاية ولا هو أولى حلقات الذكريات، بل هو الحلقة الثالثة، أما الحلقتان الأولى والثانية فلم تظهرا في الكتاب قط. لقد جاء الأستاذ زهير الأيوبي يطلب من جدي ابتداءً أن يكتب ذكرياته في «المسلمون»، فلما فشل في حمله على الكتابة هوّن له الأمر فعرض عليه أن يتحدث على سجيته فيسجَّل حديثُه ثم يُحرَّر ويُنشَر، فاستسهل المسألة فوافق على العرض. قال في المقدمة التي تقرؤونها في الصفحات الآتيات: "ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحداً من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، فسمع مني ونقل عني وكتب حلقتين كانتا من براعة الاستهلال لهذا الكتاب. وما قصّر أحسن الله إليه، ولكن لا يَحُكّ جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله عليّ أن أعاد بعضَ نشاطي إليّ، فبدأت أكتب". وهكذا ظهرت الحلقة الأولى في الصفحة الأولى من العدد الرابع من أعداد مجلة «المسلمون» (الوليدة يومئذ) في الرابع والعشرين من محرم عام 1402 (20/ 11/1981)، وتلتها الحلقة

الثانية في الأسبوع الذي بعده، وفي هاتين الحلقتينتحدث جدي -رحمه الله- عن أصل أسرته وعن جده وأبويه وبيته الذي نشأ فيه صغيراً والكُتّاب الذي دخله ثم المدراس التي تنقّل بينها، كل ذلك حدّث به حديثاً مختصَراً لا تفصيل فيه ولا تطويل، لأنه لم يكن قد اختطّ خطة لكتابة هذه الذكريات ولا درى أنه سيتوسع فيها بالقَدْر الذي صنع من بعد (¬1). فلما رأى حديثه منشوراً في المجلة بقلم المحرر وأسلوبه اتّقَدت حماسته وشمّر عن ساعده، واستلّ من غمده قلماً كان قد طواه وشرع يكتب ذكرياته بنفسه، فثَمّ كان مبتدَأ الذكريات المنشورة وكانت أولى حلقات هذا الكتاب. * * * هذا مُجمَل عملي في هذه الطبعة الجديدة من «الذكريات»، لعلّي أفي به صاحبَها بعضَ الفضل الذي أنا مَدين له به، وإنه لكثير. وأرجو أن أشاركه في أجر الانتفاع بما فيها، فأكسب أجراً أجده في صحيفتي يوم الحساب، وإني إليه يومئذ لمحتاج. مجاهد مأمون ديرانية جُدّة: جُمادى الأولى 1427 ¬

_ (¬1) فلما مضى يحدثنا ذلك الحديث الممتع المطوَّل عن طفولته وذكريات المدرسة وأخبار الرِّفاق والمدرّسين، لما صنع ذلك لم يكن بدٌّ من أن يعود بتفصيل مشابه إلى أصله وأسرته، وأن يقف الوقفة الطويلة مع أمه وأبيه، فصنع ذلك بعدما سار في الذكريات الشوط الطويل.

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم لك الحمد، اللهم وفّقنا لما ترضى واختم لنا بالحسنى. وبعد: فهذه ذكرياتي، حملتُها طول حياتي وكنت أعُدّها أغلى مقتنياتي، لأجد فيها يوماً نفسي وأسترجع أمسي؛ كما يحمل قِربةَ الماء سالكُ المَفازة لتردّ عنه الموت عطشاً. ولكن طال الطريق وانثقبت القِربة، فكلما خطوت خطوة قطرَت منها قطرة. حتى إذا قارب ماؤها النفاد، وثقل عليّ الحمل، وكَلّ مني الساعد، جاء مَن يرتق خرقَها ويحمل عني ثقلها ويحفظ لي ما بقي فيها من مائها، وكان اسمه زهير الأيوبي. جاءني يطلب مني أن أدوّن ذكرياتي في مجلة «المسلمون» لمّا عزم الأخوان الأستاذان هشام ومحمد ابنا أخي الأستاذ علي حافظ على إصدارها. وكان نشرُ هذه الذكريات إحدى أمانيّ الكِبار في الحياة، ولطالما عزمت عليها ثم شُغلت عنها، وأعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها، ثم لم أكتبها، بل أنا لم أشرع بها؛ لأني لا أكتب إلا للمطبعة. لذلك لم أجد عندي شيئاً مكتوباً أرجع عند تدوين الذكريات إليه وأعتمد عليه، وما استودعتُ الذاكرة ضعفت الذاكرة عن حفظه وعجزَتْ عن تذكّره؛ لذلك

أجّلت وماطلت وحاولت الهرب من غير إبداء السبب، وهو يحاصرني ويسدّ المهارب عليّ ويمسك بأدبه ولطفه وحسن مدخله، يمسك لساني عن التصريح بالرفض. ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحداً من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، واخترنا الأخ العالِم الأديب إبراهيم سرسيق، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين كانتا من براعة الاستهلال لهذا الكتاب. وما قصّر أحسن الله إليه، بل لقد تطوّل وأحسن وأجمل، ولكن لا يَحُكّ جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله عليّ أن أعاد بعض نشاطي إليّ، فبدأت أكتب. ولولا زهير الذي اقترح، ولولا إبراهيم الذي نشّط وشجّع، لما كتبتُ؛ فلهما وللأستاذين هشام ومحمد، ولَدَي الأستاذ علي حافظ وابنَي أخ الأستاذ عثمان حافظ، رائد الصحافة في هذه البلد، لهم الشكر. والشكر لولدي وصهري صاحب دار المنارة التي تقدّم الطبعة الأولى من هذه الذكريات، ولحفيدي الذي عمل على ترتيبها وتنسيقها وإعدادها للطبع. وإن كان صهري محمد نادر حتاحت وحفيدي مجاهد ديرانية مني، ليسا غريبين عني، فإن شكرتهما فحمداً لله أن رزقني مثلهما، وإلاّ فما يشكر امرؤٌ نفسَه. والشكر للأستاذ محمد علي دولة، الذي آثر العمل في نشر الكتب على التعليم الذي كان من أهله وكان موفَّقاً فيه، لما يجد في النشر من نفع الناس ورجاء ثواب الله. فهو الذي وقف على

طبع الكتاب ووضع فيه ذوقه وفنه وخبرته وتجرِبته. * * * بدأتُ كتابة الذكريات وليس في ذهني خطّة أسير عليها ولا طريقة أسلكها، وأصدُق القارئ أني شرعت فيها شبه المكرَه عليها، أكتب الحلقة ولا أعرف ما يأتي بعدها، وكثيراً ما كنت أنسى ما الذي كتبته في التي قبلها، فجاءت غريبة عن أساليب المذكّرات وطرائق المؤرّخين؛ فمن المؤرّخين من مشى مع السنين اقتداء بشيخهم وشيخ المفسّرين الطبري، فقطّع الحادث الواحد تقطيعاً فأضاع وَحدته وأبلى جِدّته، ومنهم من جمع الأحداث، ربط مبداها بمنتهاها ولكنه أخفى زمانها. ووجدت الذين كتبوا مذكّراتهم في هذه الأيام منهم من اعتمد على وثائق مدوَّنة أو وصف للحادثات كتبه في حينها. وأنا لا أملك إلا بعض الأوراق الرسمية المدرسية أو الوظيفية أو الصور الشمسية، وكثيرٌ منها لم يكُن تحت يدي وأنا أكتب، وقلت لنفسي: إن جاءت مهوّشة على غير نظام فكذلك الدنيا؛ الدنيا فيها صحو ومطر، ومسرّة وكدر، ويسر وعسر، وضحك وبكاء، وشدة ورخاء. ولكن هل يأتي ذلك على ترتيب معروف ونهج واضح؟ كذلك جاءت ذكرياتي. ولعلي إن مدّ الله في الأجل ونشّطني للعمل أعود إليها فأستأنف النظر فيها فأَنْظمها في خيط واحد، أضمّ النظير إلى نظيره، أجمع الأشياء وأؤلف بين النظائر حتى يأتي الحديث

مسلسَلاً. وإن لم يقدَّر لي ذلك فحسبي أن أنقذت من النسيان ما أمكن إنقاذه. هذا وأنا إلى الآن قد كتبتُ (أو أنا على الصحيح قد أمليتُ وكتبوا) (¬1) مئة وثلاثين حلقة ولا أزال في سنة 1359هـ، فهل أصل إلى نهاية الشوط؟ اللهم إن أحييتني فوفّقني لما يرضيك، وإن توفّيتني فعلى دينك، واكتب لي بكرمك العفوَ عن سيئاتي والنجاةَ يوم الحساب. مكة المكرمة: صفر 1405هـ علي الطنطاوي ¬

_ (¬1) الصحيح أنه كتب وأملى؛ فقد كتب بيده ثمانين حلقة، ثم كَلّ من الكتابة ومَلّ فصار يُملي الحلقة إملاء، يسجّلها بصوته على شريط فتطبعها الجريدة، ثم تردّها إليه مطبوعة لتصحيحها قبل نشرها (مجاهد).

ذكريات لا مذكرات

- 1 - ذكريات لا مذكّرات هذه ذكريات وليست مذكّرات؛ فالمذكّرات تكون متسلسلة مرتبة، تمدها وثائق معدَّة أو أوراق مكتوبة وذاكرة غضة قوية. وأنا رجل قد أدركه الكِبَرُ فكلّت الذاكرة وتسرب إلى مكامنها النسيان. والنسيان آفة الإنسان، وإن كان نعمة من الله. ولولا أن المرء ينسى آلام الحياة ما استطاع السكون إليها ولا الرضا بها. وليس لديّ أوراق مكتوبة أدوّن فيها الحادثة حين حدوثها وأصف أثرها في نفسي، وهذا تفريط كامل مني لم يعد إلى تداركه من سبيل، لذلك أوصي كل قارئ لهذه الفصول أن يتّخذ له دفتراً يدوّن فيه كل عشية ما رأى في يومه، لا أن يكتب ماذا طبخ وماذا أكل ولا كم ربح وكم أنفق، فما أريد قائمة مطعم ولا حساب مصرف، بل أريد أن يسجّل ما خطر على باله من أفكار وما اعتلج في نفسه من عواطف، وأثر ما رأى أو سمع في نفسه، لا ليطبعها وينشرها (فما كل الناس من أهل الأدب والكتابة والنشر) ولكن ليجد فيها -يوماً- نفسَه التي فقدها. لا تعجبوا من هذا الكلام، فنحن في تبدّل مستمرّ؛ كل يوم

يموت فيّ شخص ويولد شخص جديد، والميت أنا والمولود أنا. خلايا جسدي تتجدد كلها كل بضع سنوات حتى لا يبقى منها شيء مما كان (¬1). عواطف نفسي تتبدّل، فأحب اليوم ما كنت أكره بالأمس وأكره ما كنت أحبّ. أحكام عقلي تتغير، فأصوّب ما كنت أراه خطأ وأخطّئ ما كنت أجده صواباً. فإذا كانت خلايا الجسد تتجدّد، وعواطف النفس تتغير، وحكم العقل يتبدّل، فما هو العنصر الثابت الذي لا يتبدّل ولا يتغير؟ أقول: "قال لي عقلي" و"قلت لنفسي"، فمَن أنا -إذن- إذا كان عقلي غيري فأقول له وكانت نفسي غيري فتقول لي؟ العنصر الثابت الباقي هو الذي لا ينقص إن قُطع عضو من أعضائي ولا يموت إن متّ، بل يبقى حياً يحاسَب، فيكافَأ أو يعاقَب. هذا العنصر هو «أنا» الحقيقي، وهو شيء من غير عالمنا الأرضي فلا تنطبق عليه قوانين علومنا الأرضية، هو الروح (¬2). هذا تفسير قولي إن من تعوّد أن يكتب كل يوم في هذا الدفتر وجد فيه يوماً نفسَه التي فقدها. قلت إني أدوّن ذكريات لا أكتب مذكّرات. أنا لا أستطيع أن أكتب قصة حياتي متسلسلة مرتّبة لأني أعتمد على ذاكرة فقدَت حِدّتها وأبلت الأيامُ جِدّتَها، فقد أنسى الحادثة في موضعها ثم ¬

_ (¬1) وإن كانت خلايا الدماغ -كما قالوا- أطول بقاءً وأقلّ تبدّلاً. (¬2) هذه المعاني أفضتُ فيها موسَّعة في كتبي وفي أحاديثي في الإذاعة والرائي (أي التلفزيون). قلت: انظر «تعريف عام بدين الإسلام» ص21 - 22 (مجاهد).

أذكرها في غير موضعها. وعيبٌ آخر عندي، هو عيب كتب الأدب العربي القديم ومن نشأ عليها وألِفها، هو الاستطراد والخروج عن الموضوع. هذا كتاب «الحيوان» للجاحظ مثلاً، أسألُ من قرأه منكم: كم في أبوابه ممّا يدل عليه عنوانه؟ هل التزم فيه علم الحيوان (أي علم الحياة) أم ذهب به الاستطراد يميناً وشمالاً فتكلم في كل شيء؟ هذا هو أسلوب كتبنا الأدبية، فلا تلوموني -وقد نشأت عليها- أن أسلك سبيلها. لقد صار الاستطراد عادة لي. أعترفُ أنها عادة سيئة، ولكنْ ما أكثرَ العادات السيئة التي لزمتنا فلم نستطع الانفكاك عنها! ولو كانت من المحرّمات لأكرهت نفسي على تركها، فليس لمسلم يأتي المحرّمات أن يحتجّ بتعوده عليها، ولكنها -لسوء حظي- ليست من المحرّمات. ولطالما كنت أخطب في الحشد الكبير أو أتكلم في الإذاعة أو الرائي (وأحاديثي فيهما كلها ارتجال ليس أمامي ورقة مكتوبة أقرأ فيها)، فأستطرد وأخرج عن الخط، فإذا انتهى الاستطراد وقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة، فلا أذكر من أين خرجت ولا إلى أين أعود. ولا تسألوني مَن هو هذا الشيخ، فإن المثل خلّد ذِكر الحمار ونسي اسم الشيخ ليعلّمنا أن خلود الأسماء ليس الدليلَ على عظمة أصحابها. والمذكّرات يكتبها أرباب المناصب ورجال السياسة وقادة الجيوش، الذين شاركوا في صنع الأحداث فاستحقّوا أن تكون

مذكّراتهم من مصادر التأريخ لهذه الأحداث (بعد ضرب بعضها ببعضٍ وتمحيص ما ورد فيها، لأن كل خبّاز يجرّ النار إلى قرصه وكل راوٍ لقصة يكبّر دوره فيها ويصغّر أو يمحو دور غيره). ولست من هؤلاء، وإن كنت قد شاركت -من فوق المنبر، أو من وراء المذياع، أو من بين سطور الصحف والكتب- في كثير من الأحداث في بلدي. شاركت فيها ولم أكن من صانعيها ولا من قاطفي أثمارها. وإني طول عمري أقرب إلى العزلة، أعيش بين كتبي وقلة من إخواني، ذهب جلّهم إلى رحمة الله. وقد يقرأ امرؤٌ ما كتبت في الحادث العظيم أو يسمع ما قلت فيه، فيحسب أني أنا مدبّر الأمر وأني مديره، لا يعلم أني جئت من بيتي فدخلت من الباب الخلفي إلى المنبر، ثم نزلت من المنبر فخرجت من الباب الخلفي إلى بيتي، وإن كانت لي مواقف حوّلت مسار الحوادث وأقامَت وأقعدَت وأثارت وحمّست، لا يزال يذكرها كثير من أهل بلدي. عفواً فأنا لا أمدح نفسي، وأنا أعلم أن الحديث عن النفس ثقيل على السمع، وكلمة «أنا» ليست من الكلمات المستساغات، ولكن ماذا أصنع وأنا أدوّن ذكريات موضوعها «أنا»، فإن لم أتكلم عن نفسي في سرد ذكرياتي فعمّن تريدون أن أتكلم؟ ولكن لكم عليّ عهداً أنا موفٍ به إن شاء الله، هو ألاّ أقول إلاّ الحقّ وألاّ أذكر مما صنعت إلاّ ما يشهد كل مَن «عاصره» أنني صنعته. وبيان آخر: الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قُدُماً، لا يعرج على شيء ولا يلتفت إليه، ولكن السائح يسير متمهلاً ينظر يَمْنةً ويَسْرةً، فإن رأى منظراً عجيباً وقف عليه،

وإن أبصر شيئاً غريباً صوّره، وإن مرّ بأثر قديم سأل عن تاريخه، فيكون له من سَيره متعة ويكون له منه منفعة. وأنا لا أحب في هذه الذكريات أن أمشي مشية الجندي، بل أسير مسيرة السائح. لا أكون مغمض العينين لا يرى من الدنيا إلاّ نفسه، كالذي يدخل بهو المرايا في «فرساي»، ولا أريد أن أتحدث عن نفسي وحدها وأغفل ما حولي. ولعلّ وصف ما كان حولي أجدى على القراء من سرد قصة حياتي وحدها؛ ذلك أن ما كان في صغري أمراً عادياً صار الآن عند أكثر الناس تاريخاً. * * * دمشق التي عرفتها وأنا صغير ليست دمشق التي نراها الآن؛ تبدلت دُورُها وحاراتها وأزياء أهلها وكثير من أعرافهم وأوضاعهم، ودخل الحديث عنها في باب التاريخ. ولست أصف هنا دمشق، فإن لي كتاباً اسمه «دمشق» فيه صور من جمالها وعِبَر من نضالها، ونشرت في «الرسالة» في عَشر الثلاثين من هذا القرن الميلادي (أو الثلاثينيات كما تقولون) مقالات كثيرة عنها (¬1). وفي الدنيا اليوم مدن كثيرة موغلة في القِدَم، حتى إن التاريخ نفسه لم يدرك ولادتها، ولكن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة في الدنيا. وفي الدنيا مدن كثيرة بارعة الجمال، ولكن ¬

_ (¬1) انظر -بشكل خاص- مقالة «دمشق التي عرفتها وأنا صغير» في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» ومقالة «حديث عن دمشق» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

دمشق (في نظر أهلها على الأقل) أجمل مدن الدنيا. أوْ كانت أجمل بلاد الدنيا، فأفسدنا نحن -أهلَها- جمالها. أدهشَت غوطتُها العربَ لمّا رأوها، فأنطقت شعراءهم بروائع البيان وخوالد القصائد. فأين اليوم الغوطة؟ الغوطة الغربية قطعنا أشجارها وقلعنا أورادها وأزهارها، ورمينا فوق رأسها الحجارة والأبرق (أي الإسمنت المسلّح)، فقتلناها خنقاً ودفنّاها حية، وأقمنا عليها بيوتاً طبقاتها صناديق وعلب لسردين البشر جعلناها قبوراً لها. تبدلت دمشق حتى جوها. مَن كان يحتاج في صيف دمشق إلى مراوح فضلاً عن المكيّفات؟ متى كانت تصل الحرارة فيها إلى أربعين درجة مئوية؟ كان إخواننا من أهل المملكة السعودية وأهل العراق يصيّفون في دمشق نفسها، وما كنا نحن -أهل دمشق- نعرف الانتقال في الصيف إلى الجبال. فما الذي غيّرها؟ مَن ألهب هواءها وسدّ مسارب النسيم الناعش إليها؟ نحن، نحن الذين قطعوا أشجارها. الناس يزرعون ونحن نقلع، وهم يحوّلون الصحارى بساتين ونحن نمسخ البساتين صحراء. ما صنعنا هذا اليوم ولا قبل خمس سنين، بل هي جناية جنيناها على دمشق من عشرات مضت من السنين، حتى ضاع الجاني وقُيّدت «جناية من مجهول»! حتى الغوطة الشرقية، الغوطة الكبرى، ما سلمت منا ولا نجت من أذى أيدينا. في طرف الغوطة منطقة تُدعى «درب الجوز» أعرفها أنا، فيها من أشجار الجوز ما لا يحيط بجذع الشجرة منها رجلان إذا مدّا أيديهما، لست أدري من هو العبقري

الذي اختارها لمنطقة المصانع ولا متى كان ذلك، فقامت مكان الأشجار الضخمة التي تثمر الجوز مداخنُ تنفث الدخان. الذي يقف على باب داره يرى الطريق والدكاكين والمارّة رؤية وضوح وبيان، ولكنه لا يرى ما بعد المنعطف ولا ما وراء الحيّ. فإن صعد المنارة رأى الحيّ كله، فاتسعت ساحة النظر ولكن قلّت تفاصيل المنظور. فإن ركب الطيارة أبصر البلدة كلها بنظرة شاملة لأطرافها مبيّنة لحدودها، لكنها مضيّعة لتفاصيلها ماحية لدقائقها. فما صورة دمشق التي عرفتها وأنا صغير؟ كنت إذا صعدت جبل قاسيون وبدت لي دمشق بغوطتَيها، وانجلت لعينَيّ لوحة عرضها أكثر من عشرين كيلاً، ألفّها بنظرة واحدة من شرفة داري؛ أرى الدنيا كلها تجمّعت مصغّرة فيها: فالعمران في البلد يتوسطه الجامع الأموي وقبة النسر التي كانت -منذ كانت- من أعظم القِباب التي أقامها العقل المفكر واليد الصَّنَاع، والحدائق والجنّات من حولها، وبردى وأبناؤه الستة تجري من تحتها، والمِزّة (¬1) تنظر إليها، وقاسيون يطلّ عليها، وسهول المزّة والكسوة تجاورها. فيها كل ما في الدنيا من سهل وجبل، وبستان وقفر، وساقية ونهر، ومسجد وقصر، إلاّ البحر. ¬

_ (¬1) يلفظها أهل الشام بفتح الميم والصوابُ كسرها. هي كذلك في معجم ياقوت وفي القاموس المحيط والتاج، وضبَطها كذلك العلامة عبدالقادر المغربي في «عثرات اللسان» (مجاهد).

على أنك ترى حول البلد (أو كنت ترى) بحراً من الخضرة والنبت والشجر. وأرى دمشق كأنها طائر حطّ ليستريح، جسده وسط السور وجناحاه ممتدّان إلى ميدان الحصى وحيّ المهاجرين. أو كأنها عروس أتعبَتها حفلة الزفاف فنامت: رأسها على ركبتَي قاسيون وقدماها في قرية «القدم»، وقلبها حيال قلب البلد الذي يهفو إليه قلب كلّ مسلم، وهو المسجد، الجامع الأموي، أقدم المساجد الفخمة في ديار الإسلام (حاشا الحرمين). وإن كان التأنق في تفخيم المساجد وتزويقها وزخرفتها مما لا يستحسنه الإسلام. على أني سأعود ثم أعود إلى الحديث عن دمشق. والحديثُ عن دمشق لا يُمَلّ، ولو أني كتبت عن كل شهر عشته فيها صفحتين لكان من ذلك كتاب أكبر من القاموس المحيط. * * * أرجع إلى ذكرياتي: قرأتم في بعض ما كتبت قديماً قصة الساعات التي قضيتها في الكتّاب (¬1). بل الذي قرأتموه هو بعض القصة، طرف منها. في ¬

_ (¬1) هي في مقالة «في الكُتّاب» المنشورة في كتاب «من حديث النفس»، وفيها: "وكَرّت بي الذكرى إلى سنة 1914، إلى أول خَطب نزل بي. لا أعني الحرب العامّة فلم تكن الحرب قد أعلنت، وما كنت لأفقه معنى الحرب أو أبالي بها، ولكنْ أعني ما هو أشد وأفظع ... "، فمن شاء فليقرأ تتمة القصة هناك (مجاهد).

المحكمة يحلّفون الشاهد بأن يقول الحق، كل الحق ولا شيء غير الحق؛ ذلك لأن بعض الحق أقرب إلى الباطل. والذي قرأتموه عن ساعاتي في ذلك الكتّاب صحيح، ولكنه بعض الحق. كانت تلك الساعات أمرّ مما قرأتم عنها وكان جرحها في نفسي أعمق، وحسبكم أن تعلموا أنه مرّ عليها اليوم سبع وستون سنة ولم أنسَها. ولكني لم أعُد أحسّ ألمها، لأنني حين أتحدث عني وأنا صغير أكون كمن يتحدث عن إنسان آخر، هو أنا وليس أنا. لا أتفلسف ولا آتي بالأحاجي والألغاز، بل أقرر حقيقة. قلت لكم إنه مر في حياتي عشرات من الناس كلهم يحمل اسمي، وكلهم «أنا» بمعنى الكلمة عند زملائنا أساتذة علم النفس، وما منهم إلاّ واحد هو أنا بإحساسي وعاطفتي وفكري. حسبتموني قد أثّر فيّ الكبر فخرفت؟ أتريدون أن أفسر لكم ما قلت؟ قفوا على الجسر وراقبوا ماء النهر يجري تحت أرجلكم. هل ترون قطرة تقف؟ أليس كل ما ترونه قطرات يدفع بعضُها بعضاً؟ واحدة تروح فلا ترجع أبداً، وواحدة تأتي على إثرها فلا تقف أبداً. إنه أبداً في تبدّل، في تجدّد، لا يمكن -مهما أطلت الوقوف على الجسر ومهما عدت فوقفت من جديد- لا يمكن أن ترى قطرة واحدة مرتين. وكذلك الإنسان، إنه في تبدّل وتجدّد. ولكن هذا التبدّل لا يُفقِد النهرَ اسمه ولا خصائصه، ولا يجعل النيل دجلة ولا دجلة بردى ولا بردى نهر التايمس. وكذلك الإنسان تبقى شخصيته ثابتة، فلا يصير زيد عَمْراً ولا صالح بكراً.

لذلك أشكر أخي زهيراً أن أرجعني القَهقرى في طريق العمر حتى لقيت ما أضعت من نفسي، حين ألزمني كتابة هذه الذكريات، وغرّه مني شيبي وشبابه فأمسك بي بقبضة لم أستطع الإفلات منها، وبعث في أثري شرطياً عنيفاً هو إبراهيم سرسيق، رجل له لسان طريّ ليّن ويد طويلة قاسية، فسحبني بلسانه ولفّ عليّ يده. ولو جاءاني من أربعين سنة وأنا في مثل سنهما لما قدرا عليّ، ولو كانت هذه الكتابة يومئذٍ لكتبت غير هذا الذي أكتبه الآن. كنت أغرف من بحر وأنا اليوم أنحت في الصخر. كان الفكر شاباً فشاخ، فمَن قال لكم إن الفكر لا يشيخ فلا تصدّقوه. كان قلمي يجري على القرطاس كفرس السباق لا أستطيع أن أجاريه، فأمسى كالحصان العجوز أجرّه فلا يكاد يُجَرّ. كانت المعاني حاضرة والقلم مستعداً، ولكن الصحف مفقودة أو قليلة، وكنا نكتب بلا أجر فلا نجد من ينشر لنا فكثرت المجلات وزادت الأجور، ولكنْ كَلّ الذهن، وثَقُل القلم، وضعفت الذاكرة. كنا جياعاً فقدنا الطعام، فلما حضر الطعام فقدنا الشهية! كنت كمن أقام مصنعاً جلب له أحسن الآلات وشغّل فيه أقدر العمال وأخرج منه أجود المنتَجات، فلم يجد لها شارياً. وملّ الانتظار فباع البضاعة جزافاً، وسرّح العمال وباع الآلات، فأقبل عليه الشارون وتواترت الطلبات. * * *

من ذكرياتي عن دمشق

-2 - من ذكرياتي عن دمشق «الحياةُ الحبُّ والحبُّ الحياة». هذا ما قاله شوقي، ولكني لست في هذا معه؛ فقد يموت المحبّ ويعيش ناس بلا حبّ. وما أنا من أنداد شوقي، لكن لو قال «ما العيش إلاّ الذكريات» لكان أصدق. النبات يمتصّ حياته من أرضه بجذوره، فإن نقلتَه منها تقطّعَت فذبلَت الأوراق وتراخت العروق. والإنسان في هذا كالنبات، وجذوره ذكرياته؛ فإن نقلتَه إلى بلد ما له فيها ذكرى وما تربطه بها رابطة أحسّ كأنْ قد انقطع سلكُ حياته. فإذا أقام في البلد الجديد اتصل المنقطع، كالنبات يضرب جذوراً جديدة في المكان الجديد وتنمو وتمتدّ كلما امتدّ به المقام، فإذا أعدتَه إلى أرضه الأولى عاد إلى الذبول. وهذه مشاعر عرفتها لما ذهبت إلى مصر للدراسة سنة 1928، وإلى العراق للتدريس سنة 1936، وإلى بيروت سنة 1937. ثم قدمت المملكة سنة 1963 وأقمت فيها إلى الآن. وإن لم أجد الاستقرار لأن دنيا طالب العلم مكتبته، ومكتبتي في

الشام مودَعة في خمس وثمانين صندوقاً لم تُفتَح من إحدى عشرة سنة، ولست أدري أأكلَتها الأَرَضة أم هي سالمة لا تزال، وأنا هنا محروم منها لا أستطيع الوصول إليها، ولم أجد المحسن الكريم الذي يوصلها إليّ، بالأجرة لا بالمجّان، فما أريد إحساناً من أحد لأن الله أغناني بإحسانه. وقد أصبحت أزور الشام لِماماً لمّا حيل بيني وبين زيارتها، بعد أن كتبت عنها ما لم يكتب مثلَه أحدٌ من أهلها وشاركت أهلها النضال للاستقلال. وكان آخر عهدي بها من أربع سنين (¬1)؛ ذهبت إليها بعدما انقطعت عنها (أو قُطِعتُ) خمساً (¬2)، فهبطت بي الطيارة في المطار الجديد، ولم أكن أعرفه من قبل، فنظرت إلى البلد من بعيد فقلت مقالة بلقيس: «كأنه هو»! الجبل الذي يلوح لي جاثماً على حافة الأفق هو قاسيون، وهذه المنازل الماثلات صفوفاً كالأولاد المدلّلين في حضن الأب الحاني هي أحياء السفح: «الأكراد» و «الصالحية» و «المهاجرين». وهذه العمد البيض السامقة التي تشبه إصبع المتشهد يشير بكلمة الحق نحو السماء هي مآذن المساجد. ومن نِعَم الله على أهل الشام أنه لا ينشأ فيها حيّ جديد إلاّ كان أول ما يُقام فيه المسجد، يقيمه الشعب بماله، مساجد ليست للمظهر ولا للزينة ولكن لتمتلئ بالمصلّين والدارسين، وجلهم من الشباب. هذي دمشق، فلِمَ لا أحسّ فرحة الآيب إلى بلده؟ لماذا ¬

_ (¬1) كتب هذا الكلام سنة 1401. (¬2) ثم لم يعد إليها قط حتى توفاه الله، عليه رحمة الله (مجاهد).

أراها متغيرة في عيني؟ وتوجهت بي السيارة إلى البلد تمشي خمسة وعشرين كيلاً في بستان واحد، هو ما بقي من الغوطة الشرقية، تتماسك أشجاره تَماسُك أيدي الأصدقاء ساعة اللقاء وتتعانق فروعها تَعانُق العشّاق بعد طول الفراق، حتى بلغنا دمشق. ولكني لم أشعر بأنها دمشق، وحسبت الطيارة ضلت الطريق إليها فهبطت غيرها. شوارع عراض، وعمارات عالية، وساحات وجسور (يسمّيها إخواننا المصريون باسمها التركي: الكباري). ولكن ما لي ولها؟ هذه مدينة جديدة طالما رأيت مثلها حيثما مشيت في مناكب الأرض (ولقد مشيت إلى أقصى الشرق من أندونيسيا وأبعد الشمال من هولندا). إنها متشابهة كالنسخة المطبوعة من الكتاب وأنا أريد نسختي المخطوطة، نسختي المفردة على ما فيها من عيوب. هل يتخلى أب عن ابنه لعيوبه ويأخذ ابن غيره المنزَّه عن العيوب؟ أريد دمشق مَربَع أسرتي، ومَرتَع صباي، ومَغنى فتوّتي. فأين هي دمشق التي تشمّمتُ ريّاها، ونشقت صَباها، ونشأت في حماها؟ أهذي هي دمشق؟ فما لها تغيرت معالمها وتبدّلت أزياؤها، وإن ازداد عمرانها وعلا بنيانها؟ ما للوجوه غدت غير الوجوه؟ كنت إن قابلت في الطريق عشرة عرفت منهم واحداً أو اثنين وعرفني أربعة أو خمسة، فما لي اليوم أبصر مئة فلا أكاد أعرف من المئة واحداً ولا يعرفني ثلاثة؟

أبُدِّلت الدنيا أم صرت غريباً في بلدي؟ أمّا الخيامُ فإنها كخِيامِهم ... وأرى نساءَ الحيّ غيرَ نسائها وطفت في هذه الشوارع المتشابهة أفتّش عن دمشق التي عرفتها وأحببتها. ومَن يعرف دمشق (تلك) ويملك نفسَه ألاّ يحبها؟ وطفقت أسأل المحسنين من المارّين: ألا مَن يدلّني على دار الحبيب؟ ولكن ما من مجيب. حتى هبّت نسمة من جهتها شممت فيها طيبها، فهداني أريجها إلى مكانها. فإذا أنا في ساحة «المرجة»، تلك التي كانت طرف البلد فصارت وسط القديم منه؛ ذلك أن المدن كالناس تعيش وتموت، وتنمو وتشبّ، ثم تهرم وتشيخ، وربما ولدت طفلاً فكبر الطفل فزاحمها على مكانها وأزاحها عنه. ودخلت سوق الحميدية الذي سارت بذكره -كما يُقال- الرّكبان، ولكن وقفَت فيه المشاة، وقفت فلم تتحرك إلاّ بمثل حركة «التصوير البطيء» في الأفلام. ورحت أزاحم، ونسيت أن الأيام لم تُبقِ لي كتفاً تشق الزحام وتطيق الصدام. غامرت ودخلت وصبرت، حتى إذا صرت عند السوق الذي يصل إلى خندق القلعة (قلعة دمشق التي لا تزال باقية سليمة) انحرفت يميناً فإذا أنا أمام مدرسة التجارة. وما مدرسة التجارة؟ إن هذا المكان أقدم وأكرم وأعظم. إن فيه مأثرة من أعظم المآثر في تاريخنا العلمي، بل في تاريخ العلم الإنساني؛ ها هنا كان أكبر مستشفى في الدنيا وأرقاه وأكمله، لم ينشأ مثله إلى عصره، هو البيمارستان النوري، أي المستشفى الذي أقامه السلطان نور الدين زنكي.

لا، لن أحدّثكم هنا عن عظمته، فاذهبوا فابحثوا عن تاريخه. ثم انعطفت يساراً فدخلت زقاق الفخر الرازي، وفيه قبر له (ولهذا القبر قصة طريفة سأقصّها عليكم)، فمررت بين القبر وبين منزل الأديب الشاعر خليل مردم بك. وكم كانت لنا فيه من مجالس مع شيخنا عالم الشام الشيخ محمد بهجة البيطار وصديقنا (بل أستاذنا) العالم الأديب الشاعر عزّ الدين التنوخي وأستاذنا صاحب الدار، رحم الله الجميع، وأخوَيّ رفيقَي العمر، أنور العطّار الشاعر رحمه الله، والأستاذ سعيد الأفغاني سلّمه الله (¬1). وجزت بها حتى وصلت إلى زاوية الزقاق، ومن هذه الزاوية يبدأ حديث اليوم. * * * في هذه الزاوية بقايا باب تدخل منه إلى دار صغيرة، تُفضي إلى صحن واسع جداً في صدره إيوان له قوس عالية جداً، وإلى جانبك واجهةُ قاعةٍ بعيدة الجنَبات رفيعة السقف. ولكنّ الدارَ مخرَّبةُ الجدران والقوسَ مهدّمةُ الأركان والأرضَ قد تحطّم بلاطها وتكسرت حجارتها، وفي وسطها بركة ما فيها ماء وليس عليها رواء، وحول الصحن غرف مهترئة الأبواب مخلَّعة النوافذ. والقاعة الكبيرة التي تمتدّ على نصف طول الصحن مملوءة هي والغرف بالبضائع، والحمّالون يدخلون ويخرجون يحملون ¬

_ (¬1) توفي -رحمه الله- بمكة سنة 1996 ودُفن فيها (مجاهد).

صناديق ويُنزِلون صناديق وهم يصيحون ويصرخون. فوقفت أنظر وفي العين عَبْرة وفي النفس عِبْرة. وتصورت أني أخرج من مكاني الذي أقف فيه ثم أنأى عنه، وانحصر ذهني في الماضي فتوهمت أنها تحققت خرافة «نفق الزمان» التي عرضها علينا الرائي هنا في يوم من الأيام: يدخل منه المرء فيسافر في الماضي يقف حيث شاء. فدخلت فإذا أنا أعود أدراجي أتخطى رقاب السنين، وأتقدّم ولكن إلى الوراء، أوغل في مسالك النفق والأيام تكرّ راجعة بي، حتى وقفت على أوائل سنة 1914. ورأيت الدار تعود مثل مَعادي، فإذا هي كمثيلاتها من دور دمشق العِظام في تلك الأيام. الأرض تُفرَش بالحجر المنقوش والمرمر الصافي، والجدران تكتسي الرخامَ ذا الألوان والنقوش الروائع الحسان، وتتجدّد البركة ويعود إليها رواؤها ويجري فيها ماؤها، أما «القاعة» فيكون فيها مثل ما في «قاعات» الدور الكبار في الشام: «فِسْقِيّة»، وهي طبق من الرخام المجزّع والحجر المِزّي (نسبة إلى المزة في دمشق) منحوت بيدٍ صَناع مُقَرنَص الجوانب، ينصبّ فيها الماء من نوافير صغار ترسم خطوطها متعاطفاً بعضها على بعض يكون منها مثل القبة الصغيرة، إذا تكسرت عليها أشعة النور بدت كأن فيها ألفَي حجر من الألماس، ثم ينصبّ الماء من الجوانب إلى طبق مثله أكبر منه، وكذلك ينتقل الماء من طبق إلى طبق بأبرع صناعة وأجمل فنّ. وفي هذه «القاعة» من هذا المنزل شيء لم أرَ مثله في غيره من دور دمشق الكبار. هو موقد (شومينه) من الرخام المتشابك

لها مدخنة من مثله، ومن حولها ممران في الجدار، يجري فيها الماء شلالاً صغيراً في الصيف ليبرد الجو في حين يدفّئه الموقد في الشتاء. وفي صحن الدار أشجار لا بد من مثلها في دور دمشق: الليمون والنارِنْج، ودَوَالي العنب تمتدّ جذوعها حتى تبلغ «المَشْرَقة»، وهي سطح الدور الثاني (وأكثر المنازل من طابقين أو دورَين، أرضيّ للصيف وعلويّ للشتاء). ويُقام لدوالي العنب «عَريشة»، وهي سطح من جذوع الخشب تتمدّد عروقُها عليها، تثمر العنبَ «البلدي» (وثمرته بيضاء مستطيلة قاسية) أو «الحلواني» (وهو مستدير أشقر قاس). وكان في دارٍ لعمّي في الصالحية دَوالٍ تغطي سطوح الدار، تُنتج في السنة (حقيقة لا تقديراً) من سبعمئةٍ إلى ألف كيل (¬1). صدّقوني فلست أبالغ، لقد أقاموا مرّة في داريّا (من قرى الغوطة الغربية) معرضاً للعنب الشامي عُرض فيه مئة وأربعة أنواع من العنب. وجدران الدار مغطّاة بأجمل أنواع النباتات المعروشات: الياسمين البلدي والمَلّيسة والياسمين العراتلي، وأنواع أخرى لا ينفعكم سرد أسمائها إن لم تذهبوا إلى الشام وتروها في دورها، وتروا في كل دار عشرات الأُصُص الصغار فيها من كل الأوراد والأزهار. ولكن يا للأسف ويا للحسرة! لقد ذهبت تلك الدور وما ¬

_ (¬1) كيلوغرام. وكلمة «كيلو» يونانية معناها «ألف».

فيها. تلك «بيوتنا هدمناها بأيدينا» (¬1). كانت جنّات تجري من تحتها الأنهار، كانت مَصيفاً وكانت مشتى. كان مَن فيها حرّاً، لا يرى حُرَم جار ولا يرى جارٌ حُرَمَه، فاستبدلنا بها صناديق من الإسمنت لا تدفع حرّ الصيف ولا برد الشتاء، من كان فيها رآه جاره وهو في فراشه ورأى هو الجار، إن ضحك أو بكى أو عطس سمعه من «المَنْوَر» كل سكان العمارة! كانت بيوتنا من خارجها كأنها مستودَعات بضاعة أو مخازن تبن، فإذا دخلت فُتح لك باب إلى الجنة، بهاؤها لأهلها لا نافذة تُفتح على طريق، بل لقد أدركت عهداً في الشام: الدار التي يُفتح بابها على الجادّة يقلّ ثمنها، لأن الدار المرغوب فيها التي يكون بابها في «دخلة» أو «حارة». وكانت نساؤنا كمنازلنا، يسترها عن العيون الحجاب السابغ فلا يبدو جمالها إلاّ لمن يحلّ له النظر إليها، فهُتكت الأستار عن المرأة وعن الدار! هذه هي الدور الشامية التي انتقل طرازها، لا إلى جيرانها، بل إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط (الذي كان يوماً بحيرة عربية، ولا تزال شواطئه أكثرها عربي وغالبها مسلم). إنها قفزت البحر بطوله لا بعرضه، إلى الأندلس ثم إلى المغرب. * * * ما الذي أريد أن أقوله بعد هذه المقدمة التي نويت أن أجعلها سطوراً فصارت صفحات، وغدت مقالة كاملة؟ ¬

_ (¬1) هذا عنوان فصل، أو قصة حقيقية، في كتابي «من حديث النفس».

أريد أن أقول إن المدرسة التي انتقلت إليها بعد تلك الساعات المعدودة في ذلك الكتّاب المرعب كانت في هذه الدار. هذه هي إحدى دور أسرة مردم بك، ما زهد فيها أهلها حتى جعلوها خراباً، بل إن صاحبها تنبّه إلى سقف القاعة، وكان -كأمثاله من السقوف القديمة- فيه أبرع النقوش وأحلاها بأثبت الألوان وأبقاها، أدرك قيمته ففكّه قبل أن يتخلّى عن الدار وباعه لمديرية الآثار، وهو محفوظ الآن في متحف الفنون الشعبية في دمشق. وهذا المتحف أقيمَ في أكمل أنموذج للدور الشامية، وهو «دار العظم»، فإن زرتم دمشق فستزورونه وترونه. ومن أصحاب هذه الدور مَن نقل القاعة (بحجارة جدرانها وسقفها المنقوش) إلى عمارته الجديدة فجعلها في غرفة فيها، صنع ذلك لطفي الحفّار رحمه الله، وهو من قدماء السياسيين ومن رؤساء الوزارات. * * *

من الكتاب إلى المدرسة التجارية

-3 - من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية تركتكم عند باب الدار قبل أن ندخل إليها، فهل أتبع معكم سنة نسائنا عند باب الدار قبل أن يخرجن منها؟ من سننهنّ في الشام أنها مهما طالت الزيارة ومهما امتدّ الحديث فلا بدّ للزائرات من وقفة وراء الباب للدّرْدَجة (¬1)، فهل تقفون معي أمام الباب لمثلها؟ أقف لأشكر ولأشكو، «فاعجَبْ لشاكٍ منهُ شاكِرْ» كما قال البهاء زهير. أشكر الأستاذين الناشرَين (¬2) والأستاذ رئيس التحرير، والأستاذ إبراهيم سرسيق على ما كتب في جريدة المدينة، فقد ألبسوني من ثنائهم ثوباً أطول من جسدي وأعرض فجعلوني أتعثّر بذيوله إن مشيت، لذا اضطررت إلى الوقوف. ¬

_ (¬1) الدردجة في اللغة أن يتوافق اثنان في المودّة، ولعل «الدردشة» منها مع تحريف في اللفظ وتصرف في المعنى. (¬2) هما ناشرا جريدة الشرق الأوسط هشام ومحمد حافظ ولدا الأستاذ علي حافظ، وقد نشرت هذه الذكريات أولاً في مجلتهما «المسلمون» ثم جريدتهما «الشرق الأوسط».

وهذا الذي أشكوه: يا إخوتي، إن مَثَلي ومثلكم مَثَل رجل غنّى لنفسه في الحمّام (كما غنى جحا) فأعجبه صوته، فغنّى لنفر من أصدقائه الأدنَين فأطربهم غناؤه، فلما طربوا طلبوا إليه أن يعود فيغني لهم، وهو يتشجع ويزيد. فقام واحد منهم على المنبر في مجمع الناس فقال لهم: أعرّفكم بمغنٍّ ما سمع السامعون أندى منه صوتاً ولا أطيب حنجرة، ولا أبصر بالألحان ولا أعرف بالأنغام. فهل تعرفون ماذا كان بعد؟ الذي كان أنه لم يَعُد يحسن شيئاً. إن النتيجة تُعلَن بعد الامتحان، فما لكم تعلنونها قبله؟ ألا تخافون أن أسقط فيه؟ ألا تعلمون أنكم بما رفعتموني فوق منزلتي (في صَدْر العدد الرابع من مجلة «المسلمون») ستجعلون سقطتي أشدّ، لأن الذي يقع من فوق النضد أو الكرسي ليس كمن يقع من فوق المنارة؟ ولماذا وضعتم صورتي على الغلاف؟ إننا نسمع أن «فتاة الغلاف» لا تكون إلاّ من ذوات الصّبا والجمال، فماذا يصنع القرّاء بصورة شيخ مثلي؟ ثم إنكم اخترتم صورة لي كبّرَتني وجعلتني أبدو أكبر من سنّي. إن الذي يراها يظنها صورة (عجوز) في السادسة والسبعين، مع أني في الخامسة والسبعين فقط لا غير. قال الأستاذ زهير إنه أقنعني بأن أكتب بعد جهود استمرّت أكثر من ثمانية شهور، فظن القرّاء أنها كانت مفاوضات مالية ومساومات على نشر المذكّرات، ولم يعلموا أننا لم نذكر فيها قطّ

المال ولا حق النشر، وإنما كانت حرصاً منه (أحسن الله إليه) على إخراجي من المَحبس الذي حبست فيه نفسي، وظناً منه أنه سيأتي «بما عَجَزَتْ عنه الأوائِلُ»، فيعيد الشباب إلى ذهن قد دبّ إليه المَشيب، يريد أن أصف عرس الربيع وأنا في مأتم الشتاء. إن إخواني في المملكة العربية السعودية لا يعرفون ما الربيع، ولو كانوا في الشام ورأوا الغوطة حين تشم روائح آذار، فتنبثق فيه الزهور من الحطب حتى تصير الشجرة بيضاء كالألماس (¬1)، ثم تتناثر الزهور وينبت مكانها الورق فتغدو خضراء كالزبرجد، ثم تحبل الشجرة فتلد الثمار حتى تميل إلى الأغصان. ولكن ما لي أترك سماء الواقع وأنزل إلى حضيض التشابيه؟ ما لي وللألماس والزبرجد؟ تلك حجارة ميتة وأنا أصف الزهر الحيّ. إن أشجار الغوطة في الربيع كالعرائس في ليالي الزفاف. ولكن لا، أتريدون أن أشبّه العروس بتمثال الشمع في المتحف، أو في مخازن الثياب عند عارضي الأزياء كما كان يصنع ابن المعتز؟ لست في سوق الصاغة، ولكني في معرض الأذواق. * * * وينتهي الصيف، ويأتي الخريف فيصفرّ الورق ويسّاقط، وترجع الشجرة حطباً، وتصير أيام الربيع ذكرى. ولكن الشجرة يتجدّد ربيعها. إن شتاءها يلد ربيعاً جديداً، وربيع حياتي الذي ¬

_ (¬1) أصلها «ألماس» وهمزتها منها لا كما قال صاحب القاموس.

ولّى لا يتجدّد. ودّعت أحلامي بطَرْفٍ باكي ... ولمَمْتُ مِن طُرُقِ المِلاحِ شِباكي (¬1) وإن لم أنصُبْ في عمري شبكة لفتاة (صدّقوني) ولا أوقعت حسناء يوماً في شرَك. كانَ لي بالأمسِ قلبٌ فقضى ... وأراحَ الناسَ منهُ واستراحْ (¬2) لقد قضى، فهل رأيت ميتاً عاد بعدما مات؟ هل أبصرت في سنة واحدة تعاقب ربيعَين؟ هل سمعت بإنسان عاش شبابَه مرّتين؟ كنتُ إن برقَت لي بارقة من جمال في وجوه البشر أو صفحات الكون أحسست بالعاطفة تشتعل في صدري والمشاعر تلعب بشغاف قلبي، فأفزع إلى القلم لأسجّل ما أحسست به، فيسابق قلمي فكري. وإن قرأت أخبار الوفاء أو الغدر أو سمعت أنباء الخير أو الشرّ شعرت بالأفكار تقرع جوانب رأسي، فأسارع إلى القلم لأقيّدها فأسكّنها. وإن صافح سمعي أبياتٌ من شاعر يَنظِم حبّات قلبه عقودَ بيان (لا كشِعر هذا الزمان) أو نغمات من مغنٍّ يصوغ عواطفه طاقات من ألحان، هزّتني فهززت قلمي. أسمع المغني في هدآت الليل يقول «آه» فأحسّ أنه يوقظ نائم الأشجان في كل قلب عاشق هيمان، أو مفجوع أسيان، حتى ¬

_ (¬1) من قطعة لشوقي. (¬2) لجبران.

يقول معه «آه»، يقتلعها من أعماق فؤاده. وإن نادى «يا ليل يا ليل» أصغى إليه الليل وتوقّف يستمع فما يسير، وتأخّر الفجر واستمهل حتى يفرغ من نداء الليل. كان كل ما أرى وكل ما أسمع يجعلني أكتب؛ أقوم من منامي وأكتب، وأقف على جانب الرصيف لأكتب، ولطالما كتبت المقالات والقصص على حواشي الجرائد وعلى كيس البقّال! لقد قرأت مرة ما كتبه الأستاذ محمد نمر الخطيب عن «بنات العرب في إسرائيل» وأنا على قوس المحكمة بعدما فرغت من المحاكمات، فكتبتها على كل قطعة ورق تحت يدي، لم أنتظر حتى أنزل عن القوس إلى غرفتي، ولم أنزل حتى كتبت القصة كلها في جلسة واحدة (¬1). لذلك بلغ المطبوع ممّا كتبت إلى الآن أكثرَ من أحد عشر ألف صفحة، وما ضاع منه كثير. فلماذا لم تَلقَني يا أستاذ زهير في تلك الأيام؟ يا أسفي على تلك الأيام! لماذا لم تأتِني وقلبي شابّ، وذهني حادّ، وذاكرتي قوية، وهمّتي لا يقف أمامها شيء؟ لماذا؟ آلآن يا أستاذ، آلآن؟ بعدما جفّ القلم، وطُويَت الصحف، ونُسيت الوقائع، وخمدت نار الحماسة، وسكنتُ إلى عزلتي ... ¬

_ (¬1) القصة في كتاب «قصص من الحياة»، وفي أولها: "هذه قصة واقعية قرأتها ملخَّصة في سطور في كتاب «من أثر النكبة» للأستاذ نمر الخطيب". وهي قصة موجعة مؤثّرة، لو قرأها امرؤٌ بقيت في عروقه بقية من دماء لما تمالك نفسه من البكاء (مجاهد).

جئتَ تدعوني أن أملأ بالمِداد قلماً ما عاد يصلح للكتابة، وأنشر صحفاً بليت واصفرّت من طول الإهمال؟ ولئن قدرت على هذا ففعلتُه فمَن لي بأن تتّقد بين جوانحي النار التي خمدت، وتُبعَث في نفسي الحماسة التي ماتت؟ أبعدما ولّى الربيع وصوّح النبت جئت تطلب مني الزهر؟ من أين آتيك باللبن وشاتي قد جفّ ضرعها؟ أين مني الزهر وروضتي قد يبس زرعها؟ على أني لا أيأس، فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها. فاقبل مني ما عندي، فهذا هو اليوم غاية جهدي. * * * وتعليق آخر: قال الأخوان الأستاذان الناشران إني لو أعلنت رقم هاتفي لما تركني السائلون ساعة في الأربع والعشرين ساعة. يا سيدَيّ الكريمَين، إني لم أعلن رقم الهاتف ولكن قد كان الذي صوّرتماه. وطالما رجوت أن ينحصر سؤال السائلين بين العصر والمغرب فما استُجيب رجائي. إني لا أكتم شيئاً من علمي القليل ولا أضنّ بمشورة على من يثق بي ويستشيرني، ولكن طاقة المرء محدودة و «الصبر له حدود» كما تقول الأغنية. * * * وبعد، فلقد طال الوقوف على الباب، فتفضّلوا بالدخول؛

لا إلى الأطلال التي وصفتها في الحلقة التي مضت، بل إلى الدار أيام عزّها. أترون جلالها وتحسّون جمالها؟ هنا كانت المدرسة الأولى التي دخلتها في حياتي. لا تعجلوا عليّ فتغبطوني أن انتقلت من ذلك الكُتّاب المُعتم إلى هذه المدرسة المشرقة ومن ضيقه إلى سعتها، فقد يعيش المرء سعيداً في الكوخ وقد يشقى في القصر. أما أنا فقد استهللت دراستي شقياً في الكُتّاب وشقياً في المدرسة. هذه المدرسة الكبيرة، التي كانت تسمى «اتحاد وترقّي مكتبي إعدادي سي» والتي اختصر الناس اسمَها وعرّبوه فقالوا «المدرسة التجارية» لأن الذي فتحها جماعة من التجّار (¬1). وكانت مدرسة جامعة، فيها قسم للحضانة وقسم للابتدائي وقسم للإعدادي والثانوي، ومجموع سنوات الدراسة فيها اثنتا عشرة سنة، ومنها إلى الطب أو السفر لإسطمبول. وهي إحدى مدارس أهلية ثلاث: «الكاملية» التي أنشأها الشيخ كامل القصاب، العالِم الوطني السياسي ومن مؤسّسي «المعارف» في المملكة، و «الكلية العلمية الوطنية»، وهذه (المدرسة التجارية). ومدارس حكومية أُنشئت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، مع مدارس البنات التي فُتحت بسعي المصلح الموجّه المعلم الشيخ طاهر الجزائري. ولي عمة كانت رحمها الله من أوائل مَن تعلّم في هذه المدارس وأخذت منها الشهادة «الرشدية» ¬

_ (¬1) يَسأل الرئيس خالد بك العظم في مذكّراته -وقد كان تلميذاً فيها عند أبي- أن لماذا سُمّيت المدرسةَ التجاريةَ، وهذا هو الجواب.

(وهي بين الابتدائية والمتوسطة) سنة 1300هـ، وكانت الشهادة عندي فضاعت من عهد قريب. ومدارس نصرانية أقيمت في الأصل للنصارى ولكن كان يدخلها بعض المسلمين بحجة تعلم اللغة الأجنبية (الحجة الواهية الباقية إلى الآن). ومن أعجب العجب أن شيخنا عالم الشام السلفي الجليل منشئ دار التوحيد في الطائف وعضو المجمع العلمي في دمشق (وهو أقدم المجامع العربية، أنشئ سنة 1920) شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار درس مدة في المدرسة العازارية النصرانية، وفيها تعلّم اللسان الفرنسي. ولا أقول هذا ليكون حجّة لمن يُدخِل ولده إليها، فقد كان دخول شيخنا إليها «فتنة وقى الله شرّها» كما قال عمر رضي الله عنه. كان المدير العام لهذه المدرسة (المدرسة التجارية) هو أبي الشيخ مصطفى بن أحمد بن علي بن مصطفى الطنطاوي، وهذا كل ما أعرف من نسبي (¬1)، أما الباقي فاسألوا عنه أهل طنطا فإنه هناك، ولن يعرفه أحد لأن لقب الطنطاوي أخذناه في الشام، ¬

_ (¬1) وجدت في «الأعلام» للزركلي في ترجمة الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي (وهو أخو الشيخ علي بن مصطفى، والشيخ علي هذا هو أبو جدّ جدي علي الطنطاوي رحمهم الله جميعاً) أن اسمه هو محمد ابن مصطفى بن يوسف بن علي. وقد انفرد عن سواه من مصادر ترجمة الشيخ محمد بذكر اسم الجدّين الأعليَين (يوسف وعلي)، والظاهر أنه حصل على هذه المعلومة من مصادر مخطوطة في المكتبة الظاهرية كما جاء في حاشية الترجمة (مجاهد).

فماذا كان لقب أسرتنا هناك؟ كان المدير هو أبي، فهل تحسبون أني كنت مدلَّلاً مكرَّماً لأني ابن المدير؟ لا والله، ولقد رأيت أول عهدي بها ما كرّه إليّ العلم وأهله، ولولا أنْ تداركني الله بغير معلمي الأول لما قرأتم لي صفحة كتبتها ولا سمعتم مني حديثاً أو خطاباً ألقيته، بل لما قرأت أنا كتاباً. هذه القاعة التي وصفتها لكم بأنها من روائع فنّ العمارة والتي يأتي السيّاح للتفرّج برؤيتها، لبثت حيناً من دهري أرتجف من النظر إليها أو التفكر فيها. وكَلوا بنا معلّماً شيخاً كبيراً لا أسميه (¬1)، فقد ذهب إلى رحمة الله، فكان يحبسنا فيها ونحن أطفال، لا يدعنا نخرج منها حتى نكتب «ألف باء» كلها في ألواحنا الحجرية أربعاً وعشرين مرة، نكتبها ليراها وليمحوها ثم نكتبها ليراها ويمحوها، إلاّ أن يُضطَرّ أحدنا (أو يزعم أنه مضطرّ) إلى الخروج إلى المرحاض فيسمح له بدقائق، إن زاد عليها ازدادت عليه ضربات الخيزران. كنّا نكذب، نعم! أفليسوا هم الذين دفعونا إلى الكذب؟ كنت أنظر من شبّاك القاعة إلى التلاميذ يلعبون في الساحة الداخلية والطلاب الكبار يمشون في الصحن الكبير كما ينظر السجين إلى الطلقاء من طاقة السجن. كانت هذه بدايتي، أنا ابن المدير العام. فهل يحمد اللهَ ¬

_ (¬1) وقد سمّاه خالد بك العظم في مذكّراته.

تلاميذُ المدارس اليوم على ما يتمتعون به من نِعَم؟ وغاب الشيخ يوماً وجاؤونا بطالب كبير من طلاّب الفصول العالية، فوجدنا (للمرة الأولى) مدرّساً من بني آدم، يكلّمنا ونكلمه ويضحك في وجوهنا، وما كنت أعلم أن المعلم يستطيع أن يضحك! هذا الطالب الشابّ الذي عرفته ولم يعرفني، لأن التلاميذ يعرفون معلمهم ولا يعرفهم كلهم، مرت عليّ وعليه الأيام، وصار صاحب مكتبة ولم ينقطع عن العلم، فوضع معجماً لألفاظ القرآن اسمه «المرشد»، ثم وضع معجماً للموضوعات مع صديق له من نوادر المكفوفين من الرجال، حافظ لكتاب الله أديب، ينظم الشعر ارتجالاً، عارف بالموسيقى ملحّن، يقرأ الكتابة الموسيقية (بالحروف البارزة) ويعزفها، وأمامه في مجلسه خرز صغير من كل الألوان في علب صغار يؤلّف منه بالإبرة والخيط صُوراً على القماش لو حاولها مبصر بعينيه وهو متفرغ لها لما استطاعها، يصنعها وهو يتكلّم معك أو يناقشك أو يُنشِدك الشعر وهو أعمى! وهو من نوادر العميان واسمه الشيخ عارف القلطقجي، وهو قريب في هذه المزايا من الرجل العجيب المشهور الشيخ عثمان الموصلي رحمهما الله. وهذا كله استطراد، وقد أنذرتكم به من أول الحديث وسأعود إلى الكلام الأصلي: كنت أتكلم عن هذا الطالب الذي كان أول من ردّ إليّ ثقتي بالله ثم بنفسي، وحبي للدراسة، وقلت إنه وضع مع الشيخ عارف هذا معجماً آخر لموضوعات القرآن

وكلّفني أن أكتب مقدمة له، فذكرت هذه القصة التي لم يكُن يعرفها في مقدمة الكتاب (¬1). ثم انتقلت إلى معلم آخَر فيه أنس وفيه إنسانية، فزاد من تقرّبي من العلم والدراسة، اسمه الشيخ كامل البغال، عُمّر حتى ناهز المئة أو زاد عليها رحمه الله. ولم أكُن أمتاز من التلاميذ إلاّ بأني كنت آكُلُ أحياناً في غرفة في مدخل المدرسة، هي غرفة الفرّاشين. وكنت يوماً آكلُ رغيفاً وسطه لحم مشوي أمر لي به أبي، وكان في غرفة الإدارة ولد رجلاه في الفَلَق (¬2) والخيزران ينزل عليهما، فدُعِيَ بي وأُخذت من وسط طعامي ورُبطت بالفلق، وكانت علقة أقسم بالله إني لم أعرف سببها إلى الآن، وقد مضى على ذلك أكثر من سبعين سنة! هكذا كان أسلوب التعليم! أفترونني حين أعيبه أعيب أبي؟ لا، ولكن أصف ما كان ليعرف التلاميذ ما هم فيه من النّعَم الآن. * * * ¬

_ (¬1) «الجامع لمواضيع آيات القرآن الكريم» للأستاذ محمد فارس بركات رحمه الله، طبع المكتبة الهاشمية في دمشق، الطبعة الأولى سنة 1959، قدّم له علي الطنطاوي المستشار في محكمة النقض. (¬2) وكلما تكلم عن ذلك المسنّون يقولون «الفلكة» أو «الفلقة»، مع أن الاسم عربي فصيح وهو «الفلق».

من ذكريات الطفولة ذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

-4 - من ذكريات الطفولة ذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى بقيت في هذه المدرسة إلى سنة 1918، فماذا بقي لديّ من ذكرياتي الشخصية فيها؟ لقد قلبت جيوبي، ونفضت ثوبي، وفتّشت كل زاوية من ذاكرتي، وبحثت في كل ركن فلم أجد إلا القليل الذي سأجلوه لكم. أمّا الذكريات العامّة فقد كان منها الكثير، وإن لم أدرك منها يوم حدوثها إلا ما يدركه ذلك الولد الصغير. وكانت أياماً عشتها ورأيت أحداثها، ولكني لم أستوعبها، وأحس الآن وأنا أتحدث عنها كأني أسرد قصة حلم من الأحلام أو رؤيا منام، صحا مَن رآها فلم يجد في يده شيئاً منها. أشعر كأني ألخّص صفحات من تاريخ قديم، قديم جداً. إي والله، لقد تبدّلَت حياتنا كلها من سنة 1914 إلى سنة 1981؛ لم يبقَ شيء على ما كان عليه. وأنا إنما أعني هنا أوضاع الدنيا، أمّا الدين فلم يتبدّل لأن الذي أنزله هو حافظه. من هذه الأوضاع ما صار إلى أحسن مما كان عليه، ومنها ما ساء وفسد.

لقد استمتعنا بثمرات الحضارة ورأينا من جديدها ما كنا نظنه من المستحيلات، ولقد ازددنا علماً بالأرض وقوانين الله فيها، وضاقت مسافة التخلف بيننا وبين من كنا نراهم وحدهم المتمدنين من أهل أوربا وأميركا، وصارت لنا جامعات كجامعاتهم، وقام فينا ومنّا علماء مثل علمائهم، ومن ينطق بألسُنهم (¬1) ويعرف آدابها مثلهم بل ربما فاقهم. كل هذا وأكثر منه قد كان، ولكن تعالوا فكّروا معي: ما هو ثمنها الذي دفعناه فيها؟ لقد ربحنا هذا كله فماذا خسرنا فيه من عقيدتنا ومن أخلاقنا ومن كريم سجايانا؟ أخشى أن يأتي يوم نقول فيه ونحن نعضّ بنان الندم حين لا ينفع الندم: خذوا هذا كله، لا نريده، وردّوا علينا ديننا وخلائقنا. كنّا نعيش على شط بحر الحياة نائين عن لُجّه، فلا غصنا على لآلئه ولا تعرضنا لعضّ كلابه ولا لخطر الغرق فيه. كنا (أعني الطبقة التي أنا منها من العلماء المستورين، لا أعني الأغنياء ولا الموسرين) كنا نحيا حياة ضيقة محدودة، ولكنها سعيدة مجدودة (¬2). كانت تسلياتنا قليلة ولكنها نبيلة، ليس عندنا إذاعات ولم تكُن قد اختُرعت، ولا كان الرائي ولا السينمات، إلا سينما واحدة أخذونا إليها فأرونا فِلْماً صامتاً (إذ لم تكُن السينما قد نطقت) عن معركة «جناق قلعة». وكانت هذه السينما في موضع المجلس النيابي، احترقت وبقيت أنقاضها سنين طويلة حتى أقيمَ المجلس مكانها ¬

_ (¬1) اللسان بمعنى اللغة جمعه ألسُن، أما العضو فجمعه ألسِنة. (¬2) أي محظوظة.

ببنائه الجميل وما فيه من الخشب المحفور (¬1) الذي أتقن صناعته أبوسليمان الخياط (¬2)، وصنع بعده خشب «دار عين الفيجة»، ثم دار «بيت الدين» في لبنان. ما كانت عندنا سيارات ولا شوارع يمكن أن تمشي فيها السيارات، إنما كانت عندنا العربات الجميلة تجرّها الخيول الأصيلة. وأنا أذكر أن أول سيارة وصلت إلينا وصلت سنة 1916 وخرج الناس ينظرون إليها، فلما رأوها تمشي وحدها لا يسحبها حصان قال قائل من العوامّ إن الجنّ تسيّرها، فتدافع ضعاف القلوب هاربين. وهربنا نحن الصغار معهم، وضاعت حقيبة كتبي ونلت على ذلك جزائي. * * * ¬

_ (¬1) من جنس الذي كان في مكة وجدة في واجهات العمارات ورَواشن الشبابيك، ولكنه أجمل وأكمل. وقد دعوت في حلقة الجمعة 25 المحرم سنة 1402 من «نور وهداية» إلى حفظ ما في مكة وصيانته، ولكن كان العمال يكسرونه ويلقونه مع الأنقاض في الساعة التي كنت أتكلم فيها ... فإذا نتاج تلك الأيدي الماهرة وبقايا ذلك الفن البديع قد صار حطاماً تطؤه الأقدام مع أنقاض الدور، بل القصور، التي هُدمت في أجياد لتوسعة الشارع! (¬2) وهو الأخ الأكبر لشيخ أطباء الشام الدكتور حمدي الخياط، أول متخصص في البكتيريا والجراثيم. كان أستاذاً في كلية الطب في دمشق من سنة 1920، وهو أحد مؤلّفي معجم المصطلحات الطبية، يحسن علوم العربية كما يحسن الفرنسية والإنكليزية والألمانية واليونانية واللاتينية، تُوفّي رحمه الله سنة 1400هـ، وابنه الدكتور هيثم من أنبغ شباب العصر.

أما الطيارة فقد جاءتنا سنة 1915 (سمعت بذلك ولم أرَه لأني كنت صغيراً. وكانت قصة عجباً تحدّث الناس بها طويلاً، مع أن الطيران إنما ابتدأ سنة 1903) يقودها طياران تركيان مسلمان، فتحي وآخر نسيت اسمه (¬1) واستُقبِلت في المرج الأخضر (وهو الملعب البلدي اليوم وفيه معرض دمشق الدائم، وهو وقف إسلامي) استُقبلت استقبالاً عظيماً، وكان يوماً -كما قالوا- مشهوداً. وطارت بسلام ووُدّع الطياران باحترام، ولكنها سقطت عند طبرية، ودُفن الطياران في صحن مدفن بطل الإسلام وفاتح القدس صلاح الدين الأيوبي، وراء الجدار الشمالي للجامع الأموي. وأول شارع فُتح في دمشق هو شارع جمال باشا، من رأس سوق الحميدية إلى محطة الحجاز التي يبدأ منها خط القطار وينتهي عند محطة باب العنبرية في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. والخطّ وقف إسلامي ثابت بصكوك قضائية وقرارات دولية، وهو من آثار السلطان المُفترَى عليه الذي شوّه اليهود صورته، السلطان عبدالحميد (انتهى مَدّه سنة 1908، سنة مولدي. وخرّبناه نحن، نحن العرب، بأيدينا وأيدي لورنس وجماعته سنة 1918) (¬2). هذا هو أول شارع عرفناه، وكان عريضاً جداً وسطه ممر حوله الحدائق وأغراس المرجان، وفُتح معه شارع من محطّة ¬

_ (¬1) ذكّرني ولدي الأستاذ النابغة زهير الشاويش صاحب «المكتب الإسلامي» أن اسمه صادق. (¬2) في هذه الذكريات القصة الكاملة للخط الحديدي الحجازي. انظر الحلقة الخامسة والسبعين في الجزء الثالث (مجاهد).

الحجاز إلى نهر بردى، ومن أقدم عماراته «العباسية» نسبة إلى رجل بيروتي يقال له أبو عباس، وكانت طابقَين من الخشب واللبِن فيها مقهى (¬1) وملهى. ومن طريف أخبار ذوي الغفلة من الوعاظ (أذكره ولو لم يكُن هذا مكانه) أن أحد مشايخنا جاء من يقول له إن منيرة المهديّة تغنّي وترقص في «العباسية»، فأعلن غضبه في درسه في الأموي وقال: كيف ترقص هذه المرأة أمام الرجال وهي كاشفة جسدها مبدية مفاتنها؟ أين الدين وأين النخوة؟ قالوا: نعوذ بالله! وكيف يكون هذا، وأين يا سيدنا، ومتى؟ قال: في العباسية، في الليل بعد صلاة العشاء. وكان نصف المقاعد خالياً فامتلأت تلك الليلة المقاعدُ كلها! فليتنبّه الواعظون، فكثيراً ما تكون المبالغة في وصف المنكَر دعاية له. * * * وجمال باشا كان قائد الجيش الرابع العثماني وأحد أركان جمعية الاتحاد والترقي، وهم: قائد الجيش أنور باشا، ووزير الداخلية طلعت باشا، وجاويد (دافيد أو داود) وزير المالية ومترجم كتاب شارل جيد في الاقتصاد إلى التركية (¬2)، ثم جاء من بعدهم مصطفى كمال (أتاتورك). وأصل أكثرهم من يهود ¬

_ (¬1) كلمة «مقهى» فصيحة، و «أقهى» أي أدام شرب القهوة. (¬2) وكنا ندرسه معرَّباً في معهد (أي كلية) الحقوق سنة 1931 لمّا كنا طلاباً فيها.

الأندلس، ممّن يدعونهم «الدونمة»، أضاعوا الدولة العثمانية التي كانت ثالثة الدولتين العظيمتين: الأموية والعباسية، والتي عاشت المدة الطويلة وفتحت بالإسلام وللإسلام الفتوح الجليلة، وكانت يوماً أقوى دول الأرض وملكها أكبر ملوكها. فهدم هؤلاء ما بنى بنو عثمان، ونسوا (أو لم يعلموا) أن الإسلام لا يفرّق الناس للألسن ولا للألوان فأرادوا «تتريك» العناصر العثمانية، فبدؤوا -بهذا- الفتنةَ التي جعلت الأمة الواحدة، أمة محمد، هيئةَ أمم، حين قالوا «تُرك» فقال ناس منا «عرب» وقال الفرس وقال الأكراد، وكانت عودة إلى الجاهلية! مع أننا ما كنا نفرّق في معلمينا وفي رفاقنا بين عربي وتركي وكردي، ولا الإسلام يسمح لنا أن نفرّق. وقد ماتت الآن هذه الفتنة أو هي على سرير الاحتضار، وستلحق بها إن شاء الله أخواتها ولا تبقى إلا دعوة الإسلام. كانت مدرستنا أهلية ولكنّا ذقنا -مع هذا- الكثير من الثمر المرّ لهذه الدعوة. كان عندنا معلمون من الأتراك، أما الديّن التقيّ منهم فينكر هذه التفرقة الجاهلية، وأما من كان غير ذلك فكان يؤيّدها. حتى قواعد اللغة العربية (النحو والصرف) درسناها آخر المدة على معلّم تركي، فكان يسأل الواحد منّا: «فاعل نِدِرْ؟» أي: ما هو الفاعل؟ وانتقل خوف جمال باشا من الكبار إلينا، فكان عندنا معلّم للموسيقى قالوا إنه نسيب الباشا، فكنا نخشى أن نكلمه. * * *

كان هذا كله استطراداً وسبقاً للحوادث، فلنَعُد إلى سنة 1914، إلى السنة التي اشتعلت فيها نيران أول حرب عالمية في تاريخ البشر. ولكن لا تنتظروا مني أن أحدثكم عنها حديث المؤرّخ المحقّق، فإني أدوّن ذكريات إنسان كان طفلاً في تلك الأيام، لا أنقل عن ابن خلدون ولا عن شارل سنيوبوس (¬1). مرّ عليّ في هذه المدرسة شهور لم أخالط فيها أحداً من الأولاد ولم أكلمهم إلا الكلمة التي لا بدّ منها؛ فقد نشأت -أول ما نشأت- على الوحدة، لم ألعب يوماً مع الأولاد في الحارة ولا زرت أحداً من لِدَاتي ولا زارني، فكنت طول عمري عائشاً وحدي، أنيسي كتابي، وإن زرت فالكبار من تلاميذ أبي أو إخوانه، كان يصحبني أحياناً معه فأستمع ولا أتكلم لأن الصغار لا يتكلمون في مجلس الكبار. لذلك كنت في المدرسة متوحّداً منفرداً. حتى كان يوم رأيت فيه سماء «الصحن» الواسع مغطاة بسحابة سوداء دانية منا ليست بعيدة عنا، وكان يسّاقط شيء منها على رؤوسنا ... لا، لم تكُن قطرات المطر فلم تكُن سحابة ممطرة، وإنما كانت رِجْلاً من الجراد (¬2)، ملأ سماء الشام وأرضَها ¬

_ (¬1) مؤلف «تاريخ الحضارة» الذي ترجمه أستاذنا محمد كرد علي ودرسناه في الثانوية. (¬2) من دقائق اللغة العربية أنها جعلت لكل طائفة من المخلوقات اسماً؛ فجماعة الجراد رِجْل، وجماعة الخيل رَعيل، والإبل صِرمة، والغنم قَطيع، والطير عصابة، والنعام خَيط، إلخ. والأصوات كذلك؛ فصوت الفرس صهيل، والحمار نهيق، والبقر خُوار، والغنم ثُغاء =

وأتى على الأخضر واليابس من زرعها، وكان شيئاً رهيباً. ولم تكُن يومئذٍ هذه المبيدات ولم يكُن شيء من هذه الوسائل التي قضت اليوم أو كادت على الجراد. فبدأ القحط في البلد. ثم سمعنا من أفواه الكبار كلاماً لم ندرك غوره، ولكن فهمنا من لهجة كلامهم ومن ملامح وجوههم ومن جزعهم أنه شيء مكروه مخيف. فهمنا أنها قامت حرب في مكان بعيد عنا، ليست كحرب البَسوس التي دامت (كما قالوا) أربعين سنة ولم تقع فيها إلا أربعون معركة ما زادت المعركة منها عن مناوشة خفيفة بين فصيلَين من الجنود. وأن هذه الحرب يموت في المعركة الواحدة منها ما يزيد مئة مرة عن كل الذين ماتوا في معارك الجاهلية كلها، بل والذين ماتوا في بدر وأحد والقادسية واليرموك. سمعنا هذا فلم نبالِ به. ما لنا ولقوم لا نعرفهم ليسوا منا ولا نحن منهم، يتقاتلون في مكان لا نعرفه ولم نسمع به؟ حريق ولكن لم تمتدّ إلينا ناره ولم يلذعنا أُواره. ولكنا ما لبثنا إلا قليلاً حتى بلغَنا شرارُه وروّعتنا أخباره، حين كنت أمشي إلى المدرسة من داري في العقيبة فأرى الفرن مسدودةً واجهتُه بالخشب ما فيها إلا طاقة صغيرة، والناس يسدّون نصف عرض الطريق، يطلبون أرغفة من الخبز الأسود فلا يكادون يصلون إليها.

_ = والأسد زئير، والذئب عُواء، والكلب نباح، إلخ. وقُل مثل ذلك في مساكن المخلوقات وأبنائها وسائر ما يتعلق بها. ومن قرأ «فقه اللغة» للثعالبي وجد من ذلك أعاجيب (مجاهد).

كانت الشام أرض الخيرات وكانت تسمى قديماً «أنبار روما»، فأين ذهب قمحها حتى صرنا نطلب الخبز المخلوط بالشعير وبالذرة وبأشياء لا تبلغ قدر الذرة ولا الشعير فلا نصل إليه؟ كان عهدنا بالخبز معروضاً بأثمان لا يتصوّرها القارئ اليوم من شدة الرخص، وكان منه المشروح والتنّوري وخبز الصاج والمصنوع من خالص القمح والمعمول من الدقيق الأبيض المنخول ... فأين ذهب هذا كله؟ ذهب ببعضه الجراد، وبباقيه حلفاؤنا (بل حلفاء حكّامنا الاتحاديين) من الألمان. ثم خلت الشام إلا من الشيوخ والنساء والأطفال، أما الشبّان فقد ساقوهم (مشاة على أقدامهم) إلى حرب ترعة السويس أولاً، التي عدنا منها بالهزيمة، وإلى معركة «جناق قلعة» لمحاربة أعداء الألمان. وكان الضابط الذي يتعقب الفُرّار يلبس لبّادة، لذلك يدعونه «أبو لبادة»، وإذا رأوه نادوا «عباية» ليهرب من ليس معه وثيقة إجازة من الجندية. وكان كلما أبصر شاباً أمسك به أعوانه وقال له: نَرْدِه وثيقة؟ أي أين وثيقتك؟ فإن لم يجدها جرّه إلى «السُّويقات»، في البناءين القائمَين إلى الآن في سوق صاروجا، حيث فتح مرة الشيخ أحمد كفتارو «مدرسة الأنصار». ثم رأينا الناس -ونحن في طريقنا إلى المدرسة- ينبشون أكوام القمامة لعلهم يجدون فيها بقايا طعام. وعزّ السكّر حتى صارت الأوقية (مئتا غرام) بريال مجيدي، وقد كان المجيدي

قبل الحرب يكفي لوليمة ضخمة، أي أن الكيلو بليرة (أي بجنيه) ذهبي! وقلّ الكاز (البترول)، وفُقدت أشياء كثيرة مما كنا نستورده. وما كان منه عند التجّار قبضوا عليه أيديهم وأخفوه في مستودعاتهم، وكانت أيام شداد. ولكن الأتراك مسلمون، وإن كان حكامنا وحكامهم يومئذٍ من الاتحاديين أعداء الأمة العربية، وكدت أقول أعداء الدين. فقد عزّ عليهم أن يجوع علماء المسلمين، فخصّصوا لهم جرايات من القمح تسدّ حاجة بطونهم وتصون ماء وجوههم. وكان والدي (وقد نسيت أن أقول لكم) قد ترك إدارة المدرسة وصار «أمين الفتوى» عند المفتي الشيخ أبي الخير عابدين، والد شيخنا الشيخ أبي اليسر عابدين مفتي الشام، الطبيب الذي نال شهادة الطبّ على كِبَر ثم صار أستاذاً في كلية الحقوق (وكانت تُدعى معهد الحقوق، وكانت هي وكليّة الطب نواةَ جامعة دمشق). كان والدي هو الذي يتولّى إعداد قوائم بأسماء العلماء وطلبة العلم لينالوا نصيبهم من القمح. * * *

من ذكريات الطفولة أيضا

-5 - من ذكريات الطفولة أيضًا وكان من المناظر المألوفة أيضاً أن نرى جنود «أبي لبّادة» يمسكون بجماعة من الشبان الفُرّار (وكانوا يدعونهم الفرّارية) مربوطين يُساقون وحراب البنادق في ظهورهم إلى حيث لا ندري. فلماذا يفرّون من الجيش؟ ومتى كان العربي المسلم، بل متى كان المسلم -عربياً كان أم تركياً أم كردياً- يهرب من مقارعة الأعداء ومقابلة الخصوم؟ إنه يستحيل أن يكون اليهودي شجاعاً أو نبيلاً، ولو قاتل بالسلاح الكثير الذي جاء به من يضعه في يده ويسلّطه به على الناس. ويستحيل أن يكون المسلم جباناً أو نذلاً، ولو أعوزه البارود أو فقد الرغيف. إنه يقاتل بالبندقية القديمة ويقاتل بالسيف ويقاتل بالحجارة، ولو كان خصمه أقوى دول الأرض. ويقاتل جائعاً أو يصبر يومه على تمرة أو يأكل الكلأ. لا، ما هذه قصيدة فخر وحماسة بل هي حقيقة واقعة. أما ترون ما يصنع المسلمون الأفغان أمام المعتدين الشيوعيين، ودولتُهم إحدى الدولتين الكبرَيَين في عالم اليوم؟ أليست هذه

الوقفة إعادة كريمة ماجدة لموقف المسلمين الأوّلين، يوم نازلوا الدولتين الكبريَين في عالم الأمس في اليرموك والقادسية؟ إن الإسلام صبّ البطولة صباً في أعصاب المسلمين وأجراها في دمائهم، فمهما حاقت بهم الشدائد وتوالت المحن فلن تتبدل طبيعة البطولة فيهم، والعاقبة لهم إن كانوا مع الله لأن الله سيكون حينئذٍ معهم، ومَن كان الله معه لا يغلبه مخلوق. أتذكرون يوم عادوا من معركة الأحزاب وقد نفدت منهم آخر قطرة من الطاقة البشرية، استنفدها ما قاسوا من الشدة والامتحان في ذلك اليوم، حتى لم يبقَ لأحدهم أمنيّة إلا أن يأكل لُقيمات ثم يطرح نفسه على الأرض يستسلم إلى نومة مريحة. فجاءهم الأمر من القائد العام، من الذي لا ينطق عن الهوى، من الذي يأتيه «البريد الخاصّ» من السماء. جاء الأمر بالمسير إلى الناقضي العهد، إلى حثالة البشر وزبالة بني آدم، إلى اليهود، إلى بني قريظة. أما مسحوا النوم من عيونهم واستلّوا بعزائمهم (بل بإيمانهم) التعب من أجسادهم وامتثلوا الأمر وساروا؟ لقد دُعوا بعدها إلى الجهاد، إلى التضحية، إلى بذل الروح مئة مرة، فما تقاعسوا ولا تردّدوا. لقد لبّوا دوماً وما أبوا يوماً، ولا يزالون حاضرين ليلبّوا إن دُعوا من جديد. على أن يدعوهم الداعي بلسانهم لا بلسان غريب عنهم لا يفهمونه ولا يعرفونه؛ يدعوهم باسم الدين جهاداً في سبيل الله وإعلاءً لكلمة الله، لا باسم الوطنية ولا القومية ولا التقدمية. إن الله يعطي الشهيد الذي يموت في سبيله جنة عرضها السماوات والأرض، يعطيه حياة

مدتها مليار مليار قرن، بل إن مدتها لا تحيط بها الأرقام لأنها لا نهاية لها، حياة ما فيها إلاّ السعادة وكل لذيذ مشتهى، بدل حياة على الأرض مهما طالت فإن نهايتها الموت وفيها ما فيها من المتاعب والآلام. هذا جزاء من يقاتل في سبيل الله. فماذا تعطي القومية وتعطي التقدمية وتعطي الوطنية من يموت في سبيلها؟ هل عندها ما تعطيه؟ بل قولوا ما هي؟ هل هي شيء له وجود أم هي أسماء سمّيناها نحن (لا آباؤنا) ما أنزل الله بها من سلطان؟ فما لنا ندع شرعة الإسلام إلى نظام أساسه أوهام، ونتائجه أحلام، ولن يكون له (كما لم يكُن لأمثاله) دوام؟ فإذا كنا نحن أبناء الحرب، وإذا كنا أبطال القتال، وإذا كنا نحن، «نحن المسلمين» (¬1) أحفاد من خاضوا عشرة آلاف معركة مظفَّرة، ومن أزاحوا عن صدر البشر كابوس الدولتين الظالمتين الروم والفرس، ومن فتحوا بالحقّ والعدل وللعدل والحقّ ما بين قلب فرنسا وقلب الهند ... فكيف كنا نفرّ من الجيش العثماني أيام الحرب الأولى؟ نفرّ لأننا كنا نُساق إلى حرب لم تكُن جهاداً في سبيل الله فنرجو فيها الأجر من الله، ولم تكُن حرباً اضطُررنا إليها فلم يكُن لنا بدّ من خوضها، ولا كان لنا فيها مصلحة ظاهرة فندخلها ¬

_ (¬1) اقرؤوا «نحن المسلمين»، وهي في أول كتابي «قصص من التاريخ»، واقرؤوا ما كُتب عنها في «الرسالة» (التي تصدر في بيروت) للدكتور صلاح الدين المنجّد.

لتحقيق مصلحتنا. حرب كان قادتها من غيرنا، لا أقصد أنهم من غير العرب فإن الله قال: {إنّما المؤمنونَ إخوةٌ} لم يقُل: «إنما العرب»؛ بل لأنّي أشكّ في صدق إسلام أكثر أولئك القادة من الاتحاديين، ولا أشكّ أن أيدي غيرنا هي التي كانت تحرّكهم. ولما انجلى غبار المعركة ووضح الأمر عرفنا حقيقتهم مما صنع أتاتورك، وقد كان واحداً منهم. وليس الضمير راجعاً إلى الأتراك، لا والله؛ فالشعب التركي ما عدل بالإسلام شيئاً من يوم دخل فيه مختاراً، والسلاطين الأوّلون كانوا من أحاسن الملوك، فتحوا للإسلام أوربا. ولو مدّ الله في عمر محمد الفاتح (¬1)، ولو استمر الخير في أحفاده، ولو لم تفتنهم وتُعْشِ أبصارَهم بهارجُ هذه الحضارة لكان لهم تاريخ آخر. * * * واستمرّت الحرب. وكان الكبار لا يعرفون من أخبارها شيئاً، فكيف بنا نحن الصغار؟ ولم نكُن نقرأ الجرائد لأنها لم تكُن عندنا جرائد كجرائد اليوم، ولم نكُن نسمع أخبار الإذاعات لأنها لم تكُن قد اختُرعت الإذاعات؛ كانت حياتنا قبل الحرب كالبِرْكة الساكنة، وإن كانت مياهها آسنة. كنا في عزلة عن الدنيا: عزلة مادية وفكرية، أضعنا ثمرات حضارتنا الأولى التي قَبست منها أوربا في عصر نهضتها، ولم نأخذ إلا القليل من نتاج الحضارة الجديدة. ولكن كانت في حياتنا فضائل وكانت لها مزايا، إن فتحتُ ¬

_ (¬1) اقرؤوا سيرته الجامعة التي ألّفها سالم الرشيدي وكتبت مقدّمتها.

بابَ الحديث عنها الآن لم أستطع أن أغلقه، وإن دخلت فيه لم أقدر أن أخرج منه فأوالي طريقي. ولقد كتبت عن دمشق التي عرفتها وأنا صغير فصولاً ومقالات كثيرة في «رسالة» الزيات رحمه الله وفي غيرها من الصحف والمجلات، وأودعت بعضها كتابي «دمشق» وكتابي «من حديث النفس» و «صور وخواطر» و «قصص من الحياة»، وكل هذه الكتب مطبوع مرّات تتداوله أيدي القرّاء. أما موقفنا من هذه الحضارة فقد ألقيت فيه محاضرة جامعة في «ندوة الشباب العالمية» من نحو عشر سنين في الرياض (¬1)، طبعتها الندوة طبعة غاب عنها المصحّح فامتلأت بأخطاء الطبع التي كان يدعوها صديقنا أديب العربية إسعاف النشاشيبي رحمه الله «التطبيعات». لذلك أدعها الآن وأرجع فأقتصر على حديث الذكريات، إلاّ وقفات ولفتات؛ أقف قليلاً أو ألتفت يميناً أو شمالاً ثم أمضي في طريقي. * * * قلت لكم إني كنت أرى الجياع ينبشون أكوام القمامة علّهم يجدون ما يؤكل، وما جاعت دمشق قط في عمرها الطويل إلاّ تلك الأيام. ¬

_ (¬1) والمحاضرة منشورة في كتاب «فصول إسلامية»، وقد طبعتها دار المنارة في رسالة صغيرة مستقلة أيضاً (مجاهد).

وكانت دمشق -مذ كانت- أرخص بلاد الله وأكثرها خيرات؛ كان ثمن رطل الخبز (والرطل كيلان ونصف) ما يعادل ثلاثة قروش سعودية، فصار رطل الخبز الأسود الذي فيه كلّ ما يُطحن دقيقاً إلا دقيق القمح، صار بستّين قرشاً، ولو وُجدت القروش الستون (على صعوبة إيجادها) لم يوجد الخبز. وصار كيلو السكر بدينار (أي جنيه ذهبي)، وصار النفط (زيت الكاز) أغلى من عطر الورد الأصلي الذي يُستخرج من ورد مسرابا في الغوطة، ووردها الجوريّ أعطر الأوراد. وازدادت مناظر الجياع والهاربين من الجندية لأن مدرستنا قد انتقلت إلى سوق صاروجا، إلى دار هولو باشا العابد بجوار السويقات، وترك والدي المدرسة وجاء مدير جديد اسمه شكري بك عابدين. وكانت دمشق في التقسيم الرسمي ثمانية «أثمان»، أي أحياء؛ فأحياء «العمارة» و «باب السلام» يسكنها في الغالب العلماء، و «القيمرية» للتجار، و «القنوات» للوجهاء، أما سوق صاروجا (¬1) الذي يمتدّ من «العقيبة» إلى بوابة الصالحية فلكبار الموظفين وللأتراك، وأما حيّ الميدان وحيّ الصالحية وحيّ الأكراد فكانت في الغالب مغلَقة على أهلها. وهولو باشا والد أقوى وأشهر عربي كان على عهد السلطان عبد الحميد، وكان كاتبه الثاني وكان بمثابة أمين الدولة، وهو أحمد عزت باشا العابد. ومن آثاره «بناية العابد» في المرجة، ¬

_ (¬1) صاروجا من أمراء المماليك.

وهي أول عمارة حديثة ضخمة أقيمت في دمشق على النمط الإفرنجي، وهي أربعة طوابق من الحجر، لا تزال من أضخم العمارات. أما سبب ترك والدي إدارة المدرسة وانتقاله إلى دائرة المفتي «أميناً للفتوى»، وهو بمثابة مساعد للمفتي، فإني لا أعرفه. * * * وصلت سنة 1918 إلى الصف الخامس الابتدائي، وكانت مدرستنا (الأهلية) تتبع منهج مديرية المعارف وتزيد عليه العناية بالعلوم الإسلامية، ولكن تدريسها سيّئ الأسلوب معوجّ الطريقة، ولا أذكر لمدرّس من مدرّسيها أثراً في نفسي، فكأني كنت أنتقل من سنة إلى سنة وأرتقي من فصل إلى فصل وأنا نائم. ووصلَت إلى أسماعنا أطرافٌ من أحاديث الكبار عن ثورة قام بها شريف مكة على الدولة العثمانية. وكنا قد شهدنا من قبل شنق جماعة من كبار الناس في المرجة، دعاهم الناس «الشهداء» وسمّوا -من بعد- «المرجةَ» من أجلهم «ساحة الشهداء»، وبقينا سنين طوالاً نحتفل كل سنة في اليوم السادس من أيار (مايو) بذكراهم. ولقد كتبت في مطلع شبابي كما كتب غيري في رثائهم وتمجيد أسمائهم، ودعوا جمال باشا -لما صنع بهم- «جمال السفاح». ثم حصحص الحق، وشهد مؤرّخو النصارى في لبنان وفتحت مجلاتهم ملفات عنهم، فتبيّن أنهم إلاّ قليلاً منهم (نحو الخُمس منهم)، تبيّن أنهم كانوا خوَنة للدولة جواسيس لأعدائها

عليها، وأن الدولة العثمانية -لمّا وضعت يدها على قنصليتَي فرنسا وإنكلترا أيام الحرب- وجدت الأدلّة القاطعة والبراهين الدامغة على خيانة أكثرهم وتجسّسهم (¬1). طلع النهار فجلّى ما توهمناه في ظلام الليل، فسوّدَت الحقيقةُ الصورةَ التي كانت بيضاء لهؤلاء الذين دعوناهم شهداء، كما بيّضَت وجه السلطان عبد الحميد الذي حاول اليهود تلاميذ إبليس أن يسوّدوه، سوّد الله وجوههم. * * * واستيقظنا يوماً من أيام سنة 1918 (المحرم 1337) على صوت رعد شديد، ولكن السماء ما فيها قطعة من غمام، ورجّات هائلة كأنها زلزال، ولكن ما اهتزّت الدار. فصعدنا نحاول أن نرى من سطوح المنازل، فشاهدنا نوراً يسطع ثم يخمد وناراً تتفجّر في الجوّ ثم تهمد، وانتظرنا فجاء من يخبرنا بأن «الجَبخانة» في «القدَم» (¬2) (أي مستودع الذخائر) قد فُجّر! وسألنا: لماذا؟ فلم يعرف أحد لماذا. ¬

_ (¬1) في آخر الجزء الرابع من الطبعة الأولى من هذه الذكريات (التي نشرتها دار المنارة سنة 1986) أضاف جدي رحمه الله تعليقاً استحسنتُ نقله إلى هذا الموضع للمناسبة، وهو: "كتب إليّ الأخ الكريم الأستاذ الكبير أكرم زعيتر يقول إن الذي جاء في هذه الذكريات عن الذين شنقهم جمال باشا لا ينطبق عليهم كلهم، وإن فيهم صالحين مُصلِحين عاشوا فضلاء وماتوا شهداء. وهذا الذي قاله حقٌّ أوافقه فيه وأشكره عليه" (مجاهد). (¬2) كانت «القدم» فيما مضى قرية بظاهر دمشق إلى الجنوب منها مما =

فلما أصبحنا قالوا إن الجيش التركي قد انسحب في ظلام الليل وخرج من دمشق، وإن الشريف فيصل بن الحسين قادم إلى دمشق. وكانت رجّة في البلد وكانت مظاهرات، وما كنا نعرف ما المظاهرات، إنما نعرف «العرضة» في زفة العرس أو في مثلها من المناسبات. وكنا نهتف في المدرسة كل صباح بالتركية «باديشاهم جوق يشا» ومعناها «يعيش سلطاننا طويلاً»، فسمعنا هتافاً جديداً ما كان لنا بمثله عهد هو «يعيش الاستقلال العربي». ورأيناه مطبوعاً في أوراق ليُعلَّق على الجدران، لا أدري متى طُبع، ولعلهم طبعوه وحملوه معهم. ورأينا العلَم الأحمر ذا الهلال والنجم الذي عشنا إلى ذلك اليوم تحته قد نزل، ورأينا في مكانه علماً جديداً فيه الألوان الأربعة: الأبيض للأمويين، والأسود للعباسيين، والأخضر للهاشميين، والأحمر ما عدت أدري لمن هو ... فكأنه يقول مع صفي الدين (¬1): بِيضٌ صنائعُنا، سُودٌ وقائعُنا ... خضرٌ مرابعُنا، حمرٌ مواضينا * * * ¬

_ = يلي حيّ الميدان، ثم اتصل بها العمران فصارت حياً من أحياء دمشق. وكنت أسمع أن اسمها جاء من زعم العامة أن لقدم النبي صلى الله عليه وسلم أثراً فيها حين قدم الشام في غزوة تبوك، مع أنه لم يجاوز تبوك على الصحيح الثابت في السيرة (مجاهد). (¬1) صفي الدين الحلّي، وهو من شعراء القرن الثامن (مجاهد).

من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانية ومن العهد التركي إلى العهد العربي

-6 - من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانية ومن العهد التركي إلى العهد العربي لبثنا ننتظر، حتى إذا سكنت هزّة المفاجأة ورجعت الحياة تسير مسارها وبدأ الناس يألفون العهد الجديد أخذنا كتبنا ودفاترنا وذهبنا إلى مدرستنا، فوجدنا المدرسة قد أغلقت. لقد جنى عليها اسمها، وما كان لها من صلة بجمعية الاتحاد والترقي إلاّ صلة هذا الاسم، كما أن الجمعية لم يكُن لها مما يدلّ عليه اسمها إلاّ نصيب المدّعي الكاذب في الدعوى الباطلة: اسمها جمعية الاتحاد، وهي التي جرّت علينا الانقسام: كانت الدول العثمانية جسداً واحداً، العرب أعضاء فيه والترك والكرد، فقطعوا الخيط الذي كان يربط أجزاءه ويؤلف بينها (وهو الإسلام)، فصار كل جزء جسداً مستقلاً، أي أنه صار مسخاً زريّاً لا إنساناً سويّاً. وكانوا في أوربا يُشبّهون الدولة العثمانية بـ «الرجل المريض». مريض؟ نعم. إن المريض يشفى والمرض ليس عيباً، ولكنه باعترافهم رجل. وكان السلطان عبد الحميد رجلاً حقاً، استطاع

بدولة هَرِمة وجيش هزيل أن يحجز دول أوربا عن بلاده، وكان يضرب بدهائه بعضها ببعض. كان «رجلاً» يلعب بالرجال، فلما جاء «صبيان» الاتحاديين وأمسكوا هم الزمام لعبت بهم الرجال وأشباه الرجال. واسمها جمعية الترقي، وهي التي سبّبت لنا التدنّي: فبعد أن كانت الدولة على عهد السلاطين العظام أقوى دول الأرض صارت بهم دويلات لا وزن لها في الأرض، يحكمها حكّام من غير أبنائها بقوانينهم لا بشريعتها. ذلك لمّا خاضت -بحماقتها وجهلها وخبث سرائرها وقبح نياتها- حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل ولا شاة، فانتهت بها وبنا جميعاً إلى الضياع. * * * وبدأت دمشق تعيش كأنها في بهجة العرس، وقد كانت قبل شهر واحد في كربة كأنها كَمْدة المأتم. وحل الوجدان محل الحرمان، فالخبز مبسوط أمام الشارين من كل نوع وفي كل مكان، كما كان. وكَثُر السكّر والبنّ والرزّ و (الكاز)، وكل ما كان مفقوداً صار موجوداً. والأعلام الجديدة ترفرف على الدكاكين وعلى أبواب المنازل، والأناشيد التركية ذات الألحان القوية العبقرية بُدّلت أناشيد عربية صيغت كلماتها على عجل، ورُكّب اللحن التركي القديم على النشيد العربي الجديد. وكان الناس في الشام (كما كانوا في أكثر بلاد الشرق) لا يهتمّ جمهورهم بسياسة ولا رياسة، همّهم أداء فرضهم وحفظ عيالهم وتسلية أنفسهم بما لم يحرّمه

عليهم دينهم؛ لذلك فرحوا بما جاءهم من السعة بعد الضيق والسلام بعد الحرب، لم يستطيعوا أن يَزِنُوا ما كان بميزان الربح والخسارة ولا أن يتبيّنوا هل كان خيرُه أكبرَ أم شرُّه، ولم يتنبّهوا إلى أن عهداً قد انتهى وأن عهداً آخر قد بدأ. سقوط روما كان نهاية القرون الأولى وبداية القرون الوسطى، ولكن هل معنى هذا أنه إذا كان سقوطها يوم الخميس، كان الأربعاء من القرون الأولى والجمعة من الوسطى؟ وإذا انتهى العصر الأموي بقتل مروان وولاية السفاح، فهل القصيدة التي نُظمت قبل مقتله بيوم لها مزايا وخصائص الشعر الأموي والتي نُظمت بعده بيوم لها خصائص ومزايا الشعر العباسي؟ التبدّل الآني ليس من سنن الله في هذا الوجود. الليل يكون أسود حالكاً ثم يكون بعده النهار أبيض مشرقاً، فهل تحوّل الظلام نوراً في لحظة أم الله يولج الليل في النهار؟ وكنتَ طفلاً ثم صرتَ شيخاً، فهل انتقلت في ساعة واحدة من الطفولة إلى الشباب أو من الشباب إلى الشيخوخة؟ وهل أحسست بهذا التبدل؟ راقب العقرب الصغير في الساعة، إنك لا تراه يتحرك، ولكنه مع سكونه الظاهر يدور دائرة الساعة كلها. وكذلك كنا ونحن نشهد ميلاد عهد جديد، العهد كان مخاضه عند بداية الحرب الأولى وولادته عند نهاية الحرب الثانية، ولكنا لم نحسّ بذلك لأننا كنا نعيش فيه. إذا كنت في المصعد وهو مغلق عليك، فهل تحسّ بأنه ينزل أو يصعد؟ إنك تدرك حركته بعد أن تخرج منه وتقف فتنظر إليه.

ونحن نستطيع الآن أن ندرك حقيقة الذي كان ونَزِنه بميزان الربح والخسران. * * * وقبل أن أودّع المدرسة التجارية أذكر أنها خرّجت طبقة من المثقفين كانت سبّاقة وكانت رائدة، أتمنى لو كانت أسماؤهم عندي، لكني أسمّي من يخطر على بالي؛ فمنهم خالد بك العظم السياسي المعروف رئيس وزراء سوريا، وقد درس فيها حيناً وإن لم يتخرج فيها. ومنهم صبحي بك القوّتلي الرئيس الثاني لمحكمة النقض، وفؤاد بك المحاسني النائب العام. وممن تخرج فيها وحمل شهادتها طاهر الطنطاوي، وقد دخل بعدها مدرسة الطب وخرج منها طبيباً سنة 1920، ورفاقه الدكتور محمد سالم، والدكتور سهيل الخياط، وهو لا يزال حياً مدّ الله في عمره ورحم الباقين. وقد كان يدرّس فيها أكابرُ المشايخ الدروسَ الدينية، وقادةُ الجيش العثماني العلومَ الرياضية والطبيعية. وحسبكم أن من مدرّسيها مدير معارف سوريا هاشم بك يوم كانت ولاية سوريا تشمل البقاع وبعلبكّ وطرابلس والأردن إلى معان. ومن مآثر المدرسة عنايتها المبكّرة بالألعاب الرياضية، ولقد كان الدكتور محمد سالم من أوائل المعنيّين بكرة القدم ومن قدماء لاعبيها، ولقد أنشأ ابن عمي الدكتور طاهر الطنطاوي الذي تُوُفّي السنة الماضية (1400هـ) أنشأ في بستان داره في الصالحية ملعباً كاملاً لنفسه ولإخوانه.

أُغلِقت هذه المدرسة فتفرّق تلاميذها في المدارس. وأدخلني أبي المدرسة السلطانية الثانية، وكانت في القسم الشمالي من جامع يَلْبُغا في «المرجة»، في صحنه الواسع وفي الغرف التي بُنيت على جوانب الصحن. أما البركة الكبيرة فقد أقيم عليها حاجز من الخشب يقسمها قسمين متساويَين، قسم بقي في حيّز المسجد وقسم في حيّز المدرسة. وقد كان موضع المسجد تلاًّ يُشنَق عليه المجرمون، فأخذه والي الشام سيف الدين يَلْبُغا سنة 847هـ وأنشأ عليه هذا المسجد. * * * يا لله كم في حياتي من منعطفات! وكلما انعطف بي الطريق مرة في وادي العمر تبدّلَت المناظر من حولي. كنا في المدرسة التجارية نتعلم اللغة التركية فصرنا هنا ندرس العربية، وكنا نهتف في الصباح «باديشاهم جوق يشا» فصرنا نهتف «يعيش الاستقلال العربي»، وكنا قد بدأنا نتلقى مبادئ اللغة الفرنسية فصرنا نتلقى مبادئ الإنكليزية. على أن من الإنصاف أن أقول -تدليلاً على إسلامية الشعب التركي التي لا تحتاج إلى دليل- أن تعليم التركية كان يبدأ باسم الله. كنا نقرأ التركية ونكتبها بالحروف العربية، لم يكن قد نجم فينا (أعني الأمة الإسلامية) من يحارب ديننا بإضعاف لساننا، فيستبدل بالحروف العربية الحروفَ اللاتينية كما فعلوا -من بعد- باللغة الإندونيسية، وكانت تُكتب بالحروف العربية. كنا

نبدأ بحفظ كتاب صغير اسمه «أسماء تركية» أوله: "تنري الله جل شأنه، بيغمبر النبي، أبدست الوضوء، نماز الصلاة ... " لا أزال أحفظه إلى الآن! وكانت كلمة «تنري» تُكتب «تكري»، كما تكتب كلمة بينباشي (أي رئيس الألف) بكباشي. ولعل المؤرخ المصري «ابن تَغْري بَرْدي» كان اسمه «تنري ويردي» أي عطاء الله. أقول هذا من عندي، ما عندي فيه نص. * * * وكان في دمشق مدرسة سلطانية واحدة هي «مكتب عنبر»، ثم فُتحت في أواخر حكم الأتراك مدرسة أخرى (وكنا نسمّي المدرسة «المكتب»، و «السلطاني» معناها الثانوي). وهذه المدرسة هي «المكتب السلطاني العربي»، وقد كانت في طريق «ستّي زيتونة». وممن أعرفه درس فيها أستاذنا الشيخ زين العابدين التونسي، والشيخ عصام الدين الحسني، وهو ابن الشيخ بدر الدين الحسني والأخ الأكبر للشيخ تاج الدين الذي صار رئيس الجمهورية السورية، ووالد الصديق الشيخ فخر الدين مدير دائرة الإفتاء في سوريا سابقاً. أما هذه الزيتونة فقد كانت شجرة هرمة، أمامها قفص من حديد تربط النساء به الخِرَق وتحتها قبر، وعندها «شيخ» دجّال قد جعل مرتَزَقهُ سِدانة هذا الوثن. أما قصّتها فعجيبة حقاً؛ هي أن قاسم الأحمد (جد صديقنا وزميلنا نهاد القاسم، الأخ الوفي والوزير المستقيم رحمة الله على روحه) لمّا ثار على إبراهيم باشا أيام حكمه الشام قُبض عليه بعد معارك طويلة، فشنقه مع خمسة

من رفاقه تحت زيتونة كانت هنا، فقال الناس «الستة بالزيتونة»، ثم نسوا القصة فقدّسوا الشجرة وسمّوها «ستي زيتونة»! أما السلطانية الثانية التي دخلتها فقد فُتحت بعد دخول الشريف فيصل بن الحسين ولورانس الإنكليزي دمشق، وكانت ابتدائية وسلطانية (أي ثانوية)، مدير القسم الابتدائي الأستاذ شريف آقبيق (وقد سمعت أنه لا يزال حياً، قوّاه الله)، ومدير الثانوي و «المدير العام» هو شيخ المعلمين الرسميين في الشام الأستاذ سعيد مراد (¬1). وكان من معلمينا فيها شابّ (أعني أنه كان يومئذٍ شاباً) من نابلس، هو أول من علمني الإنشاء العربي: كان يأخذ مقالات المنفلوطي فيجعلها بحيث نفهمها ثم يكلّفنا أن نكتب مثلها، وكانت مزيّته الأولى صوته، فما عرفت -على كثرة ما سمعت من الأصوات- ما هو أحلى منه وأطرب. وقد أنشد يوماً في اجتماع عام نشيد «ويلي على أوطاني .... من غارةِ العُدوانِ» أمام الشريف فيصل، فأُعجبَ به فجعله مدرّس الموسيقى في السلطانية الأولى. ثم صار مدرساً سيّاراً لها، يدور على المدارس فيكون يومُ وصوله فرحةً للمدرسة، وكان ممّن ينظم الأناشيد العربية أو يترجمها عن التركية ويُلبِسها النغمة الأصلية. وهو الأستاذ حسني كنعان، وسأعود إلى الكلام عنه، فقد استمرّت اتصالاتنا حتى توفاه الله سنة 1980 رحمه الله. ¬

_ (¬1) انظر الحديث عنه في مقالة «مع بعض مشايخي» في كتاب «رجال من التاريخ، ص460 - 462، وفي آخرها ذكر للأستاذ شريف آقبيق أيضاً (مجاهد).

أمّا رفاقي فيها فلست أذكر منهم إلا المهندس صلاح شيخ الأرض، وقد كان هنا منذ سنوات. والمحامي الشاعر عبد الحكيم مراد، ولم أرَه من ثلاثين سنة وأحسب أنه في الكويت. والأستاذ حسن السقّا الكيميائي، ولست أدري ما فعل الله به. ومن ذكريات هذه المدرسة الباقية في نفسي أن حاكم دمشق العسكري الجديد، وهو رضا باشا الركابي الذي كان أعلى عربي رتبةً في الجيش العثماني، زار المدرسة يوماً. فدخل علينا الفصل ووراءه وزير المعارف ورؤساء التعليم ومدير المدرسة، وكان بلباس «الجنرال» العسكري، والشارات على كتفيه والأوسمة على صدره. وكان الأستاذ حسني قد حفّظنا قصيدة الحِلّي: «سَلي الرّماحَ العوالي عن معالينا»، ولكنه بدّل البيت الثاني (¬1) فجعله: وسائلي العُرْبَ والألبانَ: ما فعَلَتْ ... بعسكرِ التركِ والألمانِ أيدينا؟ وكان حسن السقّا يُلقيها بصوت عالٍ وحماسة بالغة، فقاطعه الباشا وسأله: من علّمَك هذا؟ فارتعب وأشار إلى الأستاذ، فمدّ الباشا يده إلى الأستاذ، ولكن الأستاذ كان قد اصفرّ لونه، ولولا ¬

_ (¬1) مطلع قصيدة صفي الدين الحلي هو: سَلي الرّماح العَوالي عن مَعالينا ... واسْتَشهدي البِيضَ: هل خاب الرّجا فينا؟ وسائلي العُرْبَ والأتراكَ: ما فعلت ... في أرضِ قبرِ عُبَيد الله أيدينا؟ (مجاهد).

أنه استند إلى المقعد لهوى ... وإذا الباشا يصافحه! ولمّا خرج الباشا ومن كان معه قال الأستاذ: "أرأيتم يا أولادي؟ هكذا تكون الشجاعة" ... واستدار لئلاّ نرى البلل في بنطاله! ولا تظنوا أني أكتب هذا بعدما توفّاه الله لأني لا أقدّره ولا أحترمه. لا والله، ولو علمت أنه كان يسوؤه ما رويته. ولقد كتبته في حياته وضحك لمّا قرأه، ثم كتب القصة بقلمه وروى عن نفسه أشياء أبلغَ في بابها منها رحمة الله عليه. ومن ذكريات هذه المدرسة فيضان بردى الذي كتبت عنه الكثير (¬1) والذي يصل «المرجة» بعدما انشقّ عنه أبناؤه الستة (يزيد، وتورا، وباناس، والقنوات، والقناة، والديراني) ولم يبقَ من مائه ما يبلّل ظهر قط مشى فيه. بردى الذي لا تذهب منه قطرة هدراً على حين تذهب مياه الأنهار الكبار إلى البحر، فلا هي حفظت ماءها لها ولا البحرُ امتلأ منها. بردى الذي قال كاتب شوقي لمّا زار دمشق فرآه بعدما سمع من شوقي أشعاره فيه، قال متعجباً: أهو ده بردى؟! بردى هذا إذا وصل إلى المرجة وأردنا أن نسلبه حريته في جريه، وأن نسجنه تحت القناطر فيدوس عليه الماشون في المرجة، ثار. وإذا ثار أغرق المرجة وما فيها، وممّا كان فيها مدرستنا (السلطانية الثانية). ¬

_ (¬1) أي عن بردى لا عن الفيضان. انظر مقالتَي «دمشق» و «نهر دمشق» في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها»، ومقالة «قصة بردى» في كتاب «قصص من الحياة» (مجاهد).

إني لأذكر ذلك الفيضان سنة 1918 وأستحضره في ذهني حتى أرى المدرسة كلها قد صارت بركة واحدة، والمقاعد قد طفَت على وجه الماء كالزوارق، وتصايح التلاميذ واستُدعيَت الشرطة، وأسرع المدرّسون إلى إنقاذ الصغار، وكان يوماً لا ينسى. * * *

في المدرسة السلطانية

-7 - في المدرسة السلطانية اذهب إلى المرجة (¬1) اليوم، واستقبل جهة الجامع الأموي وانظر إلى يسارك، لا تبصر إلا برحة واسعة ما فيها بنيان. ارجع إلى العهد الذي أخبر عن ذكرياته الآن لترى بناء من طبقتين، الداخلون إليه كثير والخارجون منه كثير. هذا يدخل والحديد في يديه فيخرج طليقاً، أو يدخل طليقاً فيخرجون به إلى السجن (في القلعة)، وهذا يدخل مدّعياً آملاً الربح فيخرج خائباً خاسراً دعواه، وذاك يخرج فَرِحاً رابحاً الدعوى. ¬

_ (¬1) لا يزال قارئ هذه الذكريات يمر باسم المرجة حيناً بعد حين، فإن كان غريباً عن دمشق لم يزرها ولم يعرفها فربما حار في الأمر لأن المرجة -كما يعرفها عربي يفهم العربية- هي الأرض ذات العشب والنبات (وهي في اللغة بالتذكير لا بالتأنيث: المَرج لا المرجة. ومنها مُروج مشهورة في التاريخ: «مرج الصُّفَّر» إلى الجنوب من دمشق بينها وبين بُصرى (تحديداً بين قريتَي الكسوة وغباغِبْ)، وفيها انتصر المسلمون بقيادة خالد على الروم. و «مَرج راهط»، وهو موضع إلى الشرق من دمشق بينها وبين حمص، انتصر فيه جيش مروان بن الحكم على جيش عبد الله بن الزبير عام 64هـ، و «مرج دابق» إلى الشمال من حلب الذي هزم فيه العثمانيون جيشَ المماليك وقضوا على دولتهم=

هنا كانت «العدلية» وإلى شرقها بناء أصغر هو «البريد»، والبريد «مصلحة» القلوب والجيوب (¬1)، وحقيبة ساعي البريد فيها البشائر وفيها النذُر، يترقبه العاشق وينتظره التاجر، والأم التي غاب عنها ولدها تعدّ الدقائق لتأخذ رسالة منه تطفئ أو تخفّف من نار الشوق في صدرها، والطالب يقف على الباب وبصره على أول الشارع ليرى ما يحمل إليه موزّع البريد، هل يحمل خبر النجاح في الامتحان أو نبأ السقوط والخسران؟ وإلى قربها عمارات تطلّ على بردى، يقابلها من هناك «السراي». وقد كانت في ذلك العهد (بل إلى ما بعده بربع قرن) تجمع -وحدها- وزارات الدولة كلها ومعها مجلس الوزراء، ¬

_ = عام 922هـ). أما «المَرجة» المشهورة في دمشق فهي مركز المدينة وأهم ساحاتها، وتقع بين شارع النصر وحي البَحْصة. ويبدو أن اسمها جاء من ماضيها؛ حيث كانت في العهد المملوكي متنزّهاً غنياً بالخضرة والأشجار (يمتد إلى شرق موضع التكية السليمانية) حيث ينقسم بردى إلى فرعين يصنعان جزيرة بينهما. وفي عام 1807م أنشأ فيها والي دمشق العثماني «كنج باشا» مبنى للحكومة عُرف باسم «سرايا الحكم» (في نفس الموضع الذي قامت فيه بناية العابد من قريب)، وفي عام 1866 غطّى الوالي محمد راشد باشا نهرَ بردى في تلك الساحة، ثم شيّد فيها الوالي مدحت باشا مبنى البريد ومبنى العدلية عام 1878، ثم أنشأ فيها الوالي ناظم باشا مبنى البلدية عام 1895. والاسم الرسمي للمرجة اليوم هو «ساحة الشهداء»، سُمّيت كذلك لأن جمال باشا شنق فيها جماعة من العرب، وقد مرّ خبرهم في آخر الحلقة الخامسة من هذه الذكريات (مجاهد). (¬1) الجيب فتحة القميص عند العنق، ولكن لا بأس باستعماله على الوجه المعروف.

وبجنبها البلدية. ووراء العدلية والبريد جامع يَلْبُغا، له باب من الشرق يطل على سوق الخيل وباب من الغرب يخرج إلى «البَحْصة»، ومدرستنا في صحنه من ورائه، ومئذنته وراء المدرسة تطلّ على الشارع الخلفي. فماذا فعل ذلك كله؟ لقد ذهب! أما هذه العمارات فقد أودت بها إحدى الحرائق الهائلة التي كانت تشهدها دمشق، و (حريقة) أخرى ذهبت بالدور المقابلة وكشفت جامع تِنْكِز (¬1) فقام هنا «فندق أمية» وقامت هناك عمارات حديثة. وأمّا البلدية فقد هُدمت وبيعت للسيد الشربتلي (المعروف) فأقام في موضعها عمارة كبيرة! وبنَت البلدية لنفسها بناءً ضخماً. أمّا «بردى» فقد دفنوه حياً وجعلوا قبره شارعاً تطؤه الأقدام، وقد كانوا يدوسون فوقه من قبلُ حين ألزموه أن يمشي في «المرجة» تحت الأرض ليمشوا هم فوقها. وكانت المرجة في طرف البلد، تلتقي فيها خطوط الترام الذي جاءت شركة بلجيكية به وبالكهرباء سنة 1898 كما سمعت. وقد أُلغيَ في الشام من أكثر من ربع قرن، ولكني رأيته بذاته في بروكسل سنة 1970 لمّا زرتها. وذهبت مدرستنا مع ما ذهب وذهبت معها قطعة من حياتي. وكم كانت لنا فيها آمال وكم حملنا فيها من آلام، فأين آمالنا فيها ¬

_ (¬1) وكانت عندنا «مصلحة إطفاء»، أُنشئت لمّا أحسّوا بالحاجة إليها عندما احترق مسجد بني أميّة الكبير، ثم بناه أهل الشام هذا البناء سنة 1311هـ، ولكن الإطفاء يومئذٍ لم يكن كالإطفاء اليوم.

وأين آلامنا؟ لقد كانت دنيانا كلها مختصَرة فيها، كما يُختصَر الكتاب في صفحات وكما تقطر قارورة العطر في قطرات، فأين دنيانا تلك يا ناس؟ أين مَن كانوا يقعدون فيها على المقعد الواحد؟ لقد رفع الدهر منهم قوماً ووضع آخرين، اغتنى ناس وافتقر ناس، وربما صار (بل لقد رأينا بأعيننا) ابن الآذن (الفرّاش) قد صار هو الرئيس، وابن الرئيس قد أمسى فرّاشاً أو مثل الفرّاش! هذه هي الدنيا، فالأحمق من اطمأنّ إليها ووثق بدوامها، ولم يحسب حساباً لتداول الدول وتبدّل الأحوال، وظنّ أن ما نال منها من مال ومجد وسلطان باقٍ له؛ ما علم أنه لو دام على مَن قبله ما وصل إليه. ثم مضى أكثرُ رفاقنا إلى حيثُ مَن مضى لا يؤوب؛ مضوا ليجدوا ما قدّموا مُحضَراً، فإمّا إلى جنة وإما إلى نار. فاللهمّ يا عفوُّ يا من تحبّ العفو اعفُ عنّا، واختم بالحسنى لنا ولمن صفّى قلبه مع الله، ومدّ يديه خاشعاً وقال: آمين. وأرجو لكل من دعا لي بخير مثلَ ما دعا لي به، هذا والله ما أريده وهذا ما أحتاج إليه. لا أحتاج مالاً ولا منزلة ولا شهرة في الناس، كل ذلك لديّ منه الكثير، وكل ذلك سراب، تحسبه من بعيد ماء فإن جئتَه لم تجد إلا التراب. ما أريد إلا دعوة صالحة من مسلم صالح، تبقى سراً بينه وبين الله. لقد قارعَت هذه المدرسة دهرها، فنزلَت حتى صارت مدرسة ابتدائية، ثم أدركها ما يدرك كلَّ ما سوى الله: من إنسان

وحيوان ونبات. أدركها الأجل الذي -مهما تأخر- فإنه آتٍ، فماتت، ولم تجد قبراً يدلّ عليها أو لوحة تشير إلى وجودها. * * * لمّا دخلت هذه المدرسة كنت قد ارتقيت أيام الأتراك إلى السنة الخامسة الابتدائية فردّوني لمّا تبدّلَت المناهج إلى الرابعة. ومرّت السنة ونجحت مرة ثانية إلى الخامسة، وكنت الثاني بين رفاقي. وتجدون في قسم الصور صورة «جلاء» (¬1) فيه درجاتي وإثبات نجاحي. وانتقلت المدرسة لسبب لا أدريه إلى البناء الذي أقامه أحد الولاة الأتراك على بردى، بين التكيّة السليمانية والأخرى التي أنشأها قبلها السلطان سليم. والذي يشبه في طراز بنائه أبنيةَ القرون الوسطى: برجان من الجانبين وفوقهما سقف هرميّ من القرميد والباب الكبير بينهما، وقد كانت فوقه لوحة من الحجر مكتوب عليها «مدرسة دار المعلّمين»، فانتقلت مدرستنا إليه. ثم صار كلية الحقوق (وكانت تُسمّى معهد الحقوق)، وقد تخرجت فيها ونلت شهادتها سنة 1933، ثم صار وزارة المعارف، وهو اليوم إدارة التعليم في دمشق. ما لي أستبق الأيام؟ ولِمَ لا أنتظر حتى يصل بي -إلى ذلك- الكلام؟ ¬

_ (¬1) في الشام يسمّون الشهادة المدرسية «الجلاء»، بقيت هذه التسمية القديمة إلى اليوم (مجاهد).

انتقلنا إليها، وصار مديرنا الدكتور كامل نصري، ومن مدرّسينا فيها الشيخ زين العابدين التونسي، وهو الأخ الأصغر لشيخ مشايخنا السيد الخضر حسين الذي صار -من بعدُ- شيخَ الجامع الأزهر، وأستاذ الأساتذة مصطفى تمر الذي كان المفتش الوحيد لمدارس سوريا، والشيخ أبو الخير القوّاس الذي اخترع الطريقة المنسوبة إليه في تدريس قواعد اللغة العربية (النحو والصرف)، وجعل للأمثلة لوحات كبيرة حروف الزوائد في كلماتها ملوّنة، ورتب عليها أسئلة، ثم صغّرها في سلسلة كتب كنا ندرسها اسمها «دروس القوّاس»، وأشهد الآن أنها كانت أفضل الطرق. وكان يدرّسنا اللغة الفرنسية الأستاذ علي الجزائري. وخرجنا مع أول مظاهرة مشينا فيها يتقدمنا طالب كبير، يسأل: ماذا تريدون؟ فنجيب بصوت واحد: ياسين باشا. مَن ياسين باشا؟ ماذا نريد منه؟ لم أكُن يومئذٍ أدري! لكني علمت بعد ذلك أن الإنكليز -كما قال الناس- قد اختطفوه، فخرجنا نطالب بإرجاعه. وفي تلك السنة قرر المؤتمر السوري، الذي كان يمثل سوريا ولبنان وفلسطين، نصب الأمير فيصل ملكاً، وكان تتويجه يوم 8 آذار 1920. وطالما كتبت بعد ذلك في ذكرى هذا اليوم. ودُعيت إلى حفلة التتويج وحضرتها مع رفاقي في المدرسة، ولكن «من بَرّا»؛ وقفونا صفاً أمام السراي ثلاث ساعات على أقدامنا بلا طعام ولا شراب! كذلك كانت مشاركتنا في الاحتفال وكذلك كانت معرفتنا

بعهد الشريف؛ نعيش فيه ولكن لا نرى منه إلا الظواهر، وما أبعدَ ما بين ظواهر الأحداث العامّة وحقائقها! الذي رأيته في هاتين السنتين بقيَت حلاوة طعمه تحت لساني. كنت أظن أن دمشق في فرحة متصلة، في عرس لا ينتهي؛ المظاهرات مظاهرات الفرح، والحماسة التي عمّت الجميع، وسوق عكاظ للخطب في «النادي العربي». وكان في الركن الغربي من ملتقى طريق الصالحية والطريق إلى بيروت، أمام فندق فكتوريا، ولقد كتبت عنه كثيراً وحدّثت عنه أكثر، وكان أبرز خطبائه -كما أذكر- الدكتور عبد الرحمن شهبندر، كان يخطب كأنه يتحدث، لا ينفعل ولكن يفعل بالسامعين ما يشاء، يُقيمهم ويُقعدهم ويلعب بمشاعرهم وبقلوبهم. ومن خطبائه شيخنا الشيخ عبد الرحمن سلام، وسيأتي عنه الكلام، ورجل نصراني كان اسمه حبيب أسطفان، خطيب نادر المثال. وكانت نهضة عظيمة في الأناشيد، أشهرها «أيّها المولى العظيمُ .... فخرَ كلِّ العرَبِ»، و «سِيرُوا للمجدِ، سيرُوا للحربِ»، و «صليلُ الظُّبا وصريرُ القلمْ ..... لفكِّ القيودِ وقَشعِ الظُّلَم»، و «افتَحوا لنا الطريقْ»، وعشرات لا أزال أحفظ الكثير منها وأحفظ ألحانها. ولمّا تكلمت في الرائي عن نشيد «بلادي بلادي منار الهدى» وقلت إن لحنه قديم أحفظه من صغري وأنا أؤكّد ذلك هنا تأكيداً جازماً، تعجّب الناس مني: من أين لشيخ مثلي المعرفة بالألحان؟ معرفتي بها من حفظي أولاً للأناشيد التركية، وأناشيد هذا العهد الذي أتحدث عنه. والثالثة أن معلمينا من المشايخ كانوا

يأخذون كل لحن يسمعونه، ولو كان لأغنية غرام مبتذَلة، فيؤلّفون كلاماً سخيفاً يزعمون أنه في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويُنزِلونه على اللحن. وقد أنكرت هذا في الصحف وفي الإذاعة وعلى المنابر من أكثر من أربعين سنة وأنكره الآن، ولكني أُقِرّ أني حفظت بسببه أكثر ألحان عبده الحامولي، ومحمد عثمان، وداود حسني (اليهودي)، وأمين حسنين، والشيخ أبي العلا، وسيد درويش، وزكريا أحمد. ونشيد بلادي (السعودي) نُظِم معارَضةً لنشيد الرافعي: بلادي بلادي هواكِ دمي ... جعَلتُ حياتي فدىً فاعلمي غرامُكِ أوّلُ ما في الفؤادِ ... وذِكرُكِ آخِرُ ما في فمي ولحنه جاء من هنا مَشوباً بشيء من لحن القصيدة التي كانت تغنيها أم كلثوم: «مِصرُ التي في خاطِري وفي فمي» لا من نشيد سيد درويش: «بلادي بلادي بلادي ..... لكِ حبّي وفؤادي». ولأنهم علّمونا في المدرسة «النوتة الموسيقية» مفصَّلة غاية التفصيل، وإن كنت لم أمسك بيدي آلة موسيقية فضلاً عن العزف عليها، وإنما هو علم نظريّ بها. كما أعرف (نظرياً أيضاً) المقامات والأنغام العربية وأنواع الضروب والإيقاعات، على مبدأ «تعلّم السحرَ ولا تعملْ به»، وإن لم يكُن حديثاً. * * * وكان لي مع الشيخ زين العابدين التونسي (رحمة الله عليه وعلى أساتذتنا جميعاً) موقف أسأت فيه إليه وأنا لا أدري، وكان ذلك سنة 1919. وقد زرته آخر مرة ذهبت فيها إلى دمشق وقلت

له: أنت أستاذي ... وبدأت أذكّره بتلك الأيام، فبان على وجهه الغضب المكتوم وقال: دع هذا الآن. قلت متعجباً: ولِمَ يا سيدي؟ قال: أنسيت أنك كنت تكذّبني وأنا ألقي الدرس؟ قلت: يا سيدي، أبعد أربع وخمسين سنة؟ والله إني مظلوم وبريء (كما يقولون في المسرحيات). لقد كانت القصة أن الشيخ كان يدرّسنا التوحيد، وكانوا يبدؤون عادة بذكر الواجب والمستحيل والممكن، فجعل يضرب أمثلة على المستحيل ويسألنا: من يدّعي هذا ماذا نقول له؟ فنقول: كذّاب. وشرد ذهني ولم أنتبه إلى أنه انتقل إلى كلام آخر، فكنت كلما أكمل الجملة أقول: «كذّاب»! رحمه الله؛ لقد كان مدرّساً نافعاً، وكان مؤلفاً يصنّف للطلاب الكتب التي توافق مداركهم وتسيغها عقولهم؛ ألّف «المعجم المدرسي»، ثم ألّف رسالة ما سبقه أحدٌ -فيما أعلم- إلى موضوعها هي «المعجم في النحو والصرف» وجعله مرتَّباً على الحروف. وأنا أقترح على الأستاذ الكبير عبد الرحمن التونسي (والشيخ هو عمّ أمّه) أن يعيد طبعه وأن يسعى لتعمّمه وزارة المعارف على جميع التلاميذ، فإني لا أعرف كتاباً في حجمه يحوي مثل علمه ويفهمه التلاميذ مثل فهمه. وهذا شيء خطر على بالي الآن وأنا أكتب هذا الفصل، ما فكّرت فيه من قبل، ولكن أرجو أن يكون خدمة لذكرى أستاذي ومنفعة لأبناء بلدي، وأنا أعد هذا البلد بلدي وبلد كل مسلم يتوجّه في صلاته إليه. * * *

وهنا جاء في طريق حياتي منعطف آخر. كنت من أصغر تلاميذ صفّي (أو فصلي كما تقولون)، وكان عبد الحكيم مراد في مثل سنّي. وكنا لا نتكلم إلا الفصحى فكان التلاميذ الكبار يسخرون منّا وربما آذونا، وعلم أبي بذلك فأخرجني منها وأدخلني المدرسة الجَقْمَقيّة عند الشيخ عيد السفرجلاني. ومنعطف أكبر منه كان في حياة سوريا كلها، هو موقعة «ميسلون» وانتهاء الحكم العربي وبداية الانتداب الفرنسي (¬1). * * * ¬

_ (¬1) وقعت معركة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز عام 1920، وفي اليوم التالي دخل غورو إلى دمشق وبدأ الاحتلال الفرنسي للشام رسمياً (مجاهد).

منعطف خطير في تاريخ سوريا

-8 - منعطف خطير في تاريخ سوريا وقفت بكم أمام منعطفَين، واحد منهما في طريق حياتي أنا وواحد في طريق تاريخ بلدي، بل والبلدان التي تجاوره وتجمعها به جوامع العقيدة والمصلحة واللسان، وهو منعطف معركة ميسلون. لا أكتب عنها بقلم المؤرخ الذي يجمع الروايات، ويصفّيها ويصنّفها ثم يؤلف بينها ويستخرج العبرة منها، فقد كتب عنها كثير، ولعلّ أحسن ما كُتب فيها كتاب الأستاذ ساطع الحصري. وهذا الرجل سابق من السابقين من الموجّهين والمربّين من العرب، وإن عاش حياته الطويلة جداً ومات وهو لا يحسن العربية لا نطقاً ولا كتابة. مفكّر ممتاز، كان شيخ المشتغلين بالتربية من عام 1908 في تركيا، ثم في الشام على العهد الذي أتحدّث الآن حديث ذكرياته، ثم في العراق. وقد تسلّم «المعارف» من بابها إلى محرابها وأصدر يومئذٍ مجلة كانت أولى مجلاتها، ثم أشرف على «المعارف» في سوريا بعد الاستقلال، وهو نسيب الزعيم سعد الله الجابري، ثم عمل في مصر في جامعة الدول العربية.

هذه مزاياه، أما: هل أحسن أم قد أساء؟ وماذا كان موقفه من الإسلام؟ الجواب لا يرضيه لو كان حياً ولا يرضي تلاميذه ومحبّيه، ولكنه الحقّ ولا يضرّ الحقَّ أنْ كثُرَ أعداؤه وكارهوه. كان العقلَ المفكّر لفتنة القومية التي لم يأتِ منها إلا أننا كنا أمة واحدة هي «أمة محمد» فصرنا جمعية أمم، وكنا إخوة يجمعنا الحب في ظلال الإيمان فصرنا أعداء تفرقنا هذه الدعوة الجاهلية. ولقد أفسد مناهج سوريا لمّا دعا بعد الاستقلال إلى إصلاحها. ولقد كان لنا (أنا ونهاد القاسم رحمه الله) مجلس معه في مصر سنة 1947 استمر ساعات. ولكن لماذا أقف عنده الآن؟ إنه داء الاستطراد والخروج عن الجادة، فلنعد إليها ولنتابع طريقنا فيها. لقد كانت معركة ميسلون منعطفاً خطيراً في تاريخ بلادي، وما أكثرَ المنعطفات في قصة حياتي! ذلك لتعلموا أن حياة الإنسان لا تقاس بـ «طول» السنين بل بـ «عرض» الأحداث؛ فلقد بلغ عمري في التاريخ الذي أكتب عنه اثنتي عشرة سنة فقط، ولكني رأيت فيها حكم الأتراك، وحكم العرب ومن ورائهم الإنكليز، مستخفين بأشخاصهم ظاهرين بأعمالهم كالوسواس الخنّاس مع الناس. وسأشهد قريباً حكم الفرنسيين، وهم ظاهرون ظهوراً قوياً ولكن أثرهم -إن قيس بأثر أولئك- كان ضعيفاً. أتعرفون القصّة الرمزية عن الريح والشمس لمّا تراهنتا على أيهما يقدر أن ينزع عن الفلاح معطفه، فعصفت الريح واضطربت حركة الهواء فبرد فلبس فوق المعطف عباءة، وجاءت الشمس

فوجّهت أشعّتها إليه، فأحسّ بالحر وسال من جسده العرق فنزع المعطف؟ هذا هو مثال الإنكليز والفرنسيين كما رأيناهم في الشام، وهما -بعد ذلك- كحمارَي العبادي (من سكان الحيرة)، قيل له: أيّ حمارَيك أسوأ من صاحبه؟ قال: هذا، وأشار إليهما معاً! وكانت ميسلون، وأنا أصف منها ما رأيت وما يمكن أن يراه مثلي. * * * كنا في جنة (أو فيما نتوهمه جنة) فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، وكنا في قصر فيه كل ما نطلب وما نتمنى فأتاه زلزال مدمّر فتركه خراباً. كنا نعيش (أو نظنّ أننا نعيش) في عرس دائم؛ ابتهاج وحماسة، وعودة الخير، والسعة بعد الضيق، والحرية (أو ما حسبناه حرية) بعد أن كنا في سجن كبير. أصبحنا، وإذا الأخبار تتوارد عن مسير الفرنسيين إلينا وأن الأعور الدجّال قادم علينا ... إنه الجنرال غورو (¬1). لم ندرِ أنهم تقاسمونا ونحن نيام، وأن «سايكس وبيكو» وزّعونا غنائم حرب كما تُوزَّع المواشي التي أخذها الجيش الغالب من الجيش المغلوب، وأن إنذاراً قد وُجّه بحلّ الجيش، وأن الملك وافق عليه وسرّح الجيش. كل ذلك لم يعلم به عامة ¬

_ (¬1) والأعور الدجال الثاني موشي ديان، وقد فطس في أواخر عام 1981 (وكلمة فطس من العامّي الفصيح)، والثالث هو الذي يظهر قُبَيل يوم القيامة.

الكبار، فما بالك بالتلاميذ الصغار؟ وسرَت أقوال أن مدير البريد العامّ حسن بك الحكيم قد أخّر برقية الملك لأنه لم يرضَ أن يكون شريكاً في هذا الموقف الذليل، ثم تبيّن أن ذلك لا أصل له. وحسن بك السياسي النظيف رئيس الوزارة مرات، رجل الاستقامة والإصلاح لا يزال حياً، يعيش على راتب تقاعدي لا يعدل راتب معلم ابتدائي، وهو أحد الأعلام في تاريخنا الحديث، ولو شاء لكان كما كان غيره من أصحاب الملايين. فيا أسفي! أهكذا يُعامَل شرفاء الرجال؟ (¬1) واشتعلت البلد بنار الحماسة، وكان الوطني المخلص وأحد أركان التعليم الشيخ كامل القصّاب يُذْكي هذه النار ويُضرمها، وتألّفت اللجان الشعبية لجمع المال (¬2)، وهجم الناس على الثكنة الحميدية (القشلة، وهي تشبه أختها في مكّة، وهي اليوم جزء من جامعة دمشق) وخطفوا ما وجدوا من السلاح، ومنهم من أخذ بندقية فرنسية ورصاصاً ألمانيا فانفجرت به. وظنوا بأن الحرب تُكتسَب بالخطب، كما ظن ذلك الأستاذ أحمد الشقيري رحمه الله (وأبوه الشيخ أسعد من قبله، وكان ¬

_ (¬1) لم يذكره جدي إلا بخير. انظر مقالة «حسن الحكيم القوي الأمين» في كتاب «رجال من التاريخ»، وإليه قدّم مقالة «في إصلاح الأوقاف» التي نشرها سنة 1937 وفي أولها: "إلى القوي الأمين حسن بك الحكيم"، وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد). (¬2) وكان المشرف على هذه اللجان خالي الأستاذ محب الدين الخطيب، وأنا أذكر غرفة كبيرة في داره (قرب البادرائية) مملوءة حتى سقفها بالبنادق تُوزَّع على المتطوعين.

خطيباً مثله) وكما يظن كثيرون، وخرجوا بالأهازيج والأناشيد يتسابقون إلى ساحة المعركة. وكان من المتحمسين القائد الشابّ يوسف بك العظمة، شهيد ميسلون وقبره فيها. ولم يستمع أحد لنصح كبار العسكريين كرضا باشا الركابي، وكانوا يظنون أن جماهيرَ ما عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة تستطيع أن تردّ جيشاً فرنسياً يقوده جنرال! فكانت الهزيمة المرتقَبة بعد قتال قصير، ودُفن الاستقلال وهو لم يتمّ سن الرضاعة، وبدأ حكم الأجنبي للشام. * * * أما المنعطف الصغير في حياتي أنا فهو نقلي من المدرسة السلطانية الثانية (الرسمية) إلى مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني (الأهلية)، وكانت في الجَقْمَقيّة. أما «الجقمقية» فقد بناها جَقمق المتوفّى في سنة 824هـ (¬1)، وهي في جوار قبر صلاح الدين ¬

_ (¬1) في كتاب «من حديث النفس» مقالة جميلة مؤثّرة عن هذه المدرسة عنوانها «وقفة على طلل» قال جدي في أولها: "في حِمى المسجد الأموي تقوم المدرسة الجقمقية التي بناها سنجر الهلالي وجدّدها الملك الناصر سنة 761هـ، ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جقمق فنُسبت إليه". وذكر الشيخ عبد القادر بدران في «منادمة الأطلال» أن الأمير سنجر الهلالي بنى المدرسة، ثم احترقت مع ما احترق وخرب حين غزا تيمور لنك دمشق، فأعاد بناءَها الأميرُ جقمق في السنة المذكورة (824). انظر تفصيل ذلك كله وأخباراً عن كل ما ذُكر هنا من هذه المدارس في كتاب الشيخ بدران المذكور، وهو من أعلم الناس بالشام وما فيها من البنيان والآثار (مجاهد).

الأيوبي. ومثلها المدرسة السُّمَيساطية التي كانت يوماً دار عمر ابن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، والمدرسة الإخنائية، وقريب منها العادلية التي بناها العادل الأيوبي، وفيها اليوم مجمع اللغة العربية، وكانت يوماً دار الإفتاء وكان المؤرخ ابن خَلِّكان ينام فيها. وأمامها الظاهريّة (¬1)، أغنى المكتبات في الدنيا بالمخطوطات في علوم الحديث، وقد صنع لها المحدّث الشيخ ناصر الألباني (¬2) فهرساً. وهذه المحلة من دمشق ممتلئة بالمدارس القديمة، حتى إنك لتلقى داراً مملوكة على بابها لوحةٌ باسم المدرسة وواقفها وما وقفه عليها، وهذا من العجب. وأعجب منه أن جدار الأموي الشمالي (وعرضه نحو المترين أو قريب منهما) فيه نافذة، أرضها ملحَقة بدار مملوكة مُسجَّلة في السجلّ العقاري، وهي من جدار الجامع! ¬

_ (¬1) «السّميساطية» نسبة إلى أبي القاسم السّميساطي (من سُمَيْساط، وهي قلعة على الفرات) الذي اشترى الدار ووقفها على فقراء الصوفية في القرن الهجري الخامس، و «الإخنائية» أنشأها القاضي الإخنائي واكتمل بناؤها سنة 820هـ، و «العادلية» هي المدرسة العادلية الكبرى التي أنشأها الملك العادل سنة 619هـ (أما «العادلية الصغرى» فهي في العَصرونية، أنشأتها بابا خاتون بنت أسد الدين شيركوه سنة 656هـ)، و «الظاهرية» هي المدرسة الظاهرية الكبرى التي أنشأها الظاهر بيبرس سنة 678هـ (مجاهد). (¬2) وأنا أقرّ له بالصدارة في علوم الحديث وأرجع فيها إليه، وأنكر تفقّهه وآراءه التي يخالف فيها جمهور العلماء من الفقهاء.

ومحلّة أخرى كان فيها سلسلة متصلة من المدارس، هي ضفّة نهر يزيد من غرب دمشق على سفح قاسيون إلى حارة الأكراد، لم يبقَ منها إلا أنقاض مدرسة في أعلى شارع المالكي وعدة مدارس في الصالحية، ومدرسة ركن الدين، ومجموعة من المدارس في طريق لا يزال اسمه «بين المدارس». ويقولون إن ذلك العصر كان عصر الجهل والانحطاط! * * * والجقمقية قد جدّدَتها وزارة الأوقاف بإشراف إدارة الآثار وأعادتها كما كانت، وهي من أجمل المباني المملوكية. أما الشيخ عيد فهو معلّم الشام حقيقة لا مجازاً. ولقد كتبت عنه كثيراً، وفي كتبي كلام طويل عنه (¬1)؛ فقد لبث يعلّم أكثر من ستّ وستّين سنة. ولقد كان أبي تلميذاً لديه ثم صار معلّماً عنده، ولقد رأيت في سجلات مدرسته اسم التلميذ، ثم اسم ابنه، ثم اسم حفيده، ثم اسم ابن الحفيد! علّم أربعة بطون. وابنه الأستاذ عبد الرحمن كان شيخَ المعلمين الرسميين بعد الأستاذ سعيد مراد والشيخ محيي الدين الخاني، وسيأتي الكلام عنه. في هذه المدرسة بدأ التأثير الباقي في نفسي للأساتذة الذين ¬

_ (¬1) في كتاب «رجال من التاريخ» (في مقالة «مع بعض مشايخي») حديث ممتع عن الشيخ عيد وأخبار عن مدرسته، وانظر أيضاً مقالة «نهاية الشيخ» في كتاب «قصص من الحياة»، وهي مقالة مؤثّرة مفعمة بالعواطف (مجاهد).

حضرت دروسهم، أما الشيخ عيد فكان له أبقى الأثر فيها. وما كان يعلّمنا ولا يلقي علينا دروساً، بل كان يلقي الكلمة فيصيب حبّات القلوب منّا. وأنا قد نسيت أكثر ما سمعت من دروس المدرسة، ولكن أمثال هذه الكلمات التي تأتي في موضعها وتقترن بمناسبتها لا تزال في أذني وفي قلبي. كان شيخاً كبيراً وكنا نتكوّم حول مكتبه، يبري لنا أقلام القصب ويُهدي إلينا رسائل عليها خطّه (وكان يُحسِن الخط) ويحدّثنا، فإذا أراد أن يؤدّب واحداً منّا أخذ برأسه فحناه على صدره (صدر الشيخ) ثم أمسك بالعصا بجمع يده، إبهامه إلى أعلى، ثم ضربه على ظهره ضربات لا تؤذي. وكان إذا شتم قال للمذنب: «يحرق بدنك»، ويضرب لنا الأمثال فيقول: كونوا مستقيمين، ولكن استقامة «الحورة» (¬1) لا استقامة عمود الكهرباء؛ الحورة تميل قليلاً مع الريح وتبقى على استقامتها، أما العمود (وكان يومئذٍ من الخشب) فإنه يعاند حتى ينكسر. ولطالما حفظت أحاديث صحيحة وأحكاماً فقهية ووعيت نصائح وحِكَماً انتفعت منها في حياتي، كل ذلك من هذه الكلمات. فإذا دخل الغرفة المراقب (وكنا نسميه الناظر، وهو موظف لديه وتابع له) قال ضاحكاً: لقد جاء فاهربوا. ومن هو الناظر؟ هو الشيخ محمود العقاد، أحد تلاميذ أبي وأقربهم منه صلة، وكان حسن الصوت مجوّد القراءة يُتقن ¬

_ (¬1) أي شجرة «الحور»، يقول شوقي في شاميّته: والحورُ في دُمّرٍ أو حولَ هامتِها ... حورٌ كواشِفُ عن ساقٍ وولدانُ

الأناشيد، فإذا انتهى الدرس بعثتني جدّتي إليه لأقول له: يا شيخ محمود، اقرأ لنا أو أسمعنا نشيداً. وكان يفعل. وجئت المدرسة وهذا نظري إليه وحكمي عليه. وإذا هو في المدرسة رجل آخر غير الذي عرفته في الدار، لا ينشد ولكن يشدّ أرجلنا في الفلق ويقرعها بالعصا. كان مخيفاً، وكان التلاميذ إذا خرج عليهم وهم في الفرصة وهم يصرخون ويصيحون صمتوا فجأة وكُمّت أفواههم. ولمّا صرفه الشيخ عيد (أو انصرف هو) جاء يودّعنا يرتقب منا أن نبكي حزناً للفراق، ففرحنا من الأعماق. أقول هذا بلسان ذلك التلميذ، وأشهد -وقد استمرّت صلتي به إلى أن توفّاه الله من سنوات- أنه كان يحب الخير للتلاميذ ويريد لهم الكمال، أمّا الشدة فقد كانت (موضة) المعلمين في تلك الأيام. * * * في هذه المدرسة اتضح لي طريق الجمع بين القراءة على المشايخ على الأسلوب الأزهري القديم، والدراسة في المدارس على الأسلوب الجديد. ولقد كنت -منذ وعيت- أجد إذا أصبحت مشايخ بعمائم ولحى يقرؤون على أبي، وكنت أدخل بالماء أو بالشاي فألتقط كلمة بعد كلمة، لا أفهم معناها ولكن تبقى في نفسي ذكراها. ثم صار أبي يأمرني أن أناوله الجزء الأول من حاشية ابن عابدين، أو الثاني من الفتاوى الهندية، أو جزءاً من القاموس، أو تنقيح الحامدية ... فعرفت بعض أسماء الكتب.

ولكن لم يَضِح (¬1) لي الطريق إلا في هذه المدرسة؛ إذ كان بين مدرّسينا شيخ جليل، ولكنه شديد. كنا -مع الأسف- نحترمه ولا نحبه، وكنت أحضر دروسه في الأموي يوم كان في الأموي أكثر من عشرين حلقة دائمة، وكانت حلقته متميزة تجمع العلم والأدب والفقه والشعر، يتكلم بلهجة تونسية يلقي جُمَلاً مسجَّعة كثيرة الترادف مزيَّنة بالشواهد، كأنه يقرؤها من كتاب مطبوع، هو الشيخ صالح التونسي (¬2). لهذا الشيخ ولصديقه الشيخ الكافي (وسأتكلم عنه) أثر بالغ في نفسي، ذلك أنه كان صديق أبي، وكانت له غرفة في المدرسة البادرائية (¬3)، فألزمني أبي بأن أحضر عليه في غرفته «دروساً إضافية» فوق دروسه التي ضقت بها في المدرسة، وكنت أتمنى الخلاص منها ولكن أمر الأب لا يُرَد. ولقد أدركت بعده مبلغ ما استفدت منه، حين حفّظني ألفية ابن مالك والجوهر المكنون في البلاغة، ومتوناً أخرى نُقِشت في خاطري في الصغر وانتفعت بها في الكبر. * * * ¬

_ (¬1) وضح يَضِح مثل وعد يَعِد. (¬2) والد الفريق الطيب والأستاذ عبد الرحمن مدير مدارس الثغر. (¬3) أسّسها في العصر الأيوبي القاضي نجم الدين البادرائي سنة 654هـ (مجاهد).

عهد جديد في حياتي وذكرياتي عن الجامع الأموي

-9 - عهد جديد في حياتي وذكرياتي عن الجامع الأموي عهد «المدرسة الجقمقية»، مدرسة معلّم الشام الشيخ عيد السفرجلاني، عهد جديد في حياتي. دخلت قبله كتّاباً ومدرستين ومررت بجماعة من المعلّمين والمدرّسين، وقد ترك ذلك في نفسي أثراً بلا شك، ولكني لم أدركه في حينه ولا أذكره الآن، إمّا لصغر سنّي وإما لأني لم أصادف المدرّس الذي أعطاه الله القدرة على فرض نفسه على تلاميذه، وأوّل عهد شعرت بأثره فيّ هو هذا العهد. وأستطيع حصر عوامل هذا العهد في تكوين فكري وتحديد سلوكي في أربعة: مدير المدرسة وصاحبها الشيخ عيد السفرجلاني، والجامع الأموي وحلقاته، ومدرّسنا الشيخ صالح التونسي، ورجل عالِم كان صديق أبي وأعمامي، كان قويّ الشخصية فقيهاً مالكياً عظيماً قويّ التأثير فيمن حوله، على شذوذ فيه هو إلى شذوذ العباقرة أقرب منه إلى شذوذ أشباه المجانين. أما الشيخ عيد فقد أوردت طرفاً من أخباره وجانباً من وصفه

في الحلقة الماضية، ولكن لا بأس بأن أحدّثكم بشيء جديد عن هذا الرجل. هذا الرجل كان معلّماً عظيماً، ولم يكُن يلقي علينا دروساً محدّدة الأبواب واضحة المنهج، بل كان ينثر أقواله ونصائحه نثراً، يلقيها علينا ونحن متكوّمون عليه حول مكتبه، وهو يجول بيننا في ساحة مدرسته، بل كان لا يحجبها عنا وهو يؤدّبنا. وربما مرّت الكلمة فلم نلتفت إليها عندما كان ينطق بها ولكنها كانت تُغرَس في نفوسنا، تنزل إلى أعماقها، حتى إنني لا أزال أذكر أكثرها إلى الآن كلما دعت إليها مناسبات المقام. وأمثال هذه الكلمات يلقيها معلّم يجتمع له في قلب تلميذه الحب مع الاحترام هي التي تبقى على كرّ الأيام، وإن نُسيت محاضرات الفصل التي يكون فيها الامتحان. أضرب لكم عليها مثالاً: تجوز الصحراء فلا ترى إلاّ أرضاً جرداء، لا ظل ولا ماء ولا نبتة خضراء، فإذا نزل المطر اهتزّت وربَت وكُسيت ثوباً أخضر من العشب والزهر وصارت مرعى للسوائم ومتعة للنظر، فمن أين ترونه قد جاء هذا النبات؟ مِن بذور صغار قد لا تأخذها من دقّتها الأبصار، قد ركّب الله لبعضها ما يشبه الأجنحة القصار، تحملها الرياح فتلقيها بين حبات الرمال، فلا ترى إلا تلالاً من الرمل تتلظّى تحت وهج الشمس. فإذا أنزل الله الأمطار وجمع الله لها «الظروف» التي جعلها سبب الإنبات كان منها هذا النبات، وكان منه الزهر البارع والثمر اليانع، أو كان منه الشوك الجارح والسم الناقع.

وكذلك كلّ ما تسمعه، لا سيما إن سمعتَه في الصغر؛ إنه بذرة خير أو بذرة شرّ، إذا جاءها «الظرف المناسب» وضعتك على طريق الجنة أو على سبيل النار. فانتبهوا -يا أيها القرّاء- لما تنظرون فيه من كتب ومجلات، وما تسمعونه من إذاعات ومحاضرات، وما تشاهدونه من مسلسلات ومسرحيات، ولا تظنوا أن أثر ذلك يذهب مع إكمال الكتاب أو انتهاء المحاضرة أو إسدال الستار على المسرحية، بل إن بعضه يبقى ما بقيَت الحياة. فيا رحمة الله على الشيخ عيد السفرجلاني وعلى أمثاله من مشايخنا الأوّلين، الذين كانوا لنا آباء وكانوا مربّين، وكانوا مراقبين ناصحين. الشيخ عيد هذا أعلم أن تسعة وتسعين بالمئة من قرّاء هذا الفصل لم يسمعوا باسمه ولا أحسبهم يهتمّون بخبره. وكذلك يكون نصيب الجندي المجهول من ثناء الناس، ولكنْ ما له وللناس؟ وما الذي يرجوه من الناس؟ إنه عند الله معلوم لا مجهول، وإنه يرجو ونرجو له -من فضل الله ورحمته- الجنة، ونرجوها لأمثاله من المجاهدين المخلصين والعاملين الصامتين. الشهرة وخلود الذكر ليست ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، بل هو رضا الله وثوابه العظيم. فاطلبوا ما يبقى، لا تجعلوا أكبر همكم السعي لما يفنى. أسأل الله أن يوقظ قلبي وقلوبكم من غفلتها، فأنا أحوج إلى هذه الدعوة أكثر منكم. * * *

والجامع الأموي. وهل تظنون أن استطراداً في فصل من هذه المذكّرات مساحته بضع صفحات يتّسع للكلام عن الجامع الأموي؟ لقد كانت المدرسة الجقمقية (ولا تزال) أمام الباب الشمالي للجامع، فكنا ندخله كلما سنحت لنا فرصة بين الدروس وفي أوقات الصلوات، وكان لنا مهوى القلب ومستقرّ الحب، كما كان -مع الأسف- ميدان اللعب! لقد كنت في تلك الأيام التي أتكلم الآن عنها (سنة 1919) كلما سمعت خبراً عن الأموي أختزنه في ذاكرتي. وكنت لا أنسى شيئاً سمعته أو قرأته، أحفظه من مرة واحدة فلا يفلت مني. تقولون: «إنّ الفتى مَنْ يقولُ هأنَذا»، فلا تفخر بما كان بل صِفْ ما هو كائن الآن. أصدقكم القول: إنني لا أزال أحفظ ما أسمع أو أقرأ، ولكني أنسى نصفه فأرويه بمعناه، وأنسى ممّن سمعته أو أين قرأته. وهذه نعمة أحمد الله عليها. أتريدون أن أكون في الشيخوخة كما كنت في الصبا؟ هيهات! أترجو أن تكونَ وأنتَ شيخٌ ... كما قد كنتَ أيامَ الشبابِ؟ لقد كذَبَتكَ نفسُك، ليسَ ثوبٌ ... خليقٌ كالجديدِ من الثيابِ وحسبي أنني الآن -بفضل الله- أقوى جسداً وأوعى ذاكرةً مِن أكثر مَن أعرف من الشيوخ. ثم صرت بعد ذلك أدوّن ما أجد من أخباره حتى اجتمع

لي منها الكثير الكثير، فلما كلّفَتني وزارة الأوقاف أيام الوحدة مع مصر أن أؤلّف عن «الأموي» كتاباً يكون دليلاً للسيّاح أخذت منها خلاصة وافية، وضعتها في كتاب عنوانه «الجامع الأموي» يبيعونه لزوّار المسجد من السيّاح ويأخذون (هم) ثمنه. ولم أبيّن فيه المراجع التي أخذت منها الأخبار لأنني في كتابي «أبو بكر الصدّيق» المطبوع من أكثر من خمسين سنة وكتاب «عمر بن الخطاب» ثم «أخبار عمر» الذي جمعته من مئة وسبعين مرجعاً، قد وضعت في الذيل مصدر كل خبر (الكتاب والطبعة والجزء والصفحة)، فأخذ ذلك كُتّاب كبار وصغار منهم العقاد في «العبقريات» ومحمد حسين هيكل، ونسبوا الخبر إلى مصدره وأهملوا ذكر كتابي الذي نقلوا منه اسم المصدر، ولي على ذلك أدلة وبراهين وقد قلته من قبل، سامحهم الله. ولست أعرض هنا لما في كتابي «الجامع الأموي» لأني لا أكتب اليوم بقلم المؤرّخ، بل أتكلم بلسان المحدّث. لقد كان الأموي -يومئذٍ- حافلاً بحلقات التدريس، لا يكاد يخلو من ثلاث أو أربع منها (على الأقل) إلاّ ساعات محدودات قبل الظهر وبعده؛ فيه دروس بعد الفجر ودروس بعد العصر ودروس بعد المغرب. في مقدمتها حلقتا المحدّثَين الكبيرَين الشيخ بدر الدين الحسني الذي كانوا يدعونه المحدّث الأكبر، والشيخ السيد محمد بن جعفر الكتاني. أما الشيخ بدر الدين فإني من يوم عرفت الدنيا كنت أسمع باسمه وأنه شيخ علماء الشام، ولقد وصفت مرّاتٍ درسه

تحت القبة (وكان التدريس تحت القبة لكبير علماء الحديث في البلد) ووصفته فيما كتبته عنه يوم وفاته سنة 1935 في مجلة «الرسالة» (¬1)، وقد جعل الأستاذ الزركلي هذه المقالة من مصادر ترجمته في «الأعلام». وقد ارتجّت الشام لوفاته رجّة شديدة وهُرع علماء سوريا إلى دمشق، جاؤوا من مدنها كلها، وأتعجّل القول (وأنا أتكلم عن أحداث سنة 1919) فأقول إنهم قرّروا أن يشرّفوني بأن أكون أنا الذي ينعاه للناس في الأموي، في جمع لم تشهد دمشق جمعاً في الأموي أكبر منه. أمّا الشيخ الكتاني فقد كان آية في معرفة علوم الحديث، وكتابه العظيم الذي سمّاه (تواضعاً) «الرسالة المستطرَفة» (¬2) دليل هذا العلم الذي لا أعرف في هذا العصر ولا غيره من ألّف مثله. وأحسب أنه أملاه إملاء، وسلوا عن هذا صديق العمر أخي الشيخ ياسين عرفة الذي طبع الكتاب. وكنا نحضر درسه فيقرأ معيد الحلقة، وهو السيد محمد الزمزمي (ابن الشيخ ووالد الصديق السيد المنتصر)، ثم يأخذ الشيخ بالكلام عن رواة الحديث واحداً واحداً، يذكر مَن وثّقه ومن تكلّم فيه، ثم يتكلم عن المتن كأنه يقرأ من كتاب، وذلك ¬

_ (¬1) نشر جدي رحمه الله حديثاً عن الشيخ بدر الدين في كتابه «رجال من التاريخ»، أما هذه المقالة التي يشير إليها هنا فلم تُنشَر في أي من كتبه، وقد ظهرت في «الرسالة» في العدد 105 في الثامن من تموز سنة 1935 (مجاهد). (¬2) العنوان الكامل للكتاب هو «الرسالة المستطرَفة فيما يحتاج إليه طالب الحديث من الكتب المشرَّفة» (مجاهد).

في هيبة مَلِك وتواضع عابد، واطّلاع عالِم منقطع النظير، بلهجة مغربية حلوة. وكلا الشيخين (الشيخ بدر الدين والشيخ محمد بن جعفر) مغربيّ، ولكن الشيخ بدر الدين مولود في دمشق. وقد ورد علينا مرة مغربي اسمه الشيخ البلغيثي، درّس مدّة في الأموي وكان أعجوبة في المسائل المعقولات وفي حلّ المشكلات. وممن كان يدرّس في الأموي الشيخ الكافي، وشيخنا الشيخ بهجة البيطار، يدرّس في رمضان خاصة لأن دروسه اليومية كانت في جامع الدقّاق في الميدان. وفي هذا المسجد (أي جامع الدقّاق) «بسيط» آخر مثل البسيط الموضوع في منارة الجامع الأموي، وكلاهما من صنع جدنا الشيخ محمد الطنطاوي. ومن مدرّسي الأموي الشيخ هاشم الخطيب. والشيخ عبدالقادر الإسكندراني، وهو عالِم مصري سكن دمشق كان يتكلم بلهجة مصرية. والشيخ أحمد النويلاتي، والشيخ عبد الله العلمي المفسّر، والد الدكتور عبد الحليم وعبد الباسط (وهما من رفاقنا في مكتب عنبر) والدكتور عبد الستّار وهو أصغر منهما، وله ولد طيّب يعمل هنا اسمه الدكتور فوّاز لم ألقَه. والشيخ خالد النقشبندي، وهو حفيد مولانا خالد، هذا هو لقبه الذي يُعرف به على طريقة الهنود. والأتراك يقولون للعالِم «المولى» فلان (¬1)، والأكراد يقولون «المُلاّ» فلان، وأصلها المولى. ورأيت في جاوة لمّا زرتها عالماً اسمه الكيا دحلان، و «الكيا» لقب للعالِم وليس اسماً، ومنه ¬

_ (¬1) راجع «الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية».

عرفت معنى اسم الفقيه الشافعي الكيا الهرّاسي (¬1). قلت: إن الشيخ خالد النقشبندي هو حفيد (أو ابن) مولانا خالد الذي جلب الطريقة النقشبندية إلى دمشق، ولكنه مع ذلك سلفيّ، وهذا من العجائب. ومثله أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، أموي النسب شيعي المذهب. وولدي الأستاذ سعيد المولوي، أهله من أركان الطريقة المولوية وهو سلفي! وكانوا في الشام -يومئذٍ- يَدْعون السلفيين بالوهابيين، وكانت الوهابية تهمة مخيفة (¬2)، ولقد عوقبت مرة في المدرسة لأنهم أمسكوني بالجرم المشهود في حلقة الشيخ عبد القادر بدران صاحب «المدخل» (¬3). ومن مُدرّسي الأموي الشيخ يعقوب المدني، وهو من الذين هاجروا من المدينة لمّا تركها شطرٌ من أهلها هرباً إلى الشام في أواخر العهد العثماني. ومنهم الشيخ العيطة، وهو كفيفٌ طلْق اللسان عالي الصوت، صوفي خرافي (ومن الصوفية ما يمشي مع الشريعة ولا يخالف الكتاب والسنة، ككتاب «مدارج السالكين»). ¬

_ (¬1) قال ابن خلِّكان في آخر ترجمة الكيا الهرّاسي في «وفَيَات الأعيان»: "وفي اللغة العَجَمية «الكيا» هو الكبير القدر المقدَّم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الياء" (الوفيات 3/ 289) (مجاهد). (¬2) اقرأ كتابي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. (¬3) «المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل». وكان الشيخ بدران حنبلي المذهب سلفي العقيدة، وله ترجمة وافية تستحق أن تُقرَأ في «الأعلام الشرقية» 1/ 334 (مجاهد).

وممّن جاءنا من المدينة الشيخ الغاطس، أحد مؤذّني المسجد النبوي، وقد تلقّى عنه بعض مؤذّني الأموي نغمة الأذان المدني. ومن عادات هؤلاء المؤذّنين أنهم يأتون بعد صلاة العشاء بابتهالات وأناشيد نبوية موجود مثلها في مصر وغيرها (وهي بدعة)، لكن الذي في دمشق ينفرد بشيء لا يوجد مثله -فيما أعلم- في غيرها؛ هو أن لحن هذه الأناشيد مربوط بالأيام، فلكل يوم مقام (نغم) من المقامات السبعة الأصلية، فمَن لم يعرف ما هو اليوم وكان له بصر بالأنغام عرفه من نغمة (أي من مقام) النشيد. وأحسب أن هذا الترتيب من وضع الشيخ عبد الغني النابلسي. ومن مدرّسي الجامع الأموي الفقيه الشافعي الكبير الشيخ الجوبري، والشيخ العذري، وهو رجل عجيب إذا أسمعتَه بيتاً في الغزل هاج وماج، وكان في درسه صراحة عجيبة، كان يشتم الفرنسيين ومَن يعاونهم أقبح الشتائم فمنعوه من التدريس. وكان كلّ من ورد دمشق من العلماء يقرأ درساً في الأموي يبيّن فيه عن علمه ويكشف عن مشربه، ولقد حضرت دروساً منها لأكابر علماء مصر والشمال الإفريقي وغيرهما. * * * ولما جاءنا الشريف فيصل كَثُرَ الواردون من الحجاز من علماء وغير علماء، وهذه حادثة طريفة إذا لم تجدوا في روايتها نفعاً فإنكم واجدون في ذلك متعة. هي أن الشريف فيصل نزل في دار عثمان باشا، وهي الدار التي اشترتها فيما بعد السفارة الفرنسية

وسكنتها، وهي في محلة «العفيف» أول حيّ المهاجرين، ونزلَت حاشيته الدُّورَ المجاورة لها. وكان لعمي الشيخ عبد القادر دار كبيرة جداً لها برّاني وجوّاني (اقرأ وصفها في كتابي «من حديث النفس») (¬1) فاستأجروا برّانيها. وكنت أمشي يوماً في الحرم في مكة أول سكني بها (وذلك سنة 1384) ولم يكُن قد تم بناؤه، فسمعت صوتاً يناديني، فالتفتّ فإذا أنا بشيخ له سمت وهيئة مع جماعة يتبعونه، فوقفت له حتى وصل. قال: أنت الشيخ علي؟ قلت: نعم. فهشّ لي ورحّب بي وسلّم عليّ، وانطلق يسألني فقال: ابن الشيخ مصطفى؟ قلت: نعم. قال: كيف حاله؟ فدُهشت وقلت: رحمه الله. قال: متى؟ قلت: في شعبان سنة 1343، أي من أربعين سنة. قال: رحمه الله، رحمه الله. وعمّك الشيخ عبد القادر؟ قلت: تُوُفّي من عشرين سنة. قال: وأخوه؟ وفلان وفلان؟ يسأل عن ناس مرّت على موت أقربهم وفاةً عشرون سنة. قلت: يا سيدي، من أنت؟ هل أنت من بقايا أهل الكهف؟! فإذا به الشيخ حسن فدعق رحمه الله، وكان -كما تذكرت بعدُ- إماماً للشريف فيصل، استأجر برّاني بيت عمي وعرفنا ونحن صغار، رحمهم الله جميعاً (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في مقالة «بيوتنا هدمناها بأيدينا» ص252 - 254 (مجاهد). (¬2) هذه القصة وردت في أول مقالة «التفكير بالموت» المنشورة في كتاب «فصول اجتماعية»، فمن شاء فليقرأها هناك (مجاهد).

من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

-10 - من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون الطريق طويل، وأنا أمشي كالسلحفاة. لقد رضيتم مني أن أكون كالسائح؛ يقف ليرى فيصف ثم يعاود المسير، فرأيتُني الآن أقف ولا أسير، فدعوني أسرع وأدع التفصيل في الكلام عن عهدٍ أكثرُ القرّاء لم يدركوه، وعن رجال لم يسمعوا بهم ولا يعرفونهم. وسأكتب إن شاء الله عن الشيخ الكافي وغيره في فصول آتيات أو في طبعة مقبلة من كتابي «رجال من التاريخ» (¬1). أمّا الشيخ صالح التونسي الذي كان يدرّسنا في المدرسة الجقمقية فلا بدّ لي من وقفة قصيرة معه. لقد عرفته من حلقته في «الأموي» قبل أن أقعد تلميذاً بين يديه في المدرسة. كانت حلقات الدروس في الأموي كثيرة في علوم مختلفة، منها ما هو لطلبة العلم ومنها ما هو مواعظ ¬

_ (¬1) وقد فعل جدي ذلك. نشر مقالة عن الشيخ الكافي ثم ضمها إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته الجديدة التي أصدرتها دار المنارة عام 1985 (مجاهد).

للعامة، ولكن درس الشيخ صالح كان يمتاز منها جميعاً؛ كان موعظة، وكان أدباً، وكان تاريخاً. وما أكثر ما حفظت فيه من أحاديث صحيحة، ومقطوعات من الشعر بارعة، وأخبار من التاريخ نادرة. وكان يُلقي ذلك بلهجة تونسية فصيحة المبنى جامعة المعنى كثيرة الأسجاع، تأتي معه عفواً بلا تكلّف. لا يكتفي بأن يتكلّم ونحن نسمع، بل كان يسأل ويطلب الجواب، فيكون لنا من درسه -فوق ما نتلقّى من العلم والأدب- تدريب على الخطابة وتمرين على الكلام. وهذا فن عُني به العرب قديماً حين كان من خطبائهم من يدرّب على ذلك الشبابَ، وعُني به الأميركان حديثاً إذ يفتحون مدارس يتعلم فيها تلاميذهم (وجلّهم من الكبار) فنّ مخاطبة الجماهير. ثم كنت تلميذه في المدرسة، وكنت أتلقى عنه فوق ذلك درساً خاصاً، أمرني أبي به وطلبه لي منه، وكان صديقه. وأشهد لقد استفدت منه ومن المتون الكثيرة التي ألزمني حفظها: ألفية ابن مالك (¬1) في النحو، والجوهر المكنون في البلاغة، ومتن الجوهرة والزّبد (¬2)، وإن كنت قد نسيتها الآن إلاّ قليلاً منها. وإذا وعدتم وعد الصدق ألاّ تخبروا ولده الأستاذ ¬

_ (¬1) كان قبر ابن مالك في مقبرة الصالحية في جبل قاسيون، فلما مات الشيخ أمين التكريتي ضاقت عليهم الأرض! فدفنوه في قبره، فلم يعُد له قبر يُعرف. (¬2) أرجوزة «جوهرة التوحيد» لبرهان الدين اللقاني في العقيدة الأشعرية وأرجوزة «صفوة الزَّبَد» لابن أرسلان في الفقه الشافعي (مجاهد).

عبد الرحمن مدير مدارس الثغر ولا أحداً من إخوته الكرام لقلت لكم: إني كنت وكان رفاقي كلهم يحترمونه غاية الاحترام ولكنهم لا يحبونه، فقد كان معلّماً كاملاً ولكنه كان شديداً، وكان قوي الجسد مشدود العصب جاداً كل الجد، فكنا نخشى قوة بدنه أن يبطش بنا، وقوة لسانه أن يُلبِسنا من جُمَله التي كان يصوغها صياغة الفولاذ، فتعلق بنا واحدة منها وتتناولها ثم تتداولها ألسنة الرفاق فتكون لنا وصمة العمر. وكان من أساتذتنا في المدرسة عالِم يماني اسمه الشيخ عبدالواسع بن يحيى الواسعي، لا أعرف ما صنع الله به بعد أن فارقنا. وأستاذ أظنّ أن اسمه سعيد الطيب، كان يدرّسنا النحو الفرنسي بالعربية باصطلاحات النحو العربي. أما الذي كنا نخافه جداً ويخافه التلاميذ جميعاً فكان ناظر المدرسة، الشيخ محمود العقاد تلميذ أبي. وكان أخي ناجي يذهب معي وهو صغير، فإذا ضربوني في الدار بسبب منه أنتقم منه فأضربه حين أنفرد به، فيشكوني إلى الناظر، فيعاقبني عقوبة هيّنة في ظاهرها ولكن ضرب العصا كان أهون عليّ منها. كان يأتي بي وبرفيق لي هو عبد المجيد مراد، أخو شفيق وعبد الحميد وابن الشيخ أبي النصر مراد الذي جرّ إلينا الكهرباء من داره، وكانت له بسببها القصة التي رويتها لكم في غير هذه الذكريات (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مقالة «في الكُتّاب» في كتاب «من حديث النفس» وفيها: "لم تكن هذه الكهرباء إلاّ في الطرق وفي قليل من البيوت، ولقد كانت أسرتنا من أسبق الناس إلى الاستضاءة بها، إذ مُدَّ إلى دارنا شريط من دار الجيران سنة 1916، وعرفت ضوء الكهرباء واستمتعت =

كان يقعد على مقعد في قاعة المدرسة ويَقفنا أمامه، وينصحنا فيتكلم ويقول: ضعوا عيونكم على عيني. ويطول الكلام، وأحسّ كأني مشدود بحبل إلى عينيه والحبل يدور بي في الهواء، فلا أعود أفهم شيئاً! وكان من رفاقنا الأستاذ محمد علي بدير كبير رجال الاقتصاد في الأردن اليوم، وابن عمه خالد رحمه الله، والأستاذ هدى الطباع، وعبد الوهاب محفوظ، وعبد السلام الخطيب، وواصف الخطيب، وعبده العظمة، وفؤاد الجلاد. ومرّ العام، وودّعَنا الشيخ محمود وذهب، ثم ودّعَنا الشيخ صالح وسافر إلى المدينة فصار مدرّساً في الحرم النبوي وأقام بها إلى أن توفّاه الله. رحمه الله ورحم أساتذتنا جميعاً. * * * كنا في «العُقَيْبة»، وهي حيّ فقير من أحياء دمشق ذُكر في ترجمة الإمام الأوزاعي أنه كان «قرية ظاهر دمشق»، مع أن بينه وبين السور ثلاثمئة متر فقط، وبين السور وبين «الأموي» مثل ذلك، قدّرته تقديراً ولم أقِسه قياساً، فسامحونا إن نسينا أو أخطأنا. وكنت أذهب إلى المدرسة فأدخل من باب الفراديس، وهو

_ = بها، ولكنها سبّبت لي (فلقة) حامية؛ ذلك أني ذهبت إلى المدرسة أحدّث التلاميذَ أن في دارنا ضوءاً يشعل بلا كبريت وينطفئ بلا نفخ. ووصفته لهم، فعارضني أحدهم وكذّبني، فشتمته فشتمني، فضربته، فحكم عليّ الأستاذ بفلقة لا أزال أذكر طعمها! " (مجاهد).

أحد أبواب دمشق السبعة التي بقي منها ستة (¬1) كما بقي السور سالماً، ثم أدخل السور الداخلي، وبينهما حارة تسمّى اليوم «بين السورين». وأذكر -بالمناسبة- شيئاً نسيت أن أتكلم عنه في مكانه، هو أن جمال باشا لمّا فتح أول شارع في دمشق سنة 1916 سُمّي باسمه، فلما انتهت الحرب وخرج الأتراك سمّوه شارع النصر، يقصدون النصر على الترك. وكنت مرّة عند شيخ مشايخنا، الشيخ عبد المحسن الأسطواني، وكيل اللجنة التي أشرفت على بناء الأموي بعد أن احترق سنة 1311هـ ونائب دمشق في مجلس النواب العثماني ورئيس محكمة التمييز في سوريا، وقد عاش 118 سنة وتُوُفّي كامل العقل قويّ الذاكرة. كنت عنده فسألته: أين الباب السابع من أبواب دمشق؟ أوَلم يكُن بين باب الجابية وباب الفرج باب؟ قال: بلى، كان هناك باب النصر. فكانت تسمية الشارع بشارع النصر رميةً من غير رامٍ. ¬

_ (¬1) في كتاب الشيخ بدران (منادمة الأطلال) وصف ممتع لأبواب دمشق جميعاً (ص39 - 42) قال في آخره: "وبالجملة فلم يبقَ من الأبواب سوى سبعة أبواب هي باب الجابية (قلت: ومن هذا الباب دخل أبو عبيدة بن الجرّاح دمشقَ عندما فتحها صلحاً في السنة الرابعة عشرة للهجرة)، والباب الصغير (قلت: والعامة في الشام تسميه «باب الصغير» بغير تعريف)، والباب الشرقي، وباب توما، وباب السلامة، وباب الفراديس، وباب الفرج. وما بقي فهو إما مسدود أو مهدوم" (مجاهد).

وانتقلت دارنا إلى الصالحية فأخرجني أبي من المدرسة الجقمقية، وفارقت جوّ الأموي الذي تحيا به الأرواح وتنتعش النفوس، يوم كان الأموي قلبَ دمشق: الدار القريبة هي التي تقرب منه والبعيدة هي التي تبعد عنه. وكان مثابة الناس؛ يجلسون فيه في «الحرم» في الشتاء، وفي الصيف يقعدون في الصحن، حيث النسيم الرخيّ لا ينقطع والماء يتدفق من (فوّهة) البركة، والرُّواق الفخم من حولهم والمآذن الثلاث (¬1) تطل عليهم، ويطل معها أربعون قرناً من الزمان من يوم كان معبداً وثنياً إلى أن أصبح كنيسة نصرانية، إلى أن شرّفه الله بالإسلام وضوّأ جوانبه بنور الإيمان، فكان بذلك (أي في جاهليته وفي إسلامه) أقدم المعابد القائمة في الدنيا، كما أن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة على الأرض. كذلك كان الأموي، فهل تدرون اليوم ما حاله؟ كانت دمشق تحوطه بذراعيها وتعطف عليه جوانحها، تعيش بقربه وتحيا بحبه لا تستطيع الابتعاد عنه؛ صباحها فيه ومساؤها، ونهارها بجواره وليلها، فتركَته وسارت مشرّقة وسارت مغرّبة، وبقي وحده حيث كان. وسرنا نحن مع من سار، وإن لم ننكر عهده ولم ننسَ ودّه. انتقلنا من منزلنا الصغير في آخر العُقَيْبة إلى دار كبيرة فسيحة الأرجاء، كثيرة الغرف والأَبْهاء، قريب منها الشجر والماء. الشجر ¬

_ (¬1) المئذنة الشرقية (وتسمى مئذنة عيسى)، والمئذنة الغربية (التي تطل على المِسكيّة، وتسمى أيضاً مئذنة قايتْباي)، ومئذنة العروس، وهي أبهى مآذن الأموي وتقوم في الجهة الشمالية للمسجد (مجاهد).

في بساتين الصالحية التي انتقلنا إليها والماء من نهر «يزيد»، أكبر أولاد بردى الستة في سفح قاسيون، بحيث نرتفع عن المدينة وننزل عن جادات حيّ المهاجرين، نرى من غرف الدار العليا الشامَ والأموي في وسطها. والشام في اللغة من جنوبي تبوك إلى جبال طورس، وفي العرف البلدة القديمة. فيقول أهل الصالحية: "ذهبنا إلى الشام وعدنا من الشام" كما يقول المصريون «مصر» لا يعنون بها الإسكندرية ولا أسيوط، بل ولا يقصدون شبرا ولا حلوان (¬1). وأعادني والدي إلى المدرسة الرسمية، وكان في دمشق -أول عهد الانتداب- أربع مدارس رسمية ابتدائية، وكانوا يسمونها «الأنموذج»، وهي: «أنموذج البحصة» التي كانت مدرستنا السلطانية الثانية. و «أنموذج الملك الظاهر»، وهي أقدمها وكانت في المدرسة التي أنشأها الملك الظاهر بيبرس، وهو ثالث «الفرسان الثلاثة» الذين أنقذ الله بهم سوريا من الصليبين: نورالدين، وصلاح الدين، والظاهر. وفيها اليوم المكتبة الظاهرية التي يعود الفضل فيها بعد الله للشيخ طاهر الجزائري مربّي الجيل الذي سبقنا، جمعَ الكتب التي كانت موزَّعة على المدارس والمساجد تعبث بها أيدي العابثين، وكانت منها نواة هذه المكتبة ¬

_ (¬1) «الشام» هو الاسم الذي يطلقه أهل المملكة والخليج على بلاد الشام عامة: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، و «الشام» هي سوريا عند أهل سائر بلاد الشام (الأردن وفلسطين ولبنان)، وهي دمشق بلسان السوريين، وإذا استعملها أهل دمشق أنفسهم عنوا بها دمشق القديمة (مجاهد).

التي تُعَدّ اليوم من أغنى المكتبات في ديار الإسلام. و «أنموذج الميدان»، و «أنموذج المهاجرين» التي دخلتها سنة 1921 وأُعدْت إلى الصف الخامس ثالث مرة! ذلك أني ارتقيت إلى الصف الخامس على عهد الأتراك، ثم ارتقيت إليه مرة ثانية على عهد الحكم العربي، وهأنَذا أعود إليه على عهد الانتداب الفرنسي ... «فكأننا ما رحنا ولا جينا». لقد ضاعت ثلاث سنوات من عمري هدراً؛ ضاعت بالمقياس الرسمي ولكنها ما ضاعت -والحمد لله- بمقياس الدين ومقياس العلم، بل لقد كانت سنوات خير وبركة، تركَت في قلبي ذخيرة من الإيمان أسأل الله أن يديمها لي وأن يزيدها وأن ينفعني بها في آخرتي، وتلقيت فيها من العلم ما لا أجد مثلَه في مناهج المدارس الرسمية، وقرأت من الكتب ما لا يقرأ مثلَه تلميذٌ في مثل سني يومئذٍ (وسأتحدث عن مطالعاتي وقراءاتي فيما يأتي من الفصول)، وإن كنت قد قرأت معها القصص التي كانت تسلية تلك الأيام: قصة عنتر، وقصة بني هلال، والملك سيف، والأميرة ذات الهمّة ... ورأيت فيها من أخبار الفروسية وأنباء البطولة ومن الأكاذيب والانحرافات ما لا مزيد عليه. كنت في السلطانية الثانية، والشام من حولي في عرس، والناس في فرحة الوجدان بعد الحرمان والأمل بعد اليأس، نهتف للاستقلال ونملأ الجوّ بأناشيد الحماسة والفخر، نمشي -نحن تلاميذ المدارس- نهتف بالنشيد فتردّده معنا أفواه الباعة في الدكاكين والمارّة في الطرق. ثم كنت في الجقمقية في حِمى

الأموي وفي جوّه الروحيّ، نجلس في حلقاته ونستمع إلى علمائه، ونقوم في صفوف المصلّين، نركع مع الراكعين ونذكر مع الذاكرين. فجئت الآن إلى هذه المدرسة في لحف الجبل أمام جامع الشمسية، وقد مات الاستقلال ودُفن في ميسلون، وخُنقت الأناشيد في الأفواه، وأصاب الناسَ اكتئابٌ فكأنهم في مُصاب. وبعد أن كانت الشام مع لبنان والأردنّ ولاية من ولايات بني عثمان، ثم صارت جزءاً من المملكة العربية التي أرادها الحسين بن علي لمّا قام بثورته (أو بنهضته، فلست أدقّق الآن في الأسماء)، بعد هذا كله صارت الشام -لمّا دخلها غورو- أربعَ دول: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة الدروز! انهار البناء الضخم الذي أقمناه من أمانينا وآمالنا، وهوت الدولة العربية التي نفخنا فيها من أرواحنا وسقينا شجرتها من دمائنا، وهبطنا من ذروة الأمل الكبير إلى حضيض الواقع المرير. لم يبقَ شيءٌ من الدّنيا بأيدينا ... إلاّ بقيّةَ دمعٍ في مآقينا * * *

فصل جديد في تاريخ الشام

-11 - فصل جديد في تاريخ الشام بدأ الآن فصل جديد في تاريخ الشام؛ فصل مِداده دموع ودماء، وصفحاته بطولة وفداء، فصل أوله هزيمة واستعمار وآخره استقلال وانتصار. وكان فصلاً غريباً عن تاريخ الشام، ما عرفَت مثله مذ شرّفها الله بالإسلام. لذلك أصابت الناسَ صدمةٌ فلم يصدّقوا أنّ حكامهم صاروا غرباء عن دينهم ودولتهم. حكّام أجانب لا لسانهم لساننا، ولا عاداتهم عاداتنا، ولا نحن منهم ولا هم منا. لم يصدّقوا أن الاستعمار (¬1) قد وصل إلى دمشق التي لم تعرف من قبل استعماراً أوربياً حتى في أيام الحروب الصليبية. لقد مدّ الله للصليبيين فكانت لباطلهم جولة، ثم كانت العاقبة للحق أظهره الله على يد البطل المسلم (التركي) نور الدين والبطل المسلم (الكردي) صلاح الدين، وسيأتي الله ببطل مسلم يُزيل باطل اليهود عن فلسطين ويُظهر عليهم المسلمين، إن رجعنا ¬

_ (¬1) «التبشير» و «الاستعمار» من أسماء الأضداد، وما هما إلا التكفير والخراب. وكتاب «التبشير والاستعمار» الذي لا أعرف مؤلّفَيه ولم ألقَهما كتابٌ أتمنى أن يقرأه كل مسلم.

إلى الله وعدنا إلى التمسك بالدين. أقول: لقد حكم الصليبيون السواحل وبعض مدن الداخل، ولكن الله حمى دمشق منهم، فلم تطأ ثراها جنودُهم ولا حكمها أمراؤهم. وما يسمّيه السفهاء منا «الاستعمار العثماني» لم يكُن استعماراً، لأن حكم المسلم (ولو كان تركياً) لبلد مسلم (ولو كان عربياً) لا يسمّى في شرعنا حكماً أجنبياً، والمسلم لا يكون أبداً أجنبياً في ديار الإسلام. ونحن ما كرهنا الاتحاديين لأنهم أتراك، بل لأنهم حادوا عن جادة الإسلام فأساؤوا للمسلمين جميعاً، من عرب وأتراك. لقد كانت الشام أيام الشريف كأنها في عرس، هذا ما كنا نراه نحن الصغار لأننا لا نعلم من الأمور إلاّ ظواهرها، وفي ليلة العرس تزدان الدار وتزداد فيها الأنوار وتُعلَّق المصابيح على كل جدار، وإذا نحن بتيار الكهرباء ينقطع فجأة فيعمّ الظلام. كنا كالحالم يرى أن قد أتيحت له اللَّذاذات وجُمِعت له أنواع المشتهَيات يأخذ منها ما يبتغي ويشاء، فصحا فجأة فلم يجد في يده إلا الهواء. لقد انتهت في الشام أيام الأعياد وبدأت ليالي الحداد. إن الرقيق المولود في قيد العبودية والناشئ فيها لا يأسى على فقدان الحرية لأنه ما عرفها ولا ذاق طعمها؛ إن الذي يأسى عليها إنْ فقَدها هو الحرّ الكريم، الذي عاش عليها ولم يألف غيرها. لذلك أبَتْ على الشاميين عزةُ نفوسهم أن يصدّقوا ما يرون وخيّلت لهم أنهم في منام، سرعان ما ينتهي الليل ويطلع النهار فيبدّد ضوؤه ظلامَ هذه الأحلام.

لم يصدّقوا أن كافراً جاء يحكم المسلمين. ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً إلاّ إن خالفوا عن أمر ربهم وتنكّبوا صراط شريعتهم، فيكون ذلك تنبيهاً لهم، فإذا عادوا إلى الطاعة والامتثال عادت إليهم الحرية والاستقلال. لقد استيقظت في نفوسهم عزّة الإيمان ومواريث الجهاد، فأبو أن يستكينوا وأن يذلّوا، ونُثرت فيها من أول يوم بزور (¬1) المقاومة والصدام، فكانت منها الثورة السورية، أروع الثورات بعد الحرب الأولى، وسيأتي إن شاء الله حديثها. وما أصاب البلادَ عامّة أصابني أنا مثله: وهل أنا إلاّ من غُزيّةَ إن غوَت ... غوَيتُ وإن تَرشُدْ غُزيّةُ أرشُدِ وإن كان الشاعر قد جانبه الصواب؛ فما يكون عذراً لك إنْ ضللتَ أن تحتجّ بضلال الناس. * * * لقد انتقلت من مدرسة إسلامية تقوم على باب الجامع الأموي مديرها المرشد الصالح الشيخ عيد السفرجلاني، إلى مدرسة حكومية في لحف الجبل مديرها رجل نصراني اسمه ميخائيل. أما دارنا فقد ارتفعت من حارة الديمجية إلى جادة عريضة في الصالحية، من بيت صغير ظهره للشمس في بلد شتاؤها ستة أشهر (وكذلك كانت أكثر المنازل الشامية) إلى دار واسعة تحيّيها ¬

_ (¬1) البزور من العامي الفصيح كالبذور.

الشمس ساعة بزوغها من وراء الأفق الشرقي البعيد وتودّعها قبل أن تنزل من خلف الجبل فلا نحضر وداعها كما حضرنا استقبالها، وهذا من النعم لأن الاستقبال لذّة والوداع ألم. وهذه هي الدنيا: علوّ وانخفاض، وقوة وضعف، نهار مضيء بعده ليل مظلم، وشتاء باكٍ بالمطر بعده ربيع ضاحك بالزهر؛ لا يدوم على حال إلاّ الكبير المتعال، ثم تذهب الدنيا ويذهب هذا كله معها، ولا يبقى للإنسان إلاّ إحسانٌ قدّمه يرجو ثوابه أو عصيانٌ يخشى عقابه، إلاّ إذا مات على الإيمان وأدركَته نفحة من عفو الرحمان، واللهُ {لا يغفِرُ أن يُشرَكَ بهِ ويغفِرُ ما دونَ ذلك لِمَنْ يشاءُ}. اللهمّ اجعلنا ممّن تشاء له المغفرة يا رب. * * * المدرسة التي انتقلت إليها هي «أنموذج المهاجرين» كما كانت تُسمّى، أو مدرسة طارق بن زياد كما تُسمّى الآن. ما تبدّل شيء فيها إلاّ أنهم زادوا في غرفها ووسّعوا مساحتها، وأنها (وهي في الجادة الثالثة) لم يكُن فوقها إلاّ جادتان فبلغت الجادات اليوم أكثر من عشر، بل لقد صعد الناس في الجبل وُفتحت الشوارع العِراض حتى بلغت الصخر، ثم التفّت من حوله حتى وصلت إلى الذروة، وكان فيها «قبة النصر» وكانت علم دمشق، فهُدمت أيام الحرب الثانية، وفي مكانها اليوم محطة الرائي (التلفزيون). وكانت الضباع في تلك الأيام تنزل في الشتاء حتى تجول بين البيوت فيخاف منها الناس، فلما صعد الناس خافت فهربت

منهم الضباع. وهذه الجادّات تعلو متوازية في الجبل، الأولى جادة ناظم باشا التي يمشي (أو كان يمشي) فيها الترام. وناظم باشا أحد الولاة العثمانيين المصلحين، هو الذي أنشأ حيّ المهاجرين لمّا صار والي دمشق سنة 1313هـ (وفي كتابي «دمشق» فصل بيّنت فيه تاريخ إنشائه)، وهو الذي جرّ مياه عين الفيجة (¬1) إلى دمشق وجعلها سبلاً في الطرق والحارات، وله مآثر كثيرة، وفي كتابي «قصص من الحياة» قصة عنه عنوانها «النهاية» (¬2). وإن أنت قدمت دمشق في الليل ونظرت من بعيد إلى هذه الجادات (من الكِسوة (¬3) إن كنت قادماً في البرّ أو من شرقيّ الغوطة إن كنت آتياً في الطيارة من الجو) رأيت أضواء هذه الجادات سلاسلَ من العقود تلمع في جيد قاسيون. منظرٌ ما رأيتُ مثله على كثرة ما سرت في البلاد ورأيت من المدن. ومهما أبصرتُ من جبال فما أظن أني رأيت أبهى ولا أجمل من قاسيون، إلاّ جبل أُحُد لمّا رأيته أوّل مرّة هفا إليه قلبي وذكرت بلدي. على أن أُحُداً أفضل وأشرف، فضّله قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُحُدٌ جبلٌ يحبُّنا ونحبّه»، وشرّفته صلته بالرسول وبتاريخه، أمجد تاريخ بشري وأطهره وأسماه. * * * ¬

_ (¬1) نبع غزير الماء في قرية تبعد عن دمشق عشرين كيلاً، ثلثا ماء نهر بردى منها، وهي معقَّمة (بلا تعقيم) خالية من الجراثيم. (¬2) سها جدّي هنا فسمّاها «النهاية»، وعنوان القصة هو «في شارع ناظم باشا»، وهي زاخرة بالمعاني فيّاضة بالمشاعر تمسّ شغاف القلب، فلا ينسَ قارئ لهذا الفصل أن يعود إليها فيقرأها (مجاهد). (¬3) قرية بظاهر دمشق إلى الجنوب منها (مجاهد).

وكان من معلّمي هذه المدرسة عالِم فاضل من تلاميذ الشيخ جمال الدين القاسمي كان أكبرهم سناً، وإن كان شيخُنا الشيخ محمد بهجة البيطار هو أكثرهم علماً وأجلّهم قدراً. هذا المدرّس العالِم هو الشيخ حامد التقيّ. وكان منهم معلّم آتاه الله بسطة في الجسم وهيبة في العين، وكان من الضباط في الجيش العثماني، اسمه عبد الحميد عبدربه. وأسرة «عبد ربّه» معروفة في حي الصالحية. وكان رسّاماً وخطّاطاً. ولقد نسيت أن أقول إنّ «حُسن الخطّ» كان من الموادّ المقرّرة في مناهج المدارس، وأوّل من علمنا الخطّ (في العهد العثماني) اثنان من شيوخ الخطّاطين في الشام: الشيخ حسين البغجاتي (وسيأتي ذكره عند الكلام على رحلاتنا الكشفية في الجبال الشامية) وموسى الشلبي، وهو خطّاط مجدّد (مودرن) ومن أقدم من اشتغل بالتصوير الشمسي (الفوتوغرافي) (¬1)، ثم الشيخ عيد السفرجلاني رحمهم الله جميعاً. والذي استفدناه من عبد الحميد بك (هكذا كان يُدعى) هو الرسم عن الطبيعة، وأنا أقدر للآن أن أصوّر مَن أراه أمامي بالقلم، ثم تركت ذلك لأنه لا يجوز. والطريقة فيه أن تمدّ يدك بالقلم وتغمض إحدى عينيك، وترسم أبعد ما بين طرفي الرأس (مثلاً)، من أعلاه وأسفله، وخطاً آخر لعرض الرأس. والتصوير الجانبي أسهل، فتأخذ بعد ما بين أرنبة الأنف والأذن، ثم تحدّد مكان الأنف والفم والعين، ثم تدع القياس وترسم بالخطوط ¬

_ (¬1) من اليوناني «فوتوس» أي ضوء، و «غرافي» أي تخطيط ورسم.

القليلة سمات الوجه المميَّزة إن كان فيه سمة مميّزة وأساريرَه وتجاعيده وتُبرِز الملامح العامّة، وتدع التفاصيل لأن المطلوب في هذا النوع من الرسم أن يعرف الناظر إلى الصورة أنها صورة فلان. ما لي تركت ذكرياتي وصرت مدرّس رسم؟ أستغفر الله فما أردت ذلك، ولا أُفتي بجوازه، ولكن أردت أن أقول إنّ دراستنا كانت أشمل وأكمل مما يدرس التلاميذ اليوم. وممّن كان عندنا في هذه المدرسة معلّم للخطّ هو أعظم خطّاط ظهر في هذا القرن، أقرّر هذا وأنا أعرف أكابر الخطاطين: سيد إبراهيم وحسني البابا ونجيب هواويني وغيرهم من مصر، ومكارم والبابا من لبنان، وأعرف بعض كبار خطاطي العراق، وأشهد أني ما رأيت مثل ممدوح. ولقد كان ممدوح الشريف أستاذاً عبقرياً في الخطّ، والذي تركه من آثاره شاهد عدل على ما أقول، ومن تلاميذه بدوي، الخطّاط العظيم، وليس مثله ولا يدانيه. ومنهم حلمي، حلمي حبّاب، وهو أخي من الرضاع. كان ممدوح يبري أقلام القصب لأربعين أو خمسين تلميذاً ويكتب لنا «المشق» لنخطّ مثله، (وكان مقرراً علينا تعلّم خطّ الرقعة، والثُّلُث، والفارسي، والديواني) ويصحّح ما كتبنا، كلّ ذلك في «الحصة» وهي أقلّ من ساعة. كانت حياتنا حياة جِد وعمل، ما كان فيها شيء مما يلهو به التلاميذ في هذه الأيام؛ ما كانت هذه المجلات المصورة التي لا يحصيها عدّ، ولا كانت في الدنيا كلها إذاعة ولا كان الرائي

(التلفزيون)، وما كان يظنّ أحد أنه سيكون، وكانت في دمشق -كما قلت- سينما واحدة للدعاية الحربية، هي التي كانت في موضع المجلس النيابي، ثم أُنشئت داران للسينما حقيرتان، «الزهرة» أمام بناية العابد ثم «النصر» في سوق الخيل، لا يدخلهما إلاّ سَفَلة الناس، وكانتا صامتتَين لأن السينما الناطقة لم تكُن قد عُرفت. فكان من أراد لهواً قرأ هذه القصص الشعبية التي أشرت إليها عند الكلام عن المدرسة الجقمقية، وكان أسوأ كتاب يُضرَب بسوئه المثل ولا يكاد يوصَل إليه هو كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه»، وهو إن قيس ببعض القصص المترجَمة التي تُباع في كل مكان وبما فيها من وصف الفسوق والعصيان، إن قيس بها كان بالنسبة إليها «كتاب أخلاق». ولو حدّثتُكم عن الكتب التي قرأتها وأنا في تلك السن، وأنا تلميذ في السنة السادسة الابتدائية لما صدّقتم. وكنت أمضي يومي (إلاّ ساعات المدرسة) في الدار، لا أجد ما أشغل به نفسي وأملأ به فراغ حياتي إلاّ القراءة، فإذا أنا أكملت كتابة «وظائفي» ومطالعة درسي مددت يدي إلى المكتبة (وكانت لدينا مكتبة حافلة) فأسحب كتاباً فأفتحه فأنظر فيه، فإن لم أفهمه (أو فهمته لكن ما أسغته) أعدته إلى مكانه وقد رسخ في نفسي اسمه واسم مؤلفه، وإن أعجبني قرأته. وكان الذي أقرؤه يُنقَش في ذاكرتي نقشاً لا تمحوه الأيام. وحديث المطالعات سيأتي مفصلاً إن شاء الله. * * *

في امتحان الشهادة الابتدائية خطبتي الأولى وتهجمي على الفرنسيين

-12 - في امتحان الشهادة الابتدائية خطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين مرّت على دخول هذه المدرسة سنتان، وقد جاء الامتحان. والامتحان اليوم كتابي، يقعد التلاميذ على مقاعدهم، يُعطَون ساعة أو ساعتين ليفكروا ويتذكّروا ويكتبوا على مهل، إن عطشوا طلبوا فجاءهم الماء أو ما شاؤوا من حلو الشراب، وربما سُمح لهم أن يدخّنوا ... إي والله، الطلاب يدخّنون في الامتحان! عشنا حتى رأينا هذا بأعيننا، وقد صار مألوفاً (معروفاً) لا نملك أن ننكره فينكروا علينا إنكارنا. أما الامتحان الذي أحدّثكم عنه في هذه الحلقة (وعن أمثاله فيما يأتي من الحلقات) فقد كان شيئاً آخر. كانوا يأتون في كل مادة نمتحن فيها بأكبر أساتذتها في البلد، يصطفّون حول مكتب كبير ويوضع أمامه كرسي يقعد عليه التلميذ الصغير، ويمدّ كل منهم يده إلى أغرب المسائل التي حفظها وأصعبها، يستخرجها من رأسه فيلقيها على رأس هذا الولد المسكين، لا يريد منه أن يجيب عليها، فهو يعلم أنه لا يقدر على الجواب ولا يكلّفه به منهج رسمي ولا عرف سائد، ولكنْ ليُظهِر علمه لرفاقه وليريهم

سعة اطّلاعه وطول باعه! ويأتي الثاني بأشدّ منها صعوبة وأكثر غرابة، كأنه امتحان للأساتذة الفاحصين. يكون هذا في أول الامتحان، فإذا انتهوا من عرض عضلاتهم ألانوا وسهّلوا؛ لذلك كنا نتدافع الدخول في بداية الامتحان (¬1)، فإذا هانت شدّته ووَهَت حدّته تزاحمنا عليه وتسابقنا إليه. وكان هذا الامتحان بإشراف حاكم دولة دمشق الذي عيّنه الفرنسيون، وهو حقي بك العظم. وهو رجل كان يطالب بأن يحكم سوريا الفرنسيون من قَبْل ميسلون، وكان يعلن هذا بلسانه وقلمه ويقيم عليه أدلّة يراها هو صحيحة. ولما جاءت لجنة «كراين» الأميركية لتستفتي الناس عمّا يريدونه كان هو -خلافاً لرأي الجمهور الأكبر من السوريين- يطلب الانتداب الفرنسي، مثله في ذلك مثل نوري باشا السعيد مع الإنكليز في العراق. وقد تعجبون من اسم «دولة دمشق»، وحقّ لكم العجب؛ فقد أقام الفرنسيون في سوريا أربع دول لكل منها حاكم وفي كل منها حكومة: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة الدروز، ودولة العلويين. وقديماً قال الشاعر (¬2): ممّا يزهّدني في أرضِ أندلسٍ ... ألقابُ مُعتضدٍ فيها ومُعتمدِ ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها ... كالهرِّ يحكي انتفاخاً صَوْلةَ الأسدِ ¬

_ (¬1) أي يدفعه كل واحد منا عنه (¬2) ابن رشيق القيرواني. ورُوي عجز البيت الأول في الديوان: «سَماعُ معتضد فيها ومعتمد» (مجاهد).

دولة دمشق التي كانت على أيام الوليد بن عبد الملك تمتدّ من قلب فرنسا إلى آخر المشرق وإلى أطراف الصين، وكانت الكلمة تخرج من الدار الخضراء وراء جدار القبلة في الجامع الأموي، فتمضي شرقاً وتمضي غرباً لا يقف أمامها شيء ولا يردّها شيء، لا تلقى إلاّ الطاعة والامتثال في ثلث المعمور من هذه الكرة، في الأرض المسلمة التي تعيش «تحت راية القرآن»، كما عاشت معها يوماً تحت هذه الراية نصف أوربا يوم كان البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية وكنا بالإسلام سادة الدنيا ... هذه الدولة تقلّصَت أطرافها وتقطّعَت أوصالها، وتناكَرَ أهلها وتباعدوا فتضاءلت وتضاءلت حتى صارت «دولة دمشق»! وهذه سنّة المستعمرين في كل زمان ومكان؛ عملهم قطع رابطة الإيمان بين المسلمين وربطه بروابط الجاهلية، قانونهم «فرِّقْ تَسُدْ» وعملهم كسر الحزمة عوداً عوداً لمّا عجزوا عن كسرها جملة. ولكن لا تخافوا؛ فالذي عقَدته يد الله لا تحلّه يد بشر، وقانون {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} لا ينسخه قانون «الوطنية» ولا «القومية» ولا الروابط الحزبية والعقائدية (¬1) البشرية، ولا تميّعه وتضيّعه الدعوة «الأُممية» و «الإنسانية»؛ فالإسلام حقٌّ بين باطلَين: بين القومية وبين الأممية. * * * ¬

_ (¬1) إذا جرى الجمع مجرى العَلَم جازت النسبة إليه، فيجوز أن نقول: «قوانين عمّالية» و «قضايا طلابية»، كما قالوا «مسألة أصولية» و «مائدة ملوكية».

لقد كان التلاميذ يفزعون من هذا الامتحان ويخشونه، ولكني كنت أترقبه متشوقاً إليه وما خفت منه في يوم من الأيام. هل تدرون أن فينا، في أعماق نفس كلّ منا، خبايا وخفايا لا يعرفها صاحبها؟ أنا الآن، بعد هذا العمر وهذه الشيبة، لا أستطيع أن أزور أحداً من أصدقائي إن لم يكن معي رفيق، أما الذي لا تجمعني به صداقة وأُلفة تزول معها الكلفة فلا أقدر أن أزوره أبداً. لذلك أبتعدُ عن مجالس الأمراء والوزراء ولو كنت أشعر بالتقدير لهم أو الشكر والعرفان. ومن أصعب الأمور عليّ أن يزورني مَن أحتشمُه ومَن ليس بيني وبينه خلطة. ولقد اقترح من أيام أخٌ لا أعرفه في مقالة كتبها في جريدة «المدينة» أن يقيم لي أهلُ مكة حفلة تكريمية. لم يدرِ (جزاه الله على حسن مقصده خيراً)، لم يدرِ أن الذي اقترحه أعتبره تعذيباً وأفتدي نفسي منه بمرتّب نصف شهر، صدّقوني، ولطالما هربت من أمثاله. وأنا أعلم أن هربي مخالف للآداب الاجتماعية ولأعراف الناس، وأني أفتح على نفسي باب الظن بأني قليل الوفاء وأني لا أقدّر المعروف ولا أشكر عليه، أو أني مُستَعْلٍ متكبّر أو أنني جافٍ جافّ، وما بي والله شيء من ذلك ولكنه ما ذكرتُ. على أني إذا صرت داخل المجلس وجدت عندي من الأخبار والقصص والنوادر ما يسلّي الحاضرين ويسرّهم ويُفيدهم، ولكن الصعوبة في دخول المجلس. فكيف كنت إذن لا أفزع من الامتحان ولا أتهيب لقاء الجماعات من وراء المنبر؟ وكيف أخطب في مئة ألف بلا استعداد فأرى ذلك أهون عليّ من حضور مجلس نفر من الناس؟

كيف؟ الجواب فيه نصف العلم، ونصف العلم «لا أدري»! كان هذا امتحان الشهادة الابتدائية، لم يكُن يُجمَع له التلاميذ بل كانت اللجنة تدور عليهم في مدارسهم. وكان لحضورها رجّة وضجّة، وكانت تسبقه الاستعدادات وتُعَدّ الاستقبالات، لأنها تجمع كبار رجال «المعارف» وأساتذة المدارس، برياسة الرئيس الأعلى للحكومة المحلية وهو دولة الحاكم! وهذه شهادتي الرسمية لا تزال عندي، درجاتي فيها كلها عشر من عشر إلاّ السلوك والأخلاق، فقد كانت تسعاً من عشر؛ أي أنني بلا أخلاق، أو كما كانوا يقولون لنا أيام الحكم العثماني «أدب سِزْ». ولكن إن عرفتم سببها أدركتم أنها لم تكن وصمة عار بل وسام فخار. السبب أن فرنسا عزلت الجنرال غورو وعينت مكانه الجنرال ويغان (الذي صار -من بعدُ- القائد العامّ لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية)، وأمرت الحكومة بأن تخرج المدارس كلها بمعلّميها وتلاميذها لاستقباله. ولست أذكر الآن من هو المعلم الذي سنّ لنا سنّة حسنة هي أن يخصَّص يوم في الأسبوع للخطابة، يجتمع كلّ مَن في المدرسة، ويقوم أحد المعلمين على هذا السلّم الذي ترونه في الصورة (¬1) (والذي بلغني أنه هُدم الآن وأقيمت للمدرسة عمارة ضخمة) يقوم فيخطب، ثم يتبعه أحد التلاميذ فيلقي كلمة ارتجالية. وكان دوري في الكلام يوم أُعلِنَ أمر الحكومة بوجوب ¬

_ (¬1) انظر الصورة في الجزء الأخير الخاص بالصور والفهارس (مجاهد).

خروجنا لاستقبال المفوَّض السامي الجديد. المفوَّض السامي كانت له سلطة حكومة سوريا ولبنان معاً ومجلسَيهما النيابيَّين والإشراف على قضائهما، أي أن سلطانه أضخم من سلطان رئيسَي الجمهوريتين وحكومتيهما. أتدرون ما الذي كان؟ أنا أرويه بلا تزيّد ولا مبالغة، أرويه وأنا أعجب والله منه. الذي كان أني ألقيت خطبة حماسية بصوت سمعه كل من في المدرسة، وسمعه جيرانها ومَن كان في المسجد أمامها، قلت فيه بأن الفرنسيين أعداء ديننا ووطننا وأنه لا يجوز أن نخرج لاستقبال زعيمهم. ولست أذكر الآن ما قلت، وما كانت خطبة بليغة الأسلوب رائعة البيان، ولعله كان فيها أخطاء وكان فيها لحن؛ فقد كانت أول خطبة لي وكنت في الرابعة عشرة من عمري، في السنة السادسة الابتدائية، ولكنْ يظهر من آثارها أنها كانت خارجة من القلب وكانت ممتزجة بالصدق، لأن التلاميذ جميعاً ولأن نصف المعلمين رفضوا حضور الاستقبال. وقد كانت العقوبات في المدرسة هي التنبيه فالتوبيخ، فالتكدير العلني فالطرد المؤقت من المدرسة، فالطرد الدائم. فعوقبت بالتكدير وكَسْر علامة الأخلاق والسلوك. وكانت هذه هي الخطوة الأولى التي صعدت بها المنابر حتى لانت لي درجاتها وألِفَتني أعوادها، وصرت (ولا فخر) أُعَدّ إن عُدّ روّادها. * * *

لا، لم يمتنع التلاميذ وبعض المعلمين من استقبال الجنرال تأثراً بخطبتي، بل لأن النفوس كانت كالقنبلة المحشوّة بالبارود لا ينقصها إلاّ أن تسحب منها مسمار الأمان. كانت الأمّة كجبل البركان، إذا كان خامداً وطئتَ صخره بالنعال وقرعتَه بالمطارق، فتحسبه -إذ لم يتحرك- أنه قد مات، وإذا به ينفجر فيذيب الصخر ويُلهب الأرض، وتَخرج منه النار التي تدمر كل شيء بإذن ربها. من الذي دفعني لإلقاء هذه الخطبة وأنا لا أخالط أحداً ولا أعرف إلاّ بيتي ومدرستي والطريق بينهما، حتى إنني لم أعلم إلاّ بعد ذلك التاريخ بسنين طوال بالثورة (الرائدة) التي قام بها إبراهيم هنانو في الشمال ولا بثورة صالح العلي؟ لا، لم يحرّكني أحد ولم يوجّهني أحد إلا مشاعر الحرية والإباء التي كانت تملأ كل نفس في الشام، بل هي عزّة المؤمن، مهما خبت نارها فإن جذوتها باقية، إذا هبّت عليها ريح الإيمان توقّدَت وعلا لهيبها. كنت أمشي مرة (في تلك الأيام) في حيّ العِمارة قرب الأموي، وكان الناس لم يفيقوا بعدُ من صدمة الهزيمة في ميسلون ولم يألفوا منظر جنود الفرنسيين يطؤون بنعالهم مدينة معاوية وعبد الملك وصلاح الدين، فكانوا في شبه رعب منهم. وكان جنود الفرنسيين لا يمشون إلاّ جماعات، فمرّت امرأة مسلمة محجَّبة بالملاءة فتعرضوا لها ووقفوا في طريقها، فجعلَت تتلفّت مذعورة تستغيث والناس ينظرون إليها وإلى الجنود المسلّحين، وإذا ببيّاع كبير السن قد اعترته حالٌ كأنها الصدمة الكهربائية، فوقف ينادي بصوت تحسّ منه لذع النار وفورة الدم: ويلكم! أما عاد فينا دين ولا شرف؟ ثم يأخذ العصا التي يفتح بها غلق

الدكان ويقفز (وكأني أرى مشهده الآن) ويهجم بها على الجنود المسلّحين، وتستيقظ القوّة المدّخَرة في أعصاب الناس فيهجمون معه، يهجمون بأيديهم فينزعون من الجند سلاحهم وينقذون المرأة. ويرطن الجنود مستخْذين متوسّلين يشيرون بالتوبة، فيدَعهم الناس ينصرفون. وكانت هذه كلها إرهاصات الثورة الكبرى، وكانت إحدى الدلائل على أن هذه الأمة، أمة محمد، قد تُغلَب على أمرها حيناً ولكنها لا تذلّ أبداً. * * * ولا أحب أن أودّع هذه المدرسة قبل أن أشير إلى ثلاث حوادث، حوادث تنبّه المدرّسين إلى أن التلاميذ الصغار يراقبونهم ويسجّلون حسناتهم وسيئاتهم. الأولى: أن معلم الخطّ (ممدوح) كتب لكل واحد بقلم الرصاص السطورَ الثلاثة التي سنُمتحن فيها، سطر الفارسي وسطر الثلُث وسطر الرقعة. ودعا كبار الخطّاطين (ومنهم نجيب هواويني) وكلّفَنا أن نمشي بأقلامنا على خط الرصاص كأننا نحن الذين نكتب الحروف. وقد نلنا الدرجات العالية وإعجابَ المدعوّين، ولكني أحسّ إلى الآن بالخجل من مشاركتي في هذا الغش وأشعر بأن المعلم صَغُرَ في عيني. والثانية: أني تكلمت عن النصارى، فدعاني المدير النصراني وكان عنده المعلم ممدوح، فقال لي: ألم تسمع قول الله: {ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهُم مَوَدّةً للّذينَ آمَنوا الذينَ قالوا إنّا نَصَارى}؟

فقلت له: أكمل الآية. فحقدها عليّ. والثالثة: أنه كان في المدرسة لوحة شرف فيها أسماء مَن تخرج فيها وعند صورة كل منهم درجته وعلامة أخلاقه وسلوكه، وكان اسمي فيها وعلامة السلوك تسعاً من عشر، فلما عُيّنت معلماً في هذه المدرسة سنة 1935 وجدتها عشراً من عشر، فقلت للمدير: أما كانت تسعاً؟ فقال: أعوذ بالله، أنت كنت مثال الخلق الكريم والسلوك القويم. فتبسمتُ وازداد هبوطاً في نظري. * * *

في ثانوية مكتب عنبر ومرحلة خصبة في حياتي

-13 - في ثانوية مكتب عنبر ومرحلة خصبة في حياتي حياتي كحياة كل إنسان: طريق طويل فيه مراحل، مرحلة تمشي فيها في سهل منبسط كل ما فيه مكشوف ظاهر، ليس فيه مجهول تتشوق إلى معرفته ولا غامض مَخوف تخشى من لقائه، تمشي فيه أياماً فكأنك ما مشيت إلاّ ساعة لأنه متشابه المناظر بعيد عن المخاطر. ومرحلة تمشي فيها بين الجبال، تعلو حتى تبلغ الذروة ثم تهبط حتى تصل إلى الحضيض، كلما دار بك الوادي تبدّلَت من حولك المشاهد، فربما رأيت الروضة المونقة والنبع الصافي، جنة ذات خمائل وعيون تجري من تحتها السواقي والأنهار، وربما اعترضتك عقبة أو سلكتَ قَفرة موحشة، ما تحتك إلاّ الجنادل والحجارة وما حولك إلاّ جلاميد الصخر، تشتهي قطعة من ظلّ يقيك لذع الشمس أو كأساً من ماء يطفئ منك أُوار العطش فلا تجد. وربما فُتحَت تحت رجليك حفرة أو طلع عليك وحش مخيف أو ذئب كاسر أو مجرم قاطع طريق. الأول مثال من يعيش في البلد الآمن في العصر الهادئ،

السنة عنده كأنها يوم؛ يكون ابن خمسين وكأنه -مِن تشابه أيامه- ما عاش إلاّ عشر سنين، مطمئنّ النفس ولكنه هامد الحسّ خامد الشعور. والثاني مثال من يعيش في عهود الانتقال في ظل الأحداث الكبار، اليوم عنده -من تبدّل الأحوال- كأنه سنة، يكون ابن خمس عشرة سنة (وقد ناهزتُها أنا في الأيام التي أتكلم عنها) وكأنه -من كثرة مارأى وما شاهد- ابن أربعين سنة، مستوفِز الحسّ مشدود العصب، كله عيون مفتوحة وذهن حاضر. وقد تجوز في هذا الطريق الطويل بسوق تتزود منها الزاد لسفرك كله، أو تجد مِن أهلها مَن يهديك ويرشدك في مسيرك، عالماً ناصحاً يقوّم اعوجاجك ويحسن توجيهك، أو تجد جاهلاً أو غشّاشاً يصرفك عن الطريق المستقيم ويَعدل بك عن الجادّة الموصلة، فيُضلك بدلاً من أن يهديك. وهذا هو مثال المدرّس الصالح المصلح والمدرّس الفاسد المفسد. ولقد وصلت الآن إلى المرحلة التي كان لها أعمق الأثر في نفسي وفي فكري وفي سلوكي، مرحلة «مكتب عنبر»؛ أحفل مرحلة بالأحداث الخاصّة في حياتي والأحداث العامّة في حياة بلدي، فيها لقيت أساتذة وقرأت كتباً كان لهم ولها أثر في دنياي وفي آخرتي، وفيها كان أكبر منعطف في طريق عمري وهو موت أبي، وفيها واجهت الحياة وأنا لم أستعدّ لمواجهتها وخضت معركتها وأنا لم أتسلح لخوضها، فعملت معلّماً واشتغلت أجيراً وحاولت أن أكون تاجراً، ثم تداركتني رحمة الله فعدت إلى ما خُلقت له، وهو العلم والأدب. وفيها كانت «نهضة المشايخ»، وفيها كانت «الثورة السورية»، وفيها ابتدأ النضال للاستقلال،

وفي آخرها صرت من قادة الشباب في هذا النضال وصرت أكتب وأخطب وغدا اسمي معروفاً في البلد. هذا هو «الموجَز» كما يقول المذيعون، وهاكم تفصيلَ هذه الأخبار. * * * مواقف كثيرة مما حدّثتكم عنه في هذه الذكريات كنت قد كتبت فيها مقالات مفصّلة، أشرت إليها ولم أنقل شيئاً منها لأنها منشورة، وما أريد أن أعيد على القرّاء كلاماً سبق أن حدّثت به، بل أريد أن أسوق إليهم كلاماً جديداً ليأتي الحديث مؤتلفاً متّسقاً. ولكني أستأذنهم اليوم فأسرق فقرات من مقدمة كتاب «مكتب عنبر» الذي ألّفه الأستاذ ظافر القاسمي (¬1)؛ ذلك لأن كاتب المقدّمة يحمل اسماً مثل اسمي وأراه دائماً معي كلما وضعت المرآة أمامي، وقد علمت أنه يسمح لي أن أسرق من مقدمته! ولأن الكتاب لم يُنشَر إلاّ في مدى ضيّق؛ وذلك أن الأستاذ ظافر القاسمي ابن شيخ الشام الشيخ جمال القاسمي ترك مطابع الشام (وفي الشام مطابع قديمة وعظيمة) ومطابعَ مصر (وهي أقدم وأعظم) واختار «المطبعة الكاثوليكية» في بيروت، فأخرجت الكتاب إخراجاً بلغ في فنّ الطباعة الغاية، ولكن من تحت! حتى ¬

_ (¬1) صدر الكتاب سنة 1962 وفي أوله مقدمة كتبها له علي الطنطاوي. وكان جدي -رحمه الله- قد أصدر قبل ذلك بثلاث سنين كتابه «دمشق»، فلما أصدر طبعته الثانية بعد ذلك بسنوات ضمّ هذه المقدمة إليه، فهي اليومَ في آخره (مجاهد).

إنني لم أرَ (وقد رأيت آلافاً من الكتب) غلافَ كتاب هو أقبح شكلاً وأبعد عن الذوق من غلاف «مكتب عنبر» الذي أخرجَته المطبعة الكاثوليكية في بيروت ... ومع ذلك فقد ترك مطابع الشام ومطابع مصر واختارها! أقول: إن «مكتب عنبر» كان الثانوية المركزية في سوريا، كان مدرسة وهو في الحقيقة أكبر من مدرسة، كان منبع الوطنية، كان منار العلم، عاش من أواخر القرن الذي مضى إلى أوائل الحرب الثانية وهو يضمّ جمهرة المتعلمين في الشام، فكان يمرّ عليه كل واحد منهم، يدخل إليه ثم يخرج منه فيعلو في مدارج الحياة أو يغوص في أوحالها، حتى ما تكاد تجد كبيراً في دمشق ولا ذا منصب ولا نابغاً في علم أو فنّ إلاّ وقد جاز يوماً بمكتب عنبر. كان من تلاميذه رجالٌ لو عاشوا إلى الآن لكان عمر أصغرهم مئة سنة، أولئك الذين ندعوهم رجال الرعيل الأول. وتسلسلَت القوافل من بعدهم تجوز كلها بهذه الواحة الظليلة، تستمتع بزهرها وتجتني من ثمرها قبل أن توغل في صحراء الحياة. فإذا أردتم أن تنشقوا الآن رَيّاها وتتعلّلوا -بعد فقدها- بذكراها ففتّشوا كل مَن تلقونه من روادها، علّ معه نفحة من وردها أو لمحة من عهدها. سائلوهم جميعاً عن «مكتب عنبر»، فإن لدى كل واحد منهم طرفاً من حديثه وفصلاً من تاريخه، فأمسكوا بأطراف الأحاديث تجِئ في أيديكم فصول الكتاب. وهيهات هيهات، بعدما فات منها ما فات ومات منهم من مات!

قد ذهب من رفاقي أنا (دَعْ عنك قوافل مرّت من قبلنا) مَن لا أستطيع الآن حصر أسمائهم. لقد أراد أستاذ أساتذتنا محمد كرد علي أن يشجّع طائفة من شعراء الطلاب من زملائنا، فاختار سنة 1925 أنور العطار وجميل سلطان وزكي المحاسني وعبد الكريم الكرمي (وهو أبوسلمى)، وأقام لهم حفلاً في المَجْمع العلمي بحضور أساتذتنا سليم الجندي وعبد القادر المبارك والداودي والقوّاس والبزم، وألقى الطلاب الأربعة قصائد جِياداً لو نَشَرَ مثلَها الآن مَن يُعَدّ من كبار الشعراء لاستُحسنَت منه، ولا أزال أحفظ مطلع قصيدة أنور وكان عنوانها «الشاعر»: خَلِّياهُ يَنُحْ على عَذَباتِهْ ... ويَصُغْ من دُموعِهِ آياتِهْ أين هؤلاء الطلاب الشعراء؟ وأين مَن شجّعهم؟ وأين مَن حضر الاحتفال بهم؟ لقد ذهبوا جميعاً. ذهب أساتذتنا كلهم وذهب الكثير من إخواننا الذي كانوا يقرؤون عليهم، رحمهم الله ورحمنا معهم وختم لنا بالحسنى. * * * لقد عشت في هذا المكتب ستّ سنين كانت أحفل سِني حياتي بالعواطف وأغناها بالذكريات، وكانت لنفسي كأيام البناء في تاريخ الدار، لو عاشت الدار بعدها ألف سنة لكانت كلها تَبَعاً لهذه الأيام التي يُرسَم فيها المخطَّط وتُحدّد الغرف ويُرسى الأساس. فكيف أُدخِل ستّ سنين بطولها وعرضها في عشر دقائق (هي مدّة قراءة هذا الفصل)؟ كيف أجمع البحر في كأس وأحصر

الدنيا في صندوق؟ لقد عشت فيه من الصف السابع إلى الثاني عشر، ما تأخرت ولا رسبتُ، ولكنها لم تكُن ست سنين إلاّ بحساب التقويم المعلّق على الجدار، وهل يُقاس عمر الإنسان بالأشهر والأعوام؟ إن ليلة الصيف تمتدّ في تقدير عقارب الساعة عشرَ ساعات، سواء في ذلك ليل العاشق الناعم بالوصال وليل السجين المكبّل بالأغلال، مع أن ليلة الوصال في الحقيقة لحظة ولحظة العذاب دهر طويل؛ أليست هذه هي نظرية النسبية؟ لقد سرقها آينشتاين من ابن زيدون حين قال: إنْ يَطُلْ بَعدَكِ ليلي فلَكم ... بِتُّ أشكو قِصَرَ الليلِ معكْ ستّ سنين، ولكن كانت هي العمر. كان مكتب عنبر في دمشق القديمة، في محلة تُسمّى «الخراب» في السوق الطويل الذي يصل باب الجابية (الذي طالما ذُكر في تاريخ الفتوح) بالباب الشرقي الذي دخل منه خالد بن الوليد أعظم قُوّاد التاريخ القديم يوم الفتح: فتح دمشق. وقد ورد في الأثر بأن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند المنارة البيضاء، عند هذا الباب. وهذا السوق هو الشارع المستقيم المذكور في التوراة، أما اسم «الخراب» فلأن تيمور لنك قد خرّب هذا الحيّ مع ما خرّب من دمشق، وكثيراً ما رأيت الناس يحفرون في الأرض فيظهر بلاط الدار التي هُدمت، وتبدو البركة التي كانت فيها على عمق عشرة أذرع.

ولو أن حفريات أُجريت في هذه البقعة من دمشق لظهرت أربع مدن أو خمس، بعضها مبنيّ على أنقاض بعض. وقد رأينا مثل ذلك في بابل، وفي «أور» مدينة سيدنا إبراهيم قرب الناصرية في العراق. ولمّا أرادوا إصلاح درَج الجامع الأموي من جهة الشرق ظهر تحته بناء، ولو أنهم تابعوا الحفر (ولا أشير بذلك ولا أحبّذه) لوجدوا تحت الجامع الأموي بناء آخر، كما وجدوا في الجامع الكبير في بيروت من نحو ثلاثين سنة. * * * كان مكتب عنبر هو الثانوية الوحيدة الكاملة في سوريا، حتى إن طلاب حلب إذا نالوا «البكالوريا الأولى» قدِموا دمشق فأتمّوا الدراسة فيه، ومن هؤلاء الأستاذ أسعد الكوراني (وكان قبلنا بسنة)، والشيخ مصطفى الزرقا (وكان بعدنا بسنة، وإن كان أكبر مني سناً)، وكان معنا رفاق من حمص وحماة وحوران، وكانت رابطة مكتب عنبر تشدهم جميعاً. وإنّ من المدارس ما يجعل بين طلابه صلة أقوى من صلة الزمالة؛ كالأزهر في مصر، ودار العلوم، وندوة العلماء في الهند. * * *

في مكتب عنبر

-14 - في مكتب عنبر أرأيت الماء الذي ينزل من الأنبوب قطرة قطرة؟ يملأ كأسك في ساعة. أما إن كان يخرج منه بقوة واندفاع فإن الكأس لا تمتلئ أبداً، لأن الماء ينبو عنها ويتطاير منها فلا يستقرّ منه شيء فيها. هذا مثالي لمّا قعدت أكتب عن المدرسة التجارية وحين أقعد الآن لأكتب عن مكتب عنبر. كانت ذكرياتي هناك قليلة فلم أجد منها ما يصلح لمقال، وهي اليوم كثيرة جداً لا أدري ما الذي أدعه منها وما الذي أختاره لهذا المقال. مكتب عنبر في دار شامية جميلة، في مدخلها رحبة فسيحة فيها شجرات كبار، حولها رواق تحته مقاعد، وكنا نلعب في وسط الرحبة أو نستريح على المقاعد من حولها. فإذا جُزْتها رأيت الدار في صدرها الإيوان قد ازّيَّنَت جدرانها بعبقري النقوش والألوان، قد قام من حول بركتها «الشمشير» وعرّشت على جدرانها دوالي العنب تبلغ السطح، والياسمين والملّيسا وأبهى وأعطر ما خلق الله من النبات، فتحسّ حين تدخلها أنها تضحك لك. لقد درت غرفها كلها وأبهاءها، لأن كل غرفة منها لطلاب

صفّ من الصفوف، فلي في كل غرفة منها ذكرى وفي كل زاوية قطعة من حياتي التي ذهبَت ولن تعود. فما الذي أستطيع أن أذكره الآن؟ وما أذكره كيف أقدر أن أُثبِته على الورق؟ إن أجمل آثار الكاتب أو الشاعر هي التي لم يكتبها. ومتى كانت الكلمات تسع العواطف والأفكار؟ بل متى كانت تسجّل كل مشاهد الكون، فضلاً عن مشاعر النفوس؟ أتقدر أن تسجّل ألوان الغروب حتى لا يفوت قارئ قصيدتك -أيها الشاعر- أو ناظر لوحتك -أيها الرسّام- شيء منها؟ كم قال الشعراء وكم كتب الكتّاب في الحب! فهل أحاطوا بمعاني الحب؟ هل أدركوا أسرار الجمال؟ هذه الكلمة المؤلَّفة من حرفين اثنين: الحاء التي تعبّر عن الحنان، والباء الساكنة التي ترى الفم وهو ينطق بها مجموع الشفتين كأنه متهيّئ لقبلة! هل تحيط كلمة «الحب» بكل أشكال الحب؟ الأم تحب ولدها، وهذا يحب من الشعراء البحتري، والثالث يحب من البلاد مكة، والرابع يحب ركوب البحر، والخامس يحب الفول المدمّس بالزيت لا بالسمن، وقيس يحب ليلى ... أفهذا كله «حب» واحد؟ وحب الله الذي هو جوهر الإيمان، أترونه يشبه ما ذكرت من أنواع الحب؟ والجمال؟ جمال الطبيعة، وجمال البلاغة، وجمال الشيخ الوقور، وجمال المرأة الحسناء، هل هو «جمال» واحد؟ ولو جئت بمئة جميلة لوجدت مئة جمال، كلٌّ له طعم وكلٌّ له لون وكلٌّ من نوع، وما عندنا لهذا كلّه إلاّ كلمة واحدة. لذلك نعمد

إلى الأوصاف فنقول: هذا جمال وديع وهذا وحشي وهذا ما لست أدري. إن لغات الأرض تعجز عن التعبير عن مشاعر النفوس، فكيف نريد منها أن تعبّر عن عالَم «ما وراء المادة»، عن «عالم الغيب»؟ عفوكم يا أيها القرّاء، لقد ذهبت مع خواطري وابتعدت. لقد ابتعدت كثيراً عن موضوعي. * * * سألني الإخوان عن «عنبر» هذا الذي سُمّيت باسمه هذه المدرسة العظيمة، التي كانت وحدها فصلاً كاملاً من تاريخ الشام الحديث. ما عنبر هذا؟ فضحكت، لأن عنبر لم يكُن عبقرياً ولا عظيماً، بل هو اسم الرجل الذي بنى هذه الدار. وهكذا ترون أن الشهرة وبقاء الاسم ليسا دليل عظمة الرجال. في جدّة حيّ من أفخم أحيائها الجديدة اسمه «حي عُنَيكش»، فاسألوا مَن عُنيكش الذي كرّمناه فسمّينا باسمه حياً كاملاً، والناس إن كرّموا عظيماً سمّوا به شارعاً واحداً؟ وباب إبراهيم من أشهر أبواب الحرم، ما سُمّي باسم سيدنا إبراهيم الخليل (كما ظن من أطلق اسمه على الشارع) بل باسم خيّاط كانت دكانه عند هذا الباب! وأميركا، ما سُمّيت باسم كريستوفر كولومبس الذي اكتشفها بل باسم بحّار اسمه أميركو فيسبوتشي، كان من أوائل من أبحر إليها بعد اكتشافها بخمس عشرة سنة!

أتسمّونها مصادفات؟ أم هي حظوظ؟ أم دليل على أن الشهرة ليست مقياس عظمة الرجال؟ * * * لمّا أرسل إليّ الأستاذ ظافر أصول كتابه «مكتب عنبر» لأكتب مقدمته كنت في الرياض، في أول سنة قدمت فيها المملكة (هذه القَدْمة الأخيرة سنة 1383هـ). تركت محكمة النقض (وكنت مستشاراً فيها) وجئت. ولم أكُن أعرف أحداً ولا يكاد يعرفني أحد، فكنت من السأم والمَلال كمَن كان في ظلام السينما فطلع عليه الفِلم يعرض صور عالَم كان يوماً دنياه وكانت فيه حياته. لقد حرّكَت تلك الأصول سواكنَ نفسي وبعثَت لي أحداث أمسي، وهزّتْني هزاً حتى لقد أحسست كأنْ قد عادت لي مَواضي أيامي. وهل تعود الأيام الماضيات؟ لا، ما تعود، ولكنْ أنا الذي عاد إليها على جناحَين من ذكرى وخيال، لأدخلها مرة ثانية فأعيش فيها في حلم ممتع فنان. إن مدرّسي الإنشاء ومخبري الصحف ومذيعي الإذاعة لا يكادون يلقَون أحداً حتى يسألوه: ما هو شعورك؟ كلمة تُقال وتُردَّد، لا السائل يدري عمَّ يَسأل ولا المسؤول يدري بمَ يجيب؟ ولكني إن سُئلت عن شعوري وأنا أتحدث عن مكتب عنبر -بعدما فارقته من ثلاث وخمسين سنة- لقلت إنه كشعور البدوي العاشق، الذي طالما أنس بلقاء المحبوب على غفلة الرقيب في ظلال الخيمة المنفردة ساعة الأصيل، وعلى طرف الغدير الصافي

عند العشيّة، وعلى سفح التل القريب في ضوء القمر والليلُ يغلّف بسكونه همسات الغرام، ليالي المُنى ماثلات أمامه لمّا رأى حبيبه معه، واللذائذ كلها في يديه، وماضيه ومستقبله قد احتوتهما اللحظة الحاضرة فلم يعُد يذكر ما كان ولا يفكّر فيما يكون ... وكذلك يصنع الحبّ بالمحبّين. ثم يتفرق الشمل الجميع، وينأى الحبيب القريب، ولا يبقى من هذه الحياة إلاّ «الأطلال» المواثل في القَفرة الخالية، قد جفّ الغدير وهُدّت الخيام ورحل الأحبّة. ماذا يكون شعور هذا «البدوي العاشق» حين يجيئه من يحمل إليه رسالة من لَيلاه (ولكل محب ليلى) فيها وعد باللقاء وبشارة بالوصول؟ كذلك كان شعوري. غير أن البدوي يأمل أن يرجع إليه الحبيب وتعود أمسيات اللقاء، وأنا أعيش بلا أمل ولا رجاء. وهل يعود لي أمسي الذي مضى وشبابي الذي ولّى، ورفاق الصبا وإخوان الصفا، حيث كنا نعيش في دنيا لا تعرف الغش ولا الخداع ولا زيف الصداقات؟ تلك حياة الطفولة الطاهرة، فهل تعود؟ وليسَت عشيّاتُ الحِمى برواجعٍ ... عليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تدمَعا كان موعد دخولي مكتب عنبر -كما قلت لكم- هو سنة 1920، ولكني لم أدخله إلاّ بعد ذلك بثلاث سنين. ما قصّرت عنه سني ولا عاقني عنه كسلي، ولكن طال إليه طريقي.

إني لأذكر من رفاقي فيه سعيد الأفغاني، وهو اليوم مرجع في قواعد اللغة العربية نحوها وصرفها، وإن كان أبوه على -صلاحه وتقواه- لا يحسن العربية. وما هذا عجباً؛ فإن سيبويه شيخ النحو ومؤلف «الكتاب» كان فارسياً (وإن كان كتابه معقوداً أكثره بلفظ رجل عبقري كان من أذكى أذكياء البشر هو الخليل)، وشيخ الفقه أبو حنيفة كان فارسياً، وشيخ الحديث البخاري، وشيخ الشعراء المولَّدين بشّار، وأقوام لا يحصيهم العدّ. ومن رفاقنا الشعراء: أنور العطار، وأبو سلمى، وزكي المحاسني، وجميل سلطان. وممّن كان سابقاً لنا سليم الزركلي، وممن جاء بعدنا أمجد الطرابلسي. ومن رفاقنا الأطباء: منير شورى، وبشير العظمة، ورشاد فرعون، ونصرة الشلق، وعبد الحليم العلمي وعبد الستار، الأول كان قبلنا بسنوات والثاني كان بعدنا بسنوات، ونجم الدين الجندي، وأحمد الأسود. ومن رفاقنا القضاة والفقهاء والمحامين: مصطفى الزرقا، وأسعد الكوراني، ومحمد الجيرودي، ورضا العظمة، وعبدالعظيم الباجقني. ومن رفاقنا في المدرسة أيضاً: محمود مهدي الإسطنبولي، وخالد بكداش، ومحمد المبارك (رحمه الله) وكان بعدنا بثلاث سنوات، ومحمد كمال الخطيب، ومظهر العظمة (رحمه الله)، وبطل أبطال الرياضة محمود البحرة، وجمال الفرّا، ووجيه السمان، ونظيم الموصلي، وأحمد الفتيح، وأكثر هؤلاء وُلّي

منصب الوزارة، وأنور الشلاح. لا، لا أستطيع أن أعدّ الآن أكثر مما عددت، وإن كانت أسماؤهم في ذاكرتي وذكرياتهم في نفسي، ولكن الذكريات تتبع قانون «تداعي الأفكار»، فالشيء تراه أو تسمعه يذكّرك بشبيهه أو بنقيضه أو بما يتصل به، وستأتي إن شاء الله خلال الحديث أسماء من لم أذكرهم الآن وأخبارهم، فلا يعتب عليّ من أغفلت اليوم اسمه أو يعتب ولده أو صديقه. أما أساتذتنا فالحديث عنهم في الحلقة التالية إن شاء الله، وسترون أنهم اختاروا لهذه المدرسة الواحدة لكل مادة كبارَ أساتذتها في البلد، فلما كثرت المدارس اليوم وازدادت هبطت درجتها وصار يدرّس فيها أصحابُ شهادات، وقد كان المدرّسون على عهدنا أصحاب علم صرفوا في تحصيله أعمارهم وأحيوا فيه لياليهم وأتعبوا فيه أبصارهم، وصار كل منهم هو المرجع في المادة التي يدرّسها. كانت المدارس كالبئر، ضيقة الفوّهة ولكنها عميقة القرار، فصارت كالبركة الضحلة، واسعة الرقعة لكنها قليلة العمق. * * *

أساتذتي في مكتب عنبر

-15 - أساتذتي في مكتب عنبر قعدت لأكتب هذا الفصل فجاءتني الجرائد التي يتفضّل أصحابها بإرسالها إليّ، وهي «المدينة» و «عكاظ» و «الرياض»، وقصاصات يبعث بها إليّ أخي ناجي من الجرائد التي لا تصل إليّ وهي «الشرق الأوسط» و «الجزيرة» و «الندوة». فوجدت في «الشرق الأوسط» المرافعات العظيمة التي ألقاها المحامون عن المتهمين بقتل السادات، ووجدت في «الندوة» مقالة جيدة جداً عن حرية إجارة العقارات وما تجرّه من متاعب ومشكلات. ووجدت أخبار المسلمين المعذَّبين في أفغانستان وفي فلسطين، ومسلمين آخرين أشد منهم ابتلاءً مع عدوّ أعظم خطراً وأشدّ كفراً، ولكن لا يسأل عنهم أحد ولا تمتد إليهم يدٌ بعون أو مدد. لما قرأت هذا فترَت عزيمتي وتعثّر القلم في يدي. أنا أقعد لأكتب ذكريات لا تهمّ أحداً والنار تشتعل في كثير من بلاد المسلمين، والوباء يسري والغمّ يعمّ؟ للناس قضايا يفكّرون فيها ويتحدثون عنها، وأنا أسرد ما وقع لي من قبل حين! لقد كنت إن ألَمّ بالمسلمين خطب أحمل سلاحي وأسرع إلى الميدان، فما لي صرت من القاعدين؟ لم يكُن سلاحي

الحسام والسنان وإنما كان القلم واللسان، والنضال بالمقال مثل القتال بالنصال والنبال. وفكرت أن أقطع سلسلة هذه الذكريات، ثم رأيت أنها لا تخلو إن شاء الله من نفع، وأنها ربما ذكّرَت ناسياً أو أوقدت من العزائم خابياً. ورأيت أن مثلي في سنّي وكبري لا يُطلَب منه مثل الذي يُطلَب من الشباب، وأن لكل موظف وعامل حقاً في التقاعد، فلماذا أُحرَم أنا هذا الحق؟ فهل ترون في هذا عذراً لي إن أضعت وقتكم، وملأت صحف مجلتكم بحديث ذكرياتي التي لا تهمّ أحداً منكم؟ أترونه عذراً أم أنا أعلّل النفس بالأوهام؟ ولو كانت ذكريات ملك أو أمير أو قائد كبير لغذّت التاريخ بإظهار الخفايا وكشف المخبّآت، ولكنها ذكريات واحد من الناس كل الذي عمله أنه قرأ وأقرأ، وأنه كتب وخطب، وما أكثر الكُتّاب والخطباء! إني لأخجل حين أشغل القرّاء بنفسي، لذلك أفرّ إلى وصف أحداث البلد وأخبار الناس. وهذا ما لامني عليه رئيس التحرير، لوّح باللوم ولمّح ولكنه ما صرّح ولا وضّح. أتكلم اليوم عن أساتذتي في مكتب عنبر. لقد كان أول درس حضرناه فيه للشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي، فاستقبلَنا -رحمه الله- بخطبة رنّانة أعلن فيها أنه غدا ذلك اليوم مدرساً للعربية حقاً، ذلك أن مَن كان قبلنا قد درسوا في العهد التركي فنشؤوا (إلاّ من عصم الله) على ضعف بالعربية، ومن كانوا معنا درس أكثرهم في العهد العربي فكانوا أقوى ملكة وأقوم لساناً.

رحمة الله على الشيخ سلام. لقد كان نادرة الدنيا في طلاقة اللسان وفي جلاء البيان، ولقد عرفت بعده لُسُن الأدباء ومصاقع الخطباء، فما عرفت لساناً أطلق ولا بياناً أجلى. ولست أنسى خطبته عندما أطلّ من شرفة النادي العربي قبل يوم ميسلون على بحر من الناس يموج موَجان البحر، قد ملأ ما بين محطة الحجاز والمستشفى العسكري (الخستة خانة) في بوابة الصالحية (¬1) وسراي الحكومة (¬2) وحديقة الأمّة (المنشية)، وكبّر تكبيرة ردّدَتها معه هذه الحناجر كلها، وأحسَسْنا كأنْ قد ردّدتها معه الخمائلُ من الغوطة والأصلادُ من قاسيون، ثم صاح صيحته التي لا تزال ترنّ في أذني من وراء اثنتين وستين سنة (¬3) حتى كأني أسمعه يصيح بها الآن: غورو، لن تدخلها إلاّ على هذه الأجساد. ولكن غورو دخلها! دخلها لمّا حسبنا أن الحرب تُكتسَب بالحماسة وبالخطب، ثم خرج قوم غورو لمّا عرفنا كيف تُكتسَب الحروب. غورو هذا وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي الذي غلب أوربا كلها مرتين، مرة بسيف القتال ومرة بنبل الفعال، وقف يفاخر عظامه ميتاً وقد كان قومه يرتجفون من بأسه حياً، ولا يفاخر الأموات إلاّ الجبناء، يقول: يا صلاح الدين، لقد عدنا. حسب من غروره أنه ملك الشام إلى الأبد، كما يحسب هذا المغرور المأفون (بيغن) أنه ملك القدس إلى الأبد. فأين ¬

_ (¬1) المحطة باقية، وهي من أجلّ أبنية دمشق، وأختُها الصغرى في المدينة. أما المستشفى فقد قامت في مكانه عمارة «الأركان». (¬2) وهي باقية، أما شارع بغداد فلم يكُن قد فُتح. (¬3) كانت هذه الخطبة أوائل سنة 1920.

مَن يذهب فيبحث عن حفرة غورو، فيقف عليها ليردّ عليه بالحق كلمته التي قالها بالباطل، ليقول له: كلا، بل لقد طُردتم! وليستعدّ من الآن من سيقوم غداً على حفرة بيغن ليقول له: أين غرورك وأين ادعاؤك؟ إن القدس قد رجعت على رغمك إلى أصحابها المسلمين. نعم، إنها سترجع إليهم إن رجعوا هم إلى دينهم، ولقد بدت بوادر الرجوع إلى الدين. لقد أقام الشيخ سلام معنا أشهراً، ثم عاد إلى بلده فعُيّن أميناً للفتوى في لبنان. وجاءنا من بعده الأستاذ سليم الجندي (¬1). ولما أصدرت أول كتاب لي سنة 1930 (وهو «الهيثميات») أهديته إلى روح المنفلوطي سيد كُتّاب العصر، وإلى عَلَمَي العربية الجندي والمبارك. لقد ماتا وما أعرف تحت قبة الفلك أعلمَ منهما بالعربية وعلومها، ولقد كانا أشدّ المدرّسين تأثيراً في تكويني اللغوي والأدبي، رحمة الله عليهما وعلى أساتذتنا جميعاً. * * * أمّا المبارك فقد كان الإمام في اللغة والمرجع فيها، قيّد أوابدها وجمع شواردها وحفظ شواهدها. وكان أعلم العرب ¬

_ (¬1) في مقالة «أستاذنا الجندي» المنشورة في كتاب «من حديث النفس» أخبار كثيرة -غير ما ذُكر في هذه الحلقة والتي تليها من «الذكريات» - عن سلام والجندي والمبارك، فمن شاء قرأها هناك (مجاهد).

بالعرب، عرف أيامهم (¬1) وروى أشعارهم، وكان المفرد العَلَم في بابته (¬2). لا أعرف نظيراً له في العلماء، تحسّ إذ تجالسه وتسمع منه كأن الأصمعي وأبا عبيدة قد تمثّلا لك في جبّته، وكأن ما كنت تقرؤه من أخبار الرواة والحُفّاظ قد عاد لك حتى رأيتَه بالعيان. لقد كثر اليوم الأساتذة من حملة الشهادات وأصحاب الدكتورات، ولكن ذلك الطراز لم يعُد له وجود. أما درسه فما حضرت -على كثرة ما حضرت من الدروس- درساً أكثر منه حياة وأبقى في نفس سامعه أثراً. إن نغمته لا تزال إلى اليوم في أذني وكلماته في قلبي. كنّا ندخل الصف في مثل «العَراضة»: أصوات عالية متداخلة وضجيج صاخب مزعج، وكان المدرّسون يجدون مشقّة في إسكات المتكلمين وتهدئة الصاخبين. فإذا كان درس الشيخ المبارك رأى التلاميذُ البابَ قد انفرج مصراعاه وبدا من بينهما جبين عريض من فوقه خط أبيض، ثم ظهر وجه الشيخ وعمامته وجلجل صوته (الذي كان يُعرَف من بين أصوات البشر جميعاً بضخامته وجَهارته) بصدر بيت من الشعر، فيسكت الطلاب ليسمعوا، فيخطو الخطوة الثانية فيكون في الصف (أي الفصل) ويُتِمّ البيت، ويشرع بالدرس. والغريب أنه لم يكُن يدرّسنا العربية بل الفقه، يُقرِئُنا «مراقي ¬

_ (¬1) أيام العرب: حروبها. (¬2) يقال «هو من بابة فلان» إذا كان من أشكاله ونظرائه.

الفَلاَح شرح نور الإيضاح». هذا مثال من الكتب التي كنا نقرؤها في السنة التي تلي سنة الشهادة الابتدائية، وهو كتاب أحسب أنه لو قُرّر اليوم لطلبة الجامعة لشكَوا من صعوبته. ولم يكُن الشيخ يقتصر في درسه على الفقه، بل كان فيه مع الفقه تفسير وحديث وقواعد أصولية يسوقها بعبارات موجزة بليغة، يلقيها ويردّدها ويكتبها بخط الثلث على اللوح (السبورة) بعرض الحَوّارة (¬1). وكان يتخذ لكل شيء ضابطاً، جملة موجزة تجمع الأحكام وتسهل على اللسان ولا تذهب من الأذهان. ولطالما دلّنا على كتب قرأتها وانتفعت بها، وهي رأس مالي في العلم والأدب، ولولاه ما سمعت بها. ثم درّسنا «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية» لقدري باشا، فكان يشرحه شرحاً عجيباً تجعل لكل حكم من أحكام الزواج والطلاق «قصّة» يؤلّفها كما يؤلّف الأديب قصصه، ويجعل لها قواعد تُحفَظ فلا تُنسى. مثالها: «لا يخلو زواج من عُقر أو عَقر»؛ أي لا بدّ من مهر في النكاح أو حد في السفاح. ثم درّسنا السيرة فجاء بشيء ما رأيت والله ولا سمعت بمثله، يصوّر الوقائع ويصف أمكنتها، ويشرح ما قيل فيها ويدلّ على مراجعها، فكأننا كنا فيها. وكنت أستوعبها استيعاب التربة العطشى ماء المطر، وكان يدلّنا على الكتاب فأسرع إلى قراءته ¬

_ (¬1) لا نعرف في الشام إلا اسم «الحَوّار» لما يُدعى «الطباشير»، وهي كلمة عربية لأن التحوير هو التبييض. وإن كان شيخنا المبارك يسمّيه «الحَكَك»، وهي لفظة وُلِدت ميتة!

إن كان في مكتبتنا، أو إلى شرائه إن لم يكُن عندنا. ولقد سمّى لنا كتاب «الروض الأُنُف للسُّهَيلي» فشريته عند خروجي من المدرسة، وما بتّ حتى تصفحته وقرأت صفحات كثيرة منه. أما حفظه فقد صدّقت منه ما يُروى عن حماد الراوية وابن الأنباري والمعرّي. والشيخ من أصحاب النوادر، وأستطيع أن أسوق من نوادره وغرائبه ما يملأ صحفاً كثيرة. وقد كنا نقلّد لهجته ونحكي صوته، حتى صارت هي لهجتي في التدريس وأنا لا أدري. لمّا كنت أدرّس في بغداد أقيمت حفلة سمر في آخر سنة 1936، فسأل الطلاب مدرّسيهم على عادة اعتادوها: هل يأذنون لهم أن يقلّدوهم؟ فكان منهم من أذن ومنهم من أبى، وكنت فيمن أذن، فقام طالب يقلّدني بزعمه ولكنه قلّد شيخنا المبارك. فقلت: ويحك، هذا شيخنا المبارك! وإذا بالطلاب يصيحون من الأركان الأربعة: بل هذا أنت، هذا أنت. وإذا أنا لطول ما حاكيت الشيخ قد صرت مثله، أعني مثله في لهجته ونغمته لا في علمه ولغته. أين أنا من علم الشيخ؟ واتصل حبلي بحبله إلى أن توفّاه الله، أزوره في داره ويتفضّل فيشرّفني بزيارتي في داري. وكان عليّ يوم تُوُفّي سنة 1945 أن أُلقي كلمة التأبين، في مقبرة الباب الصغير التي دُفن فيها معاوية وجلّة من الصحابة، فرأيت في المقبرة أستاذنا محمد كرد علي متأثراً حزيناً، وما أعرفه إلاّ مرحاً مزّاحاً، ثم عرفت أنه كان سَنينَ (¬1) المبارك وأنه كان رفيقه ¬

_ (¬1) سَنين الرجل: لِدَته، أي مَن كان في مثل سنه.

في الدراسة عند أبيه الشيخ محمد المبارك، فأمرني أن أوصله إلى داره فلم أخطب. وكان الشيخ المبارك هذا (وهو جزائري الأصل) أحد أفذاذ الأدباء في عصره، له نثر وله شعر وله آثار مروية تدلّ على فضله وملكته. أما أخوه الشيخ محمد الطيب فكان عالماً صوفياً، وقبره كان في أحلى مكان في دمشق، في طرف المزّة من جهة الربوة. ألا تعرفون ما الربوة؟ اقرؤوا وصفها في كتابي «دمشق». وقبر الشيخ محمد المبارك في مقبرة الصالحية، يشرف على دمشق والغوطتين. والشيخ الطيب كان تلميذ جدّنا الشيخ محمد الطنطاوي الذي قدم دمشق من مصر وتُوُفّي فيها سنة 1306هـ، وقد ذهب معه بأمر الأمير عبد القادر الجزائري إلى قونية في الأناضول، وأحضرا منها نسخة «الفتوحات المكية» لمحيي الدينبن عربي، وهي النسخة التي قوبلت على نسخة مؤلفها وطُبعت المطبوعة عنها، وُضعت في مكتبة مجمع اللغة العربية في دمشق من عهد بعيد. رحم الله شيخنا المبارك ورحم أباه وعمه، ورحم ولده رفيقنا الأستاذ محمد الذي توفّاه الله من شهرين (¬1) ودُفن في البقيع. لقد صحبت الشيخ نحواً من ربع قرن، أزوره في داره وأذهب معه إلى مجالس أصحابه وألازمه أكثر مما لازمه أولاده: محمد رحمه الله، وقد كان معنا في المدرسة ولكنه كان بعدنا، وعدنان وهاني، وكانا تلميذيّ سنة 1940، ومازن وقد كان ¬

_ (¬1) تُوفّي رحمه الله سنة 1401هـ.

صغيراً عندما كنت أزور الشيخ وهو اليوم خليفته في أستاذيته، أما عبد الهادي فقد كان يومئذٍ أصغر من أن يدخل علينا مجلس أبيه، أو لعله لم يكُن وُلد. ذُمَّ المنازلَ بعدَ منزلةِ اللوى (¬1) ... والعيشَ بعدَ أولئكَ الأيامِ سقى الله تلك الأيام! * * * ¬

_ (¬1) أكثر الذين يَروون هذا البيت يُنشدون أوله: «ذَمُّ المنازلِ»، فكأنهم يجعلون الذمّ خبراً لمبتدأ محذوف، ويعطفون عليه «العيش» بالرفع أيضاً، وبذلك يفسد المعنى. والصحيح كما هو هنا: «ذُمَّ» فعل أمر و «المنازلَ» مفعول به. والبيت لجرير، ويُروى آخره أيضاً: «بعد أولئك الأقوام» (مجاهد).

أساتذتي في مكتب عنبر أيضا

-16 - أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا خبّروني، هل تحفظون من أخبار أساتذتكم مثل الذي أحفظ من أخبار أساتذتي هؤلاء الذين أحدّثكم حديثهم؟ هل يبقى من ذكرياتهم في نفوسكم بعد ثلاثين سنة من ابتعادكم عنهم كالذي بقي في نفسي من ذكريات أساتذتي التي أكتب اليوم عنها بعد ستين سنة من تاريخها؟ وإن هي بقيت في نفوسكم وحدّثتم بها، فهل تحملون لهم من الحب كالذي أحمل لأساتذتي؟ إني أحبهم، وإلا فلماذا أثني عليهم وأمدحهم؟ الشعراء كانوا يمدحون الملوك والأمراء وهم أحياء أملاً بالمكافأة والعطاء، فهل أطمع بعطيّة من أناس مضوا إلى رحمة ربهم؟ وما أنا بالشاعر وما صناعتي نسج التهاويل؛ ما أنا إلا مصوّر يتأبط آلته يطوف بها، يصّور مشاهد الحياة ومشاعر النفس، مصوّر (فوتوغرافي) مسكين ينقل صوره نقلاً، ولست المصّور المبدع الفنّان الذي يحمّل لوحاته ما لم يكُن ولا يكون. أنا إنسان يدبّ على أرض الواقع، على حين يضرب الشعراء أمواج الجوّ بأجنحة النسور.

فأين أنا من جِواء الشعراء (¬1) الذين يحسبون أنهم يتعالون عن واقع الحياة؟ (¬2) إني أفكر فيما صرت إليه وما كنت في صغري فيه، فأرى الفضل لله أولاً وأخيراً، ولكن السبب فيه هؤلاء المدرّسون وأمثالهم (وإن قلّ أمثالهم) الذين قعدت بين أيديهم وأفدت منهم، في المدرسة مضطراً وفي حلقات المساجد مختاراً، أو قابلتهم في مسالك الحياة مصادفة، فكان لهم -لقوّة شخصياتهم، ونبل صفاتهم، وطهر قلوبهم- أعمق الأثر في فكري وفي عاطفتي وفي سلوكي وفي تكويني، لم أحسّ به في حينه ولكنْ عرفته بعد حين. وإذا كان كثير من المعلمين يعملون ليأخذوا الراتب، وكثير من الطلاب يقرؤون ليحملوا الشهادة، وكان في المدرّسين المهمل المسيّب وكان فيهم زائغ القلب فاسد العقيدة، فقد كان أكثر معلمينا يعلموننا ابتغاء ثواب الله وحباً بنشر العلم، وكنا (أو كان أكثرنا) نتعلم حباً بتحصيل العلم ورغبة في الأجر من الله. وكانوا كالآباء لنا، يهتمون بدنيانا وأخرانا. فهل تستكثرون عليّ أن أنضح بالدمع قبورَ رجال هم ملؤوا قلبي بالعاطفة التي ينبع منها الدمع؟ لقد بكيتهم يوم ماتوا بصوب ¬

_ (¬1) كلمة جو جمعها جِواء لا أجواء، وما كان من الجمل بين أقواس فهو من مقالات لي قديمة. (¬2) أقصد ما يُسمّى «السريالية»، وأصلها «sur» أي فوق و «realite» أي الواقع.

قلبي لا بماء عيني. فيا ربّ ارحمهم وارحم كل الذين علموني، وارحم أبي لأنه كان أبي وكان معلمي، واجزهم عني خير الجزاء. * * * كان أساتذتنا في مكتب عنبر أصنافاً. أما مدرّسو العربية فكانوا أئمتها في البلد وكانوا المرجع فيها: الشيخ عبد الرحمن سلام الخطيب الشاعر، والشيخ المبارك اللغوي الراوية، والشيخ سليم الجندي أستاذ اللغة والنحو والصرف والعروض. وقد سبق الكلام عن المبارك وسلام، وسأتكلم عن الجندي. والشيخ الداودي، ولم نقرأ عليه ولكن عرفنا من تلاميذه أنه كان يشرح الدرس على طريقة العلماء الأزهريين، في لطف ظاهر وخُلُق عظيم وقلب رقيق، وكان شيخاً كبير السن مريض الجسم، يستنفد الدرس قوته فيخرج من غرفة التدريس فيستلقي على الأريكة يستريح. وكان يأتي المدرسة على أتان (حمارة)، وكانت يومئذٍ للعلماء كالسيارة اليوم للأغنياء، فإذا دخل الباب تسابق الطلاب يعينونه على النزول عنها ويقبّلون يده ويمشون معه، وكان محبوباً ما رأيت له كارهاً. ولما تُوفّي سنة 1926 نظم رفيقنا الشاعر أنور العطار قصيدة في رثائه ألقيتها أنا على قبره في كلمة تأبين لي. والأستاذ محمد البزم، الشاعر الفحل الذي كان يُعَدّ يومئذٍ أحد شعراء دمشق الأربعة، وهم: خير الدين الزركلي، الذي صار

بعدُ من أركان وزارة الخارجية السعودية، مؤلف الكتاب العظيم «الأعلام»، أحد الكتب العشرة التي يفاخر بها هذا القرنُ القرونَ السابقات، وكتاب «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» وكتب أخرى معروفة. وخليل مردم بك، رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، العالِم المؤلّف والد الصديق الشاعر عدنان مردم بك. وشفيق جبري، أول عميد لكلية الآداب في جامعة دمشق وركن وزارة المعارف قبل ذلك، مؤلّف كتاب المتنبي والجاحظ. والعجيب أن البزم لم يُعرَف في غير سوريا، وقد كان أمثاله (بل لقد كان تلاميذه) معروفين، ولما نشر في «الرسالة» في أوائل الثلاثينيات وضع الزيات في رأس مقالته «للأديب محمد البزم» مع أنه كان يكتب لي، وأنا بمثابة تلميذ البزم، «للأستاذ فلان». ولم نقرأ عليه. لقد قرأ عليه مَن جاء بعدنا من التلاميذ، وكان منهم أخي ناجي وأخي عبد الغني، فخبّرونا أنه كان مدرّساً نادر المثيل. كان فصيح اللهجة بيّن الأسلوب، تعرف ذلك من سلامه ومن كلامه، لا يتكلم إلاّ اللغة العربية البليغة. ولقد اتصل حبل المودّة بأخَرة بيني وبينه، وكنت قد جافيته أولاً؛ ذلك أنه كان يكتب في مجلة «الميزان» (¬1) كلمات يتناول ¬

_ (¬1) التي كان يصدرها الكاتب الأديب أحمد شاكر الكرمي في أوائل العشرينيات من هذا القرن، وهو ابن الشيخ سعيد الكرمي والأخ الأكبر لحسن وعبد الغني وعبد الكريم (وهو أبو سلمى رفيقنا)، وكلهم كاتب أديب أو شاعر مُجيد.

فيها الأدباء بالتجريح، لا يكاد يسلم من لسانه أحد. فكتب عن أستاذنا الجندي أنه "يهدم للمعري قصراً فخماً ليقيم من أنقاضه كوخاً حقيراً". فأخذَتني الحميّة لأستاذي وكتبت عن البزم: "إنه يعرف في النحو ما يجهله الناس ويجهل ما يعرفه الناس، وإن شعره جدار من الحجارة الصلد ولكنها مركومة ركماً ليس بينها ملاط"! فغاظه ذلك منّي وكفّ عن الجندي، مع أنه كان في خصام دائم مع الأدباء. نظم أرجوزة نحَلها الشيخَ المبارك وجعلها على لسانه، وسارت في الناس وأضحكتهم على الشيخ. ولقد سألت المبارك عنها فأبدى ألمه منها، ولكنه صرّح لي بأنه كان يتمنى أن يقدر على نظم مثلها! وهجا مرة الأستاذ شفيق جبري بقصيدة قافيتها على الزاي المضمومة: لَمزُ، وَخْزُ، طَنزُ عَجزُ ... فيها هذا البيت: ولو شئتُ سيّرتُ القوافي جَحافلاً وأوقرتُ أسماعاً وكانَ ليَ الفوزُ ونُشرت أيام الثورة، وكانت «البعثة» (أي دار مندوب المفوّض السامي الفرنسي) تراقب المطبوعات، وكان المراقب نصرانياً ضعيفاً في العربية فلم يفهمها وحار في رفع تقريره عنها، فسأل زميلاً له أعلم منه فقال له: إن الجحافل هي الجيوش. فكتب أن البزم يدعو لحشد الجيوش لحرب فرنسا! فقبضوا عليه وبيّتوه في السجن، فما أنقذته إلاّ شفاعة الجندي وجبري! ولعلّ سبب هجومه على الأدباء الأحياء وعلى أئمة النحو الأموات أنه نشأ بعيداً عن العلم والأدب ثم اشتغل بهما بعد أن

بلغ العشرين، فكان يحسّ في نفسه أنه دخيل عليهم غريب فيهم، فيريد تثبيت منزلته بالحط منهم والتعالي عليهم. ولا تعجبوا، فربما كان عنف الهجوم دليلاً على الشعور بالنقص في نفس المهاجم، وإسرائيل مثال ذلك، أعني إسرائيل الدولة الظالمة الغاصبة لا إسرائيل النبي الذي هو يعقوب عليه السلام. وما لحكّام دولة إسرائيل ويعقوب؟ ما لبيغن هذا وما لقومه وأرض فلسطين، وما له ببني إسرائيل صلة قرابة ولا نسب، ولا له في تراب الأرض المقدسة ذرّة من بقايا عظام أبٍ واحد، إنما هو من «الخَزَر» الذين تهوّدوا طلباً للدنيا من طريق التهوّد. أستغفر الله أن أقرن اسم محمد البزم الشاعر الفحل العربي المسلم باسم بيغن، ولكن جرّته القافية. ونسأل الله لنا وله العافية، ورحمة الله عليه، واللعنة على بيغن وكل معتدٍ ظلوم كفّار. لقد أصابت البزمَ في آخر عمره مجموعةُ أمراض ذهبت ببصره وأوهنت جسده القوي وألقته على الفراش أمداً طويلاً، ولكن الله ألهم الشيشكلي جزاه الله خيراً (وكان حاكم البلد) فأدخله المستشفى العسكري، وبقي فيه مخدوماً مرعياً حتى توفاه الله فقيراً، ما ترك إلاّ ديوانه الذي طُبع بعد موته (¬1). * * * أما مدرّسو العلوم (أي الطبيعة) والرياضيات والتاريخ ¬

_ (¬1) طبعه المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب سنة 1962، بإشراف سليم الزركلي وعدنان مردم بك (مجاهد).

والجغرافيا، فكان أقلّهم من الأطباء وأكثرهم من الضباط العرب في الجيش العثماني. الأطباء الدكتور يحيى الشمّاع، وكان مدرّس الكيمياء، والدكتور جودة الكيّال، وكان يدرّس الفيزياء، وكنا نسميها «الحكمة الطبيعية» وننطقها بالتاء المبسوطة فنقول الحكمت والكيمياء. أما كلمة «فيزياء» فقد وضعها بعد ذلك الأستاذ عز الدين التنوخي (وسيأتي الكلام عنه)، وهو الذي وضع كلمة «البرمائية» منحوتة من البرية والمائية، وغيرهما. ولما كنا في الصف الثامن ذهب الشمّاع والكيّال إلى لوزان لاستكمال دراسة الطب، وكان معهما الدكتور حسني سبح، الرجل العالِم المحقّق، وهو اليوم رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، وهو أقدم المجامع العربية. فلما عادوا حيّاهم الشيخ الداودي بقصيدة مطلعها: دَعْ ذكرَ ذاتِ الحَلْيِ والخَلخالِ ... والفاتناتِ -أَخا النُّهى- بالخالِ وجمَعَ أسماءهم في هذا البيت العجيب: يحيى بني الشمّاعِ حسني من بني ... سَبَحٍ وجَودةُ من بني الكيّالِ وكنا نسمع تلاميذ الداودي من الشعبة التي يدرّسها ينشدون القصيدة على نغمة «البردة»: أمِن تذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ ... مزَجتَ دمعاً جرى من مُقلةٍ بدمِ

وهي نغمة معروفة في الشام، نعلّمها التلاميذ في درس العَروض ليضبطوا بها بحر البسيط. وأقول -بالمناسبة- إن الصديق الأستاذ أحمد عبيد نظم قصيدة أيضاً جاء فيها بيت كان أشعر وأسيَر من بيت الداودي، وهو: الطبُّ بحرٌ طما ... وفيهِ حُسني سَبَحْ أما الرياضيات فكان يدرّسها اثنان: جودة الهاشمي، وهو أشهر مدرّسي هذه المدرسة (وقد سُمّيت باسمه أكبر ثانوية في سوريا) وكان عالماً بالرياضيات، هضمها -كما يقولون- هضماً وقتلها فهماً، وأحسن فيها تعليماً وتفهيماً، وأعانه على ذلك سكوت التلاميذ في درسه واستماعهم لقوله، فأفاد واستفاد. وكنا نتوارث هيبته والخوف منه، يتواصى بذلك الطلاّب، الخلف منهم عن السلف. أما الثاني فهو مسلَّم عِناية، وهو عبقري من أفذاذ الرجال؛ كان من كبار الضباط أركان الحرب ومن أعلمهم بالفنون العسكرية، وكان أستاذاً في العلوم الطبيعية وفي الكيمياء خاصةً، يرجع إليه مدرّسوها في معضلات مسائلها، لا يكتمون ذلك عنا ولا يتحرّجون من ذكره أمامنا. وكان أستاذاً في «الطبوغرافيا» وأستاذاً في علم الموسيقى، وكان يُتقِن التركية وكان أديباً فيها، والفرنسيةَ وكان يدرّسها في مدرسة الشرطة، والألمانيةَ وكان يُحسِنها. ولكنه كان -على هذه المزايا كلها- بعيداً عن التوفيق في التدريس عاجزاً عن ضبط التلاميذ، له في الفوضى نوادر عجيبة.

لقد كان أكبر من أن يكون مدرّساً في مدرسة ثانوية، فعجز عن الهبوط إلى «مستوى» عقول التلاميذ ليفهمهم وعجزوا عن الصعود إليه ليفهموا منه، فبقي بينه وبينهم فراغ ملؤوه بالشغب والضجيج وإفساد الدرس. رحمه الله، فلقد عشت حتى بلغت هذه السن، وتنقلت في البلاد ولقيت العلماء والأدباء والأذكياء، فما صادفت أشدّ منه ذكاء. وأنا أعرّف «الذكاء» بأنه سرعة المحاكمة و «العقل» بأنه صحّة المحاكمة، ومسلّم بك أذكى من عرفت، وإن كان ذكاؤه أكثر ممّا ينبغي. لا تعجبوا من هذا الكلام، فإن الذكيّ كالفارس يقفز فيجيء على ظهر الفرس، والغبي يقصر فيقع دونها، فإن كان ذكاؤه أكثر مما ينبغي كان كالذي يقفز قفزة أوسع فيقع بعد الفرس. وكذلك كان مسلّم بك؛ كنا نقول له كلمة لا نقصد بها سوءاً فيولّد له ذكاؤه مقاصد لم تخطر لنا على بال، فيغضب منا أو يُعرِض عنا. ولولا الفوضى في درسه لاستفدنا منه الكثير. وكان مثله في الفوضى مدرّس الموسيقى، مع أنه مدرس موسيقى بارع وملحّن ممتاز وأستاذ العزف على القيثارة، هو مصطفى الصواف. وكان يدرّسنا الموسيقى كما تُدرَّس في المعاهد الموسيقية، ولقد درّسَنا السلّم الموسيقي والإشارات كلها، وسلّم «دو» الكبير وسلّم «فا» وسلّم «صول»، إلخ، وسلّم «الراست» في الموسيقى العربية، والموازنة بينه وبين سلّم «دو ماجور»، والتأليف الغربي، والتأليف العربي، والمقامات، والضروب بأنواعها.

كل ذلك كان يُدرَّس في الثانوية، ولكنا ما استفدنا منه كثيراً لأن الأستاذ لم يكُن يستطيع ضبط «الفصل»، ولأننا لم نكُن ننظر إلى الموسيقى نظرة احترام وتقدير، ولأننا كنا (أو كان أكثرنا) يأبى التدرّب على الآلات الموسيقية. فاقتصر انتفاعي بها على العلم النظري فقط. وما ندمت على ما أضعت منها، لأني ما أضعت شيئاً يؤسَف على فقده. * * *

من مصر إلى الشام

-17 - من مصر إلى الشام أما ترون الإذاعات تقطع برامجها أحياناً لتذيع خبراً طارئاً؟ إني أتبع اليوم سُنّة الإذاعات فأقطع سلسلة ذكرياتي، لا لخبر طارئ فما عندي أخبار أذيعها، ولكنْ أقطعها لأن هذه الأيام تعيد إلى ذكرياتي حادثاً أحبّ أن أقف عنده قليلاً. ففي يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى حدث حادث كان له الأثر الأكبر في حياتي، ولكنه لا يدخل في ذكرياتي. حادث تسعة أعشار القرّاء لم يعرفوه لأنهم لم يدركوه، والذين أدركوه لم يعرفوه لأنهم لم يسمعوا به، والذين سمعوا به لم يبالوا أن يعرفوه لأنه حادث عادي يقع مثله كل يوم وفي كل بلد، وقد وقع لقوم عاديّين لم يكونوا من ذوي الشأن ولا من أهل الغنى والسلطان، ووقع في طرف حيّ صغير من أحياء دمشق، في دار فقيرة ولكنها ليست حقيرة، لأنها دار شابّ عالِم يكرّمه الناس ويقصده طلبة العلم فيعقد لهم حلقات دروس مجّانية في الصباح وفي المساء، في هذه الدار وفي مسجد الحيّ، يعطيهم الكثير من علمه ولا يأخذ لا كثيراً ولا قليلاً من أموالهم. هذا الحادث هو أن زوجة هذا العالِم وضعت غلاماً، ففرح

به أبوه وجدّه وعمّته وجدّته، وكانوا هم والأمّ سكّانَ هذه الدار. ولّدَتها قابلة (داية) الحيّ، ولم يكُن في دمشق يومئذٍ قابلات كثيرات يحملن شهادة، ولم يكُن يُولّد النساءَ طبيبٌ، ولا يجوز في دين الله إلاّ أن تكون «ضرورة» أو «حاجة» تشبه الضرورة ولا يكون ثمة طبيب أنثى. والعجيب حقاً أني لا أذكر عن هذا الحادث شيئاً. بل أنا -لضعف ذاكرتي- لا أعرف كيف كان شعوري لمّا خرجت من عالَمي الصغير، وهو بطن أمي، إلى هذه الدنيا الواسعة. ولا أعرف كيف سيكون شعوري عندما «أولَد» مرة ثانية فأخرج من «بطن» هذا العالَم الأرضي إلى سعة عالَم الآخرة. تلك الولادة يسمّيها الناس موتاً لأنهم لا يعرفون من الوجود إلاّ هذه الدنيا. ولو كان في البطن توأمان، فسبق أحدهما بالخروج وسُئل الثاني عنه لقال -أيضاً- إنه مات ودُفن في أعماق الأحشاء! فهل تتشابه الولادة والوفاة، أم هي خيالات أديب؟ قلت لكم إني لا أذكر هذا الحادث، ولكن رأيت خبره على باطن جلدة «المصباح المنير»، وهذا نصّ الخبر: "رزقنا الله فجرَ يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 1327 غلاماً سمّيناه علياً. كتب ذلك مصطفى بن أحمد سبط الطنطاوي". فمَن هذا «الطنطاوي» الذي نُنسَب إليه ونحمل لقبه؟ إنه جَدّ أبي لأمّه، وهو عمّ جدّي. وهاكم قصتَه من أولها. * * *

في سنة 1255هـ وصل إلى دمشق شاب مصري لم يُسجّل اسمه على الحدود ولم يُطلَب منه جواز سفر، لأنها لم تكُن بين مصر والشام حدود على الأرض ولا فروق بين السكان، ولم تكُن الأسفار تحتاج إلى «جواز»، بل كانت كلها بلداً واحداً ترفّ عليه راية واحدة، هي الراية الحمراء ذات النجم والهلال، راية بني عثمان. وكان بنو عثمان حكّاماً بشراً لهم حسنات ولهم سيئات، وما حسناتهم -في جملتها- بأقلّ من حسنات مَن حكموا ديار الإسلام على سعة رقعتها وامتداد زمانها، ولا سيئاتهم بأكثر من سيئاتهم، ولكن اليهود (وأصل كلّ بلية في الدنيا إبليس واليهود) لمّا صدّهم السلطان عبد الحميد وضرب وجوهَهم بأموالهم التي جاؤوا يساومونه بها على دينه افترَوا عليه وبهتوه، والافتراء والبُهتان من خلائقهم. لمّا كان ذلك ذهبوا يشوّهون تاريخه وتاريخ قومه، وصدّق ذلك ناس منا، بل من أفاضلنا. هذا الشاب الذي وصل دمشق سنة 1255هـ وُلد في طنطا (التي كان اسمها طندتا)، وأنا لم أدركه، وكيف وقد مات سنة 1306، أي قبل أن أولَد بإحدى وعشرين سنة؟ ما أدركته ولكن سمعت خبره من شيوخ أسرتي، من ولدَيه الشيخ عبد القادر والشيخ عبد الوهاب (وهما خالا أبي)، وممّن أدركت من تلاميذه كالشيخ عبد المحسن الأسطواني والشيخ محمّد شكري الأسطواني مفتي سوريا، ومن ترجمته في الكتاب القيّم «روض البشر» للشيخ عبد الرزاق البيطار (¬1) جدّ شيخنا ¬

_ (¬1) الصحيح أنه كتاب «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر» للبيطار، أما «روض البشر في أعيان دمشق في القرن الثالث عشر» فهو للشيخ =

الشيخ محمد بهجة البيطار وكتاب «الحدائق» (¬1) للشيخ عبد المجيد الخاني (وهما تلميذاه) وكتاب الشيخ تقيّ الدين (¬2)، وممّا كتبه عنه الأستاذ محمد كرد علي. ومَن نظر في تراجم علماء الشام في القرن الماضي، في هذه الكتب وغيرها، وجد الكثير منهم قد قرأ عليه وقعد بين يديه. قالوا في ترجمته: هو محمد بن مصطفى الطنطاوي مولداً، الدمشقي موطناً، الشافعي مذهباً. لُقِّب «الطندتائي» كما كان يكتب عن نفسه أو «الطنطاوي» كما سار على ألسنة الناس، لقّبوه به في الشام. فماذا كان لقب أسرته في بلده؟ لا أدري، ولكن الذي سمعته في صغري (ولا أتبينه ولا أحقّق الآن مصدره) أن اسم أسرته كلمة فيه شين ونون. لا تضحكوا، إني أقول الحقّ. لعلها الشناوي أو المنشاوي أو الشنواني ... لا يعرف ذلك أحد، وكيف وقد مضى على نزوحه منها قرن ونصف القرن، وما كان عَلَماً من الأعلام حتى يُهتَمّ بحِلّه وترحاله، ما هو إلاّ رجل من أوساط الناس. ولو بحثتم عن المصريين الذين سكنوا الشام وعُدّوا من أهلها، والشاميين الذين سكنوا مصر، والمغاربة الذين هاجروا إلى المشرق، لوجدتم الكثير. ذلك لمّا كانت بلاد المسلمين ¬

_ = محمد جميل الشطي مفتي الحنابلة في دمشق في زمانه، وفي كلا الكتابين ترجمة للشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي (مجاهد). (¬1) «الحدائق الورديّة في حقائق أجلاّء النقشبندية» (مجاهد). (¬2) كتاب «منتخبات التواريخ لدمشق» للشيخ محمد أديب تقي الدين الحصني (مجاهد).

داراً واحدة يسافر من شاء إلى حيث شاء. أما الآن فيا أسفي! لقد فرقت السياسةُ الأسرةَ الواحدة، فأنا سوري، وبنتي أردنية، وبناتي الأخريات سعوديات! ولقد سافرت نصف ساعة في القطار من آخن (إكس لاشابيل) (¬1) في ألمانيا إلى لييج في بلجيكا فتغيّر عليّ كل شيء: اللغة ومناظر البلد ووضع الشوارع وقواعد السير، لقد شعرت أني انتقلت من بلد إلى بلد. وأسافر من الرياض إلى بغداد، أو إلى الكويت، أو إلى عمّان، أو إلى دمشق، أو إلى مصر، فلا أكاد أشعر بتغيّر حقيقي، إلاّ التغير الذي يشعر به من يسافر من مدينة إلى مدينة في الدولة الواحدة. * * * قالوا إنه ولد في طنطا (من أعمال مصر القاهرة)، ونشأ يتيماً في حِجر أخيه الأكبر (وكان اسمه علياً). فمَن أبوه؟ وما عمله؟ وما خبره؟ الله أعلم. أما عليّ هذا، عليّ بن مصطفى الذي سُمّيتُ باسمه وسُمّي أبي باسم أبيه، والذي هو أبو جدّي، فلا أعرف عنه إلاّ أطراف أخبار لم أستقصِها ولم أتحقّقها. منها أنه كان (والله أعلم) في جيش إبراهيم باشا، وأنه لمّا سكن دمشق فتح دكاناً في خان الجمرك؛ وهو سوق مسقوف قريب من الأموي على شكل زاوية قائمة في وسطه مخزن واسع، لمّا أراد أبو خليل القبّاني أن يقيم مسرحه (وكان أول مسرح في الشام) جعله في هذا المخزن، فلما ¬

_ (¬1) عاصمة شارلمان وفيها آثاره.

أبى أهل دمشق أن يُفتَح فيها هذا الباب للفساد واضطرّوه إلى إغلاقه رحل إلى مصر عام 1884، وفيها راجت سوقه وعلا نجمه واشتهر اسمه. وكان يقتبس الرواية أو يؤلّفها، ويلحّنها ويمثّلها، فكان مؤلّفاً وملحّناً وممثّلاً. كان في خان الجمرك سوق القماش، وكان يرتاده النساء، لذلك كانوا يدعونه أحياناً «سوق النسوان». فكان جدنا هذا (الذي لا أعرفه) إذا جاءته امرأة فكشفت وجهها لترى القماش أو مدّت يدها لتلمسه زجرها وأمرها بالستر، فتركه النساء، فاضطُرّ إلى ترك الدكان وعاد إلى مصر. ويظهر أنه كان فقيراً لأن أخاه (الشيخ محمد الذي أتكلم عنه) كان يعيش في الجامع الأحمدي في طنطا على خبز الجراية ومرق المخلَّل، لا يجد غيرهما. وقد "حفظ هنالك القرآن وحصّل بعض العلوم النقلية والعقلية، ثم سافر إلى حلب" (¬1). ¬

_ (¬1) في هذه الفقرة لبس يؤدي إلى اضطراب المعنى؛ فالذي ينصرف الحديث إليه في أولها (الذي كان فقيراً) هو الشيخ علي الذي قدم دمشق مع جيش إبراهيم باشا وفتح دكاناً في خان الجمرك ثم تركه وعاد إلى مصر، أما الذي "حفظ هنالك القرآن" فهو الشيخ محمد الذي بدأت المقالة بالحديث عنه (الذي وصل إلى دمشق سنة 1255)، والإشارة في قوله "حفظ هنالك القرآن" تعود إلى طنطا التي وُلد فيها، وهذه هي ترجمته التي أُخذت منها النصوص التي وضعها جدي بين أقواس: "محمد بن مصطفى الطنطاوي مولداً الدمشقي موطناً الشافعي مذهباً، ولد سنة إحدى وأربعين ومئتين وألف في بلدة طنطا من أعمال مصر القاهرة، ونشأ يتيماً في حِجر أخيه الأكبر، وحفظ القرآن المجيد وحصل بعض العلوم العقلية والنقلية في =

ويظهر أن حلب كانت مثابة للعلم والفن؛ فهذا الرجل قد قصدها لتلقّي العلم عن علمائها، وبعضُ كبار أهل الفنّ أمّوها لأخذ الفن عن موسيقيّيها، ومن هؤلاء محمّد عبد الوهاب كما ذكر عن نفسه. ومصادرُ الغناء اليوم -فيما أعلم أنا- هي الموشحات الأندلسية، والأدوار والأغاني المصرية، والقدود الحلبية، والمقامات العراقية، والعتابا والمواويل السورية واللبنانية. كيف ذهب إلى حلب؟ ولماذا؟ لا أعلم وقد "قرأ في حلب على الشيخ أحمد الترمانيني وغيره وأجازوه". وهذه الإجازات كانت بمثابة الشهادات الجامعية اليوم، "وكان من طريقتهم أن الشيخ يمتحن الطالب فيما قرأ ثم يجيزه به. والإجازات على درجات: منها الإجازة العامّة ومنها الإجازة الخاصّة، وليس للإجازة العامّة اعتبار الإجازة الخاصّة، بل كان العلماء يستنكفون عن العمل بها" (¬1). ثم قدم دمشق سنة 1255 "فأقام بها خمس سنين، وتلقى الطريقة النقشبندية عن الشيخ محمد الخاني الكبير، وبقي نزيله هذه المدّة". وكذلك كان يصنع العلماء الأغنياء؛ يُنزِلون ¬

_ = جامع السيد البدوي، ثم سافر إلى حلب وقرأ على الشيخ أحمد الترمانيني وغيره وأجازوه، ثم قدم دمشق سنة 1255 فأقام بها خمس سنين وتلقى الطريقة النقشبندية عن الشيخ محمد الخاني الكبير وبقي نزيله هذه المدة، وحضر كثيراً من دروس محدّث الشامالشيخ عبدالرحمن الكزبري والعلامة الشيخ سعيد الحلبي والعلامة الشيخ عبد الرحمن الطيبي، ثم عاد إلى مصر سنة 1260 واشتغل في الجامع الأزهر خمس سنين أيضاً، ثم رجع إلى دمشق سنة 1265 وقد أتقن كافة الفنون وصار آية باهرة في المعقول والمنقول" (مجاهد). (¬1) من كتابي «الإمام النووي» في سلسلة «أعلام التاريخ».

الطالب ويعلّمونه وينفقون عليه، كما كان يصنع الإمام محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) مع أسد بن الفرات وغيره. وقرأ على محدث الشام في تلك الأيام الشيخ عبد الرحمن الكزبري، أستاذ الأساتذة، والشيخ سعيد الحلبي، والشيخ عبدالرحمن الطيبي، وهؤلاء كلهم أعلام يعرفهم أهل الشام. ثم عاد إلى مصر ولزم الجامع الأزهر خمس سنين قرأ فيها على الشيخ إبراهيم الباجوري، شيخ الجامع الأزهر صاحب الحواشي المشهورة، والشيخ إبراهيم السقا خطيب الجامع الأزهر، والشيخ محمد الخضري الكبير، وهو فقيه عالِم بالعربية والفلسفة والعلوم، وهو رجل عبقري أصابه الصمم فاخترع طريقة للكلام بإشارات اليد وعلّمها مَن حوله، فكان يخاطبهم ويخاطبونه بها، وقد تلقّى جدنا عنه العلوم الرياضية والفلك. ثم رجع إلى دمشق واتخذ له حجرة في مسجد «سيدي صُهَيب» في أول حيّ الميدان، فكان يعلّم فيها نهاره كله. واستمر في ذلك سنين حتى دعاه الأمير عبد القادر الجزائري، فدخل البلد واستأجر له داراً واسعة (وهي الدار التي آلت فيما بعد إلى المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني وتُوفّي فيها)، وعيّن له معاشاً وأرسل إليه أولاده ليُقرِئَهم، فاتخذ حجرة في المدرسة البادرائية (ولإنشاء هذه المدرسة قصّة طريفة ليس هذا موضعها) فكان يعلّم فيها أولادَ الأمير وغيرَهم من طلبة العلم. قالوا: "وكان مشاركاً في كل علم وله فيه تدقيقات وتحقيقات، ومن آثاره «البسيط» الموضوع في منارة العروس، وهي المنارة الرئيسية في الجامع الأموي".

وكان هذا البسيط من صنع ابن الشاطر، وهو فلكي رياضي كان رئيسَ المؤذّنين في الجامع الأموي وله مؤلفات في الفلك معروفة ومشهورة، وكان مولده في سنة 704هـ في دمشق وتُوُفّي فيها سنة 777هـ. وبقي هذا البسيط صالحاً إلى سنة 1292هـ، فطرأ عليه خلل فكلّفوا جدنا بإصلاحه فانكسر في يده، فشنّع عليه ناس من أهل الشام وهجاه الشيخ عبد السلام الشطي رحمه الله بقصيدة مطلعها: «كسَرَ البسيطَ برأيِهِ المعكوسِ». وكان الأمير عبد القادر يتصرّف كأنه حاكم، فأمر به فأقيم عليه حدّ القذف (أو ما يشبه هذا، فما أروي إلاّ ما سمعتُه)، ولا أتّهم في هذا بريئاً ولا أدافع عن معتدٍ، وقد ذهب الجميع إلى لقاء ربهم، والأمير معروفٌ جهاده ومعلومةٌ مناقبه، والشيخ عبد السلام عالِم من أسرة علم، فغفر الله لمن أساء وعوّض مَن أُسيء إليه. وقد صنع جدنا بسيطاً آخر أجود من الأول، حسبه على الأفق الحقيقي وزاد فيه قوسَ الباقي للفجر، ووُضع في مكانه في يوم مشهود. وقد نظم الشيخ الخاني قصيدة عارض فيها قصيدة الشطي مطلعها: صنَعَ البسيطَ بغايةِ التأسيسِ ... شيخُ الشآمِ رئيسُ كلِّ رئيسِ وأرّخ لذلك على طريقة حساب الجُمّل، في آخر بيت فيها، فقال: ما قالَ أهلُ الشامِ في تاريخِهِ ... تمَّ البسيطُ بنفحةِ القُدّوسِ أي سنة 1293. ثم صَنع بسيطاً آخر لجامع الدقّاق الذي يؤم

فيه ويخطب شيخُنا الشيخ بهجة البيطار. وكان يعيش على الراتب الذي يأخذه من الأمير، فلما مات الأمير جعلت له الحكومة راتباً فلم يأخذه ونهى ولديه عن أخذه. ولست أدري لماذا، ولا أعرف لرفضه وجهاً شرعياً، ولا من باب الورع، فالحديث صريح بجواز أخذه، بل بالحثّ عليه. وجعل يبيع كتبه (وهي أعز شيء عليه) ويعيش منها، حتى توفّاه الله آخر ربيع الثاني سنة 1306هـ "وصُلّيَ عليه في الجامع الأموي بمشهد عظيم، ودُفن في مقبرة الباب الصغير". وترك كتباً صغيرة أكثرها في الفلك والرياضيات منها «حساب البسيط ورسمه»، «حساب الربع ورسمه»، «كشف القناع عن معرفة الوقت من الارتفاع». وله -كما قالوا- "تقريرات على كافة الكتب التي أقرأها مشتملة على حلّ مشكلات وإيضاح مبهَمات"، رحمه الله. * * * وأنا أكتب هنا للحق وللتاريخ، فلا أستطيع أن أختم الكلام عن جدنا من غير أن أعرض إلى أمرٍ صَنعه، ما أدري: هل أحسن فيه أم أساء؟ هو أن الأمير عبد القادر العالِم المجاهد كان (وليته لم يكُن) ممن يقول بوحدة الوجود، وشيخُ القائلين بها ابن عربي (¬1) وأكبر كتبه «الفتوحات المكّية»، وكان منه نسخة كاملة في قونية بخطّ المؤلّف، فبعث الأميرُ جدَّنا الشيخ محمداً وتلميذه ¬

_ (¬1) قالوا في المشرق «ابن عربي» ليميَّز من «ابن العربي» الإمام الفقيه المحقق المعروف.

الشيخ محمد الطيب (المدفون في المزّة في أجمل بقعة منها) إلى قونية لنسخ صورة عنها وطبعها. هذا هو الذي صنعه. وللأمير عبد القادر الجزائري كتاب اسمه «المواقف» مملوء بمذهب وحدة الوجود، ألزمت وأنا صغير بالمشاركة بتصحيح تجارِب طبعه، فلما رأيت ما فيه استعذت بالله وتركتُه. ولقد كتبت في «الرسالة» من أكثر من أربعين سنة أن كُفْر كفّار قريش ليس أكثر ممّا في هذه الكتب، فقام عليّ مشايخ من مشايخي وكانت بيني وبينهم مناظرات، ثم اقترحت اقتراحاً أعيد ذكره الآن: إن ابن عربي واحد من الكتّاب الخمسة الذين هم أعظم كتّاب العربية: هو والجاحظ وأبو حيّان التوحيدي والغزالي وابن خلدون. وهو فيلسوف لا يبلغ سبينوزا إلا أن يكون تلميذاً له، وكتابه «الفتوحات» كتاب عظيم، ولكن يفسده ويذهب بخيره ويمحو جماله ما فيه من كلام لا يُشَكّ في أنه كفر، وأنه أخذ الأفلاطونية الجديدة لأفلوطين فجعلها من الدين. والاقتراح هو أن نأخذ الفتوحات، فنمحو منها هذا كله (وهذا كله لا يبلغ عُشْرَ الكتاب) ثم نطبعه طبعة جديدة ونكتب على غلافها «مهذَّب الفتوحات» فنستفيد منه ونستمتع بالخير فيه ونسلم ممّا فيه من الشر. فما رأيكم دام فضلكم؟ * * *

جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

-18 - جدي الشيخ أحمد الطنطاوي تكاثرَتِ الظّباءُ على خِراشٍ ... فما يدري خِراشٌ ما يَصيدُ هذا هو مثالي اليوم. وأنتم تعلمون ممّا بقي في أذهانكم من دروس البلاغة (إن كان قد بقي فيها شيء منها) أن المشبَّه لا يكون كالمشبَّه به في جميع صفاته، بل فيما هو «وجه الشبه». فإن سمعت مغنياً يقول: «يا غزالاً صادَ قلبي» لا تتصوّر أن لهذه الحبيبة التي صادت قلبه ذنَباً كذنَب الغزال أو أنها تمشي على أربع! وإن شبّهوها بالقمر ليلة أربعة عشر لم نتصور وجهها دائرة كاملة كوجه القمر، ولا أنه مثله -كما زعموا- فيه الصخر والحجر! أنا مثل خراش في تردّده وحيرته، لا في خَلْقه وصورته، لأنه كما تعرفون (أو كما لا تعرفون) كلب وأنا بحمد الله بشر. وإن كان في البشر من يَحسُن به أن يعود فيقرأ كتاب «تفضيل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب». * * * لقد وصلت في هذه الذكريات إلى مفرق الطرق، ففتحت أمامي مسالك لا أستطيع أن أمشي فيها كلها معاً وأحار فلا أدري

أيها أختار: هل أكمل الكلام عن مكتب عنبر وعن أساتذتي فيه؟ أم أتكلم عن نهضة المشايخ؟ أم الثورة السورية؟ أم أُتمّ ما شرعت فيه في الحلقة السابقة ليتصل الحديث ويتسق؟ أتمّ ما شرعت فيه. قلت لكم إن الذي قدم الشام من طنطا في مصر هو الشيخ محمد، وقد جاء معه أحمد ابن أخيه الكبير (¬1). والشيخ أحمد هذا هو جدي الذي تُوفّي سنة 1914، وفي ذاكرتي عنه بقايا صور قليلة ولكنها واضحة، وكذلك تكون الصور التي ترتسم في عهد الصغر. ولقد ساءلت نفسي: لماذا أحدث القرّاء عنه وما انتفاعهم بهذا الحديث؟ ثم رأيت أنه كان «نوعاً» من الشخصيات لا يخلو من طرافة أو غرابة، ثم إنه جدي والكلام عنه حلقة لا بدّ منها في سلسلة الذكريات. كان جدي «إمام طابور» متقاعداً في الجيش العثماني. وكان للوعّاظ والأئمة في هذا الجيش رُتَب مثل رُتَب الضبّاط وأعلاها رتبة «مفتي ألاي»، وأحسبها تقابل وظيفة قاضي العسكر قديماً. ¬

_ (¬1) أي ابن علي. وقد روى عمّ أمي الشيخ سعيد الطنطاوي (وهو أصغر إخوة جدي) أن جدّ جدي أحمد هذا قد صحب عمَّه محمداً في قَدْمته الثانية إلى الشام لا في قَدمته الأولى. وقد علمتم -ممّا مضى- أن الشيخ محمداً جاء إلى دمشق في المرة الأولى سنة 1255 فمكث فيها خمس سنين، ثم عاد إلى مصر فبقي هناك مثلها وعاد إلى دمشق سنة 1265، فعندئذ وصل معه ابن أخيه أحمد الذي هو جد جدي علي الطنطاوي، رحم الله الجميع (مجاهد).

ولا أعرف أنا ممّن نالها إلاّ الشيخ رضا الزعيم، وهو رجل يستحقّ أن أقف عليه وقفة قصيرة، فقد كان صادقاً مع الله، صدّاعاً بالحق، جريئاً جرأة نادرة المثيل، وكذلك كان ولداه: الولد الصالح هو الصديق الداعي إلى الله الشيخ صلاح الدين رحمه الله، والولد الـ ... وهو «المشير ...» حسني الزعيم، الذي ابتدع في بلاد العرب بدعة الانقلابات العسكرية سنة 1949، وإن كان قد سبقه الفريق بكر صدقي في بغداد سنة 1936 بانقلاب جزئي غير كامل. وقد حضرت الانقلابَين، وربما تكلمت عنهما. شارك الشيخ رضا في حرب «الترعة» لمّا أعدّ جمال باشا -بأمر جماعته الاتحاديين وضغط حلفائهم الألمان- حملة حشد لها ما استطاع من العَدد والعُدد لاجتياز «ترعة السويس» وتحرير مصر من الإنكليز. خطب الشيخ رضا الجندَ وذكّرهم الله، ودعاهم ليصحّحوا نياتهم في الجهاد. وتلك سنّة المسلمين قبل كل معركة ليخوضها الجندي على بصيرة، فإذا مات لم يخسر الدنيا بالموت حتى يكون قد ربح الجنة بالشهادة. وهذا ما يجب أن يعرفه كل جندي مسلم وكل فدائي وكل من يتعرض للمنايا، ينال إن ظفر الثواب ويحظى إذا قُتل بالشهادة. وليس الشهيد الذي يقاتل لمجرد استرداد البلد السليب ولا الذي يموت خدمة للعَلَم ولا تضحية للوطن ولا دفاعاً عن مجد العروبة، بل الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله ويموت في سبيل الله. ولو كان هذا قولي أنا لما ألزم أحد منكم باتباعه، ولكنه قول من يُلْزَمُ باتباعه كل واحد منكم: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لم يخطب الشيخ رضا الجندَ ليحمّسهم ويدفعهم إلى الموت ثم يأوي إلى خيمته ليأكل وينام، بل خطبهم وصاح «الله أكبر» وأقدم، فطارت به قنبلة مدفع من مدافع الإنكليز، فما وجدوا له جسداً يُدفَن، لم يُقَمْ له قبر ولكن أقيم له في قلوب الناس حُسن الذكر، وثبت له عند الله جزيل الأجر، وهذا دعاء لله وليس تألّياً على الله. * * * أعود إلى حديث جدّي. كان جدّي نظامياً بطبعه، وزاده عمله في الجيش التزاماً بالنظام وحرصاً على الترتيب، فكانت حياته كحياة تلميذ في مدرسة داخلية، كل حركة فيها بحساب وكل عمل له وقت. فكأنها كانت -على طولها- يوماً واحداً يتكرر؛ منامه في موعد محدّد، وقيامه في موعد محدّد. كانوا يومئذٍ يأكلون مرتين فقط، الفطور بعد صلاة الفجر، والعَشاء بعد العصر. كان عَشاءً مبكّراً أو غداء متأخراً، فليس المهمّ الاسم، بل أن يكون الساعة الثامنة الغروبية (إذ لم يكُن التوقيت الزوالي مألوفاً) (¬1)، لا يتقدم عنها ولا يتأخر، إلاّ إذا خرجَت الأرض عن مدارها أو أسرعَت في مسارها، أو غابت الشمس قبلَ حين غيابها. وطالما كان يُولِم الولائم يدعو إليها كبار قادة الجيش أو وجهاء البلد، فإذا بلغت الساعة الثامنة باشر الأكل مع من حضر، وإن لم يحضر أحدٌ شرع يأكل وحده. ¬

_ (¬1) الساعة الغروبية يعاد ضبطها في لحظة الغروب كل يوم على الثانية عشرة. ومعنى هذا أن وقت عشاء الشيخ أحمد الطنطاوي كان قبل الغروب بأربع ساعات، سواء أكان الوقت صيفاً أم شتاء (مجاهد).

إنه مثل كانط الذي كانت تُضبَط الساعة على موعد خروجه من داره، وإن كان ابن بلده هاينه يقول إنه ليس إنساناً يَشعر بل آلة تتحرك، وشاعرنا (أظن أنه حافظ إبراهيم) (¬1) يقول: ولذيذُ الحياةِ ما كانَ فوضى ... ليسَ فيهِ مسيطرٌ أو نظامُ والله أعلم بصحّة ما قاله. * * * سكن جدي أولاً مع عمّه في داره الكبيرة وتزوّج ابنته (¬2)، لذلك كان أبي يُعرِّف نفسه بأنه «سبط الطنطاوي» أي ابن بنته. وكان أهل الشام يحرصون على اجتماع الأسرة كلها في الدار الواحدة، الجد والجدّة والأولاد وزوجاتهم وأبناء هؤلاء الأولاد وبناتهم، لكل منهم جانب من هذه الدار الواسعة، وكلهم يأكل من قِدْر واحدة، تغرف كل أسرة صغيرة وتذهب بطعامها إلى ¬

_ (¬1) هو حافظ إبراهيم، وعجز البيت في الديوان: «ليس فيها مسيطر أو أميرُ» (مجاهد). (¬2) خلاصة القصة أن الذي جاء من مصر هو الشيخ محمد بن مصطفى، جاء إلى الشام سنة 1255 فأقام بها خمس سنوات ثم عاد إلى مصر. وكان لهذا الشيخ أخ كبير اسمه علي هو الذي ربّاه بعد موت أبيه صغيراً (في ترجمته أنه نشأ يتيماً في حِجر أخيه الأكبر)، وحين قدم إلى الشام مرة ثانية في عام 1265 جاء معه بابن أخيه علي هذا، واسمه (أي ابن الأخ) أحمد. وكانت للشيخ محمد بنت اسمها مريم فزوّجها ابنَ أخيه أحمد، فولدت له ولداً سمّاه مصطفى، وهو أبو جدي علي الطنطاوي، رحمهم الله (مجاهد).

غرفتها. وكان عمل الدار مقسّماً بين نسائها، لكل واحدة يوم في الأسبوع أو يومان أو ثلاثة، تبعاً لكثرتهن أو قلّتهن. وإذا اجتمعوا عند الجدّ قعدوا متأدبين خاشعة أصواتهم، لا يخالفون له أمراً ولا يجرؤون عليه بطلب ولا يبدؤونه بحديث، بل إنني سمعت من أبي (كما سمعت عنه من أصحابه بعد وفاته) أنه لا يعرف ما لون عينَي أبيه لأنه لم يرفع بصره إليه قط. ولست أحبّذ هذا الذي أصفه ولا أرى أنه هو الصواب، ولكن أذكر ما كان. أما الذي أحبّذه وأرجو أن نحافظ عليه، فهو ألاّ ننسى أن ابن العمّ أجنبي عن ابنة عمّه، ولو جمعتهما الدار الواحدة، وأنه إن جاز (عند الحاجة) أن تشاركه مجلسَ الأسرة فلا يجوز في دين الله أن تكشف أمامه عن أكثر من الوجه والكفين ولا أن تنفرد به، وعليه أن يغضّ عنها بصره وتغضّ هي بصرها. وكانت تقع الخصومات وتحدث المشكلات بين أطفال هذه المجموعة فتنتقل إلى الأمهات، وقد يشارك فيها الآباء. وهذا شيء ما منه بد حتى لو انفرد الرجل بزوجته وولده. ولو خلت دار من مثل هذه المشكلات لخلت منها أشرف دار قامت على ظهر هذه الأرض، دار رسول الله عليه صلاة الله، فقد كانت فيها أشياء منها. ولكنها كانت كاصطدام الغصن بالغصن في الدوحة الباسقة والموجة بالموجة في البحيرة الصافية، وأصلُ الشجرة واحد وماء البحيرة واحد، ولكنها ريح الصبا هبّت في الأصيل فأزاحت الملل وجاءت بالأمل. وهل الحياة إلاّ الحركة، وهل في الحركة غالباً

إلاّ البركة؟ خلافٌ ولكنه على السطح، وما في الأعماق إلاّ الألفة والاتفاق. وكان جدي يحب أن يكون له المكان الأول، وهو في هذه الدار الكبيرة لا يكون إلاّ الثاني، لذلك استأذن عمه وانفرد بنفسه وأهله، وأخذ داراً صغيرة (دُويرة) من أملاك وقف جامع التوبة. وفي دمشق مسجد جامع يُعَدّ من مساجد الإسلام الكبار، بل هو أكبرها وأقدمها بعد الحرمَين: وهو الجامع الأموي. ومساجد تليه، في كلّ حيّ من أحياء دمشق، جامع التوبة لحيّ العقيبة وما والاها، ومسجد القصب للعمارة وباب السلام (وكان اسمه باب السلامة)، وجامع السنانية (¬1) لباب الجابية وما اتصل به، وجامع باب المصلّى، حيث كان مصلّى العيد في أول ميدان الحصى، وجامع منجك، وجامع الدقّاق للميدان، وجامع الشيخ محيي الدين، وجامع الحنابلة، وجامع الشيخ عبد الغني النابلسي، وجامع ركن الدين وهي لأحياء سفح قاسيون، وجامع تنكز، وجامع يلبغا، في المرجة أو بجوارها. وحيّ العقيبة حيّ صغير فقير في طرف دمشق، وفي طرفه ثلاث حارات، أو لعل كلاً منها مجموعة حارات. أولها «الديمجيّة»، أي صُنّاع الديما. ولو نظرتم في كتاب «قاموس الصناعات الشامية» للقاسمي لرأيتم أنه كان في الشام صناعات جليلة أصيلة نسيناها، بل لقد نسينا اليوم أسماءها. ورحم الله القاسمي الذي ألهمه الله تأليف هذا الكتاب في وقت لم يكُن يهتم ¬

_ (¬1) الذي بناه سنان باشا أعظم مهندس في العهد العثماني.

فيه أحد بمثل هذه الموضوعات، وشكراً لأخينا الأستاذ ظافر (رحمه الله) أن طبعه ونشره (¬1). كان في الشام أقمشة تُنسَج على المنوال وتُباع قطعاً، كل قطعة لثوب واحد، تُسمّى «الصاية». منها الرخيص المصنوع من القطن ونحوه وهو «الديما» والغالي من الحرير وشبهه وهو «الألاّجة»، وهو القماش المخطّط اللمّاع الذي تُصنَع منه «قفاطين» المشايخ في مصر، وكنا نلبسه في الشام في الأعياد. تتعدّد فيه ألوان القماش والخطوط المرسومة على القماش وأشكال هذه الخطوط فيكون منه عشرات وعشرات من الأنواع، وهو متين يكاد يعيش مع لابسه شطر عمره ولا يبلى. فالديمجي هو صانع الديما. ولما درّسونا التركية أيام الحرب الأولى علّمونا أن النسبة إلى الصناعات تلحقها غالباً جيم قبل ياء النسبة، فنقول: بندقجي وكندرجي، وإلى البلدان بزيادة لام قبلها، فنقول: إزميرلي (نسبة إلى إزمير) وأورفلي (نسبة إلى أورفا، وأورفا هي الرُّها قديماً). وأنا أكتب هذه الذكريات كلها من ¬

_ (¬1) كان الشيخ محمد سعيد القاسمي (وهو من علماء دمشق) من العارفين بالصناعات الشامية، فأنشأ كتاباً فيها سمّاه «بدائع الغُرَف في الصناعات والحِرَف» جعله مرتّباً على حروف المعجم، فلما بلغ أواخر حرف السين توفي، فأتمّه ابنه الشيخ جمال الدين (صاحب التفسير) مشترِكاً مع خليل أسعد العظم وأسمياه «قاموس الصناعات الشامية». وللشيخ محمد سعيد كتاب نفيس آخَر في دمشق اسمه «حوادث دمشق اليومية». والأستاذ ظافر القاسمي الذي نشر كتاب الصناعات هو ابن الشيخ جمال الدين (مجاهد).

ذهني ما عندي شيء مكتوب أرجع إليه وأعتمد عليه، فإن أخطأت أو بدّل الترك ما تعلمناه يومئذٍ من قواعد لسانهم فسامحوني. وإلى جنب الديمجية حارة تُسمّى «حارة تحت المئذنة»، كان فيها من مشايخنا ومن أصدقائنا الشيخ أبو الخير الميداني والشيخ محمود ياسين الحمامي. وحارة اسمها «السمّانة»، وهي أكبر من حارة، إنها حيّ صغير. وبينهما طريق ضيّق متعرج يضل فيه الخرّيت (¬1)، لذلك كان اسمه الذي يُعرَف به بين الناس هو «محلّ ما ضيّع القرد ابنه»! وفي حارة السمّانة كان منزل آل الزعيم، ومنزل رفيقَي العمر: الشاعر أنور العطار والأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمهما الله. وكان في دمشق (كما كان في أكثر البلاد) أحياء وحارات يتجمع فيها أرباب الصناعة الواحدة فتُعرف بهم وتُنسَب إليهم؛ ففي الشام سوق القطن، وسوق الحبوب، وسوق الحرير، وسوق الصاغة، والحدادين، والمناخلية، وسوق النحّاسين. وقد وجدت في «فتوح البلدان» للبلاذري أن «قصر البَريص» (¬2) كان -كما يقول- في موضع سوق النحّاسين مقابل باب الفرج. وباب الفرج هو باب المناخليّة، وهما بابان: باب في السور الداخلي وآخر في ¬

_ (¬1) الخرّيت: الخبير بالطرق. وخالد بن عبد الله القسري أمير العراق المشهور كان يُلقّب في شبابه بخالد الخرّيت، كما قال أبو الفرج في الأغاني. (¬2) إذ كانوا كما يقول حسّان: يُسقَونَ مِنْ قصرِ البَريصِ عليهمُ ... برَدى يصفّقُ بالرحيق السّلْسَلِ

السور الخارجي، وهما باقيان إلى الآن. فالسوق إذن في موضعه الذي كان عليه قبل الإسلام. وسوق القباقبية حيث تُصنَع القباقيب، وقد كان في موضعه «الدار الخضراء» دار معاوية وأكثر الخلفاء من بني أمية، جنوبي الجامع ووراء جدار القبلة، ولا يزال الباب الذي كان يدخل منه الخلفاء إلى المقصورة ظاهراً ولكنه مسدود. أما عمر بن عبدالعزيز فقد كانت داره في موضع المدرسة السميساطية شمالي الجامع، وهشام كانت داره في موضع مدفن نور الدين زنكي في سوق الخياطين. * * * كل ما في الدنيا يولد ويموت، يقوى ويضعف، يعزّ ويذلّ؛ فالدار الخضراء التي كانت يوماً عاصمة الدنيا وسرّة الأرض، ومنزل الخلفاء من بني أمية الذين كانوا يحكمون ما بين قلب فرنسا وقلب تركستان وأطراف باكستان، وكانت محط الآمال ومطمح أنظار الرجال، صارت سوقاً للقباقيب! ولم يبقَ من اسم الخضراء إلا مصبغة صغيرة تحت الأرض، هي المصبغة الخضراء! * * *

عود للحديث عن مكتب عنبر

-19 - عود للحديث عن مكتب عنبر أعود إلى الحديث عن مكتب عنبر. ولعلي لا أخطئ إن قلت إن الحديث عنه وعن أساتذتي فيه أشهى إلى النفس من الحديث عن داري وأهلي فيها. ولقد فكّرت أن لماذا أحنّ إلى الماضي؟ لماذا أجد كلّما سمعت في الإذاعة أو قرأت في الصحف حديثاً مع شيخ مثلي عالي السن، لماذا أجده يفضّل أيامه الخوالي على الحواضر من أيام الناس؟ هل كان الأمس دائماً خيراً من اليوم؟ هل كانت الأخلاق كلها أفضل، والناس جميعاً أكمل، والحياة بكل ما فيها أجمل؟ هل كان الطلاّب كلهم أكثر جداً واجتهاداً، وكانت المناهج أغنى بالعلوم وأحفل؟ هل كان المدرّسون جميعاً أعلم بما يدرّسون من مواد، وكانوا أشد إخلاصاً وأكثر عناية بالطلاب وحرصاً على نفعهم؟ وهذا يجرّني إلى سؤال، لا أجيب عنه الآن بل أدع جوابه لحلقات آتيات من هذه الذكريات، هو: هل كان علماء القرن الذي ودّعناه من قريب خيراً من علماء اليوم؟

أمّا الحنين إلى الماضي فهو شيء طبيعي؛ لأن الإنسان لا يعرف قيمة النعمة إلاّ عند فقدها: الطعام الآن أمامك والشراب البارد تحت يدك، فهل تقدّرهما كما تقدرهما وأنت صائم في نهار الصيف الطويل؟ هل تعرف نعمة الأمن إلاّ عند الخوف، والصحة إلاّ عند المرض، والإقامة إلاّ عند السفر؟ كذلك الشيخ لا يعرف قيمة الشباب إلاّ عند فقده. الشباب في الشام والعراق لهم نشيد مشهور هو «نحن الشبابُ لنا الغدُ»، فما لنا نحن الشيوخ غير الأمس؟ لذلك نأسى عليه ونحنّ إليه. ومن هنا سَمّى العربُ الشيخَ الكبير «الكُنْتيّ»، لأنه يكثر أن يقول: كنت وكنت ... * * * أما المناهج فلقد درسنا في الثانوية من المواد ما يدرسه الطلاب اليوم، ودرسنا ما لا يدرسه الطلاب اليوم، كعلم آداب البحث والمناظرة والطبوغرافيا (أي علم التخطيط ووضع الخرائط) والحساب التجاري (وكنا نسميه علم «مَسك الدفاتر»، أي المحاسبة)، ودرسنا في الكيمياء والفيزياء والفلك آخر ما وصل العلم إليه في أيامنا. ولكن العلم تَقدّم واتّسع، ولقد شاهدت من سنين درس كيمياء في الرائي فرأيت شيئاً جديداً، ولقد سألت صاحبه أن يعلّمنيه أو أن يدلّني على كتاب مفهوم أتعلّم منه، فحَسِب أني أمزح وأخذها على أنها نكتة! وما كنت مازحاً بل كنت جاداً كلّ الجدّ، فأنا أحب أن أتعلم كلّ شيء. أما إقبالنا على العلم فقد كان أكبر من إقبال الطلاب الآن

من غير شك. وسبب ذلك أمران. الأول: أننا كنا في بداية يقظة فكرية جاءت بعد نوم طويل، والثاني: أنه لم تكُن عندنا هذه الصوارف التي تصرف الطلاب عن العلم والمعلّمين عن حسن الاستعداد للتعليم. ما كانت إذاعات، ولا كان هذا الرائي ولا كان شريط التسجيل، ولا كانت هذه المجلات، ولا كانت الأسفار بالطيارات ولا الجَولات في السيارات ... نعم، كان عندنا داران للسينما الصامتة لا يدخلهما إلاّ من سفه نفسه. وكانت دمشق -عدا المرجة وما حولها، وباب توما والقصّاع وهما مسكن النصارى- كانت تنام من بعد صلاة العشاء. حتى المقاهي الشعبية لم يكُن يسهر روادها إلى أكثر من الساعة الثالثة أو الرابعة (بعد غروب الشمس) يستمعون إلى الحكواتي أو يشاهدون «كراكوز» (¬1) وهو خيال الظل، ثم يمضون إلى بيوتهم. وما وراء ذلك من اللهو لم أكُن أعرفه. وأما المدرّسون فكان منهم أئمة في المواد التي يدرّسونها؛ كالمبارك الذي سقت طرفاً من حديثه والجندي الذي جئت أتحدث عنه، ومنهم أساتذة ما بلغوا هذه المنزلة، ومنهم من هو أقرب إلى العامية، ومنهم السيّئ، وحسبكم مثالاً على ذلك: مدرّس رسم جاءنا به الفرنسيون، وهو ولد خليع ماجن أبوه صاحب خمّارة، ولكن الطلاب أصلَوه من هزئهم به واحتقارهم ¬

_ (¬1) ومعنى الكلمة بالتركية العين السوداء، أي صاحب العين السوداء. ولخيال الظل في كتب الأدب والتاريخ حديث طويل، وقد عرض لذكره الإمام الغزالي. وأشهر من كان يؤلّف رواياته وينظم أناشيدها ويلحّنها ابن دانيال طبيب العيون.

إياه ناراً دفعه لهيبُها إلى باب المدرسة فولّى هارباً. أما مدرس الرسم الذي لا يُنسى فهو الأستاذ عبد الوهابأبوالسعود. وما كنا نبالي الرسم ولا نُقيم له وزناً، ولا كان القائمون على التعليم يعدلونه بالعلوم الأخرى. ولكن عبد الوهاب يضطرّ جليسه أن يباليه وأن يلتفت إليه، فكيف بمن هو تلميذه؟ لقد كان أحد روّاد التمثيل الأوائل، وكانت له فرقة للمسرح والموسيقى أخوه يتولّى الجانب الموسيقي منها. وكانت تنازعه فرقة العطري، وما كان أطرفَ ما يأتي منه حين يُذكَر له هذا المنافس! فقد كان يمثّل كأنه على المسرح ويأتي بمبالغات وعجائب. ولقد رأيناه في روايات كثيرة مترجَمة عن الأدب الفرنسي ممثّلاً مجوداً على طريقة يوسف وهبي. أمّا في الرسم فأشهد أنه فنان بارع، وهو أول من رسم (من خياله) صورة المعرّي وأبي نواس، وطُبعت وتداولها الناس، وله لوحة بارعة لسوق عكاظ كما تخيّلها. وكانت في دمشق مجلة هزلية لصحفي (حقيقي) اسمه حبيب كحالة، هي مجلة «المضحك المبكي» ينشر في كل عدد منها صورة كاريكاتورية في الموضوع الذي يشغل الناس، تبقى الأسبوع كله حديث البلد، وبطلها تاجر وجيه اسمه «أبو درويش سويد»، عبقري في ابتكار النكتة، ما رأيت له مماثلاً ولا في مصر، بلد النكتة كما يقولون. أما اللغة الفرنسية فقد درسناها كما يدرسها الطلبة الفرنسيون في فرنسا، المناهج هي المناهج والكتب هي الكتب. وكان يعلّمنا الفرنسيةَ أول عهدنا بمكتب عنبر رجل فرنسي عجوز له لحية

بيضاء طويلة، وهو أحمق لا يضبط صفاً (أي فصلاً) ولا يُصغي إلى درسه أحد، وكان يسكن الدار المواجهة للمدرسة، يؤذيه الطلاب فيتحمّل الأذى صابراً، اسمه المسيو ميشيل. ثم جاءنا مدرّس لبناني نصراني، قصير القامة غريب الشكل، له شاربان دقيقان مفتولان يأتيان من تحت منخرَيه ويمتدّان إلى الأمام كأنهما رِجْلا عنكبوت، يخرج صوته من أنفه ويمرّ على شاربَيه، بالكلمة الفرنسية يلحق بها ترجمتها العربية بصوت ثاقب كأنه صوت دجاجة جاءت تبيض فعلقت البيضة بـ ... أعني بمخرجها منها، ولم يطُل -بحمد الله- مقامه بيننا، وصرف الله غلاظته عنا. ثم جاءنا الرجل الديّن المهذّب الأنيق الذي يُضرَب بأناقته المثل، الذي يُحسِن الفرنسية كأحسن أهلها، والذي كان ضابطاً في الجيش العثماني ثم في جيش الشريف الحسين بن عليّ، وبقي معنا حتى خرجنا من المدرسة. وقد تُوفّي من سنتين، هو شكري الشربجي. وجاءنا بعده فرنسي استعماري جاهل بلسان قومه يبدو أنه من أجلاف الريفيّين في فرنسا هو تريس. وكان يدرّس في الفصول الأخرى أستاذ جزائري ندعوه المسيو علي، درست عليه أيام حكم الشريف فيصل قبل ميسلون. وهو رجل رقيق الحاشية حييّ الطبع مهذّب اللفظ، تُوفّي من عشرين سنة. وأستاذ تونسي ندعوه المسيو صالَح (بفتح اللام)، بدين نبيل عظيم الشاربَين جهير الصوت ناريّ الطبع، يؤلّف الجملة الواحدة من كلمات عربية وكلمات فرنسية، يقول "شاكان

يقعد في بلاسه واللي يحكي نعمل له البونيسيون" (¬1). وكانت لهجته تونسية، أخرج طالباً مرة إلى اللوح ليترجم فقال له: "مْلك عْطش ملقاما"، أي "ملك عطش ما لقي ماءً"، سكّن حروفها كلها ودمج كلماتها دمجاً ووصل أوائل تواليها بأواخر أواليها (¬2)، فما فهم الطالب، فغضب وقال: نكلموك بالعربي ما تفهمش؟! وقد درسنا قواعد الفرنسية (الكرامير) ولا أزال أحفظ أكثر ما درست، وفقه اللغة (philologie) والصوتيات (phonetique)، ودرسنا أدبها دراسة عميقة: الأدب الإتباعي (الكلاسيكي) وحفظنا طائفة صالحة من كورناي وراسين وموليير ولافونتين وبوالو، وخطب بوسويه وأقوال لاروشفوكلد ولابرويير. ثم درسنا مونتسكيو وفولتير وديدرو وبوفون، ثم درسنا روسو وشاتوبريان ولامارتين وموسه وصاحبته جورج صاند (¬3) وهوغو، ولا أزال أحفظ قصيدته «نابليون الثاني» وكلماته الرائعة لنابليون عن المستقبل. ودرسنا دوماس وبلزاك وفلوبير وموباسان، ودرسنا مذاهب سانت بوف وتين وبرونتيير في النقد. لكن لا تسألوني اليوم عنها ولا تمتحنوني فيها، فقد مرّ عليّ مُذْ ودّعت الدراسة الثانوية وطويت كتب الفرنسية ثلاثٌ وخمسون سنة (¬4). ¬

_ (¬1) شاكان «chacun» أي كل واحد، بلاسه أي محله، البونيسيون «punition» أي العقوبة. (¬2) الأوالي: الأوائل. (¬3) هي أديبة معروفة تسمّت باسم رجل هو جورج صاند، وكانت صاحبة موسه كتب عنها وكتبت عنه. (¬4) من سنة 1928 إلى الآن.

وأنا من الأصل لم أُحسِن النطق بها لأني كنت أضنّ بكرامتي أن أخطئ فيسخر السامعون مني، لذلك أقمت في مصر سنوات (متفرقات) وفي العراق سنوات وفي لبنان سنة، ولي في السعودية الآن نحو عشرين سنة متصلة، وما تعلّمْت في ذلك كله شيئاً من لهجات هذه البلاد ولا بدّلت من لهجتي شيئاً، أما السبب فهو الذي ذكرت. * * * أما أجلّ ما استفدته من مكتب عنبر فهو التمكّن من العربية وعلومها، والعفو منكم فما أقول هذا ادّعاءً ولا فخراً، ولكن تحدّثاً بنعمة الله عليّ. وأكبر الفضل في ذلك بعد الله للمبارك والجندي. أُقيمَت حفلة تأبين للجندي في جامعة دمشق سنة 1955، ألقَيتُ فيها كلمة طويلة كان ممّا قلت فيها: "فهمت أنه قد مضى الرجل الذي لم يبقَ تحت أديم السماء -فيمن أعرفه أو أسمع به من الناس- مَن هو أعلم منه بلسان العرب اشتقاقاً ونحواً وبلاغة وعَروضاً ورواية وضبطاً، ولا مَن هو أوفى لها وأغيَر عليها. وأنه لم يَعُد في ديار الشام من أذهب إليه أنا والأفغاني والعطار كلما دهمتنا عِظام المشكلات في العربية، نحملها إليه ليحلّ لنا عُقَدها. وأن علينا بعد اليوم أن نعتمد على أنفسنا، كما يعتمد الضابط على نفسه حين يفتقد القائد العبقري وسط المعمعة الحمراء. وهيهات أن يسدّ أحدٌ مكان قائد المعركة بين العربية والعجمة، حجّة العرب سليم الجندي".

الثلاثة الذين منّ الله بهم عليّ في مكتب عنبر، فقبست منهم وأخذت عنهم: سلام، والمبارك، والجندي. أما الشيخ عبد الرحمن سلام فهو الذي "جرّأني على امتطاء صهوات المنابر ومقارعة الفرسان في ميادين البيان. والذي كان عجباً من العجب؛ إذا احتاج أن يتكلم في موضوع لم يكُن عليه إلاّ أن يفتح فمه ويحرك لسانه، فإذا المعاني في ذهنه والألفاظ على شفتيه والسحر من حوله، والأنظار متعلقة به والأسماع ملقاة إليه والقلوب مربوطة بحركات يديه. وكان يرتجل الشعر كما يرتجل الخطب، شعراً دون أشعار المطبوعين المجوّدين وفوق شعر الفقهاء. وكان يرمي الكتاب (كتاب النحو) لا يحفل به، ويتكلم من أول الساعة إلى آخرها في اللغة وفي الأدب وفي كل شيء، كأنه كان يريد أن يربّينا على السليقة العربية بالمحاكاة والمران وينفخ فينا من سحره ليجعلنا أدباء قبل الأوان. وأما المبارك فما رأيت (وما أظن أني سأرى) مدرّساً له مثل أسلوبه في الشرح والبيان، وفي امتلاك انتباه الطلاب، وفي نقش الحقائق في صفحات نفوسهم بهذه الضوابط المُحكَمة العجيبة التي تلخّص في جملة واحدة فصلاً من فصول العلم" (¬1). وفي يوم من أيام سنة 1923 دخل علينا الشيخ سلام ولكن لا كما كان يدخل كل يوم، وألقى خطبته ولكن لا كما يُلقي؛ دخل حزيناً وألقى خطبة الوداع، ثم ذهب وذهبَت معه قلوبنا. ¬

_ (¬1) هذا المقطع والذي مرّ قبله في الصفحة السابقة جزء من مقالة «أستاذنا الجندي»، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

وجاءنا مدرّس جديد فقعد على الكرسي، وما كان الشيخ سلام ولا الشيخ المبارك يقعدان أبداً، وفتح كتابه وجعل يقرّر الدرس بصوت خافت لا يكاد يُسمَع. وكان هو الأستاذ سليم الجندي. وكانت صدمة، وكانت خيبة للآمال، وكانت فجيعة. ووصل إليّ «الدور» فأقامني على اللوح، وأملى عليّ بيتين للمعرّي وقال: اقرأ، وفسّر، وأعرب. وانطلقت أخطب في موضوع البيتين خطبة حماسية مجلجلة كما علّمَنا الشيخ سلام، وإذا بالأستاذ الجديد يبتسم ابتسامة أحسَسْتُ كأنها كوب ماء على نار حماستي، بل كأنها سِكّين غُرست في قلبي. وقال بهدوئه الساخر ولهجته التي لها نعومة السكّين وحدّها، قال: بعد، بعد. فسّر أوّلاً معاني الكلمات الغريبة. فوقفت. ثم سألني عن دقائق الإعراب فوقفت وقفة أخرى، فقال لي: أرأيت؟ أتبني الدار قبل نحت الحجارة؟ ورأيتني -حقاً- أبني الدار قبل نحت الحجارة؛ أي أبني دوراً في الهواء! وصغُرت عليّ نفسي بمقدار ما كبُر الأستاذ في نظري. وعدت أبدأ قراءة النحو والصرف من جديد، وكان الكتاب الذي نقرؤه هو «قواعد اللغة العربية»، وهو الجزء الرابع من الدروس النحوية لحفني ناصف وإخوانه، وقد قرأت الأجزاء الثلاثة من قبل. وهذا الكتاب يغني الطالب (بل المدرّس، بل الأديب) عن النظر في غيره، وهو أعجوبة في جمعه وترتيبه وإيجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد، وهو أصح وأوسع من شذور الذهب ومن ابن عقيل!

وعكفنا عليه وملأنا حواشيه البيض بتعليقات الأستاذ وفوائده، ثم ضاقت عنها فألحقنا بين كل صفحتين من الكتاب صفحتين أو أكثر نملؤها بما نستفيده منه، وعرفنا يوماً بعد يوم مقدار النعمة التي أنعم الله بها علينا حين جعلنا تلاميذ سليم الجندي. وكنا نفاخر إخواننا الذين يُقرِئُهم الشيخ الداودي ونأتي بالصعاب والمعضلات، نتصيدها من كتب الأدب وأفواه العلماء فنطرحها عليهم، فنحظى نحن من الجندي بأجمع الجواب بلا مراجعة ولا كتاب، ويرجعون هم بلا جواب. وما أنتقصُ الداودي رحمه الله، فلقد كان معلماً فاضلاً، وكانت له أخلاق أعطر من زنبق الحقل وأطهر من ثلج الجبل وله قلب أثمن من الذهب، ولكنه ليس من بابَة الجندي. والذهب ذهب، ولكنك إن قابلته بالجوهرة المفردة وارى بريقَه حياء. وأحببت الأستاذ الجندي حب الولد أباه، وعرفت قدره فكنت لا أكفّ عن سؤاله، أسأله في الصف، وألحقه في الفرصة، وأدخل معه غرفة المدرّسين؛ أشرب من معين علمه ولا أرتوي، أتزوّد من هذا المنهل العذب لسفري الطويل في بيداء الحياة. أسأله عن الغريب فلا تغيب عنه كلمة منه، كأنه وعى المعاجم وغيّبها في صدره. وأسأله عن التصريف والاشتقاق فيجيب على البديهة بما يُعيي العلماءَ جوابُه بعد البحث والتنقيب. وأسأله عن النحو فإذا هو إمامه وحجته. وألقي إليه بالبيت اليتيم أجده في كتاب، فإذا هو ينشد القصيدة التي ينتمي إليها (أو أكثرها) ويعرّف بالشاعر الذي قالها.

لقد كان مدرّساً للعربية ولكنه كان أكثر من مدرس، وكان عالِماً من علماء البلد بل كان أكثر من عالِم، ورُبّ مدرّس لا يكون عالِماً، ورب عالِم لا يكون عالِماً إلا في بلده وبين أقرانه، ورب عالِم لا يكون عالِماً إلاّ بالنسبة إلى عصره وزمانه. أما الجندي فكان من أعلم علماء العربية في هذا العصر، وكان واحداً من علماء العربية الأوّلين، ولكنه ضلّ طريقه في بيداء الزمان فجاء في القرن الرابع عشر لا في القرن الرابع! أقرّر هذا بعدما مشيت في البلاد وجالست العلماء، فما ثَمّ عالم مشهور في العربية في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وماليزيا وأندونيسيا إلاّ عرفته، لقاءً به أو قراءة له أو سماعاً به. عرفت في مصر علماء الجامع الأزهر والجامعة والأدباء والكتاب، أعني الكثير منهم، وأنا أؤكد القول -صادقاً إن شاء الله- أنّي لم أجد فيهم من يفوق في حفظه وضبطه وأمانته وملَكته وإحاطته الأستاذ سليم الجندي. وكشفت فيه يوماً بحر علم لم أكُن أعرفه من قبل. سألته عن مسألة أصولية فإذا هو أصولي، وإذا هو عارف بالفقه راوٍ للحديث عارف بالتفسير ... ومن هنا جاء علمه بالعربية. إن العربية لا تنفصل عن الإسلام. أذكر أنه لما قدم علينا حفّظنا قصيدة المتنبي: «وا حَرَّ قلباهُ ممّن قلبُهُ شبِمُ»، فلما كان الدرس التالي قال لنا: المتنبي شاعر مولّد لا يُحتجّ بعربيته، فأعرِضوا عن هذه القصيدة. وحفّظنا (ولا زلت أحفظ الكثير منه) المنتقَى المختار من شعر الشعراء

الجاهليين والإسلاميين ممّن يُحتَجّ به في اللغة. وكان ينهانا عن قراءة الصحف والمجلاّت خشية أن تفسد ملكاتنا وتدخل اللحن علينا. جزى الله عنّي الشيخَين المبارك والجندي خيراً، وجزى الخيرَ كل من علمني قبلهما أو بعدهما، فمنهما أخذت جل بضاعتي في العربية. * * *

شغلي الدائم المطالعة

-20 - شغلي الدائم المطالعة يقرع التلاميذُ اليوم أبوابَ المدارس المتوسطة وما معهم من العلم إلاّ ما كان في كتب المدرسة الابتدائية. وكثير منهم لم يقرأها كلها، أو قرأها ولكن لم يفهمها كلها، أو فهمها ولكن لم يحفظها كلها. وما ذاك لأنهم أقلّ منا ذكاءً أو أضعف إدراكاً، بل لأننا كنا أشد منهم رغبة في العلم وتقديراً له وحرصاً عليه. كنا نفرح إن ازددنا علم مسألة لم نكُن نعلمها، وهم يفرحون إن حُطّت عنهم مسألة كانوا سيكلَّفون علمها. ثم إننا لم نكُن نجد ملهاة تصرفنا حقاً عن التحصيل، وهم لا يجدون -لكثرة الملهيات ووفرة التسليات- وقتاً للتحصيل. أنا لما وردت «مكتب عنبر» كنت أحمل مع الشهادة الابتدائية في يدي ذخيرة من المعلومات في رأسي لا يقوى على حمل أكثر منها فتى في سني. وما ألزمَتني المدرسة بها ولا حصّلتها فيها، بل جمعتها أو جمعت أكثرها وحدي من خارجها. لقد قرأت قبل مكتب عنبر وفي سنواتي الأولى فيه كتباً لا أكون مبالغاً ولا مدّعياً مغروراً إن قلت إن في الأساتذة اليوم من

لم يقرأها؛ ذلك أني كنت أمضي وقتي كله (إلاّ ساعات المدرسة) في الدار. لم أتخذ لي يوماً رفيقاً من لِداتي ولا صديقاً من أقراني، ولم أكُن (بحكم تربيتي ووضع أسرتي) أعرف الطريق إلى شيء من اللهو الذي كان يلهو بمثله أمثالي، فلم يكُن أمامي عمل أنفق فيه فضل وقتي وأشغل به نفسي إلاّ المطالعة. وكانت في دارنا مكتبة كبيرة، وهي دانية مني كتبها كلها تحت يدي، ولم أكُن -لشغل أبي عني- أجد من يرشدني ويدلّني، لذلك كنت (كما قلت من قبل) أسحب الكتاب لا أدري ما هو، فأفتحه فأنظر ما فيه، فإن لم أفهمه (أو فهمته ولكن ما أسغته) أعدتُه وقد علق في ذهني اسمه، وإن فهمته وأسغته قرأته. وكان أول ما قرأت كتاب «حياة الحيوان» للدَّميري، وهو كتاب عجيب فيه فقه، بل هو أقرب مرجع لمعرفة الحكم الشرعي في الحيوان الذي يؤكَل لحمه والذي لا يؤكل. وفيه تاريخ، وفيه فوائد، وفيه خرافات ... ثم قرأت «المستطرَف» و «الكشكول»، وهما من أدب عصور الانحطاط والتأخر. ثم وقعَت يدي على «الأغاني» لأبي الفرج فعلقت به وقرأت أكثر أجزائه، لا أزعم أني فهمت كل ما فيه ولا أني أحطت به، بل أقول إن الذي فهمته منه نُقش على صفحة ذهني. وكنت بحمد الله أحفظ كل ما قرأت وأكثر ما سمعت لأن ذاكرتي بصرية لا سمعية، فأنا يوم الامتحان أذكر مكان المسألة من صفحة الكتاب. وكنت أُعرض عن الأسانيد وأتتبع الأخبار، فحفظت من أسماء الشعراء والمغنّين والعلماء والرواة الكثير، وحفظت كثيراً من الشعر أخذت بعضاً منه بلا ضبط ولا تحقيق. وقد سمعت أستاذنا الجندي مرة يروي بيتاً فيه

لحن، فأبديت عجبي فضحك وقال: سببه أني حفظته كذلك منذ الصغر! ونظرت -على مدى السنين- في أكثر كتب اللغة والأدب التي كانت مطبوعة في تلك الأيام؛ لأن جدي كان مولَعاً بالكتب فلا يسمع بكتاب ظهر إلاّ اشتراه وأودعه مكتبته، وتبعه أبي في (بعض) ذلك. وكانت أكثر الكتب عندنا «ميريّة» من طبعة بولاق. والكتاب المطبوع في المطبعة الأميرية في بولاق يُباع بأضعاف ثمن المطبوع في غيرها (أي البرّاني)، ذلك لأن المصحّحين فيها كانوا من أعلام العلماء، وحسبكم أن يكون منهم الشيخ نصر الهوريني صاحب «المطالع النصرية» أوثق وأوسع كتاب أعرفه في قواعد الكتابة، وكل من كتب فيها بعده أخذ منه ونقل عنه. وأجمع كتاب بعد المطالع هو كتاب «أدب المُمْلي». والشيخ الهوريني (المتوفّى سنة 1291هـ) هو شارح مقدّمة القاموس المحيط. وكان يحسن الفرنسية، تعلمها لمّا أُرسل إلى فرنسا إماماً لإحدى البعثات. وتلك سنة حسنة تركناها، هي أن يصحب كلَّ جماعة من المبتعَثين إمامٌ يشرف عليهم ويفتيهم. أمّا الأدب الحديث فما عرفت منه إلاّ ما وجدته في مكتبتنا، وهو ما كتب المنفلوطي رحمه الله وما تُرجم له فصاغه بقلمه صياغة جديدة (ولكنها فصلته عن أصله وأبعدته عن مراد كاتبه)، وشيئاً آخر: مجلَّداً نادراً ما أحسب أنه بقي منه إلاّ نسخ قليلة، هو مجلد السنة الأولى من مجلة «الرابطة الأدبية» التي تألّفَت في دمشق سنة 1921 (وقد وضعَت لها قانوناً صادقت عليه الحكومة في 12/ 3/1921)، ولا بدّ لمن شاء أن يؤرّخ للنهضة الأدبية في

سوريا من دراسة هذه المجلة. وكان من أعضاء الرابطة الأساتذة: سليم الجندي، وشفيق جبري، وخليل مردم بك، وعزّ الدين التنوخي، وأحمد شاكر الكرمي، وزكي الخطيب، وعبدالله النجار، وحبيب كحالة، ومحمد الشريقي، وماري عجمي، وحليم دموس، ونسيب شهاب. وقد وجدت في المكتبة كتاباً صغيراً كشف لي طرف الستار عن عالَم خفيّ مثير هو ما يُدعى اليوم «مسائل الجنس»، ولكني ما فهمت عنه من الكتاب إلاّ القليل، فأعدت قراءته حتى كدت أحفظ عباراته ولكني ما جاوزت في فهمه هذا القليل، هو كتاب «البيان في أصل تكوين الإنسان»، مؤلفه العالِم الفقيه والمحامي الوجيه أحمد بك الحسيني. وتمنيت أن أجد من يشرحه لي، ولكن أنّى؟! جئت «مكتب عنبر» ومعي هذه الذخيرة، ومعي أيضاً ما ألزمت حفظه من المتون: ألفية ابن مالك، والجوهر المكنون، وكفاية الغلام، والجوهرة، وغيرها. وأقول آسفاً إني نسيتها كلها. ومعي حصيلة ما كنت أسمعه من أبي ومن أصدقائه وتلاميذه في مجلسه ومجالس إخوانه التي يأخذني معه إليها من الفوائد والفرائد والطرائف واللطائف، ومجموعة كبيرة من أخبار علماء الشام في القرن الماضي. وكنت واثقاً من ذاكرتي فلم أستودع الورق ما قد تضيّعه الذاكرة. وكان ولايزال من عيوبي التأجيل، فكنت أزمع كتابتها ثم أؤجل الشروع فيها، حتى وقع المحذور؛ فجئت أدوّنها في

هذه الذكريات فإذا أنا قد نسيت ما كنت أحفظه وأملأ المجالس بروايته، ولم أجد ورقة مكتوبة أرجع إليها. ومع ذلك فإني أشكر الله الذي ألهم الأستاذ زهير الأيوبي إلزامي كتابتها، فلأن أكتب منها أقلها خير من أن أفقدها كلها. * * * مشيت في دراستي من أول يوم في الطريقتين معاً، طريقة المشايخ وهي على الأسلوب الأزهري القديم، وطريقة المدارس النظامية التي سلكتها من أدنى الابتدائية إلى أعلى الجامعة، وأخذت من الاثنين خيرَ ما وجدته فيهما. ولكن الذي كان أجدى عليّ وأنفع لي منهما، أو هو في النفع مثلهما، هو المطالعة. فأنا اليوم، وأنا بالأمس، كما كنت في الصغر؛ أمضي يومي أكثره في الدار أقرأ، وربما مر عليّ يوم أقرأ فيه ثلاثمئة صفحة. ومعدّل قراءتي مئة صفحة، من سنة 1340 إلى هذه السنة 1402هـ. اثنتان وستون سنة، احسبوا كم يوماً فيها واضربوها بمئة تعرفوا كم صفحة قرأت. أقرأ في كل موضوع، حتى في الموضوعات العلمية، بل والفنّية والموسيقية ... هذا غير النظر في الجرائد والمجلات. وقد قابلتنا المشاقّ أول عهدنا بمكتب عنبر لأننا كنا في مطلع العهد العربي ولم تكُن لدينا كتب عربية مطبوعة، فكنا نصنع شيئاً لا يعرفه (بل لا يتصوره) الطلاب اليوم؛ هو أننا كنا نأخذ أمالي المدرّسين ممّن سبقنا من الطلاب فننسخها بأيدينا. ولقد كتبت آلافاً (آلافاً حقيقة لا مبالغة) من الصفحات، في التاريخ القديم

والأوسط والحديث، والجغرافيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، والكيمياء المعدنية والعضوية، والفيزياء وعلم الحيوان والنبات، والجبر والمثلثات والهندسة المسطحة والفراغية والنسبية، وسائر العلوم. فضلاً عن الفرنسية التي كنا ندرسها كما يدرسها الفرنسيون في بلادهم: المناهج هي المناهج والكتب هي الكتب. سهرنا الليالي الطوال نكتب ما يجده الطلاب اليوم مطبوعاً أجمل طبع موضّحاً بالصور والخرائط، في كتب تُوزّع عليهم (هنا في المملكة) بلا ثمن. * * * ولقد شهدت في السنة الأولى من مكتب عنبر شيئاً لم أرَ مثله من قبل. رفض الطلاب يوماً الدخول إلى غرف الدراسة وعمّ الهرج والمرج والصياح، وأنا مثل الأطرش (أي الأطروش) في الزفّة (¬1)، يرى ولكن لا يسمع ما يُقال. وأنا أرى وأسمع ولكن لا أفهم ما القصة! رأيت حركة: ناس يدخلون وناس يخرجون، ورجال يأتون إلى المدرسة يحاولون تهدئة الطلاب ثم يرجعون. وكنت صغيراً مبتدئاً فلم أدرِ ما الذي يجري، ولم أسأل لأني -من تلك الأيام- متوحّد منفرد، لا أعرف أحداً من الطلاب الكبار لأسأله ورفاقي الصغار مثلي لا يعرفون. ثم فهمنا أن الثورة قد نجحت وأن المدير قد ذهب، وتولّى الإدارةَ المفتش العامّ للمعارف في سوريا، المربّي الكبير، أستاذنا في السلطانية الثانية ¬

_ (¬1) الزفّة عربية فصيحة، والأطرش والأطروش عربية مولَّدة.

على عهد الشريف الأستاذ مصطفى تمر. وكذلك نرى في كلّ يوم دليلاً جديداً على أن هذه الأمة، أمة محمّد، والشعب العربي منها على التخصيص، لا تؤخَذ بالعنف ولا تصبر على الضيم، وإن هي اضطُرّت إلى الصبر حيناً فستثور عليه حتماً. فإن هي ثارت فلِمن ظلمها الويل، لأنها لا تبالي حينئذٍ بشيء ولا يقف أمام ثورتها شيء، لأن الحقّ معها، ومن كان الحقّ معه فإن الله معه، ومن كان الله معه لم يُغلَب أبداً. الحقّ لا يُهزَم، والإسلام لا يذلّ وأهله هم أصحاب العزّة. ولكن الله يمتحنهم لتقوّيهم المحن، أو يؤدّبهم في الدنيا ليُضعف لهم الأجر في الآخرة. أمّا الخاسر فهو الظالم، وإن له في الدنيا الويل، والذي ينتظره بعد الموت يجعله يتمنى هذا «الويل»! * * * مصطفى تمر كان من أجلّ رجال التربية الذين عرفَتهم ديار الشام. وكان الركن الركين في المعارف، العالِم المتمكن المفضل على أكثر المعلمين في ذلك العهد. لمّا مات لم يمشِ في جنازته عشرة رجال! رحمه الله، فإن دعوةً بالرحمة لمؤمن مات مِن مؤمن ينتظر الموت أجدى عليه من حفلات التأبين وقصائد الرثاء وكل ما يتوهّم الناس أنه الطريق إلى تخليد ذكرى العظماء. كل ذلك زائل، ولا خلود إلاّ للمؤمنين في الجنة وللكفار في النار. اللهمّ بفضلك ورحمتك -لا بعملي- أجِرْني من النار

وأدخلني الجنة، أنا ومن قال: آمين. كانت «وزارة» المعارف كلها في أربع غرف كبيرة من قصر الحكومة (أي السراي): غرفة الوزير، وغرفة الأستاذ شفيق جبري شاعر الشام (وكان في منزلة الأمين العام للمعارف، أي وكيلها)، والأستاذ مصطفى تمر المفتش العام، وغرفة كبيرة تقسّمها إلى غرف صغار حواجزُ من الخشب فيها الديوان (ورئيسه الأستاذ عبد النبي القلعي) والمحاسبة (ورئيسها الأستاذ مصطفى القبّاني) وغرفة مثلها للمستشار، وكان معاونوه كلهم من النصارى (وما كان ذلك اتفاقاً بل كان شيئاً مقصوداً، وكان مستمراً في كل حين ومع كل حاكم أجنبي أو ماشٍ على مذهب الأجنبي)، رئيس ديوانه إسبر زمباكوس وترجمانه ميشيل السبع. وكان مجموع العاملين في المعارف أحد عشر فقط، ومعهم المستشار الفرنسي الذي كان هو الوزير الحقيقي وهو الآمر الناهي، وأعوانه النصارى. أقام معنا الأستاذ مصطفى تمر قليلاً، حتى إذا هدأت الحال كُلّف بإدارة المدرسة أستاذنا جودة الهاشمي، وهو جزائري الأصل، ثم عيّن لإدارتها جزائريّ آخر أستاذ رياضيات قديم أسنّ من جودة بك ولعله كان -كما سمعنا- أستاذه، فأدارها حتى خرجت أنا منها. وكان للمدرسة «مدير ثانٍ» يأتمر بأمر «المدير الأول» ويتولّى الأعمال الإدارية، وكان المدير الثاني عند دخولي المدرسة الدكتور كامل نصري. ثم الأستاذ عبد الفتاح ملحس، وهو فلسطيني، وهو أخو الأستاذ رشدي ملحس. ثم الأستاذ

عبدالرحمن السفرجلاني، ابن الشيخ عيد السفرجلاني. وكان الأستاذ عبد الرحمن شيخ المعلمين بعد الأستاذ سعيد مراد الذي كان مديرنا في السلطانية الثانية سنة 1918. عاش الأستاذ عبد الرحمن حتى رأى من تلاميذه من جاوز السبعين ومن وصل إلى أعلى المناصب. ولقد كنت مرة في زيارة شيخ قضاة سوريا الأستاذ مصطفى برمدا، رئيس محكمة النقض، وكان عنده الأستاذ عبد الرحمن والأستاذ جميل الدهّان المدير العام للأوقاف في سوريا، وكان الحديث عن أيام المدرسة واشترك فيه الثلاثة، فقلت: هل كنتم في مدرسة واحدة؟ قال الأستاذ عبد الرحمن: نعم. قال مصطفى بك: نعم، ولكنا كنا تلاميذ وكان هو أستاذنا. ودخل فجاء بصورة قديمة فيها الأستاذ عبد الرحمن قاعداً مع المدرسين وله شاربان كبيران وهما مع التلاميذ. ومن تلاميذه شكري بك القوتلي الزعيم الوطني ورئيس الجمهورية. رحم الله الجميع وقوّاني على إكمال هذا الحديث، وأعان القرّاء على احتماله. * * *

ثورة في المدرسة

-21 - ثورة في المدرسة مرّ على دخول الفرنسيين دمشق أربع سنين وجاءت الخامسة، وكانت دمشق كالحطب الجافّ ينتظر أن تلامسه النار ليشتعل. ومن شأن الحطب الجزل أن يبطئ دخول النار فيه ويبطئ خروجها منه، فلا بدّ لاشتعاله من أعواد صغار أو حزمة من القش، وكان الطلاب كهذه العيدان، وطلاّب مكتب عنبر على التخصيص. ففي سنتنا الأولى فيه كانت الفورة (ولا أقول الثورة) على المدير الأميرالاي، أي الكولونيل سابقاً في الجيش العثماني شريف بك رَمُو، وكانت محدودة بجدران المدرسة لم تجاوزها. وفي الثانية (وكنت في الصف الثامن) كانت فورة أكبر، خرجَت من المدرسة فامتدّت واتسعت حتى شملت البلد كله وشارك فيها أهله جميعاً، وكانت الحلقة الأولى في سلسلة النضال للاستقلال التي بدأت بهذه المظاهرة (¬1) ثم تعاقبت فيها ¬

_ (¬1) بل كانت قبلها حلقة يوم وصلت دمشق بعثة كراين الأميركية لتقصّي الحقائق، ولم أشهدها ولكن سمعت خبرها.

المظاهرات، ثم كانت الثورة الكبرى، ثم عدنا إلى حرب الشوارع وسلاح الإضرابات والاضطرابات حتى كان الجلاء التامّ. أقصد جلاء الأجنبي بجيوشه عنا، حتى لم يبقَ له جندي واحد يخطر على أرضنا، ولا قلعةٌ مدافعُها موجّهة إلينا، ولا رايةٌ ترفرف فوق رؤوسنا. تم هذا الجلاء، ولكن لم تجلُ أفكاره عن رؤوس أولادنا، ولا مبادؤه عن أحزابنا، ولامناهجه عن مدارسنا، ولا قوانينه عن محاكمنا. وهذا هو الاستعمار الذي يهون معه استعمار الديار. إن البذور التي بذرها المستعمر قبل رحيله أنبتت نباتاً لم نذق مثل مرارته أيام الاستعمار، وكان ما أبقاه فينا بعد نزوحه عنا أشدَّ علينا مما حمله معه لمّا جاءنا. فكيف أخرجَت أرضنا السم الذي يودي بنا؟ كيف رأينا ممّن خرج من أصلابنا من هو أنكى علينا من عدوّنا؟ دعوني أقُل كلمة ليست من الذكريات. لقد رأيت في هذا العمر الذي عشته مِن تبدّل الدول وتحوّل الأحوال ما هو عبرة من العبَر لمن شاء أن يعتبر. إنه ما مرّ بنا عهدٌ -على كثرة ما مر من عهود- إلاّ بكينا فيه منه، وبكينا بعده عليه! أفقُدّر علينا أن نستكبر الشرّ فنأباه، ثم نرى ما هو أكبر منه فنطلبه فيأبانا؟ استكبرنا التقسيم في فلسطين ثم رأينا ما هو أكبر منه فطلبنا التقسيم، وأبينا ما كان قبل سنة 1967 ثم عدنا نطالب بإزالة آثار العدوان والعودة إلى ما قبل 1967! وأمثلة كثيرة على هذا الأصل. هذا واقع السياسة وموقف أهلها. أما نحن، نحن المسلمين،

فلا نَهِنُ وإن مسّنا الضر، ولا نحزن وإن حاق بنا الأذى، ولا نساوم في دين الله ولا نوالي عدوّ الله، ونؤمن بأن الله الذي نزّل الذكر هو الذي يحفظه وأن العاقبة للتقوى. لا نرتاب بديننا ولا نشكّ بوعد ربنا. * * * نحن في سنة 1925 والبلاد تتمخض بالثورة وكأنها «برميل» بنزين: نار كامنة لا تحتاج لتظهر إلاّ إلى شرارة، نفوس متوثبة مستعدة للهجوم لكنها ترقب الإشارة. وجاءت الإشارة، لا الإشارة للثورة فلم يَئِنْ أوانها، بل لإحدى مقدّماتها. هل تعرفون قصة المحتال الذي وجد غنياً مغفّلاً فأحب أن يسلبه ماله فباعه الأهرام؟ لقد اشتهرت القصة حتى جعلوا منها مسرحية! إنه مجرم باع شيئاً لا يملكه وأخذ به ثمناً لا يستحقه، والذي اشترى أحمق لأنه ظن أنه ملَكَ الشيء الذي اشتراه ممّن لا يملكه. ربما كانت القصة مكذوبة متخيَّلة، فما تهمّني صحتها ولا جئت أحقّق خبرها بل جئت أروي قصة مثلها؛ من نوعها وجنسها ولكنها أكبر منها وأشدّ ضرراً وأعمق في الشرّ أثراً، وهي -بعدُ- صحيحة لا يجادل أحد في صحتها. قصة رجل وهب أرضاً لا يملكها هو ولا أبوه ولا قومه، لمجموعة من اللصوص الأشرار ما لهم فيها ذرّة من الحقّ، ولا كهرب واحد (إلكترون) من كهارب الذرة الواحدة. وهب فلسطين

لليهود الملاعين! وإن قلت ملاعين فما أشتمهم، بل أصفهم بما خبّر ربنا أنه فيهم {لُعِنَ الذينَ كفروا مِن بَني إسْرائيلَ على لِسانِ داوُدَ وعيسى بنِ مريمَ}. لَعن الذين كفروا نبيّان من أنبيائهم. وكل ما بقي من بني إسرائيل اليوم هم من الذين كفروا، لأن القاضي الذي يحكم بقانون أُبطِلَ أو عُدّل ويرفض التعديل الذي أمر به من وضع القانون، هذا القاضي ينزلونه من قوس المحكمة إلى قفص المتهمين. وكذلك كل من اتبع شريعة رسول بعث الله رسولاً بعده يعدّلها أو يبطلها. وصول هذا الرجل (واسمه بلفور) إلى دمشق كان الشرارة التي فجّرت برميل البنزين. ما كان جمهور الناس يعرف بلفور الوزير البريطاني ولا وعده الذي تَحمل دولتُه وزرَه، وما كانت قضية فلسطين قد ظهرت وعُرفت وصارت القضية الكبرى. الذي عرف قصة هذا الوعد الآثم هم طلاّب «مكتب عنبر». لقد تساءلوا: مَن الذي أعطى هذا الرجل حقّ التصرف بفلسطين؟ كيف سوّغ له هذا شرفُه إن كان له شرف؟ كيف برّره له عقله، وله ولا شك عقل؟ وغضب الطلاّب، وزاد غضبَهم أن هذا الرجل سيزور الجامع الأموي. كلا، هذا لن يكون! وخرجوا بالمظاهرة، وانشطرت المظاهرة شطرين؛ أما أحدهما فذهب إلى الأموي فأغلق أبوابه كلها، وأما الآخر فتوجّه إلى الرجل في فندق فيكتوريا الذي كان مقابل المصرف على الضفة الأخرى من بردى، وقد ذهب الفندق الآن ومشى فوق رفاته شارع، وركب ظهرَ الشارع جسرٌ يمر عليه

الناس والسيارات وُدفن تحته أشهر فندق عَرَفَته دمشق، أوتيل فيكتوريا، على اسم ملكة الإنكليز العجوز. * * * لا تسألوني أين كنت في ذلك اليوم وأين أنا من أحداثه؟ إن جوابي ليس في مصلحتي. إنني لم أكُن في العير ولا في النفير، لا في القافلة ولا مع المقاتلة. لماذا؟ لأنني (صدّقوني) لم أكُن أدري بشيء من كل ما حدث! ومن أين أدري وأنا أعيش بين بيتي ومدرستي، ما لي صديق أسأله ولا عندي صحيفة أقرؤها ولا كان في الدنيا إذاعة أسمعها. لذلك ذهبت إلى المدرسة كما كنت أذهب كل يوم، فلم أجد فيها أحداً فعجبت. وقُرع جرس الدخول إلى الصف فدخلت، وكنت وحدي. وجاء المدرّس لأنه لم يكُن يستطيع ألاّ يجيء، ونظر إليّ ووجهه ينطق بالازدراء لي. أنا وعدت في مقدمة هذه الذكريات أن أقول الحقّ، أقوله بلا تزيد إن كان لي وأقوله بلا تردّد إن كان عليّ. لقد كان الحقّ مع المدرس أن ازدراني؛ كيف لا يُزدرى طالب يخالف إخوانه كلهم ويتجاهل موقف أهل بلده جميعاً؟ من يصدّق أنني لم أدرِ بشيء؟ من يصدّق؟ وخرجت أجرّ رِجلَيّ، فوجدت باب المدرسة مفتوحاً فخرجت. وكانت سوق الحميدية مغلَقة ما فيها أحد، ووصلت إلى شارع النصر (شارع جمال باشا) الذي لم يكُن في دمشق شارع غيره، فصرت في وسط اللُّجّ. بحر من الناس تلتطم أمواجه،

يهجمون يرجمون الجنود بالحجارة، ولقد رأيت رجلاً أمسك بحجر ربما زاد وزنه على كيل، فقذف به من فوق الشجرات الكبار التي كانت في الشارع. فإذا كرّ عليهم الجند فرّوا، فإذا ولّوا رجعوا. فدخلت بين الناس علّي أعتذر أمام نفسي بأني شاركت الناس فيما هم فيه. * * * كان ذلك سنة 1925، فاسمحوا لي أن أقفز إلى الأمام أربعة أعوام لأني لا أحبّ أن أدعكم اليوم وهذه الصورة هي صورتي في نفوسكم، إلى سنة 1929 وأنا يومئذٍ في شعبة الفلسفة، وقد نجحت في امتحان البكالوريا. بقيت على عزلتي إلى تلك السنة، فجئت يوماً فخُبّرت أن جماعة من الطلاب منهم أخونا الشاعر أنور العطار (رحمه الله) قد طُردوا من المدرسة ثلاثة أيام لأنهم خالفوا أمر المراقب وسهروا محتفلين بليلة النصف من شعبان، فلم أبالِ بالأمر ولم يبالِه إخواني. إن العقاب طفيف والسبب هيّن، والاحتفال بليلة النصف من شعبان لم يأمر به الدين ولم تَجرِ به السنّة. ونمت في موعدي لا أفكر في ذلك، حتى إذا كان السحَر فإذا أنا بفكرة تسيطر عليّ بلغ من قوتها أن أيقظتني من منامي؛ هي أن أذهب إلى المدرسة صباحاً فأنتظر قرع الجرس للدرس، فإذا قرع وقفت على واحد من هذه المقاعد المحيطة بالساحة فخطبت أدعو إلى الإضراب أو يُعاد مَن طُرِدَ من الطلاب.

وصلّيت الفجر ولبثت قاعداً أرقب طلوع النهار، فما كاد يطلع حتى ولّيت وجهي شطر المدرسة. ولم يكُن لي أبٌ أستأذنه فقد تُوفّي أبي قبل تلك السنة، ولم يكُن لي أخ كبير أستشيره، فكنت أصدر عن رأي نفسي وحدها. ووجدت باب المدرسة مغلَقاً لمّا يُفتَح، فمررت برفيقي محمد الجيرودي (المحامي) وكان يسكن بجوار المدرسة، فأمضيت عنده ساعة وخضت معه في كل حديث، ولكنني لم أعرج على ما في نفسي ولا أشرت إليه. وذهبنا إلى المدرسة معاً، فلما قُرع الجرس وهمّوا بالدخول وقفت فخطبت، وهيّجت وحمّست ودعوت إلى الإضراب. فاستجابوا جميعاً، لا لما ألقيت عليهم بل لما كان من الاستعداد في نفوسهم، فقد كانوا يلبّون إن دُعوا بهمسة يهمس بها صاحبها ويختبئ، فكيف وقد دُعوا (لأول مرة) بخطبة معلَنة يلقيها صاحبها ويقف؟ ذلك لأنها كانت أيام نضال، وكانت الأمة كلها كالجنود في الثكنة؛ ينامون على استعداد ويقومون على استعداد، لا يسمعون صوت الداعي حتى يفزعوا إلى أسلحتهم ويهبّوا سِراعاً إلى صفوفهم، فلا ترى البلدة هادئة مفتّحةً أسواقُها حتى تسمع من كل دكّان صوت الغَلَق ينحدر، وترى المظاهرات قد قامت ودبّابات الفرنسيين قد نزلت والمعارك قد ابتدأت. لم يكُن مكتب عنبر في الحقيقة مدرسة، بل كان يومئذٍ مجمع الشباب المثقّف ومصدر كل حركة وطنية، وكان لُبّ البلد. وكانت الإضرابات تُعَدّ في الخفاء لئلاّ يُعرَف مَن دعا إليها فيعاقَب، فلما رآني الطلاّب أجهر وأُعلِم لا أختفي ولا أتوارى،

عجبوا مني وأُعجِبوا بي، وصرت في لحظة زعيم المدرسة (¬1). وجرّبَت الإدارة الترغيب والترهيب ولجأت إلى الوعيد والتهديد، ونزل المراقب ثم المدير الثاني، ثم المدير الأول والأساتذة، فكنت أردّ على كل محاولة بخطبة جديدة، فوجدوا الأمر أصعب ممّا كانوا يقدرون ويعرفون فخبّروا الوزارة. فجاء مدير المعارف الأستاذ شفيق جبري، فألقى كلمة أدبية بليغة وردَدْتُ بكلمة أذهبت أثرها. ثم جاء الوزير نفسه، وكان أستاذنا الكبير محمد كرد علي، فصحت به من مكاني: يا معالي الوزير! فمضى قدماً ولم يلتفت إليّ. فأعدت النداء فما وقف، فأسمعته كلاماً استوقفه، ثم حول وجهه إليّ فسمع مني وأجابني. وكنت يومئذٍ في قمة القدرة على الخطابة والارتجال، لا أحتاج إلاّ إلى ابتداء الكلام حتى تنثال عليّ المعاني وتزدحم الخواطر، وينطلق اللسان يعبّر عنها ببليغ الكلام. وكنت يومئذٍ فتيّ الذاكرة كثير المحفوظ، لم تُضعِف ذاكرتي الأيامُ، فكانت كل خطبة كأنها قطعة أدبية من الأسلوب الفحل تفيض بالآيات والشواهد والأمثال، فضعف مع الأيام جَناني وكَلّ لساني، على أن فيّ بحمد الله بقية (لا تزال) تسرّ الصديق، وتكبت العدوّ (¬2). وفُتح باب المدرسة فخرجت وخرجوا ورائي، وكان حولي ¬

_ (¬1) من مقدمتي لكتاب «مكتب عنبر» تأليف الأستاذ ظافر القاسمي. وقد تُوفّي رحمه الله سنة 1402، وهو أصغر مني سناً وكان في المدرسة بعدي بسنوات. (¬2) من مقدّمة «مكتب عنبر»، وبقية الكلام هناك.

فئة من الشباب الأقوياء والحارس الخاصّ عبد الستار العلمي (الدكتور الذي كان هنا، رحمه الله)، وكان معي من يحمل سلّماً قصيراً، فحيثما تجمع الناس صعدت عليه فخطبت. نفذنا إلى سوق الحميدية، فالسنجقدار، فالمرجة، فإلى قصر الحكومة. وحيثما مررنا أُغلقَت المخازن ومشى الناس وراءنا، حتى أحاطت جموعٌ لا يُحصيها العادّ بالقصر والبلدية القديمة وإدارة الشرطة. وصعدت على العمود التذكاري أمام قصر الحكومة أخطب وأنادي رئيس الحكومة، ففتح باب الشرفة الكبيرة وأطل منها علينا، وكان الرئيس الشيخ تاج الدين ابن الشيخ بدر الدين الحسني. وكانت خطبة كلماتها من نار الحميم وأسلوبها من هبّة العواصف. سقى الله تلك الأيام! لقد أسكرني هذا الفوز فكدت أتدحرج فأنحدر في هذا الطريق لولا أن تداركني الله فأراني عاقبته. لقد اغتررت بالحلاوة في أعلى الكأس فأذاقني الله طعم المرارة في أواسطها وفي قعرها. وعَدَ الشيخ تاج وهدّأ وشجّع، بل وشكر. فلما تفرق الجمع وصرت وحدي أمسكوا بي فلم أنتبه إلاّ وأنا في حاشرة (زنزانة) طول أرضها متر وعرضها متر، وحيد فريد ليس حولي من أخطب له ولا من يصفّق لي. لا أستطيع أن أضطجع ولا أن أمدّ رجلي، وليس من حولي إلاّ جدران مغلقة ليس لها نافذة، ولا معي فيها أحد. فقعدت أفكر. كنت في أول النهار طالباً مغموراً يمشي في جماعة الناس لا

يعرفه أحد فيضرّه أو ينفعه، فما جاء الظهر حتى صرت عَلَم البلد وأضحيت ملء الأبصار والأسماع، فما صار العصر حتى كنت سجيناً ذليلاً مسلوب الحرية معرّضاً للأذى. هذه هي حياة السياسيين المغامرين: يوم في الذروة ويوم في الحضيض؛ يأكلون يوم السبت «البقلاوة» ولا يجدون الأحد ولا الخبز اليابس! إنهم كالذي يحتلّ مقعداً في الصف الأول من المسرح، إنه أكبر والمنظر فيه أجمل ولكنْ ليس له رقم ووراءه مَن ينتظر غفلته ليرميه عنه ويحتلّه دونه. أفليس خيراً منه مقعد في الصف الثاني، ولكنه مرقّم محفوظ، إن قمتَ عنه رجعت إليه فوجدتَه؟ وقررت من ذلك اليوم أن أقعد في الصف الثاني. * * *

صفحة جديدة في سفر حياتي

-22 - صفحة جديدة في سِفْر حياتي دخل علينا شعبان سنة 1343 ونحن في الدار الثالثة التي استأجرها والدي في الصالحية، وكانت أعلى من نهر «يزيد» فلا يصل ماؤه إليها، ومياه «الفيجة» في السُّبُل العامّة فقط لم تكُن قد جُرَّت إلى البيوت، فكانت البيوت تستقي من آبار يصل إليها الماء من نهر «يزيد» والناس يسحبون المياه من الآبار بالمضخات، وكان في ضخّها تقوية لعضلات اليد ورياضة ونشاط للبدن. ولكن أبي كان يريد الراحة لأسرته، فما كاد يسمع بوصول المحرّكات الكهربائية إلى دمشق حتى كان أول محرّك (موتور) مركّباً في دارنا، اشتراه من السيد جمال القاري. وكان مَن يزورنا من الرجال والنساء يتعجبون منه لأنهم لم يكونوا قد رأوا مثله. وكنا نستعد لرمضان لأن الضيوف يزدادون في رمضان، ونحن لا نكاد نخلو منهم سائر أيام السنة. وقلما كان والدي يأكل وحده أو يأكل مع أهله، لا في الفطور ولا في العشاء، وما كان يمرّ يوم لا يزورنا فيه عمّاي (أعني خالَي أبي، وكنت أناديهما بالعمّين)، وأبناء أحدهما وبعض تلاميذ أبي أو بعض أصحابه، فلا ترى إلا «صواني» الطعام داخلة إلى المجلس في وقت الطعام وفي غير وقت الطعام

وكانوا يمدّون السّماط ويأكلون على الأرض. أما الشاي فلا ينقطع فيُنصَب «السّماوَر» ويقوم أحد الضيوف بإعداده. وكان عمّي الشيخ عبد القادر رحمه الله «يلقّم» الشاي الأخضر (وما كنا نشرب غيره) ثم يذوقه، فيعدّله ثم يذوقه، حتى إذا ذهب نصف «البرّاد» زاده ماء وقدّمه للحاضرين! وكانت الدار مفروشة فرشاً دون فرش الأغنياء ولكنه فوق فرش الأوساط من أمثالنا، والخير كثير والمؤونة والفاكهة و «النقل» لا تأتي إلا بالأكياس أو الصناديق. فما مضت من شعبان إلا أيام حتى مرض أبي، وكان ضعيف الجسد. أما صحتنا أنا وإخوتي فجيّدة بفضل من الله أولاً وأخيراً، ثم بالإرث من جدّي (إن صحّ قانون ماندل في الوراثة)، وقد كان قوياً بالغ القوة متين البنيان، ومن أمي وكانت -بحمد الله- صحيحة الجسم، ما رأيتها مرضت يوماً. وما كان في دارنا تلك على سعتها غرفة تملؤها أشعة الشمس، وهو محتاج في مرضه إليها، فجاء أحد تلاميذه وهو السيد كامل بكر فأخذه إلى داره، وهي قريبة منا، يمرّضه فيها. وكان تلاميذه: الشيخ هاشم الخطيب وأخوه الشيخ عبد الرحمن، والشيخ محمود العقاد، والشيخ محمود الحفار وأخوه الشيخ عبد الرزّاق، والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، وبعض من إخوانه كالشيخ موسى الطويل، وبعض تلاميذه في التجارية من الأطباء: ابن خاله الدكتور طاهر الطنطاوي والدكتور سهيل الخياط والدكتور محمد سالم، وبعض من كان معه في ديوان المحكمة

كالأساتذة صبحي القوّتلي ومحمد علي الطيبي وعارف حمزة وإبراهيم السيوفي ... كل هؤلاء (ومن نسيت أكثر ممّن ذكرت) لم يكونوا يتركونه، بل كانوا يوالون عيادته وكانوا يسارعون -عن حبّ ووفاء- إلى إجابة طلباته ويتسابقون إلى تحقيق رغباته. وكذلك كان طلبة العلم مع مشايخهم، فجزاهم الله (وقد مضوا جميعاً إلى رحمته) أفضل الجزاء. * * * وجاء يوم العشرين من شعبان، جاء اليوم الذي بدّل مسار حياتي. كنت أمشي في طريق ممهّد إلى غاية واضحة، فتفجّرَت قنبلة فطمست معالم الطريق، فإذا أنا في قَفرة لا أدري من أين أمشي فيها ولا إلى أين. كنا في خيمة تسترنا عن العيون وتظللنا من الشمس وتدفع عنا لفح الحر ولذع البرد وعَصف الرياح، فكُسر عمود الخيمة فانحطّت فوق رؤوسنا، فلما خلصنا منها إذا نحن مكشوفون معرّضون للأخطار تأكلنا الأنظار، فلا تحمينا درع ولا يسترنا ستار. في اليوم العشرين من شعبان سنة 1343 مات أبي. كلكم يعرف معنى كلمة «مات» لأن كل حيّ إلى ممات، وما من أحد إلاّ شهد موت عزيز أو فَقْد حبيب. أما جملة «مات أبي» فلا تعرفون ماذا كان معناها عندي. كان معناها أن هذه الدار الفسيحة لم تعُد دارنا، أن هذا الفرش كله وكل ما في الدار لم يَعُد

من حقنا؛ ذلك لأن تركة أبي (رحمه الله) كانت رقماً كبيراً كان يُعَدّ في ذلك اليوم ثروة، ولكنه رقم علينا لا لنا، إنه رقم الديون التي كانت عليه لا المال الذي كان له. كان (رحمه الله مرة ثانية، ورحمه ألف مرة) يستدين ليوسع على عياله. ما كان يظنّ، ولا نحن نظنّ، أنه سيموت شاباً لم يجاوز عمره ستاً وأربعين سنة. وكان قادراً على وفاء الدين من مرتّبه الكبير لو مدّ الله في أجله، ولكن حكمة الله أعلى وحُكمَه أمضى. * * * يقال إن المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر. وهذا صحيح من وجه واحد وغير صحيح من تسعة وجوه. إنها تصغر بالنسيان، والنسيان من أعظم نعم الله على الإنسان، ولكنها تكبر كلما ظهر أثر من آثارها. والآثار لا تظهر دفعة واحدة بل تظهر تباعاً، وكلما بدا أثر جديد جدّد وقع المصيبة. لم أدرك أول يوم مقدار ما ألَمّ بنا ولم أفكّر فيه لأني لم أجد وقتاً للتفكير. كنت كالضائع في الزحمة، لا أحس بنفسي ولا يكاد يحسّ بي مَن كان حولي. من أين اجتمع هؤلاء الناس كلهم؟ لقد ضاقت بهم الدار وضاقت دور الجيران التي فتحوها لهم. وكذلك كنا في الأفراح وفي الأتراح، كانت أخوّة وكانت اشتراكية صادقة، لا اشتراكية المذهب أو الحزب بل اشتراكية الفطرة السليمة التي يوجّهها الإسلام.

وكنت يومئذٍ كالذي تصيبه ضربة على رأسه فيفقد شعوره، كنت أنظر ولكن لا أرى وأتحرك ولكن لا أفكر. لم أعلم كيف غسّلوه ولا كيف كفّنوه، ما دعاني أحدٌ لأرى ولا حاولت أن أرى مِن غير أن أُدعى. كنت أمشي من هنا إلى هناك ثم أعود إلى حيث كنت، لا أهدأ ولكني لا أعمل شيئاً، حتى سمعت النداء بـ «لا إله إلاّ الله»، وكانت تلك علامة سير الجنازة. مشيت مع الناس. كان الناس يملؤون الطريق كله فلا أعرف أول الموكب من آخره، مشى الناس على أقدامهم من الصالحية إلى مقبرة الدحداح في حيّنا القديم في طرف العُقَيبة، وكانت آخرَ البلد ما بعدها إلاّ البساتين فصارت اليوم في وسطه. من الصالحية إلى المقبرة أربعة أكيال امتلأت كلها بالناس، وكلما تقدمت قليلاً انضمّ إليها ناس جدد. يسألون: من الميت؟ فإذا قيل: الشيخ مصطفى الطنطاوي، قالوا: رحمه الله، ومشوا فيها. ما كان من رجال السياسة ولا من أهل الرياسة، ولا من ذوي الجاه والسلطان ولا من الأكابر والأعيان، ولا من الأدباء ولا من الخطباء، ما كان إلا عالِماً ومعلّماً، ولكنها محبّة وضعها الله له في قلوب الناس. وما كنت أعلم أن له في قلوبهم هذه المحبّة حتى مات. * * * رجعنا من المقبرة وأنا لا أزال في دهشة المفاجأة. ثم بدأ

توافد الناس علينا، الباب مفتوح والغرف كلها مُعَدّة، وصحن الدار الواسع صُفّت فيه الكراسي، لا أدري من أين جاءت. كل ذلك ممتلئ بالناس، يخرج قوم فيدخل مثلهم، أعرف منهم واحداً وأجهل التسعة. حتى انتهت أيام التعزية وخُتم موسم الكلام، والكلام ولو كان حلواً ولو كان بليغاً لا يكلّف مالاً. وذهب كل من المعزّين إلى داره وبقينا وحدنا نواجه أول آثار الحادث. كنت في أول السنة السابعة عشرة من عمري ولكن لا مال لي ورثته ولا مورد لي أنفق منه، وأنا أكبر إخوتي. أمّا عمّاي (أعني خالَي أبي) فما كانا -رحمهما الله- ممّن يمدّ يده إلى كيسه يُخرِج منه ما يقدمه إلينا، وإن كان في الكيس ما يخرجان منه لو شاءا. أمّا عمّي الأكبر فما زاد على حلو الكلام، دفعه إلينا ومضى. وأمّا الأصغر فقد أعاننا -جزاه الله خيراً- بجهده لا بماله؛ استخرج لأبي معاشاً تقاعدياً كان ضئيلاً لأن مدّة خدمته الحكومية (أميناً للفتوى ومفتياً في السويداء، ثم رئيس ديوان محكمة التمييز) لم تكُن طويلة، وتولّى بيع كلّ ما كان في الدار من فرش وأثاث وبيع المحرك (الموتور)، ولم يبقَ إلاّ المكتبة فقد وقفتُ دونها. واستأجر لنا داراً صغيرة في الحارة التي وُلدت فيها مقابل الدار القديمة. هل قلت دار؟ لا، بل هي دُويرة، وما أظن هذه التسمية صحيحة لأنها كانت أقرب إلى الإصطبل، بل إنها لا تصلح أن تكون إصطبلاً ولا يوجد طبيب بيطري يوافق على ربط الدوابّ

فيها، لأن الشمس لا تدخلها أبداً، والدار التي لا تدخلها الشمس في الشام لا يخرج منها الطبيب. أمّا ماؤها فمن نهر «تورا»، ثاني أبناء بردى، ولكنه يأتي في ساقية مكشوفة تمشي ستة أكيال قبل أن تصل إليها، يُلقي فيها مَن شاء ما شاء. لا أقول إن ماءها ملوَّث لأن كلمة ملوّث أنظف من مائها، فماذا أقول عنه؟ تدخل من الباب إلى ساحة صغيرة أرضها من «العدَسة» لا من البلاط ولا الحجارة، فيها غرفتان إذا دخلتَهما في ساعة الظهيرة من تموز (يوليو) أحسست بالرطوبة وشممت ريح العفن، جدرانها من الطين مملوءة بالبقّ. وقد باد البقّ الآن ولم يبقَ له أثر، وهو حيوان صغير، حشرة حمراء كأنها كيس صغير لها رأس وأرجل تمشي عليها، إذا كانت جائعة رأيتها قشرة رقيقة بسُمْك ورق الكتابة، فإذا مسّت جسدَ الإنسان مصّت دمه فتمتلئ بالدم الأحمر. هذه هي الدار التي استأجرها لنا عمي (¬1). لم نحمل إليها من الفرش إلاّ شيئاً لا يستغني أحد عن مثله، ممّا لم يشترِه أحد من فرش دارنا التي بيعت لوفاء الديون. فكنا نفرش حصيراً على الأرض وفوقه بساط وفراش رقيق، وكان إخوتي ينامون على هذا ¬

_ (¬1) اقرؤوا -إن شئتم- المقالة البليغة المؤثّرة «جواب على كتاب» في كتاب «من حديث النفس»، وفيها وصف تلك الدار وحياة جدي وأمه وإخوته فيها، ثم لا يتردّدْ منكم أحدٌ أن يُخرج من جيبه منديلَه فيمسح ما انساب من دمعه على وجنتيه (مجاهد).

الفراش وأمي تسهر عليهم تذود البقّ عنهم، تمسكه ثم تلقيه في كوب فيه الماء أو تُدني منه مصباح الكاز (إذ لم يكُن في الدار كهرباء) فترميه في بلورة المصباح، وكانت اللّحُف لا تكفي فكانت تغطّيهم بالبساط. تسهر الليل كله تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، تقطع الليل بآهاتها وتذيب آلامها في دموعها، لا يرى بكاءها ولا يسمع شكواها إلاّ ربها. وكانت مؤمنة راضية عن الله صابرة على ما قضاه. افترقَت أسرتنا. أما عمتي فقد سكنت عند ابنة خال لها، هي أم حلمي حبّاب (الخطاط) ومعها جدتي. وأما نحن أنا وأمي وإخوتي فهنا، وكان عمر أخي سعيد ثلاثة أشهر فقط، فنشأ لا يعرف أباه. بل إن أخي عبد الغني لا يعرفه تماماً، وكذلك أخته الصغرى. وكان بيني وبين أخي ناجي أقلّ من ست سنوات، ولكنها في تلك السنّ تبدو كبيرة، فأنا شابّ وهو ولد، لذلك شعرت من أول يوم أن العبء أُلقيَ عليّ. ولم يكُن لنا مورد إلاّ معاش التقاعد الذي عُيّن لأبي، وهو قليل، ومعاش الإمامة التي كانت لأبي في جامع رستم، وهو مسجد صغير إلى جنب هذه الدار، فوُلّيت إمامته مكان أبي، وكان راتب الإمامة مئة وخمسين قرشاً في الشهر. وكانت له تلاوة جزء من القرآن في جامع سنان باشا في باب الجابية، فوُلّيتها بعده وراتبها خمسون قرشاً في الشهر. ولم نجد مَن يَمدّ إلينا يداً بمساعدة إلاّ خالي الأستاذ محب الدين الخطيب، صاحب «الفتح» و «الزهراء» والمطبعة السلفية في مصر، فجعل لشقيقته (أمي) جنيهين مصريّين في الشهر. وكان

الجنيه المصري يُصرَف بخمسة مجيديات عثمانية وبضعة قروش، على حين تُصرف الليرة الذهبية الرشادية بخمسة مجيديات فقط. وقد رددنا إليه بعد أربع سنوات كل ما دفعه إلينا، بل أكثر منه، من حصة في أرض في صَحْنايا في الغوطة الجنوبية ورثتها أمي عن أخوالها من آل الجلاّد، دفعتُها أنا إليه لمّا كنت في مصر. لكن يبقى له الفضل، فله منا الشكر ومن الله حسن الأجر، رحمه الله. والذي أعاننا وكان يحمل الأثقال عنا ويمدّ يده في كل ضيق إلينا، بجهده لا بماله، هو ابن خالتي الشيخ طه الخطيب. وقد فرّقَت الأيام ما بيننا، فمن قرأ هذا الذي أكتبه عنه فليبلغه إياه ليعلم أن المعروف لا يُنسى. وانقطعنا عن الناس؛ أعني أن الناس انقطعوا عنا، الذين كانوا كل يوم في زيارتنا والذين كانوا يُمضون شطر نهارهم في دارنا، حتى إن عمَّيّ -رحمهما الله وسامحهما- جاءا في يوم عيد فزارا جاراً لنا غنياً داره لصق دارنا، وهي التي تسدّ مطلع الشمس علينا، وما طرقا بابنا. لا أقول هذا تشهيراً ولا تشفّياً، بل شكراً لله على أنْ أغنانا عنهما وعن غيرهما، وكتب علينا أياماً عِجافاً لتكون تدريباً لنا وتمريناً، ونزداد بها علماً بالأيام وطاقة على خوض غمرات الحياة. * * * لقد فتحت الآن صفحة جديدة في سِفْر حياتي: كنت لا أعرف حمل التبعات فحملتها قبل أن يقوى عاتقي على حملها، وكنت أحسّ أني فرع من أصل فصرت أصلاً (أو كالأصل) لفروع.

كنت أخطُر على الشاطئ أتفرّج بالنظر إلى موج البحر، فرُميت في مائه وأنا لا أحسن السباحة. فماذا صنعت؟ وماذا وجدت؟ الجواب في الحلقة القادمة إن شاء الله. * * * من أوراق أبي (¬1): وجدت بخطّه رحمه الله مسوَّدات عمل عظيم، لم أعلم متى كتبها ولا كيف قدر عليها، هي أنه أحصى زيادات «القاموس المحيط» على «لسان العرب» فبلغَت نحو ألف مادّة، ويبدو أنه أكمل العمل وبيّض هذه المسوَّدات، ولكني لم أجد إلاّ مقدّمتها، مكتوبة على طريقة العلماء لا بأسلوب الأدباء، وهاكم صورة الصفحة الأولى منها مكتوبة بخطه (¬2). ومن شاء أن يتصور ما بذل -رحمة الله عليه- من جهد فليقرأ القاموس المحيط كله ولسان العرب كله، ثم لينظر ما زاد في أحدهما على الآخر. كم ترون هذه القراءة وهذه المقابلة تقتضيه من وقت مع استنفاد أكثر وقته في التدريس وفي العمل وفي لقاء الأصدقاء؟! * * * ¬

_ (¬1) كانت هذه الفقرة في الأصل في ذيل الحلقة الرابعة والعشرين، وقد اجتهدت في نقلها إلى هذا الموضع للمناسَبة (مجاهد). (¬2) الصورة في الجزء الأخير الخاص بالصور والفهارس (مجاهد).

لما صرت تاجرا

-23 - لمّا صرت تاجراً قلت لكم في أول فصل من هذه الذكريات إن الذي يكتبها ليس واحداً، بل كثير في واحد. لست أعني أنني أُصِبْت بانفصام الشخصية وأن عليّ أن أراجع الدكتور محمد فضل الخاني، بل أعني أن النفس البشرية في تبدّل مستمرّ مع أنها واحدة؛ مثلها مثل مجلس فيه مئة عضو، تنتهي في كل شهر عضوية عشرة منهم ويأتي عشرة جدد، أو كمثل نهر جارٍ لا تقف قطرة منه ولا ترجع بعدما مرّت. وقد يصفو ماؤه أو يتعكّر، وقد يفيض النهر أو يغيض، ولكن يبقى النيل -مثلاً- هو النيل صفا أو تكدّر، وعند الفيضان وفي أيام النقصان. والإنسان يرضى ويغضب، ويحب ويكره، ويطمع ويقنع، ويصحّ ويمرض، ويفرح ويحزن، وهو في كل حالة من هذه الحالات وأمثالها يصير كأنه إنسان جديد، يتبدّل نظره إلى الأشياء وحكمه عليها. ومن هنا قلت: إن كاتب هذه الذكريات ليس واحداً. ولقد قرأت اليوم ما كتبته في الفصل السابق فما رضيته! لقد

جعلتُ قارئه يشعر أن المصاب بأبي قد هزّ أركاني وزلزل إيماني، وأنْ قد حطّم آمالي إعراضُ عمَّيّ عنّي، وأن اعتمادي كان عليهما فلما منع أحدهما غضبت عليه وتكلمت عنه، ولما منح الثاني شكرت له وأثنيت عليه. حتى إن ذكرياتي عنهما كانت كالنهر الجيّاش الذي يحمل معه حطباً له شوك شاكَ بعضاً من أقربائي ممّن أفضى إلى ربه، فاللهمّ إن كنت قد ظلمته فاغفر لي ورضّه بكرمك عني، وإن كان الحقّ لي عليه فقد سامحته. أحفظُ من الصغر أن «لو اطّلعتم على الغيب لاخترتم الواقع»، ولا أقول إنه حديث ولكن أشهد الآن -وقد صار واقعاً بالنسبة لي ما كان ذلك اليوم غيباً- أن الخير فيما اختاره الله لي. إني لأنظر إلى تلك المصيبة من وراء تسع وخمسين سنة مرّت عليها فأرى أن ما قدّره الله علينا كان فيه النفع لنا. لقد تمرّستُ بالحياة مبكّراً، وذقت منها ألواناً، وخبرت الناس أصنافاً وأجناساً، وكانت الفائدة من ذلك القدر أكثر من الضرر. لقد أدركت يومئذٍ (وتحقّقتُ اليوم) أن الحياة مثل الناعورة. هل تعرفونها؟ دولاب كبير عُلّقت به دلاء وسطول (¬1)، يكون السطل منها ملآنَ وهو فوق (كما كنا على عهد أبي) فينزل فارغاً إلى الحضيض (كما نزلنا بعده). فمَن كان قصير النظر ظن أنها النهاية، ومن دقّق وحقّق رأى الدولاب يدور، فما نزل يصعد وما فرغ يمتلئ. وإن هذه هي الدنيا: ارتفاع وانخفاض، امتلاء وفراغ، ¬

_ (¬1) الناعورة والسطل من العامّي الفصيح.

فقر بعده غنى وغنى قد يأتي بعده الفقر؛ لا العالي يبقى فوق ولا الواطي تحت، ولا يدوم في الدنيا حال، والدولاب دوّار. الأحمق يظنها حظوظاً ومصادفات والعاقل يدرك أنه عمل متقَن، فلا البناء الذي يحمل الناعورةَ أقامه الحظّ ولا حرَكتها بنت المصادفات، لكنها هندسة مُحكَمة وحساب دقيق. ما يُعطى أحد في هذه الدنيا ولا يُحرَم ولا يعلو ولا يهبط إلاّ لحكمة بالغة وأمر مقدَّر، سطّره مقدّره في كتاب. فمن اهتدى إلى هذه الحقيقة واطمأن إلى أنه عادل لا يَظلم، حكيم لا يعبث، سكَنَ واستراح. ومن أنزل غضبه بخشب الناعورة أو بحديدها، يحسب أنها هي أفرغت إناءه وأراقت ماءه، عذّب نفسه بها ولم يَنَلْ منها منالاً. قعدت الآن أكتب عمّا مرّ بي بعد موت أبي. وقد عرفتم أني لا أعتمد في هذه الذكريات على شيء مكتوب، ما أعتمد إلاّ على ذاكرة خرقها كرّ الليالي فصيّرها مِصْفاة. رجعت إليّ ذاكرتي، فهل تصدّقون أن هذه المرحلة الوعرة من طريق حياتي، المرحلة التي مشيت فيها على الأشواك فلطف الله بي فلم تَدْمَ منها قدمي، وعلى الرّمضاء فلم تُكوَ بها رجلي، هذه المرحلة كادت تُمحى صورها من نفسي. إي والله، وذلك من نِعَم الله عليّ؛ حتى لا أذكرها فتؤلمني ذكراها. كنت فيها كمَاشٍ على الجادة المعبَّدة، فعاقته العوائق عن الاستمرار فيها واضطرّته إلى تنكّبها وإلى السير في الوعور والقفز من فوق الصخور والتخبّط في المفازات، ثم يسّر الله له العودة إلى الجادة، فمِن فرحه بالخلاص مما كان فيه لم يعُد يريد أن

يعود إليه ولا بالذكرى، لذلك نسيت أكثر أحداثها. كانت كصفحات دفتر أصابها الماء فطمس سطورها، إلا كلمات متفرقات بقيت واضحات، هذه الكلمات هي التي أسجّلها في هذا الفصل. * * * كانت نهضة المشايخ قد بدأت قبل وفاة أبي، ولقد شهدتُ جلساتهم معه يتداولون في أمر افتتاح المدرسة التجارية التي كان والدي مديرها في أثناء الحرب الأولى، لأن من أكبر مقاصد حركة المشايخ (أو «نهضة المشايخ» كما دعُيَت) إخراج الأولاد من مدارس الحكومة، ولا يتحقق هذا إلا بفتح مدارس تُغني عنها. فلذلك أُنشِئت «الجمعية الغرّاء»، وقد كانت أول الأمر بإشراف الشيخين اللذين قاما بهذه النهضة وهما الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب (¬1)، ثم أدركها داؤنا المزمن الذي يصيب كل حركة إسلامية، وهو الاختلاف والانقسام، فاستقلّ الشيخ علي بالغرّاء وأنشأ الشيخ هاشم «جمعية التهذيب والتعليم». لقد كان يؤمَل من هذه الحركة أن يكون لها آثار أعمق وأبقى، ولكنها (ونحن نكتب هنا للتاريخ لا للمدح والذم، ولبيان ¬

_ (¬1) في «رجال من التاريخ» مقالة عن الشيخ علي الدقر فيها حديث عن هذه النهضة، في أولها أن الشيخ هو "الرجل الذي هزّ دمشق من أربعين سنة هزّة لم تعرف مثلَها من مئتَي سنة، وصرخ في أرجائها صرخة الإيمان فتجاوبت أصداؤها في أقطار الشام واستجاب لها الناس، وأعانه عليها زميله وصديقه الشيخ هاشم الخطيب" (مجاهد).

الحقّ لا لصوغ المجاملات) كانت قاصرة على كثير من المظهر وراءه قليل من الجوهر، وكانت معنيّة بأمور من فروع الفروع، لا بتدعيم الأسس وتثبيت الأصول كما أمر الشرع وصنع الرسول عليه الصلاة والسلام. لقد أثمرت خيراً كثيراً وخرّجت علماء ودعاة، وأحيا بها الله أرض حوران والبلقاء (الأردن)، ولكنْ كان أكثر همّ متّبعيها ومن مشى تحت لوائها إعفاء اللّحى وتكوير العمائم، وأن تتخذ النساء الأُزُر البيض بدل الملاءات السود. استفاد من ذلك تجار الشاش وباعة القماش، وخسر الحلاّقون لمّا نأت عنهم الذقون، كأن هذا هو الدين وهذه أركانه: أغايةُ الدّينِ أنْ تُحفُوا شواربكم ... يا أمّةً ضحِكَتْ من جهلِها الأممُ جعلوا مدرستهم أولاً في «الريحانية»، وهي مدرسة قديمة كان واضع اليد عليها الشيخ عبد الجليل الدرا، وسأتحدث عنه إن وفقني الله إلى سرد ما أعرف (أو بعض ما أعرف) من أخبار مشايخ الشام. فلما انتهت السنة المدرسية وجاءت العطلة أغروني بأن أدع الدراسة وأشتغل معلّماً في مدرستهم. وقبلت، وكلّفوني بتدريس النحو في الصف الرابع الابتدائي. ثم طلب الدرسَ الشيخُ أحمد الدقر، فآثروه به وأعطوني درساً آخر. فأبيت وقلت: لماذا؟ ألأنه ابن الشيخ علي الدقر ولأن أبي مات؟ هلمّ امتحنوني وامتحنوه في النحو والصرف وعلوم العربية كلها، فإن ساويته أو لم أفُقْه إلاّ بالشيء القليل فأنا أدع الدرس. ولم أشترط أن يسبقني لأني كنت أعلم أن هذا بعيد. فأبى الامتحان وأبَوهُ هم، فغضبت وتركت التعليم وعدت إلى التعلّم. وكان بيني

وبين شهادة الكفاءة (¬1) سنة واحدة. وكذلك ترون أن الذي يختاره الله لعبده خيرٌ له مما يختاره العبد لنفسه، فلو لم يبعث الله الشيخ أحمد (رحمه الله) ينازعني الدرس فيجعلني أعود إلى الدراسة لبقيت معلّم مدرسة ابتدائية، بلا شهادة في يده ولا أمل بالترقّي أمامه. ولمّا نلت شهادة الكفاية رأى عمي الشيخ عبد الوهاب أن أتعلّم المحاسبة، وكنا نسمّيها «حساب الدوبيا» (أي «الطريقة المزدوجة») لأننا نقيّد كل رقم مرتين، مرة في دفتر الصندوق ومرة في دفتر البضائع أو دفتر الذمم الذي تُقيّد فيه حسابات العملاء. وكانت هناك الطريقة المفردة وتسمّى الأميركية، أمّا الأولى فتُدعى الإيطالية. وتعلمت الدوبيا، أو المحاسبة، على أقدر محاسب يومئذٍ في دمشق وهو السيد كامل بكر، تلميذ أبي الوفيّ الرضيّ الخلق الذي تُوفّي أبي في داره. وحضر معي هذه الدروسَ بعضُ الإخوان منهم السيد نظمي المجتهد، ولم أرَه من تلك الأيام أي من سنة 1925. وكنا نتخذ دفاتر كدفاتر التجّار ونعمل الموازنات السنوية (البلانشو، وهي البالانس بالفرنسية) ولا تزال هذه الدفاتر عندي في دمشق ولا أزال عارفاً بقواعد المحاسبة وأصولها، وإن كنت يومئذٍ (وكنت قبله ولا أزال إلى الآن) أجهلَ الناس بالحساب وأشدَّهم ضيقاً به وكرهاً له. ¬

_ (¬1) ولقد اقترحت من قديم أن تُدعى شهادة «الكفاية» لأنها تشهد لحاملها بأنه رجل كفيّ، ثم إنه قد يكتفي بها، وكلمة «الكفاءة» لا معنى لها هنا.

وحين أتصور أني كنت محاسباً أذكر قصة بكري مصطفى، وهو رجل تركي ماجن (حشّاش)، احتال مرة حتّى جعلوه إماماً في مسجد، فجاؤوا بجنازة ليصلّوا عليها، فانحنى على الميت واقترب من أذنه كأنه يُوَشوشه، فسُئل: ماذا قلت له؟ قال: قلت له: إذا سألوك عن أحوال الدنيا فلا تُطِل الكلام، يكفي أن تقول: بكري مصطفى إمام. * * * واختار لي السيد كامل بكر (رحمه الله) بعد أن أكملت التعليم تاجراً أضبط له حساباته، وكان تاجر أدوات كهربائية قبيل باب الجابية وأمام جامع السباهية، وكان في الجامع مدرسة أولية معلّمها الأستاذ أحمد الكزبري من شيوخ المعلّمين في الشام. وكان عملي ساعة في الصباح، إذ يأتي العمّال فيأخذون أسلاك الكهرباء والقطع والأدوات التي يحتاجون إليها في يومهم، ثم تخلو الدكان إلا من طالب مصباح أو زرّ أو شيء ممّا في الدكّان، فأبيعه ما يطلب وأضع الثمن في الدرج وأبقى منفرداً بلا عمل. ومَن سكنت جوارحه تحرّك ذهنه، فما ظنكم بشابّ نشأ في طلب العلم واستعدّ ليكون من أهل العلم، تنأى به الحياة عن غرف المدرّسين في المدرسة وحلقات المشايخ في المسجد ورفوف الكتب في المكتبة، وتحبسه في دكان بياع أدوات كهربائية! كنت حين أسمع الأولاد يقرؤون جماعة أحسّ بقلبي قد تقطّع بين ماضٍ صار مجرد ذكرى ومستقبل لم يبقَ إليه سبيل. أهذه هي النهاية؟ بيّاعٌ كاتب في دكّان كهربائي؟ ألهذا سهرت الليالي وقرأت الكتب وحصلت العلم؟

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً ... إذنْ فاتّباعُ الجهلِ قد كانَ أحزما لست أذكر كم لبثت في هذا السجن المزري، ولكني أذكر أني ضقت به يوماً ذرعاً فخرجت منه، وصرت محاسباً أو كاتباً أو ما لست أدري عند شريكَين (مسلم ونصراني) في «الخريزاتية»، وهي شعبة من سوق «البزورية». اشتغلت معهما مدّة، ثم اطّلعت على أن عملهما غشّ السَّمْن وخلطه بما ليس منه وبيعه على أنه سمن عربي خالص، وصنع الصابون مغشوشاً. وكان الصابون يُعمَل بزيت الزيتون، لم تكُن قد جاءت هذه الأنواع من الصابون الإفرنجي المعطّر الملفوف بطبقات من الورق الصقيل المربوط أحياناً بشريط، فهو متعة للبصر وللشم، أما الدهن الذي صُنع به فليس من زيت الزيتون كما كنا نصنع في نابلس وفي حلب والشام، فهذا عمل أبناء العالَم الثالث، أما المتحضرون من أهل العالَم الأول فيأخذون الدهن من جيَف الحيوانات الميتة ويستخرجونه من مياه المراحيض، يجرّدونه ممّا علق به ويمزجونه بعطور لاتُستخرج من الورد ولا من الزهر بل تستخرجها الكيمياء من القَطِران (¬1)، لها ريح الورد والفلّ والياسمين وما ثَمّ ياسمين ولا فل ولا ورد. فتركت الشريكَين الغشّاشَين واشتغلت عند تاجر خيطان أعرفه في خان في سوق الخياطين، فسمعت جاراً له كان عنده لما جئته يقول له: هؤلاء الأفندية من تلاميذ المدارس مُتعِبون، فكُلْه قبل أن يأكلك، ولا تدعه يقعد وراء المكتب بل شغّله يُنزِل ¬

_ (¬1) هذه حقيقة علمية.

بضاعة ويرفع بضاعة ويأتي بها ويذهب. فأقمت عنده مدّة، ثم ذهبت فلم آتِ. وضقت بالتجّار وبوظيفة الكاتب أو المحاسب فقلت: أكون أنا التاجر! وما خُلقت -والله- للتجارة ولا أصلح لها ولا تصلح لي، وما عندي لها المال ولا الخبرة. وكانت عند أمي قطع حليّ فباعتها، وأخذتُ ثمنها وشاركت تاجراً كان طالب علم هو الشيخ رياض كيوان، واستأجرنا مخزناً في خان العمود، مقابل الخان العظيم والبناء الأثري الرائع خان أسعد باشا العظم. واتخذت لي مكتباً إلى جنب مكاتب كبار التجار، وكانت تجارتي بالسكّر والأرز نربح بالكيس كله قروشاً معدودة لا تكفي للغداء، فمن أين أُطعِم أسرة أنا كبيرها والمطلوبُ منّي أن أكون عائلها؟ أمن هذه القروش التي لا تبلغ ثمن غذائي أحضر فطور أمي وإخوتي الثلاثة وأختَيّ؟ ورأيت أن الرجوع إلى الحقّ أفضل من التمادي بالباطل، فتركت مكاني بين كبار التجار وخرجت من الخان كما دخلت، والحمد لله أن استطعت الخروج. * * * وكانت محكمة التمييز (محكمة النقض) التي كان والدي رئيسَ ديوانها تتنقل من السراي إلى بناية العابد في المرجة، إلى طريق الصالحية، إلى البحصة. فمررت أمامها فخطر لي أن أزورها، فرأيت الأستاذ محمد علي الطيبي قد حلّ محلّ أبي، فرحّب بي وساءلني، فلما عرف أني تركت المدرسة عجب وقال:

ومن الذي أشار عليك بهذا؟ قلت: عمّي الشيخ عبد الوهاب. فقال: الله يفرج عنا وعنه! لقد نبّهَتني هذه الكلمة كما يتنبّه المنحرف عن الطريق إذا سمع من يسأله عن مسيره، وعلمت أني غلطت. فهل يمكن أن أصلح الغلط؟ وكان قد مضى ثلثا السنة المدرسية ودخل الطلاب الامتحان الفصلي الأول وهم على أبواب الثاني، ما بقي له إلا عشرة أيام. فذهبت إلى عمّي الأكبر، العالِم الفلكي الشيخ عبد القادر، وكان عاقلاً هادئ الطبع بعيد النظر، فقلت له: إني أريد العودة إلى المدرسة. فضحك وقال: لقد أبطأت. كنت أنتظر منك هذه الأوبة ولكني ما قدّرت أن تتأخر إلى اليوم، وأنا مع ذلك قد أعددت لك الأمر من ثلاثة أشهر. قُم معي. وأخذني إلى الأستاذ محمد علي الجزائري مدير مكتب عنبر (أي مدرسة التجهيز ودار المعلمين)، وقال له: هذا هو الذي حدّثتُك عنه. فقال لي: لماذا تأخرت إلى اليوم؟ ألا تعلم أن الامتحان الثاني قد اقترب، فهل تستطيع أن تدخله مع رفاقك؟ وهل تقدر أن تعيد الامتحان الأول بعده بعشرة أيام؟ قلت: أرجو الله. قال: إذن فتوكّل عليه وادخل صفّك، فأنا لم أُلغِ قيدك. إنك لا تزال من الطلاب. ودخلت الامتحان، وعندي الوثيقة الرسمية بأني كنت -بحمد الله- الأول بين الطلاب. * * *

مشايخي خارج المدرسة

-24 - مشايخي خارج المدرسة وقفت بكم طويلاً على ذكريات أساتذتي في المدرسة، وما تكلمت إلاّ عن بعضهم ولا سردت إلا بعض أخبار من تكلمت عنهم، ولو أفضت لأطلت وأمللتُ، فأذنوا لي اليوم أن أقف معكم على بعض مشايخي خارج المدرسة. تنتظرون أن أبدأ بأبي رحمه الله. وإنّ فضله عليّ لكبير، ولكني وعدت في مطلع هذه الفصول أن أقول الحقّ، لا أضيع شيئاً مما هو لي تواضعاً ولا آخذ شيئاً ليس لي تزيّداً، والحقّ أنّ مَن قرأ على أبي أو لازمه يؤكّد أنه كان معلماً عبقرياً، يُفهِم الغبيّ من التلاميذ حتى يظن نفسه أذكى من الأذكياء، ويبسّط المعقّد من المسائل حتى تُحسَب من الهيّنات الواضحات، وذلك بالأمثال المحسوسة والأدلّة الظاهرة. والمعلم الذي فهم المسألة وهضمها حتى صارت مِلْكاً له يستطيع أن يُفهمها من شاء، يقلب العبارات ويبدّل الأساليب حتى يصل إلى العبارة المبيّنة والأسلوب المناسب. فإن وجدتَ معلماً يشرح الدرس فلا يُفهم عنه ويعيد الشرح فلا يصل إلى الإفهام

فاعلم أنه ما فهم هو ما يدرّسه، وإنما حفظه فهو يكرره كما حفظه لا يستطيع أن يخرج عنه. ويظهر أن أبي كان من الصنف الأول، هذا ما سمعته من تلاميذه سماعاً لأنه -رحمه الله- ما خصّني يوماً بدرس ولا أقرأني كتاباً. يقولون: أزهد الناس في العالِم أهله وجيرانه، لأنهم يرونه في جده وهزله وغضبه ورضاه، والبعيدون عنه لا يرونه إلا في أحسن حالاته ولا يبصرون منه إلا أجمل جوانبه. وأنا أزيد: أن العالِم أزهد ما يكون في تعليم أهله وجيرانه، وربما حرص على تعليم التلاميذ وشرح الجواب للسائلين ما لا يحرص مثله على تعليم ولده وإجابته على أسئلته. لذلك كان حظي من علم أبي دون حظوظ الآخرين، وما كنت أراه إلا طرفَي النهار، وإن كان في الدار لم يَخلُ من أصدقاء أو زوّار. ولو أن الله ألهمه أن يتفرغ لي أو أن يوليني مثل الذي كان يوليه المقرّبين من تلاميذه، لرجوت أن أنتفع به أكثر مما انتفعوا وأن يبدو أثر ذلك فيّ أكثر مما بدا فيهم (¬1). وكنت من يوم وعيت وأدركت ما حولي أُصبِح فأرى أبي في ¬

_ (¬1) وأحسب أن هذا الأمر قد ترك في نفس جدّي أثراً حمَله على أن ينهج في حياته غيرَ ذلك النهج؛ فقد كان من أكبر همه وجلّ اهتمامه أن يُفيد بعلمه أهلَ بيته، حتى صارت الحياة معه حياة في مدرسة لا تنفَد ذخائر علومها وفوائدها، ينثرها في أحضان من يعيش معه من بناته وأزواج بناته وحَفَدته وإخوته وأبناء إخوته وسواهم، فيلتقط مَن شاء من هؤلاء من هذه الذخائر ما شاء، ويستزيد مَن يشاء ممّا يشاء، فلا يردّ أحداً بغير فائدة، رحمه الله وأجزل له الثواب (مجاهد).

مجلسه وعنده تلاميذ، ما كانوا كتلاميذ المدرسة بل كانوا رجالاً بعمائم ولحى، فكنت أدخل عليه بالشاي أو بالفاكهة يحملها لي أول الأمر نساء أهلي إلى باب المجلس ويقرعن الباب، ويحمّلنني منها ما أطيق حمله، فيثب بعضهم فيأخذه مني ويحمله عني. ثم صرت أقعد معهم قليلاً فألتقط الكلمة بعد الكلمة، ثم صرت أناولهم الكتاب بعد الكتاب، فعرفت الحاشية والقاموس المحيط وتنقيح الحامدية، والجزء كذا من تفسير الخازن أو من فتح الباري أو الفتاوى الهندية ... أقول إني عرفت شكلها واسمها لا إني قرأتها. وكانت الحُجُب مسدَلة بين الآباء والأبناء لم تُرفَع كما رُفعَت اليوم، وما كنت أتبسّط معه في حديث فضلاً عن أن أدخل في مناقشة، وكنت أناديه (كما كان يفعل أمثالي ممن أعرف) بسيدي، ما قلت له يوماً يا أبي، أما «بابا» فما كنت أتصور كبيراً يقولها، إنما يقولها الأطفال في بداية عهدهم بالكلام. وكان أبي معدوداً من مقدَّمي فقهاء المذهب الحنفي في الشام (¬1)، وكان أمين الفتوى عند المفتي الشيخ أبي الخير ¬

_ (¬1) في ترجمة الشيخ محمد الطنطاوي الذي جاء من مصر أنه كان شافعياً، فينبغي أن يكون ابن أخيه أحمد الذي جاء معه شافعياً مثله. فكيف صار ابن الشيخ أحمد، الشيخ مصطفى، من مقدَّمي فقهاء الأحناف؟ أنا أستغربُ ولا أعرف الجواب. وكان جدي -رحمه الله- حنفياً كأبيه زماناً، ثم إنه خرج من الإطار الضيق للمذهب وصار يرجع في فتاواه إلى المذاهب جميعاً (إلا الفقه المالكي فقليلاً ما=

عابدين، وكان يُستفتى في حياة مشايخه. ولما صار رئيس ديوان محكمة التمييز (محكمة النقض) على عهد الشريف فيصل كانوا يدعونه للمشاركة في دراسة القضايا الشرعية، سمعت ذلك من رئيس المحكمة الأستاذ مصباح محرّم ومن بعض الأعضاء فيها كالشيخ سليمان الجوخَدار، الفقيه القانوني الذي كان مفتي الشام قبل الشيخ أبي الخير والذي صار رئيس محكمة التمييز ووزير العدل، ومن القاضي الوزير النصراني يوسف بك الحكيم، ومن القاضي صلاح الدين الخطيب الذي صار -بعدُ- حَمِي (¬2) (والد زوجتي)، ومن زميله في عضوية المحكمة الشيخ مسعود الكواكبي عضو المجمع العلمي، ومن عضو المحكمة الشيخ علي عيّاد والد الدكتور كامل عياد. ولمّا مات وعدنا إلى حارتنا القديمة كان يسكن قريباً منا الشيخ أبو الخير الميداني، وهو صديق أبي وزميله في القراءة على الشيخ سليم المسوتي، الذي كان من كبار المشايخ المعلّمين الصالحين. وهو ألباني الأصل، لم أدركه ولكني أحببته لكثرة ما سمعت من أخباره من أبي ومن شيخنا الميداني، وعن كرمه العجيب الذي يجاوز حد التوسط بين غلّ اليد بخلاً وبسطها كل البسط سفهاً، لا تعمداً منه مخالفة أمر الله، أعوذ بالله أن يتعمد هذا مسلم، ولكنها طبيعة طبعه الله عليها. ¬

_ = أخذ منه)، وكان أكثر ما يرجع إليه في آخر عمره «المغني» لابن قدامة، وهو أقرب إلى أن يكون كتاباً في الفقه المقارَن، بل هو موسوعة فقهية، وإن يكن معدوداً من كتب الحنابلة (مجاهد). (¬2) حموك من الأسماء الخمسة، فأنت تقول حمي كأنك تقول أبي.

وكان يوماً في رمضان وكان مجلسه قريباً من باب الدار، وكانت مائدة الإفطار قد أُعِدّت ودنا المغرب، فقرع البابَ فقيرٌ يسأل ويقسم أن أهله في البيت صيام وليس عندهم شيء يؤكَل، فتلفّت فلم يجد حوله أحداً من أهله، فتناول طبقاً وبعض الخبز فوضعها جانباً وقال له: احمل هذا كله. فحمله فذهب به، ودخل النساء فلم يجدن الطعام، فسخطن وصِحْن عليه وتكلّمْنَ كلاماً شديداً، وهو صامت. وضرب المدفع وأذّن المؤذن من جامع التوبة، فإذا الباب يُقرَع، وإذا بألوان الطعام من الحارّ والبارد والحلو والحامض تدخل عليه! وإذا القصّة أن سعيد باشا شمدين، أحد كبار الوجهاء، كان قد دعا ضيوفاً فلم يحضروا، فأمر بحمل الطعام كله إلى دار الشيخ. فقال: أرأيتن مكافأة الصدقة؟ أعود إلى حديث الشيخ أبي الخير. الذين يؤثّرون فيك ببلاغتهم وطلاقة ألسنتهم -إن سمعتَهم- كثيرون، وكثيرون هم الذين يأسرونك بروعة أسلوبهم وسحر أقلامهم إن قرأت لهم والذين يعجبونك بصحّة محاكماتهم وإصابة آرائهم إن أنت استشرتهم. كل هذا مُشاهَد في كل بلد معروف في كل زمان، ولكن أعجب من هؤلاء كلهم ناس لا يتكلمون، وإن تكلموا لم يكُن لهم من سحر البلاغة ما يُعجِز الكاتبين، وهم مع ذلك يبلغون من التأثير عليك ما لا يكون مثله لكاتب ولا لخطيب. إنهم يؤثّرون بحالهم لا بمقالهم، ومن هؤلاء شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني، ومنهم شيخه وشيخ الشام الشيخ بدر الدين الحسني، وممّن عرفت في مصر شيخ مشايخنا السيد الخضر حسين الذي صار شيخ الجامع الأزهر، ومنهم العالِم اللغوي

المحقق أحمد تيمور باشا. وعندي في هذا الباب أخبار كثيرة أروي الآن واحداً منها، حدّثني به في مصر الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب «الرسالة» عن شيخ سمّاه ونسيت أنا اسمه، قال: كان هذا الشيخ مدرّساً، لا يعرف من الدنيا إلا الجامع الأزهر الذي يدرّس فيه (قبل أن تدخل عليه تاء التأنيث فيصير جامعة) والبيت القريب منه الذي يسكنه والطريق بينهما. فلما طالت عليه المدة وعلَت به السنّ واعتلّت منه الصحّة احتاج إلى الراحة، فألزمه الطبيب بها وأشار عليه أن يبتعد عن جوّ العمل وعن مكانه، وأن ينشد الهدوء في البساتين والرياض وعلى شط (¬1) النيل. فخرج فاستوقف عربة، ولم تكُن يومئذٍ السيارات، وقال له: خذني يا ولدي إلى مكان جميل أتفرج فيه وأستريح. وكان صاحب العربة (العربجي) خبيثاً، فأخذه إلى طرف الأزبكية حيث كانت بيوت المومسات وقال: هنا. قال: يا ولدي، لقد قرب المغرب، فأين أصلّي؟ خذني أولاً إلى المسجد. قال: هذا هو المسجد. وكان الباب مفتوحاً وصاحبة الدار قاعدة على الحال التي يكون عليها مثلها. فلما رآها غض بصره عنها، ورأى كرسياً فقعد عليه ينتظر الأذان وهي تنظر إليه، لا تدري ما أدخله عليها وليس من روّاد منزلها، ولا تجرؤ أن تسأله، منعَتها بقية حياء قد يوجد أمام أهل الصلاح حتى عند المومسات، وهو يسبّح وينظر في ¬

_ (¬1) الشط: الشاطئ.

ساعته. حتى سمع أذان المغرب من بعيد، فقال لها: أين المؤذّن؟ لماذا لا يؤذّن وقد دخل الوقت؟ هل أنت بنته؟ فسكتَت. فانتظر قليلاً ثم قال: يا بنتي المغرب غريب لا يجوز تأخيره، وما أرى أحداً هنا، فإن كنت متوضئة فصلي ورائي تكُن جماعة. وأذّن، وأراد أن يُقيم وهو لا يلتفت إليها، فلما لم يحسّ منها حركة قال: ما لك؟ ألست على وضوء؟ فاستيقظ إيمانها دفعة واحدة، ونسيَت ما هي فيه وعادت إلى أيامها الخوالي، أيام كانت فتاة عفيفة طاهرة بعيدة عن الإثم، وراحت تبكي وتنشج، ثم ألقت بنفسها على قدميه. فدُهش ولم يدرِ كيف يواسيها وهو لا يريد أن ينظر إليها أو أن يمسّها. وقصّت عليه قصتها، ورأى من ندمها وصحّة توبتها ما أيقن معه صدقها فيها، فقال: اسمعي يا ابنتي ما يقوله رب العالمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {قُلْ يا عِباديَ الذينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهم لا تَقْنَطوا مِن رَحْمةِ الله، إنّ اللهَ يغفِرُ الذّنوبَ جَميعاً}. جميعاً يا ابنتي، جميعاً. إن باب التوبة مفتوح لكل عاصٍ، وهو واسع يدخلون منه فيتّسع لهم مهما ثقل حملهم من الآثام، حتى الكفر؛ فمن كفر بعد إيمانه ثم تاب قبل أن تأتيه ساعة الاحتضار وكان صادقاً في توبته وجدّد إسلامه فإن الله يقبله. الله يا ابنتي أكرم الأكرمين، فهل سمعت بكريم يغلق بابه في وجه من يقصده ويلجأ إليه معتمداً عليه؟ قومي اغتسلي والبسي الثوب الساتر، اغسلي جلدك بالماء وقلبك بالتوبة والندم، وأقبلي على الله. وأنا منتظرك هنا، لا تبطئي لئلا تفوتنا صلاة المغرب.

ففعلت ما قال، وخرجت إليه بثوب جديد وقلب جديد، ووقفت خلفه وصلّت صلاة ذاقت حلاوتها، ونقّت الصلاة قلبها. فلما انقضت الصلاة قال لها: هلمّي اذهبي معي، وحاولي أن تقطعي كل رابطة تربطك بهذا المكان ومن فيه وأن تمحي من ذاكرتك كل أثر لهذه المدة التي قضيتِها فيه، وداومي على استغفار الله والإكثار من الصالحات، فليس الزنا بأكبر من الكفر، وهند التي كانت كافرة وكانت عدواً لرسول الله وحاولت أن تأكل كبد عمّه حمزة، لمّا صدقت التوبة صارت من صالحات المؤمنات وصرنا نقول: رضي الله عنها. وأخذها إلى دار فيها نسوة ديّنات، ثم زوّجها ببعض من رضي الزواج بها من صالحي المسلمين وأوصاه بها خيراً. * * * لقد خرجت عن الخطّ، ولكن لا كما يخرج القطار عن القضبان فينهار ويسبّب الهلاك والدمار، بل كما يميل المسافر إلى الواحة فيها الظل والماء فيجد فيها الراحة والريّ. فعفوكم إن جرّتني المناسبة إلى سرد قصة ليست من صلب الموضوع، ولكن أرجو أن يكون من سردها متعة أو منفعة. أعود إلى موضوعي: كان شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني من هذا الطراز. كان كالشيخ بدر الدين الحسني، يبلغ بصَمْته أحياناً ما لا تبلغ ألسنة الأبْيِناء من الخطباء والبلغاء من الكتّاب. وأنا أقول من قديم إني أسمع واعظاً أو محاضراً يتكلم ساعة أو أكثر، في موضوع يجمع

أطرافه ويكشف أسراره ويُظهِر خفاياه بأجود عبارة وأحسن إلقاء، يحشد ما لا مزيد عليه من الأدلة والشواهد، فلا يحرّك شعرة مني ولا يثير فيّ ذرّة من خشوع. وأسمع من راكب في الحافلة أو ماشٍ في الطريق جملتين ما فيهما فكر ولا بيان، فتصلان مني إلى أعماق القلب وتثيران فيه مكامن الخشوع، وربما أسالتا عينيّ بالدمع. فما السبب؟ السبب أن محاضرة الأول خرجت من عقله ولسانه، وكلمةَ الثاني صدرت عن قلبه، والذي يخرج من القلب يدخل القلب والذي خرج من اللسان لم يجاوز الآذان. وشيخنا الشيخ أبو الخير الميداني كان من أرباب القلوب، لا أعني قلوب العشاق بل قلوب المؤمنين، المتصلة أبداً بالله الحاضرة مع الله. وكان فوق ذلك محبوباً، لا يستطيع أحد أن يكرهه لأنه لا يؤذي أحداً. كان ليّن العريكة حلو الشخصية، رضيّاً لا يَغْضَب من أحد ولا يُغْضِب أحداً. كانت له نفس شفّافة. إذا أنت قعدت وراء الجدار حجب عنك ما بعده فلا تراه، ولكن إن كان الجدار من بلّور حماك من البرد والمطر ولم يحجب منك النظر، وهذا مثال نفس الشيخ. كان نقشبندياً، والنقشبندية أقرب الطرق إلى الاعتدال وأبعدها عن المخالفات، ولمّا نُقلتُ إلى كركوك في العراق مدرّساً قبيل الحرب العالمية الثانية لقيت كثيراً من مشايخها من الأكراد، منهم الشيخ علاء الدين ومنهم الملا أفندي، وكدت أتلقى الطريقة يوماً من أحد مشايخها الكبار وهو الشيخ أبو النصر

خَلَف. ثم تركتُها كما تركت غيرها، وقلت: أمشي على الجادة العريضة، ما لي ولبُنَيّات الطريق؟ والجادةُ هي الكتاب والسنّة والفقه المستمَدّ منهما. سقى الله أيامي مع الشيخ أبي الخير! لقد كانت من أمتع أيام حياتي. وداره الفسيحة التي لم يكُن لها رونق دور الأغنياء المترَفين ولكن لها سعتها وهدوؤها وزهرها وشجرها. كنت أرقب -النهارَ كله- ساعةَ الدرس في المساء، وكان يحضره أربعون أو خمسون، وكان درس النحو. ولقد قرأت عليه «الأزهرية» و «القطر» و «الشذور» و «ابن عقيل»، وكان يشرح باللهجة العامية، ولكن طريقته تثبت النحو حتى لا يمكن أن يُنسى. كان يقول مثلاً: «جاء قاضيٌ» ... قاضيٌ؟ أترونها سائغة، الياء لتحت والضمة لفوق؟ فوق وتحت معاً؟ لا، لا؛ فلنحذف هذه الضمة. «جاء قاضين». ساكنان؟ تصوّروا التقاء ساكنين ساكتين! هذا مجلس لا يُطاق، فلينصرف أحدهما. لقد انصرف، فصارت: جاء قاضٍ. وكان أكثر الحاضرين أكبر مني سناً، ولكني كنت أكثرهم علماً فأقامني معيداً للدرس. وكان له درسان في الأسبوع للحديث قرأنا فيهما الصحيحَين وبعض سنن أبي داود، وكان له مجلس للختم، مجلس نقشبندي، حضرته مرة فلم يرتَحْ له قلبي، فاستعفيته منه فأعفاني. وأنا والحمد لله لم أدخل في «طريقة» من الطرق الصوفية ولا «حزب» من الأحزاب السياسية. * * *

أسرة الخطيب وبعض الأسر العلمية في دمشق

-25 - أسرة الخطيب وبعض الأسر العلمية في دمشق تلقيت رسالة من أطرف الرسائل تقول مرسلتها (الجوهرة) إنها فتاة متعلمة تحبني وتعتب عليّ. تحبني كما كانت تحبّ جدها الذي فُجعت بوفاته، وإنها لمّا رأتني في الرائي شبّهتني به فهفا قلبها إليّ، وفكرت أني ربما لحقت به فبكت. بكتني وأنا حي ورثتني قبل أن أموت، ألا ترون أن هذا هو الصواب؟ وما أدري لماذا ينتظر الناس حتى يموت الرجل ليندبوه ويرثوه ويثنوا عليه، وينحلوه مزايا ليست له وفضائل ما كان له حظّ امتلاكها! وإن كان كاتباً أو شاعراً فسّروا أدبه تفسيراً لم يكُن يخطر على باله، ونسبوا إليه أفكاراً ما خرجت قط من رأسه، بل ما دخلت إليه. فهلاّ كان ذلك وهو حيّ يسمع ويرى، حتى يسرّ بالثناء ويصحّح الخطأ؟ أما وجه عتبها عليّ فلأني ذكرت أبي ولم أذكر أمي إلاّ

عرَضاً في أسطر معدودة. ولم أسمِّها ولم أبيّن كيف تزوّج أبي بها. وتسألني: هل أنا على عادة الشيوخ من أهل بلدي، أحسب أن من المروءة ألاّ أصرح بأسماء النساء، لذلك يقول الواحد منهم «الأهل» و «العائلة» و «أم الأولاد»، يرى عيباً أن يقول «زوجتي» فضلاً عن أن يقول «فلانة» باسمها ... إلى آخر ما جاء في كتابها. وجوابي أن لا. لست في هذا على عادة شيوخ بلدي. ومَن ظن أن التصريح باسم زوجته عيب أو حسب أنه مُخِلٌّ بالمروءة فإني أخشى عليه الكفر، لأنه يكون قد نسب العيب والإخلال بالمروءة إلى أكمل البشر وأفضلهم، محمد ‘؛ فقد ورد في الصحيح أنه صرّح باسم عائشة وفاطمة وأمها خديجة، ولم يرَ في ذلك عيباً. واسم أمي رئيفة بنت الشيخ أبي الفتح الخطيب شقيقة الأستاذ محب الدين الخطيب. أمّا كيف تزوج بها فأنا أمتنع عن ذكره. لماذا؟ لأنني لا أدريه! لا تعجبوا إذا قلت لكم إن الغرباء دُعوا إلى حضور العقد وأنا، ولدها، لم أُدعَ إليه. إي والله، لم أُدعَ إليه ... ولم أعلم به إلاّ بعد إتمامه بزمن طويل. الزوج له الحقّ في أن يختار زوجته، مع أنه يستطيع إذا لم يَرضَها أن يفارقها ويتزوج غيرها. وأمي لا سبيل لي إن لم تعجبني أن أتبرأ منها وأتخذ لي أماً غيرها، فكيف إذن لم يؤخَذ رأيي فيها؟ أليس لي أن أبدي موافقتي على المرأة التي ستكون أمي؟! لكن لا تحسبوا أني لم أَرضَها أو أني أنكرت اختيار أبي إياها، أو أنني لو كنت معه لما فكّر في خطبتها (أو خطبها أبوه له، فما كان الرجل يخطب المرأة بنفسه). لو كنت معه وسألني

عنها لما رضيت غيرها، رحمه الله ورحمها؛ فلقد عهدتها -لمّا عرفتها- امرأة صالحة. كانت مثلاً عالياً للمرأة المسلمة الراضية عن الله الصابرة على ما قضاه، جمعت بين الخُلُق وبين النسب. أمّا الجمال فبعينه وحده لا بعيني أنا يكون الحكم عليه. الزوج يميز جمال امرأته من قبحها، أما الولد فلا يرى أمه إلاّ جميلة، ولو كانت أَمةً سوداء ولو كانت عجوزاً وجهُها أخاديد وحفر، وهذا يؤكّد مذهب طاغور في الجمال وأنه ليس ببهاء الطلعة ولا بتناسق الأعضاء ولا بسحر العيون ونضارة الوجه ... كل هذا من شروط الجمال، لا أنازع فيه، ولكنْ أسأل: لماذا ترى الممثلة في المسلسلة أو الفِلم جميلة بارعة الجمال وترى ممثلة أخرى دونها جمالاً، فتقوم الأولى بدور الكذب والمكر والثانية تمثّل الصدق والطهر، فلا ينقضي الفِلم حتى تصير الأولى قبيحة في نظرك تتمنى لو أطبقت بأصابعك على عنقها فخنقتها، وتصير الثانية ملكة الجمال؟ أليس معنى هذا أن سر الجمال -كما يقول طاغور- هو الإخلاص؟ أما أسرة أمي فهي إحدى الأسر العلمية في الشام. حدّثني خالي محبّ الدين الخطيب (ثم نشر ما حدثني به) أن أصلها من بغداد، ثم نزلت حماة، ونزح فرع منها إلى قرية عذراء (عدرا) التي ذكرها ياقوت في معجم البلدان فقال: "إذا انحدرت من ثنيّة العقاب وأشرفت على الغوطة رأيتَها أول قرية تلي الجبل". وثنية العقاب هي التي تُدعى اليوم «الثنايا» (التنايا) تمرّ بها حين تعلو في الجبل (جبل لبنان الشرقي) متوجهاً إلى حمص. وإلى جنب

عذراء تقع «الضُّمَير» التي ذكرها المتنبي في قصيدته التي ودّع بها سيف الدولة (¬1). والذي انتقل منهم إلى دمشق هو الشيخ عبد الرحيم بن محمد الخطيب المدفون في مقبرة الدحداح سنة 1199، وقد بلغَت ذريّته اليوم (أي بعد مئتَي سنة من انتقاله إليها) الآلاف، وغدت من أكبر الأسر الدمشقية. وقد سخّر الله عبقرياً من أبناء هذه الأسرة، وكان رسّاماً فنّاناً، فأحصى أفرادها وجعل لهم سجلاًّ مثل سجلاّت النفوس الرسمية في دائرة الأحوال المدنية، لكل منهم صفحة فيها اسمه واسم أبويه وولادته وزواجه وطلاقه وأسماء أولاده، وجعل للسجلّ فهرساً، ثم صنع للأسرة شجرة رسمها بالزيت على القماش المشمّع وجعل لها فروعاً، فجعل للولد ورقة وللبنت ثمرة، وجعلها بطناً بعد بطن حتى زادت في حياته رحمه الله على تسعة بطون. وطول لوحة الشجرة أكثر من ستة أمتار وعرضها نحو الأربعة، وقد اشترتها منه الحكومة السورية، وهي معروضة في متحف الفنون الشعبية في قصر العظم في البُزوريّة. وهذا الرجل هو ابن خالتي الشيخ سهيل الخطيب، وربما عدت إليه فتكلمت عنه. كان الشيخ عبد القادر الخطيب حفيد الشيخ عبد الرحيم من علماء دمشق، أخذ عن أبيه وعن الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعن الشيخ سعيد الحلبي، وكان له أربعة من الولد كلهم علماء: ¬

_ (¬1) وقد أصابها سيل مدمّر أواخر سنة 1937. اقرؤوا قصة «على أطلال الضُّمير» في «قصص من الحياة» (مجاهد).

أبو الفرج وأبو الخير وأبو النصر وأبو الفتح. والشيخ أبو الفرج هو والد الشيخ عبد القادر (خطيب جامع بني أمية والمدير العام للأوقاف يوم لم تكُن لها وزارة فكان هو المرجع الأعلى فيها) والأستاذ صلاحالدين الخطيب عضو محكمة التمييز (أي محكمة النقض)، وهو والد زوجتي. والشيخ أبو الخير هو والد الزعيم الوطني الوزير زكي الخطيب، والشيخ أبو النصر هو خطيب الجامع الأموي القاضي العادل الجريء صاحب النوادر. والشيخ أبو الفتح هو أبو أمي. قال في الأعلام أنه "وُلّي أمانة دار الكتب الظاهرية والتدريس والوعظ في الجامع الأموي، وكان يميل إلى التقشّف ويكره معاشرة الحكّام، له مختصَر تاريخ دمشق لابن عساكر، مخطوط في خمسة مجلّدات، وهو في الخزانة التيمورية في مصر بخطّه، مولده بدمشق سنة 1250 ووفاته فيها سنة 1315، وهو والد السيد محبّ الدين الخطيب صاحب مجلّتَي الفتح والزهراء". قال: "وله ترجمة في منتخبات التواريخ 706، وفي الأعلام الشرقية 2: 67". * * * والأسر العلمية في دمشق كثيرة، أذكر ما يخطر منها على بالي. وربما ذكرت أسرة جليلة ونسيت أجلّ منها، وربما قدّمت بالذكر من يتقدّمه بالمنزلة من أخرت، فلا تؤاخذوني. هذا يومَ كانت الشام كما كانت أكثرُ بلدان الإسلام، يتعارف أهلها يعرف بعضهم بعضاً، يقدّمون أهل الفضل لا ينكرون عليهم فضلهم، لم يكُن قد اختلط الحابل بالنابل والأصيل بالدخيل.

فمن الأسر العلمية آل العِمادي، وقد استمرّ فيهم منصب الفتوى أمداً طويلاً. ومن أشهرهم الشيخ حامد العمادي، وله «الفتاوى الحامدية» التي نقّحها الشيخ ابن عابدين صاحب الحاشية. وقد انتزع منصبَ الإفتاء منهم الشيخ إسماعيل الحايك في قصّة طريفة سمعتها من أستاذنا محمد كرد علي وذكرتها في مقالة عنوانها «التشجيع» نُشرت في «الرسالة» في أواسط الثلاثينيات (¬1)، وهي في كتابي «فِكَر ومباحث». ومنهم آل الحمزاوي، وهم أقدم الأسر الشامية، ومن أشهرهم مفتي الشام محمود أفندي الحمزاوي. وآل الكزبري نسبة إلى جدهم الشيخ علي كزبر، وأجلّهم الشيخ عبد الرحمن الكزبري. وآل الغزي، وكان إفتاء الشافعية (غالباً) فيهم، وآل العطار وأصلهم من حمص، من أشهرهم الشيخ حامد العطار وأبوه الشيخ أحمد الذي ندب الناس لدفع نابليون لمّا حاصر عكّا، وكان عصريَّ الشيخ عبد الرحمن الكزبري ونظيرَه في العلم، وثالثهما الشيخ عبد الرحمن الطيبي. وكان للشيخ حامد خمسة من الولد كلهم عالم معروف، منهم الشيخ بكري العطار وهو أشهرهم، وياسين وهو والد الشيخ سليم المشهور، والشيخ إبراهيم وهو والد الشيخ رضا القاضي في المحكمة الشرعية، وهو أبو الأستاذ عصام زوج بنتي رحمها الله. وآل الشطي وهم فقهاء حنابلة فرَضيون، أصلهم من بغداد ومن أجلّهم الشيخ حسن الكبير المتوفّى سنة 1274، أخذ عن ¬

_ (¬1) الثلاثينيات أي عَشر الثلاثين (1931 - 1939).

المشايخ مصطفى السيوطي وغنام النجدي وعبد الرحمن الكزبري وعبد الرحمن الطيبي، وولده الشيخ أحمد الشطي مفتي الحنابلة في دمشق المتوفّى سنة 1307، وهو والد صديقنا بل أستاذنا الشيخ حسن الشطي، قاضي النبك وقاضي دوما وقاضي دمشق، وقد خلفتُه في المحاكم الثلاث. والشيخ عمر، وهو أخو الشيخ أحمد والد صديقنا الشيخ جميل الشطي، مفتي الحنابلة في دمشق ومؤلف كتاب «أعيان دمشق» (¬1). وآل السيوطي، ومنهم الشيخ مصطفى مؤلف كتاب «مطالب أُولي النهي»، وأصلهم من قرية الرحيبة بجوار القَطيفة، على جانب الطريق من دمشق إلى حمص. وهو شرح كتاب «غاية المنتهى» للشيخ مرعي الكرمي، نسبة إلى بلدة طوركرم (طولكرم) (¬2) المتوفّى سنة 1243. وآل الخاني وأشهرهم الشيخ محمد الخاني الكبير، وأصلهم من «خان شيخون» بين حلب وحماة. وآل البيطار وأشهرهم شيخنا العالم النظار السلفي الشيخ محمد بهجة، مدير المعهد العلمي في مكة ثم كان المؤسّس والمدير للمعهد السعودي، ومن العجائب أن أباه كان صوفياً من غلاة الصوفية. وآل القاسمي وعلَمهم الشيخ جمال الدين، صاحب المصنفات الكثيرة وكان عالِم الشام. وآل الأيوبي، وممّن صحبت ¬

_ (¬1) اسم الكتاب «روض البشر في أعيان دمشق في القرن الثالث عشر» (مجاهد). (¬2) تسعة أعشار فقهاء الحنابلة من عندنا؛ من الشام.

منهم العالِم المربّي الشيخ توفيق الأيوبي، مدير أول مدرسة شرعية فتحتها الأوقاف في الشام، وكانت في المدرسة السميساطية على الباب الشمالي للجامع الأموي، وكانت فيها قديماً دار عمربن عبد العزيز. وأكثر رجالها من أرباب الوجاهة والمناصب، أظهرهم عطا بك الأيوبي الذي ولي رئاسة الوزارة مراراً. وآل المحاسني، ومن أقدمهم موسى وكان خطيب الأموي، وقام بالخطابة بعده ابنه أسعد، ومنهم أستاذنا في معهد (أي كلية) الحقوق المحامي العالِم الأستاذ سعيد، وبعده رفيقنا الوزير المحامي الأستاذ أسعد، وصديقنا الشاعر الذي كان معنا في مكتب عنبر ثم كان معنا مدرّساً في مكة زكي المحاسني. وكان التدريس تحت القبة للشيخ عبد الرحمن الكزبري، ثم لولده الشيخ مسلم، ثم انتهى إلى الشيخ بدر الدين الحسني وهو جدّ زوجتي لأمها. وكانت نقابة الأشراف للشيخ أحمد العجلاني، ثم للشيخ مسلم الكزبري، ثم للشيخ أحمد منجك العجلاني، ثم للشيخ صالح تقيّ الدين، ثم لولده الشيخ أديب مؤلف كتاب «منتخبات التواريخ». ثم عُطّلت زمناً، ثم وليها السيد محمد سعيد الحمزاوي فجدّد لها بعض مجدها، ثم أُلغيَت الوظيفة. وآل الأسطواني (وكلمة الأسطواني تقابل كلمة العمودي هنا أو في حضرموت). وأجلّ من عرفت منهم الشيخ عبد المحسن الأسطواني رئيس محكمة التمييز الشرعية، المعمَّر الذي عاش مئة وثماني عشرة سنة وما فقد شيئاً من علمه ولا من ذاكرته، وسأعود إلى الحديث عنه. والفقيه الشيخ محمد شكري مفتي دمشق، والقاضي الأستاذ وجيه الأسطواني رئيس المحكمة

العليا، وخطيب الجامع الأموي الشيخ حسن، وحفيده زميلي في القضاء الذي تُوفّي شاباً الشيخ عبد الرؤوف، وسَلَفي في القضاء الشيخ عبد الفتاح. وآل الباني، نسبة إلى قضيب البان، اشتهر منهم الشيخ عبدالرحمن، ثم ولده (أستاذنا) الشيخ سعيد الباني، وهو عالِم محقّق له كتابان: «عمدة التحقيق» المطبوع سنة 1341 وكتاب في الذهب والحرير، وهو مفكّر يحقّق النص ويُعمِل فيه عقله ويجعل منه شيئاً جديداً، وإن لم يخالف القديم. ومن آل الباني الأستاذ عبد الرحمن (الحفيد)، وهو عالِم ديّن كان مفتش العلوم الإسلامية في وزارة المعارف السورية، فأدّى في الوظيفة حقّ الله ووفّى الأمانة وأفاد ناشئة المسلمين. ومنهم آل الحسيني، وكانت فيهم نقابة الأشراف آخر القرن الثالث عشر وأول تاليه. وآل المنيني وأصلهم من طرابلس الشام، وكان فيهم الإفتاء وتدريس القبة أوائل القرن الرابع عشر. وآل المنير، من شيوخهم الشيخ أسعد المتوفّى 1242، ومنهم اليوم أمين الفتوى الشيخ عبد الحكيم. وآل المرادي، وأصلهم من بخارى. وآل السفرجلاني. وآل الجندي، وأصلهم من المعرة، ومنهم مفتي دمشق الشيخ أمين الجندي، وسميّه الشاعر العَلَم، وأستاذنا سليم الجندي. وآل المالكي. وآل الحلبي، وكان منهم الشيخ سعيد شيخ علماء الشام وولده الشيخ عبد الله. وآل السويدي، وأصلهم من العراق، أعرف منهم الشيخ أمين سويد (السويدي) الذي كان مدرّساً في مدارس الفلاح، جاء به مؤسسها الرجل الذي يستحقّ أن تؤلَّف في سيرته كتب لا كتاب: محمد

علي زينل، عرفته في جدة من نصف قرن وفي بومباي من ربع قرن. وآل قَزّيها، كان منهم الشيخ مصطفى أمين الفتوى تُوفّي سنة 1257. ومن القرّاء الشيخ أحمد دهمان، والشيخ محمد الحلواني وقد جوّدت قراءتي عليه، والشيخ عبد الرحيم دبس وزيت وولده الشيخ عبد الوهاب وقد قرأت عليهما، والشيخ عبد الله المُنَجّد وهو أول من جمع في دمشق بين طريقتَي الشاطبية والطيّبة. وكان أستاذه في الطيبة حافظ باشا المشير العثماني، فماذا يقول الذين يدْعون الحكم العثماني استعماراً ويقرنونه باستعمار الكفار؟ وهو والد الصديق الدكتور صلاح الدين المنجّد، صاحب المؤلفات الكثيرة وآخر ما صدر له «معجم ما أُلِّفَ عن رسول الله ‘»، وهو كتاب جليل. وعندنا في الشام مجموعة أسر نجدية، كان أهلها غالباً أدلاّء في طريق الحج، يدعوهم الناس «العقيل»، منهم آل الروّاف، وآل البسّام، وآل الشبل. ومن كرام الأسر الشامية: آل القوّتلي، آل العظم، آل العظمة، آل البكري، آل الشمعة، آل المهايني، آل حتاحت، آل الطبّاع، آل الجلاّد، آل العاني، آل العابد، آل شورى، القدسي، الركابي، السقطي، الحنبلي، الدرا، القنواني، القطب، النحلاوي، سكر. ومن الأسر الشامية: آل البرهان، وآل القضماني، وآل البارودي، وآل شمدين، والألشي، والدردري، والموقع، وبدير، وشيخ الأرض، والخجة، وأبو الشامات. وقد نسيت أن أعد في الأسر العلمية آل عابدين، ومنهم

أعظم فقيه حنفي ظهر في القرنين الأخيرين، وهو صاحب الحاشية التي هي عمدة المفتي على المذهب الحنفي، ومنهم المفتي الشيخ أبو الخير الذي كان أبي أمينَ الفتوى عنده، وولده المفتي الطبيب آخر العلماء شيخنا الشيخ أبو اليسر. رحم الله من مات وثبّت من بقي على ما يرضيه، وغفر لنا ما نسينا أو أخطأنا. * * *

الثورة على الفرنسيين

-26 - الثورة على الفرنسيين لقد كنت كتبت عن الثورة السورية كتابات كثيرة لا أستطيع (ولا أريد) أن أجمعها هنا، ولا أقدر الآن على كتابة مثلها، من سنة 1347هـ حين كنت في مصر وكتبت في «الزهراء» (¬1) قصة «شهيد الغار» الأمير عزّ الدين الجزائري، ووضعتها في كتابي «الهيثميات» المطبوع سنة 1930. وفي تلك السنة بدأت أكتب في مجلة «الناقد» (¬2) قصة طويلة عن «حسن الخرّاط» فوقَفها الفرنسيون بعد نشر الفصول الأولى منها، وفي كتابي «دمشق» قصة عنوانها «في خرائب الدرويشية»، وفي كتابي «هتاف المجد» الكثير عن الثورة والنضال وعن قضية فلسطين والجزائر. وقد يسأل قارئ: ومَن حسن الخراط؟ وحقّ له أن يسأل، فما في الألف من القرّاء واحد يعرف من هو أو سمع باسمه، وما فيهم واحد في الألف لم يسمع باسم غيفارا أو كارلوس الإرهابي، ¬

_ (¬1) «الزهراء» لمحبّ الدين الخطيب، وكانت تصدر في مصر وتُعَدّ المجلة الأدبية الأولى. (¬2) «الناقد» لأديب الصفدي، وكانت تصدر في دمشق.

أفليس هذا عجيباً؟ نجهل أسماء أبطالنا المجاهدين ونحفظ أسماء المجرمين المفسدين، فهل كان ذنب حسن الخراط أن ظهر في أمّة لا تقدّر أبطالها ولا تنصف رجالها؟ حسن الخراط حارس ليلي، خفير من خفراء البلد كان عمله أن يحرس بيوتها من اللصوص، فلما رأى لصوصاً أخطر وشرهم أكبر قد سرقوا البلد كله نهض مع مَن نهض من الثوار يحمي الذمار ويمحو العار. وقف مع إخوانه الذين باعوا نفوسهم لله لمّا أعلن أنه اشتراها من المؤمنين. وقف في وجه فرنسا يوم كانت فرنسا تملك أقوى جيش برّي في العالَم، يوم خرجت من الحرب ظافرة على هامتها غارُ النصر، يوم اقتسمت هي وزميلتها إنكلترا، عفواً بل بريطانيا العظمى التي لم تكُن تغيب عن أملاكها الشمس في القارات الخمس، فانكمشت وتضاءلت ورجعت إلى حقيقتها وانزوت في ركن من جزيرتها، فلم تعُد تطلع عليها الشمس إلاّ بضعة أيام على طوال العام. اقتسمتا بلاد الله على كُره أهلها، فأخذت فرنسا جانبَين من جوانب البحر الذي كان يُقال له يوماً بحر العرب، وكان العرب بل كان المسلمون يملكون جوانبه كلها إلاّ الأقل منها. أخذت المغرب والجزائر وتونس، والشام (ولبنان من الشام)، وأخذ الإنكليز مصر وجنوبي الشام، أي فلسطين (وفلسطين من الشام). ولم تبقَ في ديار المسلمين بقعة لم يصل إليها الاستعمار إلاّ هذه الجزيرة، فقد حام حولها ولم يَلِجها ومد أصابعه إليها ولم يرفع علمه عليها.

وكذلك الدنيا؛ الناس فيها كفِرَق متسلّقي الجبال، يصعدون حتى يبلغوا الذروة التي لا مصعد بعدها، فيهبطون حتى يبلغوا القرارة التي لا مهبط بعدها، فيصعدون. يولد الإنسان ضعيفاً لا ينطق ولا يمشي، فإذا كبر قوي حتى يغدو الخطيبَ الذي يسوق الجموع بكلمة من فمه أو الشاعرَ الذي يغوص في أعماق النفس أو يطير في سماء الخيال، يرصف الكَلِم درراً وجواهر، وأين الجواهر والدرر من عبقري المقال؟ ويمشي على الأرض بخيول من مركبات الحديد تسابق الريح في مهبّها فتصل قبلها، ثم يعلو في الجِواء على نسور من المعدن فيجاري الأصوات، ويكون أسرع منها فيسبقها. ويصل إلى القمر فيفجع الشعراء والعشّاق بحلم عاشوا عليه دهراً، ويحوّل القمر الذي طالما تغنوا بجماله وسحره إلى حجارة وتراب يطؤونها بأقدامهم! وبعد أن كان لا يفرّق بين الجمرة والتمرة ولا يدري كيف يشرب الماء من الكوب، قَوِي حتى كشف بعقله خفايا الوجود مما كان يظنه الأقدمون غيباً وماهو بالغيب. إن ما جعله الله غيباً يستحيل أن يطّلع عليه بشر، وما يطّلع عليه البشر لا يكون من الغيب: {ولا يُحيطونَ بِشَيءٍ مِن عِلمِهِ إلاّ بما شاءَ}. حتى إذا بلغ أشدّه واستوى على قمة القوة بدأ الضعف: {اللهُ الذي خَلقَكم من ضَعفٍ، ثمّ جعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قوّةً، ثُمّ جعَلَ من بعدِ قوّةٍ ضَعفاً وشَيْبةً}. وكذلك الدول: كنا نحن أعزّ وأكرم وكنا الأعلم، فوقفنا وساروا، فصاروا لمّا ساروا أقوى منا وغدَوا هم العلماء من دوننا.

هبطنا من يفاعنا وأضعنا ملكنا، ونمنا وطال نومنا فطمع الطامعون فينا. كنا كالأسد في غابِهِ، لمّا ساد الغابَ وتوارت منه الذئابُ ولم يصمد له منها ظفر ولا ناب اطمأنّ وسكن، واسترخى فأدركه النعاس وغلبه الوسَن. فلما استغرقه المنام استيقظت الذئاب وطمعت فيه الثعالب. ولكن الأسد يبقى أسداً ولو نام، والجوهر لا يصير زجاجاً ولو رميته في الوحل، والزجاج لا يغدو ألماساً ولو وضعته في صناديق الحديد. يرسب الذهب إذا أُلقيَ في الماء وينزل إلى قعر الإناء، ويطفو التبن والبعر، ولكن هذا لا يُغلي التبن ولا يرخص التبر: وإنْ تكُنِ الأيّامُ فينا تبدّلَتْ ... بنُعمَى وبُؤسَى والحوادثُ تفعَلُ فما ليّنَتْ منّا قناةً صَليبةً ... ولا ذلّلَتنا للّتي ليس تَجمُلُ * * * لقد أخذ الأسد يستيقظ، إنه يمدّ يديه ثم يسترخي فيعاود المنام. لقد بدأت حركات النضال؛ فمن انتفاضة سنة 1919 في مصر وما كان فيها من أحداث، إلى أحداث الرّميثة في العراق، إلى ثورة الريف المغربي التي قادها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي فحارب فرنسا وإسبانيا معاً. ولقد لقيته في مصر سنة 1947 بعد عودته من المنفى فوجدت فيه عالماً تقياً عابداً في ثوب قائد، رحمه الله فلقد كان مجاهداً مؤمناً (¬1). ¬

_ (¬1) في كتابي «هتاف المجد» فصل عنه.

ثم كانت الثورة السورية وامتدّت ثمانية عشر شهراً، كانت تمتلئ بأخبارها البرقيات وأعمدة الصحف وتتصدر أكبر جريدتين يومئذٍ: التايمس والطان (أي الزمان). لقد قهروا جيش فرنسا، وأنا أقول الحقّ لا أنظم قصائد الفخر ولا أسجل أحلام اليقظة ولا المنام. كانت تخرج الحملة (والكلمة من تعبيرات الثورة) فيها الدبابات والمصفحات يقودها جنرال أو كولونيل وفيها الألوف من الجنود، فيردها عشرات (وإن كثروا فمئات) من الثوّار، سلاحهم البنادق والسيوف، وسلاح آخر أقوى من السيوف والبنادق هو الإيمان. لا يسخرْ أحدٌ من هذا الكلام، فإن البندقية مع الإيمان أقوى من المدفع بيد غير المؤمن، والحجارة في أيدي شباب فلسطين اليوم وأطفالها تفلّ الحديد وتغلب البارود في أيدي كلاب، لا بل خنازير يهود، ما يبلغون أن يُدعَوا كلاباً فللكلاب وفاء، ويهود الغدرُ من طبائعهم والمراء. الإيمان ولو كان بالجبت والطاغوت قوة لا تكاد تُغلَب، والمثَل فيتنام. أما أتعبت بل أعجزت فيتنامُ أقوى دول الأرض، وهي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يرجو قتيلُها جنةً ولا يرقب ثواباً؟ هذا هو المثل الواطي القريب، أما المثل الأعلى لما يصنع الإيمان من عجائب فهو المسلمون الأولون، الذين مشوا لإعلاء كلمة الله شرقاً إلى تركستان وأطراف الصين ومشوا غرباً حتى اقتحم عُقْبة بفرسه ماء البحر بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) وقال: اللهم لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك حتى أفتح الأرض لنور الحق أو أموت.

المسلمون الذين فتحوا بالإسلام وللإسلام ما بين قلب فرنسا وقلب الهند، ولولا أننا خالفنا عن أمر ربنا فجعلنا لشارل مارتل (¬1) سبيلاً إلى كسب المعركة في بواتيه (¬2) لوصلنا القسطنطينية وطوّقنا عنق أوربا بأغلى عقد تزدان به الأعناق. إنك إن استثنيت معركة حُنين مع هوازن وعَشراً أُخَر من عشرات الآلاف من المعارك التي خضناها لم تجد المسلمين إلاّ أقلّ من عدوهم عدداً، وأضعف عُدَداً، وأقلّ عتاداً ومَدداً. فَبِمَ انتصروا؟ لقد كان قُوّاد الروم والفرس ممّن درس فنون الحرب وتاريخ المعارك وسِيَر الأبطال، ففي أي كلية عسكرية درس ذلك خالد بطل اليرموك، وسعد بطل القادسية، وابن العاص، وعقبة، وموسى، وطارق، والمهلَّب؟ لقد فتح قُتيبة من الأرض أوسعَ ممّا فتح نابليون، ولكنّ ما فتحه نابليون عاد إلى أهله وما فتحه قواد الإسلام بالإسلام وللإسلام بقي للإسلام. أين الذين غُلبوا في معارك الفتوح في الشام ومصر والعراق وفارس والهند وإفريقية، أين هم؟ إنهم هم الذين يسكنون اليوم هذه البلاد، لكنْ ليس منهم مغلوب وليس فيهم غالب؛ الإسلام جعلهم إخوة، إخوة لا إخواناً ولا أصدقاء، ¬

_ (¬1) هو جد شارلمان. (¬2) هُزم الجيش المسلم في معركة «بلاط الشهداء» سنة 114هـ (732م) واستُشهد قائده عبد الرحمن الغافقي. وقد وقعت المعركة بين بلدتَي تور وبواتيه على بعد يقلّ عن مئتَي كيلومتر إلى الجنوب من باريس (مجاهد).

بل إن رابطة الإسلام أقوى من رابطة الأخوّة بين الأشقّاء الذين ولدتهم أم واحدة من أب واحد. * * * لو كنتم معي أيام الثورة لقرأتم كل يوم اسم «جسر تورا» في البرقيات يبعثها المراسلون وفي أعمدة الصحف، ولم أذكر الإذاعات لأنها لم تكُن يومئذٍ إذاعات. فهل يعرف أحد منكم ما جسر تورا؟ «تورا» أحد أبناء بردى، نهر (أو ترعة بالاصطلاح المصري) عرضه لا يبلغ خمسة أمتار، عليه جسر صغير كانت تمر عليه الحملة فلا تكاد تجوزه حتى تُرَدّ عنه. من يردّها؟ جيش نظامي كجيش المارشال جوفر عند المارن (¬1) في الحرب الأولى؟ أم قوة مثل قوة الروس في ستالينغراد (¬2) في الحرب الثانية؟ لا، بل أفراد من الثوّار ما لهم خنادق كالتي يعرفها الجند ولا حصون كحصونهم ولا سلاح كسلاحهم، ما معهم إلاّ البنادق وقليل من العتاد وما يحميهم إلاّ «الدكوك». و «الدكّ» جدار البستان، وهو تراب يُدَكّ دَكاً ويُكبَس كبساً، فإذا جفّ صار كالحجر. ¬

_ (¬1) كانت المعركة في أيلول (سبتمبر) 1914، وهي التي ردّت الألمان عن باريس. (¬2) مدينة البلغار التي يذكرها الرحّالة المسلمون هي ستالينغراد أو هي بجوارها، فمن كان عنده علم محقَّق فليكتبه. وهي غير حكومة البلغار المعروفة. بلغاريا هذه في البلقان، ومدينة البلغار في روسيا، وأول رحّالة كتب عن روسيا هو «ابن فضلان»، وطبع رحلتَه مجمع دمشق.

وكانت تخرج الطيارات فيرميها الثوار برصاص البندقية، وقد يُسقطونها. ما كانت كطائرات هذه الأيام، بل كانت صغيرة ما فيها إلاّ جنديان اثنان ظاهران، لها جناحان قصيران أحدهما فوق الآخر ومروحة صغيرة من أمامها، لقد رأيتموها في فِلْم «عمر المختار». وقفت فرنسا بجيشها وجنرالاتها وجبروتها أمام جسر تورا، لم تقدر أن تتخطاه إلاّ مرات معدودات. ثم كان ما هو أعجب؛ لقد استطاع الحارس الليلي حسن الخراط أن يدخل دمشق، دخلها على رغم هذه القوى كلها، واحتلها الثوّار ثلاثة أيام لم يبقَ فيها في البلد فرنسي واحد. وكان الفرنسيون أصحاب الثورة الكبرى التي يدّعون أنها قامت لنشر العدالة والمساواة والحرية، الفرنسيون قوم روسو وهوغو ولامارتين، الذين صنعوا تمثال الحرية وأهدوه إلى أميركا فأقامته عند بابها الشرقي يُطِلّ على فرنسا شاكراً من وراء البحر الأطلسي. فرنسا أم الحرية ذبحت الحرية في الشام، أقامت القلاع على جبل قاسيون في دمشق وعلى جبال المزّة، لا لردّ العدو عنها بل لردّ أهلها عن استرداد حريتهم ممّن عدا عليها. والذي عدا عليها أمها ... أم الحرية فرنسا! ولمّا عجزت عن مواجهة الحارس الدمشقي في ميدان القتال حاربت البيوت، فهدمت الجدران ودكّت الأركان وأزالت العمران. أعادت قصّة دون كيشوت مع الطواحين! لقد أساءت فرنسا يومئذٍ إلى تاريخها ولطخت الصفحات

البيض من أدب أدبائها بالطين. أين آداب الفروسية؟ إن الفارس الشريف يكفّ عن المبارزة إذا سقط السيف من يد خصمه فبقي بلا سلاح لأن المسلّح الذي ينازل أعزل لا يكون فارساً شريفاً، فكيف ضربت فرنسا يومئذٍ دمشق بمدافعها؟ كيف خرّبَت وأحرقت أجمل أحيائها، ما بين سوق الحميدية وسوق مدحت باشا، حيث كانت أبهى وأغلى بيوت دمشق؟ اقرؤوا كتابي «هتاف المجد» إن أردتم تفصيل هذا الإجمال وكتابي «دمشق» (¬1). لقد بقي هذا الحي أطلالاً سنين وسنين، ولمّا أعادوا بناءه أخيراً بقي اسمه إلى اليوم «حيّ الحريقة». وأحرقوا طرفاً من «الميدان»، حي الأشاوس من كرام أهل الشام. واسترد الفرنسيون قلب البلد (دمشق)، وبقيت أطرافها بأيدي الثوار أكثر من سنة. كنا نرى «الاستحكامات» (أي أكياس الرمل) وراءها الرشاشات في «الجسر الأبيض»، وهو مجمع الطرق إلى أحياء السفح، إلى المهاجرين والصالحية وحيّ الأكراد (ركن الدين)، وكلها خارج حدود البلد، وفي باب الجابية والميدان كله وباب سريجة، وقصر حجاج خارج حدود البلد، وداخل الباب الشرقي قرب مكتب عنبر وما بعده خارج حدود البلد، وفي وسط العقيبة أمام جامع التوبة وما بعده خارج حدود البلد، والغوطة كلها خارج حدود البلد، أي في أيدي الثوار. ¬

_ (¬1) في كتاب «دمشق» وصف بليغ لهذه الأحداث؛ انظر مقالة «كارثة دمشق» ومقالة «خرائب الدرويشية في دمشق». وانظر في «هتاف المجد» مقالتَي «حوادث دمشق» و «جهاد دمشق»، ثم اقرأ بعدها «كلمة إلى الجنرال ديغول» فإنها تستحق أن تُقرَأ (مجاهد).

ومن أطرف ما كان ما ذكرته في خطبتي في حفلة الجزائر في أواخر الخمسينيات: كان في الاستحكام في العقيبة (حيث كنت أسكن أيام الثورة) ضابط باريزي أشقر ناعم، كأن رجولته خطأ مطبعي في سجلّ الحياة أو كأنه أنثى متخفية في ثوب رجل. أَحَبّ أن يرى صورة حسن الخرّاط، فجاءه أحد ظرفاء الحيّ بصورة عنتر التي تُعلَّق في المقاهي، فلما نظر إليها ورأى سواداً كالليل وعينين تتّقدان كعينَي الصقر وشاربَين كساريتَي مركب، انخرط بطنه وأصابه الزُّحار (الدوسانطريا) فحُمل من فوره إلى المستشفى. بقينا على هذا سنة وبعض السنة، الفرنسيون في داخل البلد والثوار في أطرافها وفي الغوطة مِن حولها. ننام على انطلاق الرصاص ونصحو على تفجّر القنابل، نهدأ ساعات من الليل قد تطول وقد تقصر، ثم تفجَؤنا (¬1) الهزّات والرجّات، حتى صرنا نميز طلقات بنادق الثوار من رشاشات الجند، تلك تقول: «ون ن ن ن» وهذه تقول: «طق طق طق»، وطلقات مدافع الدبابات: «دج دج». يهجم الثوار فيرد الجند من «الاستحكامات»، ثم تخرج الحملة، ثم ترجع مكسورة. ما أضعف الثورةَ إلاّ الذين خُدعوا من أبناء الشركس الذين تطوعوا للقتال وجنود السنغال الذين أُجبِروا عليه، ويوم القيامة يُبعثون على نيّاتهم ويؤاخَذون هم وغيرهم بأعمالهم، وفي رحمة الله متّسَع لكل من مات على الإيمان. اللهم ¬

_ (¬1) هكذا تكتب الهمزة هنا لأن الضمّ أقوى من الفتح.

رحمتك لنا وللمسلمين. * * * كُتب عن الثورة الكثير لكنها لم تؤرّخ كما ينبغي، ولم أكُن فيها لأكتب عنها من داخلها لذلك وصفت ما يراه مثلي من الظاهر. ما كنت مَن خاض غمارها؛ كنت شاباً تقصر سنّي عن خوضها، وإن كان كثير من أقراني قد شاركوا فيها وأبلوا أحسن البلاء. لمّا أُحرقَت دمشق كنت أرى النار من بعيد، أرى لسانها ممتداً يلحس الدور والقصور، فيمحو الحياة منها كما يُمحى لوح التلميذ إذ يلحسه بلسانه، فأُحِسّ قلبي يحترق أسىً مثلما تحترق دمشق. وعندما كانت تخرج الحملات معها الدبابات والمصفّحات، فتواجهها البنادق القديمة فتردّها مكسورة، كنت أسمع الأنباء من بعيد فأشعر بالفخر وأجد الرضا، فأحمد الله أنْ نصر المجاهدين، وآمُل أن تعود الحرية ويرجع الخير إلى دمشق ويعمّ بلادَ المسلمين. * * *

كيف انطلقت الثورة

-27 - كيف انطلقت الثورة كان عهد ما بين الحربين عهدَ نضال للاستقلال. وكانت قمّة هذا النضال وكانت ذروة أمجاده ورأسَ مفاخره الثورة السورية. ولئن طهّر الله الجزيرة العربية من أوضار الاستعمار المباشر فلقد منّ على الشام أن كانت أولَ قُطر عربي حظي بالاستقلال التامّ والجلاء الكامل لجيوش الواغلين عليه المتسلطين على شعبه. ولئن كانت مكة أم الإسلام والمدينةُ الظئرَ التي أرضعته طفلاً، فدمشق هي الحاضنة التي حضنته صبياً. وما قوي الإسلام بها ولكنها هي قويت به، وما احتاج إليها وشرف بها ولا بغيرها، بل هو الذي شرّفها وشرّف غيرها. ولئن كانت الجزيرة دار العروبة فالشام البستان الذي يطيف بالدار، والذخر الذي لا يفنى لأهل الدار. ولئن كانت المدينةُ عاصمةَ الدولة الإسلامية الأولى فدمشق عاصمة الدولة الثانية. على أن الإسلام دولة واحدة، ولو تعدّدت العواصم واختلف الحكّام، دولة واحدة: ربها واحد، ونبيها واحد، ودستورها واحد، وكل أبنائها إخوة في الإيمان؛ نصّ على هذا

الدستور الخالد الذي هو القرآن. * * * إن الثورة لم تخرج من جبل الدروز كما شاع في الناس حتى أخذوه حقيقة مسلَّمة، وما هو بالحقيقة المسلّمة، بل خرجت الثورة من غوطة دمشق. ولقد كان الممهّد لها المظاهرات التي بعثتها زيارة كراين الذي جاء صديقاً، وبلفور الذي كان أول المسؤولين عن سرقة فلسطين. أما السبب المباشر فهو جولة الشيخ بدر الدين في مدن سوريا، أي أنها متصلة بنهضة المشايخ التي لم تلقَ من المؤرّخين ولا من الباحثين الاجتماعيين العناية التي تستحقّها. ولقد كانت بحسناتها وبعيوبها «حادثاً» ينبغي أن يُدرَس، ومن يدرسه فسيرى أنه لم يكُن أثراً (أو ردّ فعل كما يقولون) لدخول الفرنسيين الشام بمقدار ما كان أثراً ونتيجة للمواجهة الكاملة بيننا وبين هذه الحضارة الجديدة (¬1) التي كانت قبل الحرب ترانا ونراها من شقّ الباب ومن طاقة الجدار، فدخلَت علينا هذه المرة الدار كما يدخل الزوّار. لقد أخلّت لما دخلت بموازيننا وبدّلت مقاييسنا وغيّرت أساليب تفكيرنا ومعيشتنا، فكنا معها أصنافاً ثلاثة: قليل من شبابنا قبلوها بكل ما جاءت به حتى المفاسد والشرور، وكثير من مشايخنا رفضوها بكل ما جاءت به حتى الحقائق العلمية كدوران ¬

_ (¬1) لي محاضرة طويلة عن موقفنا من هذه الحضارة أُلقيَت في الرياض في ندوة الشباب العالمية سنة 1393 هجرية.

الأرض حول الشمس، والجمهور منا ما أحسّ بها وبقي يعيش بعد دخولها كما كان يعيش قبله. ولكن الجمهور عندنا كان يسير دائماً وراء المشايخ حيثما ساروا، يأتمر بأمرهم ويسمع منهم. الشبان حجّتهم أن أصحاب هذه الحضارة أقوى منا وأرقى، فكل ما عندهم إذن خير ممّا عندنا. والمشايخ حجّتهم أنهم كفرة لا يدينون دين الحق، والكفر شرّ فكل ما يأتي من عندهم إذن شر. وكلا القولين خطأ وما لأحد منهما حجّة فيما احتجّ به؛ فما يُقاس الحُسن والقبح بمصدره الذي صدر عنه، ولا يُعرف الخير من الشرّ بمنبعه الذي جاء منه، بل يُعرف حُسنه وقبحه وخيره وشرّه من ذاته ومن صفاته، فقد نرث عن آبائنا رأياً أو عادة ويكون فيها الضرر، وقد نستورد رأياً أو عادة من عند غيرنا ويكون فيها النفع. فكيف -إذن- نميّز الحسن من القبح والخير من الشر؟ الجواب: نميز بما أودعه الله فينا من عقول، فإن أخطأت العقول الطريقَ نفتّش عن النور الذي يدلّها عليه ويسيّرها فيه، ويكفل لها بلوغ الغاية فلا تضلّ عنها. وهذا النور هو الشرع. فالميزان هو العقل المهتدي بهدي الشرع. * * * الشيخ بدر الدين الحسني كان شيخ العلماء وكان يُدعى المحدّث الأكبر، كتبت عنه في «الرسالة» حين وفاته (سنة 1935) وكتبت عنه بعد ذلك (في مجلة رابطة العالَم الإسلامي سنة 1965)، فلن أفيض الآن في الكلام عنه، لكن أقول: إن دنياه

كلها كانت داره والجامع الأموي ودار الحديث التي انتهت إليه مشيختها، وما كان من أصحاب الحركة والتجوال. فلما قام الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب بما دُعي بنهضة المشايخ، ورأى إقبال الناس عليهما وانتفاعهم بهما، لا سيما أهل حوران والبلقاء (في شرقي الأردن) سرّه ذلك منهما وشجّعهما، فسألاه أن يجول معهما في مدن سوريا يعظون الناس، يدلّون على الله، يأمرون بالمعروف، ينهون عن المنكر. فمشى معهم، وكانوا إذا شارفوا البلد خرج الناس لاستقبالهم وساروا وراءهم، فيبدؤون بالمسجد فيعظون ويعلّمون ويحثّون على الجهاد، يبيّنون أحكامه وحالات وجوبه. وكانت هذه الجولة هي الشرارة التي أشعلت الثورة. لا أقول هذا من عندي ولا نقلاً عن الثقات العارفين من مشايخي وصحبي، كلهم يعرف هذا ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام، ولكن أنقله عن تقرير رسمي لمندوب المفوّض السامي الفرنسي، نشرته جريدة «الأحرار» في بيروت العدد 678 الصادر في الثاني من شعبان سنة 1354 هجرية. وهذه المذكّرات التي بين يدي كتبها بطلب منّي الشيخ محمد إسماعيل الخطيب، وكان مع نفر من إخوانه أولَ من خرج إلى الغوطة. وكان عزمي على تنقيحها لأنها مكتوبة بلغة عامية لا يكاد يفهمها إلاّ الشامي، ثم نشرها. وأحببت أن أتحقّق منها قبل النشر، فاتصلت بأكثر من استطعت الاتصال بهم ممّن ذُكر اسمه فيها، وسألته عما جاء من خبره في هذه المذكّرات، فما اختلف قول واحد منهم. فوثقت من صدقها، ولكني لم أنشرها؛ بسبب

لغتها أولاً، فقد قلت إنه لا يفهمها إلاّ الشامي، لا بل إن الشامي اليوم لا يكاد يفهمها لأنها بعامية الشام قبل خمسين سنة. ثم إنها ممتلئة بأسماء رجال لا يعرفهم اليوم أحد منهم من ذمّ فعاله، فإذا أعلنت الذمّ آذيت ذريته وآله. لذلك ألخّص منها ما يناسب المقام، مترجَماً إلى لغتي مكتوباً بأسلوبي. * * * يذكر -رحمه الله- زيارة كراين الأميركي الذي حضر للوقوف على رغبات السوريين (أو لتقصّي الحقائق على التعبير الجديد)، وكان الحزب الوحيد هو «حزب الشعب» فاجتمع برجاله وبغيرهم من الزعماء، اجتمع بالدكتور عبد الرحمن شهبندر والأستاذ حسن الحكيم (الذي لا يزال حياً وقد قارب المئة، قوّاه الله وجنبه الأمراض) وزكي الخطيب وسعيد حيدر. وهؤلاء الأربعة من أنظف الوطنيين يداً وأقومهم سبيلاً، وحدثت أحداث كانت عاقبتها أن نفى الفرنسيون هؤلاء جميعاً وكثيراً من غيرهم إلى جزيرة أَرْواد، مقابل الساحل السوري، فحبسوهم فيها. وكان ذلك في السنة الأولى لدخول الفرنسيين، والمظاهرات التي قامت نتيجة ذلك هي أول المظاهرات في عهد الانتداب، وقد كنت نسيتها لما تكلمت عن تظاهرة الناس يوم زيارة بلفور. ويقول -رحمه الله- إن نفيهم كان يوم الأربعاء، وكانت الأحداث كلها والتظاهرات تبدأ من الجامع الأموي بعد صلاة

الجمعة، فلما كانت الجمعة وقُضيَت الصلاة قام الدكتور خالد الخطيب فخطب مطالباً بالاستقلال وإطلاق المعتقَلين، وخطب غيره، وخرج المصلّون متظاهرين فقابلهم رجال الشرطة، ثم جاء الدّرَك، ثم جاءت «السباهيّة» من جنود المغاربة والجزائريين الذين ساقوهم إلى نزالنا مرغَمين، ونصبوا مضخّات الحرائق على كتف بردى وواجهوا الناس بالماء من خراطيمها، فأقدم الناس فقطعوا خراطيم الماء وألقوا بالمضخات ومَن معها في النهر، عندئذٍ أطلق الجند الرصاص فأردَوا خمسة من الشباب، وكان هؤلاء أول فوج من الشهداء بعد ميسلون. قال الشيخ محمد في مذكّراته (وقد وضعت كلامه كما كتبه بين قوسين): "وصار تشكيل جماعات جماعات لأجل أن تقوم البلاد بمساعدة بعضها البعض على الفرنسيين، وأنا العبد الفقير كانت وظيفتي أن أحمل مصحف وخنجر ونحلّف الناس، والله حلّفت مقدار أربعة آلاف من صنف الزكرتيّة والرجال المشهورة، مثل ديب الشيخ وأبو شاكر القلعجي من «العِمارة»، ومن «الشاغور» حسن الخراط وأبو حامد الفحل وأبو عنتر وأبو محمد سلوم وأبو فارس الحرش، إلخ. ومن «الميدان» أبو كمال عرار وأبو سليمان المهايني وصادق الرجّال وأولاد سكر وأولاد رحمون، إلخ. ومن «سوق ساروجة» (صاروجا) عبد الوهاب الرجلة والأغواني، إلخ. ومن «حارة الأكراد» أبو داود الشيخاني وأبو عمر ديبو، إلخ". وهؤلاء الذين سمّاهم وأمثالهم هم فتوّات الأحياء كما يُقال في مصر، أو القبضايات، وندعوهم نحن «الزكرتية». والأولون

منهم كانت لهم مزايا الفرسان، يُنجِدون الضعيف ويمنعون الظلم ويحمون أعراض النساء، ثم خَلَف من بعدهم خَلْف ليسوا مثلهم، ولا أحب الآن الكلام عنهم. * * * عاد الشيخ وصاحباه من رحلة الشمال، وكان قد اقترب يوم المولد. وكان أهل الشام (كغيرهم في أكثر البلاد) يجتمعون لقراءة قصة المولد وتوزيع قراطيس السكر الملبّس. ولا أعرض للمسألة التي شغلوا بها الآن الأذهانَ وجعلوها قضية الإسلام الأولى، وهي حكم الاحتفال بالمولد، فأنا أدوّن ها هنا تاريخاً لا أصدر فتاوى، وإن كنت قلت وكتبت من أيام شبابي منبّهاً إلى أن هذه الموالد التي يقرؤونها أكثرها فيه ما لا تصحّ نسبته إلى رسول الله عليه صلاة الله (¬1). فجدّ جديدٌ تلك السنة؛ هو أن الاحتفال بالمولد تحوّل من اجتماع على قراءة قصة المولد وإنشاد الأناشيد وأكل السكاكر، إلى مهرجان وطنيّ شعبي، إلى مباراة بين أحياء دمشق في نصب أقواس النصر وتغطيتها بفروع شجر الغوطة، وتزيينها بالورد والزهر وصور عنتر وأبي زيد الهلالي وأبطال القصص الشعبية، ورفع الأعلام عليها واللوحات الداعية إلى النضال التي تمجد ¬

_ (¬1) لمعرفة رأي الشيخ رحمه الله في هذه المسألة يمكن مراجعة مقدمة كتاب «سيد رجال التاريخ محمد ‘» ومقالة «محمد رسول الله» في ذلك الكتاب. وتجدون تفصيلاً للموضوع أيضاً في الحلقة الثالثة والثلاثين من هذه الذكريات (مجاهد).

الاستقلال وتنكر الاحتلال. ما كانوا يرفعون العلم الرسمي بل العلم العربي المربع الألوان، وكانت مسابقة إلى إقامة الحفلات الوطنية، كل يوم من الأيام لحيّ من الأحياء، يقيم أهل الحيّ العراضات ويهزجون بالأهازيج، ثم يحضر موكب الوطنيين فيخطب الدكتور عبد الرحمن شهبندر، وهو من أقدر من سمعت من الخطباء، وزكي الخطيب وخالد الخطيب، وتشتد الحماسة، وربما مشوا بمظاهرة فاصطدموا بقوى الحكومة. وكانت الحكومة حكومتين: المحلية وأعضاؤها كدُمى مسرح العرائس، لا يتحركون حتى تحركهم أيدٍ لا نراها، والحكومة المنتدِبة، أي الفرنسيين. هنا خرج كاتب المذكرات وصحبه إلى الغوطة. قال: "وفي منتصف الليل خرجنا من عند بستان عرنوس وحطينا عنده (أي وضعنا) لفّاتنا (أي عمائمنا) وقَنابزنا (أثوابنا)، ولبسنا لباس الثورة وخرجنا مع إخواننا عبد الرحمن الرهوان وحريص المرجة وأبو رشيد الخباز، وهؤلاء من قرية عربين، ومن دمشق العبدلله محمد إسماعيل الخطيب وعبد الوهاب الرجلة وشفيق السكري وعبد الوهاب الدوجي ونديم شهاب. وحين وصلنا جسر تورا اعترضَنا اثنان من الفرنسيين فقتلنا الواحد وشلّحنا الثاني، وقعدنا في الزور عند جسر الغيضة". والزور موضع من الغوطة كالغابة، كثيف الشجر متقارب الأغصان، وهو قرب سقبا (وكنت معلم مدرستها سنة 1931) وجسرين وكفر بطنا. قال: "بقينا أربعة أيام، وما كان أحد يطلع من الشام ممن حلّفناهم، فصرنا في حيرة و ... "، ففكروا بخطة

عجيبة. كتبوا كتاباً للفرنسيين بأن الذي قتل الجنديّ عند جسر تورا هم فلان وفلان، ممن حلفوا اليمين وما خرجوا للجهاد، ومنهم ممّن لم أسمِّ أبو شكري الطباع وأبو شكري فيصل (¬1)، وسعود اللحام وأبو صلاح العرجا، إلخ. وأرسلوا إليهم صورة منه مع نديم شهاب ليخبرهم أن الكتاب أُرسل إلى الفرنسيين بالبريد، فإما أن يخرجوا إلى ميدان الجهاد وإما أن يسلموا رؤوسهم إلى الجلاد (¬2) ... فخرج أكثرهم وابتدأت الثورة. * * * أما أحداث الجبل التي ابتدأت قبل ذلك بقليل فكانت حدثاً فردياً: جاء لبناني اسمه أدهم خنجر، محكوم عليه بالإعدام، يستجير بسلطان الأطرش، فلم يجده فلجأ إلى داره. وحقّ الجوار باقٍ عندنا من أيام العرب الأولى، يحمي السيد جاره ولو مات في سبيله، وما كانت حرب البسوس إلاّ بسبب الجوار. وقانون الجوار وسجيّة الكرم اضطرهم إليها أنهم يعيشون في صحراء ليس فيها حكومة تحمي الضعيف ولا فندق يؤوي الغريب. وعلم الفرنسيون بمجيئه فقبضوا عليه، فلما قدم سلطان ¬

_ (¬1) أبو صديقنا الدكتور شكري فيصل، وكان هو وأخوه من زعماء حيّنا (العقيبة). (¬2) والعجيب أن مدير الشرطة يومئذ هو حمدي الجلاد.

غلى في رأسه الدم وجمع بعض بني عمّه من الطرشان (وكان بعض منهم مع الحكومة) وهجم على المخفر، وبدأ الصدام وخرجت الحملات. فلما وصل الخبر إلى دمشق عُقد اجتماع عاجل لحزب الشعب وبعثوا زكي الدروبي، أوصله إليهم وحماه في طريقه سعود اللحام من الشام. وتحوّلَت حركة الجبل إلى ثورة رسمية، أُعلنَ عنها ونُصّبَ سلطان الأطرش قائداً عاماً لها وانضوى الثوار تحت لوائها، وإن كانت هذه القيادة اسميّة رسمية وكان كل رئيس جماعة يعمل وحده. والحديث طويل وذيوله كثيرة، ولا أستطيع إن فتحته أن أغلقه. فحسبي ما ذكرت، والعفو إن أجملت أو أبهمت أو قصّرت. * * *

شعر الثورة في مكتب عنبر

-28 - شعر الثورة في مكتب عنبر تحدّثت عمّن أثّروا في فكري وفي سلوكي من أساتذة مكتب عنبر، ومن معلمي المدارس الابتدائية قبلهم، وعن بعض المشايخ الذين قرأت عليهم أو صحبتهم خارج المدرسة، وبقي بعضٌ سيأتي -إن شاء الله- الكلام عنهم. وقلت لكم إن أساتذة مكتب عنبر كان أكثرهم من الضباط والقادة في الجيش العثماني: انهارت الدولة وانحلّ الجيش، فجاؤوا يعلّمون. وكان منهم ضابط صغير هو بالنسبة إليهم شابّ، ملازم اسمه «عِزّة الرفاعي» جعلوه مراقباً للطلاب. وكان المراقب الأول عاصم البخاري، وهو أخو نصوحي بك البخاري الذي وُلّي وزارة المعارف غير مرة، وأبوهما العالِم السلفي الذي جعلوه رئيس العلماء الشيخ سليم البخاري. والغريب أن الطلاب كانوا يسمّونهما عاصم بك وعزة أفندي. الأستاذ عزة الرفاعي لم يدخل علينا مدرّساً ولم يُلقِ يوماً علينا درساً، ولكنه من أوائل مَن تركوا في نفسي أعمق الآثار وأبقاها. كان مراقباً للطلاب، يصفّهم، يُدخلهم ويُخرجهم. ثم

جعلوه مدرّس رياضة، فأسّس فيها أسساً وخرّج الله به أبطالاً. ولهذا حديث آخر، والكلام عنه اليوم في أمر يتصل بي ويتصل بالثورة التي كان الكلام في الحلقتين السابقتين عنها. أمضيت ست سنين في «مكتب عنبر» منفرداً، لا أخالط الطلاب ولا أشاركهم في جِدّ ولا لعب. فما الذي جعل الأستاذ الرفاعي يدعوني يوماً، وكانت الثورة في عنفوانها، وفي يده مجلة مصرية فيها «قصيدة شوقي»، فيسألني: هل أنا مستعد لإلقائها على الطلاب؟ مَن قال له أني أحسن إلقاء الشعر؟ من عرّفه بي وأنا ما كنت أعرف ذلك من نفسي معرفة يقين؟ وقلت: نعم. قال: خذها فاحفظها وغداً تلقيها. وكان الغد فجمع الطلاّبَ وجاء بعض الأساتذة، ووقفت أتلوها: سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ ... ودمعٌ لا يُكفكَفُ يا دمشقُ ومضيت فيها، وأخذتني الحماسة فنسيت أن المدرسة حكومية وأن فيها مدرّسين فرنسيين، وأن الثورة قائمة وأننا نسمع أصوات الرصاص والرشّاشات ونحن في الفصول. وجهرت بها وأطلقت صوتي كله، وكنت (وأظن أنني لا أزال) أُسمِع الجامع الأموي كله بلا مكبّر. وحضر المدير وهو أستاذنا جودة بك الهاشمي، وكانت له في نفوسنا هيبة تبلغ حدّ الرهبة، فأحسّ كأني تردّدت لمّا أبصرته فأشار إليّ أن أكمل، فأكملت القصيدة. وكان الطلاب، بل كان

المدرّسون أيضاً، يصفّقون عند كل بيت ويستعيدونه ويهتفون، صفّقوا حتى احمرّت الأكفّ وهتفوا حتى بُحّت الحناجر. لا إعجاباً بإلقائي بل بشعر شوقي، بل إعجاباً بالموضوع العظيم الذي نظم فيه شوقي قصيدته، وهو الثورة السورية. ثم وصلت بعد أسبوع قصيدة خير الدين الزركلي فأمرني بإلقائها، وتكرّر الاجتماع والحماسة مني والتصفيق والهتاف منهم. وأنا لا أزال -إلى اليوم، بعد خمس وخمسين سنة- أحفظ أكثر أبيات القصيدتين. لقد كان شوقي «لسان العرب» الذي يُعرِب عن آلامها وآمالها ويصوّر أفراحها وأتراحها، فما مرّ بالعرب، بل بالمسلمين، حدث إلاّ كانت لشوقي قصيدة فيه، لذلك كان شعره ديوان العرب في هذا العصر. * * * هذه القصيدة ليست من أجود ما نظم شوقي وقافيتها من أصعب القوافي. وأنا أعرف ظروف نظمها، فقد نظمها على عجل، ولكن شاعريته محت آثار عجلته فجاءت فيها أبيات سارت في الناس مسير الأمثال، وخلدت خلود أبيات المتنبّي، وصارت مدداً لكل خطيب يخطب أو زعيم يقود. حوت معاني تبقى جديدة ولو مرّت عليها السنون: فُتُوق المُلْكِ تَحدُثُ ثمّ تَمْضي ... ولا يَمْضي لِمختلفين فَتْقُ فإن كنا متفقين رتقنا كلّ فَتْق وسددنا كل ثغر، أما إذا اختلفنا وتنازعنا فإنها تذهب ريحنا ويكون فشلنا. ولا تقولوا: ما له ينصحنا

وما هو من أهل دارنا؟ فإن هموم الشرق تجمعنا: نَصحْتُ ونحنُ مختلفون داراً ... ولكنْ كُلّنا في الهمِّ شَرْقُ ويجمَعُنا إذا اختلفَتْ بلادٌ ... بَيانٌ غيرُ مختلفٍ ونُطْقُ على أن البيان لا يجمع ما لم يكُن معه الإيمان؛ فقد كان العرب قبل الإسلام أهلَ فصاحة وبيان وكان يجمعهم النسب واللسان، وما جعلهم أمة واحدة حتى نزل القرآن. ومن أبياتها السائرة: وقَفتم بين موتٍ أو حياةٍ ... فإن رُمتُمْ نعيمَ الدهرِ فاشقوا وللأوطانِ في دمِ كلِّ حُرٍّ ... يدٌ سلَفَتْ ودَيْنٌ مُستحقُّ ومَنْ يُسقى ويَشربُ بالمنايا ... إذا الأحرارُ لمْ يُسقَوا ويَسقُوا؟ ولا يبني الممالِكَ كالضحايا ... ولا يُدني الحقوقَ ولا يُحِقُّ ففي القتلى لأجيالٍ حياةٌ ... وفي الأسرى فدىً لَهُمُ وعِتقُ ثم جاء البيت الذي صار -على ضَعف تأليفه- بيتَ القصيد في هذه الأبيات التي تصلح أن تكون نشيد النضال: وللحرّيةِ الحمراءِ بابٌ ... بكلِّ يدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ وقديماً قالوا إن «براعة الاستهلال» من محسّنات المقال. وقد حيّا شوقي في مطلع القصيدة دمشق ووصف رقة نسيمها وصباها، ودمعه على ما حلّ بحماها. ولكن له مطالع أجود، كمطلع قصيدته في «الأزهر» الذي أنطقَ فيه أكبرَ ناطق وهو الدنيا، وأسمعَ أعظمَ سامع وهو الزمان:

قُمْ في فَمِ الدّنيا وحيِّ الأزهرا ... وانثُرْ على سَمعِ الزّمانِ الجَوْهرا ومطلع الشامية الأخرى: قُمْ ناجِ جِلّقَ وانشُدْ رسمَ مَن بانوا ... مشَتْ على الرّسْمِ أحداثٌ وأزمانُ ولقد أحسّ بهذا فقال: ومعذرةُ اليراعةِ والقوافي ... جلالُ الرُّزءِ عن وَصفٍ يَدِقُّ وما قصّر مع ذلك في الوصف، فلقد وصف نكبة دمشق التي لم يصدّق خبرها لهول ما سمع عنها: رِباعُ الخُلدِ ويحك ما دهاها؟ ... أحقٌّ أنها درَسَتْ، أحَقُّ؟ وأينَ دُمى المَقاصرِ من حِجالٍ ... مهتَّكةٍ وأستارٍ تُشَقُّ ثم يصف الحور التي كانت مقصورات في الحِجال حين هُدمَت عليهن الدار وهُتّكت الأستار، فخرجن ومِن حولهن النار، التي أضرمتها حضارة المتحضرين الذين انتدبوهم ليدلّونا على طريق المدنية ... وأولادهن تحوطهم الأخطار، ولا يدرين أيّ طريق يسلكن للفرار: بَرزْنَ وفي نواحي الأَيْكِ نارٌ ... وخلفَ الأَيكِ أفراخٌ تَزُقُّ إذا رُمنَ السّلامةَ من طريقٍ ... أتَتْ من دونِهِ للموتِ طُرْقُ بِلَيلٍ للقذائفِ والمَنايا ... وراءَ سمائه خَطْفٌ وصَعْقُ إذا عصَفَ الحديدُ احمرَّ أُفْقٌ ... على جَنباتِهِ واسودَّ أُفْقُ سلي مَن راعَ غيدَك بعدَ وهنٍ (¬1) ... أبينَ فؤادِهِ والصّخرِ فرقُ؟ ¬

_ (¬1) أي بعد منتصف الليل.

ثم جاء بيت فيه حقيقة ننساها دائماً، وكان علينا أن نتذكّرها دائماً: وللمستعمِرينَ وإنْ ألانوا ... قلوبٌ كالحِجارةِ لا تَرِقُّ رحمك الله يا شوقي، لَهُمْ والله قلوب كالحجارة، ولكنهم يُلبِسون الحجارةَ ثوباً من ناعم الحرير فتخدعنا نعومة ظاهرها عن قسوة ما فيها. * * * أمّا صديقنا، بل أستاذنا خير الدين الزركلي، فليس من رجال شوقي ولا من طبقته، ولا أسلوبه من أسلوبه، على الرغم من أن شوقي آذاني بهذه القافية التي أحسّ كلما تلوت القصيدة كأنها مطارق تنزل على رأسي: دقّوا، دقّوا، دقّوا. رحمه الله، ما الذي جعله يختار حرف القاف من بين سائر الحروف؟ على أنه أحمد شوقي شاعر العرب، الذي لم يأتِ بعد أحمد المتنبي شاعر أشعر منه، ولا أحمد شيخ المعرّة صاحب اللزوميات. ولكني أفضّل هنا قصيدة الزركلي على قصيدته، لا أفضّل الزركلي ولا غيره عليه هو. الزركلي ابن الشام، ومهما كان البعيد فإنه لا يشعر بمأساة البلد شعور ابن البلد. وأسلوب الزركلي هنا أسلس وأليَن، وإن كان أسلوب شوقي أقوى وأمتن، وقافية شوقي كأنها الطريق الوعر فيه الحجارة والصخر، وقافية الزركلي كالسلسال الجاري والجادة المعبَّدة السهلة. والزركلي كان حيناً أشعر شعراء دمشق الأربعة، وإن كان قد انقطع عن الشعر من نصف قرن وانصرف إلى التأليف، فترك كتاباً من أعظم

ما أُلِّف في هذا العصر وهو «الأعلام». مطلع قصيدة الزركلي: الأهْلُ أهلي والدّيارُ دياري ... وشِعارُ وادي النَّيْرَبينِ شعاري (¬1) ما كان مِن ألمٍ بجِلّقَ نازِلٍ ... وارى الزّنادَ فزَندُهُ بي واري إنّ الدّمَ المُهراقَ في جَنَباتِها ... لَدمي، وإنّ شِفارَها لَشِفاري دَمعي لِما مُنيَتْ به جارٍ هُنا ... ودمي هناكَ على ثَراها جاري كان الشاعر في مصر، فرّ إليها وأقام بها لمّا حكم عليه الفرنسيون بعد ميسلون، كما فرّ إليها الدكتور شهبندر والأستاذ محبّ الدين الخطيب، وفرّ إلى فلسطين الشيخ كامل القصاب. والمدرّسون يعلّمون الطلاب أن الأسلوبَ العلمي يعتمد على الأفكار والأسلوبَ الأدبي على الصور، وأن الفكرة توصف بأنها صحيحة أو غير صحيحة أما الصورة فتوصف بأنها جميلة أو غير جميلة. وقصيدة الزركلي مملوءة بالصور، ولكنها ليست كالصورة في القصيدة العاطفية المَدار فيها على الجمال وحده، بل على الجمال والحقيقة، لأن هذه القصيدة وأمثالها تاريخ فنّيّ، أو فنّ تاريخي. أريد أن أقول إنها لا تكمل إلاّ إن جمعت بين الصدق وبين الجمال. الصدق لأنها تاريخ ليست خيالاً، والجمال لأنها أدب ليست مجرد وثيقة. وقد جمع الزركلي فيها الحسنتين: خبر موثوق في أسلوب جميل: ¬

_ (¬1) النّيرب كانت قُبيل الرّبوة في موضع الدوّاسة، وقد أكلت الشوارع الحديثة والساحات هذا كله.

يا وامضَ البَرقِ (¬1) اطمئنَّ وناجِني ... إنْ كُنتَ مطّلِعاً على الأسرارِ ماذا هناكَ؟ فإنّ صوتاً راعَني ... والصوتُ فيهِ جفوةُ الأذْعارِ وجاءه الجواب يبيّن ماذا هناك: النارُ مُحدِقةٌ بجِلّقَ بعدَما ... تركَت «حماةَ» على شفيرٍ هاري الطفلُ في يدِ أمّهِ غرَضُ الأذى ... يُرمى وليسَ بخائضٍ لِغِمارِ والشيخُ متّكئاً على عكّازِهِ ... يُرمى وما للشيخِ من أوزارِ لَهفي على المتخلّفينَ برَحبِها ... كيفَ القرارُ ولاتَ حينَ قرارِ كيف يَقَرّون وهم يرون الظالمين يرصدونهم، يُعِدّون لهم كأس الموت وعدّة الهلاك، إنهم: يترقّبونَ الموتَ في غَدَواتِهمْ ... وإذا نجَوا فالموتُ في الأسحارِ والظلمُ منطلقُ اليدَينِ محكَّمٌ ... يا ليتَ كلَّ الخَطْبِ خَطْبُ النّارِ ثم انطلق يرثي دمشق وحماة، وكل ما دمّر الآثمون وما قتلوا وما شرّدوا، يسائل الديارَ عن أهلها والقصورَ عن سكّانها والرياضَ عن قُطّانها: أُمَّ القصورَ نواعماً ربّاتُها ... ما للقصورِ دواثرَ الآثارِ؟ أُمَّ الجِنانَ الكاسياتِ رياضَها ... حُللُ السّنا ما للرّياضِ عَواري؟ أُمَّ الحياةَ ولِلحياةِ نَعيمُها ... هل في ديارِكِ بَعدُ مِن دَيّارِ؟ زهوُ الحضارةِ أنتِ مطلَعُ شمسِهِ ... أفتغتدينَ وأنتِ دارُ بوارِ؟ ¬

_ (¬1) البرق هنا أي الأخبار البرقية، ولم تكُن إذاعات.

أكُلّ هذا يُرتكَب باسم الحضارة؟ ويحَ الحضارةِ كيفَ يَمتهنُ اسمَها ... متكالبونَ على الضِّعافِ ضواري ولكن الضيم لا يدوم وربما ثار المظلوم، والإحراج يسبّب الإخراج، واللوم يومئذٍ على الظالمين: هُم أحرجوكِ فأخرجوكِ مَهيجةً ... فصرختِ فيهِمْ صرخةَ الجبّارِ وإذا الظّلامُ عتا تبلّجَ فجرُهُ ... ظُلمُ الحوادثِ مَطلَعُ الأنوارِ فلا تيأسي إنْ دُمّرتِ، فإنّ ما هُدِم يُبنى وما ذهب يُعوَّض: ما دمّروكِ هُمُ ولكنْ دمّروا ... ما كانَ فيكِ لهُمْ من استعمارِ * * * لقد رأيت في هذا القرن الذي عشت ثلاثة أرباعه مواقف كانت أسواقاً للشعر وميادين سباق للبلغاء، لا يبقى شاعر لا ينظم فيها قصيدة فتكون معارض للبيان. يوم مات سعد مثلاً، ويوم بويع شوقي بإمارة الشعر، ويوم مات شاعرا العربية شوقي وحافظ ... ومِن هذه المواسم الأدبية الثورة السورية. لقد عرضت هذه المختارات من قصيدتَي شوقي والزركلي لأني ألقيتهما وحفظتهما، وعندي (في ذهني وتحت يدي) قصائد أُخَر مِمّا قيل في الثورة، أكثرها ضاع ولم يبقَ مِمّن يحفظه إلاّ القليل. فهل ترون أن أجعل حلقة أخرى من هذه الذكريات للإشارة إليها وإيراد مختارات منها؟

إنها ليست من صلب موضوع الذكريات ولكنها تأتي على هامشه، ولعلّ فيها متعة لكم ومنفعة أكثر مِمّا في هذه الذكريات، فهل تحبون أن أتكلم عنها؟ إن قلتم نعم فموعدنا الحلقة القادمة إن شاء الله، وإن قلتم لا، فالأمر لكم. * * *

من شعر الثورة

-29 - من شعر الثورة الجهاد جهاد بالنفس وجهاد بالمال وجهاد باللسان، ولئن خاض ميدانَ القتال (أيام الثورة السورية) رجالٌ أبطال بسلاحهم وأيديهم، فلقد خاضه الشعراء بألسنتهم وبقصائدهم. والله يجزي الناس بنيّاتهم وبإخلاص عملهم لربهم، ولكن البشر يَزِنون الناس بأعمالهم، وقد ذهب ما صنع المقاتلون في المعارك ونسيناه وأحصاه الله، وبقي ما قال الشعراء. أفرأيتم بقاء الأدب في الدنيا ومصارعته النسيان؟ الذي لديّ من ذلك (أحفظه في ذاكرتي أو أجده مدوّناً عندي على خلاف عادتي) كثير، فيه تاريخ الثورة، فإن لم تهتموا بهذا التاريخ فإنكم واجدون فيه صوراً من حياة الناس في تلك الأيام وأنماطاً من أساليب الشعراء المتعدّدة في الموضوع الواحد. هذا يوم كان الشعر شعراً وكان الأدب أدباً، يوم لم يكن قد ظهر هؤلاء الذين عجزوا عن الشعر، لم يستطيعوا أن يصعدوا إليه فحاولوا إنزاله إليهم، ولم يقدروا أن يحملوا أنفسهم على ما يستلزمه من بلاغة المنطق وموسيقية التعبير واتساق أبيات القصيدة

في وزنها وفي قافيتها، فحمّلوا الشعر ركاكتهم وعامّيتهم ونشاز موسيقاهم، فكانوا كمن يشارك في جوقة تغنّي من مقام انسجم معه السامعون وألفته آذانهم، فغنّى من مقام آخر فشكّ الآذان وأذهب الطرب. ولكن المصيبة أن الكلام لا ينفع معهم لأنهم مثل الصمّ وأنت تقوم بينهم تعرّفهم مزايا الأنغام والفوارق بين المقامات، فهل يدرك الصمّ (أي الطرشان) دقائق النغمات؟ * * * وكان من كبار شعراء الشام شفيق جبري، وإذا مدحته اليوم فلطالما اضطرّتني ظروف الحياة إلى الهجوم عليه ونقده. كان رئيس ديوان المعارف، وذلك كوكيل الوزارة اليوم، والذي يتولى عملاً إدارياً له صلة قوية بالناس يكثر خصومه. وكنت شاباً مندفعاً فهاجمته مرات، ولما فُتحت مدرسة الأدب العليا (وكان مديرها سنة 1930 أو 1931) وعرّف الأدبَ بأنه أُلهيّة شريفة رددتُ عليه برسالة مطبوعة عنوانها «الأدب القومي»، ولكن لما نُحّي عن منصبه وجاؤوا بدكتور اسمه كامل أشرفية هاجمت الدكتور ومدحت جبري، ووضعت في رأس المقالة كلمة ابن هبيرة: «ما رأيت كالفرزدق، هجاني أميراً ومدحني معزولاً». وأشهد الآن وقد مضى للقاء ربه أنه كان شاعراً، ولعله أشعر أهل الشام، حاشا السنوات التي سبقت دخول الفرنسيين والتي توالت بعدها واتّقدت فيها شاعرية خير الدين الزركلي وجاء بتلك الروائع.

نُشِرَت قصيدة جبري أيام الثورة (ولم يصرّح فيها باسمه). أسلوبه فيها وفي غيرها الأسلوب الأنيق النظيف، وإن لم يكُن بالأسلوب المتدفق الذي تحسّ بأنه ينطلق مندفعاً من طبع شعري غزير النبع. في شعره روح من نفَس البحتري، وإن كان البحتري أجمل أسلوباً وأكثر طبعاً. مطلع القصيدة: مجدُ العروبةِ أقفرَتْ عَرَصاتُه ... والضَّيمُ حلّ، فأينَ أينَ أُباتُه؟ جُرحٌ بسَيفِ البَغيِ آلَمَ وَقعُهُ ... كَبِدَ الحياةِ فأينَ عنهُ أُساتُه؟ وإذا الهوانُ دهى الحياةَ فموتُ مَنْ ... أَنِفَ المُقامَ على الهَوانِ حياتُه ثم يشكو علّة كانت فينا (ولا تزال فينا)، هي أنّ منّا من يُعين عدوّنا علينا ويكون معه من دوننا: هل يبلُغُ الوطنُ المفدّى حقَّهُ ... وإلى بَنيهِ مِنَ البنينَ شكاتُه؟ أيُشادُ معهدُ عزِّهِ وزِمامُهُ ... بِيَدِ العدُوّ وهادِمُوهُ بُناتُه؟ ثم يذكر الجيوش التي حشدها العدو فوقفت لها وظفرت بها جماعات الثوار: وفيالقٍ حشَدَ العدوُّ خَميسَها ... في مأزِقٍ غُصّتْ بهِ لَهَواتُه طَلعَتْ عليهِ كتيبةٌ عربيةٌ ... فجرَتْ على أسيافِها مُهجاتُه فإذا رأيت الأسد سجيناً في قفص فلا تظنّ أنك تمكّنت منه، فإنه إذا كان الصدام رجع أسداً كما كان: لا تزدرِ الليثَ الحبيسَ فربّما ... عادَتْ -وقد شهِدَ الوغى- وَثَباتُه وأعاد الصورة التي ذكرها شوقي حين ذكر الأيك والنار التي شبّت من ورائه فقال:

ليسَت لِيَعرُبَ فِتيةٌ لم تُحيِهِ ... في موقفٍ عَجّتْ بهِ فَتَياتُه برَزَت فغيرَ الدّوحِ لم ترَ مَفزَعاً ... تحنو على أطفالِها أثَلاتُه أتبيتُ نهبَ العادياتِ خُدورُها ... ويضمُّها الوادي ومُنعطفاتُه؟ لا أعذرُ الصخرَ الأصمَّ وقد وعى ... تَنحابَها ألاّ تلينَ صَفاتُه والدوح والأيك البساتين التي التجأت إليها اللواتي هُدّمَت دورهن وشُرّدنَ هُنّ وأطفالهن. * * * وثالث شعراء دمشق الأربعة الكبار يومئذٍ هو خليل مردم بك، له قصيدة يقول في مطلعها إن دمعه غاض فمَن يساعده على ذرف العبرات: أمدّهُ الدّمُع حتى غاضَ جائدُهُ ... فمَن بأدمُعِ عينيهِ يُرافِدُهُ؟ وهو معنى قديم مطروق عبّدَته -من كثرة ما مشت فيه- أقدامُ الشعراء: نَزَفَ البكاءُ دموعَ عينِكَ فاستعِرْ ... عيناً لغيرِكَ دمعُها مدرارُ مَنْ ذا يُعيرُكَ عينَهُ تبكي بها ... أرأيتَ عيناً للبكاء تعارُ؟ (¬1) ثم يصف ضرب دمشق بالمدافع وإشعال النار في بيوتها: أمسى الذي كانَ في جنّاتِها فرِحاً ... بمارجٍ مِنْ سعيرِ النارِ واقدُهُ النارُ من فوقهِ والنارُ دائرةٌ ... به، فإنْ خرَّ أردتْهُ رواصدُهُ ¬

_ (¬1) البيتان للعباس بن الأحنف، وقد أتي بهما الشيخ شاهداً على أن الصورة قديمةٌ غيرُ مبتكَرة (مجاهد).

في كلّ زاويةٍ رامٍ ومَنْ نفَروا ... شيباً وحُوراً وأطفالاً طرائدُهُ ورُبّ مكنونةٍ كالدرِّ ضُنَّ بِهِ ... على العيونِ فصانتهُ نواضدُهُ وانظر هذه الصورة التي لم تكُن بنت الخيال بل كانت بنت الواقع، صورة الأم التي قتلوا بعلها فهربَت تحمل طفلها، فأصابته شظيّة بترت يده، فضمّت إلى صدرها جسداً جريحاً ينزف دماً: تخطّتِ النارَ ليلاً وهْيَ حاملةٌ ... طفلاً قضى برصاصِ القومِ والدُهُ فما تناءَتْ بهِ حتى أتيحَ له ... شظيّةٌ بانَ منها عنهُ ساعدُهُ ضمّتْ إلى صدرِها شِلْواً يسيلُ دماً ... كالطيرِ هاضَ جَناحاً منهُ صائدُهُ لقد تمنّى -لهول ما رأى- أن يكون أعمى حتى لا يرى: يا هولَ ذلكَ مِن مرأىً شهِدْتُ وقدْ ... ودِدْتُ لو كنتُ أعمى لا أشاهدُهُ * * * أما محمد البزم، رابع الشعراء، فهو جزل الألفاظ ضخم التراكيب، وإن كنت كتبت عنه وأنا طالب لمّا هجا أستاذنا الجندي في مجلّة الميزان عند أحمد شاكر الكرمي فقلت: إن شعره جدار من الحجارة لكنها مركومة ركماً ما بينها ملاط. وكان ذلك في أواسط العشرينيات. قصيدة البزم طويلة، على عادته في أكثر قصائده. سبعة وتسعون بيتاً من بحر واحد وقافية واحدة، وهي قافية تصلح للحماسة كما تصلح للغزل والرثاء، فهي من أليَن القوافي وأطوعها، ومن أرقّها إن شئت ومن أقواها. مطلعها:

غادِرْ دمشقَ ويمِّمْ دارَ سلطانا ... على السُّوَيداءِ لا تحفلْ بمنْ مانا فتى العروبةِ، دفّاع الكتيبةِ قدْ ... ضمّتْ أَشاويسَ وضّائينَ غُرّانا فيها مقطع عن حسن الخراط مطلعه: مَنْ مبلِغٌ مِنْ بَياني كلَّ شاردةٍ ... فتى العُلا حَسَناً حمداً وشكرانا وفيها نداء للجزيرة وأهلها: بني الجزيرةِ والأنسابُ جامعةٌ ... والحازمُ الشهمُ يلقى الدهرَ يقظانا يقول لهم: أما سمعتم -وأنتم إخوتنا في الدين وفي العروبة- بما نقاسيه؟ فكيف تقعدون عن نصرتنا؟ كيف تنامون على سُرُر النعيم ونحن نتقلّب على جمر الغضى؟ كيف تقرون (¬1) أسماعكم أصوات بلابل المغنّين وعنادل المغنّيات، ونحن لا نسمع إلاّ أصوات البارود يتفجّر والدور تنهدم، والأيامى يصرخن ولا من مجيب، واليتامى يبكون ولا من سامع؟ أينَ الحميّةُ، بل أين العروبةُ، هلْ ... غاضَ الوفاءُ وآضَ الوُدُّ هُجرانا؟ وينادي بني الشام: قَومي بني الشامِ هل مُصغٍ فأُسمِعَهُ ... قولاً يؤجّجُ في الأحشاءِ نيرانا ويقول للفرنسيين: أبناءَ «غَلْيةَ» (¬2) لا كانَ انتدابُكمُ ... فقدْ أَسالَ دماءَ العُرْبِ غُدْرانا ¬

_ (¬1) من القِرى بكسر القاف. (¬2) بلاد الغال: فرنسا.

لا تُرهِقوا العُرْبَ، فالعُرْبُ الكرامُ لهم ... إن أُرهِقُوا وَثبةُ الضّرغامِ غَضبانا ويا بني «السينِ» (¬1) نصحاً لا مِراءَ بهِ ... والنصحُ يسمَعُهُ ذُو الطيشِ أحيانا دعوا الشآمَ وخلّوا القاطنينَ بها ... ويمّموا غيرَ ذي الأوطانِ أوطانا * * * ولصديقنا، بل أستاذنا، عزّ الدين التنوخي قصيدة مطلعها: قِفْ في المنازلِ نادباً أطلالَها ... ماذا يُفيدُكَ أنْ تُطيلَ سُؤالَها؟ قدْ أُحرِقَتْ عمداً دمشقُ فلم تعُدْ ... تصفُ الجميلةَ للورى وجمالَها لا وصلُها ذاكَ الوصالَ وأهلُها ... في الغُوطتينِ ولا الدّلالُ دلالَها النارُ تُمطِرُها العشيّةَ وابلاً ... والعِلجُ ويلَ العلجِ جاسَ خلالَها لبِثَتْ ثلاثاً (¬2) والمدافعُ قُذَّفٌ ... الرّعدُ يقصِفُ ما حكى جلجالَها ثلثا دمشقَ يُهدَّمانِ تمدّناً ... ومنَ الدماءِ ترى بهِ أسيالَها إنّ الدخانَ إلى السما متصاعِداً ... يشكو الحضارةَ والوحوشَ رجالَها والقصيدة في ثمانية وأربعين بيتاً كلّها من هذا النفَس: شعر مطبوع وبحر طيّع، وقافية لعلها أوسع القوافي وأسهلها وأصلحها ¬

_ (¬1) نهر السين. (¬2) هي الأيام الثلاثة التي احتلّ فيها الثوّار دمشق من 18 إلى 20 تشرين الأول (أكتوبر) 1925 (ربيع الأول 1344هـ).

لكل فنّ من فنون الشعر. وَصَف المشهد الذي تكرّر في قصائد الشعراء، مشهد المخدَّرات قد رُوّعن فخرجن مذعورات، والرجال الذين قُتلوا، والأطفال الذين شُرّدوا. فيا ليت واحداً من طلاّب الأدب يأخذ هذه الصورة وما قال فيها كل شاعر، فيدرس في ذلك مذاهب الشعراء وأساليب القول: يا رُبَّ آمنةٍ هناكَ بسربِها ... تغدُو لتُصلِحَ دارَها وعِيالَها أمسَتْ وما غيرَ السماءِ لِحافُها ... ظلماً ولا غيرَ الطريقِ حِمىً لَها برَزَتْ تصيحُ وشَعرُها متفرّقٌ ... ستَرَتْ بهِ حذَرَ العيونِ جمالَها وهناكَ نائحةٌ تنوحُ لبعلِها الثّـ ... ـاوي وتندبُ بعده أطفالَها الله للأطفالِ كيفَ غدتْ لقىً ... صرْعى القنابلِ بعثرَتْ أوصالَها ووصف ما لقيَت حماة فقال: أعلِمْتَ أنّ حَماةَ لم يَدَعُوا بها ... حَجَراً على حَجَرٍ يُريكَ ظلالَها عرّجْ على الوادي فليسَ بهِ سوى «الـ ... ـعاصي» يُريقُ منَ الدموعِ سجالَها وسوى النواعيرِ التي بنُواحِها ... تبكي حَماةُ نساءَها ورجالَها * * * ولمحمد الشريقي قصيدة يقول فيها: أرأيتَ جِلّقَ والنيرانُ تأكُلُها ... ومارِدُ الغدرِ يغشاها فتضطرمُ أمضّها الرُّزءُ حتّى أُفقُها رَجِمٌ ... وهاجها الحُزْنُ حتّى دمعُها ضَرِمُ رسل التمدّنِ والإجرامُ مثلَبةٌ ... وليسَ يصلُحُ للأحكامِ مجترمُ الصخرُ أكثرُ عطفاً من قيادتِكم ... منهُ العيونُ ومنكمْ هذه الحِمَمُ

رُسلَ التمدّنِ إنْ كانت شريعتُكم ... هدمَ البلاَدِ قلىً لاَ كانَ شرعكُمُ لا تحسَبُوا أنّ هذا الشعبَ يرهبُكم ... إذا بغَيتم فبغيُ الناسِ قبرُهُمُ ومن قصيدة وجدتها عندي لشاعر اسمه علي منصور لا أعرفه، من الشعر السهل الطريّ الذي يذكّر بشعر أبي العتاهية: ضعي لظلمِكِ حدّا ... فقدْ تزايَدَ جِدّا وغادِري الشامَ تسكُنْ ... وأرضَ حورانَ تهدا ولا يغرَّنْكِ جُندٌ ... فالحقُّ أكثرُ جُنْدا وعندي لشاعرنا الكبير خير الدين قصيدة قالها في رثاء فؤاد سليم من قُوّاد ثورة الدروز، من هذا الطراز، وإن كانت أحسن سبكاً وأجمل أسلوباً، كأن فيها من روح البهاء زهير حين يقول: إنْ تنسَ عهدي فإني ... واللهِ لم أنسَ عهدَكْ صدَقْتَ والله عهدَكْ ... لا جفَّ دمعيَ بعدَكْ آليْتَ ميتةَ حرٍّ ... ومتَّ تحملُ بندَكْ قضيْتَ حقَّ العوالي ... وأنتَ تقتادُ جُندَكْ عملْتَ للمجدِ حتّى ... أدركْتَ بالموتِ مجدَكْ وللصديق الشيخ محمد سعيد العامودي قصيدة يعارض فيها قصيدة ابن هانئ الأندلسي مطلعها: القومُ قومُكِ والبنونَ بَنوكِ ... والطامحونَ إلى العُلى أهلوكِ يقول فيها: المُلْكُ مُلكُ بني أميّةَ ناطقٌ ... عن أمسِكِ الزاهي وعنْ ماضيكِ والسّؤدَدُ العربيُّ والتاريخُ قد ... شهِدا المحاسنَ في رُبى واديكِ

والمشرَفيّةُ قد رَوتْ وتحدّثَتْ ... عن عزّةٍ قَعْساءَ تكمُنُ فيكِ أدِمشقُ يا بلدَ الكرامِ ومعقِلَ الـ ... أبطالِ في يومِ القَنا المشبوكِ يا موطِنَ الأحرارِ والأخبارِ من ... أهلِ الوفاءِ إذا دعا داعيكِ إن هبّ في أرضِ الجزيرةِ معشرٌ ... فالسابقونَ إلى الأمامِ ذوُوكِ أو ثارَ من بينِ الأعارِبِ ثائرٌ ... فالثائرونَ الأوّلونَ بنوكِ ومن قصيدة الصديق الأستاذ تيسير ظبيان يخاطب القائد الفرنسي: ما جئتَ تُلقي سلاماً في مواطِنِنا ... لكنْ أتيتَ بتضليلٍ وتَمْويهِ لتسلُبَ الشعبَ حقاً لستَ تنكرهُ ... فَكيفَ تَسلُبُ مالاً أنتَ حاميهِ أبِالقذائفِ والنّيرانِ تُرهِبُهُ ... وبالوظائفِ والأموالِ تُغرِيهِ إنّ السيوفَ التي كانت تجرّعُكمْ ... كأسَ المنيّةِ مَا زالتْ بأيديهِ فاحملْ متاعَكَ وارحل عن منازلنا ... «فصاحبُ البيتِ أولى بالذي فيهِ» ومن قصيدة للأستاذ أديب التقي: تلكَ العقائلُ مَنْ أدمى أناملَها؟ ... مَنْ راعَ آمِنَها في الحِنْدِسِ الدّاجِي؟ مَنْ فضَّ بُرقُعَها؟ مَن حلّ مِئزرَها؟ ... من ساقها حاسراتٍ بينَ أفواجِ؟ * * * هذه نماذجُ ممّا قيل في الثورة السورية سنة 1925، فيها موضوع دراسة للأديب، وذكرى للمذّكّر، وعِبْرة لعاقل يريد أن يعتبر. * * *

النجاح في البكالوريا والسفر إلى مصر

-30 - النجاح في البكالوريا والسّفر إلى مصر مرت بمكتب عنبر قبلنا أفواج وأفواج، لكن لم يلقَ واحد منها ما لقيناه من عقبات عند دخولنا إليه وخروجنا منه. كان مَنْ قبلنا يدخلون إليه من الباب المفتوح، فما هي إلاّ أن يُبْرِزوا الشهادة حتى يُدعَوا إلى الدخول، فوضعوا أمامنا نحن سداً لم نستطع أن نتخطاه بشهاداتنا وحدها بل بمسابقة أجروها بيننا، فلم يدخله إلاّ السابقون منا. وكان مَن قبلنا يمتحن في المدرسة بما تعلّم فيها، فيُمنح إجازتها ويخرج منها، فلما عُدت إلى المدرسة بعد ابتعادي عنها واشتغالي بالمحاسبة وبالتجارة، كان ذلك في سنة 1927 وكانت عودتي إلى شعبة الأدب، ووفّق الله وكنت الأول بين رفاقي. في آخر تلك السنة حين لم يبقَ منها إلاّ شهران فوجئنا بإحداث نظام البكالوريا وبقرار الفرنسيين أن تُطبَّق علينا المناهج التي تطبق على طلاب فرنسا، وأن تُقرّر لنا الكتب التي كانت مقرّرة لهم ..

واستعدّ لها من كان أمامنا الاستعداد الذي قدروا عليه في المدّة القصيرة التي كانت قد بقيَت بينهم وبينها، وكانت نسبة النجاح ضئيلة، بل كانت مرعبة إذ كان الناجحون (فيما أذكر) لا يزيدون على ثلث الطلاب. وكان منهم (أو كان فيمن يخطر على بالي الآن منهم) جميل سلطان، وزكي المحاسني، وعبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)، وبشير العظمة، ومنير شورى، وعبد الباسط العلمي، ومن حلب أسعد الكوراني. وكنا نحن بعدهم، فتهيأنا من أول السنة لامتحان البكالوريا، ومن العجائب أني تركت شعبة الأدب ودخلت البكالوريا في شعبة العلوم! ومرّت السنة وساقونا إلى الامتحان في البناء الذي كنت حدثتكم عنه لما انتقلَت إليه مدرستنا (السلطانية الثانية) سنة 1919. هذا البناء القائم بين التكية الكبرى (تكية السلطان سليمان القانون) والتكية الصغرى (تكية السلطان سليم) على نهر بردى، بعمارتها التي تشبه قصراً صغيراً من قصور أوربا في القرون الوسطى. جمعوا فيه لهذا الامتحان الرهيب طلاب الثانوية الرسمية (مكتب عنبر) والمدارس الأهلية الإسلامية، والمدارس النصرانية: العازارية والفرير واللاييك وغيرها، وطالبات هذه المدارس كلها. وجاء اليوم الذي لا أنساه، يوم وقفنا نستمع إلى «دنلوب» سوريا المستشار المسيو «راجِه» يقرأ أسماء الناجحين، وكان قلبي كما قال الشاعر: كأنّ قَطاةً رُكّبَتْ بجناحِها ... على كبدي من شدّةِ الخفقانِ ويظهر أن الشاعر من كثرة اضطرابه خلط بين الكبد وبين

القلب (والعرب تسمي القلب كبداً). وكانت كلّ خلية في جسدي أذناً مرهفة تستمع؛ أتصوّر الرسوب فأنظر أين أهرب حتى لا يراني الناس وإلى أين أهرب حتى لا يعيّروني برسوبي، تمرّ عليّ الخواطر كأنها شريط سينما قد أفلت فهو يكرّ بسرعة حتى ما يستطيع الناظر إليه أن يتبيّن مشاهِدَه، لا أنظر إلى أحد ولا ينظر إليّ أحد قد شُغل كلٌّ بنفسه. وفجأة سمعت المستشار ينادي: بوش غا كود سي آلي تان تاوي (أي بشرى قدسي، علي طنطاوي). لمّا سمعت اسمي لم أعُد أبالي بشيء، وصار همّي أن أجد طريقاً لأحمل فرحتي وأخرج بها لئلاّ تسقط مني وسط الزحام. لقد كانت إحدى الفرحات القليلة التي أحسست بها في حياتي، فهل يُكتَب لي أن أسمع اسمي مع الناجحين مرة ثانية في الامتحان الأخير الذي ليس له دورة ثانية ولا لمن خسر فيه سبيل إلى إعادته؟ والله ما لي عمل أقدّمه لأستحقّ به النجاح في ذلك اليوم، ما أتكل إلاّ على كرمك يا كريم، يا أكرم من كل كريم، يا رب. * * * ثم كانت مفاجأة أخرى! جاء كتاب من خالي مُحِبّ الدين يخطب أختي لشريكه عبد الفتاح قتلان، فوافقَت هي ووافقنا، ودعاني أن أذهب بها إلى مصر. إنكم لا تدرون ماذا أثارت هذه الدعوة في نفسي من مشاعر وفي ذهني من خواطر. كانت مصر في خيالنا يومئذٍ دنيا مسحورة فيها العجائب، وكل مرغوب فيه يأتينا منها، المجلاّت

والصحف، الحركات الفكرية والوطنية تنبثق منها، الرجال الذين نقرأ لهم والشعراء الذين نحفظ شعرهم منها ... وكان تخيّل ذهابي إليها أكبر من أن يمرّ وصفه من شقّ القلم، والتعبير عنه مهما كان بليغاً لا يبلغ حقيقته. وكنت أسمع أن الأحرار من أرباب الأقلام ومن عُشّاق الحرية يؤمون مصر: أستاذنا محمد كرد علي، ومن قبله شيخ مشايخنا السيد رشيد رضا، ومن بعده خالي وأستاذي محب الدين، يأتون من كل مكان من المغرب، من الجزائر، من تونس، من ليبيا ... فلما طلب إليّ أن أسافر إلى مصر تراءى لي هذا الحلم دانياً كأني ألمسه. ولكن كيف أترك أمي وما عشت يوماً بعيداً عنها، وقد صرت أنا رجل البيت (كما يقولون) بعد موت أبي؟ وكيف أفارق دمشق وأنا لم أخرج منها إلاّ إلى ضواحيها وقراها، حتى بيروت أقرب المدن إلينا وأمسّها صلة بنا ما زرتها ولا عرفتها؟ وإذا كنت أعجز عن السفر وحدي، فكيف أتولّى أمر أختي وحمايتها وحمل أمانة صيانتها وإيصالها؟ وأُعِدّ جواز السفر، ولا يزال عندي (في دمشق) بأختامه وسِماته وتأشيراته. كنت على عتبة العشرين وكانت أختي أصغر منّي بما لا يزيد إلاّ قليلاً عن أربع سنين، ولكني مع ذلك أذكر يوم ولادتها، أراه واضحاً من وراء سبعين سنة، فكيف أذكره وقد كنت ابن أربع سنين؟ كنت مع عمتي في دار الشيخ عبد الوهاب، وهو خال أبي ولكني أدعوه عمي. وكانت لنا جارة من فرط حبها لنا وَصِلَتِها

بنا وأنها ربتني وأولتني من حبها، لا أقول مثل الذي أولَتني أمي ولكن قريباً منه، لقد كبرت ولا أعتبرها إلاّ قريبة لي. جاءت تخبرنا أن أمي في المخاض، وهي تريد أن تأخذنا إليها وتأخذ القابلة في طريقها. وكانت بين الأحياء بوّابات تُغلَق بعد العشاء ويقوم الحارس من ورائها فلا يفتح إلاّ لمن عرفه واطمأنّ إليه، فنادينا من وراء البوّابة: "قضية ولادة، نريد أن نأتي بالقابلة" ففتح لنا. * * * وكنت أسمع من صغري أن لي عماً في إسطنبول يلاحق دعوى قضائية على وقف بيننا وبين آل الصلاحي، بقيَت في المحاكم ما بين دمشق وإسطنبول ... تدرون كم؟ قد لا تصدقون إن قلت لكم (وما أقوله الحقّ) ثلاثاً وثمانين سنة! مات من أقام الدعوى ومات من أقيمت عليه، ومات أولادهم وجئنا نحن، فما أدري والله هل كان الحقّ معنا أم كان علينا، ولكن أهل «باب المُصلّى» في دمشق يسمّون البستان المتنازَع عليه «جنينة الطنطاوي»، والله أعلم. فما قيمة حقّ يصل إليه صاحبه بعدما يموت هو ويموت ولده؟ أتدعو ضيفاً إلى عشاء فتؤخّره حتى يموت من الجوع، ثم تتصدّق به على قبره؟ وكنت أسمع أن لي خالاً في مصر يكتب في الصحف في المؤيّد والأهرام، وله مطبعة وله مجلّة، ثم قدم أيام الاستقلال ثم حُكم عليه بعد ميسلون ففرّ إلى مصر. وكنت أحب السفر إلى مصر لألقاه. وجاء يوم السفر، وكان اليوم الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) سنة 1928، وجئت محطّة الحجاز، هذه العمارة التي

كانت (وأظنها لا تزال) تحفة في فنّ البناء، ومثلها (وإن كانت دونها في جمالها) محطة العنبرية في المدينة. وقد سمعت أنهم يفكّرون في هدمها، فإذا قبلتم مني فدَعوها، دعوها فكأنكم إن هدمتموها قتلتم رجلاً في ذهنه تاريخ وفي جعبته تحف ومعه قطعة من بلادكم، فلا تبتروا قطعة عزيزة من جسد بلادكم. وكانت المحطّة "مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمِن مسافر عجِل ومن مودّع باكٍ، ومن بائع ينادي، ومن آتٍ وذاهب وطالع ونازل. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا وإلى جانبي أختي الصغيرة، أنظر إلى بعيد فأرى هناك، في أخريات الناس، امرأة تمسك بيدها طفلين متلفّعة بملاءة لا تُبدي منها شيئاً، ولكنّ وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا في القطار، وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً ويسيل حباً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجوف وزلزالاً يدكّ نفسها دكاً، بَيْد أنها صبرت على هذه كما صبرت على غيرها، فأجزل اللهمّ لها الأجر على هذا الصبر. وصفر القطار يحملنا إلى مصر فازداد القلب خفقاناً واضطراباً، ثم نفث دخانه كأنما هو حيّ تملّكه موقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين والألم الحبيس، ثم هدر وسار. وراحت المحطّة تبتعد عنا وعيني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوّح لي بمنديل أبيض ... حتى غاب عنّي كل شيء: وتلفّتَت عيني فمُذْ خَفِيَتْ ... عنّي الطّلولُ تلفّتَ القلبُ

هنالك رأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي" (¬1). * * * كان القطار يسير من دمشق إلى حيفا النهار بطوله، فإذا وصل حيفا مساء بات المسافر فيها، حتى يصبح فيركب قطار فلسطين الذي يخرج في الثامنة صباحاً فيمشي إلى حدود القناة، وهنالك ينزل منه المسافرون فيركبون «معدّية» تنقلهم إلى الضفة الأخرى منها، فيجدون قطار مصر الذي يصل القاهرة الساعة العاشرة والنصف ليلاً. خلفت ورائي عالَمي الذي أعرفه كله وأقبلت على عالَم كله جديد، وكنت موزَّع اللبّ بين حزن الفراق، وحماية الأخت، والتطلّع إلى ما أنا مقبل عليه. وأنا لا أحب السفر إلاّ في القطار، فإنك تستطيع أن تقوم فيه وتقعد، وإذا نعست قدرت أن تنام، وإذا جعت وكان معك مال قصدت المطعم. وأنظف المطاعم عادة وأغلاها مطاعمُ القطارات، تأكل والدنيا تمرّ بك، تمشي أمامك مشي الجند أمام القائد الذي وقف يعرضها (أي يستعرضها)، تبدأ غداءك أو عشاءك في بلد وتنتهي منه في بلد، وإذا وقف القطار في محطة استطعت أن تخرج فتمشي فيها. ¬

_ (¬1) هذه قطعة من مقالة لي في «الرسالة» سنة 1937. قلت: والمقالة منشورة في كتاب «من حديث النفس» وعنوانها: «ذكريات» (مجاهد).

لا كراكب الطيّارة الذي يسافر كأنه محبوس مصفّد بالأغلال، عالَمه الذي يستطيع أن يتحرك فيه ما بين مقعده والحمّام أو موضع التدخين، وإن كان سفرك طويلاً وكان جارك مزعجاً، أو كانت أماً معها أولاد لا يسكنون ولا يسكتون، كانت السفرة تعذيباً وعملاً شاقاً. ولقد ضايق الأولاد المضيفة (¬1) مرّة يَعْدون بين رجليها، يكادون يُسقطون طباقها وكؤوسها فقالت لهم: يا أولاد، اقعدوا أو اطلعوا العبوا «برّا»! وكنت أنا وأختي من ركّاب الدرجة الثالثة، اخترناها لأن القطار لم يكُن فيه درجة رابعة! وما أكلنا في المطعم ولا عرفنا أن في القطار مطعماً يأكل فيه الناس، وما أدري فلعل قطارات تلك الأيام لم تكُن فيها مطاعم. كنت مُقدماً على عالَم مجهول، فلا أخطو خطوة إلاّ بعد التفكّر في عواقبها. ووصلنا حيفا، ورأيت البحر أول مرة في عمري، ما رأيته قبلها. وكنت خائفاً ولكني أتجلّد وأتظاهر بالجرأة والمعرفة. هل أُطلِع أختي على تهيّبي وخوفي؟ ومشينا وأنا أوهمها أني أدري إلى أين أسير، وما كنت أدري شيئاً حتى رأيت لوحة فندق فدخلته، وكان أول فندق أدخله في حياتي. قلت لكم إني لم أخرج من دمشق من قبل إلاّ إلى ضواحيها ¬

_ (¬1) ذكر الشيخ -رحمه الله- هذه الطرفة مرة أخرى في الحلقة 101 من هذه الذكريات، فعلّق عليها في مثل هذا الموضع بقوله: "وجود نساء مضيفات يسافرنَ بلا محرم ويَبِتْنَ حيث نعلم ولا نعلم عادة سيّئة، يحرّمها دين الإسلام وتأباها خلائق العرب" (مجاهد).

أعني مكاناً يبيع الحمّص والفول، وكان فارغاً فقعدنا وأكلنا، وهي لا تعرف كيف تأكل والناس ينظرون إليها: أتكشف وجهها أم تأكل والخمار مُسدَل عليها؟ ومرّ الأمر بسلام فلم يكُن هناك أحد. وخرجنا نرى البلد، فمن جهلي دخلت المرفأ المظلِم بدلاً من أن أقصد الشوارع المضيئة، ثم خفت أن يظنّ الناس بنا شراً إذ يرون شاباً وبنتاً منفردَين في المرفأ الخالي فخرجنا، ولم أهتدِ إلى طريق البلد، فأظهرت أني أريد النوم حتى ننهض مبكّرَين لنلحق القطار، مع أن محطة القطار إلى جنبنا ما فارقناها ولا ابتعدنا عنها. وأصبحنا فركبنا قطار فلسطين، ومرّ على تلك البلاد والبساتين التي كانت جنّات أضعناها لمّا تركنا الواغلين يدخلون علينا، وبعناهم أرضنا، واختلفنا وتنازعنا حتى اتحدوا علينا، وأعانهم ناس ليسوا من دينهم ولكن عداوتنا وبغضهم لنا وحّدَهم علينا. ولمّا قطعنا الترعة وصرنا في قطار مصر أمنتُ وسكنَتْ نفسي. لقد عرفت أني سألقى مَن يستقبلني ويدلّني وسأطرح ثقل الأمانة عن عاتقي. ومررنا بالقرى والمدن، فصرت أتطلع إليها مطمئناً وأتأملها، وأستمتع بجِدّة المناظر والوصول إلى ما كنت أعدّه من المجهول، حتى إذا قيل «هذه مصر» ورأيت محطّة باب الحديد، رأيت شيئاً عظيماً كان فوق ما كنت أتخيل. * * *

اليوم الأول في مصر

-31 - اليوم الأوّل في مصر كانت سفرتي إلى مصر سنة 1928 أكبر حادث حدث لي في شبابي، ترك أعمق الآثار في نفسي وفي فكري وفي سلوكي، ولكنّ الخسارة التي لا تُعوّض أنّي لم أدوّنها في حينها. كنت كالذي زعموا أنه وصل إلى «الكنز المرصود» فوجد ركاماً من الذهب والحليّ وأكواماً من الجواهر والألماس، فلم يحمل ما يقدر على حمله منها بل دفعه الطمع إلى أن يبحث عن غيرها علّه يجد أغلى منها، فلما تركها وابتعد عنها ضلّ طريق العودة إليها، فلم يبلغها ولم يرجع بشيء منها. فخذوها نصيحة مني، نصيحة من مجرّب يريد أن يجنبكم عواقب السيِّئ من تجارِبه: دوّنوا كلّ ما يمرّ على أذهانكم من أفكار وما يعتلج في نفوسكم من مشاعر، اكتبوه في حينه، فإنكم إن أجّلتموه فتّشتم عنه فلم تجدوه. فيا ليتني كتبت ما أحسسته وما فكّرت فيه ساعة وصولي إلى مصر! تقولون: اكتبه الآن. الآن؟ هيهات! فلا أنا الآن «أنا» في ذلك اليوم، ولا مصر مصر، ولا أهلوها أهلوها. لا أقول إنهم

كانوا أحسن أو إنهم كانوا أسوأ، بل أقول إنهم تغيروا، «ومَنْذا الذي يا عزُّ لا يتغيّرُ؟» (¬1). وهبْ أن مصر ما تبدّلت، أفما تبدّلت أنا؟ نحن نرى الدنيا من خلال نفوسنا، كالذي يبصر وعلى عينيه النظّارات: إن كانت النظارة دخانية رأى الدنيا معتمة، وإن كانت زهراء رآها مشرقة، وإلاّ فلماذا يصف الشاعر الفَرِح الدنيا ضاحكة ويصفها الحزين باكية، والدنيا هي الدنيا ما ضحكت ولا بكت؟ ولو كانا مصوّرَين لملأ الأول لوحته بالألوان القاتمة وجعلها الثاني زاهية الألوان، والمشهد واحد أمامهما. ألا يمكن أن تكون فلسفة التشاؤم عند بعض الفلاسفة آتية من صداع ملازم أو عسر هضم، سوّأ عيشه وسوّد الدنيا أمامه؟ فما قيمة فلسفة كان يهدمها دواء مُسَكّن أو عقّار (¬2) هاضم ثمنه نصف ريال؟! لقد كانت صورة رائعة لمصر تلك التي انطبعت في نفسي ساعة وصلت إليها، ولكني لم أستخرجها وأحتفظ بها بل صوّرت المشهد بعدها من غير أن أدوّر «الفلم»، فجاءت عشرات من الصور بعضها فوق بعض، فتداخلت خطوطها واختلطت معالمها ولم أعد أستبين واحدة منها. فهل أسجّلها الآن بعدما مرّ عليها أربع وخمسون سنة؟ بعدما ¬

_ (¬1) الذي اختاره العلماء أن تُكتب «مَنذا» موصولة الحروف كالكلمة الواحدة. والنداء المرخَّم (كقوله: يا عزّ) يجوز بفتح الزاي أو بضمها. وهذه فائدة على الهامش. (¬2) واحد العقاقير عقّار بالتشديد.

فقدتها؟ لقد سقطت مني في مسالك الحياة وفي مسارب العمر. إن الذي يسقط منه شيء يعود أدراجه يفتش عنه في الطريق الذي جاء منه، فمن لي بأن أعود لأسلك كَرّةً أخرى طريقي في الحياة؟ أعود إلى الشباب؟ إلى سنة 1928 وما بعدها؟ ثم انقضَتْ تلكَ السُّنونُ وأهلُها ... فكأنّها وكأنّهم أحلامُ في الحلم يغفل العقل، أيْ يغيب الرقيب، فتنطلق الأماني المحبوسة وتتكثّف وتتجسّد أمامك حتى تحسّ بها: تراها، تلمسها، تكلمها، تعيش فيها ... كل ما كنت تتمناه تراه قد جاءك من غير أن تمدّ إليه يداً أو تخطو إليه بقدم. إن كنت فقيراً تتمنّى الغِنى تدفّق عليك المال، وإن كنت عاشقاً بلغت الوصال، تشعر أنك تطير على ظهر الرياح بلا طيارة ولا جناح. ثم يصحو النائم ويتصرّم الحلم، فإذا العالَم الذي كنت تعيش فيه ليس إلاّ صورة في فِلْم أو مشهداً في لوحة راءٍ (¬1) انقطع عنه التيار، فإذا اللوحة بيضاء! إن الذي فات مات (كما تقول المسرحيات)، ويستحيل أن يرجع في الدنيا الأموات. ¬

_ (¬1) كنت قد سمّيت الراديو من قديم «الرادّ» (اسم فاعل) لأنه يردّ علينا الصوت الذي يخرج من الإذاعة، فلما جاءنا التلفزيون أيام الوحدة كلّفوني وضع اسم له، فوجدت أن المعنى الحرفي للتلفزيون هو الرؤية من بعد، كما أن معنى تليفون الصوت من بعد والتلغراف التخطيط من بعد (وكلها من اليونانية)، فسميته «الرائي» بمعنى المرئي كقوله تعالى {في عيشةٍ راضيةٍ} أي مَرضيّة، على طريقة المجاز العقلي.

تركتكم في الحلقة الماضية في محطة باب الحديد؛ بلغتها بعدما ظننت أني لن أبلغها، فقد كانت تلك السفرة أمتع وأقسى ما مرّ بي، كنت كالغريق فلما رأيت خالي ومن جاء معه لاستقبالي أحسست كأن يداً تمتد إليّ تمسكني ثم تنقذني! وخرجت معهم وهم يسألونني عن سفري، وأنا أجيب بنصف ذهني ونصفه مشغول بتأمّل ما أرى. كنت في مثل نشوةِ الحالم، فأنا معهم بجسدي، وأنا بعيد عنهم بنفسي. كنت أعلم أن الحلم يمّحي إن تيقظ الحالم، فما لهذا الحلم العجيب يبقى معي، أحيا فيه ولست نائماً؟ لا تعجبوا؛ فإن السيّاح الذين يجوبون أقطار الأرض والذين جزعوا مشرقها ومغربها يجدون في مصر -إذا جاؤوها- ما يرغّبهم فيها ويشدّهم إليها، فكيف بشابّ على أبواب العشرين لم يرَ في عمره بلداً غير بلده دمشق؟ ودمشق على جمالها وبهائها لم يكُن فيها يومئذٍ مثل ما في مصر من الميادين والشوارع والحدائق والمتاحف، ولا كان ذلك في شيء من مدن الشام والعراق. وأول ما أدهشني أننا خرجنا من المحطة وقد انتصف الليل أو كاد، في الساعة التي تُغلَق فيها الحوانيت في الشام وتخلو الطرق وتنام المدينة، فإذا الشوارع هنا مزدحمة بالناس، وحافلات الترام ممتلئة، والدكاكين مفتوحة ... أفلا ينام أهل مصر لا في الليل ولا في النهار؟ ووصلنا الدار في موهن من الليل (¬1) فزاد دهشتي أن ¬

_ (¬1) أي في نصف الليل.

وجدتهم يُعِدّون العشاء، ورأيت -بعدُ- أنّ هذه عادتهم كل يوم: يبقى خالي في المطبعة إلى أن يمضي ثلث الليل، والشغل دائر والمطبعة شغّالة، ثم يخرج إلى ميدان باب الخلق حيث عربات بيّاعي الفواكه التي تُدفَع باليد وعلى كل عربة مصباح من مصابيح الغاز التي تُدعى في مكة «الأتاريك» (¬1)، فيشتري بعض ما يجد: بلحاً أو عنباً أو تلك التي كرهت ريحها من أول يوم فما أكلتها، الجوافة. ويأخذ البياعُ ورقة يلفّها على هيئة القمع الكبير يضعها فيها، ونصعد بها إلى الدار (وكانت الدار فوق المطبعة) فنجد العشاء. وأوينا إلى مضاجعنا عشيّة وصولي مصر وقد شاخ الليل ودنَت ساعة السحَر، ولكني لم أنَم. إن الذي تُبدَّل وسادته أو تُغيّر غرفته لا ينام، فكيف بمن ودّع حياة ألفها وعرفها في بلده وجاء يبدأ حياة في بلد آخر لم يألفها ولم يعرف عنها إلاّ أقلّ من القليل؟ وجعلت أتقلب على الفراش حتى سمعت (أو خُيّل إليّ أنّي سمعت) أذان الفجر، فقمت لأتوضأ. وتحققتُ من دخول الوقت فصلّيت وعدت أحاول النوم، وما قام للصلاة أحد مِمّن كان في الدار، وكان ذلك ثاني ما أدهشني. وبلغ منّي النعاس بعد مشقّة السفر وطول السهر، ولكني لم أنَم إلاّ لماماً. إن من يصل ليلاً إلى البلد الجديد يبيت متطلعاً يرقب ضياء النهار ليرى ما الذي كانت تخفيه ظلمة الليل، وإن كان ليل القاهرة ما فيه من ظلام. إن شعوره كشعور من تأتيه الهدية يعرف ¬

_ (¬1) ولعلها محرَّفة من «إلكتريك».

نفاستها ولكن يجهل نوعها، فهو يفكّ شريطها أو يفتح صندوقها تتجاذبه فرحتان: انتظار الشيء النفيس وكشف المجهول الجميل. أو كمن يشتري القصّة البارعة حين يفتح أول صفحة منها. * * * ونهضت (كما نهضوا) ضحىً، فأكلنا الفول. وفول مصر صغير لذيذ، وفول الشام كبير. ولهم في إعداده طريقة غير طريقة أهل الشام، أما ثمنه فيكفي أن أقول لكم: إن خالي كان يسلم زوجته كل صباح ريالاً تشتري منه الغداء والعشاء (ولا بدّ فيهما من طبخ ورز ولحم، والفاكهة والأنقال) لثمانية أشخاص، وقد تبقى من الريال بقية. ونزلت إلى المطبعة في شارع الاستئناف، فخرجت منه إلى ميدان باب الخلق. وكان أكبر من «المرجة»، الميدان الوحيد في دمشق، أبصرت فيه النيابة والمحافظة من هنا، ودار الكتب والمتحف الإسلامي من هناك. وكانت مصر (أعني القاهرة) كبيرة في تلك الأيام، ليست مدينة ولكنها -في حقيقتها- مدن في مدينة. مدن مشت من حيث مشى التاريخ؛ أولها أوّل التاريخ الإسلامي في مصر، «الفسطاط» التي بناها الصحابي الفاتح عمرو بن العاص، وهي مصر القديمة. ثم امتدّ التاريخ وامتدّت القاهرة فجاء أحمد بن طولون فبنى مدينة «القطائع»، وهي حي السيدة. ثم جاء جوهر قائد المعز العُبَيدي فبنى القاهرة، ثم كانت أيام الحملة الفرنسية فسكنوا عند العتبة والأزبكية. ثم تواصلت هذه المدن وتداخلت. وكانت

مصر الجديدة في سنة 1928 منفصلة عن القاهرة، وشبرا كانت مثلها. ولو تُرك الأمر إلى خالي لما رأيت من مصر شيئاً، لأنه ما كان يخرج من مطبعته إلاّ إلى جمعية الشبان المسلمين التي سيأتي قريباً حديثها. ولكن شريكه، صهري الجديد وزوج أختي، هو الذي أراني ملامح القاهرة. أخذني إلى النيل ففهمت لماذا يدعوه المصريون «بحر النيل»، ما رأيت قبله مثله، وهل رأيت قبله إلاّ بردى؟ وكان بردى وأولاده جميعاً (يزيد وتورا والقنوات وباناس والقناة والديراني)، كانت كلها أصغر من ترعة واحدة من ترع النيل. ولكن لا أحب أن أظلم بردى، إنه فقير ولكنه جواد كريم، إنه يخرج من أرضنا نبعاً، ثم يدخل في أرضنا ليعود فيخرج زرعاً، لا تضيع قطرة منه. وإن قرأتم في كتب الجغرافية أنه يصب في بحيرة «العتيبة» فاعلموا أنه يصل إليها مرة في كل خمسين سنة، إنه يصب في الأرض الطيبة ليخرج الله به الثمر الطيب، على حين يحمل النيل العظيم ماءه الكثير ليرميه في البحر. ذهبنا إلى العتبة الخضراء، وكانت قلب البلد، وإلى جنبها ميدان الأوبرا. ورأينا (وكانت هنا الدهشة الثالثة) رأينا الأصنام والتماثيل وسط الميادين والساحات! ورأينا متاجر ما عرفنا في دمشق مثلها؛ عمارات كاملة فيها كل شيء مما يؤكل أو يُلبَس أو يُفرش أو يكون زينة وحلية وتحفاً: «أوروزدي باك» (عمر أفندي) وصيدناوي وشيكوريل، وما فيهم مسلم ولا عربي ولا مصري أصيل! وممّا سمعت من العجب أن أوروزدي باك اشترى اسم عمر أفندي، وكانت تلك أوّل مرة أسمع فيها أن اسماً يُباع.

ثم درنا من حول درابزين حديقة الأزبكية، حيت تُباع الكتب القديمة كما تُباع على نهر السين في باريس (¬1)، وكانت الأزبكية نظيفة مخدومة. وسلكنا شارع فؤاد، ورأينا على جانبَيه كلّ بضاعة يُحتاج إليها أو يُرغب فيها معروضة عرضاً يُغري المستغني عنها بطلبها. إلى أن وصلنا إلى الجسر (ويسمّونه هناك باسمه التركي: الكوبري) وهو من الحديد مسقوف بعمد الحديد، فجزناه من فوق النيل الكبير إلى الزمالك حيث تقوم بقصورها غير بعيدة عن بولاق بأكواخها، إلى النيل الصغير، على جسر كانوا يسمونه «كوبري بديعة»، نسبة إلى رقّاصة من شتورا في سهل البقاع بين لبنان الشرقي والغربي، جاءت مصر فأعطتهم مرقصاً أقامته كان مفسدة للشبّان لما يُستباح فيه من المحرّمات، وكان مدرسة من مدارس إبليس لتخريج الراقصات، وأخذت منهم مالاً كثيراً واسماً جعلوه مشهوراً. وعدنا يمشي بنا «الترام» إلى جنب النيل وهو عن شمائلنا، وما على أيماننا (كما أذكر) بناء ولا عمران إنما هي حدائق أو بسائط من الأرض، حتى بلغنا أجمل وأعجب مكان في مصر يومئذٍ وأحبه إلى السائحين والزائرين: حديقة الحيوان، لمّا كانت في عزّها وكانت رابعة حدائق الحيوان في العالَم في سعتها وبهائها وكثرة ما فيها من الحيوانات، وكان يمضي المرءُ يومَه كله فيها فلا ¬

_ (¬1) رأيتها كذلك لمّا زرت مصر من ست عشرة سنة. ثم إنهم أنشؤوا لباعة الكتب دكاكين صغيرة في وسط الحديقة في ركن منها، فلم تعد الكتب تباع على السور اليوم كما كانت من قديم (مجاهد).

يحيط بها ولا يملّها. ثم وصلنا الجيزة، وما بعدها شيء إلاّ «تراماً» يمشي في خلاء من الأرض إلى الهرم، ما دون الهرم مساكن ولا سكان. وقد سمعت أنه صار الآن شارعاً معموراً، لا عمران العلم والفضيلة والإيمان بل الفنّ واللهو والخسران، والله أعلم بصحة ما سمعت. * * * ولمّا كان مساء اليوم الأول من أيامي في مصر أخذوني في جولة أخرى، ثم دخلنا حديقة الأزبكية إلى زاوية منها كانت مقهى ومسرحاً، فلما وصلت إليها أحسست كأني أدخل ماخوراً أو كأني العذراء تلج دار الفواحش، وفررت مذعوراً. قالوا: ما لك؟ قلت: قهوة؟ أنا أقعد في قهوة؟ كانت القهوة عندي في منطقة الممنوعات، أفترون هذا صواباً؟ لقد عرفت بعد حين أنه كان بعيداً عن الصواب. إن الصعوبة في تخطّي الحدود، فإذا بدّلنا مكانها وأدخلنا المكروهات في دائرة المحرّمات سَهُلَ على مرتكب المكروه اقتراف الحرام. وطال جدالنا وتجمّع الناس من حولنا، ثم غُلبت على أمري فدخلت. ولم تمضِ إلاّ ربع ساعة حتى أُطفئت الأنوار وبدأ عرض فِلْم من أفلام السينما. والغريب أني لم أنكر السينما مثلما أنكرت المقهى، لأنهم أرونا ونحن صغار أيام الحرب العالمية الأولى فلماً عن حرب «جناق قلعة» فتعودت رؤية الأفلام، والعادة تثبت من مرة واحدة!

وكانت سينما صامتة لم تكُن قد نطقت بعد، وأظن ظناً (لا أحقق تحقيقاً) أن السينما نطقت بعد ذلك بقليل وأنها حين نطقت ظهر «الفلم العربي» في مصر. * * * في تلك الأيام كانت الدعوة الإسلامية تتمخّض في مصر لتأتي بمولود جديد، وكان ظهور كتاب «الشعر الجاهلي» ومن قبله كتاب «الإسلام وأصول الحكم» مثل أجراس الإنذار وصيحات التحذير، فنبّهت النائمين من العلماء والمصلحين، وكان إنشاء مجلة «الفتح»، ثم وُلد المولود الجديد: «جمعية الشبان المسلمين». وكانت بداية الدعوة الإسلامية النظامية، وفي الحلقة القادمة القليل الذي أعرفه عنها. * * *

ظهور الدعوة الإسلامية في مصر

-32 - ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر لا أزال في الكلام عن سفرتي الأولى إلى مصر سنة 1928. وقد تعجبون إذ أؤرّخ تارة بالتاريخ الميلادي وتارة بالهجري؛ إني أكتب التاريخ كما هو عالق بذاكرتي. وكان خيراً لنا جميعاً وأولى بنا أن نقتصر على التاريخ الهجري، وإن احتجنا إلى توضيحٍ وضَعنا الميلادي بين قوسين. شهدت في تلك السفرة بداية الدعوة الإسلامية «المنظَّمة». لا أقول إنها لم تكُن دعوة قبلها أو لم يكُن دعاة، فكل من عرفت من مشايخي وكثير من أساتذتي كان من أكبر ما يهتمّون به ويُقبِلون عليه دلالة الناس على الله وإرشادهم إلى طريق رضاه، كانت الغاية واحدة ولكن تعدّدَت الطرق إليها بتعدّد اجتهاد أصحابها، وما انقطعت الدعوة أبداً، ولكنا كنا في «عصر انتقال» كالذي مر به المسلمون في صدر الدولة العباسية ومرّ به الرومان لمّا اختلطوا باليونان، ولقد كانت هذه الظاهرة (¬1) موضوع أول محاضرة ألقيتها سنة 1345هـ وأنا يومئذٍ طالب، ولا تزال «الظاهرة» موجودة، ¬

_ (¬1) الظاهرة بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي.

لذلك أعود إلى الكلام فيها كلما عادت دواعي الحديث عنها. وضربت في تلك المحاضرة مثلاً لها لا أزال أعود إليه لأني لم أجد إلى الآن مثلاً أصدق منه: بردى حين يلتقي بنبع الفيجة فيمشيان معاً نحو مئة متر لا يختلطان، تملأ كأسك من بردى من اليمين ماءً نظيفاً لكن فيه شيئاً من العكر، وتملؤها من الشمال من الفيجة ماءً عذباً زلالاً ليس في الدنيا أعذب منه ولا أصفى ولا أبرد (¬1). ثم يمتزجان فيكون منهما نهر جديد ليس في صفاء الفيجة ولا في اغبرار بردى. هذا مثال الأمم في مراحل الانتقال؛ حين تلتقي حضارتان ويمتزج شعبان، أو تجتمع عقليتان وثقافتان. وكل شعب من الشعوب العربية جاز هذه المرحلة، بعضهم خلص منها أو نأى عنها، وبعضهم لا يزال فيها. كان في مصر مثلاً (أيام سفري إليها) مشايخ وأفندية، أزهر وجامعة، محاكم شرعية ومحاكم مدنية ... يختلفان في الزيّ وفي التفكير وفي تقويم (لا تقييم) (¬2) الحياة، يمشيان كالخطّين المتوازيَين يتجاوران ولا يتلاقيان، يتكلمان بلسانَين ويفكّران بعقلين، فلا يكاد الشاب يفهم ما يقول الشيخ ولا يرتضي تفكيره، ولا كان الشيخ يعرف الطريق إلى إفهام الشاب وإثارة اهتمامه بما يفكر هو فيه. ¬

_ (¬1) يتراهن الناس: من يستطيع أن يُبقي يده فيه خمس دقائق؟ إنه ماء مثلّج (أو ثلج مموّه). (¬2) تقييم غلط ولو حاولوا تبريره! وأصلها قام (أي قَوَم).

وكانت هذه هي العلة الكبرى. ولقد ظهر أفراد جمعوا طرفَي الخيط ولكنهم كانوا قلائل، حاولوا أن يقرّبوا العلوم الجديدة (أو الفكر المعاصر) من الإسلام، منهم من صنع ذلك باعتدال كالشيخ محمد عبده في مصر وصاحبه السيد رشيد رضا، ومنهم من أوغل فيه حتى جانَب الحقّ وخالف (أو كاد يخالف) الإسلام كالسيد أحمد خان في الهند، وأفراد بلغوا الغاية في تحصيل العلوم «الجديدة» والأستاذية فيها وكانوا على إلمام تامّ أو اطّلاع كافٍ على العلوم الإسلامية، من أظهرهم محمد أحمد الغمراوي في مصر وأحمد حمدي الخياط في دمشق، وكلاهما كان من أساتذة الجامعة. * * * لذلك كانت الحاجة إلى أسلوب جديد في الدعوة غير أسلوب الكثير من المشايخ، على ما كان لهم من علم وفضل وتقوى. ونبّه الناسَ إلى هذه الحاجة «الفتنةُ الكمالية» في تركيا وبروز جماعة كأنهم تأثروا بها وأرادوا (ولو لم يشعروا) التمهيد لمثلها، وظهر ذلك في كتب شبلي شميل وسلامة موسى، وفي كتاب «في الشعر الجاهلي» وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» (¬1). وكانت الصرخة قوية حتى سمعها الذين كانوا مستغرقين في النوم، فهبّ ناس منهم وأدركوا الخطر. فكُتِبَت الردود: أستاذنا الشيخ محمد الخضر حسين ألف «نقض كتاب الشعر الجاهلي»، ¬

_ (¬1) «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق (مجاهد).

ولطفي جمعة وآخرون لا أذكرهم الآن بأسمائهم ولكن الله يذكرهم ويشكر لهم ويجزل ثوابهم، والدكتور الغمراوي بكتابه «النقد التحليلي» الذي خاطب فيه طه حسين بلسانه ونقض عليه بنيانه بمِعْوَله، ورجع بالحقّ إلى الينابيع التي استقى منها بالباطل، وقدّم للكتاب أميرُ البيان الذي كان سفيراً دائماً في أوربا، سفيراً للعرب وللمسلمين ينبّههم ويدافع عنهم، ينفق من جيبه لا من خزانة دولة ولا من صندوق جمعية، يعيش عيش الكفاف يقرأ ويكتب، والذي كتبه الأمير شكيب أرسلان بقلمه وبخطه يعدل ما كتبه عشرة من أكبر كتّاب العصر، وله فوق ذلك شعر جيد. والذي جمع هذه الأقلام وكان لها بمثابة مركز القيادة أو مكان الأركان (أركان الحرب) مجلة «الفتح». مجلة «الفتح» كان لها عمل عظيم عظيم في تنبيه المسلمين وإيقاظهم وإرشادهم، والتمهيد لهذه الصحوة الإسلامية التي نراها ونحمد الله عليها اليوم، والتي نسأله دوامها وتصحيح مسارها ودرء الأذى عنها. ولعل الله يُلهِم واحداً من طلاب الدراسات الإسلامية في جامعاتنا إعداد رسالة أو أطروحة عنها. ولقد كانت قبلها «المنار»، وللمنار أثر لا ينكر في العقيدة وفي العلم وفي (توعية) المسلمين، وفي مجموعتها -لمن استطاع الحصول عليها- كنز تُستخرَج منه عشرات من الكتب، كما فعل الصديق العامل الدائب على التأليف الدكتور صلاح الدين المنجّد حين استخرج فتاوى السيد رشيد رضا وأفردها بالطبع. أنشأ محب الدين «الفتح» في آخر سنة 1344 (1926)،

وكان من أثر الازدواجية بين المشايخ والأفندية أنه جاء بشيخ أزهري هو الشيخ عبد الباقي سرور نعيم (كما أذكر) فجعله رئيس تحريرها! كانت «الفتح» أوعى مجلة إسلامية، توجّه حتى في عناوين الأخبار العامّة التي تنقلها عن وكالات الأخبار فتحوّل بالعنوان مغزى الخبر عمّا تريده الوكالة إلى ما يوافق خطة «الفتح» ويريده الإسلام. ومن المجلات الواعية التي عرفتها، أقول منها ولا أسمّيها كلها، «البصائر» مجلة جمعية علماء الجزائر التي كان يشرف عليها ويكتب بقلمه البليغ افتتاحياتها الصديق الشيخ البشير الإبراهيمي، و «الضياء» للأستاذ مسعود الندوي في الهند، و «المجتمع» التي تصدر اليوم في الكويت، و «الرائد» التي تصدر في الهند فيما تُصدر المؤسسة الإسلامية الجليلة «ندوة العلماء». لمّا وصلت مصر كان قد مر على ظهور «الفتح» سنتان، ولكنها استطاعت أن تكون بتوفيق الله مجلة العالَم الإسلامي. وكان لها مواقف مشهودة في الرد على «الشعر الجاهلي»، الكتاب الذي جاء بالكفر الصريح والذي شغل مصر عن قضيتها الكبرى (ولعل هذا من جملة مقاصد مَن كتبه ومَن سرقه كاتبُه منه وهو مارجليوث، ومَن دفع إليه أولاً ودافع عنه ثانياً)، وكتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وهو كتاب أسوأ من الأول لأن الأول فيه الكفر الصريح يراه المسلم فيعرفه، وهذا فيه الكفر المغطّى لا ينتبه إليه إلاّ النبيه، فينال منه وهو لا يشعر. وقد ثبت أن هذا أيضاً مسروق.

وكان للفتح موقف عظيم في التنبيه إلى خطر «الظهير البربري». والظهير باصطلاح المغاربة كالمرسوم الملكي عندنا، أصدره الفرنسيون يريدون به إماتة أحكام الإسلام وإحياء أعراف البربر الذين أرادوا فصلهم عن المسلمين، كما أُريد ذلك في الجزائر من ثلاث سنين، فأبى الله ذلك والمسلمون، لأن البربر من يوم أن شرّفهم الله (كما شرّفنا) بالإسلام صاروا هم أهله وهم حُماته، لا فرق بين عربي وبربري، بل لا فرق بين عربي وعجمي ولا بين أبيض وأسود، هذا هو حكم الإسلام. * * * كانت بداية الدعوة «المنظمة» بإنشاء جمعية الشبان المسلمين. وكان الذي فكّر بإنشائها صاحب «الفتح» محب الدين الخطيب، وقد سمعت ذلك منه، وخلاصته أنه في سنة 1346 (1927)، قبل وصولي إلى مصر بسنة أو نحوها، كان أصحاب دور النشر، ومنهم صاحب المطبعة السلفية وهو محب الدين، يجتمعون لتكوين رابطة بينهم أو نقابة لهم في دار الشبان المسيحية، وهي إحدى المؤسسات التبشيرية (أي التنصيرية التكفيرية). فلما رآها فكّر أن يكون للشبان المسلمين جمعية مثلها، فعرض الفكرة على صديقَيه الأستاذين الجليلَين: السيد محمد الخضر حسين والوجيه العالِم أحمد تيمور باشا، وعلى مجموعة من الشبان (الشبان يومئذٍ وهم جميعاً في مثل سني)، منهم الأساتذة عبد السلام هارون وعبد المنعم خلاّف ومحمود شاكر، وكل هؤلاء من أصدقائي. ولئلا يتنبه إليها أعداء الإسلام (وما كان أكثرَهم يومئذٍ وأكثرَهم في هذه الأيام!) تواصوا أن يكون

نشر الفكرة بحكمة والدعوة إليها بلا إعلان. وكان كل من سَمّيت من الشبان يدعو أصدقاءه فيَقبلون بها ويُقبلون على الانضمام إلى أهلها. وكان اجتماعهم وكان لقاؤهم بالشيوخ الثلاثة، الخضر وتيمور ومحب الدين، في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف، وهو شارع صغير يتصل بميدان باب الخلق. حتى إذا قويت الفكرة وانتشرت وكَثُرَ أتباعها ولم يعُد يُخشى عليها عُقد أول اجتماع عامّ لإقرار قانون الجمعية وانتخاب مجلسها الإداري في دار سينما كوزمو، ودفع أجرة الدار شوقي أمير الشعراء من ماله، وأُعلِنَ عن الجمعية وانتُخِب لرياستها عبدالحميد سعيد الذي آتاه الله بسطة في الجسم وسعة من المال ووجاهة في الناس، وكان عضواً دائماً في مجلس النواب، والسيد محبّ الدين الخطيب أميناً عاماً، وأحمد تيمور باشا أميناً للصندوق. واستؤجرت للجمعية دار كبيرة في شارع قصر العيني بجانب مجلس النوّاب، لمّا وصلتُ مصر كانت فيها. ثم أنشأ السيد الخضر الحسين «جمعية الهداية الإسلامية». * * * جمعية الشبان المسلمين لم تكُن تجديداً في فهم الإسلام، ولم يكُن لها عمل جِدّيّ في الدعوة إليه ولا كانت تصحيحاً لمعتقدات العوامّ ولا محاربة لبدع كانوا يتوهمون أنها من الإسلام، وإنما كانت (وأنا هنا لبيان الحق لا للمجاملات) كانت تنظيماً ظاهرياً فقط. ولعلّ اشتغال أعضائها بالرياضة وإقامة الحفلات لها أكثر من اشتغالهم بالعلم والدعوة. وجمعية الهداية

كانت تنظيماً ظاهرياً لعمل المشايخ في الدعوة إلى الله، تلقى فيها محاضرات لا تكاد تحس أن فيها جديداً. أمّا الدعوة «المنظّمة» الحقيقية فقد بدأت على يد شابّ اسمه حسن البنا. كان ممّن يتردد على خالي محب الدين في المطبعة السلفية، عرفته من يومئذٍ هادئ الطبع رضيّ الخلق، صادق الإيمان طلق اللسان، آتاه الله قدرة عجيبة على الإقناع، وطاقة نادرة على توضيح الغامضات وحلّ المعقّدات والتوفيق بين المختلفين. لم يكُن ثرثاراً بل كان يحسن الإصغاء كما يحسن الكلام، وضع الله له المحبة في قلوب الناس (¬1)، تخرّج في دار العلوم في السنة التي دخلت فيها الدار (¬2)، لم ألقَه فيها إنما لقيت سيد قطب وكنت معه في فصل واحد على ما أذكر، وكلاهما أسنّ منّي بثلاث سنوات. وأنا على طريقتي التي لزمتها عمري كله؛ لم أدخل يوماً حزباً ولم أنتسب إلى جماعة، ولا ربطت فكري بفكر غيري إلاّ أن يكون الله ألزمني باتباع رأيه وإطاعة أمره، من مبلّغ حكم الله أو حاكم مسلم لا يأمر بما يخالف شرع الله، أو أب أو أستاذ يأمر بخير يحبه الله. بل إن المسلم يسمع كلمة الحق من كل من يُنطِقه الله بها، صغيراً كان أم كبيراً. أنا أسير في الخط الذي أُريت أنه الطريق الصحيح، فمَن وجدته يمشي معي فيه أيّدته وناصرته، ¬

_ (¬1) في كتاب «فصول إسلامية» مقالة عنوانها «طرق الدعوة إلى الإسلام» فيها كلام طويل عن حسن البنا وعن دعوته التي أسّسها (مجاهد). (¬2) لأنه دخلها قبل صدور النظام الجديد الذي يمنع من دخولها مَن لم يكمل دراسته الثانوية.

وإن حاد عنه ضالاًّ هديتُه، وإن كان متعمّداً نصحته أو زجرتُه، لذلك أيّدت بقلمي وبلساني الإخوان المسلمين في مواقف ونقدتهم في مواقف، وما رجوت شكراً على تأييد ولا وجدته، ولا خفت لوماً على نقد ولا باليته، وذلك كله على ضعفي الذي أقرّ به ولا أنكره وعلى إيثاري دائماً العزلة والانفراد. * * * أقمت تلك المرّة في مصر أقل من شهرين، ولكني استفدت منها فوائد لا تُنال في سنتين. عرفت في «السلفية» جلّةً من رجال العلم والأدب؛ أحمد تيمور باشا الذي كان في سمو خلقه وفي سهولة طبعه وفي تواضعه -على رفعة قدره- مثلاً للناس، يزور المطبعة كل يوم فإنْ كان خالي مشغولاً لم يعطّله بل قرأ شيئاً ممّا يجد، وإن كان فيها زوّار تحدث إليهم، وكان طويل الصمت بعيداً عن الادّعاء. كان في المطبعة يوماً جماعة من أهل الفضل يتناظرون في أمر «الطربوش»: ما أصله ومن أين جاء؟ والباشا ساكت كأنه لا يعلم عن الموضوع شيئاً، وكانت المطبعة تدور في الداخل تطبع رسالة له عن الطربوش، تقصّى فيها خبره وجمع تاريخه! ويشبهه في هذا السيد الخضر، الأخ الأكبر لشيخنا الشيخ زين العابدين التونسي وأستاذ شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار. وممن لقيت في «السلفية» الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، وكان مَن يكلمه يكتب له الجملة فيقرؤها لأنه لا يسمع أبداً. ولقيت عنده الشيخ كامل القصاب وكنت أعرفه من بعيد، وهو رجلٌ حياتُه تاريخ، له في السياسة أثر وفي التعليم آثار، وسأكتب

(إن شاء الله) عنه وعمّن لقيت في «السلفية». وممّا استفدته في مصر أنْ قَوِيَ فيها قلمي، وانتقلت من الأسلوب الحماسي المحشوّ بالمبالغات والجمل التي لها دويّ كدويّ صوت الطبل وهي فارغة مثله، إلى أسلوب هو أقرب إلى الرصانة. وتجلّى ذلك في باب التعريف بالكتب في مجلة «الزهراء»، ومن رأى آخر عدد صدر من «الزهراء» والذي قبله وجد أكثره بقلمي. وممّا استفدته تبدُّلُ طريقتي في الخطابة، من الحماسة والصراخ وكثرة الإشارات وذلك الذي نشأنا عليه، إلى الحديث الهادئ. وكل ذلك أعود إن شاء الله إلى تفصيل القول فيه. وكان أكثر ما اهتممت به لمّا عدت إلى دمشق وسعيت إلى الدلالة عليه، ووُفّقت والحمد لله في نقله من حيّز القول إلى حيّز العمل، هو إنشاء الجمعيات الإسلامية واتحادات الطلاب، وكلاهما لم يكُن معروفاً في الشام. * * * عدت وكانت السنة الدراسية في بدايتها، وكنت (كما أسلفت) أحمل شهادة البكالوريا (¬1) في شعبة العلوم، وكانت البكالوريا على قسمين: الأول في نهاية السنة الحادية عشرة من سِنِي الدراسة، والثاني في نهاية الثانية عشرة. وكان فيه شعبتان: ¬

_ (¬1) هي شهادة الثانوية العامة كما كانت تُسمّى في الشام، وما تزال تسمّى كذلك إلى اليوم (مجاهد).

شعبة للرياضيات وشعبة للفلسفة. فانتسبت إلى الفلسفة بلا تردد. وأُقِرّ الآن -بعد تخرّجي فيها بثلاث وخمسين سنة- أنها جدّدت فكري ووسّعَت أفقي وتركت في نفسي أثراً عميقاً لا يمّحي، ولكنها كانت خطيرة جداً؛ لولا أن الله سلّمني منها وأنه -بفضله- جعل عندي من سالف دراستي ذخيرة وفيرة من علوم الدين وأساساً راسخاً (أسأل الله بقاءه) من الإيمان، لأضلّتني. كما أقرّ أن سفري إلى مصر، على رغم أنها بلد الأزهر ومثابة العلماء، وأن إقامتي فيها كانت قصيرة وكانت في وسَطٍ إسلامي، أنها -على هذا كله- كادت تفتنني وتُبدّل سلوكي. فليتّقِ الله الذين يبعثون بأولادهم إلى بلاد لا يُسمَع فيها أذان ولا يُتلى فيها قرآن، وفي نفوسهم ظمأ قاتل وحولهم أنواع البارد المسموم من حلو الشراب. إذا كنت أنا الناشئ في بيت العلم والدين كدت أفسد في مصر وأنا ابن عشرين، فماذا تكون حال من يذهب في مثل تلك السن إلى أوربا أو أميركا أو روسيا؟ * * *

العودة إلى دمشق وإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

-33 - العودة إلى دمشق وإنشاء جمعية الهداية الإسلامية لقد عدت من مصر ومعي شيء جديد، في نفسيّتي وفي تفكيري وفي تجارِب حياتي. أولها: إلْف أعواد المنابر والتمكّن من أسباب الخطابة. ولقد كنت أخطب من قبل سفري إلى مصر، بل لقد ألّفت مسرحيات للطلاب وكنت أساعد على إخراجها، وكانت تُمثَّل ليالي متتابعات يُقبِل الناس عليها لا يملّونها. بل لقد اخترعت فناً جديداً في إلقاء الشعر، أعلّم الطلاب إلقاء كلّ قصيدة كأني ألحّنها لهم ليغنّوها، هنا يُمَدّ الصوت وهنا يُشَدّ، وهنا يعلو وهنا ينخفض ... وقسمت الإلقاء إلى إلقاء تعبيري، وإلقاء حماسي، وإلقاء عاطفي، وإلقاء تمثيلي. وربما جاء تفصيل هذا الإجمال فيما يأتي من المقال. وثانيها: أني ذقت لذة العمل في الصحافة، لا كاتباً فيها أو «مراسلاً» لها من خارجها، بل عاملاً فيها من داخلها. وبدأت من فوق، من مجلة الزهراء التي كانت يومئذٍ المجلة الأدبية الأولى.

والثالثة: أني شهدت مولد الجمعيات الإسلامية فحملت خبرها إلى دمشق. وكان في دمشق جماعة من كرام التجار وبعض طلبة العلم يتلاقون -على عادة الشاميين- في «دَوْر» بينهم. والدور أن يجتمعوا أياماً معدودات عند واحد منهم، اجتماعاً فيه تسلية وليس فيه معصية، فإذا كان اليوم الأخير في دور الرجل صنع لهم صنيعاً: صدر كنافة أو صينية قوزي، أو الصفيحة والشعيبيّات، وهي أكلات لا يغني سماع وصفها عن ذوق طعمها، ولا يعرف مذاقها إلاّ من ذاقها. والذي عرّفني بهم وأخذني إليهم رجل كان أحد الذين أثّروا في حياتي وأفضلوا عليّ، رجل عاش عمره كله من غلّة ضيعةٍ له في حرستا قرب دوما، فلم يكُن يعمل ليكسب مالاً بل ليكسب أجراً: لا يقع منكر إلاّ كان أول من يسرع إلى إنكاره، ولا يسمع بمحتاج إلاّ كان أول من يجمع له ما يسدّ حاجته، لا يبالي في سبيل ما يراه الحقَّ بعُرْف مجتمَع ولا بمداراة إنسان، لا يفرّق عندما ينطق بالحقّ إن كان الذي أمامه بوّاب المدرسة أو وزير المعارف. كان الشيخ تاج الدين الحسني قريبَه (¬1) (ابن ابن عمته) فكان ينصحه وقد يُغلظ له القول، وإن رأى منه انحرافاً ردّه إلى الصواب. وكان موقفه من كل رئيس أو وزير يلقاه كموقفه من الشيخ تاج، رئيس الدولة ثم رئيس الجمهورية، ذلك لأنه كان مؤمناً معتمداً على الله ولأنه كان مستغنياً بضيعته عن مال الحكّام، ¬

_ (¬1) الشيخ تاج الدين هو ابن الشيخ بدر الدين محدّث الشام الأكبر، وهو خال جدّتي لأمّي. كان رئيساً للوزارة مرتين ثم رئيساً للجمهورية في عهد الفرنسيين، وكان مسايراً لهم ماشياً في ركابهم (مجاهد).

أعني مال الله الذي جعله تحت أيدي الحكّام. والعالِم لا يذلّ إلاّ إذا مدّ يده بطلب أو تشوّف قلبه إليه، فإما أن يكون العالِم غنياً بماله، وإما أن يكون غنياً بالقناعة بما قسم الله له من رزق والعزّة بما أكرمه الله به من إيمان. وكان عالي الصوت شديداً في الجدال، خطته الهجوم أبداً حتى في الدفاع، ولكنه كان رجّاعاً إذا بدا له الحق يُقِرّ به ويدع غضبه إليه. كان من أصفى الناس قلباً، ينسى إساءة الناس إليه كما ينسى إحسانه إليهم، وهذه -لَعَمري- ذروة النبل. صحبته خمسين سنة كما صحبت شيخنا الشيخ بهجة البيطار، فكنت أحسّ معهما كأنّي أمام والد أحبُّه حب الولد لأبيه وأنطلقُ معه على سجيّتي. وكنت أجد هذا الحس مع الشيخ محمد نصيف في جدة، وسأعود إلى الحديث عنهما إن شاء الله، ولكن ذكّرني بهما مشابه من صلتنا بهذا الرجل الذي كنّا نجيئه متى شئنا، فنجد بابه ونجد قلبه مفتوحَين لنا، إن جعنا أكلنا، وإن نعسنا نمنا، وإن شغلنا أو مللنا انصرفنا. وكذلك كانت الحال مع الشيخ بهجة والشيخ نصيف. فرحم الله هذا الرجل ورحمهما، ورحم أمثال أولئك الناس. لم نجد والله بعدهم مثلهم ولم يسدّ أحدٌ مسدّهم، فاللهُمّ ارحمهم وأحسن جزاءهم. أمّا هذا الرجل فهو الشيخ عبد القادر العاني، الذي تُوفّي في دمشق من أقل من سنتين عن أكثر من تسعين عاماً. أخذني إليهم وما سنّي من سنّهم ولا تفكيري من تفكيرهم، فأنا شابّ وهم كهول، وأكثرهم من التجار. وأنا -كما عرفتم من سالف حديثي- أجهلُ خلقِ الله بالتجارة وأبعدهم عنها، ولكني

لما عرفتهم ألفتهم وأنست بهم. كانوا مخلصين وكانوا ظِرافاً. وأنا إنما يصعب عليّ دخول المجلس؛ هنا العقبة الكؤود، فإذا تخطيتها وصرت في المجلس وجدت عندي من طرائف الأخبار ونوادر السّيَر، ومن النكات والمضحكات، ما أمسك به أطراف الحديث فأشدها وأرخيها كما أشاء. حدّثتهم -فيما حدّثت به- عن إنشاء الجمعيات في مصر، وأوجزت لهم قانون الشبان المسلمين والهداية الإسلامية، وقلت: لماذا لا تحوّلون هذا «الدور» إلى جمعية، تنفعون بها الناس وتُرضون الله، ويكون لكم حظّ من ميراث النبوّة وهو الدعوة إلى الله. واختاروا قانون «جمعية الهداية الإسلامية» واسمها، وأعدّوا الأوراق لأخذ الرخصة الرسمية. ولم يكُن يحتاج إصدار مجلّة غير سياسية أو تأليف جمعية غير سياسية إلاّ إلى إخبار (مجرد إخبار) يُقدَّم إلى وزارة الداخلية. ومن ظرف هؤلاء الإخوان ومزاحهم أننا كنا نفكر فيمن يكونون أعضاء في الجمعية، فقلت لواحد منهم: ما رأيك بفلان (وكان حاضراً معنا) هل تراه يصلح عضواً؟ قال: هو «عضو» عزيز علينا لا نستغني عنه، لكن يجب ستره! وأُلّفت الجمعية وأعلنّا عنها في ردهة المجمع العلمي العربي (في المدرسة العادلية الأثرية)، سمح لنا بذلك رئيس المجمع أستاذنا محمد كرد علي. وكنت أنا الذي تَشرّف بالإعلان عنها في محاضرة دُعيَ الناس إليها، وأعلنت -أيضاً- عنها وذكرت قصة

إنشائها وخلاصة قانونها في مقالة (عندي نسخة منها) نُشرت في «القبس» عند صديقنا الأستاذ نجيب الريّس في عدد 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1930. * * * وجاءت ذكرى المولد، وأرادوا الاحتفاء به -على عادة المسلمين الآن في جميع البلدان- بقراءة قصة المولد، وكان الخاصّة من الرجال يقرؤون «مولد البرزنجي» والنساء «مولد العروس». والعجيب أن سِيَر الرجال تبدأ من الولادة، والناس إذا وصلوا في «المولد» إلى خبر ولادته صلى الله عليه وسلم وقفوا وصلّوا عليه الصلاة الإبراهيمية وأكلوا السكر (الملبَّس) وتفرقوا. وفي الموالد كلها ما ليس بصحيح، بل ما هو مخالف للقرآن وللصحيح من الحديث، وأنا أكتب في إنكاره من مطلع شبابي؛ منه: أن جدّه عرف يوم مولده أنه هو النبي المنتظَر، وأمه عرفت وناداها منادٍ لمّا حملت به يخبرها بأنه النبي المنتظَر ويأمرها أن تسمّيه محمّداً، وأن بَحيرا وغيره من النصارى عرفوا أنه هو النبي واليهود عرفوه، بل إن «مولد البرزنجي» يؤكّد أن «وحوش المشارق والمغارب» عرفت خبره وتباشرت به، وأنها غاضت بحيرة ساوة وفاض وادي سماوة وتهاوت الشرفات من إيوان كسرى ... ثم أقلبُ الصفحة فأجد مقابل هذا كله الحديث الصحيح بأن محمّداً صلى الله عليه وسلم جاءه الوحي وقال له: «اقرأ» وهو لم يعرف تماماً أنه النبي المنتظَر، وأنه ذهب إلى خديجة مرعوباً فأخذته إلى ابن

عمّها ورقة بن نوفل، أي أنه صار نبياً فعلاً وهو لم يعلم بذلك تماماً، والله يقول له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ}. فكيف عرف أولئك كلهم؟ حتى الوحوش عرفت أنه هو نفسه النبي؟! والأناشيد التي تصحب المولد (والتي أنكرتها من مطلع شبابي) أكثرها غزل بجمال الرسول أو كلام عنه لا يصلح لأن يكون مدحاً له. قلت لهم: بدلاً من تلاوة هذه القصة والمشاركة في الكذب على رسول الله وإساءة الأدب معه، أُعِدّ أنا محاضرة ألقيها، وتطبعها الجمعية وتوزّعها بدلاً من «الملبّس». قالوا: فكيف بالقيام عند ذكر الولادة؟ قلت: سبحان الله! ومن قال إن هذا القيام من فرائض الإسلام؟ إنه بدعة لا أصل لها. قالوا: كيف يكون مولد بلا قيام؟ قلت: أنا أقيمهم لكم إن شئتم. قالوا: كيف؟ قلت: إن الخطيب المتمكن يحرّك السامعين كما يريد، يقودهم بلسانه وبحركات يده ولو كان فيهم من هو أعلم منه وأجلّ وأكبر، هذا سحر المنبر. وألقيت المحاضرة في ربيع الأول سنة 1350، وكانت أول احتفاء بالمولد ليس فيه كذب ولا غناء ولا طرب؛ كانت نوعاً جديداً من الموالد، وإن كانت الموالد كلها جديدة، أي مبتدَعة لم تعرفها القرون الأولى التي كانت أفضل القرون. * * * لقد مرّ على هذه المحاضرة اثنتان وخمسون سنة (¬1)، ¬

_ (¬1) يوم نشر هذه الحلقة سنة 1402هـ.

وألقيت بعدها محاضرات الله أعلم بعددها، ولكن الناس نسوا ونسيت أنا ما قلت فيها، وهذه طُبعت فبقيَت فيا ليتني طبعت كل محاضراتي! وهل تنفع شيئاً «ليت»؟ هل تصدّقون أني لمّا قرأتها كنت أحس كأني أقرأ شيئاً كتبه غيري. قلت لكم في مطلع هذه الذكريات إن الإنسان في تبدّل دائم: خلايا جسده، ميول نفسه، كثير من أفكاره ... وممّا يتبدّل في الكاتب أسلوبه. وإن كان في كل ما يكتب أمارة تدل عليه؛ شيء في المقالة تحسّه ولا تلمسه يخبرك أن كاتبها فلان وإن لم يكُن في ذيلها اسم فلان، وهذا الشيء هو الأسلوب. لقد حاول النقّاد تعريف الأسلوب تعريفاً منطقياً بعد أن عرّفوه معرفة حسّية فلم يقدروا له على تعريف، فكأن أسلوب الرجل في خصائصه هو الرجل نفسه كما قال «بوفون». إنك تميز زيداً من عمرو من شكله من صوته، من مشيته، لكنك لا تستطيع أن تقول كيف ميّزتَه. وتعرف أن ليلى جميلة وأن المتنبي عبقري، ولكنك تعجز عن تحديد سرّ الجمال في ليلى: هل هو في عينيها أم في بسمة شفتيها؟ وعن حصر عبقرية المتنبي: هل هي في تركيب ألفاظه، أو في اختراع معانيه، أو في حكمه وأمثاله التي سارت كل مسار؟ * * * فرحت بهذه المحاضرة إذ وجدتها مطبوعة، وأحسست كأنها صورة التُقطت لي في مرحلة من عمري ليس عندي نسخة منها، وقد مضى زمانها وتبدّلت أنا حتى كأني غير صاحبها. صورة لي في المراحل الأولى من سفرتي الطويلة على طريق الأدب. إنها

ليست كصورتي اليوم عند قرّاء «المسلمون»، ولا كصورتي في «المدينة» و «رابطة العالَم الإسلامي»، ولا كصورتي في «الرسالة» و «الثقافة»، أو صورتي قبل ذلك في «الأيام» و «النصر» و «فتى العرب» و «ألف باء»، الصحف الشامية التي ماتت كلها. وأنا أقرأ كتاباتي الأولى فلا أرتضيها الآن، ولكن ما قيمة حكم الإنسان على عمله ومدى صحة تقويمه إياه؟ إن محمد عبدالوهاب يظن أن أغانيه الأولى («يا جارة الوادي» وأخواتها) دون ما جاء به بعد وما يجيء به الآن، مع أن كثيراً من الناس (وأنا منهم) يرون أن أجمل ما غنّاه أغانيه الأولى من أخوات «جارة الوادي». هذه المحاضرة ممّا لا أرتضيه الآن، ولكني أنقل فقرات منها هنا ليرى القرّاء كيف كنت أكتب في تلك الأيام، ولأن هذه المحاضرة لم تدخل في كتاب من كتبي المطبوعة، بل طبعتها «جمعية الهداية الإسلامية» في ورقات ووزعتها على من حضر المحاضرة لمّا أُلقِيَت من اثنتين وخمسين سنة، فكم من القرّاء كان موجوداً لمّا وُزّعت؟ وكم ممّن كان موجوداً قد احتفظ بها؟ وصفت في المحاضرة حال العالَم قبل مولد الرسول ‘، وكيف انقطع وحي السماء وشاخت دول الأرض، وانزاحت الحضارة العادلة عن أكثر بقاعها، واقتسم العالَمَ الدولتان الكبريان: فارس والروم كما يقتسمه اليوم الروس والأميركان، وقلت: إنه كان يعرض لكسرى الفرس أو قيصر الروم خاطر من الطمع أو يحس من نفسه فضلاً في القوة، فينهض ليقاتل الآخر. يصطرع الملِكان ويغرق الألوف من الناس في دمائهم وتزهق

أرواحهم. في سبيل مَن؟ في سبيل الشيطان، لا في سبيل الحق ولا في سبيل الرحمن. فسدت من قبل الأخلاق في روما حتى اجتمع على العُري الكامل الرجال والنساء في الحمّامات، حتى تزوّجَت ابنة شيشرون أبي الوطن بأربعة رجال في وقت معاً. عمّ الجهل والظلام وسادت الدعارة والفسوق ... إلى أن قلت: لم يعُد في بلاد الحضارة أمل ببزوغ الفجر المرتقب، فهل يبزغ من وراء الرمال، من بوادي الجزيرة؟ ووصفتُ حال العرب وكيف كانوا منشقّين على أنفسهم، متباينين في قبائلهم، لا راية تجمعهم ولا حكومة تُخضِعهم، حكمهم إلى سيوفهم، آلهتهم شتى وأربابهم أصنام، يخشون كسرى ويرجون قيصر، قبعوا في باديتهم وقنعوا بجزيرتهم. إلى أن قلت: ثم كان أمر، وكانت عشيّة أو ضحاها فإذا الافتراق اتحاد، وإذا الضعف قوة، وإذا هذا الشعب الجاهل يحمل مشعل العلم، وهذه الجزيرة القاحلة تعنو لها أرض الجنان والأنهار وينهار أمام أهلها عرش كل ظالم جبار. ماذا حدث؟ مَن هزّ هذه الصحراء الجدباء ومَن نفخ في هذا الشعب الجاهل فأخرج منهما أمة عالمة قوية كانت المثل الكامل للأمة الفاضلة؟ من الذي أزاح الله به الظلام عن الكون وأطلع به شمس الهداية والخير على الدنيا؟ قفوا، طأطئوا الرؤوس شكراً لله الذي أرسله رحمة للعالمين. وقرنت كلمة «قفوا» بإشارة اليد الممدودة إلى القيام،

فنهضوا جميعاً. ولما قلت: «صلوا عليه وسلموا تسليماً» قرؤوا الصلاة الإبراهيمية على عادتهم في المولد، لا على أنها واجبة هنا أو أنه لا بدّ من قراءتها. وكان ممّا قلت: إننا قد اجتمعنا هنا في ذكرى مولده ‘ لنفيض على العالَم من أنوار سيرته السامية وتاريخه الجليل، إننا قد اجتمعنا هنا لنثبت للدنيا كلها أن الإسلام دين الله، وأن القرآن كتابه الذي جعله المنهاج لنا فلا يقبل منهاجاً غيره منا. إننا قد اجتمعنا هنا لنُطمْئن إخواننا المسلمين فوق كل أرض وتحت كل نجم بأنّ دين الله لن يُغلَب ولن يزول، وأن العاقبة لأهلها ولو مسّهم القرح ونالهم الأذى. إننا قد اجتمعنا هنا لنصرة الفضيلة ونشر العدل، وإيصال الخير الذي بُعث به محمّد إلى الدنيا كلها. كان ميلاده نعمة وسلوكه قدوة، ومبعثه هدى ورحمة، ودينه شمساً ساطعة اهتدى الناس بهديها وساروا على ضوئها، فتبارك الله، وبورك الرسول، ونعمت الذكرى. ولد والعالم في ظلام، والناس في ضلال، والحضارة في تقهقر، فعمّ النور واهتدى الناس وازدهرت الحضارة. كان الباطل ظافراً والجهل فاشياً والظلم محكماً، فلما وُلد ظهر الحقّ وساد العلم وظفر العدل، فكان مولده رحمة للعالمين وهدى للناس أجمعين ... إلى آخر المحاضرة فهي طويلة. وكانت خاتمتها: ألا فلنجدّد في هذا اليوم إيماننا ولنتعاهد على الرجوع إلى ديننا. لنتصافح ولنتناصح، ولنكُنْ يداً في الحقّ واحدة علّ الله يمنّ علينا بنصر

من عنده، وما النصر إلاّ من عند الله. لنتيقظ لتلك الفئة التي تزعم أنها منّا، وتؤْثر على ديننا وكتاب ربنا ضلالات الملحدين وبدع المبتدعين، ومَن في تلك الفئة؟ إن فيها أبناءنا وإخواننا أفسدتهم علينا هذه المدارس وهذه المجتمعات، أخذَتهم منا مؤمنين وردّتهم إلينا كافرين بدينهم، مزدرين لفضائلهم، أعداء لآبائهم وعترتهم. ونحن؟ نحن غافلون نائمون، لا نواجه عدواً ولا ندرأ خطراً ولا نُنكِر منكراً. إننا راجعون إلى ربنا، وسيسألنا عن دين أضعفناه ومجد أضعناه، فبماذا نجيب؟ لقد نزلَت فينا المصائب وتوالت النكبات، حتى صرنا إذا أصابتنا السهام تكسرت النصال على النصال، فلم نعد نشعر بآلامها. لقد طفح الكيل وتكاثف الظلام، فإلى النور، إلى الحياة. قوموا اليوم بين يدي ربكم وأقبلوا عليه بقلوب مخلصة وحّدها الدين، ثم اسألوه أن يفرّج عن المسلمين وأن يمدكم بنصره ومعونته. ادعوا، فقد دعا الرسول ‘ يوم بدر وألحّ في الدعاء، ولكنْ بعد أن أعدّ الجيش وصفّ الجند واتخذ الأسباب كلها التي يقدر عليها، ثم سأل الله ما لا يقدر عليه إلاّ الله، وهو تحقيق النصر. فاعملوا وتوكلوا، أعدّوا وادعوا، اسعوا وسَلوا، وإذن يجيب الله دعاءكم ويعطيكم سؤالكم. هذا ما قلته في ربيع الأول سنة 1350هـ في يوم إعلان تأليف أول جمعية إسلامية في سوريا. * * *

تقلبات على الطريق

-34 - تقلّبات على الطريق الذي يريد أن يشتري بيتاً أو يستأجره يقلّب بيوتاً كثيرة، يبصر مزاياها وعيوبها ثم يختار ما هو أصلح له منها. ولقد كانت سنة 1929 والتي بعدها إلى سنة 1931، كانت لي مرحلة اختبار واختيار، ما كانت بصنعي بل بصنع الله لي: خالطت المشايخ حتى صار لي في ميدان الدعوة صوت مسموع، وإن لم يكُن أعلى الأصوات. وصرت من قادة الطلاب، وإن لم أكُن أكبر القُوّاد. وصرت من فرسان المنابر ومن حَمَلة الأقلام، وإن لم أكُن سابق الفرسان ولا من أكبر الكتّاب. وأصبحت معلّماً ولكن في مدرسة أهلية، واشتغلت بالمسرح تأليفاً ومعاونة في الإخراج ومعلّماً للتمثيل، ونلت الشهادة وكتبت تحت اسمي «بكالوريوس آداب وفلسفة» ... وكانت كلها بدايات: في الربيع تخضرّ الأرض وتنشقّ عن نبتات صغيرة، منها زهور برّية أو حشائش خلقت لتعيش شهور الصيف فقط، ومنها ما يعيش سنين، ومنها خوط شجرة زيتون ربما بلغ عمرها القرون. كانت كلها بدايات. منها ما وقف وانقضى عهده فصار من

الذكريات، ومنها ما استمر إلى الآن. استمرّ -والحمد لله- عملي في الدعوة، وفي التعليم، وفي الكتابة، وفي الخطابة، وانتهى عهد المسرح وقيادة الجماهير كما انتهى من قبله عهدي بالتجارة، والحمد لله أيضاً، فما ندمت على ما انصرفت عنه ولا على ما بقيت فيه. ولما انتهت السنة الدراسية عدت إلى مصر ناوياً الإقامة فيها، وقدّمت أوراقي للجامعة، وقابلت الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب والدكتور عبد الوهاب عزام، فكان اللقاء الوحيد مع الأول، وكان اللقاء مع الثاني بداية مودّة وصداقة ومحبّة استمرت حتى توفّاه الله: في مصر وفي دمشق وفي كراتشي، وسيأتي إن شاء الله الكلام عنه. اخترت الجامعة ولكن الله ما اختارها لي، فقد كان خالي محبّ الدين على رأس من يردّ على طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» وكانت «المطبعة السلفية» مركز الحملة عليه ودفع ما جاء به، ودخولي الجامعة يباعد ما بيني وبينه، وأنا إنما جئت مصر لأكون معه لا عليه. فدخلت دار العلوم العليا، وليس عندي شيء مكتوب يذكّرني بأيامها، وما كان في ذاكرتي ذهبَت به الأيام والليالي، فلست أذكر إلاّ أني كنت أركب الترام من باب الخلق إلى المنيرة، يمشي بي في شارع ضيّق ملتوٍ هو شارع الخليج الذي لم يعُد اليوم ضيّقاً ولا ملتوياً، وكان على جانبيه أبنية عتيقة تكاد تكون خرِبة فصار على جانبيه اليوم عمارات ضخمة عالية. ولا أذكر من أساتذتها إلاّ الشيخ أحمد الإسكندري، مؤلف «الوسيط» الذي كنا نقرأ فيه تاريخ الأدب العربي، ووكيل المدرسة

الشيخ حسن منصور، وكان بارعاً في التفسير وكان مهيباً يخشاه الطلاب، وأننا كنا نتغدى الظهر في المدرسة ثم نخرج. وممّا أذكره أنهم أرادوا أن يؤلفوا فرقة للتمثيل فجاؤونا بشابّ له اسم غريب لا أزال أحفظه هو فتوح نشاطي، أعدّ عبارات جعل يختبر بها الطلاب ليرى مَن يحسن منهم الإلقاء ومن يصلح منهم للتمثيل، فلما وصل الدور إليّ دهش ودُهش الطلاب جميعاً، والتفتوا إليّ بعد أن كانوا لا يحسّون بوجودي، وصرت المقدَّم عنده وعندهم، وصار هذا «الجدع الشامي» (¬1) مضرب المثل في إجادة الإلقاء والمقدرة على التمثيل، ولم يعلموا أني كنت «أستاذاً» في دمشق لهذا الفن قبل أن أكون «طالباً» مبتدئاً فيه في مصر. ما أعجب الإنسان، وما أعجب حياة الإنسان! لقد سألوني عشرين مرة في درس الإنشاء: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فكتبت: أريد أن أكون طبيباً، وأن أكون محامياً، وأن أكون وأن أكون، فما كان شيء ممّا أردت أن أكونه ولكن كان ما أراد الله أن أكون. لا، لا أقول مقالة الجاهلين «أن الإنسان مسيَّر». إنه ليس مسيَّراً بل هو مخيَّر، لم يُجبِر الله كافراً على الكفر ولا عاصياً على العصيان، بل أعطاه العقل الذي يفكّر والإرادة التي تقرّر والأعضاء التي تُنفّذ، وفتح أمامه الطريقَين وقال: هذا طريق الجنة ¬

_ (¬1) وأصل الكلمة جذع، وهي فصيحة: يا ليتَني فيها جذَعْ ... أخِبّ فِيها وأضَعْ

وهذا طريق النار. من خرج من بيته وكان سليم الرّجلَين يستطيع أن يمشي إلى المسجد ويستطيع أن يمشي إلى الخمارة، فأين الإكراه؟ يقول جول سيمون: "أنا مخيَّر وأنا أريد أن أرفع يدي، فمن يراهنني على أني لا أستطيع رفعها؟ "، فإذا قدرت على رفعها أقدر أن أرفعها لأنقذ غريقاً أو لأغرق بريئاً، فهل العملان سواء؟ لا، ليس الإنسان مسيَّراً بل هو حرّ مختار يصنع ما يشاء، ولكن في حدود البشرية. السيارة تمشي، ليست كالصخرة الراسية، ولكنها تمشي في الطريق المعبَّد وبالسرعة المحدّدة، لا تصعد درَج العمارة ولا تسابق «البوينغ». وأنا مخيَّر ولكن لا أقدر أن أجعل أنفي أجمل ولا قامتي أطول ولا أن أجعل أمسي يعود (¬1). الإنسان مثل الزورق في البحر، يسيّره راكبه، يحدّد وجهته ويعيّن غايته، ولكن قد تأتي موجة عالية أو ريح عاتية، فتوجهه جهة لا يريدها إلى غاية لا يقصدها. في يدي الآن ورقة مصفرّة من القِدَم مكتوب فيها: «المملكة المصرية، دار العلوم العليا، نادي التمثيل والموسيقى، نمرة مسلسلة (70)، وصل من حضرة العضو محمد علي طنطاوي مبلغ 10 قروش صاغ قيمة اشتراكه عن شهر أكتوبر سنة 1929، تحريراً في 15 أكتوبر سنة 1929. الخاتم الرسمي، أمين الصندوق محمد علي الضبع». ¬

_ (¬1) راجع كتابي «تعريف عام بين الإسلام» (فصل الإيمان بالقدر).

علي الطنطاوي ممثّل أو موسيقي! وتصورت ماذا تكون خاتمة هذه القصة التي بدأت بهذا «الوصل» لو هي اكتملت فصولاً. إلى أين كان يصل بي هذا الطريق الذي وضعت رجلي في أوله يوم صرت عضواً في نادي التمثيل والموسيقى لو أني تابعت السير فيه؟ كنت أبدأ فأمثّل في المدرسة، ثم أشارك في رواية على المسرح، ثم أدخل فرقة من الفرق، ثم يُسجّل اسمي في القائمة التي تبدأ بجورج أبيض لتنتهي بإسماعيل ياسين، فيكون علي الطنطاوي اليوم ممثّلاً عجوزاً متقاعداً، يعاشر النساء ويشهد الرقص، ويسهر الليل وينام النهار، ويعود بلا صحّة ولا مال ولا دنيا ولا آخرة. ولم يكُن يحول بيني وبين هذه النهاية شيء، فالاستعداد له في نفسي كبير والرغبة فيه قوية، ولكن الله صرفني عنه. أصبحت يوماً فإذا خاطر قويّ لم أملك له دفعاً يدفعني لترك دار العلوم ونادي التمثيل فيها، والعودة إلى دمشق. وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حوّلَت زورقي إلى ما هو خير لي، فاللهُمّ لك الحمد. * * * عُدت إلى دمشق فإذا موعد القبول في الجامعة قد مضى، وكان في نفسي طاقة هائلة إذا لم تصادف عملاً تذهب فيه تذهب بي أنا، وكنت مكلَّفاً بنفسي وبأمي وإخوتي، فإذا لم أجد كسباً حلالاً ضعت وأضعتهم. فلا بدّ لي إذن من عمل أوجّه إليه طاقتي ومورد أنفق منه على أهلي. ومن أين المورد؟ هل أعود إلى التجارة التي جرّبتها فما أطقتُها ولا صدّقت أني نجوت منها؟ هل أقبل وظيفة

وأنا أنكر على من يكون موظفاً في حكومة يوجّهها المستعمرون كما يشاؤون؟ لم يبقَ أمامي إلاّ التعليم. حياتي كلها موجات يبعثها الله فتوجّه زورقي إلى حيث يريد؛ منعطفات ما كان شيء منها بتدبيري واختياري بل باختيار الله لي. وأعود فأكرّر أني لست مسيَّراً، وأن من يزعُم أن الإنسان مسيَّر يُقِرّ في نفسه بأنه أحمق. الإنسان مخيَّر ولكن دائرة اختياره ضيّقة ومدى حرّيته في الانطلاق قصير، لذلك كان علينا التفكير، وعلينا أن نستشير ثم نستخير، فنسأل الله أن يبلغنا من الخير ما نعجز عن بلوغه إلاّ بعونه. من ذلك أنه كان في دمشق مدرسة أهلية أثرية اسمها «المدرسة الأمينية»، قريبة من الأموي، كانت أقدم مدرسة للشافعية في دمشق، عمرها قريب من عمر الأزهر، مديرها ابن خالتي الشيخ شريف الخطيب. وكان يعلّم فيها أخوه الشيخ طه، فجئت أزوره يوماً من أيام سنة 1345هـ فيها فعلقت رجلي بالفخّ. وكانت هذه الزيارة «منعطَفاً» كبيراً في طريق حياتي (¬1)؛ ¬

_ (¬1) هذه الزيارة كانت قبل الذهاب إلى مصر لا بعد العودة منها؛ فقد ذهب جدي إلى مصر سنة 1928، أي سنة 1348 هجرية، وهذه الواقعة (كما هو مذكور هنا) كانت سنة 1345، فهو يذكرها في هذا الموضع ليقول لنا بعد قليل إنه عاد إلى التدريس في هذه المدرسة حين احتاج إلى عمل يعمله يكسب منه معاشَه ومعاشَ مَن يعول (مجاهد).

إذ دخلت على التلاميذ فألقيت عليهم درساً، فأحببت التدريس فاشتغلت به. ثم أقام «الحفلة» السنوية، وكان يدعو إليها وجوه الشاميين من علماء وموظفين وتجار، وكلّفني أن أكون خطيبها. وكنت أكتب خطبي، فأعددت خطبة قال مَن سمعها (ما قال لي ولكن قال عني فبلغني) بأنها كانت شيئاً جديداً ما ألِف الناس يومئذٍ مثله ولا عرفوه، في موضوعها وأفكارها، وفي أسلوبها وإنشائها، وفي طريقة إلقائها. وكان ذلك سنة 1345 هجرية وأنا شاب في زهرة الشباب، حسن الوقفة، جهير الصوت، صحيح النطق، ولولا الحياء لقلت إني جميل الصورة أيضاً! تلك كانت بدايتي في التعليم وفي الخطابة، وفي هذه المدرسة (ثم في غيرها) كانت بداية اتصالي بعالَم المسرح والتمثيل، وفيها اخترعت فنّ الإلقاء (¬1). تدفّق في نفسي ينبوع من النشاط ومن الابتكار. جئت بالمحراث القوي وبالبذر الجيّد وبالسماد الصالح، ولكني أعملت محراثي ونثرت بِذاري في أرض لا تصلح للزراعة، فحملت المشاقّ وكثرة الإنفاق، ولم أخرج بطائل. ولو كان هذا الجهد في الجامعة أو في مدرسة ثانوية، عند من يقدّره قدره ويهتم به، لجاء بأطيب الثمر وأكثره ولم يذهب هدراً مع تلاميذ صغار لا قدّروه في حينه ولا حفظوه بعده، بل إن أكثرهم لم يكمل دراسته، بل انصرف إلى أعمال الدنيا فلم تعُد تربطه رابطة بالعلم والأدب. * * * ¬

_ (¬1) لهذا الإيجاز تفصيل في الحلقة الثامنة والثمانين (مجاهد).

فلما اضطُررت الآن إلى العمل رجعت إلى «الأمينية» أعلّم فيها بالأجر. وما الأجر؟ أربعة قروش إلاّ ربعاً على الساعة، والقرش هللة (هلالة) هنا أو مليم في مصر. هذا هو الأجر! وهذا شيء لا يشتري خبزاً ولا يُشبع أسرة، فعملت في مدارس أُخَر: في «الجوهرية» عند الشيخ عيد السفرجلاني، أستاذي في «الجقمقية» الذي مرّ بكم ذكره. وكان من تلاميذي فيها واحد نبغ حتى صار من شيوخ التعليم ومن العلماء، وأمضى شطراً من عمره موجّهاً للمدرّسين، مشرفاً على وضع المناهج وتأليف الكتب في العلوم الدينية لأنه كان مفتّش التربية الدينية في وزارة المعارف، وهو أحد تسعة كانوا أوفى مَن مرّ بي من الطلاب، وقد مرّ بي آلاف وآلاف وآلاف من سنة 1345 إلى الآن، هو الأستاذ عبدالرحمن الباني. وفي «المدرسة التجارية» التي عملت فيها من ستّ سنين (¬1) ثم تركتها لما قدّموا عليّ الشيخ أحمد الدقر فأعطوه الدرس. وفي «الكامليّة»، المدرسة التي كانت يوماً من أعظم مدارس دمشق فصارت مدرسة ابتدائية، أنشأها الشيخ كامل القصاب العالِم المعلّم الوطني المصلح، وكان يعلّم فيها ألمع رجال دمشق كالدكتور عبد الرحمن شهبندر، وتخرّج فيها جلّة من الأساتذة كالدكتور أحمد حمدي الخيّاط أستاذ أطباء دمشق، والدكتور أسعد الحكيم. كان يديرها لمّا جئت أدرّس فيها الصديق ¬

_ (¬1) أي قبل هذا التاريخ بست سنوات، في سنة 1923 أو نحوها. وقد مرّ الخبر في الحلقة الثالثة والعشرين من هذا الجزء (مجاهد).

الخطيب الأستاذ جودة المارديني، وكان أوّل شيخ يلبس الحلة الإفرنجية (البنطال والجاكيت) ويعقد العقدة (الكرافات) ويحلق لحيته، فكنّا ونحن صغار نعجب منه وقليل منا يُعجَب به. ثم جاء مديراً لها ابن الشيخ كامل. ولهذه المدارس وأيامي فيها أخبار طوال، إذا جرّت المناسبة إليها ذكرتها. وكان من المدارس الأهلية «الكلية العلمية الوطنية» التي كانت للمربّي الشيخ أبي الخير الطباع ثم للدكتور منيف العائدي الأستاذ في كلية الطب، وكانت تتبع مناهج وزارة المعارف وتُعِدّ الطلاب لامتحان البكالوريا، وكان يدرّس الأدب العربي فيها الأديب الشاعر العالِم الأستاذ خليل مردم بك، فسمحَت الجامعة للطلاب غير السوريين بدخولها بالشهادة الثانوية وأعفتهم من نيل البكالوريا، فأنشأت الكلية صفاً (فصلاً) سمّته «صفّ الجامعة»، يُدرَس فيه كل ما يُدرَس في «صف البكالوريا»، وطلبت من الأستاذ مردم بك أن يعلّم فيه فاعتذر ورشّحني لتدريس الأدب في هذا الصف، فدعَوني وجعلوا لي أجراً عُشر الليرة الذهبية (أي 55 قرشاً) على الساعة، وكان أجراً كبيراً بحساب تلك الأيام. وقد جمعت محاضراتي فيها عن بشّار بن برد، أخذتها من دفتر أحد الطلاّب وطبعتها في كتاب صدر على عجل سنة 1930، ولم أُعِد طبعه ولا أنوي إعادته لأني لا أرتضيه. * * * كانت مرحلة بدايات، ومن هذه البدايات احترافي الصحافة.

وكنت قد اتصلت بها من قبل لمّا نشرت أول مقالة لي في «المقتبَس» عند الأستاذ أحمد كرد علي، أبي بسام وعبد الرزاق وشقيق أستاذنا الكبير منشئ المقتبس محمد كرد علي. وفي كتابي «من حديث النفس» تفصيل هذا الكلام (¬1) فلن أعود إليه، ولكن أقول إني "كتبت المقالة وقرأتها على رفيق عمري أنور العطّار رحمه الله، وكان يومئذٍ يجرّب قول الشعر، فأشار عليّ أن أنشرها. فاستكبرت ذلك، فما زال يزيّنه لي حتى لِنت له وغدوت على إدارة «المقتبس»، وكانت في شارع السنجقدار (القديم) قبل أن يخربه المنتدبون وقبل أن يعيد الناس بناءه، وكانت في صف المسجد من جهة المرجة. ولا أدري كيف وجدت الجرأة على أن أصعد السلّم وأن أسلّم على الأستاذ وأدفع إليه المقال". ولم يكُن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يُقدِم على طلب النشر فيها، وكنا يومئذٍ مصابين بمرض الخجل الذي شُفي منه أكثر شباب اليوم، بل جازوه إلى الجهة الأخرى ... التي تقابل الخجل. "فأخذ المقالة فنظر فيها، فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً ورأى أمامه فتى صغيراً فَطيراً، وكان ذلك في أوائل سنة 1926، فعجب أن يكون هذا من هذا. وكأنه قد شكّ فأحب أن يتحقق، فاحتال عليّ حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه وليس عنده مَن يكتبه ولا يحسن تأجيله. ففهمت وأنشأته له إنشاء ¬

_ (¬1) انظر «أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته» في «من حديث النفس»، وفي هذه الحلقة مقاطع من تلك المقالة (مجاهد).

من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقالة غداة الغد". خرجت من إدارة الجريدة "وأنا أتلمس جانبَيّ أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما استخفّني من السرور، ولو أني بويعت بالإمارة أو أُعطيت البشارة ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد". وسرت كأني راكب حوّامة (ولم تكُن قد اختُرعت الحوّامات)، فأنا أمشي على الأرض ولكن لا تمسّ أقدامي الأرض، "وما أحسبني نمت تلك الليلة ساعة، ولو نمتها لحلمت فيها بما ينالني من المجد حين يُنشر المقال فيقرؤه الناس، فيدَعون أعمالهم ويتركون ما بأيديهم ليشيروا إليّ فيقولوا: هذا هو كاتب المقالة! وجعلت أترقّب الصباح ترقّب عاشق هيمان ينتظر وصلاً بعد طول هجران، حتى إذا انبثق الصباح نزلت فأخذت الجريدة، فإذا فيها المقالة وبين يديها كلمة ثناء لو قيلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه". رحمك الله يا أبا بسام ورحم تلك الأيام. لقد نشرت بعدها أكثر من ألفَي مقالة، فما عرفت مثل تلك الفرحة. إن الفرحات الأولى لا تُعاد، ترى الكعبة ألف مرّة فلا تحسّ أمامها مثل الذي أحسستَه في المرّة الأولى، وتقرأ القصّة مرات فلا تشعر بالمتعة التي شعرت بها عند القراءة الأولى. وعدت إلى احتراف الصحافة سنة 1930، وحديث هذه العودة في «العدد» القادم، إن أحياني الله إلى العدد القادم. * * *

احتراف الصحافة

-35 - احتراف الصّحافة هذه صفحة جديدة من كتاب الذكريات، لا أنقل لكم كل ما فيها بل أنقل عناوينها ورؤوس فقراتها، أي أنني أُجمِل ولا أفصّل. هي صفحة احترافي الصحافة. أما من حيث قرب هذه المهنة من نفسي فهي أحبّ إليّ من كل مهنة مارستها، ولو خُيّرت الآن لاخترتها دون ما سواها، بشرط أن أكون أنا وحدي المشرف على المجلة، وأن أكون حراً لا رأي فوق رأيي، ولا مُكرِه لي على نشر ما لا أريده أو طيّ ما أريده، وأن يكون معي من آتاه الله من المعرفة والإدراك ما يعينني به على عملي فيها، وأن يكون موافقاً لي لا مخالفاً؛ لا أريد أن يرى الخطأ مني ويسكت عنه مجاملة لي، بل أن ينبّه إليه بالأسلوب المناسب في الوقت المناسب، ثم إذا عزمت على الأخذ به أو إهماله لم يعترضني، لأن التبعة عليّ فمن حقي إذن أن يكون الحكم إليّ، وأن يمنّ الله عليّ بالمصحّح الحاذق؛ فإن مصيبة المطبوعات بمصحّحي المطبعة، ولو أن الخطأ كان تصحيفاً أو تحريفاً لهان الأمر، ولكن البلية حين يبدّل بكلمة في

الأصل لم يفهمها كلمةً من عنده أو يزيد على النص كلمة ليست فيه أو ينقص منه كلمة هي فيه. ولو قعدت أحصي ما قاسيت من المصحّحين لجاء معي كتاب صغير أو رسالة كبيرة. لذلك أرجو من يريد يوماً أن يجمع مقالاتي أن يعرضها عليّ إن كنت حياً، أو ينظر في الأعداد التالية للعدد الذي نشرت فيه المقالة فلعلّ فيها تصحيحاً لغلط. وإني أرجو من أصحاب المجلاّت أن يجعلوا فيها مصحّحين أدباء، بشرط أن يتقيدوا بالأصل الذي كتبه صاحب المقالة، لا أن يحسبوها وظيفة إنشاء لطالب فيمرّوا عليها بالقلم الأحمر يعدّلون ويبدّلون، وأن يجعلوا لهم على التصحيح أجراً يقارب أجر رئيس التحرير، ثم يحاسبوهم على كل غلطة تفلت منهم بحسم اثنين في المئة من هذا الأجر. * * * قلت لكم إن أول اتصالي بالصحافة كان سنة 1926 (1344) لمّا نشرت مقالة في المقتبس، ثم ذهبت إلى مصر بدعوة من خالي محبّ الدين الخطيب، وكان نزولي عليه، فشاركت في تحرير مجلّتيه «الفتح» و «الزهراء». أما «الفتح» (واسمحوا لي أن أعود إلى الحديث عنها) فهي أول جريدة إسلامية، بل لقد كانت الجريدة الإسلامية الوحيدة؛ لم يكن صدر -فيما أعلم- غيرها، وكانت أسبوعية، ولكنها عالية الصوت مسموعة الكلمة، معروفة في الأوساط الإسلامية في بلاد الإسلام جميعاً، لها من التأثير فيها أكثر ممّا لجرائد ذلك

البلد. وكانت تُعنى بأمور المسلمين كلها على السواء، هي أثارت الدنيا على فرنسا يوم الظهير البربري، وهي أقامت الناس على إيطاليا لما صنعته في طرابلس، وكانت تجري فيها أقوى الأقلام الإسلامية كقلم شكيب أرسلان والرافعي ومحب الدين. وأمّا «الزهراء»، مجلّة الأدب الإسلامي، فكانت لمّا جئت مصر في دور النَّزْع، صدر منها أربع مجلّدات (¬1)، فلما دخلَت سنتها الخامسة نضب موردها وقلّ مالها، وأفلسَت، ولكنها كانت تجاهد جهاد المحتضَر لتدفع عن نفسها الموت، وقد صدر منها بعد وصولي عددان فقط، كتبت أنا أكثر ما نُشر فيهما. ولا أقول إن الذي كتبتُه كان من الأدب الجيّد، ولكن أقول إنه كان فوق محاولات المبتدئين ودون كتابة المطبوعين المجوِّدين. كان هذا في مصر سنة 1928، فلما عدت إلى الشام واضطُررت إلى العمل لأفرّغ طاقة من النشاط كانت في نفسي، ولأكسب شيئاً من المال أعود به على أهلي، أخذني أخي أنور العطار إلى الأستاذ معروف الأرناؤوط (وكانت له معرفة به) فربحت -كما سترون- الكثير من أدبه، ولكني لم أصل إلى كثير ولا قليل من ماله. كان معروف أديباً ولم يكن صحفياً، لا أعني الأديب الذي أخذ من كل شيء بطرف كما قال ابن خلدون، فمعروف لم يأخذ إلاّ شيئاً واحداً هو الأدب، أخذه من أطرافه كلها وترك له كل شيء. ولا أعني الأديبَ الذي روى الشعر وحفظ الأخبار ووعى ¬

_ (¬1) جمع مجلّدة، ولو أردت المجلّد لقلت أربعة.

التاريخ، فمعروف لم يكن راوية ولا حافظاً ولا مؤرّخاً. ولا أعني الأديبَ في عُرف العامّة، وهو الرجل المهذّب الحواشي الرقيق الطبع العفّ اللسان، فما كان لسان معروف عفيفاً ولا نظيفاً، وكان إذا غضب نطق بأشنع السّباب وأبشع الشتم، وكله من تحت خط الاستواء في جسد الإنسان ... أي من تحت «الزنّار»! ولكن أعني الأديب الذي تجالسه فتجالس «طفلاً» كبيراً، وتراه فترى صفاء الطفولة وجمالها، وتسمع له فينقلك -إذا كان راضياً رائق المزاج- إلى عالَم ما فيه إلاّ الجمال والحب، عالَم القلب. وتقرأ له فينقلك إلى دنيا غير دنيا الناس، يصوّر لك (في رواياته) فيافي الجزيرة وأودية فلسطين ومفاتن إسطنبول مزيَّنةً بالسحر والشعر، مضمَّخةً بالطيب والعطر، حتى لتظنها جِنان الأحلام وتشكّ (إن كنت تعرف هذه البلاد) هل هي التي يصفها معروف أم أن في قلم معروف سحراً. فمَن جالس معروفاً فقد عرف الكاتب الأديب، ومن قرأ لمعروف ولم يجالسه لم يعرف إلاّ جانباً من هذا الأديب الكاتب، ومن لم يقرأ له ولم يجالسه فقد فاته حظّ من الأدب العربي الحديث. هذا كله على ألاّ تعامله ولا تتخذه قدوة لك في الحياة. أستغفر الله وأسأل الله له الرحمة، فلقد كان مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً. وكان يظهر إيمانه على أسَلات (¬1) قلمه: لمّا غلب اليونان بمعونة الحلفاء على أزمير في نهاية الحرب الأولى وجعلت ¬

_ (¬1) الأسَلة هي العود الطويل أو هي طرف الشيء المستدقّ، يُقال: أسلة النصل وأسلة اللسان، ومنه أسَلة القلم أي طرفه (مجاهد).

عساكرهم تجول في طرق إسطنبول تنبّهَت الصليبية في نفس كاتب نصراني في الشام، فكتب متشفياً معرّضاً بالسلطان العظيم محمد الفاتح. وتألّم معروف كما تألّم المسلمون ولكنه ما تكلم، حتى إذا طُردوا من أزمير وعادت إلى الترك المسلمين، كتب مقالة تستحق أن تُسطّر -كما كان يقول الأوّلون- بماء الذهب، وقعت على قلوب المسلمين برداً وسلاماً وعلى قلوب «الآخرين ...» جمرة وضِراماً. وكان في المدرسة أجهلَ الناس بالحساب، فلما كبر عُني به حتى أتقنه وصار من كبار الحاسبين، وبلغ من حذقه أنه حفظ عن ظهر قلب عدد أيام الأسبوع وشهور السنة، وأدرك عشر العشرة ومعشار المئة، وعرف قطر الدائرة وقاعدة المثلث، وصار يعرف أن ستة في سبعة تساوي سبعة وثلاثين، وفي رواية سبعة وأربعين، ولم يحقق أيها الصحيح منهما فالمسألة فيها قولان! ولكنه لم يصل إلى معرفة الباقي من الريال (المجيدي) بعد شراء علبة الدخان، فكان يشتم البيّاع كل مرة عشرين شتيمة، منها أربع على الأقل من الشتائم المبتكَرة التي لم ينطق بها قبله أحدٌ من الهجّائين، لا الحطيئة ولا جرير ولا دعبل ولا المتنبي، ويتهمه بالسرقة والاحتيال، حتى يجتمع ثلاثة من المارة ويعدّوا القروش ثلاثاً من المرات، ويحلفوا له ثلاثاً من الأَيْمان على أن البياع لم يسرقه ولم يحتَلْ عليه. وكان قليلَ البضاعة في الأدب العربي، ولكنه كان مطّلعاً على الأدب التركي، وكان آية في معرفة الأدب الفرنسي لا سيما شعر الحب والعاطفة، وكنت تسمع منه تلخيص قصيدة لموسّه

أو قطعة لشاتوبريان فتظنه أشعر من شاتوبريان ومن موسّه، ولقد سمعت منه قصة «جوسلان» للامارتين ثم قرأتُها، فوجدت تلخيص معروف أحلى من شعر لامارتين! ولمّا شرع يؤلّف «سيد قريش» لم يكن قد جدّد دراسته للتاريخ فكان مستشاره الحاج فلان (طمست اسمه بعد أن كتبته) وهو رجل قرأ في زمانه التاريخ ونسيه ثم نسي أنه نسيه، فكان معروف كلما سأله عن حادثة من الحوادث يكدّ ذهنه وينبش ذاكرته، ويتلمّس من بين المعلومات القديمة التي غطّى عليها غبار الزمان حقائق لم تصل إلى علم أحد من المؤرّخين فيقول له ما مثاله: طلع العرب يوم «ذي قار» من الرياض وهجموا على الظهران، وكان يقودهم أبو الأسود الدؤلي الذي وضع علم الفقه، وكان بطل المعركة الوليد بن هارون الرشيد الذي قال فيه المتنبي: قادَ الجيوشَ لسبعَ عشرةَ حِجّةً ... كادَ المعلّم أن يكونَ رسولا ومعروف يدوّن هذه الحقائق ويجعلها دعائم لبنائه القصصي، ثم يصب فيها عبقريته الفنية ويجمّلها بفنه العبقري، حتى إذا أتمّ كراريس من الكتاب وطبعها جاء مَن ينبّهه إلى هذا التخليط العجيب، فثار وفار ومزّق ما طبع، وسَمّى صاحبنا «أباجهل» وراح يخصّه في الحضور وفي الغياب بأجمل ما تفيض به قريحته من السباب، وذاك يضحك منها ولا تزيده إلاّ شحماً ولحماً وزيادة في الوزن وفي حب الأكل (¬1). ¬

_ (¬1) راجع مقالتي في جريدة الأيام، أيلول 1961.

كان في دمشق يومئذٍ (أي سنة 1930) أربع جرائد: «المقتبس» و «ألف باء» و «الشعب» و «فتى العرب»، وجرائد أخرى ليست في منزلة هذه الجرائد ولا هي مُطّردة الصدور مثلها. وكانت إدارة «فتى العرب» في العمارة الصغيرة التي كانت بين قصر الحكومة (السراي) والبلدية وسينما غازي وهُدمت، وكانت تشتمل على دكّانَين فوقهما بهو واسع، وكانت هيئة التحرير (وهي مؤلّفة من الأستاذ معروف ومنّي!) في دكّان، والإدارة والتوزيع في دكّان يشرف عليهما موظف واحد ... وكان فوقه المطبعة وعُمّالها. وكان عمالها من الصفوة المختارة لأن خط معروف كان أعجب خطّ رأيته، وكان الناظر إليه أول مرّة لا يدري هل الذي يراه خرابيش ولد مبتدئ أم نوع من الخطّ المسماري القديم. لذلك لم يكن يقدر على قراءته إلاّ من تعوّد عليه من مَهَرة العمال. هنا كتب معروف رواياته «سيد قريش» و «عُمَر بن الخطاب» (التي لم يكن فيها عن عُمَر إلاّ العنوان) و «طارق بن زياد» و «فاطمة البتول»، كان يكتبها في هدأة من الليل حين تخلو الساحة من الناس ويسكن الجوّ وتصفو النفس، وأمامه بردى، وإن كان بردى يصل إلى المرجة عجوزاً وانياً، ليس هو بردى الشاب الذي يقفز على صخرات الوادي يتوثب من القوة ويكاد يتفجر بالنشاط. ولم يكن قد جاء دمشقَ هذا البلاء الذي عكّر صفاء الليل وأطار نوم النائم، وزاد أوجاع المريض وعطّل عن دراسته الطالب، لم يكن في دمشق كلها إلاّ رادّ (راديو) واحد جاء به محمد علي بك العابد، ثم جاء الأمير سعيد الجزائري (حفيد الأمير عبد القادر)

بالثاني. هنالك كان معروف يوقد على النارجيلة ويُعِدّ القلم، فيأخذ من نارجيلته السمّ ويُعطي من قلمه العسل. كانت الجريدة في أربع صفحات، وكانت العادة أن يكون في الصفحة الأولى ثلاث مقالات. وقد ابتكر يوسف العيسى صاحب «ألف باء» زاوية سَمّاها «مَباءة نحل» لأنها تقرص قرص النحل، قلّدها كثيرون، وكنت أنا ممّن قلّدها في «فتى العرب» فكتبت زاوية «مذكّرات خُنفشاري»، ولم يفلح أحدٌ في تقليدها لا أنا ولا غيري. وفي الصفحة الثانية والثالثة الأخبار المحلّية وأخبار المناطق، وفي الرابعة الأخبار العالمية، وكانت تؤخذ من وكالتَي رويتر وهافاس (الفرنسية)، وخلال ذلك كله الإعلانات. ولم يكن لأكثر الجرائد يومئذٍ مراسلون فكان المراسل المقص. ولمعروف في هذا الباب نوادر؛ كان يجيئه العامل فيقول له: أستاذ، ينقصنا ربع عمود. فيقول: من أين آتيك بربع عمود يا أخا الـ ... وينطق بالكلمة الشامية التي يقولها صبيان الأزقّة! ثم يقول له: انتظر. ويبحث في زوايا ذاكرته عمّا يحفظ من أسماء البلدان في درس الجغرافية ويكتب: «أوتاوا، شبّت النار في مخازن للخشب شمالي المدينة وأسرع إليها رجال الإطفاء، وكانت الخسائر كبيرة لكن لم يُصَب أحد من الناس بأذى». «شيكاغو، وقعت معركة بين رجال العصابات وبين الشرطة كان سلاحها المسدسات والقنابل، وانتهت بالقبض على زعيم العصابة وإصابة شرطيَّين بجروح طفيفة»، ومثل هذه الأخبار. ومن أعجب اختراعاته ما أشرت إليه من قريب في المقابلة التي «أجراها» معي الرائي. ذلك أنه لمّا كانت الحرب بين الأفغان

والإنكليز جاءه العامل فأخبره أن لديهم فراغ عمود كامل. قال: عمود كامل يا ابن الكذا وكذا؟ أبوك وأمك! ولما فرغ من شتمه وجد أن العمود لا يزال فارغاً ما ملأته الشتائم، فماذا يصنع؟ تخيّلَ معاهدة صلح بين المتحاربين وكتب موادّها وحدّد شروطها، وزعم أن مراسل الجريدة الخاصّ في كابول استطاع أن يحصل على نَصّها الذي يُنشَر لأول مرة. وبلغ من إحكامها أنْ أخذها مراسل «هافاس» فبعث بها إلى الصحف التي يراسلها فنشرتها، وكانت جرائد مصر (الأهرام والمقطّم) تنقل عن جرائد أوربا ونحن ننقل عن جرائد مصر، فما مرّت أيام حتى نقلتها جرائدنا عن الأهرام والمقطم، ولم يكن أحدٌ ليعرف الحقيقة لو لم يعلنها أديب الصفدي فتُنشَر في صحف أوربا وتصير حديث الناس. وكان له مع الحُكّام أسلوب عجيب؛ دخل مرة على واحد من رؤساء الوزارات (أعرفه)، كان من عادته أنه يفتح بابه لأصحاب الحاجات فيسمع منهم، ثم يأخذ الهاتف فيكلم الموظف (المختصّ) يقول له: "آلو، أنا مرسل إليك فلاناً فاقضِ حاجته حالاً". وكان هذا الهاتف مقطوع الشريط. فدخل عليه معروف بعد أيام ومعه كيس قدّمه إليه، فوجد فيه الرئيس قطعة شريط. قال: ما هذا؟ فقال: مولانا، العفو. جئتك بهذه القطعة لتصل بها شريط هاتفك لأنه مقطوع على ما يظهر. فضحك وكلّم له الموظف بالهاتف الثاني. وكان الرؤساء يدعون أصحاب الصحف، فيوزّعون

عليهم مبالغ من المال ليكتبوا لهم ما يريدون (أو يريد أسيادهم المنتدِبون)، فاستقلّ معروف مرة المبلغ وجعل يساوم يطلب أكثر منه، فقال له الرئيس: ما هذا، هل هي قضية بيع وشراء؟ قال: نعم، إننا نبيعك ضمائرنا. يبيعون ضمائرهم! فيا ما أرخص الضمائر في سوق النفاق! وكان لكثرة ما يكتب في الشؤون الإسلامية يحسبه الناس -من بعيد- شيخاً صالحاً عابداً ويتصورونه متعمّماً ملتحياً، مع أنه كان أول من حلق شاربَيه في دمشق، وكان مفرَداً في ذلك. وقد زاره مرة جماعة من علماء الهند وكان يدخّن في النارجيلة، فقالوا له: أين مولانا الشيخ معروف؟ قال: فخفت إن قلت لهم "أنا هو" أن يكسروا النارجيلة على رأسي، فقلت لهم: سيأتي قريباً، فتفضلوا اقعدوا. ورفعت النارجيلة وجعلت أرقب الطريق، فمرّ الشيخ أديب تقيّ الدين نقيب الأشراف فقلت: ها هو ذا. وأشرت إليه ففهم، ودخل بهيئته وهيبته وجبّته، فقاموا إليه يقبّلون يده ورأسه. ولست أريد أن أتقصّى أخبار معروف، وإن كنت أعرف منها الكثير، وما ذكرت منها هذا الذي ذكرت إلاّ لأجلو للقرّاء صورة من الحياة في ذلك العصر. لبثت مع معروف خمسة أشهر استفدت فيها من أدبه، وإن (نسي ...) أن يدفع لي حقي في ماله على عملي عنده، واستحييت أن أطالبه. ولقيت عنده كثيراً من الصحفيين والأدباء، ولكن لم

أخالطهم ولم أندمج فيهم، وكان اجتماعي بهم في الجريدة في ساعات العمل، لم أقترب من مجالسهم في غيرها أو في غير وقت العمل، وكانوا يوقّرونني -على صغر سني- فلا يتحدثون عنها أمامي، وإن كانوا في حديثها ودخلت عليهم قطعوه أو بدّلوه، وما كنت يومئذٍ أسكت على منكر أراه ولا أستكبر أحداً عن أن أنكر عليه. جاء شوقي أمير الشعراء دمشق مرة، فأغراني أنور العطار رحمه الله بأن أذهب معه لزيارته، وكان في فندق خوام الذي هُدم الآن وصار مكانهُ شارعاً. فوجدنا بشارة الخوري وشبلي الملاّط وشفيق جبري وحليم دموس، ومجموعة من الشعراء من هذه الطبقة، وأمامه مائدة عليها أواني الخمر. وكنت أحمل عصا فمددتها ومشّيتها على وجه المائدة، فحذفت كل ما كان عليها فكسرته! وتستطيعون أن تتخيلوا ماذا صار! اختلطَت بهم كاختلاط الزيت بالماء لا كاختلاط الماء بالخلّ. * * * كنت أكتب المقالة الثانية كل يوم، وربما كتبت الافتتاحية، فهذه أكثر من مئة وأربعين مقالة ما بقي لديّ منها إلاّ أربع أو خمس. أعود إليها اليوم لأقرأها بعين الناقد فأجدني راضياً عن أسلوبها وعن أفكارها، مع أني كتبت بعدها مقالات لا أرتضيها ولا يسرّني أن تُنسَب إليّ، منها مقالة «إلى مجلس المعارف الكبير» الذي كان يُعقَد أحياناً، نقدت فيها وزارة المعارف نقداً صادقاً صريحاً حمَل مستشار المعارف (راجِه) وجبّارها دنلوب

الشام، على زيارة الجريدة نفسها ليقابل كاتب المقالة ويوضّح له ما غمض عليه، ومعه ترجمانه ميشيل السبع. والمقالة عندي، وقد لَخّصتُ فيها قصة ألفونس دوده «الدرس الأخير» الذي يصوّر فيها ضياع الألزاس من فرنسا بعد حرب السبعين (1870)، وجعلتها مدخلاً للكلام (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في الحلقة الآتية جزء من هذه المقالة، وفي أول مقالة «لغتكم ياأيها العرب» -المنشورة في كتاب «فِكَر ومباحث» - إشارةٌ إليها وطرفٌ منها أيضاً. وقد كانت حلقةً من سلسلة عنوانها «أحاديث ومشاهدات» دأب جدي رحمه الله على نشرها في «فتى العرب» سنة 1930، وأكثر المقالات القصيرة التي يضمها القسم الثاني من كتاب «مقالات في كلمات: الجزء الثاني» مختارَة من هذه السلسلة، فمَن شاء من القرّاء أن يطّلع على أسلوب علي الطنطاوي في تلك الأيام فليقرأها هناك. انظر الصفحات 219 - 240 من طبعة دار المنارة الجديدة من الكتاب المذكور (مجاهد).

في جريدة «فتى العرب»

-36 - في جريدة «فتى العرب» بقي الفرنسيون في الشام خمساً وعشرين سنة، ما كففنا يوماً منها عن جدالهم وجلادهم طلباً للحرية التي استُلبَت منّا ورفضاً لهذا الانتداب الذي فُرض علينا، ولكن كان فينا (كما يكون في كل أمة من الناس) مَن مالأهم ومال معهم أو سايرهم وداراهم، باع دينه بعرَض من الدنيا قليل: بمنصب أو بوجاهة أو بمال، فأعانهم بمنصبه أو بقلمه أو بلسانه. أما أنا فما قابلت (والحمد لله) من الفرنسيين إلاّ مَن كان معلّماً عندنا (في مكتب عنبر) ومن اضطُررت إلى مقابلته من غيرهم. ومن أخبث هؤلاء المعلمين رجل اسمه تريس، جعلوه مدرّس الأدب الفرنسي وهو لا يدري منه شيئاً، لأنه كان في بلده يعلّم مدرسة ابتدائية. وهو استعماري خبيث كان يقول لهم (كما أخبرني -بعدُ- أستاذُنا الفاضل شكري الشربجي رحمه الله): عندكم طالبان خطران جداً، علي الطنطاوي وخالد بِكداش (وكان في المدرسة بعدي بسنة أو سنتين)، فأخرجوهما من المدرسة فإنهما إن تخرّجا فيها أتعباكم.

وقال لي الأستاذ شكري بك وهو يضحك: لو أخذوا بنصيحته لخلصوا منكما، على بُعد ما بينكما: هو شيوعي، وأنت ولله الحمد مسلم. قلت هذا، وأزيد عليه أني لا أعرف مَن كتب في الصحف بقلمه أو قال على المنابر بلسانه في الفرنسيين لمّا كانوا في الشام أكثر ممّا كتبت وقلت، وفي كتابي «هتاف المجد» قليل من كثير من كتاباتي ومما بقي من خطبي. فإذا ذكرت لهم اليوم مزيّة فليس ذكرها تزلّفاً إليهم ولا حباً بهم، فقد ذهبوا عنا فما عادوا يضرّوننا ولا ينفعوننا، وإن كان النافع وكان الضارّ هو الله. ولكن أذكرها عملاً بقوله تعالى: {ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ على ألاّ تَعدِلوا. اِعْدِلوا}. هذه المزية التي جئت أذكرها لهم، والتي قدّمت لها هذه المقدمة، هي أن الصحافة على عهد الفرنسيين كانت حرّة لا يقيّدها إلاّ القانون. والقانون ليس قيداً، إنما القيد أن تتحكم الأهواء ومصالح الحُكّام، وإرادة أفراد يأمرون فيُطاعون ولا يُحاسَبون على ما يقولون وما يفعلون، فإذا نشرَت الصحيفة ما لا يريده الحكام (يومئذ) لم يملكوا إلاّ أن يُحيلُوها على القاضي، والقاضي لا يملك أن يحكم عليها إلاّ بالقانون، وحكم القاضي يُرفَع إلى محكمة أعلى. والقانون يستطيع أن يعدّله مجلس النوّاب أو يُبطِله. لذلك كنا نكتب فننتقد ونعترض ونقول ما نشاء. على أني لا أريدها حرّية مطلَقة من كل قيد، فالحرّية المطلَقة لا تكون إلاّ للمجنون الذي يفعل كل ما يريد. وكل حرّية

لها حدّ؛ تنتهي حريتك في أرضك حيث تبدأ حرّية جارك في أرضه. لا أريدها حرّية الكفر بل حرّية الفكر، فإن مسّت ديننا أو أضرّت بأمّتنا أو أفسدَت أخلاقنا قلنا لها: كلا! وقد جرّبنا الحرّية المطلَقة في صحافة لبنان، فصار من بعض الصحف سفارات أجنبية ومن بعض الأقلام معاول للهدم، وجرّت علينا ما نرى اليوم ونسمع. * * * وفي الأشهر الخمسة التي لازمت فيها «فتى العرب» كنت أكتب كل يوم مقالة، منها سلسلة كان عنوانها «أحاديث ومشاهدات» أشرت إليها في الحلقة السابقة من هذه الذكريات فيها مقالة كان عنوانها «إلى مجلس المعارف الكبير»، هذه التي جاء مستشار المعارف نفسه إلى الجريدة ومعه ترجمانه ميشيل السبع ليكلمني فيها. أكثر القرّاء لا يعرفون ماذا كان المستشار؟ كان المستشار هو الوزارة، هو يقضي وهو يُمضي، وهو يرفع وهو يضع، الأمر كله إليه والوزير معه كملكة الإنكليز مع رئيس وزرائها، إلاّ أن يجيء وزير قوي كفارس الخوري فيستردّ منه ما يستطيع استرداده من حقوقه. فإذا ذهب ذهب ما استردّه وعاد الأمر كله إلى المستشار. هذه المقالات في «فتى العرب» ضاعت مني، ما بقي لديّ منها إلاّ أربع. ولو كان يتحقق في الدنيا المستحيل وخطر على بال أحد يوماً (بعد موتي) أن يطبع كل ما كُتب، واستطاع أن يجد مجموعة أعداد «فتى العرب» لوجدها فيها.

وأنا لا أنوي أن أعيد نشر شيء منها في هذه المذكّرات، ولكني أثبت هنا صدر مقالة «إلى مجلس المعارف الكبير» لأنه نموذج للقليل الذي ترجمتُه أو لخّصتُه من الأقاصيص الفرنسية، ولأن فيه عِبرة لنا وفائدة وحثاً لنا على تدارك ما فرط منا في حقّ عربيتنا، ثم أنشر خُلاصة عن المقالة ليرى القرّاء كيف كنا ننقد أعمال الحكومة في تلك الأيام، أيام كان يحكم الفرنسيون الشام. * * * قال الراوية الفرنسي ألفونس دوده في قصّة عنوانها «الدرس الأخير»: حدّث صبيّ من الألزاس فقال: غدوت إلى المدرسة صبيحة يوم من الأيام الأخيرة من العام ولمّا أحفظ درسي، فخشيت أن يقرّعني أستاذي ويعاقبني فأخذت طريق الحقول علّي أقطع النهار في اللعب واللهو، ثم بدا لي فعدت عن هذه الفكرة وذهبت إلى المدرسة قلق الذهن مشغول البال، فما استلفت نظري إلاّ إسراع الناس مصفرّة ألوانهم، عليهم أمارات الخوف والألم، إلى حيث لا أعلم. فتبعتهم حتى وصلوا إلى دار الحاكم، ثم لم أدرِ ماذا كان بعد ذلك لأني أسرعت إلى المدرسة، فذهبت سعياً إلى غرفة الدرس فوجدت الأستاذ هامل يروح ويجيء فيها قلِقاً، قد ارتدى حلته الرسمية التي ما كان يلبسها إلاّ في يوم احتفاء أو عند قدوم مفتّش. ورأيت بعضاً من أهالي القرية قد جلسوا على المقاعد واجمين شاخصة أبصارهم بوجوه كئيبة مكفهرّة، فانسللت إلى مكاني وأنا أشدّ ما أكون حيرة ووجلاً.

وعلا الأستاذُ المنبرَ فقال بصوت مرتجف ورنة حزينة كأنها بكاء ونحيب: أولادي، هذه آخر ساعة أراكم فيها ثم نفترق إلى غير تلاق، لأن بلادكم قد احتلّها الألمان واستبدلوا لغتهم الجرمانية بلغتكم الفرنسية، فلا فرنسية بعد اليوم. وخنقَته العبرات فما استطاع أن يُتِمّ كلامه، فعلمت لِمَ كان الناس يسرعون إلى دار الحاكم، فواأسفاه عليك يا لغتي الفرنسية، يا لغة أمتي! ثم عاد الأستاذ فقال: والآن أصغوا إليّ لأتلو عليكم «الدرس الأخير». قم يا ... فلم أسمع اسمي حتى ارتجفت وقمت، ولم أكن حفظت درسي فوقفت ساكناً. فقال: اجلس يا بني، اجلس، فأنا لن أعاقبك ولن ألومك فقد فات أوان اللوم والعقاب، ولكن اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم وسلمتموها إلى عدوكم بإهمالكم لغتكم. اسمعوا فسوف أُلقي عليكم «الدرس الأخير». وراح يلقيه ويكتب لنا سطراً ننسخه في دفاترنا لتحسين خطوطنا: «فرنسا ألزاس، فرنسا ألزاس» حتى قُرع الجرس، فوقف ليودّعنا ويودّع معنا استقلال بلاده فقال: أيها الأحباب، إنني، إنني ... وغلبه البكاء فأسلم نفسه إليه، وبكينا كلنا معه. ثم مشى إلى اللوح فكتب عليه بحروف كبيرة: ليحيَ الوطن. وخرج. * * * قبل أن أتكلم عن المقالة أصوّر لكم الظرف الذي كُتبت فيه. عرفتم أن الفرنسيين قطعوا الشام قطعاً، فبعد أن كانت كلها ولاية

من ولايات الدولة العثمانية تضمّ سوريا بحدودها الطبيعية جعلوا منها دولاً: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة الدروز، والباقي صار فلسطين وإمارة شرقي الأردن. ست دول كانت كلها كالولاية الواحدة! وتلك سُنّة المستعمرين في كل مكان وفي كل زمان، قانون «فرّقْ تَسُدْ». ومن سننهم إضعاف الدين في النفوس واللغة على الألسنة (وإذا استُعبدَت أمة ففي يدها مفتاح قيدها ما دامت محتفظة بدينها ولغتها). وسلكوا إلى هذه الغاية طريقاً خفياً لا يكاد يحسّ إلاّ القليل من الناس بخطر سلوكه، هو أنهم عمدوا إلى علوم الدين، التوحيد والتجويد والتفسير والحديث ومصطلحه والفقه وأصوله، هذه العلوم الكثيرة التي كنّا ندرسها ونؤدي الامتحان فيها فلا ننجح إلاّ إن عرفنا كل واحد منها، جعلوها -من مكرهم- درساً واحداً سَمّوه درس الدين. ثم أوغلوا في الشرّ فلم يعطوه إلاّ ساعة واحدة في الأسبوع، ثم زادوا في الشر إيغالاً فلم يُدخِلوا هذا الدرس في الامتحانات العامّة. وأكثر التلاميذ لا يهمّهم إلاّ النجاح في الامتحان ونيل الشهادة، فصار الدين مهمَلاً، وصاروا يختارون لتدريس علومه أضعفَ المعلّمين، ثم ألحقوه بعلوم العربية وجعلوه جزءاً منها، فأضاعوا علوم الدين. وصنعوا في العربية قريباً من هذا الصنيع، فجعلوا النحو والصرف والإملاء والإنشاء مادة واحدة. وكان قانون الشهادة الابتدائية أن من أخذ نصف درجة من عشر درجات وكان مجموع درجاته في الدروس (أي المواد كلها)

فوق النصف، أي أكثر من خمسين في المئة، نجح في الامتحان، ما لم يكن قد أخذ صفراً في إحدى المواد. ولا تنسوا أنهم جعلوا علوم الدين كلها مادة واحدة وعلوم العربية كلها مادة واحدة، فكان ينجح الجاهل بالدين وبالعربية. وكنا كلما طالبنا بتبديل هذا القانون أو تعديله أمهلونا إلى أن ينعقد «مجلس المعارف الكبير»، ولم يكن ينعقد إلاّ نادراً. لذلك كان لهذه المقالات، بصراحتها وحماستها، هذا الأثر الذي جعل مستشار المعارف يجيء بنفسه إلى الدكّان التي تقوم فيها إدارة الجريدة «فتى العرب»! وكان ممّا قلت فيها، أنقله بنصه الحرفي: "هذا هو التعديل الذي نطلبه من مجلس المعارف الكبير، وإن كنّا نعلم أن هناك قوة تسيطر على أعضائه ويداً تحرّكهم، وهناك من يستغلّ اسم المجلس لما يريد هو لا لما تريد الأمّة. فهل يخيب ظننا السيّئ ونجد في أعضاء هذا المجلس من يؤدّي الأمانة، ومن يقوم بالواجب، ومن يكون المدافع عن دين الله وعن لغة القرآن، وعن شرف هذه الأمّة وعن تاريخها، ولو أدّى به ذلك إلى خسران منصبه وفقد مرتّبه؟ هل نرى في أعضاء المجلس هذا الرجل الشريف، هذا القوي الأمين؟ أظنّ أنّا لن نراه، ولكن أرجو أن يُكذّب الله ظنّي وأن أراهم كلهم ذلك الرجل". وبعد أن أفضت في بيان إهمال الدين والعربية في مناهج

التعليم وفي الدراسة، قلت: "أما التاريخ فحسبك أن تعلم أن التلاميذ جميعاً لا يعلمون من تاريخ قتيبة والمهلَّب وابن القاسم عُشر ما يعلمون من تاريخ الثورة الفرنسية ونابليون، ولا من أخبار الأدارسة أو بني طولون ما يعرفون من تاريخ الملوك من بني بوربون". وكان ذلك حقاً؛ فقد درسنا من تاريخ فرنسا من أيام ملوكها الميروفنجيين إلى عودة شارل العاشر إلى عرشها أكثر (أكثر بكثير) ممّا درسنا عن الخلفاء الأمويين والعباسيين، وعرفنا عن الثورة الفرنسية (ولا أزال أعرف) عن مراحلها كلها يوماً بعد يوم، وتفاصيلها كلها حادثاً بعد حادث، ما لم نعرف مثله عن تاريخ الفتوح وسِيَر الخلفاء. أما اللغة الفرنسية فقد بدؤوا تعليمها من أول المدرسة الابتدائية، تمشي مع اللغة العربية خطوة خطوة. وما في الدنيا أمة حيّة حُرّة واعية تعلّم أبناءها لغة أجنبية قبل أن يُتقِنوا لغتهم القومية. * * * وكنا -مع هذا كلّه- نعيش بقايا النهضة التي كانت سنة 1919، لم نكن قد بلغنا من الضّعف في العربية ما بلغناه اليوم. أفليس عجباً أن نكون أيام حكم الفرنسيين أقوى في العربية ممّا عليه الطلاّب الآن وقد زال حكم الأجنبي (أعني الحكم المباشر) عن بلادنا؟ بل إن منها ما لم يحكمه أجنبي قط وتحقق فيه مع ذلك من ضعف الدين والعربية ما كان يتمنّاه المستعمر!

كنا في سنة 1921 نقرأ في الصف السابع (أي السنة الأولى المتوسطة) كتاب «قواعد اللغة العربية» لحفني ناصف وإخوانه، ونحفظه ونؤدّي الامتحان فيه، بل نُدخِل بين كل صفحتين منه صفحتين نكتب فيهما ما نضمّه إليه ممّا نستفيده من دروس أساتذتنا. هذا الكتاب لو وعاه أستاذ العربية ووعاه الأديب واقتصر عليه لكفاه، فكم الذين يعرفونه من الطلاّب الآن؟ كانت الدرجات في الامتحان من عشر، وكان التلاميذ في فحص الإملاء في الشهادة الابتدائية تُكسَر لهم درجة من عشر لكل غلطة في الإملاء ودرجتان لكل غلطة فاحشة يضع فيها التلميذ الهمزة في غير موضعها. فإن غلط خمساً فاحشات أخذ صفراً، فسقط في الامتحان ولو جمع العلوم كلها وأحاط بها. فكم الذين ينجحون في الامتحان لو نفّذنا فيهم هذا القانون الآن؟ كنا ونحن في أول المدرسة المتوسطة نراجع في القاموس المحيط أو اللسان، فكم الذين يعرفون كيف يرجعون إليهما الآن؟ كنا نحفظ من الشعر العربي الذي يُحتجّ به، من شعر الجاهليين والإسلاميين، مئات من الأبيات. فكم يحفظ منه الطلاّب الآن؟ ومع هذا فقد كتبت هذه المقالات التي أتحدّث عنها أندب فيها العربية وأبكي عليها، وأستصرخ أُولي الأمر لنجدتها وإسعافها، فأثارت الناس وحرّكَت الحُكّام، وتحدّث بها القُرّاء في المجالس وعلّقت عليها الصحف. ثم سكن كل شيء، فكأني ما كتبت وكأن الناس ما قرؤوا! * * *

ومن المقالات التي كان لها صدى وكثُرَ التعليق عليها مقالة كان عنوانها «مسألة الأقلّيات» رددت بها على فايز الخوري، وهو الأخ الأصغر لفارس الخوري. وكان من زعماء «الكتلة الوطنية»، ولكن النزعة الصليبية لا تُمحى حتى من وطنيّي النصارى؛ إنهم كما كان يقول عارف النكدي: متعصبون يُظهِرون التسامح، ونحن متسامحون بل متساهلون ونُظهِر أحياناً التعصّب. ولقد أراد مرّة الدخول في الإسلام وكلّمَني في ذلك، وكنت قاضياً في دوما، ثم تبيّن أنه هدّد بعزمه على الإسلام للخلاص من امرأته. أما أخوه أستاذنا فارس بك (وفائز بك كان أيضاً أستاذنا في كلية الحقوق) فقد شهد مَن لازمه حتى موته أنه مات على الإسلام، والقرائن التي أعرفها تثبت صحّة هذه الشهادة، فلقد كان علمه بالإسلام لا يقلّ عن علم علمائه المبرزين، وكان كلما زاره شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار في مرضه يسأله أن يقرأ عليه القرآن، وأوصى أن يُقرأ في مأتمه ونُفِّذت وصيّته. أسأل الله أن يكون قد مات مسلماً، قلت هذا استطراداً. ولي في «فتى العرب» مقالات أدبية كثيرة، منها فصول متسلسلة عنوانها «شعراؤنا المنسيّون» تكلمت فيها عن ابن مفرغ وغيره، ضاعت فيما ضاع من مقالاتي. * * * وفي أيام عملي في «فتى العرب» طلب مني الأستاذ أديب الصفدي أن أكتب له شيئاً في «الناقد»، وهي مجلة أسبوعية كانت من أوائل المجلاّت التي صدرت في دمشق، كانت وسطاً بين المجلات الأدبية والمجلات الإخبارية، فكتبتُ رواية عن حسن

الخراط نشرتُ منها فصولاً، كنت أعتمد فيها على الخيال أكثر من استنادي إلى الحقائق، ولم تدعني سلطات الانتداب أتمّها. وهذه الفصول في كتابي الذي طُبع في تلك الأيام وأودعته بواكير كتاباتي، وسميته «الهيثميات» لأني كنت أتكنّى بأبي الهيثم وأمضي مقالاتي بهذه الكنية. كان أديب الصفدي صحفياً لكن لم يكن كاتباً، وكان معروف أديباً ولم يكن صحفياً. وكان الصحفيون (لمّا بدأت العمل بالصحافة حوالَي سنة 1930) طبقات: منهم أدباء اشتغلوا بالصحافة فتجلّت فيها بلاغة أقلامهم وبراعة أذهانهم، أو علماء ظهرت فيها سعة علومهم وصحّة أفكارهم. مثال الأولين معروف الأرناؤوط وأحمد شاكر الكرمي، ومثال الآخِرين محمد كرد علي وعارف النكدي ومحبّ الدين الخطيب. أما كرد علي ... فالكلام عنه في الحلقة الآتية. * * *

الكتاب والأدباء والصحفيون

-37 - الكتّاب والأدباء والصحفيّون أما محمد كرد علي فهو أستاذنا وأستاذ كل من خطّ في الشام بقلم في مطلع هذا القرن الميلادي؛ ذلك أنه أول من رسم لهم الطريق وأول من عبّد لهم الجادّة. وكان مؤرّخاً باحثاً، وإن لم يكن قد بلغ الغاية في التحقيق وتمحيص النصوص، وكان كاتباً اجتماعياً، وكان له أسلوب في الترسّل، قلت في وصفه لما قرّظت كتابه «أمراء البيان» إني كنت أتخطى عبارة عبد الحميد الكاتب لأستمتع بعبارة محمد كرد علي. ولا تستكثروا هذا القول؛ فإن عبد الحميد في قِدم عهده ورسوخ قدمه وسَبق زمانه إمام الكتّاب، لا أماري في ذلك، ولكن إذا تُرك فضل السَّبْق ومرجّح الزمن ووُضعَت العبارتان في الميزان رجحت عبارة الكاتب اللاحق على الإمام السابق. وهذا شيء لا يثبت بالدليل المنطقي ولا يحقّق بالتجرِبة المخبرية، ولكن يُدرَك بالذوق، فمن كان من أهل النقد وكان يتذوّق طعوم الأساليب ويستطيع تصنيف الكلام شهد لما قلت بأنه الحقّ. ولقد صحبت الأستاذ كرد علي أمداً طويلاً وعندي من

أخباره الكثير، أحدّث بها القرّاء يوماً إن شاء الله. وأساليب الكتّاب الأقدمين أربعة: أسلوب يحاول صاحبه أن ينقل إلى نفسك ما في نفسه هو بأصحّ عبارة يقدر عليها وأوضحها، لا يقصد إلى تجميلها ولا إلى تحميلها ما لا حاجة بها إلى حمله، يبتغي فيها الإيجاز ولا يحرص فيها على المجاز، وهذا هو الترسّل، أسلوب ابن المقفّع. وعلى طريقه مشى كرد علي وشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب وأحمد أمين. وأسلوب يجمّل العبارة التجميل المقبول، ويأتي معها بما يقاربها وما يناسبها من طريف السّيَر وغريب الخبر، وربما ابتعد بهذا الاستطراد عن المعنى المراد فضلّ عنه أو نسيه، أو رجع إليه بعدما ابتعد عنه. وهو يخرج بك من معنى إلى معنى ومن فكرة إلى فكرة، حتى لا تدري ماذا كان عنوان المقال وما هو الموضوع الأصلي للكلام، ولكنك لا تمله ولا تضيق به. وهذا هو أسلوب الجاحظ. وأسلوب يعتني بالعبارة مثل عنايته بالفكرة، بل ربما زاد عليها فأضاع المعنى لتجميل المَبنى، يقرن بالكلمة أختها أو بنت عمّها، ويحشر معها من الأبيات ما يؤيّدها فيختلط النثر بالشعر، وتحس حين تقرؤه بأنه إلى التكلّف والصناعة أقرب منه إلى الأدب المطبوع، وهذا هو أسلوب ابن العميد. وأسلوب يجعل العبارة وحدها هي المقصودة، يصفّ صاحبه كلاماً حلواً ولو كان خلواً من المعاني، مُسخت فيه

الأفكار ألفاظاً والصور كلمات، يفكّر صاحبه بيده لا برأسه، قد يثير فيك العجب من دقّة صنعته أو الإعجاب ببارع زخرفته، لكنه لا يثير في ذهنك فكرة ولا يبعث في قلبك عاطفة، فهو لوحة فسيفساء جامدة لا طاقة زهر، تمثال حسناء من الشمع لا الحسناء نفسها. وهذا هو أسلوب الصاحب بن عبّاد والقاضي الفاضل، الأسلوب الصناعي الذي بلغ الغاية في «مقامات الحريري». وهؤلاء هم الكتّاب الذين أولع بهم أساتذة الأدب في المدارس والذين وضعوا لهم المناهج وحدّدوا لهم الموضوعات. وما هؤلاء بأعظم كتّاب العربية، وما أسلوب ابن العميد والصاحب والقاضي الفاضل وابن الأثير (صاحب «المثل السائر») بالأسلوب الذي يصلح قدوة للطلاّب، فضلاً عن «مقامات الحريري» التي كانت تُعَدّ -يوماً- النموذج الأكمل للأسلوب الأجمل! هذا على ما فيها من براعة في اللعب بالألفاظ كلعب السحَرة في «السيرك»، وعلى أن كتاب «المثل السائر» أجود كتب البلاغة، لولا غلاظة صاحبه واستشهاده المملّ برسائله وكتاباته، ولولا طول لسانه وشتمه الناس بلا سبب. * * * لا، ما هؤلاء هم كبار الكتّاب الأقدمين، ولكن أكبر كتاب العربية خمسة: الجاحظ، لا أستطيع أن أنفيه منهم ولا أبعده عنهم، وأبو حيّان التوحيدي أول قصصيّ مبتكِر في أدبنا، والغزالي حين يحلّل النفس البشرية في «الإحياء»، وابن عربي في «الفتوحات» إذا قسناه بمقياس الأدب لا بمقياس الدين، وابن

خلدون في «المقدّمة». هؤلاء كالأنهار الكبار. هل رأيتم بردى وإلى جنبه العين الخضراء؟ هو يجري دفّاقاً متقحّماً قوياً كفارس غضّ طرْفه وكدّ فرسه وشهر سيفه، وأغار على جيش العدوّ لا يبصر ما أمامه، وهي تخرج خَجِلة من تحت الصخرة عند رِجْل الجبل تمشي في ساقية صغيرة، فترى الساقية خالية ما فيها إلاّ حصى لمّاع لا يظهر فيها -من صفائه- الماء، تخطر على استحياء كأنها عذراء خرجت من خدرها أول مرة. هؤلاء الخمسة وأمثالهم (إن كان لهم أمثال) هم كالأنهار الكبار، أما السواقي الصافية كالعين الخضراء فكثيرة، أمثّل لها بمثل واحد هو ابن السمّاك، وأمثّل لكلامه بكلمة واحدة قالها في رثاء دواد الطائي، قال: "يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتَها وإنما تريد راحتها، أجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتَّ نفسك قبل أن تموت وقبرتها قبل أن تُقبَر. رغّبت نفسك عن الدنيا فلم ترَها لك قدراً إلى الآخرة، كان سيماك في سرّك ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقّهْت في دينك وتركت الناس يُفتُون، وسمعت الحديث وتركتَهم يتحدثون، وخرست عن القول وتركتهم ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عَطيّة ولا من الإخوان هَديّة، آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس! فمن سمع بمثلك، وصبر صبرك، وعزم عزمك؟

لاأحسبك إلاّ وقد أتعبت العابدين بعدك؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قُلّة يبرد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك، مِطْهَرتك قلبك وقصعتك تَوْرك (¬1). داود! ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من الملبس ليّنه؟ بلى، ولكنْ زهدت فيه لما بين يديك. فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت في جنب ما أمّلت! فلما متّ شهَرك ربُّك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرّفك، فلتتكلم اليوم عشيرتُك بكل ألسنتها فقد أوضح ربك فضلها بك". هذا هو الكلام السهل الممتنع، وهذا هو الأسلوب الذي يسهل نطقه على اللسان ويعذُب وقعه على الآذان ويدخل الجَنان بلا استئذان، أفندعه لتكلّف الصاحب، وتصنّع القاضي الفاضل، وألاعيب الألفاظ في مقامات الحريري؟ وإن كان ما يصف به داودَ (من ترك الملذّات وهجر الطيبات وحرمان النفس من جميع الرغبات) ليس هو الزهد المشروع وليس ممّا يأمر به الدين صفوةَ المؤمنين. {قُلْ مَن حَرّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ والطيّباتِ مِن الرزقِ؟}، {كُلوا من الطيّباتِ واعمَلوا صالحاً}. وأفضل كتب المنتخَبات المدرسية التي أعرفها الكتابُ الذي وضعه لطلاب «ندوة العلماء» في الهند الصديقُ الأديب الداعية ¬

_ (¬1) التوْر إناء يُشرب به الماء

المخلص الشيخ أبو الحسن الندوي، فيا ليت المؤلفين يرونه ويسلكون سبيله. وهذا كله استطراد على طريقة شيخنا الجاحظ، طريقة نقدتُها وأنا سائر فيها لا أستطيع النجاة منها ولا البعد عنها، وخرجت بها من حدود موضوعي. * * * وأنا أعود إلى الموضوع فأقول: إن كان البارودي في مصر أولَ من أخرج الناس من متاهات الأسلوب اللفظي في الشعر إلى جادة البيان الأصيل، فإن الذي فعل فعله في النثر في الشام هو محمد كرد علي، وكلاهما نال ما نال بالمطالعة والنظر في آثار البلغاء، ما درس البارودي العَرُوض ولا أتقن علوم الآلة (الصرف والنحو البلاغة)، وما كان كرد عليّ متمكناً منها، ولمّا درّسها في الجامعة ظهر ضعفه فيها. وكان كلاهما -مع ذلك- رائداً، وكان أستاذاً، وكان معلم أجيال. أما أحمد شاكر الكرمي فقد لقيته مرة واحدة، حين أخذت إليه كلمة أردّ بها على الأستاذ محمد البِزِم لِما كتبه عن أستاذنا سليم الجندي في مجلّته «الميزان». كان الكرمي أديباً صاحب فنون، كان من أوائل من عرّفَنا بالآداب الأجنبية ونقل إلينا (في الشام) بعض روائعها، وكان من أوائل من مارَس النقد الأدبيّ عندنا، وكانت مجلته «الميزان» أولَ مجلة أدبية خالصة عرفَتها دمشق، أو عرفتُها أنا في دمشق. عاش الكرميّ مظلوماً ومات مظلوماً، وقد كتبت في جريدة «الأيام» من زمن بعيد أدعو إلى إنصافه والكتابة عنه وعن مجلته،

وكلاهما يستحقّ أن يكون موضوع رسالة ماجستير، وحملت على إخوَتِه وكلهم أدباء: حسن الكرمي ورفيقانا في مكتب عنبر عبدالغني وعبد الكريم أبو سلمى، فاستجاب أبو سلمى وكتب عنه (سمعت بكتابه ولم أرَه)، أبوهم الشيخ سعيد الكرمي نسبة إلى طولكرم (وهي طوركرم). وقد تُوفّي أحمد شاكر شاباً مريضاً فقيراً، وجمع محيي الدين رضا (وهو ابن أخٍ للشيخ محمد رشيد رضا) طائفة من مقالاته في كتاب صغير سَمّاه «الكَرميّات». ومحيي الدين هذا هو أول مَن عرّفَنا بأدب جبران وأصحابه الذي يُدعى أدب المهجر (وصوابه: المُهاجَر)، وله كتاب صغير كان عندي وفقدتُه ولم أستطع أن أعوّضه، جمع فيه معارضات قصيدة «يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ» (وآخر من عارضها شوقي: «مضناكَ جفاهُ مرقدُهُ» التي يغنّيها محمد عبد الوهاب، ونغمتها الأصلية التي نحفظها أحلى من نغمة محمد عبد الوهاب). فمَن بعث به إليّ بثمنه شكرته. أما الكلام عن معروف فقد سبق، وأما الكلام عن محبّ الدين والنكدي فسيأتي. * * * هؤلاء الخمسة طبقة في الصحفيّين وحدهم؛ إنهم أدباء أو علماء اشتغلوا بالصحافة، فنقلوا إليها أدبهم أو صبّوا فيها خلاصة تفكيرهم. أما الطبقة الثالثة فصحفيون أتقنوا الكتابة الصحفية ونزلوا

عن درجة الكتابة الأدبية، كنجيب الريس. وليس في هذا الكلام انتقاص من أساليب الصحفيين بل هو تقرير للواقع، ولو استطاع الصحفيون الكتابة بأسلوب الأدباء لما كانوا صحفيين ناجحين، كما أن الأدباء الذين يكتبون الأدب الخالص بأسلوب الصحفيين لا يكونون من الأدباء الموفَّقين. ذلك أن لكل مقام مقالاً وأن البلاغة هي مطابقة الكلام لِمَا تقتضيه الحال، فالصحفي يكتب لعامّة الناس، والأديب يكتب للخاصّة كلاماً تفهمه (إن قرأَتْه) العامّة، والمقالة الصحفية تُكتب ليومها، والقطعة الأدبية لليوم وللغد ولما بعد الغد. ومن هذه الطبقة صحفيون فهموا «صناعة الصحافة» فأحسنوا فهمها، همّهم إرضاء القرّاء من غير إسخاط الحكام، وأوضح الأمثلة عليها يوسف العيسى صاحب «ألف باء». ولقد كتبت عنده بعد أن تركت «فتى العرب» على أجر اتفقنا عليه. كان يوسف لوناً آخر ليس من لون معروف ولا من شكله؛ فذاك رجل يعيش للأدب وللفن وهذا رجل كله عقل، ذاك اعتماده على الأسلوب المزوَّق المزخرَف وهذا اعتماده على الفكرة الصحيحة المقنعة يعرضها بالأسلوب العادي الواضح، ومعروف محدّث لبق ومزّاح مؤنس فَكِه، وإذا غضب كان هجّاء كأخبث الهجّائين لساناً، ويوسف جادّ قليل الكلام عفّ اللسان. أمّا موضوع المقالات التي كنت أكتبها في «ألف باء» فشيء تعجبون منه إذا عرفتموه؛ كنت أكتب عن أفلام السينما فصولاً قصاراً، هي وسط بين تلخيص القصة وبين نقد التمثيل، ولا

يزال عندي كثير من هذه الفصول التي كتبتها من أكثر من نصف قرن، فيها قصص ومشاهد من الحياة وغرائب من وقائعها، ومثال من موضوعات الأفلام في تلك الأيام، ولا تخلو من تعليق فيه عِبرة ومن نصيحة أو موعظة. وأقوى المواعظ أثراً ما جاء عَرَضاً من حيث لا يتوقع السامع، لذلك كانت كلمة وعظ من مدرّس فيزياء أبلغ (أحياناً) من محاضرة من مدرّس الفقه، وقد شاهدت في المحكمة أن الطعنة التي يتوقعها الإنسان لا تبلغ منه ما تبلغه واحدة مثلها من الغافل عنها. وقد تحسبون أني كنت من رواد السينمات ومن العاكفين على الملاهي، ولا والله، ولقد حزت شهادة البكالوريا ولم أدخل السينما إلاّ مرة واحدة، هي التي أخذونا إليها ونحن صغار أيام الحرب الأولى فأرونا مشاهد من حرب جناق قلعة عند المضيق قرب إسطنبول، ما فهمت منها شيئاً. ولم يكن يمنعني من السينما ومن أمثالها أب ولا أخ، فقد عرفتم أن أبي رحمه الله مات وأنا في الصف الثامن سنة 1343هـ وأنه ليس لي أخ أكبر منّي فأنا بِكْر والدَيّ، ولكن منعني منها ما رُبّيت عليه من الدين، ومَن كنت أتصل به وأحضر مجالسه من العلماء، وثالثة ليست دونهما هي أني لم أتخذ رفيقاً إلاّ من المدرسة وداخل المدرسة. ولقد كنت أرى في السينما (حتى لمّا صرت أتردّد عليها) أجمل ملهاة للشابّ وأخطر ملهاة، وأنها كالسم المحلول في كأس الشراب اللذيذ، لا يكاد يذوقه حتى يسيغه، ثم يألفه فيعتاده

فيقضي عليه. فلما جاء الرائي رأيناه أخطر علينا منها، لأن السينما لا نرى ما فيها حتى نذهب إليها والرائي يجيء هو إلينا، والسينما لا نحضرها إلاّ إن حجزنا لنا مكاناً فيها ولبسنا الثياب الصالحة لها ودفعنا أجرة الدخول إليها، والرائي نراه في جميع الأحوال بلا تعب ولا مال. فلما جاء «الفيديو» (وأنا سمعت خبره وما اقتنيته) هان علينا أذى السينما والرائي، فهل تأتينا الأيام والليالي بمصيبة جديدة يهون معها «الفيديو»؟ لمّا عرض عليّ الأستاذ يوسف العيسى هذا العمل قبلته فَرِحاً، لأني سآخذ بطاقة أدخل بها السينما متى شئت بالمجّان وأرى ما شئت من الأفلام، ولكني لما جرّبْت العمل ضقت به وكرهته. فالناس يدخلون السينما للمتعة وأنا أدخل للعمل، وحين تصير المتعة واجباً تفقد جمالها؛ هذه هي طبيعة النفس البشرية. كان الحاضرون يتابعون الفِلم، يعيشون مع أحداثه، يشعرون شعور أبطاله، يخالطونهم، يحبون بعضاً منهم ويكرهون بعضاً ويحقدون على بعض ويشفقون على بعض، يكونون بنفوسهم مع الفِلم وأنا بعقلي مع الورق والقلم، أدوّن ملاحظاتي في الظلام لأخرج فأصوغ منها الفصل، فهل ترون أنه يبقى لي شيء من الاستمتاع به؟ ما كنت ناقداً فنياً ولا خالطت أهل الفن ولا عاشرتهم، وما كانت لدينا مسارح، إنما كان يزورنا بعض الفرق المصرية التمثيلية، فرقة يوسف وهبي (أي فرقة رمسيس) وفرقة فاطمة رشدي التي كانت تحاول أن تجاريها أو تزاحمها، وجاءتنا مرة فرقة أمين عطا الله، وهو لبناني (كما أظن) يقلّد نجيب الريحاني.

أما فرقة فاطمة رشدي فلم أحضر تمثيلها وحضرت تمثيل الفرقتين الأخريَين، ومنها (أي من الرواية التي حضرتها لكل منهما) كان علمي كله بالتمثيل، وكان اشتغالي بالروايات الخمس التي ألّفتها وعلّمت التلاميذ تمثيلها. وبلغ من إعجابي بمسرحية يوسف وهبي التي شاهدتها أن قمت من بين الناس بعد إرخاء الستار فألقيت خطبة في التعليق عليها والإعجاب بها! وكان يوسف وهبي يعرف التصفيق وصيحات الإعجاب، ولكن لم يرَ يوماً مَن يقوم فيخطب في مدحه، فعاد فرفع الستارة، ووقف الممثلون جميعاً وجعلوا ينصتون لما كنت أقول ثم ينحنون لي شاكرين وتضجّ الدار بالتصفيق. وكان ذلك في «العباسية» القديمة، وكانت حماقة مني ونزوة شباب أخجل من ذكرها، وإن ذكرتها. أما السينمات فمن التاريخ الاجتماعي لدمشق أن أقول إنه كان لدينا أيام العثمانيين دار سينما للدعاية العسكرية كانت في موضع البرلمان، ثم كان بعدها داران لم أدخلهما، «الزهرة» (أو الزهراء) في موضوع عمارة القباني في المرجة، و «سينما النصر» في سوق الخيل، وكل ذلك قبل أن تنطق السينما، ثم كانت «الكوزموغراف» في مدخل البَحْصَة، وكلها من دور الدرجة الثالثة. ثم أنشئت «الإمبَيَر» في بوّابة الصالحية، و «العباسية» كانت بناء من طبقتين من اللبِن والخشب في موضع العمارة الضخمة القائمة اليوم، وكل ذلك ملك الأوقاف! * * *

كنت أكتب في «ألف باء» هذه الفصول وأكتب في موضوعات أخرى فيها وفي «القبس»، فحين تكون المقالة وطنية ملتهبة أبعث بها إلى «القبس»، وحين تكون هادئة معقولة أنشرها في «ألف باء». ولما مضى الشهر الأول ومدّ الأستاذ يوسف العيسى يده إليّ بالأجرة التي اتفقنا عليها ألمّ بي خاطر غريب، هو أن أخذي الأجرة مَذَلّة لي! وسيطر عليّ هذا الخاطر سيطرة كاملة فرفضتها ... رفضتها إباء وشمماً، وأنا وأمي وإخوتي في أشد الحاجة إلى كل قرش منها. وعجب مني الأستاذ وألحّ عليّ، وعجبت أنا من نفسي ولكني لم آخذها. ولم أعرف إلى الآن لماذا لم آخذها! * * *

صدور «رسائل الإصلاح»

-38 - صدور «رسائل الإصلاح» عندما ترون في كتب التراجم أن فلاناً من العلماء له مئة مصنّف ومئتان وأكثر، تذكّروا أنهم كانوا يَعدّون الرسالة الصغيرة التي تكون في ورقات مع الكتاب الذي يبلغ ألفاً وآلافاً من الصفحات، يجمعون ذلك كله في رقم واحد. فإن أنا قِست ما صدر لي بهذا المقياس جاوزَت مصنّفاتي (جاوزَت كثيراً) المئة ... الكتب منها (التي تُسمّى كتباً لا رسائل) أكثر من ثلاثين. أول هذه المصنّفات صدوراً «رسائل الإصلاح»، من يقرؤها الآن لا يستطيع أن يدرك الأثر الذي كان لها يوم صدورها. إنها كانت حَجَراً، أو قُل «حصاة» أُلقِيَت في بركة ساكنة. ألا ترون الحصاة على صِغَرها ترسم على وجه البركة دائرة بعدها دائرة أوسع منها، ثم تتعاقب الدوائر حتى تبلغ حَفافي البركة كلها؟ كان مجتمعنا يوم صدورها (سنة 1348هـ) مضطرباً هائجاً في جانبه النضالي والسياسي، ولكنه كان هادئاً في جانبه الفكري. كان فيه مشايخ عاكفون على كتبهم في حلقاتهم، يكرّرون

(غالباً) قراءة الكتب التي قرؤوها (¬1) على مشايخهم يعيدون إقراءها تلامذتَهم، فما كانوا يزيدون عليها أو يَزِنون ما جدّ في عصرهم بميزانها. ولقد جدّت أفكار ومذاهب، وجدّت معاملات مالية وأوضاع اجتماعية لو كانت على أيام مؤلّفي تلك الكتب لبيّنوا حكم الله فيها، أيام كان العلماء يذكرون أن الإسلام لكل زمان ومكان وأن هذه الكرات التي ركّبها الله بين أكتافهم جعل فيها دماغاً هو أداة التفكير، لم يجعلها صندوقاً لشريط تسجيل يدوَّن فيه ما يسجَّل عليه، فإن أردنا إعادته أعاده، فإذا مللناه محوناه أو تولّى محوَه مرّ الزمان. ما قصّروا هم ولكن نحن المقصّرون. و «أفندية» من المدرّسين والطلاّب في مدارسهم أو في جامعتهم، لا يعرضون للمشايخ ولا يكاد يعرض المشايخ لهم. وما حملوا (أي المشايخ) على المدارس الرسمية ودعوا إلى مقاطعتها إلاّ عندما يئسوا من إصلاحها (من غير أن يحاولوا إصلاحها!) وذلك عندما قامت نهضة المشايخ. كان المشايخ والأفندية كالخطّين المتوازيَين كما قلت من قبل، فانعطف هذا قليلاً (أعني خطّ طلاّب المدارس) وذاك قليلاً ¬

_ (¬1) كلمة قرؤوها كنا نكتب همزتها على الألف، ولكن ما أثبته هنا هو الصواب لأن الكسر أقوى الحركات؛ فإن كانت الهمزة مكسورة أو كان ما قبلها مكسوراً وُضِعت على نَبِرة (على سنّ أي على ياء غير منقوطة)، فإن لم يكن كسرٌ وكانت هي مضمومة أو ما قبلَها مضموماً فعلى واو، وإن كانت مفتوحة فعلى ألف، إلاّ إن كان ما قبلها ياء ساكنة مثل «هيئة». كتبتُ هذه الحاشية لفائدة بعض القرّاء ولفشوّ الخطأ في قواعد الإملاء.

(أعني تلاميذ المشايخ)، فتقاربا. وأنا أقرّر (للتاريخ لا للفخر) أن أول من ظهر في الشام من تلاميذ المدارس جامعاً مع دراسته القراءة على المشايخ هو علي الطنطاوي، وأول من انتسب إلى المدارس بعد قراءته على المشايخ هو أخي ورفيقي في كلية الحقوق الشيخ مصطفى الزرقا، أخذ البكالوريا سنة 1929 بعدي بسنة، مع أنه (وهذا سر بيني وبين القرّاء) أسنّ مني بسنتين أو ثلاث، ولكني شخت وبقي هو (أو ظن أنه بقي، أو أراد أن يبقى) شاباً. وكان نيله البكالوريا أمراً عجيباً تحدث به الناس. وجاء بعدي محمد المبارك رحمه الله، وأحمد مظهر العظمة شفاه الله، ومحمد كمال الخطيب، ومحمود مهدي الإسطنبولي ومن لست أحصي الآن. وجاء بعده الشيخ صبحي الصباغ، والشيخ (الدكتور) معروف الدواليبي، وكثيرون، حتى عظم -بحمد الله- الفريقان وصار منهما معاً جمهرة الدعاة إلى الله والعاملون في ميدان الدعوة الآن (¬1). هذه القافلة كان أولها أنا والشيخ مصطفى، سبقت أنا سبق زمان لا سبق علم وفضل. ¬

_ (¬1) انظر أول مقالة «الحلقة المفقودة» في كتاب «فكَر ومباحث»، وفي محاضرة «موقفنا من الحضارة الغربية» المنشورة في «فصول إسلامية» تفصيل لهذا الإجمال. راجع ص281 - 286 من طبعة دار المنارة الجديدة، وفيها: "كانت الطبقتان تمشيان كأنهما الخطان المتوازيان، ولكن اتفق في أوائل عَشر الثلاثين أنه انعطف الخط الأيمن إلى هنا والأيسر إلى هناك، والتقيا فكان خط ثالث ... وامتد هذا الخط -بحمد الله- حتى صار منه سلسلة ثالثة ذهبية الحلقات تُعَدّ حلقاتها بالمئات" (مجاهد).

كانت هذه الرسائل التي كتبتها وكانت «حركة العقال» التي قمت بها (وسأتكلم عنها) ممّا شغل الناس في دمشق في تلك الأيام وملأ بذكري مجالسهم، ذكري بالخير تارة وبالشرّ تارات، حملا إليّ كثيراً من القدح وقليلاً من المدح. وكان أحبَّ إليّ لو أن غيري ممّن شهد أيامهما وعرف آثارهما هو الذي كتب عنهما لا أنا، لأني إن ذكرت المزايا أمدح نفسي وإن عددت العيوب آذيتُها. وما أعني أني صرت بهما وبما سيأتي من أمثالهما (وما أكثر أمثالهما في حياتي) ... ما صرت «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، فذلك المتنبي. وما أدري هل تنبّأ حقاً أم هو لقب لبسه، أما أنا فما تنبأت وما لي شيء من عبقرية المتنبي ولا من وصفه وحكمته، ولا أملك مثل روعة شعره ولا أطمع بمثل بقاء ذكره. وماذا ينفع الميّتَ إن ذكره الناس أو نسوه أو مدحوه أو ذمّوه؟ إنما ينفعه ما قدّم من عمل وما يرجو من غفران. * * * كانت رسائل أربعاً لم أجد عندي إلاّ الأولى منها، وهاكم صورة جلدتها مكتوباً عليها إنها بقلم محمد علي الطنطاوي، بكالوريوس في الآداب وفي الفلسفة، مطبعة الترقّي في دمشق سنة 1348هـ. ومعنى هذا بالاصطلاح المصري أني محمد وأن أبي هو علي، أما نحن في الشام فنضيف اسم محمد إلى اسم الرجل تبرّكاً وتشرّفاً، واسمي هو علي. حاولت أن أجد الرسائل الثلاث الأخرى فلم أستطع،

وسألت إخواني، أعني من بقي منهم فإن أكثرهم مضى إلى لقاء ربه، وسألت مَن قدّرت أن أجدها عنده فما وجدت لها أثراً. فاعجبوا معي من تحوّل الأحوال: رسائل أثارت يوماً بلداً، ثم جاء يومٌ يفتّش مؤلّفها عن نسخة منها فلا يجدها! قرأت هذه الرسالة فَرِحاً لأني وجدت فيها صورة عن تفكيري ونسخة من أسلوب كتابتي قبل أربع وخمسين سنة. والذي سرّني أني وجدت الأفكار التي اشتملت عليها هي نفسها أفكاري الآن، وما دعوت إليه يومئذٍ هو الذي أدعو إليه اليوم، ما بدّله مرور أكثر من نصف قرن. ومن الكتّاب من يبدّل أفكاره كما يبدّل قمصانه! أما أسلوبها فليس هو الذي أكتب به الآن، ولكنه (وسترون ممّا أنقله من فقرات الرسالة) أسلوب جزل صحيح، وعفوكم فأنا هنا في مقام المؤرّخ أقول الحقّ الذي هو لي كما أقول الذي هو عليّ. وكنت لما كتبتها حديثَ عهد بدراسة الفلسفة، فكان في القسم الأول من هذه الرسالة جذور ما كتبتُه في كتابي «تعريف عام بدين الإسلام». وقد درسنا الميتافيزيك (أي ما وراء المادة) والمنطق، منطق أرسطو الذي كان يقرؤه المشايخ والمنطق العلمي الحديث، وعلم الأخلاق، وعلم النفس، وكنا ندرس ذلك كله في الكتب ذاتها التي كان يدرسها الطلاّب في باريس، هذا ما أرادونا عليه وكلّفونا به. وعلم النفس الفرنسي يعتمد على النظريات لا كالذي يُدرَس الآن، فقد درسنا نظريات ومذاهب في اللذّة والألم -مثلاً- وتحقيق ماهيتهما لم يعُد الطلاّب يهتمّون بها في غير فرنسا، ودرسنا علم الجمال وعلم الاجتماع. وبعضُ ما

ذكرت لا تنطبق عليه شرائط العلم، ولكن أقول ما يطلقه عليها الناس. والذين كانوا معي في شعبة الفلسفة كثيرون، ولكن أثر ما درسته فيها كان عميقاً في نفسي وفي تفكيري وهو منطبع في نفسي وطالما استفدت منه في كتبي وفي محاضراتي، على حين أن أكثر إخواني درسوه ونسوه. كما أن ما درست من العلوم (في الفيزياء والفسيولوجيا، أي وظائف الأعضاء، وغيرها) لا تزال أصوله ولا يزال كثير من فروعه في ذهني. وما جاء في الفصول الأولى من كتابي «تعريف عام بدين الإسلام» لم أنقله نقلاً عن الكتب التي قال أحدُ مَن كتب عنه إنني نقلته منها، وكيف وقد ذكرت أسسه في هذه الرسالة وهي مطبوعة سنة 1348، وسمعه مني الطلاّب على مدى عقود من السنين، وطبع في المذكّرات الجامعية في أعوام كثيرة متعاقبة، ونشرت بعضه في «الرسالة» من أكثر من خمس وأربعين سنة، والكتب التي ظن الأخ الناقد أنني نقلت منها طُبعت بعد ذلك التاريخ بزمن طويل. * * * أقرأ الرسالة الآن فأعجب والله كيف كتبتها وأنا ابن إحدى وعشرين سنة فقط! لقد نضجت مبكراً، وما بعد نضج الطعام إلا احتراقه، فهل ترونني لهذا احترقت مبكراً؟ ولكن من قال إنني احترقت؟ أأنكر نعمة ربي وقد أمرني أن أذكرها وأن أحدّث بها؟ أليس في هذا التواضع السخيف مني جحود لما أكرمني به ربي؟ اللهم إنني معترف بفضلك مؤمن بأن القوّة منك، لا حول ولا قوة

إلاّ بك، فأَدِم عليّ نعمتك وارزقني الشكر عليها. وسأنقل فقرات من هذه الرسالة ليرى مَن هو في هذه السن من شباب اليوم كيف كان سَنينهم (¬1) من شباب الأمس، وسيعجبون حين أروي لهم قصة كتابتها فيرون أني كتبتها كلها في جلسة واحدة أمام شاهدَين عدلَين. لكني لا أستطيع استشهادهما، فقد ماتا، ولست أكذب عليهما وقد مضيا للقاء ربهما، وأنا -عمّا قليل- لاحق بهما؛ هما الشيخ محمد زاهد الكوثري والأستاذ حسام الدين القدسي. قلت في أولها بعد البَسملة والحَمدلة (¬2): اللهم إن هذا دينك الذي بَعثت به نبيك، وهذا كتابك الذي أنزلت به وحيك، وهؤلاء عبادك الذين أمرتهم باتباعه وأوجبت عليهم العمل به. اللهم إنهم قد ضلوا (أو ضل أكثرهم) سبيلك واختلفوا في دينك وتفرقوا شيعاً، فأضاعوا عزّهم وودّعوا مجدهم، وعاشوا وهم أكثرُ ما كانوا عدداً أشدَّ ما كانوا ضعفاً. اللهم هيّئ لهم ولياً من أوليائك ¬

_ (¬1) سَنينك: من كان في مثل سنك. (¬2) كما قالوا «البَسْملة» و «الحَمْدلة» قالوا: «الدّمْعَزة» أي أدام الله عزك، و «الطّبْلَقة» أي أطال الله بقاءك، وهي وأمثالها مولَّدة ليست من الفصيح. قلت: ومثلها: «السّبْحَلة» وهي قول سبحان الله، و «الهَيْلَلة» وهي قول لا إله إلا الله، و «الحَوْقلة» وهي قول لا حول ولا قوة إلا بالله، و «الحَيْعَلة» وهي قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح، و «الجَلْعَفة» أي جُعلت فداءك. انظر «فقه اللغة» للثعالبي ص136 (مجاهد).

يرشدهم إلى طريق الهدى ويدلّهم على سبيل السداد، ويبدّلهم بالشتات اتحاداً، وبالضعف قوة، وبالذلة عزاً، وبالجهل علماً، وما ذلك على الله بعزيز. وقلت في آخر المقدمة: هذه الرسائل لا أقصد بها الدلالة على علم عندي، فما فيها إلاّ ما يعلمه كل واحد فينا، ولا أرجو أن يتحقق اليوم أملي منها، فإن ذلك أصعب من أن يتحقق في مثلها، ولكنني أرمي إلى تنبيه الأمّة إلى ما هي واقعة فيه، ولَعَلّي بالغٌ من ذلك بعضَ ما أريد. دمشق: غرة رجب 1348هـ. * * * بدأت الرسالة ببيان أن لهذا الكون إلهاً، وأن «فكرة الإله» فطرة مغروزة في كل نفس، وأن الإنسان لا يعيش ويموت من غير إيمان، ولكنه قد يصل على ضوء الوحي إلى معرفة الإله الحقّ، وقد يضلّ فيؤلّه حجراً أو بشراً أو شجراً أو النار التي أوقدها أو الأصنام التي نحتها. وأشرت إلى بعض ما قاله دوركايم الذي كان كتابه من كتب المطالعة الفلسفية التي كانت مقرّرة علينا (وهو أحد الذين أفسدوا عقول الشباب عن معرفة وعن قصد لا عن جهل ولا عن خطأ: فرويد ودارون وكارل ماركس، وهو شرّهم) كما أشرت إلى بعض ما قاله كانط (وقد كان كتاباه في نقد العقل من كتب المطالعة الفلسفية، على جفاف أسلوبه وصعوبة فهمه، لا سيما ونحن نقرؤه في الترجمة الفرنسية)، وعرضت لقانون الحالات الثلاث لأوغست كونت، وقد تبيّن الآن بطلانه، وحدّدت الصلة بين الدين والعلم.

ثم تكلمت عن الإسلام، وأنه لا يمكن أن يكون بين الثابت من أحكامه وبين المحقَّق في العلم تنافٍ ولا تناقض؛ لأن العقلَ منحةٌ من الله والدينَ وحيٌ من عند الله، وأن أقرب مثال له الساعتان اللتان تخيّلهما لَيْبِنس، ولم أكن قد اطلعت (والله) على ما قاله ابن تيمية في كتابه القيم. وأنّ الدين الإسلامي صالح لكلّ زمان؛ لأن فيه أصولاً ثابتة لا يؤثّر فيها تبدّل الأزمنة والأمكنة، وفروعاً يمكن أن تتبدّل بتبدل الأزمان. ثم تكلمت عن بُعد أكثر المشايخ عن علوم العصر وعن اختلافهم، ونزلت على أتباع الطرق الصوفية أو أكثرها فقلت: وتمرّ على زاوية فترى قوماً يرقصون ويقفزون ويصيحون بأفظع الأصوات وأنكرها، فتسألهم مُنكِراً: ما يفعلون؟ فينبئونك أن هذا هو ذكر الله! وتجتاز في ليالي الوداع من رمضان على مسجد بني أمية، فترى في وسطه أناساً قد لبسوا قلانس طِوالاً وأثواباً كأنها المخاريط الناقصة يدورون على أنفسهم، فتحسبهم ذوي جِنّة، ولكنهم يزعمون (ويُقِرّ بعضُ الناس زعمَهم) أن هذا من الدين وأن أبا بكر فعله! لا والله أيها القوم، ما كان الدين هُزُواً ولا لعباً، ولا كان أبو بكر معتوهاً ولا مجنوناً، ولكنكم ... وتكلمت عمّن يدّعي أنه سلفي فيحارب المذاهب. ولا أدري والله كيف يدّعون الأخذ بالحديث وهم لا يعرفون صحيحَه من ضعيفه وموضوعَه من مرفوعه، وعمّن يدّعون أنهم مقلّدون وأن المقلّد لا صلة بينه وبين كتاب ربه وسنّة نبيه إلاّ هؤلاء الأئمة، ويرون أنهم أضعف من أن يفهموا حديثاً صحيحاً واضح

اللفظ بيّن المعنى ... كأن الحق ضاع بين الفريقين ... وهنالك من يرى التقرّب إلى الله باللجوء إلى قبر ولي من الأولياء، يطوف به ويقبّل أعتابه! ثم تكلمت عن خطبة الجمعة ولماذا شرعها الله، وعن الخطباء الذين كانوا يقرؤون ما في دواوين الخطب يلقونه أسوأ إلقاء وأقبحه، فمن متغنٍّ بخطبته ومن متشدّق بها، وكلهم يستقرّ في نبرات صوته حيث الاستفهام ويستفهم حيث الوقف والاستقرار، وهو حزين حيث الغضب وغضبان حيث الوعظ، وكلهم يلزم السجع البارد المستثقَل والمحسّنات البديعية المستهجَنة. ثم غلبَتْ حماسة الشباب واندفاعه فقلت: إن أمة بتاريخها وعظمتها لا يُقضى عليها من أجل طائفة من المشايخ أبت إلاّ الجمود على مواريثها والوقوف في مكانها ومقاومة كل جديد نافع. إن الدين ليشكو إلى الله قوماً أضاعوه، والمنابرَ لَتبكي من أناس علوها وما هم من فرسانها! ثم كانت الهجمة على «الأوقاف» التي كانت الموكلة بالمساجد وخطبائها، ونقدت خطبة الجامع الأموي التي كانت تُورّث كما تُورّث الأموال، أي أن ابن الخطيب أو الإمام يرث إمامته وخطبته كما يرث عمامته وجبّته! وكانت خطبة الأموي مقسّمة بالقراريط بين أسر ثلاث، أسرة الخطيب (وأمّي من أسرة الخطيب) والأسطواني والمَنيني، وقلت عن المنيني رحمه الله وسامحَني: وفيهم من له الصوت الأجشّ الخشن الذي لا يسمعه مَن حوله.

وكان أعجب ما في القصة أني أردت أن أضرب المثل على دفع الرواتب لمن لا يعمل فقلت (ص38): كان لوالدي رحمه الله جزاء على جزء من القرآن يقرؤه في جامع السّنانيّة، ثم تُوفّي فعُيّنت مكانه، ولقد مضى عليّ خمسة أعوام ولم أقرأه مرة واحدة والمعاش يأتيني، وأمثالي في هذا كثير، والأوقاف لاهية لاعبة لم تسألني يوماً عن عملي. ولولا أن انتدبَت جدة لي نفسها لقراءته لأخذت المال حراماً، ولكنه حرام على هذه الدائرة الـ ... لا عليّ أنا وحدي. والأنكى من هذا أنني لم أسمع أن لهذه الإدارة مفتّشين يدورون على المساجد فيرون ما يحدث فيها. وبيّنت أن من أيسر ما يحدث أن الإمام يغيب ويوكل عنه وكيلاً، وقد يوكل هذا ثالثاً لا يحسن الصلاة ولا يجيد القراءة. وكان الجواب المرتقَب هو عزلي وقطع الراتب عني. كان هذا في الوقت الذي كنت أحتاج فيه إلى الليرة الواحدة! ولم أندم -مع ذلك- على ما كتبت. * * *

إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

المحتويات بين يدَي الذكريات ... 5 المقدمة ... 13 الحلقة (1) ذكريات لا مذكّرات ... 17 الحلقة (2) من ذكرياتي عن دمشق ... 27 الحلقة (3) من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية ... 37 الحلقة (4) من ذكريات الطفولة ... 49 الحلقة (5) من ذكريات الطفولة أيضاً ... 59 الحلقة (6) من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانية ... 69 الحلقة (7) في المدرسة السلطانية ... 79 الحلقة (8) منعطف خطير في تاريخ سوريا ... 89 الحلقة (9) عهد جديد في حياتي ... 99 الحلقة (10) من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون ... 109 الحلقة (11) فصل جديد في تاريخ الشام ... 119 الحلقة (12) خطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين ... 127 الحلقة (13) مرحلة خصبة في حياتي ... 137 الحلقة (14) في مكتب عنبر ... 145 الحلقة (15) أساتذتي في مكتب عنبر ... 153 الحلقة (16) أساتذتي في مكتب عنبر أيضاً ... 163 الحلقة (17) من مصر إلى الشام ... 173

الحلقة (18) جدي الشيخ أحمد الطنطاوي ... 185 الحلقة (19) عود للحديث عن مكتب عنبر ... 195 الحلقة (20) شغلي الدائم المطالعة ... 207 الحلقة (21) ثورة في المدرسة ... 217 الحلقة (22) صفحة جديدة في سِفْر حياتي ... 227 الحلقة (23) لمّا صرت تاجراً ... 237 الحلقة (24) مشايخي خارج المدرسة ... 247 الحلقة (25) أسرة الخطيب والأسر العلمية في دمشق ... 257 الحلقة (26) الثورة على الفرنسيين ... 269 الحلقة (27) كيف انطلقت الثورة ... 281 الحلقة (28) شعر الثورة في مكتب عنبر ... 291 الحلقة (29) من شعر الثورة ... 301 الحلقة (30) النجاح في البكالوريا والسّفر إلى مصر ... 311 الحلقة (31) اليوم الأوّل في مصر ... 321 الحلقة (32) ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر ... 331 الحلقة (33) العودة إلى دمشق وإنشاء جمعية الهداية ... 343 الحلقة (34) تقلّبات على الطريق ... 355 الحلقة (35) احتراف الصّحافة ... 367 الحلقة (36) في جريدة «فتى العرب» ... 379 الحلقة (37) الكتّاب والأدباء والصحفيّون ... 391 الحلقة (38) صدور «رسائل الإصلاح» ... 403

الجزء الثاني

ذكريات علي الطنطاوي الجزء الثاني طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

رسائل «سيف الإسلام»

-39 - رسائل «سيف الإسلام» الناس يبدؤون باللين وأنا بدأت الكتابة بالعنف، وهم يكتبون للفنّ والأدب وأنا بدأت للنقد والإصلاح؛ بدأت برسائل الإصلاح فهِجْت على نفسي حرباً لا طاقة لي بها، حرباً ما لي فيها نفع ولا لي في غنائمها أمل، ما غنمت منها إلاّ أنه كان لي راتب من الأوقاف فقطعته بيدي. لقد كان قليلاً ولكنّ أصغرَ رقم أكبرُ من الصفر، وأسوأ المساكن -كما قال كافور (بطل الوحدة الإيطالية) - أفضل من فقد المسكن. لقد أثَرْتُ الناسَ عليّ: الشبان الذين كانوا يكرهون كل دعوة إلى الدين ويستعملون ما تلقّوه عن الأوربيين في إضعافه أثارهم أنهم رأوني أحاربهم بسلاحهم، وقد كرّه إليهم الدينَ صنفان من الناس: دعاة جهلوا أسلوب دعوة الشباب فأبعدوهم عنه بلا قصد، وناس من شياطين الإنس قصدوا إبعادهم عنه قصداً، كبعض المدرّسين وبعض الأدباء أو الصحفيين. وأثرت بعض المشايخ لمّا نقدت طريقتهم في الدعوة إليه وفي تلقين المتعلمين أحكام شريعته، وكانت (في الحقّ) أسوأ الطرق في التدريس في كتب أُلِّفت على أسوأ الأساليب

في التأليف: «متن» موجز إيجازاً مُخِلاًّ، كأن مؤلّفه بخيل كُلّف بأن يرسله في «برقية» إلى أستراليا يُغرَّم أجرتها من ماله، فهو يقتصد في الكلمات لتقلّ عليه النفقات! وانظروا «جمع الجوامع» و «التحرير» في الأصول مثلاً على هذه المتون، وقابلوا أسلوبه بأسلوب الغزالي في «المستصفى». كانت أكثر الكتب التي يعكفون عليها بعيدة عن البيان بُعْدَ الأرض عن السماء، معقّدة العبارة، أعجمية السبك وإن كانت عربية الكلمات. فيأتي مَن يوضّح غامض المتن، فيُدخِل جملة من عنده بين كل جملتين منه، كما يرقّعون اليوم الجلد المحروق من الإنسان بقطعة من جلده السليم، فينجح الرتق أو يظهر أثر الفتق، وهذا هو «الشرح». ويأتي مَن يضع لهذا الشرح حواشي وذيولاً، يطوّله فيها فيجمله أو يقبّحه ويعطّله، وهذه هي «الحاشية»، ويبدو ضعف الإنشاء في القرون المتأخرة حتى في مثل حاشية ابن عابدين التي هي اليوم عمدة المفتين على المذهب الحنفي. ثم يجيء مَن يعلّق على هذه الحاشية تعليقات، وتُسمّى «التقريرات». فلا الأسلوب عربي فصيح ولا المنهج قويم صحيح. وانظروا «المبسوط» مثلاً للسرخسي أو «البدائع» للكاساني، ثم انظروا «الحاشية». أو انظروا في مذهب الشافعية «الأم» ثم «مُغني المحتاج»، إن ما بينهما كالذي بين «أسرار البلاغة» وشروح «التلخيص»؛ في كتب الأولين البلاغة والبيان والأسلوب العربي المنير، وفي حواشي الآخرين ... فيها ما تعرفون! وأزعجت بنقدي العنيف «الأوقاف»، إدارتها وأكثر خطباء مساجدها، فأغرتهم بي. وما كانوا في حاجة إلى إغراء ففيما كتبت

عنهم ما يكفيهم، فنزل عليّ البلاء من فوق المنابر، وصرت المثل المضروب للشابّ الأرعن الوقح قليل الحياء، الذي يتطاول على العلماء ويتناول الخطباء ... وما أوسع أبواب الهجاء لمن شاء دخوله. وكانت «نهضة المشايخ» لا تزال مستمرّة، وإن خفّت شدّتها وقلّت حدّتها، فجاءنا من حلب شيخ في الزيّ شابّ في السنّ، لم يكن عالماً ولا طالب علم متمكّن ولكنه كان خطيباً من أعظم من سمعت من الخطباء؛ جهير الصوت، حاضر البديهة، حسن الإلقاء، يتدفّق بالكلام تدفّق النبع الغزير، هو الشيخ أحمد الصابوني. فصار لسان جماعة المشايخ من أصحاب الشيخ علي الدقر، المحامي عنهم، وانضمّ إليه آخر من دمشق أصغر منه في السنّ ومثله في العلم! ودونه في الخطابة واللسَن، لا يقاربه على صهوات المنابر ولا يدانيه ولكنه متكلّم خطيب. وكان الشيخ الصابوني يريد (والله أعلم بحقيقة ما يريد) الوصول إلى الجمهور وكان يفتّش عن أقرب طريق يسلكه إلى غايته، وكانت «رسائل الإصلاح» -على قِلّة عدد المطبوع منها- قد سرَت (كما كان يقول الأولون) سريان النار في الهشيم، أي في القشّ اليابس، وصار الرجل يقرأ النسخة ثم يعطيها غيره ليقرأها، فتمرّ كل نسخة على عدد من الناس، كان أكثرهم (والحقّ يُقال) لا يقرؤها ليثني عليّ بل ليسبّني، وكان الغضب عليّ وعليها يسبق وصول الرجل إليها، فكان الطريق تأليف كتاب صغير في الردّ عليها.

وصار الشيخ أحمد يخطب في المساجد، يشرح ما وصلَت إليه الحال من سوء، وما آل إليه الشباب من البعد عن الدين والإعراض عنه والإساءة إلى علمائه، وهم حَمَلة لوائه، ويضرب المثل برسائلي، ثم يُشير إلى كتابه الذي ألّفه في الردّ عليّ، وكان معه من يحمله له فيبيعه بالثمن الذي يريده. ولو كان كتابه الذي سَمّاه «الإفصاح عن رسائل الإصلاح» عندي لنقلت فقرات ممّا كتب عنّي، وقد عرف الناس من أحاديثي في الإذاعة أو الرائي أني أقرأ أشنع السبّ لي وأنا هادئ لا تتحرك من الغضب شعرة في جسدي، لأني لكثرة ما كتب عني «تعوّدت مسّ الضر حتى أَلِفتُه». وقد حشرني في زمرة طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي، وسلامة موسى النصراني الصليبي المفتري وأمثالهما، ثم كتب في آخر الكتاب أنه تحقق أني لست منهم ولا من أشباههم، ولأني مسلّم متمسك طالب علم وسليل علماء فهو لذلك «يسلّني منهم سلّ الشعرة من العجين». ولكنه بقي بعد سلّ الشعرة يبيع العجين غير مخبوز ولا ناضج (كأنه الخبز في هذه الأيام)، بل يلقيه عليّ ويلطّخ به ثيابي ويقبض الثمن! وقد أصابه في آخر عمره الفالج وتوفّي. وأنا أكتب هذا وما في قلبي ذرّة من الحقد عليه أو الكره له، رحمه الله ورحمني، فما منّا إلا من أحسن وأساء (وأيّ الرجال المهذّب؟). وأنا (صدّقوني) لا أحمل حقداً على أحد؛ لا لأني بلغت غاية الحِلم وسموت إلى ذروة الخلق، لا؛ فأنا جريء عنيف حادّ المزاج سريع الغضب كما أني سريع الرضا. بل لأني أردّ الصاع صاعَين أو ثلاثة إن كان الذي يكتب عني كبير القدر في الأدب أو

في الفكر أو كان الموضوع ممّا لا يجوز السكوت عنه، وإن كان الذي يكتب عني ما له قيمة أو كان الموضوع لا خطر له نهجت منهج جرير حيث يقول بشّار عنه: "هجوت جريراً فأعرَضَ عنّي واستصغرني، ولو أجابني لكنت أشعر الناس". كان يريد الصعود على كتف جرير ليراه الناس، فتخلّى عنه فرماه. لذلك أدَعُ الردّ على أكثر الذين يسبّونني، بل إني في أكثر الأحيان لا أقرأ ما يكتبون. * * * وأنا من يوم شرفت بالنزول إلى ميدان الدعوة (جندياً صغيراً) أقاتل على جبهتين: واجهت الجامدين والجاحدين، نازلت بعض المشايخ كما نازلت بعض الشبان. فلما انتهت قصة «رسائل الإصلاح» بدأت قصة رسائل «سيف الإسلام»: ما كان في الشام يومئذٍ نوادٍ أدبية، و «النادي العربي» الذي أُسّس أيام الشريف فيصل قبل ميسلون كان نادياً سياسياً، والمجمع العلمي كان للمحاضرات وكان منبره مصدراً من مصادر ثقافتنا؛ محاضرات المجمع الأسبوعية وحلقات الأموي الدائمة، مع دروس المدرسة وما آخذه عن المشايخ وما أستفيده من المطالعة، كانت ثقافتي كلها من هذه الينابيع. لذلك كانت مكتبة عَرَفة في «المِسْكيّة» (¬1) مجمع الأدباء؛ يقفون ¬

_ (¬1) المسكية سوق (أو سُوَيق) كان مخصصاً لبيع الكتب، وهو بين سوق الحميدية والباب الغربي للجامع الأموي، وقد سمعت أنه أُزيل منذ سنين ولم أحقق ما سمعت (مجاهد).

أمامها، وربما قعد كبارهم على كرسي كان هناك، وربما دخل بعضهم إليها. وهي صغيرة جداً، ولكن حماسة صاحبها وذكاءه وطلاقة وجهه وحلاوة لسانه كانت تحبّبه إلى الناس، وهو الشيخ ياسين عَرَفة، أحد رفقاء العمر. وكم قامت أمامها مناقشات ومجادلات، وكم عُرِضت مسائل في الدين وفي الأدب وتُليت قصائد ومقالات، وقد يستمرّ وقوفنا ساعات. وأمام هذه المكتبة عرفت الشاعر أحمد صافي النجفي يوم قدم دمشق، وقد وقف علينا بزيّه الغريب وعباءته البالية وعقاله يتأبط شـ ... أعني شعراً في جرائد يحملها ومجلات. قرأ علينا منه وعرّفَنا نفسه، وأنا الذي عرّف الشاميين به في مقالة نشرتها عنه. وليس الكلام عن النجفي، إنما الكلام عن رسائل «سيف الإسلام» والنجفي مررنا بذكره مروراً. أعود إلى الموضوع: كنا يوماً أمام مكتبة عرَفة فجاء رجل لا يعرفه منّا أحد فاندسّ بيننا وحشر نفسه فينا، وجعل يتكلم كلاماً عجيباً أدركنا معه أنه يدعو إلى نِحلة من النِّحَل الباطلة. فتناوشوه بالردّ القاسي والسخرية الموجعة، فأشرت إليهم إشارة لم يدركها: أن دعوه لي. فكَفّوا عنه وجعلت أكلمه وأدور معه وألفّ به، حتى وصلت إلى إفهامه أني بدأت أقتنع بما يقول، ولكن مثل هذه الدعوة لا بد فيها من حُجّة أبلغ من الكلام. فاستبشر وقال: ما هي؟ فحركت الإبهام على السبابة، وتلك إشارة إلى النقود. قال: حاضر. وأخرج ليرتين ذهبيّتين ... يوم كانت الليرة الذهبية شيئاً عظيماً، يوم كنت أدخل أكبر وأشهر محلّ شواء فآخذ أوقية من اللحم المشوي (والأوقية مئتا غرام) ورغيفاً تَنّورياً وقطعة مخلَّل

فيكلّفني هذا الغداء مع الخدمة في المطعم فرنكاً واحداً، أي خمس هللات (هلالات)، والليرة الذهبية يومئذٍ بخمس ليرات سورية ونصف الليرة، أي بمئة وعشرة فرنكات! مدّ يده بالليرتين فأخذتهما أمام الحاضرين جميعاً، وانصرف الرجل بعد أن عرّفنا اسمه، فما كاد يبتعد حتى انفجرَت الصدور بالضحك وأقبلوا عليّ مازحين، فمِن قائل: شاركنا يا أخي، وقائل: اعمل بهما وليمة أو نزهة في بستان ... وقد عرفتم أنهما تكفيان ثمناً لمئتين وعشرين غداء! قلت: سترون ما أنا صانع. وذهبت فكتبت رسالة تكلمت فيها عن المِلَل والنّحَل والمذاهب الإلحادية، وجعلت عنوانها «سيف الإسلام»، وكتبت على غلافها «طُبعت بنفقة فلان»، باسم الرجل الذي دفع الليرتين. وبلغني أنه كاد يُجَنّ ولم يدرِ ماذا يفعل، ولم يستطع أن يُنكِر أمراً يشهد عليه سبعة من أدباء البلد، وقد بلغني أن جماعته قد طردَته بعد أن عاقبَته. وتوالت هذه الرسائل حتى زادت على العشر، وكانت تُوزّع مَجّاناً، يتولّى جمعَ المال لطبعها ويقوم بأكبر العمل في نشرها الشيخ عبد القادر العاني (رحمه الله) وجمعية الهداية الإسلامية، ولا أحتاج أن أقول إني لم آخذ منها قرشاً وإني كتبتها لله لا للمال. الرسالة الأولى منها ليست عندي، عندي الثانية وتاريخ طبعها 1349 (1930) جاء في أولها قولي: هذه هي الكلمة الثانية

نقذف بها في وجوه هؤلاء المفسدين الذين يتسمّون بالمجدّدين، بعد أن داخلناهم وعرفنا طواياهم، فعلمنا أن الجمود الذي أنكرناه على بعض المشايخ يُعَدّ خيراً إن قيس بهذا الجحود الذي وجدناه عند بعض الشباب ... وما نفع قوم مسلمين بأسمائهم وألقابهم كافرين بأقوالهم وأفعالهم، لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يصومون رمضان ... يقولون إنهم مسلمون، ونساؤهم سافرات وأولادهم منحرفون وبيوتهم ... مسلم زوجته تخرج سافرة برضاه تُبدي للناس نحرها وسحرها وذراعَيها وساقَيها! مسلم يدخل المسجد مرة في الشهر ويدخل السينما أو الملهى كل يوم! ومضيت على هذا السنَن، ومضت الرسائل يزداد عددها ويتسع انتشارها، ويتبرّع أهل الخير (وما أكثرهم دائماً) بطباعتها والإنفاق عليها، وصار الناس يتداولونها وهم يُثنون عليّ ويدعون لي. وكان الطبع حراً والمطابع مفتوحة، نكتب (أيام الانتداب!) ما نريد ونطبع ما نريد، لا نحتاج في ذلك إلى استئذان وليس علينا فيه رقيب، ولا يأتينا مَن يمنعنا ولا مَن يسألنا، إلاّ في حدود القانون. وما كان عندنا قانون يقيّد الأقلام أو يحجر على العقول. توالت أربع رسائل على هذا النمط، وكانت الخامسة بعنوان «وجوب الدعوة إلى الله»، والسادسة عنوانها «صدقي بك، قصة اجتماعية فيها موعظة وذكرى»، والسابعة «الصلاة وأسرارها» مكتوب على غلافها: «من لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم ما فيها إلاّ سعادته وصلاح أمره، لا يمكن أن يفي لأمته ولا لوطنه»، والثامنة عنوانها «البلاء الأعظم في المغرب الأقصى»

وهي تعليق على «الظهير البربري» الذي أصدره الفرنسيون باسم سلطان المغرب، والرسالة مكتوبة بقلم من نار أسلوبها يشتعل اشتعالاً. ثم نشرت رسالة عنوانها «لماذا أنا مسلم؟»، بعدها رسالة عنوانها «قضية التجهيز» (ومدرسة التجهيز هي مكتب عنبر)، ثم رسالة عنوانها «الشيوعية أكبر خطر على البشرية» كتبتها رداً على رسالة «لماذا يناضل الحزب الشيوعي السوري»، وطبعَت رسالتي جمعية الهداية الإسلامية. بعدها رسالة «الأدب القومي» رددت فيها على الأستاذ شفيق جبري حين قرر في محاضراته في مدرسة الآداب العليا أن الأدب أُلْهِيّة، طُبعت سنة 1349، ثم رسالة عنوانها «بدعة جديدة» فضحت فيها مُضِلاًّ يدّعي أنه «المهدي» أسس حزباً للشيطان سمّاه «حزب الله»، طبعَتها جمعية الهداية سنة 1350. وكلها (وكثير غيرها) كتبتُه لله وطُبع بنفقة أهل الخير ووُزّع مَجّاناً، وكلها نفد ولم يُجمَع في كتاب، ولم يبقَ منه إلاّ نُسَخ معدودات عندي وعند بعض الأصحاب. ولو أنني جمعت كل ما كتبتُ ... ولكن «لو» تفتح عمل الشيطان! * * *

في اللجنة العليا لطلاب سوريا

-40 - في اللجنة العليا لطلاّب سوريا المسافر يقف أحياناً (ولو كان مستعجلاً) ليسمع خبراً أو يقضي وطَراً، وأنا أقف اليوم لأردّ على رسالتين وردتا عليّ ليس لهما عنوان في الرأس ولا اسم في الذيل، وهما إن لم تكونا من صُلب «الذكريات» فليستا بعيدتين عن موضوعها. أما الرسالة الأولى فإنها طريفة حقاً وظريفة أيضاً، لو صرّح مُرسِلها باسمه لأثنيت على براعة أسلوبه، فهو أسلوب أديب، وما أدري كيف يتنازل عن حقه عليّ في الثناء عليه! أمّا موضوعها فخليط غريب من إعجاب وغزل ... نعم، غزل! ومن لوم وإنكار. خلاصة ذلك كله أنه رأى صورتي المنشورة في العدد الأربعين من مجلة «المسلمون» فأُعجِبَ بأناقتي وفُتِنَ بجمالي. وما كنت أحسب يوماً أني سأكون فتنة، أعوذ بالله من أن أفتن أو أُفتَن! ويلومني على أني ظهرت بذلك المظهر فلبست لباس الكفار وتشبّهت بهم، ويُنكِر ذلك عليّ ويبالغ في الإنكار. أما إنكاره لبسي لباس الكفار فلا أسلّمه له ولا أوافقه عليه. ولقد كانت تَرِد على أسواق المدينة ثياب متعددة الأقمشة

والأزياء والألوان من اليمن ومن مصر ومن الشام، وكان الرسول ‘ يلبس ما يجد منها، لا ينهى عنها إلاّ إن كانت شعاراً لغير المسلمين خاصّة بهم، يتوهّم الناس بمن يلبسها أنه منهم. هذا هو التشبّه الممنوع لا مطلق التشابه، فنحن نأكل كما يأكلون ونركب ما يركبون ونصنع كثيراً ممّا يصنعون، وما قال أحدٌ إن هذا من التشبه بهم. وقد غدا لبس الحُلّة الآن (البنطال والجاكيت) من هذا القبيل، صار لباساً عاماً يلبسه المسلم والكافر. ولقد جاءنا من سنوات جماعة من مسلمي أميركا من السود والبيض، لقيتهم في الحرَم، فكان فيما سألوني عنه الزيّ الذي يجب على من دخل في الإسلام أن يتخذه، فقلت لهم: ما في الإسلام زيّ خاص لا يجوز غيره، فليلبسوا ما شاؤوا على ألاّ يكشف الثوب عورة، ولا يشفّ من رقّته عنها، ولا يصوّر من ضيقه حجمها، ولا يكون خاصاً بغير المسلمين لا يلبسه غيرهم، ولا يكون ثوب شهرة يلفت إلى لابسه الأنظار أو يسبّب له الاحتقار، ولا يكون ثوب حرير يلبسه الرجل. فإذا سلم من هذا كله فليكن ثوباً فوقه عباءة أو بلا عباءة كَلِباسِنا هنا، أو قميصاً تحته سراويل كلباس المسلمين في الهند، أو «الشرواني» في باكستان أو الإزار (الفوطة) في أندونيسيا، أو ما شئتم من ضروب الثياب. لا يوجب الإسلام على من دخل فيه زياً معيناً، ولا كان الرسول ‘ يتخذ زياً معيناً، وما جُعلت للقضاة ثياب يُعرفون بها وللعلماء وللجند وللتجار إلاّ بعد اختلاطنا بالفرس في صدر الدولة العباسية. ولقد كان الوافد على رسول الله ‘ يدخل المجلس يكون فيه بين أصحابه فيُجيل بصره فيهم يسأل: أيّكم

محمد؟ وما كان يميّزه من أصحابه ثوب ولا مجلس ولا شارة ولا علامة، ويوم الهجرة حسبوا أبا بكر هو النبي حتى دلّهم عليه أبو بكر. وأما إعجابه وفتنته فشيء لا شأن لي به، الشأن فيه له هو ولصاحب الصورة. إن رضي عنه أو سخط عليه أو أعجبته أناقته أو فتنه شكله، فهذا له وحده لا أنازعه فيه. الذي أنازع فيه قوله إنها صورتي. صورتي أنا؟ إن صورتي هي التي توضع في صدر كل حلقة من حلقات هذه الذكريات، جمّلها الرسّام فمحا ما كان تحت الجفون من غضون وصغّرني فيها سنوات، كما كبّرني سنوات في الصورة التي وُضعت من قبل على جلدة العدد الرابع من مجلة «المسلمون»، فعاتبتُه يومئذٍ على تلك وأشكره اليوم على هذه، وإن كنت في الحقيقة لم أكبر ولم أصغر، ولا أدري لماذا أعاتب أو أشكر؟ هذه هي صورتي، وإن لم تصدّق فتعال إليّ لتراني شيخاً بعيداً عن الأناقة وعن الجمال. فهل الصورة المنشورة في العدد الأربعين من «المسلمون» وُلدت -إذن- في خيال فنان وظهرت على طرف ريشته ما لصاحبها وجود؟ لا، بل هي صورة حقيقية لإنسان حقيقي وقف بنفسه أمام آلة التصوير، إنسان أعرفه كما أعرف نفسي، كان دائماً معي لا يفارقني، يفكّر بعقلي وينطق بلساني واسمه مثل اسمي، ولكنه ليس أنا! فمن هو إذن؟ وأين ذهب؟ يا سادة، أنا لا أغرّب ولا أتفلسف ولا آتي بالأحاجي

والألغاز، ولكن أقول الحق. الحق الذي لا أعرف الطريق إلى إدراكه تماماً. ففكّروا معي، لا في صورتي أنا بل في صورة كل واحد منكم قبل عشرين أو ثلاثين سنة. وإن كان أحدكم شيخاً مثلي فليمسك الصورة بيد والمرآة بيد: هل الذي في المرآة هو الذي في الصورة؟ لا. فهل هو غيره؟ لا. هل أحدهما خيال لا وجود له والآخر إنسان موجود؟ لا. هل هما موجودان معاً؟ لا. فما القصة إذن؟ إن كان هذا الشاب هو علي الطنطاوي فأنا لست علي الطنطاوي. فمن هو؟ ومن أنا؟ وأين ذهب؟ وكيف لا يعود؟ لقد صرت مثل هبَنّقة: كانت له قلادة يضعها حول عنقه ليعرف بها نفسه، فنام ليلة فسرقها أخوه فتقلدها، فلما أصبح ورآها عليه، قال له: أنت أنا، فمن أنا؟! لقد أثار مسألة عجز الناس عن جوابها فقالوا: هو أحمق، وحسبوا أنهم استراحوا لأن الحمقى لا يستحقون الجواب. فهل تعرفون أنتم جواب سؤالي؟ أم تفرّون عاجزين؟ أم تقرون بأن في وجودنا وفيما هو حولنا وفيما وقع لنا ما تعجز عن إدراكه عقولنا؟ أم تقولون عني ما قالوه عن هبنّقة المسكين، فتستريحون ولكنكم لا تُريحون؟ * * * أما الرسالة الثانية فليس فيها لطف ولا ظرف، ولكنْ فيها غلظة وعنف وفيها افتراء وعسف. وكان يسعني أن أرمي بها ولا

يلومني أحد، لأنه لا يعلم بها أحد. وأنا لا أحفل بالشتم الصريح يُنشَر في الصحف، ولكن اهتممت بها خشية أن يكون ما جاء فيها هو ظنّ جماعة رأيُهم فيّ مثل رأي مرسلها. وترجمة ما جاء في الرسالة باللسان المهذَّب الذي يمكن أن تحتمله الجريدة وقُرّاؤها أني مُدّعٍ كاذب، أنسب لنفسي -وأنا في السنّ التي يدخل فيها الشابّ الجامعة- من القدرة على الكتابة والإقدام على التأليف وذيوع الاسم في الناس والتأثير في الشباب ما لا يمكن أن يكون. وأنا بشر له نقائص وفيّ عيوب، وعيوبي كثيرة، لكن الكذب ليس منها. إنما يكذب الجبان، وأنا (مُتّهَم) من مطلع الشباب بالجرأة والإقدام، وأني طويل اللسان صامد الجَنان، وأني إن هجمت لم أبالِ العواقب. ومن كانت له هذه النقائص لا يمكن أن يجمع معها نقيصة الكذب، لأنها تناقضها وتنافيها ولا تجامعها. ولو أني كنت أحتفظ بالصحف والمجلاّت التي نشرت أخبار نشاطي قبل نصف قرن وما كُتب فيها عني يومئذ، عليّ أو لي، لجاء منها ما يملأ كتاباً يبلغ ربع القاموس المحيط. وهذا كلام أقوله أول مرة، وأرجو أن تكون آخر مرة، لأني أحاول في هذه الذكريات أن أكون مؤرّخاً لا شاعراً مفاخراً ومنافراً في عكاظ أو في المِربد. والذي أقوله رطل من قنطار ممّا قيل فيّ أو كُتب عني، وعندي منه الكثير في قصاصات، وأنا أخجل أن أروي الثناء عليّ بلساني أو أن أخطّه بقلمي، ولكني ظُلمْت فحقّ لي الدفاع عن نفسي. لذلك أتخلّى اليوم عن خجلي وأنقل كلمة واحدة تؤيّد

قولي الذي كذّبني فيه هذا «الأخ المهذّب» مرسل الرسالة، كلمة لم تأتِني مطويّة في ظرف فنشرتُها أنا هنا، فهذا عمل تأباه مروءة ذوي المروءات، بل جاءت منشورة في مجلة كانت لها الصدارة بين المجلاّت لكاتب كانت له الصدارة بين الكتّاب، هي شهادة من الزيات ما حظي بمثلها منه إلاّ قليل، رحمه الله. لم تُكتب عني اليوم وقد ازددت (بلا شك) اطّلاعاً وتمرساً بالحياة وصلة بالأدب وإلفاً بالمنابر، ولكن كُتبَت في العدد (101) من مجلة الرسالة، الصادر في اليوم التاسع من ربيع الأول سنة 1354هـ، أي قبل خمسين سنة، وثقوا أني أستشعر أشد الحرج وأنا أنقل هذا الكلام ولكني اضطُررت. قال: الأستاذ علي الطنطاوي (أو الشيخ علي الطنطاوي كما يحبّ أن يُدعى) ثمرة ناضجة من ثمار الثقافة العربية الحديثة، ثَقِفَ علوم الدين وعلوم اللسان ثقافة محيطة، ثم درس القانون دراسة فقهية عميقة، وشارك في إيقاظ النهضة الفكرية والدينية والاجتماعية في سوريا مشاركة منتجة، فله في قيادة الشباب محلّ، وفي توجيه الآداب طريقة، وفي سياسة الإصلاح مذهب. وهو ونفر من صحابته يمثّلون في سوريا الناهضة الحلقة الواصلة بين عقلية تنكر القديم وعقلية تنكر التجدّد. وليس الأستاذ الطنطاوي مجهولاً لدى قرّاء الرسالة، فهو يطالعهم الحين بعد الحين بالفصول الممتعة في الأدب والتاريخ والقصص، ينقلها عن فكر خصب، واطّلاع واسع، ومنطق سليم، وإيمان صادق، وعاطفة نبيلة.

والكلمة طويلة كتبها بمناسبة صدور كتابي «أبو بكر الصديق» سنة 1353هـ. وما دمت أكتب تاريخاً لا أتنكّب فيه -إن شاء الله- جادة الصدق، فإني أقول إن الزيات (رحمه الله) ما كذب ولا بالغ لمّا قال إنه كان لي في قيادة الشباب محلّ، وكان -في الحقّ- محلاً ظاهراً؛ فلقد أدرت اللجنة العليا لطلاب سوريا لا في دمشق وحدها (أو ما يُسمّى اليوم «الاتحاد العامّ لطلاب سوريا») من سنة 1929 إلى أواخر سنة 1931. وأنا رجل متوحد، إذ جاوزت المجالس الخاصّة (التي أكون فيها مع من لا أحتشم من إخواني والتي أنطلق فيها على سجيّتي) لم أستطع مخالطة الناس ولا الاندماج فيهم إلاّ من وراء صحيفة المجلّة أو الكتاب، أو من فوق منبر الخطابة، أو من خلف لوحة الرائي أو سَمّاعة الرادّ. أنا اجتماعي في المجلس الخاصّ، ولكني شَموس نَفور متوحّش إن أدخلتَني مجلساً غيره، أو جمعتَني بمن لا أعرف من الناس أو مَن أعرفه لكني لا آلفه، فكيف -إذن- صرت رئيس اللجنة العليا لطلاب سوريا نحواً من سنتين؟ أقص عليكم القصة. * * * لما خرجت فجأة، بلا تمهيد ولا إعلان، من ظلال العزلة الكاملة عن رفاقي في «مكتب عنبر» إلى نور الشمس في شوارع دمشق، أغلق أنا متاجرها وأخطب في أسواقها وأقود أهلها في مظاهرة من المظاهرات الضخمة، لما كان ذلك انصبّت الأنظار

عليّ وتلفّت الناس إليّ، وكانت دمشق (كما قلت من قريب) بركة ساكنة في الفكر ولكنها بركان مضطرم هائج في السياسة: نضال للاستقلال وجهاد لدفع الاستعمار (ولو سمّوه بالانتداب)، وكان يعرف ذلك الناس جميعاً، وكان من أناشيدنا أيام الاستقلال على عهد الشريف فيصل (الملك فيصل بن الحسين) أنشودة مشهورة ما في دمشق من لا ينشدها ويردّدها، على ضعف تأليفها: نحنُ لا نرضى الحمايةْ ... لا ولا نرضى الوصايةْ نحنُ أَولى بالرّعايةْ ... لبَني العُربِ الكرام الحماية والوصايهْ ... كلُّها معنى الأسرْ وعلى العيشِ بذُلٍّ ... أبَداً لا نَصْطَبِرْ وكان ذلك سنة 1918. ثم غدر بنا الإنكليز الذين وعدوا الحسين فاغترّ وصدّق، وحمله على ذلك خُبث طوايا الاتحاديين وسوء فعالهم ومحاربتهم العربية كيداً للإسلام. أعطاه مكماهون -باسم قومه- المواثيق، ثم عقدوا من وراء ظهره معاهدة «سايكس بيكو» التي تقاسموا فيها بلادنا كما يتقاسم اللصوص الغنيمة التي نالوها حراماً. وأنا لا أنقل صفحات معروفة من التاريخ، وهي تحت يدي لو أردت النقل عنها، ولكني أردت أن يؤمن الشباب بأن «الجميع» علينا، تداعوا لحربنا: حرب ديننا وعقيدتنا، لأن ذلك أساس قوّتنا، فإنْ نُسف الأساس هوى البناء. تناوبوا توجيه المدفع، يتعب منه واحد منهم فيسلّمه إلى آخر، وهو أبداً موجّه إلينا وقنابله أبداً ساقطة علينا. فمِن بلفور الذي وعد، إلى غورو الذي أغار، إلى ساراي الذي هدم ثلث

دمشق على من كان فيها فما لم يصل إليه الدمار أشعل فيه النار، إلى الذين تعهّدوا لإبليس بأن يحموا أمن إسرائيل، ولو كان أمنها لا يقوم إلاّ على خراب صيدا وصور وتحويل الدور والقصور إلى أطلال وقبور، وتجرِبة السلاح الأميركي الجديد بقنابله العنقودية والفسفورية والتفريغية على الأطفال والنساء والشيوخ كما تُجرّب الأدوية الجديدة على الفئران في المختبَرات ... لقد سمعنا بأن منهم من تأخذه الشفقة على حيوانات المختبرات فيحاولون إنقاذها، ولكن ما سمعنا فيمن رأوا ما يقع في بيروت بمن أشفق على أطفالٍ كنور الزهر وصبايا كريّا العطر وشيوخ تجسم فيهم العجز والطهر. لقد قُتل نفر من اليهود، أيْ من خنازير البشر، في كنيس في باريس (ولعلّ بني إسرائيل هم الذين دبّروا قتلهم ليتّخذوا منه حجّة لهم)، قُتل نفر بفعل مجهول فقامت قيامة اليهود وكثير من النصارى، ويُقتل آلاف وآلاف ويُشوَّهون في بيروت بفعل مجرمين معروفين، يُقتلون عمداً حيث لا يَملكون دفعاً ولا منعاً، والعالَم المتحضّر، عالَم «حقوق الإنسان»، يسمع ويرى فلا يحرّك ساكناً إلاّ اللسان، وربما خرس اللسان إلاّ عن كلمة واحدة هي «الفيتو» يحمون بها ظهور المجرمين. * * * إنّ هتلر إنْ قِيسَ به هذا النجس بيغن عُدّ من الأطهار. على أني ألعن هتلر في قبره (إن كان له قبر)، لا لما زعموا كذباً أنه فعله باليهود بل لأنه لم يخلص البشرية نهائياً من رجس اليهود.

إن الذي فعلوه في لبنان سيعجز أبلغ المؤرّخين لساناً وأفصحهم بياناً عن نقله كما وقع إلى الأجيال القادمة من البشر. ما نيرون؟ ما جنكيز؟ ما هولاكو؟ ما يأجوج ومأجوج؟ ما وحوش الغاب وعقاربه وحيّاته وحشراته؟ ما الخنازير البرّية؟ كل أولئك إن قيسوا بهذين القذرين، بيغن وشارون، صاروا من أهل الطهارة والخير، صاروا أطهاراً أخياراً لأنك وضعتهم مع من هو أنجس وألعن. كلاّ؛ ما رأى تاريخُ البشر قاتلين مجرمين كهذين الكلبَين المسعورَين. لقد قطعاني عن إتمام الكلام الذي بدأته فإلى الحلقة الآتية إن شاء الله، وقطع الله عليهما الطريق إلى كل خير وسدّ دونهما الباب إلى كلّ سعادة، وجعل ما فعلاه في لبنان مرضاً موجعاً مشوِّهاً في جسدَيهما، وقلقاً قاتلاً ورعباً دائماً في نفسيهما، وانزعاجاً مستمراً لا يذوقان معه استقراراً (¬1)، لا يُعرَف له سبب ظاهر ولا يُلفى له دواء شافٍ، ينغّص عليهما العيش حتى لا يُطيقانه، ويحبّب إليهما الموت فلا يجدانه، ويجعل ما أجرماه لعنة عليهما باقية فيهما متسلسلة في أعقابهما، ممتدة في ذراريهما شاملة أهلهما وأحباءهما، حتى يروي التاريخ ما حلّ بهما، فيجزع كل باغ ظالم وكل جبّار مغرور أن يحلّ به ما حلّ بهما، ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى. ¬

_ (¬1) استجاب الله دعائي على بيغن بين نشر هذا الكلام في الجريدة وطبعه في الكتاب، فغدا كالسامري معتزلاً في داره نافراً من البشر ينفر منه خيار البشر، وسيأتي دور شارون بإذن الله.

{وَلا تَحْسَبنَّ اللهَ غافلاً عمّا يَعمَلُ الظالمونَ، إنّما يؤخّرُهم ليومٍ تشخَصُ فيهِ الأبصارُ}. فيا من كفلتم «أمن إسرائيل»، هل تكفلونه لها في ذلك اليوم؟ أم هل تضمنونه لأنفسكم؟ أم تحسبون أنكم تفرّون من لقاء الله؟ وإلى أين؟ هل من إله غير الله تلجؤون إليه كما يلجأ السياسي إلى دولة غير دولته فتحميه؟ من يحميكم -ويْحَكم- من الله؟ يا سكارى بخمرة القوة اصحوا، فإن الله أقوى والله أكبر. * * *

في المقاومة الوطنية

-41 - في المقاومة الوطنية هذه أول حلقة أكتبها لجريدة «الشرق الأوسط»، والحلقات الثلاث التي نُشرت فيها قبلها ما كُتبت لها بل لمجلة «المسلمون». كنت كالذي يسكن غرفة هادئة في نُزُل صغير في ضاحية البلد، فأغلقوا النزُل وحملوه وهو نائم إلى الفندق الكبير الذي يتسابق الناس إليه ويتزاحمون عليه. ولكن الفندق وسط السوق: ضجّة دائمة وحركة دائبة، ولم يجدوا فيه غرفة خالية فنصبوا له سريراً في الردهة، فصحا فإذا الناس من حوله، لا يستطيع أن يواري شخصه عن العيون ولا يداري صوته عن الآذان، فغدا يحسّ أنه كالعريان قد فقد الثياب. هذا مثالي في مجلة «المسلمون» وفي جريدة «الشرق الأوسط». وأنا من جمعية «المحاربين القدماء». هل سمعتم بها؟ كان لي سلاح أخوض به المعامع وأطاعن به الفرسان، وسلاحي قلمي، حملته سنين طوالاً أقابل به الرجال وأقاتل الأبطال، فأعود مرة

ومعي غار النصر، وأرجع مرة أمسح عن وجهي غبار الفشل (¬1). قلمٌ إن شئت لانَ في يدي حتى ليخشن معه الحرير، وإن شئت صلب حتى يلين إلى جنبه الحديد. إن أردتُه هديّة نَبَتَ من شقّه الزهرُ وقَطَرَ منه العطرُ، وإن أردتُه رَزيّة حطّمتُ به الصخر وأحرقتُ الجمر؛ قلم كان عذباً عند قوم وعذاباً لقوم آخرين. ثم أحالتني الحياة على التقاعد، فودّعت قلمي كما يودّع المحتضَر وغسلته من آثار المداد كما يُغسّل من مات، ثم لففته بمثل الكفن وجعلت له من أعماق الخزانة قبراً كالذي يُدفَن فيه الأموات. حتى جاءني من سنة واحدة أخ عزيز، هو في السن صغير مثل ولدي ولكنه في الفضل كبير، فما زال بي يفتلني في الذّروة والغارب (كما كان يقول الأولون)، يحاصرني باللفظ الحلو والحُجّة المقنعة والإلحاح المقبول، يريدني على أن أعود إلى الميت فأنفض عنه تراب الموت وأمزّق من حوله الكفن، وأنا أحاول أن أتخلص وأن أتملص، حتى عجزت فوافقت على أن أكتب عنده ذكرياتي. بدأتها وأنا لا آمل أن أتمّ عشر حلقات ولا أتصور الأسلوب الذي أتبعه في كتابتها، فاعتمدت على الله، وأرخيت زمام القلم ليمشي وحده، فوفّق الله، وتمّت أربعون حلقة وأنا لا أزال في سنة 1931. فيا زهير (¬2) أشكرك؛ فلولاك ما كتبت، وأشكر «المسلمون»، ¬

_ (¬1) الفشل في اللغة الضعف والكسل. (¬2) أعني الأستاذ زهير الأيوبي الذي كان له الفضل الكبير في تدوين هذه الذكريات.

وأرجو أن يرجع آل حافظ البصر، فلعل الله يعيد «المسلمون». فما فُقد الخير في أمة محمد، وما كل الأغنياء همهم الربح وحده. إن فيهم من يرجو ثواب الآخرة، وإن الحكومة المسلمة لا تبخل على «المسلمون» بمد يد العون إليها، ويدها طويلة بالخير والإحسان تصل إلى أرجاء الأرض كلها. فهل بقي من أمل؟ * * * إن لديّ من الذكريات الكثير، ما بقي منها ربما ملأ كتباً، لأني ما عشت ثلاثة أرباع القرن كما تشهد تذكرة ميلادي، بل عشت أربعة قرون. بل إن الذي رأيته من تبدل الدول وتطور الحياة لا يكون مثله في أربعة قرون؛ فلقد عشت حيناً من عمري في ظلال راية العثمانيين، ثم عشت تحت علم الدولة العربية، ثم في حكم الفرنسيين، ثم تحوّلَت أحوال وكانت أهوال، جاوزَت في غرابتها الخيال. وأنا فوق ذلك قد مارست الصحافة كتابة فيها واحترافاً لها، والتعليم في جميع مراحله، من المدارس الأولية في القرى إلى أقسام الدراسات العليا في الجامعات، وعلّمت شباباً ومشايخ، وعلّمت بنات. في دمشق وقراها، وفي العراق أدناه وأقصاه، وفي لبنان، وفي هذه المملكة، حجازها ونجدها. واشتغلت بالقضاء قاضياً في أصغر محكمة، إلى أن غدوت مستشاراً في محكمة النقض في دمشق ومحكمة النقض في القاهرة. وكتبت القصة والمقالة، وألّفت مسرحيات وساعدت على إخراجها، وسرت في أرض الله شرقها وغربها. وأعددت نفسي لذلك بالدراسة

النظامية إلى آخر مراحل الدراسة في بلدي، وفي القراءة على المشايخ كما يقرأ طلاّب الأزهر، وبالمطالعة الدائبة المستمرة في كل علم وكل فن. وكانت هذه الذكريات كقطع من الذهب الثقيل وضعتها في كيس من قماش ضعيف ومشيت بها، فكلما خطوت في طريق الحياة خطوة سقطَت من الذهب قطعة، حتى فقدت أكثرها. ما دوّنتُ شيئاً وكان اعتمادي كله على الذاكرة، وقد خبّرتكم من قبل ماذا صنعت بهذه الذاكرة الأيام. فأنا أقرأ الحلقة المنشورة ولا أدري والله ما الذي أكتبه بعدها، فذهني كالمستودَع فيه من كل بضاعة، ولكن بضائعه مركومة رَكماً تداخلت أنواعها واختلطت، فإذا أردت أن أستخلص نوعاً منها جردتها كلها، أو عجزت عن جردها فنمت إلى جنبها ثم نسيتها. وطالما فكرت في الهرب، ولكن الحارس يقظ يسدّ عليّ الطريق، فلما نقلت إلى الجريدة رأيت أن قد وجب الهرب؛ فما يُنشَر في الجريدة هو صدى لما يقوله الناس وصورة لما يشغلهم من أحداث يومهم ممّا يهمّ جمعهم، وأنا أجيء لأحدثهم عن أحداث مضت، لم تكن تاريخهم كلهم بل تاريخي أنا من دونهم، فيكون حديثي أبرد الأحاديث وأثقلها. هم يقدّمون للقرّاء طعامهم المفضّل لديهم حاراً في طبق صُبّ لهم، وأنا أقدّم لهم في طبقي «البائتَ» من طعامي، فاسألوا القرّاء: هل يهمّهم أن يعرفوا ماذا فعلت أو ما قلت أو ماذا رأيت وما سمعت من خمسين سنة، وهم

مهتمّون بالذي يرونه ويسمعونه في يومهم الذي يعيشونه؟ ما لهم ولما وقع لي، وما هم فيه يزيد عن طاقة احتمالهم؟ لذلك أظن أني سأستقيل، بل أنا أضع استقالتي تحت يد أصحاب الجريدة. والوزارة التي تستقيل تصرف الأعمال حتى تأتي وزارة تخلفها، فأنا أستمر في الكتابة حتى يصدر قرار قبول استقالتي ... أفعل اليوم فعل الوزراء وما فيّ إلاّ تلك من صفات الوزراء. * * * أعود إلى ما كنت فيه، إلى ما قطعني عن ذكره بيغن وشارون مجرما العصر، ولكل عصر مجرموه كما أن لكل بلدة مَجاريها، فالمجاري فيها أقذار الناس والمجرمون هم أقذر الناس. قلت إن تلك الخطبة التي ألقيتها سنة 1929 وتلك المظاهرة التي قدّمتُها نبّهَتا الناس إليّ ودلّتا قيادة النضال الوطني عليّ. وكانت القيادة للكتلة الوطنية، ولم تكُن -فيما أعلم- حزباً منظماً كالأحزاب التي كانت قبلها وبعدها، بل كانت مجموعة من الزعماء الوطنيين رئيسهم الشيخ الجليل هاشم الأتاسي، ومن أعضائها: فارس الخوري وشكري القوّتْلي وجميل مَرْدَم وزكي الخطيب ولطفي الحفّار وفخري البارودي، ومَن لست أذكر الآن. وما الكتلة الوطنية؟ لما كنا في أوائل الدراسة الثانوية كان في البلد حزبان: حزب الشعب الذي كان أبرز رجاله الطبيب الكاتب الخطيب

عبد الرحمن شهبندر، وحزب الاستقلال. فلما قامت الثورة الكبرى سنة 1925 (وقد سبق الكلام عنها) وحكم الفرنسيون بالعقاب ظلماً على أكثر الزعماء بالقتل أو بالسجن فرّ منهم من استطاع الفرار وتوارى أكثرهم عن الأنظار، حتى إذا أمنوا تجمعوا وتعاونوا، فكان من ذلك «الكتلة الوطنية». كانت الكتلة الوطنية هي الرأس المفكّر وكانت لها يدان تبطش بهما؛ اليمنى منهما الطلاّب والشباب، واليسرى الأقوياء من رجال الأحياء. أمّا الأحياء (المَيدان والشّاغور والصالحيّة والأكراد والعِمارة والعُقَيْبة والقَنَوات ومسجد القَصَب والقَيْمَريّة) فكان يتولّى أمرَها زعماؤها، وأمّا الشباب من غير الطلاّب فكان يتولّى جمعهم شفيق سليمان ومحمود البيروتي، وأما الطلاّب فقد كان أمرهم سنة 1930 إلى اللجنة العليا لطلاب سوريا. أتدرون ما هذه اللجنة العليا؟ إنها من الباب الذي دعاه المنفلوطي «خداع العناوين»، أقول هذا بعد خمسين سنة لأن أيام الدعاية ولّت، وهذا يوم أكتب فيه للتاريخ. لمّا تنبه الناس إليّ ورأوا فيّ طاقة خطابية وقدرة على إثارة الجماهير، ازدحموا عليّ يريد كلٌّ أن أعمل له وأن يسخّرني مَطيّة تحمله إلى غايته. وكانت الجامعة في ثورة على وزير المعارف، أستاذنا محمد كرد علي، لأنه أراد أن يأخذ من موازنتها خمسة وعشرين ألف ليرة (¬1) يفتح بها مدارس أولية في القرى التي تغلب على أهلها الأمية، حُجّته أن قرشاً تشتري به خبزاً يدفع عنك لذع ¬

_ (¬1) كانت موازنة الدولة كلها سبعة ملايين.

الجوع أَولى من قرش تشتري به الحلوى، وأنّ رصف الأزقّة وتمهيدها أجدى من إقامة نُصُب الزينة لتجميلها، والذي ما معه إلاّ خمسون ريالاً لا يبتاع بها عقدة (كرافات) تزين صدره بل ثوباً يستر عريه. ولكن القائمين على الجامعة أبوا إلاّ أن يبقى ما كان على ما كان. وكانت الجامعة تشمل كلية الطب، وهي أكبر مني سناً، وبناتها: الصيدلة وطب الأسنان والتمريض، وكلية الحقوق، وهي أحدث مولداً ولكنها أدنى إلى التأثر بأحداث البلد وهزّات المجتمَع. وكنا نسمي الكلية المعهد فنقول «المعهد الطبي» و «معهد الحقوق». ولقد أسدى المعهد الطبي إلى العربية خيراً كثيراً لم يستطع أحد إلى الآن -على كثرة المؤسسات وعظم النفقات- أن يقوم بنصفه؛ ذلك أنهم وضعوا المصطلحات العلمية والطبية حتى صارت كليتنا هي الكلية الوحيدة التي لم تدرّس الطب بغير العربية، وقد تحمّل ثقل هذا العمل الضخم جماعة من جاء على ذهني الآن منهم ذكرته ومن نسيته فإن الله لا ينساه، والمؤرّخون المنصفون سيذكرونه: أحمد حمدي الخيّاط، وجميل الخاني، وشوكت الشطي، ومرشد خاطر، وحسني سَبَح (رئيس مجمع اللغة العربية الآن في دمشق، وهو أقدم المجامع العربية، أنشأه كرد علي سنة 1920) ومحمد محرّم، وصلاح الدين الكواكبي. أمّا الحقوق فقد وجدت أساتذتها لمّا دخلتها في السنة التي أتكلم الآن عنها صنفين: صنف من العلماء حقاً منهم فارس

الخوري، ولما كان رئيس مجلس الأمن وعُرضت قضية مصر سنة 1947 ألقى (وكان يتكلم الإنكليزية ببلاغة شو أو ويلز) خطبة رأيت الناس في القاهرة (وكنت يومئذٍ أقيم فيها) يزدحمون على الرّوَادّ (¬1) في الشوارع لسماعها، لأنها كانت أبلغ في ذاتها من خطبة النقراشي مندوب مصر في المجلس وأقوى منها في الدفاع عن حقّ مصر. وكتبت في الرسالة مقالة عنوانها «ما أعرفه عن فارس الخوري» تناقلَتها وعلّقَت عليها الصحف والمجلاّت، وممّن علّق عليها العقاد شيخ الكتّاب. وسأعود إلى الكلام عن كلية الحقوق. وكان مدير الجامعة الدكتور رضا سعيد، وهو عدوّ لدود للأستاذ كرد علي. وهو طبيب عيون عظيم، أصاب عيني اليسرى شيء في داخلها جعلني لا أرى زاوية من الساحة البصرية فراجعته، وذلك سنة 1924، ففحصها وقال لي: هذا شيء لا يزول ولا يزيد. وعرضتها من تلك الأيام إلى الآن على أطباء لا أحصيهم عداً في الشام ومصر وبيروت وألمانيا وبلجيكا وكراتشي وبومباي فكلهم قال مثلما قال، وهي إلى الآن لم تَزُل ولم تَزِد. وكان مدير معهد الحقوق (أي عميد الكلية) عبد القادر العظم، فعمدا، هو ومدير الجامعة، إلى تحريض الطلاّب وإثارتهم حتى اضطرّوا الحكومة لرفض اقتراح وزير المعارف وهو حقّ، وكم ضاع صوت حقّ في صخب العامّة. ¬

_ (¬1) جمع رادّ، وهو الراديو. سمّيته رادّاً لأنه يردّ علينا الصوت الذي يخرج من الإذاعة.

ولقد أرادوني على أن أنضم إليهم فلم أُرِد ذلك، ولو أردته لما قدرت عليه؛ لأن الله خلقني كالخطّ المستقيم: إن قلت لم أكذب، وإن وعدت لم أخلف. فمن كذب عليّ أو أخلف وعده لي جاهرته باللوم، أو عاقبته إن كرّر ذلك بالهجران. ثم إني صعبُ القِياد لا يستطيع أحد أن يسيّرني في طريق لا أريد السير فيه أو يُنطِقني بقول لا أعتقد صحته. ولطالما لقيت في سبيل امتناعي هذا الشدائد وأصابني الأذى، من الحُكّام ومن غيرهم من الظُلاّم، فكنت إذا انهزمت كسرت سيفي لكنْ لا أسلمه إلى عدوّي ولا أرفع له -لأنجو منه- الراية البيضاء. لذلك ابتعدت عن كل حزب أو هيئة أو جماعة أن أصير عضواً فيها. ولطالما ظن قوم أنهم استغلّوني حين جاؤوا بي أخطب في ناديهم وأنهم سخّروني فيما يريدون، ما دروا أني أنا أسخّرهم فيما أريد، ذلك أن لي غايات ثلاثاً ما عدلت عن واحدة منها ولا استبدلت بها، وما حدت عنها ولا جئت يوماً -ولله الحمد- بما يعارضها وينافيها؛ هي الدعوة إلى الإسلام وإلى العربية والدفاع عنهما وبيان محاسنهما، والدعوة إلى القوة وإلى مكارم الأخلاق، والذي نُشر ممّا كتبت أكثر من عشرة آلاف صفحة، ففتّشوا: هل ترون فيها ما يكذّب هذا الادعاء؟ * * * وكان مقرّ قيادة النضال الشعبي ومصدرُ روح الجهاد أشرفَ مكان في دمشق: الجامع الأموي؛ فيه يكون اللقاء وفيه تُلقى الخُطَب ومنه تخرج المظاهرات، وإليه يأوي المناضلون إذا طاردهم المستعمرون (المنتدبون) ومن يمشي منّا في أذنابهم،

ومن سطحه يُلقون الحجارة عليهم. وما جاز عتبتَه يوماً جندي من جنود فرنسا، فلما جاء الاستقلال رأينا ممّن يُعَدّ منا (وما هم في الحقيقة منا، بل هم شرّ علينا من عدوّنا) رأينا ممّن ينطق بلساننا ووُلد في أرضنا مَن يكسر باب المسجد ويدخله بسلاحه وسياراته، ويذبح المجاهدين على أرضه، ويفعل فيه كل ما ينكره الدين وتأباه المروءة وتستكبره إنسانية الإنسان، حتى لقد مرّت سنوات طوال ولا تزال على سجّاده آثار الدماء الطاهرة الزكية التي أراقها من ليس طاهراً ولا زكياً، ولكنْ جباراً عتياً وكفاراً غوياً. فيا عجباً! أيكون من أبنائنا من هو أقسى علينا وأعدى لنا وأشد حرباً لديننا من مستعمري بلادنا؟ كنا إن أردنا أمراً تداعينا إلى صلاة الجمعة في الأموي، فإذا انقضت الصلاة خطب الخطباء ثم خرجت المظاهرة. وتوالت سنوات وأبرز هؤلاء الخطباء هو كاتب هذه السطور، وصدّقوا إن قلت لكم إني أجد أشد الحرج حين أقول هذا عن نفسي، فسلوا من شئتم ممّن أدرك تلك الأيام يخبركم بأكثر ممّا يسمح لي الخجل أن أقوله، لأن الأمر كان أظهر وأشهر من أن أقيم عليه البراهين. وكانت بداية ذلك أن كنت يوماً أقيم في شارع بغداد (وهو ثاني شارع فُتح في دمشق بعد شارع النصر، وقد كان فتحه أيام الثورة سنة 1925)، وكنت على موعد لصلاة الجمعة في مسجد القصب في حيّنا، فجاءني جماعة من طلاّب الطبّ (وكنت أنا في الحقوق) فقالوا: إنّا نفتّش عنك فهيا معنا. قلت: إلى أين؟ قالوا:

إلى الأموي، فقد احتشد فيه جمهور من غير الوطنيين (وكان اسم الوطنيين علَماً على معارضي الانتداب) واستعدوا له من أيام وأعدوا خطباءهم، فرأينا أنهم لا يقوم لهم غيرك. فحاولت الاعتذار فقطعوا عليّ طريقه حين قالوا: هذا قرار الكتلة، فذهبتُ. وكان لي -بحمد الله- صوت جهير، فقمت على السدّة ممّا يلي باب العمارة وناديت: «إليّ إليّ عباد الله»، وكان نداء غير مألوف ثم صار ذلك شعاراً لي كلما خطبت. فلما التفتوا إليّ بدأت بيت شوقي: وإذا أتَونا بالصفوفِ كثيرةً ... جئنا بصفٍّ واحدٍ لن يُكسَرا وأشرت إلى صفوفهم المرصوصة وسط المسجد وإلى صفّنا، وأفضت في الكلام أضرب على وترَين لهما في نفس كل سامع صدى: الدين وهو أول محرك للناس إن كانوا مؤمنين وكان القائل صادقاً فيما يقول، والاستقلال وهو مطمح كل سوري إلاّ من مالت به الدنيا ومنافعها إلى تأييد الغاصبين فآثرها على آخرته وعلى مرضاة ربه. وكانت خطبة نسيها الناس إلاّ أثرها، ونسيت أنا ما قلت فيها، ولكن الذي لم أنسَه أنها أفسدت على الآخرين أمرهم وصرفت الناس عنهم، فلما خرجت خرج الجمهور ورائي، وكانت مظاهرة للكتلة لا لهم، أي للوطن لا عليه. وقد كان يختلف الشيوخ والشباب في أسلوب العمل: أما الحرص على الاستقلال والرغبة في النضال فقدرٌ مشترك عند الشباب والكهول. ولقد قلت في محاضرة لي عن الشباب قديماً

إن الغاية واحدة، كلهم يريد الثواب إن كان مؤمناً والمجد إن كان طموحاً، ما اختلفت الغايات ولكن السرعة هي التي تختلف، فالشاب يريدها عاجلة جاهزة والشيخ يصبر ويتأنى. وكان عندي موهبة الخطابة على أكمل صورها، يكفي أن أصعد المنبر وأواجه الناس حتى يتدفّق عليّ سيل الكلام. والارتجال من أصعب الأشياء، فالخطيب يفكّر فيما يقول وفي انتقاء الألفاظ المعبِّرة عنه، يعرضها ليختار أحسنها، ويفكّر فيما قال قبلُ ليصله به ولا يقطعه عنه، وفيما سيقوله بعدُ ليسوّي له المعنى ويتخير له اللفظ. عمليات صعبة متعاقبة لا بد فيها من السرعة البالغة، وإلاّ انقطع الكلام وأعرض السامعون، تجري كلها معاً، ولكن الملَكة المكتسَبة تسهّلها والمرانة تهوّنها، حتى لا يشعر الخطيب بها ولا يحسّ ثقلها وإنما يستمتع بها. على أني لا أكتمكم، بل أعترف لكم، بأنها تمرّ بي الدقائق الأخيرة قبل أن أشرع بالخطبة ثقيلة، وأني ربما استشعرت الهيبة أحياناً، فإذا بدأت الكلام ذهب هذا كله. أقول هذا وأنا أعلو هذه المنابر وأعتادها من يوم خطبت أول خطبة لي على درَج مدرسة طارق بن زياد الابتدائية في دمشق سنة 1921. أقوله وقد ألِفت هذه الأعواد وألِفَتني. لذلك أكره أن يقدّمني أحد حين أُحاضر؛ إنه يحمل عليّ ثقلين: ثقل المدح، ومدح المرء في وجهه إحراج له، وأنا أجيب من يسألني وأسب من يسبني، لكن ماذا أقول لمن يمدحني، لا سيما إذا كنت أعلم أنه يمدحني بلسانه ويشتمني بقلبه؟! الثقل الثاني: أني أحب أن تقصر

دقائق الانتظار وأشرع في الكلام، وهذا يطيل انتظاري. * * * قلت لكم إن «اللجنة العليا لطلاب سوريا» كانت من باب خداع العناوين، وقد آن الأوان لبيان حقيقتها. كنت أنا أخطب، ولكن لا أصلح لما يسبق الخطبة من إعداد ومن مفاوضات ومحادثات، وكان لي رفيق هو أصلح الناس للمحادثات والمفاوضات ولكن لا يصلح للخطابة. هو اجتماعي مئة على مئة كما يقولون، وأنا رجل متوحّد منفرد، لا أستطيع أن أوغل في مخالطة الناس لأني لا أكذب ولا أحتمل كذباً من أحد ولا أخلف الوعد ولا أصبر على إخلاف المواعيد، ومن قال لي شيئاً ولم يحقّقه غضبت منه، ومن شعرت أنه مخادع سقط من عيني ... فكمّل أحدُنا نقصَ الآخر. كان رفيقي في مكتب عنبر، ثم صار طالباً في «الطب» وصرت أنا طالباً في «الحقوق»، فكنا نتلقّى الأمر من الكتلة، ثم نقعد معاً في مكان أو نتحدث في طريق، فنرسم الخطّة ويقوم كلٌّ منّا بحمل قسطه منها، وهذه هي «اللجنة العليا». هذا الرفيق هو الدكتور صبري القباني، وربما انضمّ إلينا ثالث هو الدكتور مدحت البيطار سفير سوريا السابق في المملكة. وقد نشأنا نحن الثلاثة نشأة فقر، كما نشأ رفيقنا أحمد السمّان الذي صار مدير جامعة دمشق. رحمه الله ورحم القباني ورحم من سبقنا من الإخوان. * * *

دمشق صور من جمالها وعبر من نضالها

-42 - دمشق صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها عرفتم من سياق هذه الذكريات أني نشأت في مجتمع صغير، في بلد كان يوماً من عواصم الحضارة والعمران وقلاع القوّة والعِزّة، وكان حاكمه هو السيد المُطاع في ثلث المعمور من الأرض في بقعة تمتدّ من حدود الصين وأواسط روسيا إلى إسبانيا وقلب فرنسا، وكان البحر الأبيض المتوسط بحيرة في أملاكه الواسعة، يملك أكثر شطآنه وتتجول أساطيله في لُجّته وخلجانه. ثم تضاءل هذا الملك الكبير ونقص الدهرُ أرضَه من أطرافها، فضمّ بعضها إلى بعض حتى صارت دمشق بلدة تعيش على هامش الحياة. ولكن مَن كانوا فيها كانوا سعداء بهذه المعيشة لأنهم نشؤوا فيها ولم يعرفوا غيرها. في هذا البلد وفي ذلك العهد فتحت عيني على الدنيا. كان قد وصل إلينا جانب صغير من حضارة العصر فقنعنا به، وكان لدينا إرث كبير من فضائل الماضي فحافظنا عليه. لا نهتمّ بسياسة ولا نتزاحم على رياسة، تركنا الأمر للوالي العثماني الذي كان

يدبّر بمعاونة «الدفتردار» الحكومة المدنية، والمشير الذي كان يتولّى الحكومة العسكرية. يقوم أكثرنا بحق ربنا، فالمساجد ممتلئة والصلوات فيها قائمة، والناس عاكفون على حضور حلقات العلم فيها. ونقوم بحقّ أنفسنا فنتاجر ونعمل، ونكسب ونربح، ونلهو ونمرح، وإن كانت ملاهينا (التي كان يعرفها أمثالي) معدودة. نحرص على الصبحيّة (نزهة الصباح) في «صدر الباز» (حيث المعرض الدولي الآن، وكان مرجاً أخضر على كتف بردى، وهو وقف إسلامي) وفي الرّبوة، وهي مدخل الوادي الذي يأتي منه بردى، وهو من أجمل أودية الدنيا: بردى يجري في وسطه وأبناء بردى الستة على جانبيه، والشلالات تنحدر من الأعلى منها إلى الأدنى، ومن هنا جبل قاسيون ومن هناك جبل المِزّة، ومن الجهة الأخرى «الشرَف الأعلى» وفيه «الميزان»، وقد قام فيه الآن مستشفى المواساة. وكان أجمل متنَزَّهات دمشق: تنظر منه إلى الوادي يبدو لك أوله من بين الجبلين كما يبدو الأمل بالفرج من بين الشدائد، ثم يلتوي فتراه حيناً يلوح لك من بعيد ويخفى حيناً، كالمجهول في القصة الأدبية أو في الحياة الواقعية، تمسك به ثم يفلت منك. وأمام الشرف الأعلى الشرف الأدنى. ولست أصف دمشق (¬1)، فدمشق (التي حُرِمتُ من رؤيتها وحُرّم عليّ دخولها) جمعَت ما لم تجمع مثلَه مدينةٌ في الدنيا: ميراث ضخم من الماضي جعلها أقدم المدن المسكونة في الأرض ¬

_ (¬1) لي كتاب اسمه «دمشق» فيه صور من جمالها وعِبَر من نضالها.

بلا خلاف، وفيها من كل شيء: فيها الجبل والوادي، والسهل والقفر، والجنان والبساتين، والأنهار الجارية، والثمار الدانية، وكل ذلك أُلِمّ به بنظرة واحدة من شرفة بيتي في قاسيون (¬1). وأين مني بيتي وأين قاسيون؟ أحسب أني سأموت قبل أن أتزود منه بنظرة ... فلله وحده الشكوى. وكنا نعيش في سعادة لأننا كنا راضين، ما كنا نتطلع إلى خير ممّا كنا فيه لأننا لم نكُن نعرف ما هو خير ممّا كنا فيه، والمرء يرضى بطعامه الذي لا يعرف غيرَه حتى يذوق ما هو أطيب منه. كنا نأوي إلى بيوتنا من بعد صلاة العشاء، وكنا نجتمع على الأُلفة الحلوة والنكتة المسلّية، وكنا نقضي حياتنا نغنّي كما يغنّي الصرصور في الصيف، فالمرء إذا انفرد بنفسه دندن بالغناء، وأَجيرُ الخبّاز وهو يحمل على رأسه «المعجن» إلى الفرن يغنّي، ونداء الباعة كله غناء في كلام إن لم يكن شعراً حقيقياً فهو خير من كثير ممّا يُنشَر اليوم على أنه شعر. أليس شعراً (وإن لم يكن موزوناً مقفّى) نداء بائع الباذنجان: «أسود ومن سواده هرب الناطور»؟ أليست صورة ناطقة: صورة ناطور البستان يرى شدة سواد الباذنجان فيشمر عن أذيال الفرار؟ وبائع التين إذ ينادي: «دابل وعلى دباله يا عيون الحبيب، من دباله يمشي لحاله)، تين ذابل كالحبيب الذي يذبل عينيه فيسبي الناظر إليه. وبائع الزعبوب (أي الزعرور) ينادي: «أبيض أحمر ¬

_ (¬1) جبل قاسيون الذي يطل على دمشق ويحجزها من شمالها، وقد سكن جدّي فيه دهراً في بيت يرتفع في الجبل (في الجادة الخامسة) فيطلّ على دمشق كلها (مجاهد).

يا زعبوب، تمر محنى يا زعبوب، البزر بن يا زعبوب»، كلام موزون يغنّى بلا مُغَنٍّ، لا يحتاج إلاّ إلى عازف آلة يصحبه أو رِقّ يضبط نغمته. وبائع الجَرادِق في رمضان (وهو الحلوى الرقيقة التي تكون كالطبق الواسع عليها خطوط الدبس، وهو عسل العنب) أليس نداؤه غزَلاً حلواً وتشبيباً صادقاً إذ يقول: «ياما رماك الهوى وقلبي انكوى يا ناعم»؟ وما هذا بالخيال، فالجردقة إن هبت عليها النسائم وهي في يد صاحبها طيّرها الهواء، فهل في وصف الخفّة والرقّة أجمل من هذا النداء؟ وبائع العنب في آخر الصيف إذ يودّعه: وهموم الحياة كلها يجمعها عنوان الوداع، وداع العاشق المعشوق، ووداع المريض الصّحّة، ووداع المحتضَر الحياة، اسمعوه ينادي ويا ليتني أستطيع أن أحكي نغمته أو أضع لها «نوطة موسيقية»، فهي في ذاتها شعر. والشعر والموسيقى والتصوير لغات شتّى تعبّر عن الصورة الواحدة أو الشعور الواحد. فأنت إن كنت شاعراً عبّرت عن منظر غروب الشمس في البحر بالألفاظ والأوزان، وإن كنت موسيقياً فبالأصوات والألحان، وإن كنت مصوّراً فبالخطوط والألوان. ولمّا أصيب بتهوفن بالصمم ودخل يعزّي صديقه بوفاة ولده ولم يسمع ما قاله له ولم يسعفه المقال بما يناسب الحال قعد إلى «البيان» فعزف عليه «لحن الحزن» المعروف. أقول: إن بائع العنب لا يبعد كثيراً عن الشعراء والعشاق

حين ينادي: «ودّع والوداع لسنة يا عنب»، «هَدّوا خيامك وراحت أيامك، ما بقي في الكَرْم غير الحطب يا عنب» ... ألا يذكّركم هذا ببكاء الديار ومخاطبة الأطلال، وهو أصدق ما قال شعراء الجاهلية في شعر العاطفة؟ وفي الشام من أنواع العنب ما ليس في سواها، وآخر معرض أذكره في داريا في الغوطة الغربية عُرض فيه مئة وسبعة أنواع من العنب، ولكن مجمع الكروم ومعظمها كان في دوما، التي كانت تمتد إلى الجبل الذي فيه الثنيّة التي نزل منها خالد بن الوليد مَقْدَمَه من العراق، التي تزيد رقعتها طولاً وعرضاً على عدة أكيال (كيلومترات) والتي يُستخرج منها الدبس وقمر الدين، ثم أصابها من سنين بلاء (دودة أو مرض) أودى بها كلها فذهبت حتى الحطب، فيا أسفي على هذا الكنز الذي ذهب! وما دمنا في الكلام على نداء الباعة فهاكم هذه الصورة العجيبة لبائع اليَخَنا (أي الملفوف): «يخَنا واطبخ، والجارية تنفخ، والعبد عَ الباب، يطرد الكلاب»، هذا يوم كان الطبخ على نار الحطب ولا تذكّى النار إلاّ بالنفح عليها، وكان في البيوت المماليك من العبيد والجواري. صورة من تاريخنا القريب. وبائع البَليلة: «بليلة بلّلوك، وسبع جوار خدموك يا بليلة». وبائع الشّمَندر المسلوق في أيام الشتاء، يضع صينية فوق الحلّة ويصفّ عليها رؤوس الشمندر مقشورة ساخنة تُشهّي الأكل الشبعان (¬1)، ينادي: «بردان تعال صوبي، تعال صوبي أنا بياع ¬

_ (¬1) أي تجعل الشبعان يشتهي الأكل.

العسل». وبائع غَزْل البنات، هذه الحلوى اللذيذة في اللسان، الليّنة تحت الأسنان، التي تذوب في فمك حين تدخله فكأنك تأكل في المنام، إنه ينادي: «ياغَزْل البنات، ياما غزلوك في الليالي يا غزل البنات». ومن عجائب النداء نداء بياع التَّرْخون، وهو حشيش من المشهّيات على المائدة، وهو من الأفاويه المعروفة، يزعمون أنهم يزرعونه في بقعة فينبت في غيرها، فهو ينادي عليه هذا النداء العجيب حقاً الذي لا يعرف المراد منه إلاّ ابن البلد: «ويلي عليك يا ابن الزنا يا خاين»، هل تعرف إن سمعته أنه يبيع التّرخون؟ وإن سمعت من ينادي في الصباح «الله كريم» أوفي النهار «الله الدايم» فاعلم أن الأول بياع الكعك والثاني بياع الخسّ (¬1). ولرمضان نداءات خاصّة برمضان. * * * عفوكم أيها القرّاء، لقد كنت كالماشي بين الحقول فأغراه منظر بستان، فمشى إليه وأوغل فيه حتى بَعُد عن طريقه وكاد ينسى إلى أين يسير. وهذه هي علّة كل من نشأ على كتب الأدب العربي ومن أدمن قراءة شيخنا الجاحظ الذي سنّ لنا سنّة الاستطراد التي تصرف عن المراد. إن الصغير الليّن العود يمكن إن اعوجّ أن يُقوَّم، ولكن كيف يُقوَّم من كان على عتبة الثمانين؟ إنها علة أُنكِرها من نفسي ولا أستطيع الخلاص منها، فاحتمِلوها مني أو قولوا لأصحاب ¬

_ (¬1) راجع مقالة «دمشق» في أول كتابي «دمشق».

الجريدة وللقائمين على الإذاعة والرائي أن يريحوكم مني، فما عاد في تقويمي أمل. إن حياتنا تلك التي كانت سعيدة على فقرها، ناعمة على خشونتها، لم تدُم علينا. لقد سعينا إلى التعلّق بأسباب الحضارة وأزمعنا المسير إليها في أرضها، فجاءنا بها أصحابها إلى أرضنا وقرعوا بها أبوابنا، ولكن الذي رأيناه منها كان الجوع والحاجة وموت الأحبّة أيام الحرب الأولى. ثم رأينا المدافع، لا في العرض العسكري، ولكن رأيناها حين دكّت بقنابلها بيوتنا ودمّرت ثلث مدينتنا، وأحرقت أجمل دورنا وأغلى قصور أغنيائنا ... رأينا كيف غصب المتحضرون منّا بلادنا وأكلوا خيراتها من دوننا، رأيناها يوم سرقوا حرّيتنا وقتلوا استقلالنا في ميسلون. حاربنا في «ميسلون» حرباً مرتجَلة، لم نُعِدّ لها عدّتها ولم نرسم خطتها، فانهزمنا ودخل غورو دمشق، وجعل جنده يطؤون الأرض التي كان يمشي عليها بلال وأبو الدرداء ومعاوية، وظنّ أنه حلّ فيها محلّ الأخلاف من بني أمية الذين: كانوا ملوكاً سريرُ الشرقِ تحتَهمو ... فهلْ سألتَ سرير الغربِ ما كانوا؟ عالينَ كالشمسِ في أطرافِ دولتِهم ... في كلِّ ناحيةٍ مُلكٌ وسلطانُ رحم الله شوقي. فهل خضعنا وخنعنا؟ لا؛ بل لقد ناضلنا، وكان نضالاً صعباً مريراً خضنا إليه سواقي من الدم، من دماء أعدائنا ودماء شهدائنا، وتخطّينا ركاماً من الجثث، وبذلنا آلافاً من المُهَج، وحملنا فيه

من الشدائد والصعاب ما ينوء ثقله بالصخور الراسيات (¬1). تعاقبَت الثورات في الشمال، وعلى الساحل، ثم كانت الثورة الكبرى سنة 1925 (وقد حدّثتكم حديثها)، ثم بدأت حرب الشوارع. حتى جاء الاستقلال. إن هذا الاستقلال كالثروة التي يجمعها البخيل قرشاً إلى قرش، يجوع في سبيلها ويشقى لجمعها، فيأتي وارثه، أو يأتي من ليس له بوارث ولا له في إرثه حقّ، فيبذّرها باليمين وبالشمال، لا ينفقها على أمته ولا على وطنه ولكن ... وتعرفون ما الذي يُقال بعد «لكن»، والمعروف لا يعُرَّف. ما جاءنا الاستقلال على صينيّة من البلّور ولا على طبق من الفضّة، كما يجيء الشاي لمن يطلبه في الفندق الكبير، يقدّمه إليه النادل مع الانحناء ثم يسرق ثمنه سرقة إذ يأخذ بدل الريال عشرة. بل جاءنا بالثمن الغالي، دفعناه ولا نزال ندفعه من مُهَجِنا وأرواحنا. لم أدرك أيام النضال الأول، نضال الاتحاديين من الأتراك، ومن نِعَم الله عليّ أني لم أدركه وأن الله عصمني من أن أشارك في تمزيق أمّة محمد إلى عرب وترك وشَقّ عصاها وإذهاب وحدتها، على أني أعذُرُ من شارك في ذلك ممّن هم أساتذتنا كرشيد رضا ومحبّ الدين الخطيب، فما أرادوها قومية تحلّ محلّ أخوّة الإسلام، ولكن أرادوا استرداد حقّ العرب ضمن حدود الإسلام ممّن عدا على حقوق العرب وجانب الإسلام. ¬

_ (¬1) قال تعالى: {ما إنّ مفاتِحَه لَتنوءُ بالعُصبة أولي القوة}.

ثم جاء قوم من النصارى، وقوم من المسلمين لا يربطهم بالإسلام إلاّ أنهم وُلدوا من آباء وأمهات يدينون به، كساطع الحصري ومن بعده عفلق، فجعلوها قومية كافرة تنافي الإسلام وتخالف القرآن. وكنت أيام الثورة الكبرى طالباً فلم أشارك أهلها ولم أعاون عليها، فلما انتقلنا إلى هذا العهد، عهد النضال في الشوارع، انغمست فيه وصرت من زعماء الشباب العاملين عليه. كنت في نزاع بين طبيعتي التي تميل إلى العزلة وتنفر من الاندماج في جمهور الناس، وبين موهبتي في الخطابة وفي الكتابة التي دفعَت القيادةَ إلى التمسك بي؛ فاقتصرَتْ مشاركتي في هذا النضال ثم في العمل الإسلامي بعده على ثلاث: أواجه الناس من فوق المنبر، أو من خلال الصحف، أو أشارك في الرأي والمشورة ... ولا شيء بعد هذه الثلاث. وعرفتم أني لما تركت دار العلوم في مصر ومضى وقت القبول في الجامعة في الشام بقيت سنة بلا عمل، فعملت في التعليم وفي الصحافة. اشتغلت في جريدة «فتى العرب» وفي «ألف باء» وفي «القبس»، وفي سنة 1931 فُتح باب جديد في تاريخ الصحافة في الشام بإنشاء جريدة «الأيام». كل حزب في الدنيا له جريدة تنطق بلسانه وتعبّر عن رأيه، والكتلة الوطنية كانت سنة 1931 أكبر من حزب، كانت تجمع الزعماء المناضلين العاملين للاستقلال، فصحّ عزم رجالها على إنشاء جريدة «الأيام»، واختاروا لرياسة تحريرها العالِم البليغ

الأستاذ عارف النّكْدي، وسبق صدورَها إعلان كبير عنها وترقّب متلهّف لها. وكانت أول جريدة في الشام تصدر في ثماني صفحات، وأول جريدة ليس في أقوالها «ضمير مستتر» يعود إلى رئيس أو وزير أو غنيّ ذي نفوذ، وكانت أول جريدة تخطّت عرائس المسرح فلم تمدحها ولم تذمّها، بل توجّهَت إلى صاحب اليد التي تحركها فخاطبَت المفوض السامي الفرنسي، لم تخاطب رئيس الحكومة المحلّية ولا أحداً من وزرائه. وجمعت طائفة من الأساتذة يعملون فيها، واختارني الأستاذ النكدي «محرّراً داخلياً» (وهو لقب مرادف للقب «مدير التحرير» في أيامنا)، فكان ينظر هو في المقالات، فما يوافق عليه أحاله إليّ وما لم يكن يمسّ سياسة الجريدة ومبادئها ترك لي النظر فيه: نشره أو طيه. والأخبار العالمية التي كانت تحملها برقيات «رويتر» و «هافاس» وأخبار المراسلين أنظر أنا فيها، فأختار منها وأضع العناوين لها، وقد أعلّق عليها. وكانت «الأيام» أول جريدة لها مراسلون حقاً، لا كالذي وصفتُه لكم في الجرائد التي عملت فيها من قبل. وأكتب فوق ذلك في الجريدة. وكان في الغرفة التي أعمل فيها أشخاص مختلفو المشارب متباعدو الاتجاهات، فكان إلى اليسار مكتب الأستاذ منير الريّس وهو المحاسب، وهو ذو اتجاه قومي متحمّس لمبدئه مناصر له، وإلى جنبه مكتب الدكتور كامل عيّاد، وبجواره شيوعي آخر أظنّه عراقياً، فقد نسيت لبعد العهد. وأحسب أن أنطون سعادة،

مؤسّس الحزب القومي السوري، أو آخَر من أتباعه كان معنا. كنا كعربة رَبَطْتَ في كل جهة من جهاتها الأربع حصاناً قوياً وسُقْت الخيل جميعاً: أنا (طول عمري) إسلامي الاتجاه، وهذا قومي، وذلك شيوعي ... وكنا نمضي الوقت كله في نزاع وخصام. اختارني الأستاذ عارف النكدي لهذا العمل الكبير وأنا شابّ صغير، لم أكُن أكملت الثالثة والعشرين، لأنني كنت (حقيقة لا فخراً) قد استكملت الصفات التي يحتاج الصحفي إليها، الصحفي الذي يعمل على كرسيه وراء مكتبه، لا الذي يقابل الرجال ويتصيد الأخبار ويكون خرّاجاً وَلاّجاً، لا يُعجِزُه بابٌ مغلَق في وجهه أن يدخله ولا سياسي معتصم بصمته أن يُنطِقَه، ولعلّي أقرب إلى الكاتب الصحفي مني إلى الصحفي المحترف. كنت حركة دائمة ونشاطاً مستمراً، لا أتعب لأني أحب عملي، ومن أحب عمله لم يُتعبه ولو حرمه راحته المعتادة ومنعه طعامه ومنامه. وكان القلم في يدي حين أكتب أسرع من الدماغ إذ يفكر واللسان إذ ينطق. لقد أعطيت الجريدة وقتي كله وجهدي كله ونشاطي كله. كان الأستاذ النكدي يخطط ويوجّه وأنا الذي ينفّذ ويحقّق. كنت أشعر (ولا أزال أذكر) حين أمسك تجارِب الطبع (البروفات) وأنزل إلى المطبعة وحين أوافق على الطبع أو أؤخّره، أني قائد معركة يتنقل على فرسه بين فرق جيشه وأفراد جنده.

أرأيتم الأكلة الطيبة التي تذهب مادتها ولكن تبقى ذكراها، فتحنّ أبداً إلى مثلها وتأسى على فقدها؟ تلك كانت أيامي في «الأيام»، فيا سقى الله تلك الأيام! لقد تلقيت من النكدي دروساً واستفدت منه كثيراً، واقتديت (أو حاولت) الاقتداء به، في استقامته التي لا نظير لها وجرأته التي ليس لها حدّ. أما لقائي به وذكر بعض مزاياه، وما صنعت يومئذٍ في لجنة الشباب، وماذا كان موقفنا من تزوير الانتخابات، وماذا صنعت بعد أن أغلق الفرنسيون الجريدة ومنعوا إصدارها ... فكل ذلك سيأتي -إن شاء الله- حديثه. * * *

جريدة «الأيام»

-43 - جريدة «الأيام» أليس عجيباً أن يكون الخيال أقوى أحياناً من الحسّ، وأن تمحو الصورة المرسومة على الذاكرة الصورة الماثلة في الواقع؟ هذا ما كان يُخيّل إليّ وأنا واقف أمام «أمانة العاصمة» في دمشق: كانت تغيب هذه العمارة الفخمة عن نظري ويقوم في موضعها بناء من طبقتين لدار شامية، لها الصحن الفسيح و «الإيوان» العالي و «القاعات» الكبار المزخرَفة الجدران المزدانة الأركان، حتى لأحسّ من فرط تصوّرها أني أدخلها كما كنت أدخلها يوماً، فأرى أمامي أشجار الصحن المثمرة وأغراسه المُزهرة، وقاعة فيها مطابع تدور وعُمّال يشتغلون لا يسكنون ولا يهدؤون، وأصعد درجاً إلى اليسار إلى ممرّ طويل، له نوافذ على الصحن وأبواب إلى غرف وأبهاء تطل على الشارع. إني أرجع إلى الوراء إحدى وخمسين سنة فأجد نفسي في دار جريدة «الأيام» التي بدأت الحديث عنها. أول غرفة في الممر غرفة رئيس التحرير، بعدها غرفتنا، والغرفة الكبرى هي التي يجتمع فيها أعضاء الكتلة الوطنية،

فيكون من ذلك «برلمان» شعبي له في الناس من الأثر ولقراراته من الحرمة ما ليس لمجلس النواب. وربما اجتمع في هذه الغرفة أعضاء اللجنة العليا لطلاب سوريا التي كنت عند الناس رئيساً لها. وقد اعترفت لكم بعد نصف قرن بحقيقة هذه اللجنة وأنها كانت قاصرة على اثنين وأحياناً ثلاثة، وهؤلاء الذين ندعوهم إلى حضور جلساتها ونسمّيهم أعضاء فيها، لا يملكون إلا أن يُدعَوا فيجيبوا ويؤمَروا فيطيعوا. وكذلك الحال في أكثر الأحزاب والجمعيات والهيئات والمنظمات؛ اسم كبير ودار أكبر، ولوحة على باب الدار بعرض الدار، وما ثمة إلا رجلان أو ثلاثة أو من يختبئ وراءهم فيحركهم، يُقيمهم ويُقعِدهم ويوجّههم ذات اليمين وذات الشمال، وهم يحرّكون سائر الأعضاء. ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها ... كالهرِّ يحكي انتفاخاً صَولةَ الأسدِ * * * ولقد عرفت جرائد تطبع كل يوم عشرات الآلاف من النسخ وتمشي إلى الكثير من البلاد، ولكنها تلحق هي القرّاء بالدعاية لها والإعلان عنها. ما عرفت جريدة يلحقها القراء، ينتظرون صدورها أمام بابها حتى يكاد جمعهم يسدّ الطريق على المارّة، إلا «الأيام». كان هذا الشارع العريض جادة يمشي فيها الترام، وكانت الجريدة تصدر وقت العصر، فكان الناس يتسابقون إلى شرائها،

يزدحمون عليها مثل ازدحامهم على الأفران أيام الحرب، حتى إنهم ليعرقلون سير الترام. فما الذي اختصت به هذه الجريدة حتى كانت لها هذه الميزة الفريدة؟ إنه رئيس تحريرها الأستاذ عارف النكدي. لقد كان رجلاً، وما كل الرجال رجال. لا أعني بالرجل الإنسان البالغ الذي ليس امرأة، فالرجال بهذا الوصف لا يُحصَون، إنما أعني الرجل الذي خبر طرق الحياة فلما رأى طريق الصدق اتخذه له طريقاً، لا يحيد عنه ولو حالت دون سلوكه الحوائل وقامت الموانع واشتدّت العقبات. وكذلك كان النكدي؛ كانت كلمته عهداً، وعهده إنفاذاً، وإنفاذه عاجلاً غير آجل. عرفته أديباً كبيراً يوم كنت شادياً في عالَم الأدب، وعرفته رئيساً لتحرير الجريدة وأنا أحد محرّريها، ووكيلاً لوزارة العدل وأنا أحد قضاتها، فوجدت النكدي الأديب، والنكدي الرئيس، والنكدي الوكيل، هو هو؛ ما بدّله المنصب فارتفع به لأنه كان في نفسه أكبر من كلّ منصب. ولقد تنقل بين الدوائر على عهد الرئيس شكري القوّتلي، فكان وكيل الوزارة وكان مدير الشرطة وكان محافظ الجبل، لم يتولَّ أحد من الوظائف أكثر ممّا تولّى، ولا استقال أحد من الوظائف أكثر ممّا استقال. كان أقوم وأعفّ وأحزم مَن عرفت من الموظفين، وقد حاول اثنان من تلاميذه اتباع سبيله واقتفاء أثره، فنجح الأول وهو أخي الحبيب نهاد القاسم وزير العدل في مصر والشام على عهد الوحدة، رحمه الله. والثاني كاتب هذه السطور، وما أدري

ما مبلغ نجاحه وليس لي أن أحكم له، ولا أحب أن أحكم عليه، فأدع أمره لله ثم لمن شاء من الناس. كان المفتّش العامّ لوزارة العدل يوم كان المستشار الفرنسي هو الآمر الناهي على الحقيقة ومَن عداه يأمرون وينهون على المجاز، ولكن من كان مثل النكدي لا يحني رأسه لأنه متصلب العنق (من غير مرض)، فلا يكون عنقه إلا مستقيماً؛ فكانت بينهما معارك متصلة، يهدّده المستشار بسلطان الفرنسيين ويعتمد هو على زعامته في دروز لبنان وصلته بالوطنيين، فكان المستشار يتّقيه وكان هو يأخذ الأمور بالرفق ويعالجها بالنعومة. وليست النعومة علامة الضعف ولا الخشونة أمارة القوة، فالفأس الناعمة الملمس تقطع الحطبة الخشنة، وما عَهِدَ الناس حطبة قطعت فأساً من الفولاذ مرهَفة الحدّ. حتى اشتدّ الخلاف يوماً، فأرى المستشار كيف تكون غضبة الحليم وكيف تكون عِزّة المُحِقّ ولو كانت أمام بطش المُبطِل الجبّار، فانتصرت عليه، ولكنه ترك المنصب. وكانت له طريقة في التفتيش يا ليت كل مفتّش يتبعها؛ لم يكن يعلن موعد قدومه فيُستعد له بسدّ الفتوق وإكمال النواقص وإخفاء العيوب، ولا يجيء بالطبل والزمر كسيارة الشرطة في الأفلام، تصفر من بعيد فيسمعها اللص فيهرب، بل كان إن أراد محكمة أتاها على غير موعد ومن غير ضجيج، يلبس لباس أهل البلد ثم يدخل في غمار الناس، يرى الأمور على حقيقتها، يسمع الكلام ويراقب الوقائع ويدوّن الملاحظات، ويكتب تقريره ويعرضه على القاضي ويدعه يقول قولته فيه، ثم ينظر، فما كان من نقص يمكن إتمامه أمهله حتى يتمّه ثم عاوده فجأة فرأى ما

كان منه، وإن كان القاضي جاهلاً سبيل الحكم أو مائلاً مع الهوى تابعه حتى يخلّص القضاء منه. كان رجل القانون، ولكنه كان يعلم أن القانون الذي وضعه البشر ليس شرعاً أنزله الله، فإن الْتَوى طريق القانون ودار من حول الحقّ فأبعد الناس عنه قطع طريق القانون كي يصل إلى الحقّ، لأن الحقّ غاية والقانون وسيلة، وليس للوسائل أن تصرف عن الغايات. تولى مرة الإدارة العامّة للشرطة فرأى السفهاء من الشبّان يؤذون البنات، يغريهم بذلك شهوة عارمة تُذكيها بعض الصحف والأفلام والروايات، ويشجّعهم عليه السفور والاختلاط وقانون العقوبات الذي ليس فيه ما يحمي البنت ويردع الولد. فأمر الشعبة الأخلاقية بأن تمسك كل شابّ يعرض لفتاة بما يمسّ شرفها وعرضها فتبطحه على الأرض (مهما تكُن منزلته ومكانة أسرته) وتجلده عشر جلدات، غير مؤذيات ولكنهنّ محطّمات لكبريائه مُذهِبات أمل الشيطان فيه. ثم إن تبيّن بالتحقيق أن شرطياً ضرب بريئاً جعله عِبرة للناس. فارتدع الشبّان، وأمِنَت البنات، ولم تجاوز الشرطة حدود العدل. * * * على أن البنات مسؤولات، فلو سترن اللحم ما شمّ ريحَه ولا طمع فيه البسّ (¬1)، ولكن الفتاة تخضع بالقول فيطمع الذي في ¬

_ (¬1) البسّ: القط (عربية).

قلبه مرض، وتلين له فيشتدّ وتُبدي الرضا فيزيد في الإقدام، ولو حجبَت عنه ما يغريه بها لما عرض لها، ولو سدّت في وجهه كل طريق يوصله إليها، ولو عن طريق الهاتف والبريد، لما بلغ منها شيئاً ممّا كان يريد. وباب آخر فتحه إبليس فدخل منه بُغاة الفساد وقُصّاد الشرّ، ودخله معهم -عن غفلة منهم- أهل الخير. ذلك هو «باب التعارف» في المجلاّت، ينشر لها صورته فتنشر له صورتها، ويعلن اسمه وعمره وعنوانه فتعلن عنوانها واسمها وعمرها، ويوضّح لها هواياته لتعرف ما يحبّ وما يكره فتخبره هي بما تكره وما تحبّ. فناشدتكم الله، ماذا أبقى هؤلاء لوسطاء الفاحشة؟ ولم أذكر الكلمة لأنها قبيحة، وإن لم تكُن أقبح من الفعل الذي تدلّ عليه، فكيف ينكر الاسم من فعل الفعل؟! ولطالما قلت وأعدْتُ حتى أضجرت وأملَلْتُ، أقول للبنات: إن اللذّة المحرّمة شركة بين الشباب وبينكن، والعقوبة في الآخرة عليهم وعليكن، ولكن عاقبتها في الدنيا عليكن أنتُنّ وحدكن. المجتمعات -يا بنات- ظالمات تسامح الشباب، تقول: «شابّ أذنب وتاب»، ولا تسامح الفتيات. إنها تغفر له زلّته وتنسى حَوبته، ويبقى أثر الزلة في البنت: ثقلاً في بطنها ووصمة على جبينها لا تفارقها حتى تفارق حياتها. إن الذين يزيّنون لك السفور والحسور والعمل مع الرجال وكشف الجسد، بحجّة الرياضة أو الفنّ أو للكشف الطبّي بلا ضرورة، أو الخلوة بالأجنبي بلا داعٍ ... إنهم لا يريدون رياضة ولا

فناً ولا شيئاً ممّا يدّعونه، ما يريدون إلا أن تكشفي عن جسدك ليستمتعوا بجمالك، ولو بالنظر أو باللمس إن لم يقدروا على أكثر من ذلك. فلا تكوني عوناً لهم على نفسك، ولا تمتّعيهم بشيء منه إلا أن تربطي أحدهم من عنقه برباط الزواج، وإلا أخذ منك أعزّ ما لديك وهرب. إن حب الشابّ يا ابنتي «خَطف»، لذّة دقائق يخطفها ويهرب خفيفاً، وحبّ الفتاة «بقاء»، أثر هذه اللذّة تسعة أشهر ثم القيام عليها طول العمر. يلبس لك جلد الحمَل يُلقي عليك مثل هديل الحمام، يذلّ لك، يُطمِعك ويَعِدك، فإذا نال الذي يريده منك نزع جلد الحمَل فبدا الذئب، وسكت هديل الحمام وسُمع فحيح الحيّة ونعيق الغراب، ثم أعرض عنك وتعالى عليك وأنكرك وأنكر ولده منك، ثم تركك مع ألمك وندمك وذهب يفتّش عن حمقاء أخرى يعيد معها المسرحية من أولها. إن أكثر من عرفنا من دعاة التكشّف والاختلاط ما لهم زوجات ولا أولاد، وأنا رجل لي بنات ولي حفيدات، فأنا أنصحكن وأدافع عنكن كما أنصح بناتي وأدافع عن حفيداتي. نعم يا سادتي القراء، أعرف أني خرجت عن الموضوع، ولكن هذا الذي قلته أنفع من الموضوع، إنها تذكرة لمن شاءت من البنات أن تذّكّر. أعود إلى حديث النكدي، وحديثه طويل. في ذاكرتي الكثير من أخباره وفي نفسي التقدير له والإعجاب بفضائله. ولقد هممت أن أقول «رحمه الله» ثم ذكرت أنه درزي. بل إني أقولها،

فقد صحبته طويلاً في الوظيفة وخارجها، وفي العمل وفي غير العمل، وفي دمشق وفي قريته عبية، بجوار سوق الغرب جارة عاليه (¬1)، وتلك البلاد خلقها الله جنّات، فكفرَت حيناً بأنْعُم الله وجاهرَت بالفسوق والعصيان وصارت مباءة لكل لاهٍ عابث من أولياء الشيطان، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف. وما كلّ أهلها قد فسق، ولكن المصيبة إذا نزلت عمّت. أسأل الله أن يكشف عنها العذاب، وأن يردّها إلى طريق الصواب، وأن ينتقم ممّن بغى عليها وأراها كيف يكون الخنزير لابساً جلدة إنسان، اسمه بيغن أو شارون وله أسماء أخرى ولكن من أسماء المسلمين. صحبت النكدي دهراً وكنا نخوض معه في كلّ موضوع، وطالما عرضنا للفِرَق والمذاهب وللدرزية بالذات، فما لمست منه (وما أنا بحمد الله بالغبي) ما لمست منه يوماً ما يدل على أنه يؤمن بالمذهب الدرزي، ولو كتم إيمانه بلسانه لنمّت عليه ملامح وجهه ونبرات صوته. ولمّا جمع أوقاف السيد التنوخي الذي يعظمونه وصانها من عبث العابثين وأيدي السارقين، أنشأ بها مدرسة كبيرة في عبية (¬2)، ¬

_ (¬1) لا يلفظون الهاء في آخرها، أما الياء فينطقونها كالألِف المُمالة في قراءة ورش للقرآن (أو كالياء في كلمة «مَجريها» في قراءة حفص التي نقرأ بها في المشرق). و «عاليه» و «سوق الغرب» من قرى جبل لبنان، لا يعرف جمالها إلا من زارها أو عاش فيها، وقد تخرّب كثير منها في أيام الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان منذ سنين (مجاهد). (¬2) وُلد عارف النكدي في لبنان سنة 1304 وتوفي فيه سنة 1395هـ.

اقتبس منهاجها من مناهج الأزهر وجاء لها بمدرّسين من الأزهر ومن أمثال علماء الأزهر، وعرض عليّ أن أدرّس فيها ولكني اعتذرت لبُعد الشقّة ولأني لم أكُن أستطيع ترك إخوتي. على أني زرت المدرسة وحاضرت طلابها كثيراً. أفيصنع هذا مَن يدين دين الدروز؟ أما علمه بالعربية وغيرته عليها ودفاعه عنها فشيء لا يحتاج إلى دليل. ولمّا استفتى شيخُنا الشيخ عبد القادر المغربي في مطلع العشرينيات من هذا القرن علماء العربية في الكلمات «غير القاموسية» (¬1)، أي التي وردت على ألسنة البلغاء وعلى أسنان أقلامهم ولم ترد في المعاجم، كان النكدي أصلبهم في الحفاظ على اللغة ونفي الدخيل عليها. وإن يكن درزي الأصل فما يسأل الله الناس يوم القيامة عن أصولهم بل يسألهم عن أعمالهم. وأمير البيان الذي كان في أوربا سفيراً للإسلام، الأمير شكيب أرسلان، درزي الأصل، ولكنه تبرّأ من درزيّته وعاد إلى الدين الحقّ، وظلّ عمرَه كلّه يحامي عنه بقلمه وبلسانه، يؤدّي فرائضه وسننه ويجتنب محرّماته ومكروهاته. بل إن صديقنا الأديب الشاعر الراوية عزّ الدين التنوخي درزي الأصل أسرته سادة الدروز، سمعت ذلك منه مراراً. وأكثر القراء لا يعرفون أن العصبية القبَلية بين القيسية (¬2) واليمانية، التي مزّقَت الجسم العربي وتعدّته إلى الجسد ¬

_ (¬1) راجع مجلّدات مجلّة المجمع العلمي العربي. (¬2) المراد بالقيسية المُضَرية لأن ربيعة كانت غالباً مع اليمن.

الإسلامي، وكانت السبب في أكثر المصائب التي أصابتنا من خراسان إلى الأندلس وكانت من عوامل القضاء على حكم الأمويين، هذه العصبية نُسيَت في بلاد العرب من عهد بعيد ولكنها بقيَت في لبنان إلى ما قبل قرن من الزمان. وكان التنوخيون سادة اليمانية ورؤساءها، فاجتمعَت عليهم القبائل القيسية وبيّتوهم فذبحوهم في «عين دارَه» قرب صوفر. ولم ينجُ إلا طفل رضيع، حملوه إلى دمشق فنشأ فيها منسوباً إلى غير أهله، خوفاً عليه أن يُعرَف مكانه فيلحق به من يُلحِقه بمن هلك من قومه. وكبر الطفل وصار سَروجياً، أي مشتغلاً بصناعة الجلود، ثم صار شيخها يوم كان لكل صناعة شيخ، ولا يزال هذا العُرف سائداً هنا. هذا الطفل هو جَدّ الأستاذ عزّ الدين، ومن هنا كان لقب أسرته «شيخ السروجية». وقد عاش ثُلثَي حياته جاهلاً حقيقة أصله الدرزي، فضلاً عن أن يكون في نفسه أو في عقيدته أثر لها. وكان رحمه الله (كما كان صديق عمره شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار وكما كان الأستاذ النكدي) من أقدم أعضاء المجمع العلمي في دمشق، وكان قد درس في الأزهر كما درس في فرنسا، ولولا أنه سمع قصّة جَدّه من شيوخ الطائفة في لبنان (كما سمعتُها أنا من الأمير حسن أرسلان) ما كان ليعلمها. * * * قلت إن صدور جريدة «الأيام» كان عنوان فصل جديد في كتاب «تاريخ الصحافة في الشام» (الذي ننتظر مَن يؤلّفه لنا أو يجعله أطروحة ماجستير أو دكتوراه)، لا لمجرّد أنها صدرت

في ثماني صفحات وكانت الصحف في أربع، ولا لأنها اتخذت مراسلين يبعثون إليها بالأخبار ووكلاء يتولّون توزيعها في الأقاليم والأقطار، بل لشيء أكبر من هذا، شيء انتقل إليها من أخلاق رئيس تحريرها. ذلك هو «الصدق»، فلم تكُن تغشّ قرّاءها وتكذب عليهم ولا تُلبِس لهم الباطلَ ثوبَ الحقّ. والصدق يجرّ «الصراحة»، فكانت تسمّي لهم الأشياء بأسمائها، لا تقول عن الحمار إن كان ذا مال أو ذا سلطان إنه غزال بأذنين طويلتين، بل تقول إنه حمار. والصدق يدعو إلى «الإخلاص»، فلا تنشر إلاّ ما ينفع الناس، أو ترى أنه ينفعهم، ولا يُسخِط الله. وكانت افتتاحيات الأيام قطعاً ثمينة من الأدب السامي. بلاغة مطبوعة وبيان أخّاذ، ما أظنّ أني قرأت في جريدة عربية ما يفوقها في هذا الباب. أسلوب صحيح مشرق وديباجة عربية صافية، منها مقالات لا تزال حلاوتها في نفسي، كالمقالة الرائعة التي كان عنوانها «المستقبل لله يا مسيو بونسو». والمسيو بونسو هو المفوض السامي الذي كان -كما قلت لكم- يملك من السلطان أكثر ممّا يملك الآن رئيسا سوريا ولبنان وحكومتاهما ومجلساهما. إني أذكر بهذه المقالة قصيدة فيكتور هوغو التي حفظنا ونحن طلاّب: «نابليون الثاني»، لما ولد لنابليون بونابرت ولده الوحيد صاح فرحاً مزهواً: «المستقبل لي» (L’avenir est a moi)، فردّ عليه بقصيدة من عيون الشعر، يا ليت شاعراً مطبوعاً من شعرائنا

يصوغها شعراً، كما صنع المنفلوطي بخطبته في «تأبين فولتير» لما تُرجمت له معانيها فصاغها صياغة لو كان هوغو أديباً عربياً ما أحسب أنه يقدر على أجود منها. قال له: كلاّ؛ المستقبل ليس لأحد، المستقبل يامليكي لله وحده (Sire! L’avenir est a Dieu). في هذه القصيدة من الصور ومن الأفكار ومن الحماسة ما يجعلها في مقدّمة ما يحسن نقله إلينا من أدب الغرب، لأن أسلوب هوغو (في شعره وفي نثره) أسلوب خطابيّ فخم التعبير، أقرب ما تكون أساليب القوم إلى أسلوب شعراء العرب. وللنكدي مقالة عنوانها: «إذا كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ، وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ»؛ من أبلغ ما خطّت أقلام الكاتبين. وكان -على قوّة شخصيته ومضاء عزيمته- رجّاعاً إلى الحقّ إن تبيّن أن الحقّ عليه لا له، يخمد غضبه في لحظة ولو كان مشتعلاً اشتعال النار متفجّراً تفجّر البارود، وهذه -لعَمري- مزيّة لا يكاد يتحلّى بها إلا أبطال الرجال. وقد خبّر سيد البشر ‘ أن مقياس الشدّة والقوّة ليس بالغلَبة بالصراع، بل الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. كان من مبادئ الجريدة مقاومة الشيوعية، فسرّب أحد المحرّرين مقالة فيها تحبيذ خفيّ لها ودعوة مبطنة إليها، عُرضت على النكدي فلم يتنبّه إليها فوافق على نشرها وذهب، فلما وصلَتْ إليّ لتصحيح تجارِب طبعها (بروفاتها) رأيت ما فيها، ولم يكن لديّ من سعة الوقت ولا من وسيلة الاتصال ما أتمكّن

معه من عرض أمرها عليه، فوقَفْت نشرَها وأنزلت غيرَها مكانها. فلما صدرت الجريدة خالية منها سبقني هذا المحرّر إليه فأوغر صدره عليّ، فاستدعاني وتلقّاني بخطبة طنّانة تطقطق فيها قافاته المعروفة (كقافات الدكتور محجوب ثابت في مصر) وتزدحم كلماتها في جملها حتى ما أجد فسحة أبدأ كلامي منها. وكنت امرءاً فيه حدّة، وكنت أوقّر الرجل، ولكن لمّا زاد نسيت التوقير ونفضت يدي من الجريدة ولم يبقَ أمامي إلا كرامتي التي توهّمت أنها مُسّت، فصرخت فيه وأسكتّه وأسمعتُه كلاماً جعله يفتح عينيه دهشة، وكان ممّا قلت له: أهذه أخلاق من كان مفتّش المحاكم، تقضي ولا تسمع دفاعاً، تحكم للمُبطل على المُحِقّ؟ فهدأ وقال: وما الأمر؟ قلت له: إن الرجل خدعك وسخّر جريدتك للدعوة لعقيدة أنت تحاربها ... وشرحت له ما وقع. فما كان منه إلا أن نهض واقفاً ومدّ يده إليّ وقال لي: أعتذر إليك. أمّا ذلك المحرر فنال منه ما يستحقّه. إن أكُن أطلت الحديث عن عارف النكدي فلأنه أحد مَن أثّر فيّ وأفادني وعلّمني دروساً كثيرة، في الرجولة وفي الخضوع للحقّ وفي إباء الدنيّة وفي الصدق والإخلاص. * * *

أطفال الصحراء

-44 - أطفال الصّحراء أمتنا من أطيب الأمم وأصفاها عنصراً وأغلاها جوهراً، فلماذا نجدها تُدعى أحياناً إلى البذل فتُحجِم ولا تُقدِم، وتمسك أيديها ولا تبسطها؟ ألِبُخل فيها وهي أمة الكرم؟ لا، ولكن لفقد الثقة أو لنقصها، فالمؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرتين، والذي تعضّه الحية يخاف من الحبل. ولقد جربتُ هذه الأمة عشرات المرّات فوجدت من يدعو إلى مشروع خيريّ: إلى إسعاف فقراء أو إنجاد محتاجين أو بناء مسجد أو إقامة مستشفى (¬1) أو معونة مجاهدين، فإذا صار المال في يده وجد جيبه أو كيسه أقرب إليه، فوضعه أو وضع بعضه فيه. من هنا صار الناس يشكّون في كثير ممّن يجمع التبرعات للخيرات وللمبرّات. وأخرى نجدها هنا وفي أقطار الخليج التي منّ الله عليها بالمال: يقوم في المسجد بعد الصلاة رجل طلق اللسان بارع البيان حافظ للشواهد والآثار، فيتكلم فيهزّ من القلوب حبّاتها ويحرّك من النفوس أعماقها، ويبكي أسىً على حال المسلمين وإشفاقاً على هذا الدين، ويستبكي السامعين. ¬

_ (¬1) لا أدري لماذا يؤنّث بعض الناس كلمة مستشفى كما يؤنّثون الرأس، وكلاهما مذكَّر.

فإذا بلغ منهم ما أراد شكا سوء حاله وكثرة عياله وقلّة ماله، وإذا هو «شحّاد»، وإذا هذه الموعظة وهذه الدموع «لوازم» الصنعة وأدوات «الشحادة»! فأزمة أمّتنا (كما قلت غير مرّة) ليست أزمة شحّ ولكنها أزمة ثقة، فإنِ الناسُ اطمأنوا إلى طهارة المشروع وأمانة الداعي، أخذوا الحلوى من أفواه أولادهم ونزعوا القلائد من أعناق نسائهم وبذلوها. ولا يزال في أمّة محمد ‘ أناس يؤثرون على أنفسهم، ويعرفون للسائل والمحروم حقّه في أموالهم، ويُعطُون لله لا يريدون جزاء ولا ثناء، ما انقطعوا ولا ينقطعون إلى يوم القيامة. وقد عرف النكدي (وهو الـ «عارف») هذه الحقيقة، فعالج كفّ المحسنين أيديَهم بإعادة الثقة إلى نفوسهم في مشروع «إسعاف أطفال الصحراء». وما مشروع أطفال الصحراء؟ عرفتم أن الثورة السورية كانت واسطة العقد، وكانت بيت القصيد في مرحلة النضال التي قطعَتها البلاد العربية فيما بين الحربين، وكان فيها «الصمود» أمام الاستعمار و «التصدّي» لردّ عدوانه؛ كان فعلاً لا قولاً، لم يكن خُطَباً تُصاغ وبيانات تُسطَر، بل دماً يُراق وأرواحاً تُزهَق، ونصراً على أعداء الله أو شهادة في سبيل الله. ولكن الثورة خبَتْ نارُها لمّا كثر أعداؤها وقلّ أنصارها وتكالبت عليها جِلاد (¬1) المستعمرين ومن أعانهم من المسلمين، ¬

_ (¬1) أي أهل القوة والجلَد منهم.

ولست أنسى فِرَق السنغال وما فعلت من أفعال وما أتت من أهوال، ولا فرسان الجزائريين إذ يُغِيرون من فوق خيولهم على جموع المتظاهرين لا يدرون مَن يدعسون (¬1)، وسيوفهم مسلولة بأيديهم يضربون بها ذات الشمال وذات اليمين لا يُبصرون مَن يصيبون، وقد انتفخت برانسهم الحمراء وانتشرت وراءهم كأنها أعلام مغموسة بالدم. على أن الذي قضى على الثورة لا الفرنسيون ولا الجنود السنغال والجزائريون، بل المتطوعون من الشركس والأرمن. أما الجزائريون والسنغاليون المسلمون فقد خالطناهم -من بَعدُ- ودانيناهم فرأينا أن أكثرهم من المؤمنين المصلّين الصائمين، ولكن المستعمرين خدعوهم وأوهموهم أننا غير مسلمين وأفهموهم أن قتالنا جهاد يُثابون عليه، ثم إنهم مُكرَهون على القتال ما لهم فيه خيار. وأما الشركس، وإن كان أكثرهم مسلمين، فإن ذنبهم أدهى وعذرهم أوهى، لأنهم قاتلونا مختارين؛ هم تطوّعوا للقتال ما أجبرهم عليه أحد، قاتلونا طلباً للدنيا وإيثاراً لمنفعة عاجلة فيها على ما عند الله من ثواب للمؤمنين المتمسكين بأخوّة الإيمان ورابطة القرآن. أما الأرمن فلا عذر لهم أبداً، وهم كانوا أخسّ وألأَمَ لأنهم جاؤونا مطرّدين فآويناهم، وجائعين فأكرمناهم وقَرَيناهم، وفتحنا لهم أبواب بلدنا ومداخل أسواقنا فصاروا بفضلنا من الأغنياء، ثم كان جزاءَنا منهم أن أعانوا عدوّنا علينا ¬

_ (¬1) الدعس كلمة فصيحة، أمّا الدهس فما لها في العربية أصل.

وجرّدوا سلاحهم في وجوهنا، أكلوا خبزَنا ونصروا خصمنا عمداً وقصداً ولؤماً وكيداً. * * * قُضِي على الثورة، ولكن الثوار ما ألقَوْا سلاحهم ولا استسلموا لعدوّهم، نظروا في البلاد حولهم فما وجدوا ملجأ يُلجِئُهم ولا دولة تحميهم، فعادوا إلى الصحراء. "والصحراء عرين أسود لا حظيرة أغنام، فلا يعيش فيها إلا الآساد والجمال ومَن له قوّة الأسد وصبر الجمَل. لذلك انبثق الإسلام من هذه الصحراء، لا من جنّات الشام ولا من سواد العراق، ولا من تحت قباب القسطنطينية ولا بجنب إيوان كسرى، ولا في أوربا التي كانت يومئذٍ غابة وحوش على صورة بني آدم" (¬1) إنّما الإسلامُ في الصحرا امتَهَدْ ... ليجيءَ كلُّ مسلم أَسَدْ ورحم الله الرافعي (¬2). دخلوا الصحراء ونزلوا وادي سرحان، عاشوا فيه سنوات على الضيق والضَّنْك واحتملوا. ولكن هل يحتمل أطفالُهم مثل ما يحتملون؟ هنالك فتح النكدي في «الأيام» باب التبرّع لمساعدتهم ودعاهم «أطفال الصحراء»، وصار ينشر كل يوم أسماء المتبرّعين ومبلغ ما تبرّعوا به، ويعلن في كل يوم (أي في كل عدد) أن من دفع قرشاً ولم يجده مذكوراً معلَناً فليراجعه، وصار كلّما اجتمع ¬

_ (¬1) الفقرة من كتابي «من نفحات الحرم». (¬2) البيت له، وهو من نشيد مشهور من أناشيده التي تمشي على الألسنة (مجاهد).

لديه مبلغ من المال أرسله إلى اللجنة التي كان رئيسها سلطان الأطرش وأخذ منه إقراراً بـ «إيصال» المبلغ إليه ثم نشر صورة «الإيصال». فَطمْأَن بذلك المتبرّعين وسدّ الثقوب التي تمتدّ منها أصابع السارقين، وكانت سنّة حسنة عملَت بها بعده جمعيات وهيئات، سيأتي الحديث عنها في موضعه من هذه الذكريات إن أراد الله. * * * ولئن كان «أطفال الصحراء» يومئذٍ مئات أو عشرات المئات، وكانت مشكلتهم نقص الغذاء مع شدة الجوع أو فقد الكساء مع لذعة البرد، فإن أمامنا اليوم مشكلة أكبر، ليست الجوع ولا العري ولكن ما هو أشدّ من ذلك وهو الكفر، وهي مشكلة مئات الآلاف أو أكثر من ذلك، ممّن أخرجَتهم أحداث لبنان وغير لبنان من بيوتهم، ثم هَدمت بيوتهم أو نسفتها فلم تَبقَ لهم بيوت، وأودَت بأهليهم وأُسَرهم فلم تَبقَ لهم دار يسكنون فيها ولا قريب يسكنون إليه. لم تصنع ذلك «الأيدي الآثمة» للمجرمَين القذرَين بيغن وشارون فقط، بل صنع مثلَ هذا وأشنعَ وأبشع من هذا غيرُ بيغن وشارون، ناس أكفَر منهما كفراً وأعظم منهما جرماً. وما كل ما يُعلَم يُقال، وما كل ما يُكتَم لا يُعلَم، والمدار على من يفهم! هؤلاء الأطفال وهم مئات الألوف، ما أحصيتهم ولكني ما بالغت في عدّهم، بل لعلّي نقصت لأنهم أكثر ممّا ذكرت، هؤلاء الأطفال مَن المسؤول عنهم؟ مَن يتولاّهم؟ لقد امتدّت الأيدي إلى انتشالهم، ولكنها أيدي المبشّرين وأيدي الشيوعيين وأيدي أمثالهم من المُلحِدين، أخذتهم لتبدّل أسماءهم وعقائدهم

وأفكارهم، فيصيروا وهم أبناؤنا كفّاراً بديننا أعداء لنا أصدقاء لعدوّنا! لقد خبّروني أن «سيدتي» (لا سيدتي أنا فما لي سيدة، أنا سيد نفسي، بل هي مجلّة تصدر هنا ولكن لا تُرسل إليّ ولم أرَها اسمها «سيدتي») دعت الأسر السعودية إلى تَبنّي هؤلاء الأطفال، خُبّرت بذلك إثر حلقة من حديثي الإذاعي اليومي كان موضوعها مشكلة هؤلاء الأطفال. وهذه دعوة لا شك أن فيها خيراً إذ تنقذهم من أن يكونوا -إذا كبروا- أنصار التبشير والاستعمار ثم يكون مصيرهم إلى النار، والمجلة تُشكَر على اهتمامها بهم، ولكن هذه الدعوة تعترضها عوارض يمكن أن نجد لها إن اجتمعنا وفكّرنا علاجاً. منها الاسم الذي نسمي به من لا نعرف له من الأطفال أماً ولا أباً، لمن ننسبه؟ أيتبنّاه الذي يأخذه ويرعاه؟ إن التبنّي محظور في الإسلام. وإذا ضمّته أسرة إليها فكيف تكشف أمامه إذا كبر نساؤها وهو أجنبي عنها؟ وإن كانت بنتاً فكيف تخالط إذا كبرَت رجال الأسرة وهي أجنبية شرعاً عنهم تحلّ بالزواج لهم؟ إن كان الطفل رضيعاً لم يَزِدْ عمره عن سنتين وأرضعَته المرأة صارت أماً له من الرضاع، وصار أولادها كلهم من زوجها أو من زوج لها غيره، قبله أو بعده، وأولاد زوجها منها أو من غيرها صاروا كلهم إخوة لهذا الطفل الذي رضع. هذه سهلة، ولكن ما العمل إن أخذوه وعمره فوق السنتين؟ هذه مسألة جاءت استطراداً، ولكنها مشكلة قائمة، إن لم تجتمع على حلّها عقول المفكّرين وأيدي القادرين كان منها بلاء مستطير وداء خطير لا نبرأ من عقابيله بعد قرنين من الزمان، فتداركوه من الآن. * * *

خلال اشتغالي في جريدة الأيام (1931 - 1932) كانت انتخابات 20/ 12/1931. وقد عرفَت دمشق قبلها ثلاثة انتخابات أو أربعة، ولكن بعضها لم أدركه وبعضها أدركتُه ولكن ما شاركت فيه، وهذه أول انتخابات أخوض غمارها وأصلى نارها. وأنا هنا أدوّن ما بقي لديّ من ذكريات، لا أسجّل تاريخاً، ولكن حديث هذه الانتخابات لا يُفهَم إلا بعرضٍ تاريخي سريع؛ «فلِم» قصير فيه الرمز والإشارة، ليس فيه الشرح ولا التفصيل. إن بين أوراقي مقالات كثيرة نُشرت في سنين متعاقبة في ذكرى «8 آذار»، وسوريا الرسمية تحتفل اليوم بيوم 8 آذار (¬1)، ولكن الحادثة التي كنا نحتفل بذكراها غير التي يُحتفَل بها اليوم، ففي يوم 8 آذار سنة 1920 أعلن استقلالَ سوريا المؤتمرُ السوري الذي مُثّلت فيه سوريا كلها بحدودها الطبيعية، أي بلاد الشام كما كانت تُعرف في سوالف الأيام، وكان فيه مندوبون عن لبنان وفلسطين والأردن، وكان رئيسه السيد محمد رشيد رضا صاحب «المنار». وقد قلت لكم إني كنت ممّن دُعي إليه ولكن من تحت، وقد حضرته ولكن من «برّا»؛ ذلك أن المدعوّين كانوا فريقَين، فريق كانوا فوق، في «السراي» (أي في قصر الحكومة الذي انعقد فيه المؤتمر)، وكانوا قاعدين مستريحين يتكلمون ويقرّرون ويشربون الحارّ والبارد، وفريق كانوا تحت: في الشارع، مصفوفين أمام السراي ظهورهم إلى بردى، وكانوا واقفين على أقدامهم طول ¬

_ (¬1) آذار هو مارس، وهو اسمه المتعارَف عليه في الشام والعراق، ووردَت فيه الأشعار وجاء في الآثار.

مدّة انعقاد المؤتمر لا يتكلمون ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يُسمح لهم أن يذهبوا إلى «الحمّام» إن احتاجوا أن يعملوا «زيّ الناس» (¬1) كما يقول أهل مصر. وهذا هو الفريق الذي كان فيه تلاميذ المدارس، وكنت أنا معهم. هذا أول مجلس نيابي عرفته، أو كان كالمجلس النيابي. أما الكلام في انتخاب أعضائه، كيف تم وكيف كان اختيارهم، فلا أعرف عنه شيئاً. وقد كان قبله انتخاب رجال من دمشق ليكونوا نوّاباً عنها في «مجلس المبعوثان» (¬2)، ولا أعرف إلا شطر بيت فيه أسماؤهم، ومن حروفه يُعرَف تاريخ إرسالهم على طريقة حساب الجُمّل الذي كان الناس يعتنون به في تلك الأيام، وهو: سليمانُ رشدي والشفيقُ محمد والتاريخ هو سنة 1324 التي توافق عام 1906 (¬3). وسليمان هو سليمان الجوخَدار العالِم المعمَّر، الذي كان مفتي الشام قبل الحرب الأولى وكان رئيس محكمة التمييز وكان وزير العدل، وسيأتي الكلام عنه وعن غيره ممّن ذكرت اسمه وأرجأت حديثه. ورشدي هو (على ما أظن) رشدي بك الشمعة، وشفيق هو شفيق باشا المؤيّد العظم، وكان ممّن شنقهم جمال باشا، ¬

_ (¬1) كلمة «زي» أصلها «سِيّ»، ومنها جاء قولهم «لا سيما»، وهي عربية بمعنى «مثل». (¬2) جمع مبعوث، ولعله فارسي الأصل، ومعناه «مجلس المبعوثين». (¬3) ممّا ذكروا من الفروق بين سنة وعام أن الأولى للسنة القمرية والعام للسنة الشمسية.

ومحمد هو محمد فوزي باشا العظم، والد خالد بك رئيس وزراء سوريا مرّات. وفي ذهني أن شيخ مشايخنا الشيخ عبد المحسن الأسطواني كان من النوّاب في المجلس العثماني، ولست أحقّق ذلك ولا أدري متى كان، وللشيخ عبد المحسن حديث طويل يجيء -إن شاء الله- عندما أتكلم عمّن عرفت من أعلام الرجال. وفي أوائل حكم الفرنسيين ألّفوا مجلساً أظنّ أنهم سمّوه المجلس التشريعي، لا أذكر عنه إلا أنه كان في البهو الغربي من سراي المرجة وأن الناس قاطعوه وقاطعوا من دخله. وفي ذاكرتي صورة واضحة هي أن إمام الشافعية في الأموي، الشيخ عبد الحميد العطار، كان قد رضي أن يكون عضواً فيه، فترك الناس الصلاة خلفه وانقطع هو عن الإمامة، ثم عاد فجأة، فلما سمع الناس صوته وهو يكبّر تكبير الإحرام لصلاة العشاء سلّموا وتركوه. وأستغفر الله لهم من هذا العمل، فإنه لا يجوز! ثمّ كان أول انتخاب لأول مجلس، هو المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور. وقد حدثتكم من قبل عمّا صنع الجنرال غورو، وهو ما يصنعه جَهاراً كلّ غاصب مستعمر وما يصنعه سراً كل عدوّ أو عون للعدوّ، وهو تفريق جماعتنا وإيقاع الفُرقة بيننا، والكيد لأخُوّة الإيمان بإحياء العصبيات الجاهلية التي تجعل العرب عَرَبَيْن (كما يقول المثل) بل ثلاثة أو أربعة ... واللهُ ما أراد إلا أن يكون العرب المسلمون فرعاً واحداً من دوحة الأمة المسلمة الواحدة. قسّم غورو البلاد التي عرفتها أيام طفولتي ولاية عثمانية (أو بعض ولاية) قسمها فجعل منها خمس حكومات:

حكومة دمشق، وحكومة حلب، ولبنان الكبير، والعلوييين، والدروز. وما لبنان الكبير؟ إنه جبل لبنان وما ضُمّ إليه من مدن الساحل ومنها بيروت، والأقضية الأربعة التي أُخذت من سوريا، ومنها طرابلس والبقاع. ولطالما صرخنا في المظاهرات وكتبنا في الصحف والمنشورات نطالب بالأقضية الأربعة، ثم طال الأمد فنسيناها. ولما وهب الفرنسيون قطعة من أرض الشام للحكومة التركية (الكمالية)، هي لواء الإسكندرون، طالبنا بها وصِحنا وكتبنا ونظمنا القصائد والأغاني، ثم نسيناها. كما صِحنا وطالبنا وشكونا إلى مجلس الأمن لمّا عدا اللصوص العادون على حيفا ويافا وعكّا، ثم نسينا عكّا ويافا وحيفا وجعلنا أكبر همّنا وأقصى مطالبنا بعد نكبة 1967 المطالبة بإزالة آثار العدوان، المطالبة باللسان لا بالسيف والسّنان، أي إبقاء ما كان على ما كان. ثم كانت فتنة الدعوة إلى السلام؛ أي أن يصطلح صاحب البيت مع الحرامي، فيترك له ما سرقه أولاً ليردّ إليه ما سرقه ثانياً، فأمسك اللص بالسرقتين وزاد عليهما سرقة بعض أرض لبنان! وما السبب في هذا كله؟ السبب أن المرء إنْ طرقه اللص طلب شرطة النجدة، والشرطي هنا حليف الحرامي يمدّه بالمال وبالسلاح ليحمي أمنه. أي أن من حقّ اللص إن دخل داراً غير داره وسرق ما فيها وطرد أهلها، من حقّه بمنطق هذا الشرطي أن ينام آمناً فلا يزعجه صاحب الدار عن منامه بحركته أو بكلامه!

أعود إلى حديثي: لم يسكت أهل الشام على احتلال أرضهم وتقطيع أوصال بلادهم، وما ناموا على الضيم ولا رضوا بالهوان، وإنْ هم هدؤوا قليلاً فإنه هدوء البركان، ما انطفأت في قلبه النار ولكن وقفت لتعود فتنطلق، ولا يطمئنّ إلى البركان إذا هدأ إلاّ الأحمق المغرور. ما استراحوا يوماً ولا أراحوا المستعمرين حتى اضطروهم إلى إنشاء «الاتحاد السوري» الذي يضمّ حكومات (!) دمشق وحلب والعلويين، ثم اقتصر على دمشق وحلب. وكانت «الدولة السورية» التي وُلدت في 15/ 12/ 1924 ولم يرضَ بها أحد. واستمرّ النضال وقامت الثورة، ثم جاء المسيو دو جوفنيل مفوضاً سامياً، وأعلن أن السّلم لمن أراد السّلم والحرب لمن أراد الحرب، وما عرض السّلام إلا مضطراً، ولو قدر أن يُخمِد الثورة حرباً ما طلب ذلك سلاماً. وكانت الانتخابات، وجاءت «الجمعية التأسيسية» في نيسان (إبريل) سنة 1928 لوضع دستور للبلاد ... وللحديث بقايا. * * *

من الصحافة إلى التعليم

-45 - من الصّحافة إلى التعليم لا أزال في حديث الانتخابات. وحديثها طويل، كثير الفصول مديد الذيول، والناس يرون في الانتخابات أسّ الديموقراطية وبابها الذي يُبلِغك محرابها. قلت «الديموقراطية» وفي عربيتنا ما يُغني عنها ويسدّ مسدّها، لكن الناس ألفوا ترديد كلمات غريبة عنا تقليداً لغيرنا، ممّن نحسبهم أرقى منا ونحسب أنهم أهل الحضارة من دوننا، لذلك نتخذهم أئمة ونقف من ورائهم «مقتدين» بهم. وأنا لا أرتضي هذا التقليد لكن أقول الكلمة التي يفهمها الناس. وما الديموقراطية؟ إنها كلمة واحدة من كلمتين إغريقيتين: ديموس (Demos) ومعناها الشعب، وكراتوس (Kratos) بمعنى السلطة. ونحن نقرّ سلطة الشعب ونعرف له حقّه باختيار رئيسه، وهذا هو أسلوب «البيعة»، ولكنا لا نرى له ولا لرئيسه السلطة المطلقة، لأن لنا -معشر المسلمين- قانوناً أساسياً، دستوراً إلهياً ليس لأحد من البشر مخالفته أو تبديل أحكامه الثابتة. والأحكام في هذا الدستور

ضربان: ضرب لا يُتصوَّر تبدّله بتبدّل الأزمنة والأمكنة، كالعدل في القضاء والشورى في الإدارة، وقسم لا يُنكَر تبدّله بتبدّلها، وهو الطريق إلى إقرار العدل وتحقيق الشورى. فتشكيل المحاكم ودرجاتها، والمرافعات وأصولها، وأسلوب الشورى وطريقتها، وكل ما فيه المصلحة للناس والرفعة للوطن ولم يَرِدْ في تحريمه نص، فلنُوّاب الشعب أن يأمروا به ويُقِرّوه وأن ينهَوا عن ضدّه ويمنعوه. بقي أن نسأل: كيف نختار من ينوب عن الشعب وينطق باسمه؟ من يبحث عن مصلحته ويبيّن أين توجد هذه المصلحة؟ إنهم «أهل الحلّ والعقد». وليس لهم عندنا نظام محدّد، ولكن كل واحد منا يستطيع أن يكتب قائمة بأسمائهم. ألا تستطيع أن تسمّي ثلاثين من أهل بلدك ممّن يعرف الناس أقدارهم ويتّفقون على الثقة بهم والاطمئنان إليهم، وإن قالوا استمعوا لقولهم، وإن رأوا رأياً رجعوا إلى رأيهم، أو علّقوا عليه وعدّلوا فيه ولكن لم يهملوه ولم يطّرحوه؟ من علماء الدين، ومن المربّين والمعلّمين والوجهاء والمقدَّمين، وكلّ من كان من أهل الصلاح والخير: من التجار ورجال الأعمال، ومن الأطباء والمحامين، والمتقاعدين المجرّبين من القضاة والموظفين، وأمثال هؤلاء ممّن عُرف بالاستقامة والأمانة وصحّة العقل والحرص على مصلحة البلد وعلى رضا الله. هؤلاء هم «أهل الحلّ والعقد» الذين يختارون الحاكم، خليفةً سمّيناه أم أمير المؤمنين، فليس المدار على الاسم ولكن على المسمّى. هذه هي «الديموقراطية» المبصرة. أما «الانتخابات» بصورتها

التي نعرفها فهي الديموقراطية العمياء، الحقّ فيها مع مَن هم أكثر عدداً لا مع من هم أقوم سبيلاً وأقوى دليلاً. تُهدَر فيها الكفايات وتُعطّل المزايا، ويستوي عند «التصويت» القاضي واللصّ، وإمام المسجد وسارق الأحذية، وأستاذ الجامعة وناطور الماخور؛ كل منهم له صوت، ولا يَرْجَح في الميزان صوت على صوت. فإن رأى الطبيب الجرّاح أن المريض محتاج إلى عملية عاجلة إن تأخّرَت مات، ورأت «الأكثرية» من الموظفين الإداريين في المستشفى والممرّضين والخدم رفض العملية، كان الحقّ في النظام البرلماني معهم والرأي لهم، ولو مات المريض! وإن قرّر ربان الطيارة الهبوط هبوطاً اضطرارياً لاختلال المحرّك أو نفاد الوقود أو سوء حال الجوّ، ورأت أكثرية الركاب الاستمرار في الطيران، كان الحق معهم والرأي رأيهم، ولو سقطت الطيارة وتحطمت. هذا هو النظام البرلماني؛ يضيع فيه علم المجرّب وخبرة الخبير، ويستوي فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فإن انضمّ إليه ما ابتُدع في بعض البلدان من تخصيص نصيب معيّن من مقاعد المجلس للعُمّال والفلاّحين، ولو كان في المرشَّحين مَن هو أحقّ بالنيابة وأقدر على حمل تبعاتها والنهوض بأعبائها ... كان ذلك هو النزول إلى الدرك الأسفل من «نار» الإفساد. لا أقول هذا كرهاً بالعمال والفلاحين. لا؛ وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، فالعامل والفلاح هما يدا الأمة إذا كان العلماء هم الرأس الذي يفكّر وكان الأدباء هم القلب الذي

يحسّ، ولا يصلح جسد بُترَت يداه ولو كبر عقله واتسع قلبه. بل لأن كل حكيم منصف يحدّد الغاية ثم يبتغي إليها الوسيلة، فإنْ مرض ولده لم يأخذه إلى المحامي ولو كان أكبر محامي البلد، بل يأخذه إلى أقرب طبيب، وإن كانت له قضية في المحكمة لم يستشر الطبيب ولو كان أحذق الأطباء بل يراجع المحامي، وإن انخرق دولاب السيارة لم يُفِدْه طبيب ولا محامٍ، لم ينفعه إلاّ «عامل البنشر»، أي مرقّع إطارات الدواليب. فما الغاية من افتتاح المجلس النيابي وما عمل النائب فيه؟ إن عمله وضع القوانين على ألاّ تخالف دستور البلاد، لا سيما إذا كان منزَّلاً من السماء، فهل يقدر العامل والفلاح على وضع القوانين أو مناقشة مشروعاتها؟ إن الحكمة هي أن تضع الشيء في موضعه والرجل في مكانه، وإلا كنت كمن يلبس بنطاله بيديه ويدخل كُمَّي ردائه في رجلَيه ويعلّق حذاءه في عنقه ويمشي حافياً! وإن من أمارات الساعة وعلامات اقتراب القيامة أن يوسَّد الأمر إلى غير أهله، وأن يكلَّف الرجل غير العمل الذي أتقنه وأن يوضع في غير الموضع الذي يصلح له. ولكنا لمّا فُتِنّا بهذه الحضارة العصرية وأخذناها بكل ما فيها، حتى ولو بان عيبه وبدا فساده، أخذنا النظام البرلماني. وكان بالإمكان تنظيم اختيار أهل الحلّ والعقد ووضع القواعد والضوابط لهذا الاختيار، فلا يبقى فوضى كما هو الآن، ولا نحمل معايب هذه الانتخابات. وليت هذه الانتخابات جرت عندنا كما تجري عندهم! ما سمعنا بانتخابات تُزوَّر في إنكلترا

أو فرنسا فتُرمى صناديقها وتوضع في مكانها صناديق معَدّة من قبلُ، فيها أوراق ما سطرها المنتخبون ولكن أملاها الحاكمون حتى صارت نتيجتها معروفة قبل أن تُجرى، ونسبة الأصوات التي نالها الناجحون حُدّدت قبل أن تكون الانتخابات، لا سيما في «الاستفتاء» الشعبي العامّ. لقد أقبل ديغول عليه وأكثر اللجوء إليه فسقط فيه، وهو الذي أنهض فرنسا من سقطتها وردّ إليها قوتها ومنزلتها، كما سقط تشرشل الذي صنع لإنكلترا ما لم يصنعه لها إلا قليل في تاريخها الطويل. وما جرى استفتاء عندنا إلا كانت نتيجته (المهيّأة من قبل) تسعمئة وتسعة وتسعين وتسعة أعشار من كل ألف من الأصوات! المسرحيات الهزلية يدَعون فيها شيئاً من «المجهول» ليرغب المشاهدون في علمه، يُبقُون فيها «عقدة» يتشوّقون إلى حلّها؛ هذا ما يقتضيه التأليف المسرحي، وهذه مهازل (كوميديات) جانبت قواعد التأليف كما جانبت طريق الحقّ، فلم تبقَ فيها «عقدة» لأنها هي ذاتها عقدة العُقَد. كلّ خديعة فيها خادع ومخدوع، والخادع هنا معروف فمن المخدوع؟ الشعب؟ ما في الشعب مَن لا يعرف الحقيقة ويسخر منها، ويتّخذ من حديثها ما يملأ بذكره مجالسَه ويضع لها من النكات ما يسلّي به نفسه. فلَمْ يُخدَع الشعب. فمَن إذن؟ الأجانب؟ إن أكثرهم له من «استخباراته» ومن وسائل إعلامه ما يدرك به الحقيقة كلها. ولكنهم يمشون مع مصالحهم، هي دينهم، فربما أظهروا أنهم صدّقوها لأن مصلحتهم في أن يظهروا أنهم قد صدّقوها. فهل يخدعون الله، وهو المطّلع على السرائر والبواطن العالِم بالظواهر والخوافي؟

لقد شهدت انتخابات كثيرة، وخفّ عقلي مرة فدخلت (سنة 1947) واحداً منها، وسيأتي حديثها. فما رأيت فيها كلها انتخابات صحيحة إلا مرتين. ولقد وصلت في الحلقة السابقة من ذكرياتي إلى «الجمعية التأسيسية»، أي المجلس النيابي الذي اجتمع سنة 1928 لوضع دستور البلاد. وقد أقرّت الدستورَ الذي وضع مشروعَه فوزي الغزّي، الأستاذ في كلية الحقوق، والذي شغل الناسَ موتُه قتيلاً أكثر ممّا شغلتهم حياته عالماً. لقد كانت حبّة الأستركنين التي أودت به المجالَ الأول لأحاديث الناس في مجالسهم ومقالاتهم في صحفهم ومجلاّتهم زمناً طويلاً. وفي قصّة موته عِبرة أذكّر بها، وأرجو ألاّ أسيء إلى أحد بإعادة ذكرها. لقد كانت له زوجة ذات نسب وذات جمال قليل المثال، وكان له ابن أخ شابّ مكتمل الشباب، أبقاه قريباً منها ثم اشتغل بعمله الوطني عنها، وهي شابّة في عزّ الشباب، فأدخل بذلك الشيطان بينهما، فأغراهما بإزاحته من طريقهما لتتمّ لهما متعة حبهما، فذهب هو إلى لقاء ربه، وذهبا إلى السجن فقضيا فيه أكثر عمرهما. أقرّت الجمعية التأسيسية الدستور وجعلته كدساتير الدول الحرّة المستقلّة، اقتبسته من أحدثها وأتَمّها، فاشتمل على كل ما يحقّق السيادة الكاملة لنا على أرضنا واستقلالنا التامّ في إدارة شؤوننا، ولكنه لم يراعِ أصول ديننا ومنهج ربنا في التزام شريعته التي لا يكون المسلم مسلماً إلا باتّباعها، وفي وحدة الأمة المسلمة وربطها برابطة الإيمان التي صرّح بها القرآن، لا بروابط اللسان والأوطان والبلدان وكل ما أوحى به الشيطان إلى أعدائنا

ليفرّقوا به جمعنا ويُذهِبوا به ريحنا. وجاء الدستور في مئة وخمس عشرة مادة، واعترض الفرنسيون ستّ مواد منها وأصروا على طلب حذفها، هي التي نسيَت وجودهم في بلادنا وقيامهم على رؤوسنا وتصرّفهم بمقاليد أمورنا، وأصرّت الجمعية التأسيسية عليها. واشتدّ النضال، وتحرّك الشعب وما كان قد سكن، وكانت المظاهرات وكان الصدام مع قُوى الأمن التي كانت في الحقيقة قوى لإذهاب الأمن ولبثّ الذعر. وكان العهد بالثورة قريباً فخافوا أن تعود فتشتعل نارها، فتركوا الدستور كما هو ولكنهم أضافوا إليه مادة تقيّد يديه ورِجليه، هي «المادة 116» التي صارت مثلاً مضروباً وكُتِبت عنها مقالات ونُظمت قصائد، ولشوقي فيها قول لم أعُد أحفظ منه إلا شطر بيت وهو «يَبقى الكتابُ وليس يبقى المُلحَقُ»، يعني بالملحَق هذه المادة وبالكتاب الدستور. كان ذلك سنة 1928، وأنا أتكلم الآن عن انتخابات سنة 1931 التي كانت في اليوم العشرين من شهرها الأخير، تلك التي افتُضح تزويرها فهاج الناس عليها وهاجموا مراكزها، واتصلت مواكب المظاهرات في الاحتجاج عليها والمصادمات بين المتظاهرين وبين الجنود المسلحين. الجنود الذين يحملون البنادق وتحميهم المصفّحات والدبّابات، وما للمتظاهرين من سلاح إلا الحجارة والمفرقَعات (¬1)، وهي قنابل بدائية يصنعها ناس من أهل الشام، مهروا في صنعها من الخرق والبارود والحصى وأشياء يكون لها دويّ عظيم وأذى قليل. وكان أول ما يعبّر به ¬

_ (¬1) وضع الناس لها هذا الاسم، لا أدري مَن أول من سمّاها به.

المتظاهرون عن غضبهم عربات الترام الذي أنشأته شركة بلجيكية من قبل مولدي، مدّت له خطّين: خطاً من ميدان المرجة (الذي سُمّي بساحة الشهداء) إلى المَيدان (وكان يعرف قديماً بميدان الحصى)، وخطاً من المرجة إلى المُهاجرين على سفح قاسيون، يتفرّع منه عند الجسر الأبيض على نهر تورا (أكبر أبناء بردى) فرع إلى حيّ الشيخ محيي الدين (المنسوب إلى محييالدين بن عربي، وهو في الفلسفة وفي الكتابة ذروة من الذّرى ولكن في كتبه أشياء هي -بمقياس الدين- كفر لا شك فيه، وليس هذا موضع الكلام على ابن عربي)، وطول كل فرع من فروع الترام الثلاثة نحو ثلاثة أكيال (كيلومترات). ثم مُدّ فرع إلى دوما قصبة الغوطة (وقد اتصلت بدمشق الآن وصارت حياً من أحيائها) طوله ثلاثة عشر كيلاً. فكلّما هاج الناس أو تظاهروا أو صادمتهم الشرطة والدرَك أقبلوا على عربات الترام يحرقونها، لأنها مِلك لبلجيكا تحميه فرنسا جارتها، وكلتاهما من دول الاستعمار التي تعتدي على الناس وتتسلّط بالباطل عليهم، وتحكم بلادهم رغم إرادتها وتأكل خيراتها من دونهم، فرنسا في سوريا ولبنان وبلاد الشمال الإفريقي وفي الهند الصينية وبلاد غيرها، وبلجيكا في الكونغو تحكم قطراً أكبر منها بعشرات المرات، كما كانت تحكم هولندا أندونيسيا؛ هرّ شرس متوحش يريد أن يبتلع جَملاً ... أفرأيتم جملاً يبتلعه هرّ؟! صدر أمر الكتلة الوطنية، بتعطيل الانتخابات، وتولّت التنفيذَ القوى الثلاث التي كانت تأتمر بأمرها، قوة رجال الأحياء،

وقوة الشباب، وقوة الطلاّب التي كنت أقودها. وكانت معارك أصيب فيها كثير من الناس بالجروح، ومن أفظع ما ارتكبناه (أسأل الله التجاوز بكرمه عنه) أننا هدمنا مصلّى صغيراً في دوما، ذلك أن الانتخابات كانت تجري في المدارس وفي بعض المساجد، وكان في هذا المصلّى مركز من مراكز الانتخابات فأدّى تعطيل الانتخابات فيه إلى هدمه. على أنني أحمد الله أن أخي ناجي خلفني في قضاء النَّبْك وقضاء دوما، ثم صار قاضي القُنَيطرة، فألهمه الله العمل على إنشاء المساجد ووُفّق في ذلك، وتمّ على يديه وبنفقة المحسنين من المسلمين، يتولّى جمع المال منهم وبناء المساجد به لجانٌ فيها رجال مؤمنون أمناء موثوق بهم، تمّ على يديه بناء أكثر من عشرين مسجداً كبيراً، فعوّض الله بها على أهل دوما المصلّى الذي انهدم. * * * بقيت جريدة «الأيام» وأمرها كل يوم إلى ازدياد حتى صارت لسان الأمّة، المعبر عن أمانيها، المصرّح بمطالبها، المدافع عن حقّها، وحتى ضاق بها الفرنسيون فمنعوا صدورها. وكانت تتوقع المنع يوماً، لذلك حصلت على ترخيص بإصدار جريدة أخرى باسم جريدة «اليوم»، واستمرّت «اليوم» تسير على نهج «الأيام»، ما تبدّل فيها إلاّ الاسم. فصبروا عليها قليلاً ثم منعوها بتاتاً، وختموا بابها بالشمع الأحمر وأخذوا رئيس تحريرها، فذهبت معه، فحاول أن يردّني وأفهمني الشرطي أنه لا يريدني، ولكن لم تَطِبْ نفسي أن أتركه وأرجع فركبت معه السيارة التي أخذوه بها حتى وصلنا إلى دار المندوبية، حيث يقيم مندوب المفوض

السامي (أي نائبه في دمشق)، وقد كانت في موضع القصر العدلي الآن، فأمسكوا به فأدخلوه ومنعوني من الدخول. أُغلقت الجريدة التي أستمدّ منها ما أعيش به وأعيّش أمي وإخوتي. وقد عملت من قبل في جرائد أخرى لم أستفِد من بعضها مالاً، وما استفدته من سائرها (أي باقيها) كان أقلّ من حد الكفاية، وعلّمت قبل ذلك في مدارس ابتدائية أهلية، هي الأمينية والجوهرية والكاملية والتجارية، وألقيت دروساً في تاريخ الأدب العربي في الكلية العلمية الوطنية، وأصدرت كتاب «بشار بن برد» و «الهيثميات» الذي جمع مقالاتي التي كنت أكتب في ذيلها «أبوالهيثم» يوم لم يكن في دمشق من أعلم أن اسمه هيثم، وأصدرت «رسائل الإصلاح» ورسائل «سيف الإسلام». وكنت قبل ذلك محاسباً وحاولت أن أكون تاجراً، فخرجت من ذلك كله صفر اليدين ما معي ثمن عشائي وعشاء من أعول من أهلي، فماذا أعمل الآن؟ ماذا أعمل وقد أُغلقت في وجهي الأبواب وسُدّت الطرق؟ لقد صار لي اسم في الناس وذكر في أهل الأدب، ولكن هذا الاسم وهذا الذّكر لا يُشترى به رطل من الخبز! هنا جاءني رفيق لي اسمه غضنفر سَنْجَقْدار، حفظت اسمه لغرابته وندرته، لا أذكر الآن من أين عرفته ولا أين التقيت به، فقال لي: هل تقبل وظيفة في الحكومة؟ لقد كان آخر ما أتصور أن أعمله هو أن أكون موظفاً في حكومة ما فتئنا منذ أمسكنا الأقلام وركبنا المنابر ننقدها ونتكلم عنها، ونراها عوناً للعدوّ وحلفاً للاستعمار وحرباً على الوطن،

وكنت أنكر على من يقبل وظيفة فيها. فهل أكون أنا موظفاً؟ تمر على المرء ساعات اضطرار لا يبقى له فيها خيار، وهل أملك أن أرفض الوظيفة ولم يبقَ لي ولا لأهلي مورد، وليس معي مال، ولا لي في غيرها أمل. وكان من سياسة الفرنسيين أنهم يقطعون بالوظائف الألسنة ويكفّون عنهم بها الأقلام، كنت أعلم هذا وأعلم أني لو طلبت وظيفة كبيرة لأُعطِيتُها، ولكني قنعت من الشرّ بأقلّه، ورضيت أن أكون معلّماً كما كان كثير من رفاقي: سعيد الأفغاني وجميل سلطان وزكي المحاسني وأنور العطار، وكما كان بعض مشايخي: الشيخ محمد بهجة البيطار والشيخ زين العابدين التونسي والشيخ حامد التقي والشيخ (الطبيب) رفيق السباعي، وكثير غير من ذكرت من هؤلاء وأولئك، كانوا كلّهم معلّمين في المدارس الابتدائية وما أنا بأفضل منهم، بل كانوا هم أفضل مني، رضوا بأن يكونوا موظفين، فما لي لا أرضى بما رضوه لأنفسهم؟ وقضيت ليالي طوالاً لم أعرف فيها ما طعم النوم، أنصب ميزاناً في ذهني أضع في كفّة منه آمالي وأمانيّ وأضع في الكفّة الأخرى حاجات نفسي وأسرتي، هل أضحّي بالآمال والأماني أم أهمل واجبي وأضيّع أهلي؟ لقد كان امتحاناً صعباً، ولكني أنظر إليه اليوم من وراء إحدى وخمسين سنة فأجدني قد نسيت صعوبته، لذلك أعجز عن وصفه. إننا كالذي يمسك المنظار (التلكسوب) ينظر فيه فيرى الصغير كبيراً والبعيد قريباً، فإن قلبنا المنظار ونظرنا من عدسته الكبرى أبصرنا الكبير يصغر والقريب

يبعد، وهذا مثال الماضي والمستقبل. لو جاءني من يقول لي: أمنحك منيحة، داراً أعْمرك (¬1) إياها، تسكنها خمسين سنة تردّها بعدها، لرأيت ذلك أمداً بعيداً يسرح الأمل خلاله ويعجز التصوّر عن إدراك مداه. خمسون سنة؟ ما أطولها! ولكني أذكر الآن ما كان قبل خمسين سنة فأقول: ما كان أقصرها! إني أراها كأنها أمس القريب. تنظر إلى رمضان في أول يوم منه فتراه طويلاً وتفكر كيف تصومه، فإن نظرت إليه الآن بعدما مضى وانقضى أحسست كأنه كان ساعة واحدة. إن أجلّ فائدة استفدتها من كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي لمّا نشره أخي وكتبت مقدمته الطويلة هي أنه: ما منا إلا مَن نال لذّة في معصية أو حمل ألماً في طاعة. في رمضان هذا الذي صمناه من قريب حملنا مشقّة الجوع في يومه الطويل والعطش في حرّه الشديد، وكنا نشتهي في النهار كوباً من الماء البارد نشتريه بالثمن الوفير وطَبَقاً من الطعام الشهيّ ندفع فيه الكثير، فما الذي يبقى من تعب الصيام بعد أن يؤذّن المغرب فنأكل ونشرب؟ والذي غلبَته نفسه وسيّره شيطانه، فأفطر في رمضان وأعطى نفسه شهوتها وأتبعها لذّتها؟ ماذا بقي الآن من هذه اللذّة ومن ذلك الألم؟ وتَصوّرْ ساعة الموت وفراق هذه الدنيا، تجد أن اللذّات ¬

_ (¬1) هذه هي العُمرى، وتسمّى في القانون المدني «حق الانتفاع».

المحرّمة ذهبت كلها ولكن بقي عقابها، ومتاعب الطاعات ذهبت كلها ولكن بقي ثوابها. هذه الفائدة التي استفدتها من ابن الجوزي أتمنى لو أني أذكرها دائماً، وهيهات ما دام الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء وحب العاجلة، ما دامت كلها موجودة! * * * واستجبت لهذا الرفيق، وقبلت الوظيفة. وصدر قرار من وزير المعارف (أو صدر باسمه، فكان له الاسم ولغيره الفعل) بتعييني معلماً في السلمية، وهي على سِيف البادية بين حمص وحماة إلى الشرق منهما، تذهب إلى حمص إن شئت أو إلى حماة ثم تشرّق حتى تبلغها. وكان أمر «معارف» حمص وحماة بجميع مدارسهما إلى مفتّش واحد، كان أستاذاً لنا في مكتب عنبر، ومعه بضعة موظفين، وكنا ونحن تلاميذه نتحدث عنه بأنه ممّن يجاري الفرنسيين ويداريهم. وذهبت أتسلّم العمل، وكان قد بقي من السنة الدراسية شهران وأنا طالب في السنة الثانية من كلية الحقوق، فركبت السيارة إلى حمص، وكانت تلك أول مرة أزورها فيها، ونزلت فندقاً فيها اسمه «رغدان» قالوا إنه لا يزال باقياً كما هو إلى الآن، فبتّ فيه وحيداً. فلما كانت الغداة قصدت السلمية، وهي -كما كانت من قديم- بلد الإسماعيليين. والإسماعيلية أم الفرق الباطنية، وهي الآن فرعان: البُهَرة وأتباع أغاخان.

وفُتحت في كتاب حياتي صفحة جديدة، وما أكثر صفحات هذا الكتاب الذي لم تُكتَب خاتمته بعد، وإن دنا موعدها وقرب مكانها. اللهمّ اجعلها خاتمة حسنة يا رب. * * *

أمي وأبي

-46 - أمّي وأبي يقول لي ناس: لماذا تُكثِر الحديث عن نفسك؟ أتحدّث عن نفسي لأني أديب، وهذا أسلوب من أساليب الأدباء ومذهب من مذاهبهم. ولقد قلت في مقالة لي منشورة في الرسالة سنة 1937: "إني حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين أصف شعوري وعواطفي أصف عواطف كل من كان في مثل حالي وشعوره، كأستاذ التشريح لا يشقّ صدر كل حيوان من حيوانات المختبَر بل يشقّ الصدر والصدرَين ليري الطلاّب مكان القلب وحركته ويشرح لهم عمله، لأن القلوب التي لم يروها لا تختلف عن القلب الذي شقّ عنه فرأوه. وهذا من عجائب قدرة الله ونظامه العجيب في خلقه، إذ جعل الناس مختلفين وهم متشابهون ومتشابهين وهم مختلفون. بَرَأهم على الوحدة في الوضع والتنوّع في الجمال، كلّ عين ككلّ عين في تركيبها وصفتها، وما عين مثل عين في شكلها ومعناها وجمالها" (¬1). ¬

_ (¬1) من مقالة «أنا والنجوم»، وهي في أول كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

بدأت حلقة اليوم من الذكريات بهذه الفقرة من مقالة لي نُشرت من أكثر من خمس وأربعين سنة لئلا يقول قارئ من القراء إني من حبي لنفسي أشغل الناس بحديثها، ولما لهم هم ولحديثها؟ حديثي عن نفسي حديث عنكم ولكم وليس لي أنا وحدي. إني أكتب اليوم عن أمي، ولكن كل واحد منكم سيقرأ فيه الحديث عن أمه هو. ألم يقُل سبنسر إن الجميع يبكون في المآتم، ولكنّ كلاًّ يبكي على ميّته؟ فمن قعد يقرأ هذه الحلقة وله أم فليتدارك ما بقي من أيامها، لئلا يصبح يوماً فلا يجدها ولا يجد ما يعوّضه عنها. وإن كانت عجوزاً أو كانت مريضة أو كانت مزعجة بكثرة طلباتها، فاذكر أنها إن احتاجت إليك اليوم فلقد كنت يوماً أحوجَ إليها، وإن طالبَتك أن تقدم لها من مالك فقد قدّمَت لك من نفسها ومن جسدها، وأنها حملتك في بطنها فكنت عضواً من أعضائها يتغذى من دمها، ثم وضعتك كرهاً عنها، انتُزِعتَ منها انتزاع روحها. أما أبصرت يوماً حاملاً في شهرها التاسع، بطنها إلى حلقها لا تستطيع أن تمشي من ثقل حملها ولا تستطيع أن تنام؟ وإن لم ترَ بعينك امرأة تلد أفما سمعت صراخها من ألمها؟ ألم يبلغك ما تقاسي وما تتعذّب؟ لو سبّب لك إنسان عُشْر هذا العذاب لأعرضت عنه ولهجرتَه، هذا إن أنت رفقت به فما انتقمت منه ولا آذيتَه، ولكن الأم تنسى بعد لحظات من خروج الولد ألَمَها، ثم تضمّه إلى صدرها فتحسّ كأن روحها التي كادت تفارقها قد رُدّت إليها، وتُلقِمُه ثديها ليمتصّ حياتها، فيقوى بضعفها ويسمن بهزالها، أو يمدّها الله بقوّة من عنده فلا

تضعف ولا تهزل ويقوى هو ويسمن. وإن ضقت بطول حياة أمك، تخفي ذلك في أعماق نفسك وتنكره بلسانك، فقد كانت ترى فيك حياتها، إن تبسّمتَ أحسّتْ أن الدنيا تَبْسمُ لها والأماني قد واتتها، وإن بكيتَ بكى قلبها واسودّ نهارها، وإن مرضتَ هجرَتْ منامها ونسيَتْ طعامها، ترعاك ساهرة حتى تصبح، فإن أصبحت ظلّت ترعاك حتى تمسي. إنك لو أحببتها بقلبك كله لم توفّها إلا واحداً من المئة ممّا أولتك هي من حبها. وإن كان لك أب شيخ كبير محتاج إليك، فاذكر أنه طالما تعب لتستريح أنت وشقي لتسعد، ما جمع المال إلا لك وما خسر ماضيه إلا ليضمن مستقبلك، وأنه كان يعود من عمله محطَّماً مكدوداً فتَثِب إلى حِجره وتقول له: بابا، وتمدّ يديك الصغيرتين لتعانقه، فينسى بك التعب والنصَب، ويرى المسرّات كلها قد جُمعَت له والمتاعب كلها قد نأت عنه. واذكر أنه ما زاد من عمرك يوم حتى نقص من عمريهما مثله، ولا بلغت شبابك حتى ذهب شبابُهما، ولا نلت هذه القوة حتى نالهما الضعف. أفئن بلغت مبلغ الرجال كان جزاءَهما منك الصدودُ والنكران؟ إن الإنسان يربّي كلباً فيفي له، وحماراً فلا يرفسه، ويُطعم القطّ فلا يَعَضّه، بل إن من الناس من يتألّف صغارَ الأسود والنمور وأنواع الوحش فتأنس به وتأوي إليه وتلحس -علامةَ الشكر- يده. ويُفني الوالدان نفسيهما في الولد فينسى فضلَهما ويجحد يدهما؟ يا عجباً! أيكون الكلب والحمار والقط والنمر أوفى من الإنسان؟!

وقد تجد في الناس من يُظهر لك من حبّه أكثر ممّا تُظهِر الأم ويُظهِر الأب، ولكن منهم من يحبك لمالك أو لجمالك أو لجاهك وصلاح حالك، فإن ساءت الحال أو ذهب الجمال أو قلّ المال أعرض عنك ولم يعُد يعرفك. أمّا الذي يحبّك لذاتك ويبقى على حبّك مهما تبدّلَت الحال بك فهو أمك وأبوك، لا تجد مثلهما حتى في الزوجات. ومن الزوجاتِ الوفيّاتُ الصالحاتُ الصابراتُ الراضيات، لا يتخلّين عن الرجل ولو مرض وذهبَت صحّته، ولو افتقر وضاع ماله، ولو سقطت منزلته في الناس فهجروه. ولكن هذا في بعض الزوجات، أما الأمهات فهو فيهن جميعاً بلا استثناء. فمن كانت له أم أو كان له أب فقد فُتح له باب الجنّة، فمن الذي يمرّ بباب الجنّة مفتوحاً فلا يدخلها؟! إني أكتب اليوم عن موت أمي، وقد كتبت من قبل عن موت أبي، وإن كنت أتمنى أن أخسر تسعة أعشار ما أملك من مال أقتنيه وكُتُب ألّفتها، و «شهرة» نلتها ومناصب تقلّدتها، وأن تكون قد بقيت لي أمي وبقي أبي. * * * إني لا أزال في ذكريات سنة 1931. في هذه السنة رأيت أشدّ يوم مرّ عليّ في عمري، وهو يوم 14/ 7/1931 (25 صفر 1350) الذي بقيَت مرارته في نفسي حتى جاء يوم أشد منه وأقسى هو يوم 17/ 3/1981، الأول ماتت فيه أمي في مستشفى كلية الطبّ في دمشق بإهمال جرّاح أخذناها إلى عيادته، وفي الثاني قُتِلت بنتي وهي وحيدة في بيتها في آخن في ألمانيا برصاص

مجرم معتدٍ اقتحم عليها بيتها، لم نعرفه فنثأر منه لكن الذي يعرفه ويعرف مَن أرسله لن يهمله. أستطيع أن أتحدّث عن اليوم الأول لأن مرور نصف قرن جعل الجرح يندمل وإن لم يلتئم، والألم يخفّ وإن لم يذهب، والقلم يتحرك في الكتابة عنه وإن لم ينطلق. أما الثاني فلا ... لا أستطيع؛ فالجرح فيه أعمق والألم أقوى، حتى إنه ليكاد يهوّن عليّ الأول. ومَن قال لكم إن الإنسان يحب أمه وأباه مثلما تحبه أمه ويحبه أبوه فلا تصدقوه. وكيف أكتب عنها وأنا كثيراً ما أغفل عن نفسي فأوغل -من حيث لا أشعر- في سبحات الخيال، فأتوقع أن أسمع الهاتف يرنّ فيُعلِمني أن خبر موتها لم يصحّ، أو أن آخذ جرائد الصباح فأجد فيها تكذيبه؟ بل ربما توهمت أني سأكلمها كما كلمتها قبل الحادث بساعات، فلما علمتُ أنها وحدها في الدار خفت عليها فراحت تطمئنني، بنفسيتها المتفائلة دائماً ولهجتها السريعة المتحمّسة دائماً، تخبرني أنها في أمان وأنّ الباب لا يُفتَح إلا إن سمعَت صوت الطارق وعرفَت شخصه. ما ظنت أن المجرم سيُرغِم جارتها على أن تطرق هي الباب ليدخل منه هو. بطل يحتمي بامرأة ... هذه هي بطولة المجرمين! * * * أعود إلى حديث أمي، أعود إلى المُرّ فراراً ممّا هو أمَرّ. أمّا حدث بنتي فما أحسب أني سأفتحه يوماً لأني لن أعيش حتى يندمل الجرح وينطلق القلم، فليبقَ المُصاب لي وحدي أتجرّع

عذابه وأرجو ثوابه (¬1). أعود إلى ذكر أمي، وما نسيتُها ولا غاب عني يومها. إني أرى تفاصيل الفاجعة كأنها «فِلم» يمرّ أمامي، بالعرض البطيء الذي يوضّح دقائق حركات الممثّلين وملامح وجهوههم، ولكنه لا يكشف خلجات نفوسهم لأن هذا شيء ما وصلت إليه صناعة الأفلام. لقد حدّثتكم عن موت أبي وكيف هبطنا فجأة من شارع في سفح الجبل إلى حارة من أفقر حارات البلد، ومن حياة رخاء وسَعة في الدار الكبيرة إلى دُويرة لا تكاد تصلح لسُكْنى الناس، وكيف كنا ننام على الأرض وكيف كان السقف يَكِفُ (¬2) من فوقنا في ليالي الشتاء. حملت أمي العبء كله، كانت أماً وكانت أباً، لم تجد ما تُدفئ به الدار فأدفأتها بعاطفتها، بحنانها. ألا يذكر كلٌّ منا دفء حنان الأم حين كانت تضمّه إليها في الليالي الباردة؟ ما كانت تملك إلا هذه العاطفة وهذا الحنان، ما ترك أبي مالاً في صندوق ولا وديعة في مصرف، وما كنا نعرف المصارف وأسلوب معاملتها. وكنت أنا أكبر إخوتي لم أكمل السابعة عشرة، وكنت لا أزال في الثانوية لا مورد لي ولا مهنة في يدي، وكان أخي ناجي لم يتمّ الحادية عشرة، وعبد الغني ابن ستّ، وسعيد ابن ثلاثة أشهر. ¬

_ (¬1) من شاء من القراء فليقفز من هنا إلى حديث الشيخ الباكي المُبكي عن فاجعته في ابنته في الحلقة 165 من هذه الذكريات، وعنوانها: «إن الشجى يبعث الشجى» (مجاهد). (¬2) وَكَفَ يَكِفُ، أي نزل منه الماء، على وزن وَعَدَ يَعِد.

وقد عرفتم أن أبي كان من صدور الفقهاء ومن الطبقة الأولى من المربّين والمعلّمين، ولكنه كان كأكثر المدرّسين والدعاة: ربما شغلته مدرسته ومسجده عن الإشراف الدائم على أولاده. كان يترك ذلك لأمي، فكانت تؤدّي الحقّ الذي تركه لها وائتمنها عليه أداءً كاملاً. وكان بيتنا -كأكثر بيوت الشام في تِلْكُم الأيام- لا يخلو من خصومات ومنازعات، وكان فيه حزبان: حزب جدّتي وعمّتي التي لم تتزوّج، والتي كان لها في حياتي أعمق الأثر وفي قلبي أكبر الحبّ، وكانت أكبر من أبي سناً، تحمل شهادة المدرسة الرشدية (أي المتوسطة) تاريخها سنة 1300هـ، وكانت مع أول فوج من المتخرجات في مدارس البنات التي أنشأتها الحكومة العثمانية في دمشق بمسعى من مربّي الجيل الماضي الشيخ طاهر الجزائري، وكانت هذه الشهادة عندي ثم ضاعت مني. وحزب أمي وأولادها، وكنت أنا -بالطبع- في حزب أمي. وكان الحزبان يتنازعان على كل شيء. وما كان شيء بحمد الله ناقصاً، وكان الخير كثيراً، ولكن أمي تدّخر منه لأولادها وهما تدّخران للضيوف، فيقع النزاع. وكنا نخوض المعارك فنظفر حيناً ونُغلَب حيناً، ولكنا في الحالين لا ننام حتى يأكل الفلق (¬1) والخيزران من أقدامنا! وقد نالني من تربية أبي ومن توجيهه الحظّ الأكبر، وما مات حتى قاربت النضوج. وكنت في فكري وثقافتي أكبر من سني؛ ذلك لأني لم أعاشر الصغار ولم أعرف ما يعرفه الناس ¬

_ (¬1) الفلق أي الفلقة، من العامّي الفصيح.

من حياة الطفولة. لقد دلّلوني أولاً لأن أبي كان الباقي لجدّي من عشرة من الولد ماتوا جميعاً، ولأني كنت بِكر أبي، ففرح بي جدي وأولاني -على قسوته وشدته- من اللين والعطف ما لم ينَلْ مثلَه أحدٌ. ثم مات جدّي عند إعلان الحرب الأولى، وكنت في بداية المدرسة، فانتهى عهد الدلال وعشت حياة أقرب إلى الجِدّ الخالص؛ لم أعرف طريق اللهو ولا اتخذت لي (كما قلت من قبل) صديقاً من غير رفاق المدرسة وداخل أسوار المدرسة وفي وقت المدرسة، فكان مَن ألقاهم وأستمع منهم وأقتبس من سِيَرهم هم أبي وأصدقاء أبي وتلاميذ أبي، فكان صحبي كلهم من الكبار، فألِفت مجالسهم وأحاديثهم، أستمع إليها ولا أشارك فيها، ثم أقضي بقية وقتي (كما عرفتم) في القراءة. كنت أنا الكبير من إخوتي، لذلك كان عليّ بعد وفاة أبي أن أشارك أمي في حمل هذا العبء، فحملت القليل القليل منه وحملَت هي الأكثر، لكنها تركَت لي -رحمها الله- أمرَ دراسة إخوتي وتوجيههم. وما كنت أخرج في الجملة عن رأيها، ولا كانت تغيّر في التفاصيل من رأيي. أما ناجي فاشتركَت في تكوينه تربية أبيه وآثار مدرسته وما عملتُه أنا، وأمّا عبد الغني فتوجيهي أنا وأثر المدرسة أقوى فيه من أثر أبي رحمه الله، وأما سعيد فكنت أنا العامل الوحيد في تربيته الدينية والسلوكية والثقافية، صنعت له (والفضل لله لا لي) أكثر ممّا صنع لي أبي رحمه الله. كان أبي مشغولاً أحياناً عني وكنت أنا دائماً معه، وسيّرني أبي في طريق العلم فقط وسيّرتُه في طريق

العلم وطريق الأدب معاً، حتى صار في يوم من الأيام كأنه صورة مني ونسخة عني، حتى الشواهد التي يستشهد بها من الأشعار ومن الأخبار والنكت التي يرويها، ثم إن اللهجة التي يُلقي بها لهجتي أنا كما كنت أدرّب تلاميذي عليها. وقد مرضت مرة، ولم يكن هذا الشريط المسجّل، فنزل إلى الإذاعة فقرأ حديثي عني، فما شكّ أكثر السامعين أنه أنا، وإن أنكروا منه بعض الرقّة في الصوت وبعض الرخاوة في الإلقاء. ولما عرض له تعثّر في النطق جرّأ عليه رفقاءَه في المدرسة استخرت الله وأخرجته منها، وخفت أن ينقطع عن المطالعة ثم يبتعد عن العلم، فهداني الله فاشتريت له قصة عنترة في ثماني مجلدات. وهي موضوعة وأشعارها مصنوعة، ولكن فيه أخبار الجاهلية كلها وفيها أسماء أبطالها وأنباء رجالها، وكان ذكياً من أذكى الناس فحفظ أخبارها وأشعارها. ثم جئته بفتوح الشام المنسوب إلى الواقدي، ثم خلّيت بينه وبين المكتبة فقرأ وقرأ، لا يطالَب بامتحان ولا يُكلَّف اتباع منهاج، ثم أعدّ نفسه لامتحان الكفاية فدخله ولحق رفاق المدرسة فما ضاع عليه شيء. * * * وكان عليّ أن أتكسّب قبل الأوان، فجربت أن أعمل محاسباً، وأن أكون تاجراً، وأن أكون معلماً، وأن أعمل صحفياً. كنت كالطفل الذي درج ليتعلم المشي، فأنا أقوم وأقع وأخطو وأتراجع، وأقول شكراً لله (لا فخراً بنفسي ولا مناً على أحد) أني لم أكلّف إخوتي مشاركتي في شيء من هذا (ولو فعلت لما لامني أحد) بل تركتُهم لدراستهم، فوفّق الله فصار ناجي مدرّساً وصار

قاضياً وشاعراً أديباً، وكان عبد الغني أول من حمل الدكتوراه في الرياضيات في سوريا، أرسلوه إلى باريس ليُعدّ لها فأقام سنتين، فقامت الحرب سنة 1939 فخفت فأقنعته ألاّ يعود إليها، لذلك تأخر نيله الدكتوراه إلى ما بعد الحرب، وكان في باريس مثلاً مضروباً للطالب المسلم وفي التدريس نموذجاً للمدرّس المبدع. وظلاّ ذاكرَين ما قدمتُه إليهما شاكرَين عليه أكثر ممّا أستحق من الشكر. وفي الناس الذاكر والناكر، ومَن يحفظ الجميل ومن يجحد المعروف، ومن يصل ما أمر الله به أن يوصل ومن يقطعه ... هذه سُنّة الله في خلقه، ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم واختلاف أخلاقكم وطباعكم، ولَرُبّ شقيقَين يكونان مختلفَين، ولَرُبّما وُجد النكران حيث يقدر أن يوجد العرفان، ولئن ضاع جهدي وتعبي عند بعض الناس فأرجو ألاّ يضيع عند الله. * * * عاشت أمي بعد أبي سبع سنوات، ما استمتعَت فيها يوماً بمتعة ولا وجدَت تسلية ولا راحة. كانت تعيش لأولادها، تدبّر أمر البيت وتدبّر النفقات وتخيط هي الثياب. وكنّا نذهب إلى المدرسة أحياناً بما تخيطه الأمهات، وأول مرة لبست فيها بذلة خاطها خياط كنت فيها في السنة الثانوية الأولى، وكان الخياط هو ابن خالتي وكانت البذلة مصنوعة من جبّة كانت لأبي. ما كان الطلاّب يعرفون الأناقة ولا الوقوف أمام المرايا لتسريح الشعر وعقد العقدة، لأنهم كانوا يعلمون أنهم يقصدون مدارس لتحصيل العلم لا نوادي لعرض الأزياء. بل إني لم أرَ أمي ترشّ

على وجهها ذروراً (بودرة) أو تعمد إلى زينة، لا في هذه السنوات السبع العجاف ولا في أعوام الرخاء التي كانت قبلها. وكانت زينة النساء بالكحل، كحل الإثْمِد بالميل المعروف، وشيء من الذرور، وربما وضعَت الواحدة على خدّيها شيئاً من الأحمر، ولا يضع ذلك إلا القليل، ولا يعرفن كيف يضعنه فكانت المرأة تطبع على خدّها دائرة حمراء. أما صبغ الشفاه والأظافر فما كان يعرفه مَن حولَنا من النساء. والغريب أن الحواجب كانت تُعرّض وتُسوّد بما يسمّى «الخطوط»، فصار النساء اليوم ينتفنها ويُذْهِبْنها إلاّ خطاً دقيقاً لا يُرى إلاّ بالمجهر. كان للنساء شاغل عن الخروج من سَلْق القمح وطَحْنه «برغلاً» وعجن العجين وتقريصه أقراصاً. وقد كانت في مكّة عادة ما سمعت بمثلها في غيرها من البلدان، هي أن المرأة تضع هذه الأقراص أمام باب الدار فكلّ من رآها من المارّة حملها إلى الفرن! وكانت المرأة تجفّف «الخُضَر» وتحفظها للشتاء، وتصنع «المَكْدوس» (وهو باذنجان يُحشى جَوزاً وثوماً ما أكلته في عمري كله إلاّ مرّة) وأنواع المخلَّلات والفواكه المعقودة بالسكّر (¬1)، وتغسل ثيابها بيديها. ما كنا ندري ما الثلاّجات ولا الغسّالات ولا الجلاّيات، كل هذا لم نسمع به ولم نعلم بوجوده، فضلاً عن أن نتخذه في بيوتنا، بل إنها لم تكُن عندنا مياه جارية في الحنفيات ولا مدافئ في الشتاء، ما عند أكثر الناس إلا «المَنقل» ¬

_ (¬1) أي المربَّيات. وفي الشام يسمّون المربّى «المَعقود»، ويلفظها العامة بعين مشدَّدة بغير قاف (مَعّود) (مجاهد).

يُملأ رماداً وفوق الرماد جمرات النار، ولا مراوح في الصيف إلاّ في بيوت الموسرين. وكانت المرأة تصنع ألوان الحلويّات من الكنافة والقطائف والكلاّج، وأشياء كثيرة لم تعرفها واحدة من نساء اليوم. وما كان عندنا خادمات، وإنما تعمل المرأة كل شيء بنفسها ثم تكون راضية. فما لنسائنا اليوم عندهن آلات تغسل الثياب وآلات تنظف الأواني ولكل شيء آلات، ثم يطلبن الخادمات ويشتكين ثقل التبعات؟ فما الذي تبدّل؟ أَضَعُفَت الأجسام أم كلّت الهمم، أم هو الدلال والدلع؟ * * *

يوم ماتت أمي

-47 - يوم ماتت أمّي الأمور تعرف بأضدادها؛ فلا يقدر الصحّةَ قدرها إلاّ من ذاق المرض، ولا الغِنى إلا من عرف الفقر، ولا الراحة إلا من حمل التعب. لذلك تجهل نساؤنا اليوم النعمة التي يرتعن فيها! العيش اليوم سهل وأعمال الدار يسيرة. لا أعني أنها خالية من المتاعب، فمن طبيعة الدنيا اقترانها بالمتاعب والسعادةُ الكاملة لا تكون إلا في الجنّة، ولكن أعني سهولة حياة المرأة اليوم بالنسبة لما كانت عليه بالأمس. لا أعرض اللوحة كلها بل خطوطاً منها تدلّ عليها، ولعلّي أفصّل القول فيها يوماً. المرأة اليوم تجد كل ما تطلبه -متى أرادته- حاضراً، الخضر والفواكه موجودة على مدى العام، وكنا إذا حل الشتاء فقدناها، لذلك كان من عمل المرأة أن تجفّف في الصيف ما تطبخه في الشتاء: الباذنجان والبامياء وأخواتهما جميعاً، ولا تصل إلى مرحلة التجفيف حتى تمر قبلها بمرحلة التنظيف، ثم التصنيف، تأتي بأعواد الملوخيا مثلاً فتقطف منها أوراقها وتغسلها وتجففها.

ولا تحسبوا هذا سهلاً، فأنا أكتب هذا الكلام ونصف الغرفة من حولي تغطيه هذه الأعواد، تشتغل فيها المرأة يوماً أو يومين. والزيتون: تذهبون الآن إلى السمّان (¬1) فتجدونه في علب مختومة معَدّاً للأكل، لا تحتاج إلا إلى مدّ يدك إليها فتفتحها ثم تقلب ما فيها في الطبق. ولكنا لم نكُن نعرف هذه العلب الواردة من اليونان أو من بلاد الإسبان، بل نقطفه من أشجاره في الشام ولبنان. وجوانبُ البحر المتوسط متشابهة كلها في طبيعتها وأشجارها وثمارها، وكثيرة التشابه في صفات أهلها. وعندنا في حرستا (وقد صارت اليوم كأنها حيّ من أحياء دمشق) أشجار زيتون يبلغ عمر إحداها مئة سنة أو مئتين. وللزيتون أنواع، في البيت الشامي العادي نوعان منها أو ثلاثة وقد يكون فيه السبعة والعشرة، من الأخضر الذي يُقطَف مُرّاً فيُحلّى بمحلول الكلس، يديره الأولاد بالأعواد ثم يبدلون عنه الماء ثم يعودون إلى إدارته وتحريكه حتى تذهب مرارته، والأخضر الصغير تشقَّق جوانبه برأس السكين ويعالج بالماء والملح أو بالخلّ، لست أدري والله، فما أحسنت في عمري عمل الدار وإن كنت لا أكفّ ما استطعت عن المشاركة فيه، ونوع أسود يؤكل جافاً، وأسود كبير أو فاتح اللون كثير الشحم يدعى الجُلُطّ. ولكلٍّ طعم، وكلٌّ يأخذ من جهد المرأة ومن وقتها. و «المَكدوس» (وقد أشرت إليه من قبل) يُصنَع بالباذنجان وبالليمون الشامي الكبير وبغيرهما، يُغلى في الماء ثم يُحشى ¬

_ (¬1) هذا هو اسم البقّال في الشام (مجاهد).

الجوز والثوم (والعياذ بالله). والمخلَّلات عشرات من الأنواع: الخيار والفليفلة (الفلفل) والجَزَر والملفوف، وأخواتها وبنات عمّها. وقد كان في بيتي أول عهدي بالزواج من أربع وأربعين سنة ثلاثة عشر نوعاً منها، كلها من صنع زوجتي، مع أنها من الطبقة التي تلي طبقة أمي، جاءت بعد ما تيسّرَت سبل العيش وخفّ الحمل عن النساء. وقد كان عندنا مع ذلك من الثمار المعقودة بالسكّر (¬1) من صنعها هي أيضاً أربعة وعشرون نوعاً توضع على مائدة الإفطار معاً، لا أفصّل الحديث عنها فليس هذا مجالها، ولكن أعدّ منها: المشمش البلدي الشامي الكبير، والكلاّبي الصغير يُنزَع بذره وتُعقَد فصوصه، ومنه «المَمْروت» أي المعجون بالسكّر حتى يكون كالمربّى الذي يأتي بالعلب، ولكن شتان، فهذا مشمش حقيقي بالسكر الخالص وفي تلك العلب ما الله أدرى به من مركّبات الكيمياء، لها طعمه وليس فيها شيء منه. ومعقود الجانرك وأنواع الخوخ والدرّاق (الدرّاقن) (¬2) والسّفَرْجل واليقطين الكبير المستدير. ومن أنفسه معقود الكَبّاد، وهو نوع من الليمون كبير له قشرة عطرة من الخارج وقشرة بيضاء مثل الشحم، كلاهما يُعقَد بالسكر على النار فيبقى سنين لا يطرأ عليه فساد. ¬

_ (¬1) أي أنواع المُربّى (مجاهد). (¬2) يطلقون اسم الخوخ في بلاد الشام على ما يسميه أهل المملكة والخليج البُخارة وما يدعونه في المغرب البرقوق، أما ما يسمونه في المملكة خوخاً فهو في بلاد الشام الدُّرّاق (أو الدُّرّاقِن). وفي القاموس المحيط: "الدُّراقن (بشَدّة على الراء أو بغير شدة) هو المِشمش والخوخ"، قال: وهي كلمة شامية (مجاهد).

ومعقود الجوز الأخضر قبل أن ينضج وتقسو قشرته حتى تصير كالخشب، ومعقود قشر النارنج، وزهره وهو من أعطر الزهر وأطيبه ريحاً، ومعقوده يُهدى إلى الملوك، ويبرع في صنعه أهل طرابلس الشام لأنه يكثر فيها كما يكثر في سواحل فلسطين، ردّنا الله إلى ديننا ليردّها إلينا. ومن عمل المرأة (لا سيما في القرى) قطف الجوز وكسره واستخراج لبه، وتجفيف التين، والعنب حتى يصير زبيباً، وللزبيب أنواع منها ما ليس فيه بزر. وهذه الثلاثة هي أنقال الأسرة في ليالي الشتاء الطويلة، طيّبة الطعم مقوّية للجسم، كثيرة الحرّات (الكالوري) تدفئ الجسد من داخله إذ لم يكن عندهم مدافئ تدفئه من ظاهره. أما تعب الأولاد فلا تكاد تعرف مداه أمهات هذه الأيام. إن الأم تجد اليوم الثياب جاهزة لهم و «الحفائظ» من القطن الناعم مهيّأة تستعملها ثم تلقيها، ولمن شاءت مدارس حضانة حتى للرضّع، (ولا أنصح غير المضطرة بطَرْق بابها)، وقد كانت المرأة تفصّل الثياب لهم بنفسها، وتغسل ««الحفائظ» بيدها، حتى إذا جفّت عادت إليها فاستعملتها. وكانت تسهر الليل كله إن مرض وليدها، لم يكن قد ارتقى طبّ الأطفال ولا أُعِدّت هذه العشرات من الأدوية والعقاقير، وقد تلقى بعد هذا التعب العقوقَ من الولد، كما لقيت أنا من ابن أبي الذي ربّيتُه صغيراً وكنت الأبَ له بعد أبيه الذي لم يعرفه، وأوليتُه من حبي ومن قلبي مثلما أوليتُه من نتائج كسبي، فكان أن قاطعني من أكثر من ربع قرن، حتى إنه لَيسكن البلد الذي أسكنه ولا أعرف عنوانه، ويعمل في الجامعة

التي لا أزال أستاذاً فيها ولكن لا أراه ولا أدري ما عمله، وقُتِلت بنتي فلم يبقَ قريب ولا بعيد إلا عزّاني وواساني، وما عزّى ولا واسى بزيارة ولا رسالة ولا برقية. والله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وهل في الظلم أكبر من قطع الرحم وجحود الإحسان؟ * * * ولو أني عددت كل الذي كانت تصنع النساء لأطلت وأمللت وخرجت عن الموضوع تماماً، ولكن ذلك لم يكن «بلاش»، أي بلا شيء، بل كان لهن عليه أجر كبير يعدل -كما جاء في الحديث- جهاد الرجل وشهوده المشاهد. كان ذلك عمل المرأة، وكان عليها فوق ذلك غسل الثياب وكيّها، وتنظيف الدار وترتيبها، وطبخ الطعام وجلي أوانيه. وكانت أمي واحدة من نساء تلك الأيام تحمل حملهن، بل لعلها من أثقلهن حملاً، لأن من النساء من لها الخادم (أي الخادمة) والطباخة (أي العشّيّة) أو لها البنات الكبيرات يساعدنها في ذلك كله، وبعض البيوت الكبار كان فيها جارية (أَمَة) مملوكة. وقد أدركت في صغري بقايا من هؤلاء الإماء، يتوالدن ويتناسلن في الرقّ من قديم الزمان، وكنّ راضيات مسرورات، وكنّ كالوالدات لنساء الدار، ربّينَهنّ صغاراً وكنّ يولينهنّ الحب فيبادلهن النساء حباً بحبّ. وكانت أمي تعمل كل شيء بنفسها، بنتها الكبرى أخذناها (كما عرفتم) فتزوجَت في مصر، والأخرى صغيرة مشغولة بمدرستها، وما كان لنا فضل مال نستأجر به من تخدم

في الدار كما يفعل أرباب اليسار. الدنيا يا سادتي ليل ونهار وخريف وربيع، ولكن حياة أمي -رحمها الله- كانت كأنها ليل امتد وطال حتى لم يدرك آخرَه الصباحُ، وخريف ضاع فيه طريق الربيع فضلّ فلم يتصل بخريفه ربيع. ما أقول إنها كانت شقيّة في نفسها محرومة من كل شيء، بل أقول إنها لم تجد متعة من مُتَع العيش. أبوها الشيخ أبو الفتح الخطيب (¬1) كان رابع أربعة من الإخوة لكل منهم منزلة في المجتمع وذِكْر في الناس، ولكنه كان من دونهم جميعاً ميالاً إلى الزهد منصرفاً عن شهوة الجاه والمال والسيادة، عمل أميناً للمكتبة الظاهرية من يوم أنشأها (في مدرسة الملك الظاهر بيبرس) الشيخ طاهر الجزائري وجمع فيها الكتب الموقوفة التي كانت متفرقة في المساجد معرّضة للضياع، فصارت اليوم أغنى مكتبة بكتب الحديث وغيرها من مفردات المخطوطات. وكان إذا جاء الدار بعد صلاة العشاء قال لزوجته: يا آسية (وهي بنت الجلاّد، إحدى الأسر المعروفة في الشام) هل عندكم طعام؟ فتأتيه بالطبق الذي أعدّته له، فيسأل: هل تعشّى الأولاد؟ وكان له ولد واحد هو محبّ الدين وبنتان، فتقول: نعم، فيقسم ما فيه قسمَين يضع فوق أحدهما ماءً وملحاً ويأكله ويدع الثاني. وكان يمرّ وهو رائح إلى الدار ببياع الخُضَر، فما وجد ¬

_ (¬1) له ترجمة في الأعلام للزركلي، ومعجم المؤلّفين لكحالة، وأعيان دمشق للشطي.

عنده من بضاعة كاسدة اشتراه رحمة به وحمله معه، فتصرخ فيه زوجته وتتذمّر وتتنمّر، وهي امرأة حازمة من أسرة غنيّة، فيتلقّى ذلك بالحِلم والصبر ويدعها حتى تفرغ جعبتها وتخرج كلّ ما في صدرها، حتى إذا هدأت قال لها: يا آسية، هذا جارنا وهو بياع فقير، فإن فسدَت البضاعة غرم ثمنها، ونحن أقدر على حمل الغرم منه. يا آسية، المركب الذي ليس فيه شيء لله يغرق، وهذه الدنيا فانية فاعملي شيئاً لآخرتك الباقية، وإن لم تريدي ما أحضرتُه فابعثي به لأهل الخان. وكان في صدر الحارة خان فيه عائلات كثيرة من الفقراء لا يكادون يجدون شيئاً. فلا يزال بها حتى ترضى، يطفئ بحِلمه نار غضبها ويُذهِب بصدقه في زهده كبرياءَ نفسها وحبّها دنياها وحدها. * * * ومات جدي الشيخ أبو الفتح سنة 1315، وكان عمر أمي ثماني سنين وعمر أخيها محب الدين اثنتي عشرة، ولحقت به زوجته فتولت تربيتَهما أختُهما الكبرى، وكانت امرأة حازمة صارمة، وكان لها ولد في مثل سنهما هو الشيخ شريف الخطيب، فأخذتهم بالشدة، فكانت الدار بإشرافها كأنها مدرسة عسكرية، بل ربما أدار المدرسةَ العسكرية ضابطٌ ليّن العريكة قوي العاطفة، وخالتي هذه لم تكُن تعرف إلا النظام والضبط، وكانت كما يُقال في الشام «أخت الرجال». رأت ليلة من ليالي الشتاء شبح رجل في «المَشْرَقة» (وهي

السطح المسوَّر)، فصاحت به فلم يذهب ولبث يتبختر يروح ويجيء، فأنذرته فما برح مكانه، فأخذت البندقية ورفعت الشبّاك (النافذة) ووجّهَتها إليه فما بالى، فأطلقت النار. وكانت البيوت من الحجر والخشب والطين، وكانت متداخلة متعانقة، يستطيع من شاء أن ينتقل من طرَف الحيّ إلى طرَفه الآخر من فوق السطوح لا تمس رجلاه الطريق، فسمع الجيران الصوت، ولم يكن يحتاج الجار ليصل إلى جاره إلا أن يقفز من فوق «الطّبْلة» (وهي حاجز من الخشب واللبِن يفصل مشرقتك، أي سطحك، عن سطح الجار)، فنادوا: "يا الله، يا ستّار" ليتستر من النساء مَن كانت كاشفة، ثم صاروا عندها فقالوا: خالتي أم شريف، ما لك؟ خير إن شاء الله؟ سمعنا طلقة رصاص. قالت: نعم، حرامي، وقد أصبته بلا شك لأن رصاصتي لا تخيب. وكان من عجائز الشاميات مَن تجيد الرمي! فصعدوا إلى السطح فوجدوا سراويل زوجها الشيخ عبد الفتاح الخطيب معلَّقة بالحبل (وكانت سراويل الرجال والنساء تصل إلى القدم ويفصَّل من الواحد منها إحدى عشرة من سراويلات نساء اليوم) فكانت تمتلئ بالهواء من شدة الريح في تلك الليلة فتبدو كأنها رَجل يمشي ... ووجدوا بارود الطلقة قد مزّقها. قالت: ألم أقل لكم إني أصبته؟ * * *

وتزوجَت أمي وعمرها سبع عشرة سنة، فانتقلَت من دار ما فيها إلا الجِدّ والحياة الخالية من اللهو ومن أسباب المتعة، وإن لم تخلُ من ضرورات الحياة ولوازم العيش، إلى دار مثلها ما فيها إلا الجدّ والبعد عن اللهو وعن المتعة. من دار تحكمها امرأة صارمة أمرها قانون يُطاع أو تحلّ النقمة بمن يعصيه، إلى دار يحكمها رجل (هو جَدّي)، شيخ بعمامة ولكنه عسكري الطبع والمهنة، فقد كان إمامَ طابور وله رتبة عسكرية، صارم أمره قانون ومخالفة أمره انتحار. وكان أبي لطيف المعشر رقيق الطبع ولكنْ لا حكم له في بيت أبيه، ثم إنه كان معلّماً، وكان أسلوب التعليم يقوم على الشدّة، وكان الترهيب فيه والعقاب مقدَّماً على الترغيب والثواب. فما سعدَت السعادة التي تحلم بها كل بنت في بيت أبيها الذي عاشت فيه يتيمة الأبوين، كانت أختها الكبرى هي أمها بعد أمها، أرضعَتها من ثديها وربّتها مع أخيها وابنها، ولكنها كانت شديدة بطبعها تكره اللين والميوعة ولا تُظهِر العاطفة، ولعلها (والله أعلم) لا تخفيها أيضاً لأنها لا تجدها. ولا أحب أن أظلمها، وأستغفر الله لي ممّا قلت ولها، فلقد أفضلت على أمي وَرَعَتْها، رحمها الله. وما عرفَت سعادة الحياة العاطفية في بيت زوجها، فصبّت عاطفتها كلها وفَيض قلبها كله في حبها لأولادها. ما نالت كل ما اشتهت فحاولت أن تعوّض ذلك بإنالة أولادها كل ما يشتهون من الحلال، فالحرام لم يكن له مكان في بيت زوجها كما لم يكن له مكان في بيت أبيها. ولكن كيف والعين كما يقول الفصيح من أمثال العوامّ:

«العين بَصيرة واليد قصيرة»، تعرف الذي تريده ولكن لا تعرف طريق الوصول إليه. فكانت تبذل من ذات نفسها ما تعجز عن بذله من مالها؛ كانت إذا جاء العيد ولم تستطع شراء الحلوى صنعت بيديها ما تقدر عليها منها. وحلويات الشام من يوم عرفتُها طيّبة المذاق جيدة الصنعة، لكنها غالية الثمن. فلما حدّدَت الحكومة أسعارها ولم يعُد ما حدّدَته يسدّ نفقاتها استبدلوا بالسمن العربي الخالص دهناً مصنوعاً، وأدخلوا عليها من فنون الغشّ الخفيّ ما دخل كل شيء منذ عرفنا هذه الحضارة المادية. وما كنا قبل ذلك ملائكة ولا كنا جميعاً مثل أبي بكر وعمر، وكان فينا من يغشّ، ولكنه كان غشاً بدائياً يسهل كشفه فصار غشاً «حضارياً» لا يكشفه إلا الخبير، حتى لقد سمعنا أن في المصانع هناك، أو في بعضها، كيميائياً له وظيفة (¬1) كبيرة عمله إخفاء الغش، ولدى الحكومة كيميائي له وظيفة كبيرة لإظهار ما أخفى الأول. كل ما يصنعونه يكون بادئ الأمر متيناً ويكون صالحاً، فيضعف ويفسد، لا حباً بالفساد بل توفيراً للمال وزيادة للربح. حتى السيارات: القديمة منها التي كنت أعرفها صغيراً كانت من المعدن المتين، والجديدةُ إن ضربتَ بقبضة يدك غطاء المحرّك فيها، أثّرَت فيه ضربة يدك. وعلب الأدوية كانت من الحديد فصارت من الورق، والحقائب كانت من الجلد فصارت ... لست أدري والله ممَّ صارت، ولكنها ليست جلداً على أيّ حال. * * * ¬

_ (¬1) الوظيفة في اللغة هي الراتب.

كانت أمي إذا جاء العيد صنعت بيدها الحلوى التي لا تستطيع أن تشتريها بمالها، وكانت تطبخ بدل الطبخة الواحدة طبخة لكل ولد. تقدّم لكل منهم الأكلة التي يحبها، ولو كان ذلك على حساب راحتها وصحتها. ومن البلاد ما لا يعرف أهله إلا ألواناً معدودة من الطعام يعيدونها ويكررونها، أما المطبخ الشامي ففيه العشرات من ألوان الطعام ممّا لا مثيل له في غير ديار الشام، لا أستطيع أن أعدّها لأني لا أعرفها كلها، ولكن أسمّي ما عرفت منها تمثيلاً لها، فمن اللحم: المشوي والمقلي واللحم بالصينية والكباب الهندي واللحمة بالخلّ وداود باشا ... ومن الباذنجان: المُنَزَّلة والمُسقَّعة وإمام بايلدي (وهو اسم تركي معناه «الإمام داخ» أي غُشي عليه) والمَقلوبة (وهي أرز مطبوخ فوقه الباذنجان مع اللحم والصنوبر واللوز) ... ومن الكوسا: المُنزَّلة والمُفَرَّكة والكوسا المحشي والمَكْمور (وهو كوسا يُفرَّغ ويُحشى باللحم واللوز والصنوبر ويُطبَخ بالمرق) والشيخ المغشي (وهو مثله لكن مرقه اللبن الرائب المطبوخ). ويصنع من اللبن: الشاكريّة واللّبَنيّة و «شيش بُرَك» و «باشا وعساكره» والمشمشية. ومن الفول ألوان: المُقَلّى والمُفَرَّكة والرز بالفول والفولية، ولكل منها طريقة في طبخها ونَصّ على ما يُضَمّ إليها ويوضع معها. والكبة أنواع كثيرة: النيّة (النيئة) وقد اشتهر بها لبنان، والمشوية والمقلية والكبّة بالصينية، والكبة المسلوقة وهي من حلب، والكبة الحَميص المطبوخة بدبس الرمان ... والمقليات: من الباذنجان والكوسا والزّهرة وأخواتها. وأكلات يعتني بها النساء هي «حَرّاق إصبعه» و «ستّي إزبقي» و «قصاقيص الخياطة»، والتبّولة والفتوش ... ولو

ذهبت أعدّ ما أعرف من طبخات نساء الشام لضاق المقام وضجر القارئ من قراءة أسماء منكرة لأطعمة أكثرها معروف، ولكنه يأخذ المنكر من أسمائها ويجهل المعروف من حقيقتها. * * * عاشت أمي سبع سنين بعد أبي ما لها شاغل إلا أولادها؛ تُطعِمهم هي وتُلبِسهم، وتحثّني على أن أدارسهم دروسهم وأراجع معهم كتبهم، لأنها لم تكُن متعلمة ولم تدخل المدرسة كما دخلتها عمّتي من قبلها. وقد زدتُ همّها باشتغالي بالقضية، وإذا قيل القضية فالمراد قضية الاستقلال ومحاربة الاحتلال، فكانت كلما ذهبت أخطب في اجتماع أو سمعَت أني قدت مظاهرة، أو دفعت الشباب إلى تحقيق إضراب، أو كتبت مقالة مثيرة تهاجم الحاكمين، طار قلبها شعاعاً خوفاً عليّ، ولما وُقِفْتُ (¬1) في إدارة الشرطة مرّة وفي مخفر الخراب مرّة جاء من أخبرها، فوضعت عليها ملاءتها وذهبت إلى ابن أختها الشيخ شريف في مدرسته، فأبى أن ينجدها وقال لها عندي درس، فشتمته وشتمت الدرس الذي يشغله عن نجدة ابنها. والشيخ شريف أخوها من الرضاع وسَنينها ورفيق طفولتها، وكان يحاول ضربي أحياناً فتهجم عليه كأنها الدجاجة يُعتدى على فراخها فتنفش ريشها وتُعلي صوتها وتهدّد بمنقارها، ولو كان المهاجم أقوى منها قوة وأمضى سلاحاً. * * * ¬

_ (¬1) يقال وقَفَه بلا تشديد القاف، ومنها الوقف والأوقاف التي كانت تسمى قديماً «الأحباس» كما تسمى الأوقاف.

وجاء اليوم الأسود، وكان يوم أربعاء أذكره تماماً، وكان في الثاني والعشرين من صفَر سنة 1350. مرّ عليه ثلاث وخمسون سنة ولا تزال ذكراه ماثلة أمام عيني كأنه قد كان أمس. عدت إلى الدار فوجدت أمي معصوبة القدم، وإذا هي تُسِرّ في أذني أن في رجلها جرحاً صغيراً من مقصّ سقط عليها. فهممت أن آتي بالطبيب فقالت: لا. لم تُرِد أن أتعب أنا بدعوة الطبيب ولم تحبّ أن تزعج إخوتي بمعرفة الخبر، وهوّنَت من أمره فرأيته هيّناً، ووضعت عليه قليلاً من صبغة اليود وأقبلت على كتابتي ولم أفكّر فيه، ولم أعلم أنه سيشغل تفكيري ويؤثّر في حياتي. وأصبحت فأوهمتني أن الجرح قد برئ، لم أعلم إلا بعد حين أنها أمضت ليلها كله ساهرة لأن الألم لم يكن ليدعها تنام. كانت تدور في الدار يمنعها حبّها أولادَها من إيقاظهم، فهي على ألمها تتعهّدهم واحداً واحداً كأنها تودّعهم. ولم تخبرني، ولو كانت تعلم عاقبة هذا الكتمان لرحمَتني منها فأخبرتني، إذن لحاولتُ السعي لشفائها أو لتخلّصتُ -على الأقل- من هذا الندم الذي ظلّ يعتصر نفسي لأنني قصّرت في الاهتمام بها. وظللت مع إخواني نتكلم في الأدب وفي العلم وأمّي تعاني ما ليس لنا به علم ولا لها عليه صبر. فلما امتدّ الوجع إلى اليوم الثالث واشتدّ ولم تَعُد تستطيع احتماله خبّرَتني به. وكان عندي رفيق عمري أنور العطار رحمه الله ورحمها فأشار أن آخذها إلى طبيب جراح، وكان أشهر الجرّاحين

من غير أطباء المستشفى هو الدكتور أحمد راتب، وأحضرت سيارة وحملتها إليها، وبلغنا عيادة الدكتور فلم نجده، وذهب من يفتّش عنه فجاؤوا به من المقهى في شارع بغداد، فشقّ الجلد لينظّف الجرح من غير أن يطهّر المشرط، فوضع هو أسباب الداء من حيث كنا نرجو على يديه الشفاء. وأعدتها إلى الدار فإذا الألم يزيد ولا ينقص، كان في القدم فارتفع إلى الساق، فدعوت صديقي ورفيقي صبري القباني رحمه الله، وكان يعمل في مستشفى معهد الطب طبيباً داخلياً (¬1). فلما رأى ما بها قال: ماذا تنتظر؟ إلى المستشفى. وذهبنا وكان أستاذ الجراحة الدكتور نظمي القباني حاضراً، فأدخلها إلى غرفة العمليات رأساً، ووقفت أنتظر كما يقف المتهَم أمام محكمة الجنايات ليسمع الحكم له بالبراءة أو عليه بالموت. وطال وقوفي وثقلَت الدقائق عليّ، حتى لأحسّ طقطقة الساعة الكبيرة على الجدار فوق رأسي كأنها مطارق تنزل عليه، إلى أن فُتح الباب وخرج الدكتور صبري يقول: لا بد من بتر الساق، فاكتب هنا أنك موافق. ولم يدع لي وقتاً للتفكير لأن الأمر -كما قال- لا يحتمل التأخير، فكتبت وأخذ الورقة ودخل، ولبثت مثل المشدوه أفكّر كيف تدخل بساقين وتخرج بساق واحدة. وكَبُر عليّ الأمر ونسيت ¬

_ (¬1) ويسمونه الآن طبيب امتياز، وهو الذي يتدرّب على العمل بعد نيله الشهادة.

أن بعض الشرّ أهون من بعض وأن الإنسان يتمنى المصيبة إذا واجه ما هو أكبر منها. لقد تمنيت بتر الساق حين فُتح الباب وظهر الدكتور صبري، ينطق وجهه قبل أن ينطق لسانه، يخبر أن أمي لن تخرج بساق ولا بساقين؛ لن تخرج إلا محمولة على الأعناق. لقد ماتت أمي! * * *

هنا مسقط رأسي وهنا قبر أبي وأمي

-48 - هنا مسقط رأسي وهنا قبر أبي وأمّي حلقة اليوم عودة إلى الشام. وهل فارقتها حتى أعود إليها؟ إن ذكرياتها في قلبي ومشاهدها ماثلة أمام عيني، وفي كل نَفَس من أنفاسي عبَق من أريج الغوطة ونفحة من عبير دمشق. فلا تلوموني إن كرّرت الحديث عنها، فمن أحبّ شيئاً أكثر من ذكره، ولو أكرهتُ النفسَ على نسيانها لما طاوعتني نفسي، ولئن نأيت بالجسد عنها فإن روحي فيها: أريدُ لأنسى ذكرَها فكأنما ... تَمَثّلُ لي ليلَى بكلِّ سَبيلِ وما أبغي من دمشق منازلَها ودورها ولا بساتينها وقصورها، ما أحنّ إلى التراب ولكن إلى مَن تحت التراب مِن الأحباب والأصحاب. فدمشق التي أعود إلى ذكرها هي دمشق أمي التي جئت أستأذنكم أن أكمل الحديث عنها، فلا تملّوه (أرجوكم) ولا تستثقلوه، فمن جرّب منكم فقد الأم أو البنت (ولا قدّر عليكم أن تجرّبوه) عرف أن الحديث عنه فيه شيء من تنفيس الكرب وتسلية القلب.

ويا ليتني كنت أسْطيع الوصول إليها لأقف كما وقف امرؤ القيس على الأطلال، يبكي ويستبكي، فعلّم الشعراء الوقوف والبكاء، حتى من كان يعيش منهم في نعيم بغداد ما رأى الصحراء ولا أبصر النؤى ولا موقد النار وصاغ فيهما بدائع الأشعار: ولقد مررتُ على ديارِهمو ... وطُلولُها بيدِ البِلى نَهْبُ فوقَفتُ حتّى ضجَّ من لَغَبٍ ... نِضوي ولجَّ بعُذّلي الرَّكْبُ وتلفّتَت عيني فمُذْ خَفِيَت ... عني الطُّلولُ تلفّتَ القلبُ وأنا اليوم مثل الشريف (¬1)، أتلفّت بقلبي إلى ديار خفِيَت عن ناظري ولكنْ ما سلاها خاطري ولا خفّ إليها شوقي، إلى بقعة صغيرة من الأرض كانت هي دنياي كلها وكان فيها كل أهلي وأحبائي، فلم يبقَ منها إلا كَومتان من تراب أمام ساقية صغيرة ... فيا أيها المسافر إلى دمشق: هل تُحسِن إلى شيخ غريب فتزور عنه هذا الذي بقي من عالَمه، وتريق عليه دموع قلبه ورحيق حبّه؟ هل تقف على قبر أمي وقبر أبي فتقول لهما: إن ابنكما الذي تركتماه يمرح في رداء الشباب يطير إلى آفاق المستقبل على جناح الأمل، يحمل أحلاماً تعجز عن حملها مناكب الرجال فيمضي قُدُماً بها لا يُرضيه إلا تحقيقها، قل لهما: إنه قد ولّى شبابه، وانكسر جناحه، وذابت أحلامه، فلم يبقَ له من أمل إلا دوام الصحّة وحسن الخاتمة. قُل لهما: لقد صار ولدكما أكبرَ سناً منكما، صار شيخاً وبَناتُه صرنَ جدّات. ولكنه لم ينسَكما ولم ينقص حبه لكما ¬

_ (¬1) الشريف الرّضي، وقُرئ البيت الثالث في الديوان: خفيت عنها الطّلول ... (مجاهد).

ولا ألمه لفقدكما، وإن رأى ما هو أشدّ عليه وأقسى. إنه يدعو لكما، يسأل الله لكما الرحمة كما ربّيتماه صغيراً. ولكن أنىّ لك الوصول وما وصفت لك الطريق ولا دلَلتُك على المكان؟ إذا مررت بشارع بغداد العظيم فوصلت إلى الدَّحْداح (¬1)، ورأيت الجدار العالي والباب الجديد فادخله تصل إلى المكان المقصود. ولكن لا، دعه فهذا ليس من عالَمي، إني أريد أن تصل إلى العالَم الذي كان لي، الذي عرفته وأحببته وإن طال به عهدي، لا إلى عالَم جَدَّ بعدي. اذهب إلى قلب دمشق. أليس لكل بلد قلب (سنتر) تُنْصَب اللوحات في الطرق لتدلّ عليه وترشد إليه؟ إن قلب دمشق هو الأموي، مهما تتّسع وتمتدّ فهذا قلبها. وقلب مكة الحرم، وقلب القاهرة الأزهر، وقلب الرياض الديرة والمسجد الكبير. فاذهب إلى الأموي، قد يطول عليك الطريق ولكنك ترى وأنت ماشٍ جوانب من دمشق القديمة، عاصمة الإسلام الثانية. دمشق الأخلاف من بني أمية والملوك من آل أيوب، دمشق أقدم المدن المسكونة في الأرض كلها وأول البلاد يقظة وتحرراً واستقلالاً في أرض العرب. إنك لن تجد من ملامح دمشق الماضي إلا القليل، ويا ليتها ¬

_ (¬1) هي مقبرة الدحداح التي دُفنت فيها أم جدّي وفيها دُفن أبوه. واقرأ مع هذا الفصل مقالة «من دموع القلب» في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

بقيَت بقاء فاس مثلاً ودهلي (¬1). يا ليتهم تركوها تحدّث حديثها وتبعث ماضيها وتصف أمجادها، وأقاموا إلى جنبها مدينة مثل فاس الجديدة ونيودلهي. لم يبقَ من دمشق إلاّ مثل ما بقي من بغداد: ملامح ضئيلة وبقايا قليلة، أولها الأموي وثانيها السور، ولا يزال أكثر السور باقياً سليماً. أما الأموي الذي تزوره اليوم فليس الذي بناه الوليد؛ إنه احترق مرّات (فراجع كتابي «الجامع الأموي» تعرف خبرها)، وهذا البناء تمّ سنة 1311هـ على أثر الحريق الأخير، بناه «معلّمون» من أهل صنعة البناء في دمشق ما فيهم مَن درس الهندسة وحمل شهادتها، لأنهم من العباقرة الذين اقتبس علم الهندسة من عبقرياتهم ومن دراسة آثارهم وآثار أمثالهم. من النتائج المنظَّمة لهذه الدراسات وممّا أضيف إليها وزيد عليها نشأ هذا العلم. وإلا فخبّروني: في أية جامعة تخرّج مَن بنى الأهرام، ومن أقام حدائق بابل المعلّقة، ومن رفع هذه الصخور الهائلة فوضعها فوق هذه الأعمدة العالية في بعلبَكّ وتَدْمُر؟ ومن صنع نقوش الحمراء، ومن جعل الرخام الجامد ينطق بأبرع لسان، يتلو بلسان الحال آيات الجمال في تاج محل؟ ¬

_ (¬1) كثيراً ما نبّه علي الطنطاوي إلى أن هذا هو اسمها الصحيح، وليس «دلهي» الذي سماها به الإنكليز (لعِوَج لسانهم كما كان يقول). قلت: وضبطها صاحب القاموس بألف مقصورة في آخرها (دِهْلَى). وسيأتي في الحلقة 146 من هذه الذكريات حديث طويل عنها عنوانه «دهلي، الفردوس الإسلامي المفقود» (مجاهد).

أُعيدت الآن فسيفساء الأموي كما كانت أيام الوليد. لقد ظلت أسرارها مجهولة عشرة قرون، أفتدرون من الذي كشفها للناس وعرّفهم بها؟ لا، لم يكن عالم آثار ولا أستاذ جامعة، بل واحداً من خدم الأموي. كشف سرّها واستطاع أن يعيد صنعها، حتى إنك تنظر إلى ما بقي منها من أيام الوليد وإلى ما جُدّد الآن، فلا تدري أيها القديم وأيها الجديد. وجاء المملكةَ من قريب عاملٌ ممّن تعلم هذه الصنعة اسمه فلان العقّاد، نسيت اسمه الأول، وهو يعمل في الرياض ومعه لوحة صنعها باعها بألف ريال! فابحثوا عنه واستقدموا زملاءه، واستفيدوا منهم فيما تقيمون من عمارات تريدون لها الزخرف والجمال، ولكن ابتعدوا عن المساجد، فالمساجد ليست معارض فن ولكنْ محاريب عبادة، لذلك يُكرَه فيها كل ما يشغل المصلّي عن صلاته لاسيما إن كان في جدار القبلة. أمور الدين يا سادة مردّها إلى ما أوحى به الله وبلّغه الرسول، لا إلى ما يراه المفكّرون ولا إلى أذواق أهل الفنون. * * * ثم اخرج من الباب الشمالي للجامع تلقَ أمامك مدينة جامعية، بقعة واسعة كلها مدارس؛ المدرسة لصق المدرسة، أبنية فخمة من الحجر والمرمر، أبواب ضخمة فوقها أقواس مختلفات الأشكال مملوءة بالمُقَرْنَصات التي تُدهِش الناظر وتَرُوعه بعظمتها وبفنّها: مدرسة الكلاّسة، وإلى جنبها مدفن صلاح الدين، بجوارها السّميساطية، والجقمقية التي سبق

الحديث عنها، وهي من أجمل الآثار المملوكية، وقد جدّدتها وزارة الأوقاف بإرشاد إدارة الآثار فرجعَت كيوم فرغ من بنائها بانيها، والمدرسة الإخنائية، ثم المدرسة الظاهرية، مدفن الظاهر بيبرس، وفيها مكتبة من أغنى المكتبات بنوادر المخطوطات، تقابلها العادلية (مدرسة الملك العادل أخي صلاح الدين) ... ما يشبهها في ازدحام هذه الكنوز من العمارات إلا سفح المقطّم في القاهرة، حيث مدرسة السلطان حسن ومسجد الرفاعي، وتلكم العمارات الرائعات للمساجد والمدارس والمكتبات، وإلا منطقة الأزهر والحسين وما فيها من المدارس والمساجد، معرض دائم لازدهار العلم والحضارة ومتحف حيّ لروائع فنون العمارة. وفي العادلية «المَجْمع العلمي»، وهو أقدم المجامع العربية. ولكن الذي يشوّه هذا الجمال ويلطخ هذه الصفحة البيضاء ببعض السواد هو أن «الظاهرية» يحفّ بها فرن من هنا وحَمّام من هناك، ولطالما نبّهْنا إلى ما في ذلك من أخطار. نوادر المخطوطات والآثار تجاورها من الجانبين النار! ولو أنها احترقت فمَن يأتينا بمثلها؟ إن أموال الأرض لا تعوّضنا عنها، ومن الأشياء ما لا يُشترى بالمال. لقد سطا لصّ مرة على متحف دمشق، دخله بحيلة وسرق منه مجموعة لا مثيل لها من الدنانير القديمة، الرومانية والفارسية والأموية والعباسية وأنواع أخرى، ثم ارتكب جريمة أكبر من جريمة السرقة فأذاب هذه الدنانير وجعلها سبائك. لقد قبضوا عليه واستردوا السبائك منه وعاقبوه، ولكن ما الفائدة؟ إنهم كمن يستردّ المخطوطة الوحيدة من سارقها لكن بعدما محا كتابتَها وأرجعها صحفاً بِيضاً ... أو كمن يُرجع البنت المخطوفة

إلى أهلها بعدما قضى الخاطف على حياتها. وستمشي مئتَي متر فقط فتصل إلى باب الفراديس، أحد أبواب دمشق السبعة، وهو باقٍ. وستمرّ قبله بأربعة مدارس ومساجد وببقايا من السور القديم، وبِحارة بينهما لا يزال اسمها إلى الآن حارة بين السورَين. هذا باب دمشق القديمة، فاخرج منه. لقد صرت «ظاهرَ دمشق». دع هذا الشارع الجديد وعماراته العالية فإن هذا الشارع دخيل على عالَمي، وامشِ إلى الأمام ثلاثمئة متر أخرى تصل إلى العُقَيْبة، وهي حيّ الأوزاعي الذي يُنسَب إليه الإمام الذي يقوم قبره على شاطئ البحر جنوبي بيروت تغسل أقدامَه الأمواج، وكان من شهرين تُلهِب رأسَه القنابل من اليهود الذين لا يرعون حرمة منازل الأحياء ولا حرمة قبور الأموات، يحميهم ويقوّيهم بالسلاح وبالفيتو أو يمدّهم بالبشر دولة الغرب ودولة الشرق، كلتاهما معهم علينا، وإن كانت إحداهما تقدّم إليهم الرجال وتعطينا نحن جميل المَقال، والأخرى تعطيهم كل شيء ولا تعطينا شيئاً، بل تبني نصف اقتصادها على أموالنا. بين حيّ العُقَيبة هذا وحيّ العِمارة الذي مررنا به أقلّ من نصف كيل (كيلومتر)، ولكنْ كان بينهما ما يكون بين الحارات يومئذٍ من عداءات ومعارك، أيام القبضايات والفتوّات. فلا تصدّقوا كل ما يقوله الشيوخ من أمثالي من أن أيامهم كانت خيراً كلها وأن هذه الأيام ما فيها إلا الشرور والآثام. أنا كنت أقول مثل هذا وكنت أكتبه، والحقّ أنه كان في تلك الأيام خير كثير فقدناه وكان فيها شرّ كثير تخلّصنا منه؛ فالأمن كان مفقوداً في ليالي

دمشق وفي أطرافها في النهار، وكان انقسام وخصام، والجهل كان أعمّ والأمّية كانت أكبر، والأمراض كثيرة والأطباء قلائل. ولكن كان -مقابل ذلك- فضائل ومزايا: تمسّك بالدين، وإن كان يخالطه عند العوامّ بدع وجهالات وأوهام، ولم يكن سفور ولا اختلاط، ولا كانت الملاهي، ولا كان مَن يجهر بارتكاب المعاصي أو يعلن ترك الواجبات. وكانت الغيرة على الأعراض والبعد عن الفسوق، وكان التعاون بين الناس حتى كان الحيّ وسكانه داراً واحدة وأهلها كالأسرة الواحدة. فإذا بلغت العقيبة فامشِ إلى آخرها، حتى تبلغ تلك الحارات الضيقة والبيوت الصغيرة الفقيرة، فادخلها. لا يَرُعْك ضيق مسالكها ولا فقر منازلها، فلقد كانت ها هنا منازل أهلي، هنا كان مسقط رأسي. ليس الوقوف والبكاء على الأطلال وحدها، فلقد وقف الشريف الرضيّ على منازل حبّه وهو في بغداد يوم كانت سُرّة الأرض وأعظم مدن الدنيا. لم يكن راكباً نِضواً (¬1) كما قال ولا مصاحباً رَكباً، إنه لم يصف عن عيان كالشاعر الجاهلي، ولكن ماذا يضرّ؟ ألا تمرّ على العمارة الكبيرة التي كنت تسكنها فتذكر أيامك فيها وتحنّ إليها، وربما ذرفت الدموع على مَن كان معك فيها فواراه عنك ثراها؟ العاطفة صادقة ولو اختلفَت الظروف، فماذا يضرّ رخص الإطار إن كانت اللوحة ثمينة؟ إن الإنسان مفطور على الحنين إلى ماضيه. مَن ينسى الأمس وهو أبو اليوم، كما أن اليوم هو أبو الغد؟ لذلك تحرص ¬

_ (¬1) النّضو (بكسر النون) الدابّة التي أجهدها السفر (مجاهد).

الأمم على آثارها. الآثار هي بقيّة الماضي، الماضي زمان ومكان وأحداث وناس، وقد ذهب الناس فلا يرجعون، وانتهت الأحداث فلا تُستأنَف، والزمان الذي تصرّم لا يعود، فلم يبقَ إلا المكان وما فيه من أشياء. فإن اعتنينا بالآثار فنحن لا نعبدها ولا نقدّسها؛ ضلّ من يقدّس تراباً ويعبد حجراً، ولكنْ نذكر فيها ماضينا، أي ننظر إلى أنفسنا في أمسنا. هنا وُلدتُ وأمضيت فجر حياتي، وإلى هنا رجعت لمّا غابت شمس اليوم الأول من هذه الحياة بموت أبي، ثم رجعت إلى هنا لمّا غربت شمس اليوم الثاني بموت أمي. لمّا خرج صبري القبّاني من غرفة العمليات فقال لي (بنظرات من عينيه الغارقتين بالدموع وبحركات اليأس من يديه) إنها ماتت وقفت كالذي ضُرب على رأسه ففقد الوعي وهو ينظر، عيناي مفتوحتان ولكني لا أرى شيئاً. وقفت وأحسست كأنْ قد وقف معي الزمان. لامارتين في قصيدة «البحيرة» استوقف الزمانَ في ساعة الوصال وحثّه على الإسراع في وقت الكرب، ولكن زماني وقف بي وأنا مكتئب مكروب، لا أستطيع أن أعود إلى الأمس فأتصور أمي وهي بيننا، وهي عماد بيتنا وهي تعيش معنا، ولا أستطيع أن أتصور الغد، كيف يكون غدي وقد تركتنا أمي؟ لقد بكى صبري القباني على أمي لأنه كان يوماً مثل أخي، ولعله بكى فيها أمه. لقد كان يعرف أمي، كانت كلما غبت سألَته عني وكانت تعطف عليه كأنه ابنها، وكان -رحمه الله- قد حُرم جوار أمه أيام صباه.

تعطّل فكري فلم أعُد أفكّر. كانت الجرعة أكبر من أن أسيغها، وقفَت في حلقي فلا أنا استطعت أن أبتلعها ولا أنا أملك أن ألفظها. لم أقُل شيئاً، لم أبكِ، لم أصرخ. صرت كأني قد جمدت، فتولّى صبري الإمساك بي وإخراجي، وانقدتُ إليه أمشي معه كأني أمشي في نومي. وجاء الدكتور نظمي القباني أستاذ الجراحة في كلية الطب (وهو ابن محاسب المعارف الأستاذ مصطفى القباني، وليس من أسرة الدكتور صبري القباني)، وأنا أذكر الآن أنه قال كلاماً طويلاً عرفت أنه يواسيني به ويعزّيني، ويقول إنه بذل الجهد لكن إرادة الله أقوى من طبّه، ولكني لم أفهم ممّا قال شيئاً. ولم أعلم إلى الآن (صدّقوني) كيف غُسّلت وكُفّنت؛ لقد تولى الأمرَ كله إخوة بررة، منهم من ذهب إلى رحمة ربه كالدكتور صبري والشيخ عبد القادر العاني وأنور العطار، ومنهم من بقي كابنَي خالتي طه وثابت الخطيب والشيخ ياسين عرفة وطائفة من الشبان الذين كانوا يلازمونني: رشاد جيوشي وأنور العش، ومحمود الرفاعي وسعيد الجزائري رحمهما الله. وما تنبّهت حتى وقفنا للصلاة عليها في جامع التوبة. ولي في هذا المسجد ذكريات خالطَت ثواني حياتي الأولى، فيه وفي هذه المدرسة القائمة أمامه قِطَع من عمري من عهد طفولتي. هنا رحمني الله فسال دمعي. إن الدموع رحمة، فلا تخجلوا يا أيها المحزونون أن تبكوا، فإن حرقة القلب لا تطفئها أنهار دمشق السبعة ولكن يطفئها، أعني

أنه يخفّف من حرّها، سَفحُ الدموع. ولو كان البكاء يُنقص من الرجولة ما بكى سيد الرجال محمد، صلى الله على محمد. بكيت بلا صوت. كانت دموعي تتساقط وأنا صامت. بكيت أمي وإن لم أستوعب تماماً حقيقة مصابي بها ولم أدرك مداه، بكيت أبي، بكيت من ذهب من أهلي ومن صحبي، بكيت آمالي وأحلامي، بكيت مَواضي أيامي، بكيت أسرتي الأولى التي كانت كلها هنا فلم يبقَ منها إلا أنا. أنا بعد أربع سنين أبلغ الثمانين (¬1)، وقد تُوُفّي أبي وهو في السادسة والأربعين وأمي في الثالثة والأربعين، ولكني كلما ذكرتهما أحسب أني صَغُرت حتى عدت طفلاً رضيعاً كان يأوي إلى صدر أمه، يطلب فيه الحليب غذاء جسده والعطف طعام روحه، وكذلك يحسّ كل ولد مع أمه. واستُشهدَت بنتي وهي في السابعة والثلاثين، ولكني كلما ذكرتُها أشعر أنها صَغُرت حتى عادت الطفلة التي ترتمي على صدري وتقعد في حجري، وكذلك يشعر كل والد مع ولده، مهما كبر الولد فهو في عين أبيه طفل. ولكن هذه أسرار قلبي فلماذا أعلنها للناس؟ هل أجعل مخدع حبي الأطهر معرضَ صور يتجول خلاله النقاد والذين يحبون أن يتسلّوا؟ لقد استحضرت في ذهني من ذكريات أمي وذكريات بنتي ما يملأ صفحات من الجريدة، حفرت بأظافري في أنقاض الماضي في ذاكرتي حتى جمعتها. لقد استخرجت خيوط ¬

_ (¬1) كُتب الفصل سنة 1403.

الثوب من بين ذرّات التراب خيطاً بعد خيط ثم أعدت نَسْجَه لأدفئ به عظامي في شيخوختي، فهل أنزله في «سوق الحَراج» لأبيعه بالمزاد؟ لا؛ فلتبقَ لي وحدي فما لأحد من القرّاء نفع فيها، وأنا إنما أحيا بها. * * * وأما أنت يا أيها المحسن المجهول، الذي رضي أن يزور دمشق عني حين لم أقدر أن أزورها بنفسي، لم يبقَ لي عندك إلا حاجة واحدة؛ فلا تنصرف عني وتدَعني وحدي بل أكمل معروفك، فصلِّ الفجر في جامع التوبة، ثم توجّه شمالاً حتى تجد أمام «البحرة الدفّاقة» زقاقاً ضيّقاً جداً، حارة تُسمّى «المعمشة»، فادخلها فسترى عن يمينك نهراً، أعني جدولاً عميقاً، على جانبه من الورد والزهر وبارع النبات ما تزدان بأقلّ منه حدائق القصور. أتدري ممَّ جاء؟ لأنه يشرب ماءً قذراً. إن هذا الجدول نصفه من ماء النهر ونصفه من ماء المجاري! عفوك فهذه هي الحقيقة، ومن الحقائق ما يسوء. وعلى كتفه ساقية عالية ماؤها إن قيس بمائه عذب زلال، وإن لم يكن زلالاً ولا عذباً. وإن رجعت إلى مجلة الرسالة (1935) قرأت مقالة لي عن هذه الساقية (¬1)، فاجعلها على يمينك، وامشِ في مدينة الأموات، وارعَ حرمة القبور فستدخل أجسادُنا مثلَها، ودَعْ هذه البرحة الواسعة في وسطها وهذه الشجرة الضخمة الممتدّة الفروع ¬

_ (¬1) «ساقية في دمشق»، وهي في كتاب «دمشق، صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).

الوارفة الظلّ، التي كنا وكان الناس يتخذون من ظلها مجالس أنس يوم العيد وعلى أغصانها يعلّقون الأراجيح، يُقبِلون على تسليات الحياة في موطن الموت! سر إلى الأمام حتى يبقى بينك وبين جدار المقبرة الجنوبي نحو خمسين متراً. إنك سترى إلى يسارك قبرَين متواضعَين من الطين على أحدهما شاهد باسم الشيخ أحمد الطنطاوي. هذا قبر جَدّي وفيه دُفِنَ أبي، وإلى جنبه قبر أمي، فأقرئهما منّي السلام. أسألُ الله الذي جمعهما في الحياة وجمعهما في المقبرة أن يجمعهما في الجنّة. هنا دُفِنَ أعزّ الناس عليّ. أمّا مَن كانت أعزَّ منهما (ولا أظن أن قولي هذا يسوؤهما) فقبرها بعيد بعيد في ألمانيا، إني لست أعرفه. بلى والله إني أعرفه لأنه قريب قريب، إنه في قلبي. ربِّ اغفر لي ولوالدي، ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً. ربِّ ارحم بنتي واغفر لها. ربِّ وللمسلمين والمسلمات. * * *

مآتم الشام وكيف كان مأتم أمي

-49 - مآتم الشام وكيف كان مأتم أمّي بقيَت كلمة واحدة من حديث أمي، أقولها وأختم الحديث. انتهت المعركة ورجعت منها مهزوماً مَحطوماً، لأنها المعركة التي لا يمكن أن ينتصر فيها أحد من البشر؛ هي معركة الحياة والموت. وبدأت معركة أخرى ينتصر فيها مَن أقدم وثبَتَ ويندحر من توانى وهرب، معركة العقل و «التقاليد»، بيني وبين عمّتي التي هي أكبر من أبي، والتي لم أكُن أحبّ أحداً بعد أمي مثل حبها ولم يكن لأحد فضل عليّ في طفولتي (بعد أمي) مثل فضلها، وبين خالتي التي كانت الأم الثانية لأمي. وكانت المعركة على ترتيبات المأتم، أي على هذه العادات التي ابتدعها الناس فتنكّبوا فيها جادة العقل وخالفوا فيها عن أمر الشرع، وجعلوا من الموت الذي هو الموعظة الكبرى تقاليدَ حمقاء ما فيها إلا الإنفاق والنفاق والكثير من الإرهاق. جعلوا للرجال «الصّباحِيّة»، وهي أن تُصَفّ الكراسي في غرف الدار كلها، وربما ضمّوا إليها بعض الغرف من منازل

الجيران إن كان الميت عظيمَ الشأن كثير الإخوان، لا الإخوان الذين يأتون للعزاء حقيقة يستشعرون الحزن ويشاركون في المصاب، فهؤلاء أقلّ من القليل، وما يحتاج هؤلاء إلى «ترتيبات» ولا إلى كراسي تُصَفّ ولا إلى غرف تُستعار، بل الذين يأتون رغبة أو رهبة، يجيئون يبتغون تسليف يد يطالبون يوماً بردّ مثلها أو حظوة يأملون الإفادة منها، لا حظوة عند الميت بل عند من بقي من أولاده وذويه، فإن لم يكن له ولد أو قريب يرجُى خيره أو يُخشى ضُرّه لم يأتِ منهم أحد. أما الصباحيّة فتبدأ من بعد المغرب، وإنما سُمّيت صباحية لأنها كانت في المقبرة صبيحة الدفن يخرجون إليها بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس، ثم صارت في المسجد بين العشاءين، يجلسون يقرؤون القرآن من «الربعة»، وهي أجزاء القرآن كل جزء في مجلدة لطيفة، كل يقرأ وحده، فإذا انتهوا دعا واحد منهم للميت وللمسلمين وأمّنوا. وكانوا يديرون كؤوس الماء المحلّى بالسكر. ثم صارت في البيوت، يأتون بقارئ يقرأ القرآن فلا يُصغي إليه أحد ولا يتدبّر ما يتلو أحد. هو يقرأ والمعزّون يدخلون ويخرجون، وأصحاب المأتم يقومون ويقعدون، يودّعون ويستقبلون، ويدورون عليهم بالقهوة المرّة كأنهم في مقهى لا في مأتم. لا يختارون من القرّاء أعلمَهم بأحكام التجويد وأعرفَهم بمخارج الحروف وبمواضع الوقف، بل مَن كان أحلى صوتاً وأقدر على التصرّف بالأنغام وأدرى بمحطّ الألحان، وبلغ بهم الأمر (وهذا كله في الشام) أن جعلوا للقرّاء نقابة كنقابات الأطباء والمهندسين والسبّاكين والسوّاقين، ثم صنّفوا القرّاء أصنافاً ثلاثة

وحدّدوا لكل منها أجر قراءته كما تُحدّد أجور العمّال وأسعار الفاكهة والخضر (¬1). وأنا لم أحضر في عمري كله إلا مآتم معدودة، كما لم أحضر إلا موالد معدودة. وما حضرته منها لم أخرج منه إلا وقد أغضبت أهله لأني لا أسكت عن منكر، والناس يغضبون على من يُنكِر عليهم ما هم فيه. سمعت مرة في مأتم لكبير من أسرتنا اضطُررت إلى حضوره قارئاً يَلْحَن، فنبّهتُه بلطف وكنت قريباً منه، فعاد إلى اللحن فعدت إلى التنبيه، فلما كثر ذلك منه ومني قال: أنا من صنف المئة، أفتدفعون مئة ليرة في الليلة وتريدون من يقرأ لكم مثل الشيخ محمد رِفعة؟! وكنت مرة في مولد مع شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، فقام منشد حسن الصوت مطرب الأداء يغني أغنية غزلية مشهورة من الغزل المكشوف، فلما انتهى منها قال: اللهم صلّ وسلم وبارك عليه ... جعلها في رسول الله. وكان الحاضرون مئات، فصرخت به: اخرس! أتجعل غزَلاً في غلام مدحاً لسيد الأنام؟ وفسد «المولد». وكانت «الصباحية» تبدأ بعد صلاة العشاء، فمات مرّة أحد الوجهاء وكانت أيام اضطرابات منع فيها الفرنسيون التجوّل في الليل، فجعلوها بعد المغرب. وكذلك تتبدّل العادات، بحادثة من الحوادث أو بإقدام كبير يُقتدى به على تغييرها فيقلّده غيره، فتتبدّل العادة. فلا تقنطوا من تبديل سيّئ العادات. أمّا النساء فكان لهنّ «العَصْريّة»، وهي أبعد عن الشرع ¬

_ (¬1) وأخذ الأجرة على مجرّد التلاوة لا يجوز.

وأحفل بالمخالفات من صباحية الرجال. يجتمع النساء من أهل الميت، القريبات منه يلبسن السواد ومن كانت أبعد اكتفت بالألوان القاتمة. ولا يجيز ذلك الدينُ إلا للزوجة. وتُصَفّ الكراسي حتى تملأ المكان، يقعدن عليها على ترتيب قرب الواحدة من الميت (أو الميتة)، وربما وقع النزاع والقتال أحياناً على الكرسي الواحد، ينسين الفجيعة وتقول الواحدة: لماذا تقعد فلانة فوقي وأنا للميت كذا وكذا؟ تبيّن قرابتها منه. والتي لا تُدعى من القريبات تغضب. هذا كله «وراء الكواليس»! ويتركن كرسيين أو ثلاثة فقط للمعزّيات، ثم «يُرفَع الستار» وتضع كل واحدة منهن من مظاهر الحزن على وجهها بمقدار قرابتها من الميت، ومنهن من تمسك بالمنديل تعصر عينيها وتمسح دمعها الذي لم تنزل منه قطرة. ويبدأ «التمثيل»، فتدخل المعزّيات مَثنى مَثنى أو ثُلاث ثُلاث، يدخلن صامتات ويخرجن صامتات، لا سلام ولا كلام، يجلسن دقائق معدودة لكنها تكفي «لأداء الدور». وأهل الميت يلاحظن بأطراف العيون، حتى إذا انتهت «الرواية» بدأن بانتقاد فلانة كيف دخلت وعِلاّنة كيف قعدت والثالثة ما أدري ماذا فعلت ... والمعزّيات إذا خرجن شرعن في انتقاد النساء من أهل الميت واحدة واحدة. ثم إذا كان ثالث ثلاثة لموت الميت كانت مراسم أخرى، ويوم الخميس الأول، ويوم الأربعين، ثم «السّنَوية»، ثم ما قال الشاعر: إلى الحَولِ ثمّ اسمُ السلامِ عليكُما ... ومَن يبكِ حَولاً كاملاً فقدِ اعتذرْ

هذا ما كانت تريده مني عمّتي وخالتي. أفئن فقدت أمي فهل أفقد معها ديني وعقلي ورجولتي؟ لا. وقلت لخالتي وعمّتي: لا! إن من العلماء من كان يواجِه بكلمة الحقّ الملوك والأمراء ويصبر على مايلقى منهم من ضروب الإيذاء، وهذا صعب، ولكن أصعب منه أن تجابه بها العوام، وأصعب منهما أن تصرف النساء عمّا توجبه العادات، لا سيما إن كان لهن عليك حقّ القرابة وفضل السنّ. وقد عرفتم ممّا سبق شدة خالتي وصرامتها، وستعرفون ممّا يأتي لسان عمّتي وفصاحتها ومحفوظها من الأمثال ومن بليغ التقريع. ولكني مع ذلك قلتها. قلت: لا. وبدأت المعزوفة المعروفة، «مونولوج» له أول وليس له آخر من نوع «الهارموني»: خالتي بصوتها الواطي الثخين (الكونترالتو)، وعمّتي بالصوت العالي الثاقب (السوبرانو)، تصرخان معاً: ما يصير أبداً، هذا شيء ما يصير! أمك ما كانت رخيصة. هل هي أقلّ من فلانة وفلانة؟ لقد عُمل لهما عزاء تحدّث به الناس. أفتبخل عليها بمثله؟ ماذا يقول عنها الناس؟ أنت شابّ لا تعرف هذه الأمور. وقالت عمّتي: استحِ أنا أكبر من أبيك. وقالت خالتي: أنا أرضعت أمك. وحسبتا أن هذا يخيفني، ولكني لم أخَفْ. أنا من صغري إلى اليوم لا أبالي بعادات الناس إن لم يقبلها عقلي ولم يوجبها عليّ ديني، ولا أجعل رأي الناس فيّ دستور سلوكي. أتساءل الآن: ما الذي دفعني إلى هذا الموقف؟ لقد حاسبت

نفسي عليه ألف مرة وكل مرة أجدني على صواب، وأنا أفكر فيه الآن بعد بضع وخمسين سنة فأرى أني لم أندم عليه. كان حزني على أمي أكبر من حزنهما، ولكني كنت أنظر بعينها أحاول أن أفكّر تفكيرها. هل كانت ترضى لي أن أوافق عمّتي وخالتي وأن أُرضي الناس على حساب أولادها؟ أن أجدّد لهم الأحزان كل ساعة؟ أن أذكّرهم المصاب كلما أوشكوا أن ينسوه أو يَسلوه؟ ماذا ينفعني رضا الناس وماذا يضرّني سخطهم؟ لقد فعلت ما لم يفعله (فيما أعلم) أحدٌ قبلي وما سمعت اليوم أنه فعله أحد بعدي. وقفت منهما موقف حزم لم تكونا تستطيعان ولا مئة من أمثالهما زحزحتي عنه أصبعاً، فكّرت وقرّرت وأسمعتهما أعجب قرار. قلت لهما: أنا مضطرّ أن آخذ إخوتي وأن أغلق باب الدار بالمفتاح وأحمل المفتاح معي، ونلتقي فيما بعد. تصوّروا الذي كان معي. لقد صرختا وولولتا وجمعتا عليّ الجيران، ولكن كل هذا «كلام»، فما هو «الفعل» الذي تقدران عليه؟ صفر؛ لا شيء. إنه مثل موقفنا مع اليهود وغير اليهود: «أوسَعتُهُ شَتماً وأَوْدى بالإبِلْ». وأخرجتهما من الدار وأخذت إخوتي وأغلقت الباب وحملت معي المفتاح. فيا ربِّ عفوك فأنت تعلم كيف كانت حالي وماذا كان مقصدي، ويا أمي سامحيني، فما فعلت هذا إلاّ رأفة بأولادك وحباً بهم وخوفاً عليهم. لم أستطع أن أجعلهم يتجرعون الآلام قطرة قطرة ليقول الناس إننا أدّينا «مراسم الحزن». لم أقدر أن

أمزّق قلوبهم لأرقّع بها الخروق بيننا وبين الناس. لقد كان قلبي منصدعاً ولكن عقلي كان سليماً، تحملت ألمي لأجنّب إخوتي (ما استطعت) حمل الألم. كان عليّ أن أُنسِيَهم بالسفر ما أصابهم، ولكن إلى أين أسافر بهم؟ ما كان معي ما أسافر به إلى بيروت فكيف بالبلد البعيد؟ فأخذتهم إلى قرية من قرى الوادي، وما نمت حتى تلقّيت طعنة مفاجئة من خنجر حاد، حين أقبلنا نفرش الفرش لننام فسألني أخي الصغير سعيد: وأين ستنام أمي؟ إلى هنا ودعوني أطوي (¬1) صحف هذه القصة (وإن كانت مرارة ذكراها سيبقى مطوياً عليها القلبُ إلى أن أموت) وأقلب الصفحة من كتاب الذكريات الذي لم أكتب منه شيئاً قبل الآن إلا صوراً وأفكاراً جاءت منثورة في بعض ما كُتب بعد ذلك اليوم. * * * أستأنف صفحة جديدة من هذه «الذكريات» التي صار لها قراء، ولهؤلاء القراء آراء تأتيني فيما يتفضلون بإرساله إليّ من رسائل، في بعضها ثناء وفي بعضٍ نقد، ومنها ما فيه استيضاح واستفهام. ورسالة جاءتني تشهد لصاحبها بأنه من بلغاء السفهاء ومن أكابر أهل الهجاء، ألقى هذه الأقذار كلها أمام بابي لأني تردّدتُ أن أترحّم على عارف النكدي لأنه درزي. وثلاث رسائل من رجلين وامرأة فيها تعليق على ما شكوته من أخي. وكان خيراً لي ألاّ أشكو إلاّ إلى الله. وأنا أشكر لهم ¬

_ (¬1) أطوي ليست جواب الطلب، لذلك رفعت الفعل ولم أجزمه.

عاطفتهم واهتمامهم، ولكن الأمر ليس كما ظنوا، وهو أبعد الناس عن ظنهم هذا. إنه أصلح مني مئة مرة وأحرص على العبادة، ثم إنه -على زهده وعبادته- ذكي واسع الاطّلاع، شهادته الجامعية في الفيزياء وكان من أقدر مدرّسيها في الشام. وهو داعٍ إلى الله على إلمام تامّ بعلوم الإسلام والتاريخ والأخبار، وهو كاتب مؤلّف يُحسن نَظْمَ الشعر، قَلّ مَن له مثل ثقافته. ولئن أساء إليّ فما كنت لأسيء أنا إلى نفسي فأظلمه وأبخسه حقه، ولعل له عند نفسه عذراً فيما فعله بي، فما كان ليُقدِم على محرّم إلا بتأويل. ولكن التأويل يُخطئ ويصيب، سامحه الله وغفر لي أن شكوته للناس (¬1). ¬

_ (¬1) لو أن أمر هذا الكتاب رُدّ إليّ لحذفت هذا التعليق والذي استجرّه هذا التعليق ممّا سبق من كلام في هذا الموضوع، لكنني لا أملك أن أنقص ممّا كتبه جدي حرفاً ولا أن أبدل كلمة بأخرى، لا أملك إلا أن أصحح خطأ مما يخطئه الطابعون أو أوضّح (في مثل هذه الحواشي) غوامضَ قد يجهلها عامة القراء. لذلك لم أصنع ما كنت أحب، ولكنني أبحتُ لنفسي أن أوضح المسألة لئلاّ يشتطّ قومٌ من القرّاء فيذهبوا في تعليل المسألة ذات اليمين وذات الشمال. وخلاصة الأمر أن جدي -كما علمتم- قد كفل إخوته بعد وفاة أبيهم وأمهم ومنحهم كل ما يقدر مثله على منحه، وكان سعيد أصغرَ الإخوة، سنّه لمّا مات أبوه ثلاثة أشهر، فصار أقربَ إلى الولد لجدّي منه إلى الأخ، وأولاه من الرعاية والعناية ما مرّ بكم بعضُ خبره فيما سبق من حلقات. ونشأ الشيخ سعيد على الدين والأدب والعلم حتى بلغ من الصفات ما وصفه بها جدي في هذه الصفحة من ذكرياته، وأخذ نفسه بالشدّة وحملها على المَكاره حتى صار من صنف أولئك=

وهذه رسالة من «قارئ». وكان صديقنا الأستاذ الكبير

_ = الزهّاد العُبّاد الذين نقرأ عنهم في «صفة الصفوة» وأمثاله من الكتب. والصلابةُ من صفاته، فإذا رأى رأياً في مسألة كاد يعجز عن تغيير رأيه فيها أهلُ الأرض ولو اجتمعوا كلهم عليه. وكان له في الرائي (التلفزيون) رأيٌ من أول يوم وصل فيه الرائي إلى بلادنا، وهو أنه من المنكَرات المحرَّمات، لا يجوز اقتناؤه ولا يجوز حضور مجلسه ولا النظر إليه، بل ولا يجوز دخول البيت الذي يوجد فيه. وكان علي الطنطاوي متوجّساً من الرائي ولكنه لم يحرّمه، وستجدون فيما يأتي من الذكريات -في أخبار الوحدة والانفصال- أنه تردد حين دُعي لإلقاء أول حديث فيه ألقاه في حياته قَط، قال: "لمّا عرضوا عليّ أن أتكلم في الرائي ترددت وخشيت أن يكون ظهوري فيه دافعاً بعضَ الناس إلى اقتنائه، وربما رأوا فيه ما يضرهم فأكون أنا السبب في ذلك". لكنه أقدم بعد ذلك على إذاعة أحاديث في الرائي وأقدم على اقتنائه، فعندئذ رفض أخوه الشيخ سعيد دخولَ بيته لأنه لا يدخل بيتاً فيه جهاز الرائي. وتكرر هذا الأمر في المملكة لمّا جاءها علي الطنطاوي ثم أخوه سعيد؛ لم يكن في بيت جدي تلفزيون فكان يزوره، فلما اقتناه انقطع عن زيارته، فلم يزُرْه قطّ حتى حين قُتلت خالتي بنان رحمها الله. واستمر على ذلك سنين طِوالاً؛ هو يأبى الزيارة إلاّ أن يُرفَع الجهاز، وجدي لا يصنع ذلك لأنه لم يكن من طبعه المداورة والمراوغة، ما رآه حقاً صنعه لا يبالي به كبيراً ولا صغيراً، فكيف يداري أخاً له هو منه بمنزلة الولد وما كان ليداري الكبير والوزير؟ فانقطع ما بينهما سنين وسنين، حتى كانت أخريات أيام جدي -رحمه الله- وقد تتابعت عليه نوبات المرض ودنا منه الأجل، فما زال بعض أصحاب الشيخ سعيد به حتى أقنعوه وحملوه على زيارة أخيه، فالتقى به في=

إسعاف النشاشيبي يكتب بعض مقالاته في الرسالة باسم «قارئ»، ولكن النشاشيبي ذهب مع من ذهب من أئمة العصر ولم يسدّ بعدهم أحدٌ مسدّهم. يقول هذا القارئ في كلام طويل: إنك تتكلم عن دمشق، فكيف زلّت بك القدم أو زلّ القلم فصرت في شارع بغداد، وأين بغداد عن دمشق؟ يا أخي، شارع بغداد الذي تكلمت عنه في دمشق. ألم تسمع أن في بلد شارعاً باسم بلد آخر سمّوه به تكرمة لذلك البلد؟ ومن خبره أن أول شارع فُتح في دمشق شارع جمال باشا، فتحه سنة 1916 وسمّوه بعد ذلك شارع النصر، والثاني شارع بغداد هذا شقّه الفرنسيون سنة 1925. وأنا اذكر فتح الشارعين. كان فتحه أيام الثورة لمقاصد عسكرية لأن حارات دمشق كانت مغلَقة أمام سيارات الجيش لا تستطيع أن تمشي فيها، وبعضها كان مسدوداً، وكان الجند من الفرنسيين يطاردون مجموعة من الثوّار أو من رجال المظاهرة حتى يحصروهم في واحدة منها، ويقفون في مدخلها يقطعون عليهم خط الرجعة ويمنعونهم من الخروج، فإذا أمسى المساء عليهم وهم يراقبونهم أصبحوا فلم يجدوا منهم أحداً ووجدوا الحارة خالية ما فيها أحد. فيقرعون أبواب المنازل يفتّشونها فلا يلقون في المنازل إلا أهلها، فيُجَنّ

_ = جزء من بيته ليس فيه تلفزيون (وما كان من قبل ليقبل دخول البيت الذي فيه هذا الجهاز ولو أُقصي في ركن من البيت ووُضع في جوف صندوق)، وبقي كذلك يزوره بين حين وحين حتى وفاة جدي رحمه الله وغفر لأخيه. هذه هي القصة كلها (مجاهد).

جنونهم. وربما جاء أحد الشباب ممّن يعرف لسانهم فأوهمهم أن في الحارة أرواحاً وأشباحاً وجِناً وأنها ربما آذتهم، وكثير منهم يخاف الأشباح والأرواح، فكان الجندي يعصي ضابطه إن أمره بدخول الحارات، يرضى بالعقوبة لأنها أهون عنده من أذى الشبح. وكثير من الأوربيين يخشون الأشباح كما يخاف الجنَّ عمومُ المسلمين. أما حقيقة الأمر فهي أن من البيوت الكبيرة ما له بابان: باب من هذه الحارة وباب آخر إلى حارة في الحيّ المجاور، وبين البابين عشرة أمتار من داخل الدار، ولكن مَن يدور في الطرق لا يصل إليه إلا بعد سير عشر دقائق. وكثيراً ما يكون الباب الثاني في فجوة أو في وسط غرفة فلا يراه إلا من دقّق وأمعن في التفتيش. منها بيت الشيخ هاشم الخطيب رحمه الله، له باب من الخَيْضَرية وباب من زقاق البرغل، وبينهما مشياً على الطريق أكثر من نصف كيل. ومثله بيت الشيخ صلاح الدين الزعيم رحمه الله، له باب على حارة السمّانة وباب من قفا الدور، وبينهما في الطريق أكثر من ذلك. ودعوني أفسّر لكم ما «قفا الدور»؛ إن دور دمشق ومنازلها كانت تنتهي بنهاية السمّانة من هنا، ما بعد ذلك إلا بساتين الشام، وكل بستان منها بمقدار عزبة في مصر، وكان الرجال يتراهنون مَن منهم يقدر أن يمرّ بقفا الدور ليلاً. هذا الذي صار اليوم شوارع وجادّات تتفرع من شارع بغداد تمشي فيها السيارات وتقوم على جانبيها العمارات، تسبح الليل بالأنوار فكأنها منها في نهار. في سنة 1931 التي لا أزال أتحدث عنها لم يكن في

الشارع (شارع بغداد) إلا بناء واحد ضخم هو مدرسة اللاييك، أي المدرسة الـ «لادينية»، وكانت ثانوية أربعةُ أخماس طلابها منا نحن المسلمين. وكان الشارع خالياً من العمران، على جانبيه البساتين التي صارت اليوم صناديق من الأسمنت فيها ناس متزاحمون كالسردين في العلب، هذه هي البيوت الجديدة التي قطعنا نصف أشجار الغوطة لنقيمها. وما كان فيها سوى ذلك إلا بيوت قليلة في حارات معدودة، منها حارة الخطيب التي كنا نسكن داراً فيها مساحتها ستون متراً مربعاً، وكان أشهر مكان في الشارع «قهوة ديب الشيخ». وما هي قهوة كالمقاهي (¬1) ولا هو مثل أصحاب القهوات. ديب الشيخ (أبو عبده) مرّ بكم ذكره عند الكلام على الثورة السورية، واحد من أعلام «الزكرتيّة». والزكرتي في الشام مثل «الفارس» في أوربا في القرون الوسطى. أمَا قرأتم قصة «الفرسان الثلاثة» لإسكندر دوماس (¬2) (مع انهم أربعة لا ثلاثة) والصورة «الكاريكاتورية» للفارس في «دون كيشوت»؟ كان في كل حارة واحد أو جماعة منهم، إذا استجار بهم الضعيف أجاروه، وإن استنصرهم المظلوم نصروه، يحمون نساء الحارة كما يحمون نساءهم، يغارون على أعراض أهلها غيرتهم على أعراضهم، أكثرهم له دكّان يبيع فيه أو مركز يركز ¬

_ (¬1) كلمة مقهى فصيحة، من «أقهى» أي أدام شرب القهوة. (¬2) الأب، وهو مثل تشارلز ديكنز عند الإنكليز، أما الابن فمؤلف «غادة الكاميليا».

فيه. يُشرِف من بعيد على بيوت الحارة، فإن رأى فيها غريباً سأله ماذا يريد، فإن كان آتياً لمصلحة مشروعة دلّه وساعده، وإن كان سيّئ المقصد نصحه ثم زجره، ثم أدّبه تأديباً يحرّم عليه أن يعود. وكانت لكبارهم كُنى عادية، فديب الشيخ مثلاً كنيته «أبوعبده»، فمَن ناداه أو خاطبه قال له: عمّي أبو عبده. ولمن هم دون الكبار كُنى ضخمة: أبو صيّاح، أبو عَجاج، أبو دعّاس، أبو سطّام، أبو كعّود، أبو كاسم ... وقد رأيتم في الرائي هنا في المسلسلات الشامية ثلاثة نماذج: «أبو عنتر» بشعره الطويل وكمّه القصير وكمّته (أي طاقيته) المائلة وعدوانه على الناس، هذا نموذج الزكرتي الأزعر أو مدّعي الزكرتية. و «أبو صياح»، وهو مثال الزكرتي العادي. وظهر مرة واحد كنيته في المسلسلة «أبوحديد»، بطربوشه وردائه الطويل ورزانته وهدوئه، مع شجاعته ومضائه، هذا هو نموذج الزكرتي الأصيل. أما البستان الذي وُضعت القهوة في مدخله فهو قطعة من الغوطة "التي تضمّ دمشق بين ذراعيها كالأم التي تسهر ليلها كله تحرس وليدها، تُصغي إلى وشوشة السواقي الهائمة في مَرابع الفتنة وحديث الجداول المنتشية برحيق بردى، الراكضة أبداً نحو مطلع الشمس تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها، وهمس «الزيتون» الشيخ الذي شيّبته أحداث الدهر فطفق يفكّر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع ويتلو على نفسه نتاج حكمته، وتصفيق الحور الطروب لغناء الطيور على الأغصان، ألهاه عبث الشباب عن التفكّر والتأمل فقضى العمر مائساً عجباً وتيهاً، مائلاً على أكتاف السواقي خاطراً على جنبات المسارب، يغازل الغيد

الحسان من بنات المشمش والرمان، يميّله إليها الهوى والهواء، يريد في الربيع أن يقطف زهرة من خدّها أو ثمرة من ثغرها، ثم يرتدّ عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص. والجوز ملك الغوطة بجلاله وكبريائه، جلال ملك تحت تاجه وعاهل فوق عرشه (¬1). وكانت القهوة مجلساً لشيوخ الحيّ يجلسون فيه، يتحدثون ويسمرون، فإذا حلّ وقت الصلاة كان فيها (كما كان في المقاهي الكبار في شارع بغداد) مَن يؤذّن ومن يؤمّ الناس، وقد يجتمع وراء الإمام في مقهى اللونابارك وفي المقهى الذي يقابله والذي نسيت اسمه مئتان وأكثر من المصلّين. وكان أبو عبده -رحمه الله- يسمح لنا أن نعقد اجتماعاتنا (أي اجتماعات لجان الطلاّب التي كنت رئيسها) في قهوته، نُلقي الخطب ونرسم الخطط، ونعد الإضرابات ونهيّئ المظاهرات. وكنا مرة في أحد هذه الاجتماعات فجاءت «الكَبْسة» (¬2) تفاجئنا. وكان يقودها رقيب في الشرطة (أو صاحب رتبة قريبة منها) هو أبو عَجاج الخطيب، فأخّر مَن معه وعجّل إليّ فناداني: علي أفندي، علي أفندي. قلت: ماذا تريد؟ فأشار إليّ ألاّ أرفع صوتي وأن أسرع إليه، فأسرّ إليّ قائلاً: جئتكم على رغمي ولم يكن لديّ وقت لأنذركم، فتفرّقوا واجلسوا هادئين، وإذا شتمتُ أو أغلظت القول فلا «تَزعلوا». أنا معكم كما تعرفون ولكني مأمور. ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس من مقالة لي نشرت في «الرسالة» سنة 1945، وهي في كتابي «دمشق». (¬2) لا التي تأكلونها هنا رزاً ولحماً، بل الكبسة جند الحكومة أو الشرطة.

وكان أتْباعه قد دنوا منا، فصاح: ممنوع، ممنوع كلمة واحدة وإلا قبضت عليكم جميعاً. كل واحد يذهب إلى بيته. آخر كلمة: هل تتفرّقون أو ... هه. فتفرقنا، وعاد بمن معه فعدنا نحن إلى ما كنا فيه. ولهذا الرجل قصة طريفة أرويها لكم لعلّي أنفّس بها عنكم بعدما حَمّلتكم قصص المآسي والأحزان، ولكن طال المقال، فإلى المرّة القادمة إن شاء الله. * * *

من ذكريات سنة 1931 المدرسة الصيفية ومجلة البعث

-50 - من ذكريات سنة 1931 المدرسة الصيفية ومجلة البعث وقفت في آخر الحلقة السابقة عند الحادثة التي وقعت لأبي عَجاج. أرويها لأني وعدت بروايتها، ولأني أرجو أن أرسم بها الابتسامة على شفاهكم بعد أن وضعت بقصّة أمي الحزن في قلوبكم والدمع في عيونكم. وقد قال لي ناس: إن كتابتك عن أمك فيها صنعة، والمحزون لا يشتغل ببلاغة القول ولا يتحدث عن حارات الشام وألوان الطعام فيها. وجوابي أني أكتب عن الحادثة بعد بضع وخمسين سنة، ولو كتبت عنها في يومها لما جاء الكلام كما قرأتم، بل لما استطعت أن أكتب أبداً. أما رأيتم أني لمّا حاولت الكتابة عن الحادث الجديد، حادث بنتي، لم أستطع؟ ثم إن الأديب لا ينسى صناعته مهما تألّم. هذا رثاء الخنساء أخاها صخراً ومتمم بن نُوَيرة أخاه مالكاً. وأبو ذؤيب وبشار وابن الرومي والتهامي لمّا رثوا أولادهم، وجرير والطّغرائي والبارودي وأباظة لمّا رثوا زوجاتهم ... هل نسي واحد منهم أسلوبه في التعبير وفنّه في القول، إلاّ أن ينسى نفسه وينكر طبعه؟ ومتى وصف العامّي مشاعر نفسه مثلما يصف مشاعرَه الأديب؟ فَلِمَ لا يكون الصدق

فيما يسميه هؤلاء صنعة؟ ولِمَ لا تكون استطراداتي وكلامي عن حارات الشام وألوان الطعام فيها دليلاً على ألمي؟ من كان في رجله دُمّل عليه أن يفقأه يمدّ يده إليه، ولكن تصوّر الألم والخوف منه يبعدها عنه فهو يدلّك الجلد حوله ويتجنب الضغط عليه. وهاكم قصة أبي عجاج. وما هي بقصة ذات بال وما أبوعجاج بالمشهور بين الرجال، إنه واحد من أبناء هذا الشعب الطيّب، النقيّ الفطرة الصافي القلب، الذي لا يقول إلا ما يعتقد أنه الصدق ولا يفعل إلا ما يرى أنه الحقّ؛ لذلك يصدّق الناسَ إذا قالوا، وإنْ وثق بشيخ يدعو إلى الله أو زعيم يُخلِص في خدمة الوطن أطاعه وانقاد إليه وأعانه. إذا وعد وفى ولو على ذهاب روحه، وإن ظُلِم ثار ولو بذهاب روحه. هذه هي الصفات الأصيلة لأبناء هذا الشعب. فلما قامت «نهضة المشايخ» أسرع أبو عجاج إليها ولزم أحد شيخَيها، وهو ابن عمّه الشيخ هاشم الخطيب، فواظب على حضور دروسه وسماع مواعظه، وهجر أصحابه من جماعة الزكرتية وصحب طلبة العلم واتخذ زِيّهم، وأعفى لحيته وبالغ فيها حتى صارت من أعظم اللحى. وكان قصيراً عريض المنكبين والصدر، فزاد ذلك لحيته عظماً في عين رائيها. واتخذ لنفسه دكاناً في «النّوفرة» تحت درَج الباب الشرقي للأموي، فضاق بنفقته موردُ الدكّان وأشرف على الإفلاس، وكانت له صلة بالأستاذ شاكر الحنبلي هي فوق المعرفة العارضة ودون الصداقة الأكيدة، فذهب إليه (وكان وزير الداخلية) فقال له: أريد وظيفة. قال: يا أباعجاج، أي وظيفة أعطيك وأنت لا تحمل شهادة؟ قال:

اجعلني شرطياً. فضحك الوزير وقال: شرطي له لحية تغطّي صدره وتبلغ سرّته؟ قال: يا سيدي أحلقها. قال: عندما تحلقها تعالَ. فذهب أبو عجاج إلى حلاّق بجوار دكّانه وقال له: أترى هذه اللحية؟ احلقها بالموسى. فظنّه الحلاّق مازحاً، فلما رأى منه الجدّ فزع وخاف أن يحلقها له فيندم عليها ويبطش به، فخرج فنادى الجيران وجمع عليه طائفة من الناس وقال: اشهدوا، أبوعجاج يريد أن أحلق له لحيته وأخاف أن يندم فيرجع عليّ. قال أبو عجاج: نعم، اشهدوا أني أفعل ذلك مريداً مختاراً وأنه غير مسؤول عن شيء. فحلقها له، فبَرَمَ شاربَيه (¬1) ولبس بذلة، وذهب إلى شاكر بك فلم يعرفه. فقال له: محسوبك أبو عجاج. فقال له الوزير: ما هذا يا أبا عجاج؟ ماذا صنعت بلحيتك؟ قال: سيدي، حلقتها مثلما أمرت من أجل الوظيفة. قال: أي وظيفة؟ قال: وظيفة الشرطي التي وعدتَني بها، أنسيت؟ قال: ولكن عليك أن تنتظر حتى تصدر الموازنة بعد شهرين. قال: بعد شهرين؟! وغلى الدم في عروقه، فذهب فأغلق باب الغرفة من الداخل بالمفتاح وقال له: (شوف) شاكر بك، أنت صاحبي ولكنك قتلتني حين أمرتني بأن أحلق لحيتي من أجل الوظيفة، ثم جئت تتهرّب من وعدك! إنك تعرفني تماماً، والله أشرط بطنك بسكّين في ليلة ما فيها ضوء قمر، وخلِّ وزارتك وعساكرك يخلصونك مني. فأراد أن يمدّ يده إلى الجرس ليستدعي الشرطة، فقال له: يَدَك عن الجرس، وصلَت المسألة إلى حدها، وأنت الجاني على ¬

_ (¬1) «برم شاربَيه» كلمة عربية فصيحة.

نفسك وأهلك لأنك وعدت وأخلفت، فإما أن توقّع الآن قرار التعيين وآخذه معي وإما أن تنتظر قدرَك. ولم يخرج إلاّ ومعه قرار تعيينه شرطياً. ثم تدرّج حتى صار عريفاً فرقيباً أو ما لست أدري ماذا. وأشهد أنه كان شرطياً مخلصاً لعمله قائماً به، ولكنه بقي مخلصاً لدينه ولبلده ولأهله. عمل تحت حكم الفرنسيين كما عمل آلاف الموظفين، لكنه ما والاهم ولا أعانهم على قومه ولا خالف من أجلهم أحكام دينه. لكنْ لا تظنوا أن هذه الواقعة هي القاعدة، لا، بل هي الشذوذ؛ فلم تكُن البلاد فوضى تؤخَذ فيها الوظائف بالتهديد، ولا كان هذا الرجل (أبو عجاج) مجرماً، ولا كان الوزير (شاكر بك) ضعيفاً. ولكنه أخطأ إذ وعد قبل أن يتوثّق من مقدرته على الإنجاز، وأبو عجاج وصل إلى حافة اليأس، واليائس المستميت يفعل كل شيء، فقد كان يعيش وسط مشايخ وكانوا يعرفونه باللحية العريضة والزيّ العلمي، فكيف يخرج عليهم بالوجه الحليق الأملس واللباس الإفرنجي؟ ألا يحسبونه قد فسق أو جُنّ؟ ألا يزدرونه ويَحْقِرونه؟ ألا يلحقه الصبيان يهتفون به ويسخرون منه؟ وقديماً قالوا: سَلّط مجنوناً على العقلاء يغلبْهم وسَلّط الصبيان على المجنون يغلبوه. وأبو الشّمَقْمَق استطاع بهجائه (السخيف) أن يخيف بشار بن برد الذي تجزع من هجائه الشجعان لمّا جعل هجاءه في أفواه الصبيان. ثم إن الرجل مستحق قانوناً لوظيفة الشرطي والوزير يملك منحها. * * *

لا أزال في سنة 1931، وهي في حياتي سنة حافلة بالأحداث، بالمسرّات وبالآلام. من هذه الأحداث ما هو خاصّ بي ومنها ما يُعَدّ من أحداث البلد. ممّا كان في تلك السنة الجراد، والذين يقرؤون هذه الحلقة لا يعرفون من الجراد إلا ما يدرسونه عنه في «علم الحيوان» مع ما يدرسون من «علم الحشرات»: معلومات يُودِعونها رؤوسهم إلى يوم الامتحان، فإذا جاء استخرجوا هذه الودائع فوضعوها في الأوراق، فإذا نجحوا فعل أكثرهم بها ما يفعلون بسائر الدروس، يهملونها ثم ينسونها. أما نحن فكان لكلمة الجراد عندنا معنى آخر، فكانوا يقولون: «جراد وأكراد والله أراد». لا يعنون بالأكراد هذا الشعب المسلم الكريم الذي أخرج صلاح الدين والملوكَ الكبار من بني أيوب، معاذ الله، بل ما سرى على الألسنة من قديم ظلماً وافتراءً من تسمية قُطّاع الطرق بالأكراد. وفي الأكراد (كما يكون في العرب والترك والفرس وكل أمة من الأمم) الصالح والطالح والطائع والعاصي، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. ولما كان عمر الزعني في لبنان ينظم في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن تلك الأهازيج التي كانت تسير في الناس سير النسيم، تنعش النفوس، وكان يلحنها تلحيناً سهلاً عجيباً يحفظه سامعه من مرة، وقلده في الشام سلامة الأغواني، كان فيها هزج (طقطوقة) عن «الجراد»، ويعني بالجراد الفرنسيين. وياليت أحد الأدباء أو طلاّب الآداب يجمع هذه الأغاني ويدرسها، فهي فن في ألفاظها وأوزانها وألحانها ومقاصدها، وهي تاريخ اجتماعي صادق لمظاهر الحياة في الشام (أي في

سوريا ولبنان) في تلك الأيام. كان الجراد يغزو البلاد فلا يدع في السهول ولا في البساتين شيئاً أخضر إلا أتى عليه. ولقد حدّثتكم عن الجراد الذي جاءنا سنة 1914 قُبيل الحرب الأولى، وكنت في أول طريق الدراسة صغيراً، ولكني أذكر على صغري أن سماء المدرسة ذات الصحن الواسع قد غطتها سحابة منه حجبت عنها نور الشمس، حقيقة لا مجازاً. وكان يتساقط منها علينا مثل المطر، وما هو بالمطر وإنما هو جراد. وكنا بعد ذلك نقرأ في البرقيات التي تنشرها الجرائد أخبار تحرك أسراب الجراد كل سنة أو سنوات. وقد ازدادت الآن وسائل مكافحته وعُرفت مبيدات ترشها الطائرات، لكنا لم نكن نعرف شيئاً منها لمّا جاءنا جراد سنة 1931، فكنا نحاربه بأيدينا كما يحارب أهل فلسطين المحتلين المجرمين بالحجارة التي لا يملكون غيرها، يقابلون بها أخطر وأمكر الأسلحة التي تفتّقَت عنها أدمغة أبالسة البشر. وخرج الشباب والطلاّب وجماهير المتطوعين لِجَمْعِه ليلاً على أضواء المشاعل، وكنت -لموضعي من لجنة الطلاّب- على رأس مجموعة كبيرة فيها مئات من طلاّب التجهيز (أي المدرسة الثانوية: مكتب عنبر)، خرجت بها إلى قرية الريحان إلى جانب دوما وجوار مستشفى ابن سينا، أي «دار المجانين» في القُصَير. ولولا لطف الله لتركتني هذه الليلة بين نزلائه. كيف لا يُجَنّ ويفقد عقله من يُكلَّف مراقبة مئات من الطلاّب فيهم الصغير الغرّ والكبير الذي لا يؤتمَن، وفيهم الوضيء الجميل والماكر السيّئ المقصد، وإلى جوارهم معسكر آخر فيه كبار من

غير الطلاّب، لا سلطان لي عليهم ولا حكم لي فيهم؟ بل أنا لا املك السلطة الكافية على مَن معي من الطلاّب. وكنا كما يكون الناس في كل زمان ومكان، نخشى ما يُسمّى «الشذوذ الجنسي»، وقد نوّمنا الصغار مع الكبار ووضعنا البنزين قرب النار، فكيف لا نأمن الانفجار؟ وكان خطأ أن أخرج مع هؤلاء وأن أتولّى أمرهم. ما لي ولهم؟ لقد أمضيت ليلة لست أنساها؛ ما إن يغلبني النعاس فأضع جنبي لأنام حتى أثب كمن لسعته عقرب، أخاف أن يقع مكروه، فأدور على مضاجع الطلاّب أتفقّدهم، فإذا لم أجد ما يريب عدت أحاول المنام فلا أستطيع، حتى طلع الفجر. وكان أعداء ديننا يقولون ويعيدون: إن منشأ هذا الشذوذ (أي العمل الشنيع الذي ابتكره قوم لوط عليه السلام، فسُجّل الاختراع باسمهم ونُسب إليهم)، يقولون بأن سببه حجاب المرأة، ولو وجد الماء طريقه المحفور ما ساح في الحقول، فانزعوا حجاب المرأة تخلصوا من هذا الداء. وكدنا نصدّقهم حتى وجدنا أن هذا الشذوذ في إنكلترا وألمانيا أكثر منه في بلادنا، حتى سنّوا هناك القوانين لإباحته وبارك أساقفتهم هذا القانون! أفمن حجاب النساء الألمانيات والإنكليزيات نشأ عندهم هذا الشذوذ؟! ولماذا لم يَخلصوا منه ونساؤهم مهتوكات الحجاب كاشفات العورات، لا يكاد كثير منهن يردّ يد لامس؟ كلاّ، كذبٌ ما قال أعداء الحجاب وكذبٌ كل ما يقول خصوم الإسلام. طلع الفجر، وأعدتُهم إلى منازلهم ورجعت إلى داري، ولكن ما عدت إلى مثلها؛ يكفي أن أُجَنّ مرة واحدة. * * *

ومن أخبار سنة 1931 أني لما فاض في نفسي النشاط وغاض من كيسي المال، واحتجت أن أسلك كل سبيل شريف من سُبُل العمل وأطرق كلّ باب كريم من أبواب الرزق الحلال، كان ممّا مارست من الأعمال أن جعلت لطلاّب العربية، لغتها وأدبها، دروساً أعلنت عنها بنشرات مطبوعة وفي بعض الصحف، وجعلتها في المدرسة الأمينية بعد انقضاء دروسها وانصراف تلاميذها، أستعمل غرفها ومقاعدها. تحت يدي الآن إحدى هذه «النشرات» مطبوعة بخطّ أبرع الخطّاطين على ورق صقيل ثقيل، عنوانُها «دروس في الآداب والإنشاء والتطبيق»، والمقصود بالتطبيق -باصطلاح تلك الأيام- الإعراب وبيان وجوه البلاغة. "يُلقِيها علي الطنطاوي (بكالوريوس آداب وفلسفة) لطلاّب البكالوريا وتلاميذ الثانوية بأجور زهيدة جداً: ليرتين من طالب البكالوريا وليرة من تلميذ الثانوية عن الشهر كله. تُدفَع الأجور إلى إدارة المدرسة بعد حضور الطالب ثلاثة دروس للتجرِبة مجّاناً. ويُخصَّص خُمس الواردات لإدارة المدرسة. تبدأ الدروس في 15 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1931". وعلى الصفحة الثانية نموذج من موضوعات الشهر الأول، ففي الأدب: الأدب والنقد وتاريخ الأدب، كيف يُدرس التحليل الأدبي، إلخ. وفي الإنشاء: الأفكار واللغة، الأسلوب، المذاهب الإنشائية: المذهب الواقعي، الخيالي، فنّ الوصف، إلخ. وفي التطبيق: قطعة من نهج البلاغة للشريف الرضيّ، شرح غريبها، إعراب مشكلها، بيان وجوه البلاغة فيها. ولقد أقبل الطلاّب على هذه الدروس إقبالاً زاد على أقصى

ما كنت أرجوه بل وما أتمناه، ولو أن مثله أعلن عنه في أيامنا هذه على شدة الحاجة إليها، فكم ترونه يقبل عليها؟ فلما جاء الصيف وابتدأت العطلة وسّعتُها وسَمّيتُها «المدرسة الصيفية»، وطبعت رسائل (عندي بعضٌ منها) بعثت بها إلى المدارس الثانوية الرسمية والأهلية والنصرانية، فبعضٌ منها قبله مني وشكرني عليه ووزّعها على الطلاّب، وبعضٌ نبذها أو ردّها أو أبادها. وكان نجاحها عظيماً، عادت عليّ وعلى المدرسة بالمال الذي أحتاج إليه، وعلى الطلاّب بالنفع الذي يحتاجون إلى مثله، وكان لها في الناس صدى طيّب وذِكر حسن. ولم أكن ألقي عليهم النحو قواعدَ جافّة وأوزاناً يحفظونها، ولكن اخترت كتاب «رنّات المثالث والمثاني في روايات الأغاني» (أي أغاني أبي الفرج الأصفهاني، أعظم كتاب في الأدب وهو من أسوئها في الخلق والدين)، فكنت أقرأ الرواية ثم أكلّف طالباً قراءتها قراءة صحيحة، فإن لحن وهو يقرأ نبّهتُه. وكنت في كل درس أُعنى بباب واحد من أبواب النحو، المرفوعات مثلاً أو بعضها: الفاعل أو المبتدأ والخبر، أعرّف الطلاّب به وأشرحه لهم، وأقتصر في تصحيح اللحن (في هذه الساعة) عليه وحده دون غيره. وجئت بطريقة للإفهام اقتبست أصلها من النحو الفرنسي (الكرامير)، مثالها: "قرأ زيد"، أسأل: مَن الذي (أو ما الذي إذا كان الفاعل غير عاقل) قرأ؟ الجواب: زيد، فيكون «زيد» هو الفاعل. "قرأ زيد الكتاب"، قرأ ماذا؟ الكتابَ، فـ «الكتاب» مفعول به. "قرأ زيد الكتاب مساءً" متى قرأ؟ مساء، فـ «مساء» ظرف

زمان، أي أن فعل القراءة «مفعول فيه»، أي في هذا الزمان، وهو منصوب. "قرأ زيد الكتاب قائماً" فماذا كانت حالته وهو يقرأ؟ قائماً، فكلمة «قائماً» حال. "قرأ زيد الكتاب احتراماً للأستاذ"، لأجل ماذا قرأ؟ احتراماً للأستاذ، فكلمة «احتراماً» مفعول لأجله، أي أنّ فعل القراءة مفعول لأجل الاحترام. ومشيت على هذا الطريق، فانتقلت من الأسماء الصريحة إلى الضمائر إلى أسماء الشرط، إلخ. ثم يُكلّف الطالب تلخيص الرواية التي قرأها، ثم ننظر في أسلوبها بالمقدار التي يصلح لأمثال هؤلاء الطلاّب. ندرس أغراض الكاتب فنصنّفها، وننظر تسلسل أجزائها وهل وُفّق في عرضها، وهل هي أغراض مبتكرة أم قلّد غيره ممّن سبقه، وهل زاد عليه أو اقتصر على ترديد أفكاره، إلخ. ثم ننظر في كلماتها: صِحّتها وفصاحتها، حسن ائتلافها أو تنافرها، وضوحها أو غموضها وغرابتها. ثم ننظر في الجُمَل: هل هي قصيرة بيّنة أم طويلة معقّدة، هل تقتصر على إيضاح المعنى أم تضمّ إليه الإيقاع الموسيقي الذي يسهّل على اللسان النطقَ بها ويجمّل في الآذان وقعَها، والزينة الكلامية، ومزج الحقيقة بشيء من الخيال من باب الاستعارات وأنواع المجازات، إلخ. أي أنّني ألقّن الطلاّب العربية على نحو ما كان يتلقاها العربي الأصيل، بالتلقّي والسماع لا بالحفظ والإرجاع، وبذلك تصير له ملَكة لا محفوظات. ثم وقعت على كتاب فرنسي في الإنشاء لأستاذ اسمه بوسلي (M. Baucely) فيه أربعة وعشرون درساً بين نظري وعملي، يشرح فيها المراحل التي يمرّ بها ذهن الكاتب، وإن كانت تمرّ

في عقله الباطن لا يحسّ غالباً بها، وهي: (1) تهيئة الأفكار، ومصدرها الملاحظة والمطالعة. وبيّن للطالب كيف يلاحظ وكيف يقرأ. (2) تصنيف الأفكار، ووضع خطّة القطعة الأدبية وتصوّر أجزائها. (3) التعبير عن الأفكار، واختيار الكلمات، وتأليف الجُمَل. (4) خصائص الموضوع، وهو ما نسمّيه «علم المعاني»، أي مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال. لم أترجم الكتاب بل عرّبته؛ أي جعلته عربياً يتبع أساليب العرب ويأخذ الأمثلة والشواهد من بليغ كلام العرب، ونشرته فصولاً لم أجد منها إلا هذه القطعة من الفصل الأول، وليس فيه اسم الجريدة لأني كنت أقتطع الجزء الذي فيه مقالتي، فلم أعُد أعرف أين نشرتُها ولا متى. وما أكثر الذي ضاع ممّا كتبت! * * * وممّا كان سنة 1931 من أحداث في تاريخ حياتي إصدار مجلة «البعث». وهاكم صورة غلاف العدد الثالث منها (¬1) مكتوب عليه: مجلة البعث، لبيان محاسن الإسلام والرد على أعدائه ونشر التاريخ الإسلامي والأدب القومي العفيف. أول مجلة إسلامية في دمشق، تُصدِرها أسبوعياً جمعية التهذيب والتعليم. رئيس التحرير أبو الهيثم محمد علي الطنطاوي، المدير المسؤول الدكتور محمد لطفي عزيزيّة. ¬

_ (¬1) تجدونها في جزء الصور والفهارس (مجاهد).

أصدرتُها وحدي أولاً بعنوان: «البعث، كتاب إسلامي يصدر في أجزاء متتالية». ثم كان الاتفاق مع «جمعية التهذيب والتعليم» على أن تأخذ الرخصة بإصدارها وتنفق عليها وتعيّن لها مديراً مسؤولاً من أعضائها، ويكون لي أمر التحرير كله، وإن ربحَت اقتسمنا الأرباح مناصفة. ولكني لم آخذ شيئاً لأنها ما ربحَت، بل ما استمرّت. اضطُررت أنا لوقفها لأن أعضاء الجمعية وأصدقاءها، وكل من أعان على إصدارها أو شارك في نفقتها، هم وإخوانهم وأصدقاؤهم يريدون أن يصيروا كتّاباً فيها، فرأيت خيراً لي أن أدعها وهي لا تزال تتنفّس تنفّس السقيم من أن أتركها وقد همدت أنفاسها. وجاء بعد خمس عشرة سنة مَن أخذ اسم المجلة الإسلامية، فجعله اسماً لحزب غير إسلامي. * * *

الدعوة إلى العقال

-51 - الدعوة إلى العقال وفي سنة 1931 أيضاً كانت «قصة العقال». وما أكثر المحاولات التي كانت مني في تلك السنة! إني حين أتذكّرها وأرى ما صرت إليه الآن أعجب من ذلك النشاط ومن هذا الكسل؛ كنت كالفَرَس الذي لا يهدأ، إن لم يَعْدُ به صاحبه إلى غايته عدا إلى غير ما غاية، لا يستطيع أن يستقرّ لأن الحياة التي تتفجّر من كل خلية في جسده تمنعه من الهدوء، فصرت كالحصان العجوز الذي لا ينهض إلا إن مسّته الحياة بعصاها أو جرّته بحبالها، وإن قام قام متثاقلاً. هذه هي الدنيا وهذي سُنّة الله في أهلها، كل جديد يبلى وكل قوي يضعف، ثم إن كل حيّ يموت. على أني لا أزال أقوى جسداً وأتم صحّة وأصحّ فكراً من كل من أعرف من أقراني ممّن هم في مثل سني، فاللهمّ لك الحمد، اللهم أدِم نعمك علينا. وبعد، فما هي قصة العقال؟ إننا نشأنا على لبس الطرابيش لا يجوز لنا أن نضعها عن رؤوسنا، وإن دخل الواحد منا على أستاذ الصف (أي الفصل) أو

مدير المدرسة أو قابل من يجب عليه توقيره وهو حاسر الرأس، يرتكب ذنباً يستوجب العقوبة أو يستحقّ عليه اللوم. وأحسب أن الطربوش من أسوأ ما يُغطّى به الرأس، فهو لا يحجب الشمس عن العيون في الصيف، ولا يدرأ المطر في الشتاء، وإن أصابه الماء فسد، وإن اختصم اثنان من التلاميذ فضُرب طربوش أحدهما تكسر القش الذي يُبطَّن به، وإن أمسك أحدهما بِطُرّته فقطعها لم يستطع أن يمشي حتى يشتري بدلاً عنها. ثم إنه لا يمكن طيّه، لذلك كنا نتخذ له في السفر علبة يُحفَظ فيها تملأ ربع الحقيبة، وكان يفسده العرق في الحرّ فيرَكب أطرافَه من الوسخ مثلُ الزفت. ولا بد من كيّه، فكان الناس ليلة العيد يزدحمون على الكوّاء مثل ازدحامهم على الحلاّق. والكواء عنده قوالب من النحاس مختلفة الأحجام، يُلبِس الطربوش القالب الذي يناسبه ثم يُلبِس القالب والطربوش قالباً أكبر منه، وتكون النار موقَدة تحته، وعنده مكبس يكبس به القالبَين معاً والطربوش بينهما، فيخرج مكوياً. ولطالما أخطأ الكواء فكبّر الطربوش ووسّعه أو ضيّقه وصغّره، فيعود إلى كيّه لإصلاحه. ومن الطرائف أن أستاذنا فارس الخوري كان له رأس من أكبر ما عرفت من الرؤوس، وكان من مزاياه أنه كان حاضر الجواب؛ ذهب مرة إلى كوّاء ليكوي طربوشه فطلب أجراً يزيد عن المعروف، قال: ولِمَ الزيادة؟ قال: لأنك لن تجد عند أحد غيري مثل هذا القالب؟ قال له فارس بك: وأنت لا تجد عند غيري مثل هذا الرأس. وكان الناس يشكون في مصر والشام من الطربوش ويعملون على إبداله، ولكنهم يختلفون على البديل. وكان الاتجاه أكثر إلى

القبّعة (البرنيطة)، لا سيما بعد أن كشف مصطفى كمال القناع، كشف وجهه الأصلي، وجه ابن «الدونما» من يهود سالونيك الذين أظهروا فيها الإسلام لمّا جاؤوها من الأندلس، وكان منهم الاتحاديون الذين مهّدوا طريق الكفر بمحاربة الإسلام في الخفاء، فلما تمهد جاء مصطفى كمال (أتاتورك) فحاربه في العلن، وكان ممّا صنع أن ألزم المسلمين وضع القبّعات على رؤوسهم. قامت في مصر في العشرينيات حملة قوية، لنبذ الطربوش واتخاذ القبّعة، يدعو إليها سراً أكثر الذين درسوا في أوربا وحملوا منها العلم الحديث ومع هذا العلم جراثيم المرض الخبيث، ودعا إليها جهراً سلامة موسى وأمثاله. وكادت تقضي على الطربوش لولا أن ردّتها أقلام قوية ورفضها زعماء كبار ما سلامة موسى وأمثاله أمامهم إلا الأرانب تحت أرجل الفِيَلة، منهم سعد يوم كان زعيم مصر وأحد قوّاد العرب. ولقد كتبت في «الناقد» المجلة الدمشقية (العدد 25 الصادر يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة 1349 السابع والعشرين من آذار (مارس) سنة 1931) في مقالة لي هي الآن أمامي، بعض أقوالهم. فكان ممّا قال سعد: "وما مثل الذين يبدلون بشعارهم شعار غيرهم إلا كمثل الذين يتبرؤون من أنسابهم وينتسبون إلى غير آبائهم، فلا يكسبون إلا غضب الآباء وأن يُعَدّوا من الأدعياء". وقال الأستاذ العقاد: "ومن سقوط الهمة أن يتوارى الإنسان وراء القبّعة خجلاً من جنسه وتهافتاً على لذة عارضة. ومن الجبن، لا من الجرأة على الجمود، أن يسرق مظهر قوم لا يحسبونه كأحدهم ولا يُنزِلونه بينهم منزلتهم، وإن لبس ما يلبسون وتكلّم ما يتكلمون". وكتب صاحب «المقتطَف»

شيخ المجلاّت العربية: "إذا نظرنا إلى الطربوش وإلى البرنيطة من الوجهة الاقتصادية والصحّية فالمرجّح عندنا أنّ الطربوش يفضل البرنيطة، ولعلّ العقال أصلح منها ومنه". واحتجّ ناس يومئذ بأن أهل اليمن يتخذون القبّعة فكذبهم الشيخ محمد باجنيد وبيّن "أن الذي يلبسه اليمانيون مظلّة من الخوص عَرْضها نحو ذراع لها أسّ مستدير مع استطالة ودقة شديدة يستعملها الفَعَلة والرعاة لتقيهم وهج الشمس ويسمونها المظلة". وقال الدكتور محجوب ثابت، وكان يومئذٍ من المشهورين وكان أستاذ الطب الشرعي في الجامعة، في حديث لمحرّر مجلة الزهراء حين اشتدت أزمة القبّعة في مصر: "إن لباس الرأس هو العقال، فليعدل إليه شبابنا إذا كانوا نابذين الطربوش لا محالة. والعقال كان لباس مملكة اليمن السبئية كما دلّت عليه التماثيل التي وُجدت في جنوب الجزيرة وفي أعماق بلاد اليمن، وكان لباس الرأس عند قدماء المصريين شبيهاً به، وكذلك الحال في شمال الجزيرة العربية، ولولا أن له حظاً من الجَمال والهيبة لما رأينا بعض الإفرنج في سوريا وفلسطين يتزيّنون به هم وصغارهم مع أنهم قادمون من بلاد عريقة في التبرنُط. وقد راقني منظر مفتّش الزراعة الإنكليزي يوم رأيته أثناء تطوافي بنابلس والعقال على رأسه والعباءة مسدولة على بذلته. أمّا غير المسلمين فحدّث عن عقالاتهم ولا حرج، وكل الذين اجتمعنا بهم من مسيحيّي شرق الأردن رأيناهم تتوّج رؤوسَهم هاتيك العقالات، ما بين مفضَّض ومذهَّب ومسوَّد، وكان ذلك زيّهم حتى في الكنيسة". إلى أن قال: "إن تيجاناً كهذه تزيّن مثل هذه الرؤوس لا أرى مسوّغاً لتقويضها وتنكيسها، ولا الاستعاضة عنها بتلكم القبّعات عديمة الطعم الإسطيطيقي (أي

الجمالي) ". وقال في خطبة له في نادي الرابطة الشرقية: "إن الكوفية من أجمل ما تزدان به الرؤوس". * * * كان هذا كله في مصر، وقد أخمدَت هذه الألسنةُ وهذه الأقلامُ نارَ الفتنة وردّت على أعقابها هذه الحملة، وبقي الطربوش على رأس الملك ورؤوس الوزراء والموظفين والطلاّب. أما في الشام فقد بدأَت بعد دخول الفرنسيين حرب على الطربوش ودعوة إلى القبّعة، ولكن أصحابها لم يجرؤوا على إعلانها قولاً بل سرّبوها إلينا فعلاً، يعملون دائبين وفق خطّة شيطانية مرسومة، فما مضى على دخول الفرنسيين عشر سنين حتى بدأ ظهور القبّعات على الرؤوس في المصايف، القبّعات الخفيفة المصنوعة من شبه القشّ التي تشبه الخوذة التي كانت على رؤوس الجند والضباط أيام الشريف فيصل، بل إن الخوذة هي القبّعة نفسها قد وضعوا لها ذيلاً من الخلف من القماش رمزاً للكوفية (أي الغترة) ووضعوا فوقها عقالاً صغيراً. ثم أخذت تنتشر في المدارس، فكنا نرى «البيريه»، وهي نوع من القبّعات يشبه الكُمّة (أي الطاقية) الواسعة متعدد الألوان، حتى إن شيخاً في الشام معروفاً بسوء السيرة كانت له مدرسة أهلية ابتدائية أمر تلاميذه بلبسها، ولم يمنعه من ذلك أن على رأسه عمامة ضخمة بيضاء وأنه كان خطيب جامع الشهداء. وكانت له جريدة تصدر عند الحاجة، أي الحاجة إلى شتم موظف لم يُنجِز له معاملته أو تاجر لم يؤدِّ إتاوته. وكان عندنا جرائد مثلها، منها جريدة بسيم مراد، وشرّ

منها جريدة فوزي أمين (¬1)، وكان الفرنسيون يتغاضون عنها، بل إنهم ليحمونها ويشجّعونها ما دامت لا تنبّه الناس إلى تحرير البلاد منهم وتكون بإفسادها المجتمع عوناً لهم على بلوغ غايتهم. وكنا نرى هذا فنتألّم، وقد نتكلّم ولكن في مجالسنا أو يوم الجمعة في مساجدنا، فتضيع أصواتنا في هذه الضجّة الهائلة المنكرة من حولنا، حتى مرّ بدمشق الزعيم الهندي المسلم شوكة علي، وكان هو وأخوه محمد علي من أظهر قادة المسلمين في الهند في تلك الأيام، وكان قنبلة «عنقودية» تتفجر بالحماسة، فما يخطب في ناد أو مسجد أو يتحدث في جماعة إلا أصابتهم شظيّة منها فأشعلَت نار الحماسة في صدورهم. وكنا يومئذ كالخشب عليه كومة القش المركوم وقد ابتلّ بالبنزين، لا تحتاج في إيقاد النار إلاّ إلى عود الكبريت ... وكانت زيارته هي عود الكبريت. والعجيب أني لم ألقَه ولم أستمع إلى شيء من كلامه، ولكن أخي الأستاذ سعيد الأفغاني حضر خطبة له وجاء يصفه لي ويلخّص ما قال. وكنت كلما دعوت إلى أمر طبعت منشوراً وكلّفت مَن كان معي من الشباب والطلاّب (وكانوا مئات) فوزّعوه، فلا يمرّ يوم حتى يكون في كل دكّان وفي كل مدرسة وكل مسجد. وكان الورق رخيصاً وأجور الطبع قليلة، ولا يحتاج ذلك إلى إذن من الحكومة فالطباعة حرة، حتى المجلات غير السياسية لا يحتاج من يريد إصدارها إلا إلى إخبار (مجرد إخبار) وزارة الداخلية! ¬

_ (¬1) وقد بلغني أنه صلح وصار من المتّقين فالحمد لله، ونسأله حسن الخاتمة لنا جميعاً.

وُزّع منشور في أربع صفحات عنوانه «نداء إلى الشبان المسلمين» كان ممّا قلت فيه، أنقله من نسخة من المنشور هي الآن في يدي: " ... وألقى خطبة بالإنكليزية نقلها إلى العربية فخر الشباب عجاج نُوَيْهض، وضع فيها بذرة مباركة علينا نحن أن نتعهدها بالرعاية والسقيا حتى تنمو وتثمر الثمر المرجّى. إن هذه الدعوة قد تبدو لك غريبة أو هيّنة، فلا يمنعك ذلك من أن تمعن النظر فيها وتبصر مداخلها ومخارجها، لأنك إن فعلت ذلك عرفت قدرها. إن من القواعد المقرّرة في ديننا أن من سنّ سنة حسنة (في التطبيق لا في التشريع) كان له أجرها وأجر من عمل بها، وسيكون للزعيم شوكة علي ثواب ما ذكّرَنا به من جرأة المسلم على إقامة شعائر دينه والجهر بنصرته". إلى أن قلت: "ورآنا نصفّق له استحساناً وتأثّراً فغضب وقال: لقد كان أولى بكم يا أهل دمشق، ظئر الإسلام، أن تعدلوا عن هذه العادة الإفرنجية. قالوا: وماذا نستبدل بها؟ قال: ما استبدلته الهند المسلمة وفلسطين العربية بمسلميها ونَصاراها. قالوا: وما ذاك؟ فصاح بملء شدقيه بصوت ارتجّ له المكان: الله أكبر، الله أكبر (¬1). ولما رآنا نرتدي الأزياء الأوربية ¬

_ (¬1) ولي على هذا تعليق اقرؤوه في باب الفتاوى، خلاصته أنّ التصفيق ليس حراماً في ذاته، فالشرع ذمّه فيمَن اتخذه عبادة أو أدخله فيها، وأمر النساء به إن رابهنّ شيء في صلاتهنّ كما أمر الرجال بالتسبيح. وهو من الأمور التي الأصل فيها الإباحة فلا تُحرَّم إلا بدليل ولا دليل على تحريمه في جميع الحالات. قلت: والفتوى مفصَّلة في كتاب «فتاوى علي الطنطاوي»، ص313 (مجاهد).

من الأقمشة المصنوعة في أوربا قال: إن هذا استعمار لأجسادنا فوق استعمارهم لبلداننا! ودعا إلى العودة إلى الأزياء الوطنية والتمسك بها والمصنوعات الوطنية والحرص عليها، وقال بأنه كان في إنكلترا أيام الدراسة من أكثر الشباب أناقة وكان يحلق لحيته في اليوم مرتين، وهو الآن يكتفي بقميص من صنع الهند يبلغ الركبتين وتحته سراويل من قماش هندي وعلى رأسه كُمّة (طاقية) عليها شيء يبدو كالهلال، فإن اقتربت منه قرأت فيه جملة «نحن أنصار الله» ". وخلصت إلى الدعوة -في هذا المنشور- إلى نبذ الطربوش واتخاذ العقال. وذهبت إلى أحد تجّار العقالات والعباءات في سوق مدحة باشا، هو والد الصديق الدكتور حكمة هاشم، فاشتريت عقالاً وكوفية وعباءة وخرجت بها. ودعوت مَن حولي من الطلاّب إلى العقال، فكان أول من لبسه وذهب به إلى مدرسة التجهيز (مكتب عنبر) أخي ناجي ورفيقه محمود الرفاعي (الذي صار بعدُ من كبار ضباط الجيش وكانت له مشاركة قوية في القضاء على حسني الزعيم، ثم تُوفّي شهيداً رحمه الله) ورفيقه أنور العشّ. وكان في اليوم الذي يليه اثنان وأربعون عقالاً، ثم انتشر حتى صار نصف الطلاّب في بعض المدارس، وربعهم في بعض، من أرباب العقال. ومنع بعضُ المديرين التلاميذَ من لبسه؛ منهم مدير مدرسة البحصة، وهي التي كانت «السلطانية الثانية» وقد مرّ ذكرها، وهي أكبر مدرسة ابتدائية في دمشق ومعها (يلحق بها) المدرسة التجارية. فذهبت إليه ومعي نفر من كبار الطلاّب الذين يعملون معي، فلما بلغه وصولي ذُعِر، ولكنه كان عاقلاً فبعث من يخبر المراقب بأن

يسمح لمن جاء بالعقال أن يظهر به (وكان قد منعهم منه فلفّوه ووضعوه في حقائبهم). واستقبلني بالترحاب ودعاني ومن معي إلى الشاي معه في غرفته، وجعل يروغ بالحديث عما أدركَ أنني جئت من أجله حتى اطمأن إلى أن العقالات ظهرت في باحة المدرسة، فقال: نعم؟ أمر؟ قلت: أحببت أن أسأل: هل عندكم قانون يمنع التلاميذ من اتخاذ العقال وهو شعار العرب و ... فقاطعني مظهراً الدهشة وقال: ومَن منعهم؟ أعوذ بالله، أبداً ما عندنا شيء من هذا، وتفضّل انظر. وخرج بي إلى الباحة فرأيت العقالات في كل زاوية من الزوايا وكل مكان من المدرسة! لقد خاف أن يوقع نفسه في ورطة معي لأني كنت يومئذ خطيباً شعبياً قادراً على إثارة الناس، ورئيسَ لجنة الطلبة، وعاملاً في أكبر جريدة في البلد. * * * انتشر العقال حتى اتخذه بعض وجهاء البلد. وفي مجلة «الناقد» صورة لي بالعقال مع الأمير سعيد الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر ورئيس أول حكومة (مؤقّتة) بعد نزوح الأتراك، ورضا باشا الصبّان وغيرهم، ولكني لم أجد عدد المجلة هذا عندي. وتناقلت الصحف الفرنسية والإنكليزية من وكالات الأخبار نبأ هذه الحركة موسَّعاً مبالَغاً فيه، وزعمَت جريدة «الطان» (أي «الزمان»، أكبر الجرائد الفرنسية يومئذ)، أننا أحرقنا الطرابيش في مرجة الحشيش (وهي الآن الملعب البلدي ومعرض دمشق الدائم)، وعُلّق عليها تعليقات وفُسّرت تفسيرات لم أسمع بها أنا

صاحب الدعوة إلى العقال ولم تخطر لي على بال. ثم أخذ الشباب ينفضّون عنها كما أقبلوا عليها ولم يبقَ معي إلا قليل، ثم لم يبقَ غيري. وثبتّ عليها سبعة أشهر قاسيت خلالها متاعب كثيرة من العباءة (المشلح)، إن تسلّقت الترام في الزحام علق طرفها في الباب أو داس عليه أحد الركّاب، أو انفتحت فدخل فيها أحد أو سُحبَت عني فخرجت أنا منها، وإن دخلت المطبعة (في الجريدة) تلوّثَت بالحبر أو علقَت بالآلات. ولكنها حققت ما كنا نؤمّله منها وهي أن نوقف سريان القبّعات، فقلّت حتى انقطعت أو كادت. ولكنا ما عدنا إلى الطرابيش، بل غدونا حفاة من فوق ... نمشي حاسري الرؤوس، حتى صار الحسور وكشف الرأس عاماً يشمل الأساتذة والوزراء ورؤساء الدول. وصار الحديث عن الطرابيش وكيّها ودكاكين الكوّائين والازدحام عليها ليلة العيد، من أحاديث الماضي البعيد. لقد أحسنّا بالخلاص من القبّعات، فهل أحسنّا كذلك بإبطال الطرابيش؟ لست أدري، ولكن الذي أدريه أنني ما قصدت فيما صنعت إلا الخير. * * *

ذكريات عن الأساتذة والمشايخ

-52 - ذكريات عن الأساتذة والمشايخ أنا أغبط من يدّون ذكرياته فيجد أمامه مذكّرات له كتبها في حينها، تذكّره بما نسي وتعيد إليه ما عزب عنه، وأسائل نفسي (حين لا ينفع السؤال): لماذا لم أكتب أنا مذكّراتي؟ لماذا لم أحفظ مراسلاتي؟ لماذا أقعد لأكتب الحلقة فلا أجد ما أرجع إليه وأعتمد عليه إلاّ ذاكرة كانت كالقلّة التي تركتُها ممتلئة بالماء فعدت فلم أجد إلاّ صبابة في قعر الإناء، قد ذهبَت بمائها الشمس والريح فتبخّرَت كما تبخّرَت من رأسي الذكريات. ولو كان معي هنا أحد من رفاق الصبا أو من أصحاب الشباب ممّن سايرني في بعض طريق الحياة، أقول له ويقوله لي، أذكّره بما كان ويذكّرني، لأعانني على ما أنا فيه؛ لأن المَشاهد والأخبار يجرّ بعضها بعضاً، وما تسمعه يذكّرك بشبيهه أو بنقيضه أو بما يتصل به. وهذا هو «تداعي المعاني». ولكني كالذي يغنّي في الوادي المقفر فلا يجد رَجْعاً لغنائه إلاّ صداه! على أني أشكر «الشرق الأوسط» ومن قبلها «المسلمون»؛ فلولاهما (ولولا «المسلمون» خاصّة) لما قرأتم شيئاً من هذه

الذكريات. إنها نعمة من الله عليّ أن اضطرّتاني إلى كتابة ما بقي عندي منها. ولكن نِعَم الدنيا لا تصفو ولا تخلو من المنغّصات، والمنغصات هي هذه الأخطاء المطبعية التي كان صديقنا الكبير النشاشيبي يسمّيها «التطبيعات». ولا يؤذيني منها أمثال «أغاني أبيالفرج الأجهاني» فإن القارئ يدرك أنها من صَفّاف الحروف، ولكن يؤذيني أن يُنسَب إليّ أني كتبت «عشرة مرات» بدلاً من «عشر مرات» و «سكراناً أو نعساناً» بدلاً من «سكران أو نعسان» كما جاءت في «باب الفتاوى»، كأني ما تعلمت باب الاسم الذي لا ينصرف ولا علّمتُه. وقد قلت لكم في الحلقة السابقة إنني فتحت «المدرسة الصيفية» لتعليم العربية من أكثر من نصف قرن. بلى، الآن عرفت ما هو «الفعل» الذي لا ينصرف. إنه هذه «التطبيعات». إنها «لا تنصرف» إلاّ إن صرفها الأستاذ الشيباني! بنو شيبان -يا أستاذ- صرفوا عنّا العار وأكسبونا الفخار في «ذي قار»، أفلا تصرف أنت عني هذه الأضرار؟ * * * الكلام عن شاكر بك الحنبلي في حديث أبي عجاج يجرّني إلى بعض الحديث عن كلية الحقوق التي كنت من طلابها سنة 1931. قُبلت طالباً فيها (كما يقول السجلّ الرسمي الذي أمسك في يدي الآن صورة مصدَّقة عنه) في 4/ 11/ 1930، مع أننا أخذنا البكالوريا الأولى قبل ذلك بسنتين، فسعينا أنا ورفيقي محمد الجيرودي فقبلونا بها طالبَين في معهد (أي كلية) الحقوق، بشرط

ألاّ نرتقي إلى الصف الثاني فيها إلاّ بعد نيلنا البكالوريا الثانية. فدخلها هو وسافرت أنا إلى مصر (كما عرفتم) وعدت بعد إغلاق باب القبول، فسبقني بسنتين أضعتهما كما أضعت سنتين من قبل بتبدل الدول وذهاب الأتراك وقدوم الشريف، ثم بخروج الشريف ودخول الفرنسيين. وكانت الجامعة السورية مؤلفة من كلية الطب وبناتها (طب الأسنان والصيدلة) ومن كلية الحقوق، وما أدري لماذا كنا نسمي الكلية المعهد فنقول: معهد الحقوق ومعهد الطب، مع أن الكتابة الفرنسية في العنوان الرسمي تسمّي المعهد (La Faculte)، أي الكلية. أما كلية الطب فهي قديمة، أعرف ممّن تخرج فيها قبل سنة 1920 جماعة بقي منهم الدكتور حسني سبح، وهو اليوم رئيس المجمع العلمي (أي مجمع اللغة العربية) في سوريا، وهو عالِم في الطب له بمصنّفاته الجليلة فيه منزلة عالمية. وممّن ذهب إلى لقاء ربه الدكتور أحمد حمدي الخياط أول من دَرّسَ علم الجراثيم، درسه في معهد باستور ثم جاء يعلّمه الطلاّب، وكل من صار طبيباً في الشام من سنة 1920 إلى أن «تقاعد» إلى أن توفّاه الله من سنتين هم من تلاميذه، وكان ملمّاً بالعلوم الإسلامية مطّلعاً عليها، يتقن العربية والتركية والفرنسية، وهو عارف الإنكليزية والألمانية واللاتينية واليونانية، وهو أحد مَن وضع المصطلحات العربية في الطب لأن كلية الطب في دمشق ما درّسَت علومَ الطب كلها إلاّ بالعربية، فكانت حُجّة قائمة على

من يزعم أن لسان العرب يضيق بهذه المصطلحات، وهو وزميله الدكتور الجرّاح مرشد خاطر صاحبا معجم المصطلحات الذي يعلّق عليه من سنين -في مقالات مسلسلة في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق- الدكتور العالِم حسني سبح أطال الله عمره. وممّن أذكره الآن من واضعي هذه المصطلحات التي حُقّ لدمشق ولكليتها أن تفخرا بها الدكتور صلاح الدين الكواكبي، وهو ابن الشيخ مسعود الكواكبي الذي كان عضواً في محكمة التمييز (أي النقض) وكان صديقاً لأبي، ولقد حضرت له مجالس لا أحصيها ورأيته في سفره وحضره وطعامه ومنامه، وسأتحدث عنه يوماً، وعمّه (كما أظن) هو مؤلف «طبائع الاستبداد» المشهور. والدكتور جميل الخاني، والدكتور محمد محرَّم الذي كان أبوه (مصباح بك محرم) رئيسَ محكمة التمييز على عهد الشريف فيصل 1919، وأنا أعرفه وحضرت مع أبي كثيراً من مجالسه، وكان يدرّس في كلية الحقوق قبل أن أدخلها، وكان على عهد العثمانيين مفتّشاً على القضاة. والدكتور شوكة الشطي، ولا يزال فيما أعلم حياً، مدّ الله في عمره ورحم من مات من الأساتذة ممّن سميت ومن نسيت أن أُسَمّي. وكلية الطب في دمشق ليست في عمر كلية الطب في قصر العيني في مصر أقدم كليات الطب في العالَم العربي، ولا في شباب كلية الطب في جامعة الملك سعود. هي كالبنت أو الحفيدة للأولى، ولكنها كالأم أو الجَدّة للثانية.

أما كلية الحقوق فلا أعرف الآن عمرها، ولكنه يزيد عن السن الذي يتقاعد فيها الموظفون ويُحالون على المعاش، لذلك هبطَت أثمان شهاداتها الآن في «سوق الوظائف»، لا لنقص فيها ولا لخلل في مناهجها ولا لضعف في مدرّسيها، بل لأن حَمَلة شهادتها المتخرجين فيها زاد عددهم عن الحاجة إليهم، وإذا كثر العرض قلّ الطلب فرخصَت السلع. ولقد سُهّلت شروط الدخول إليها مرة سنة 1928، حين قُبلنا فيها بالبكالوريا الأولى، فبلغ عدد طلاّب السنة الأولى المئة أو يزيدون عليها، فكان ذلك حديث الناس وموضع تعجّبهم، فجاء بعد ذلك وقت بلغوا فيه ثلاثة آلاف. * * * كانت المواد التي درسناها في الكلية هي الحقوق الأساسية (أي الدستورية)، والحقوق الدولية العامّة، والحقوق الدولية الخاصّة، والمجلّة (وهي القانون المدني)، والاقتصاد، والتجارة البرّية، والتجارة البحرية، والحقوق المدنية الفرنسية (أي القانون المدني الفرنسي)، والحقوق الإدارية، وأصول المحاكمات الإدارية، وعلم المالية، والحقوق الجزائية (الجنائية) وأصول المحاكمات الجزائية، والحقوق الرومانية (أو القانون الروماني)، وأحكام الزواج، والوصايا، والفرائض، وأحكام الأوقاف، وأحكام الأراضي، واللغة العربية، واللغة الفرنسية، والأساليب الحقوقية، وأصول الفقه. وكان الأساتذة طبقات، منهم واحد سأفرد للكلام عنه

حلقة، هو العالِم الشاعر الفحل الخطيب البارع في العربية وفي الإنكليزية رئيس مجلس النوّاب مرات ورئيس الوزراء، وكان رئيس مجلس الأمن مرة، وهو أحد عباقرة العرب في هذا العصر، وأسأل الله أن يكون حقاً ما كتبه عنه مَن كان مُلازمَه في مرضه وحاضرَه في وفاته من أنه مات مسلماً، وهو فارس بك الخوري. وطائفة من العلماء، منهم واحد كان مفتي الشام وكان أبوه من قبله مفتي الشام، وكان يدرّسنا الأحوال الشخصية (أحكام الزواج والطلاق وما يتصل بهما) والفرائض والوصايا وأصول الفقه، وهو النموذج الكامل لعلماء القرن الماضي، وهو الشيخ أبو اليسر عابدين. علماء القرن الماضي كانوا -على الغالب- علماء بما في الكتب، حرثوها حرثاً وقتلوها تنقيباً وبحثاً، ولكنْ وقف أكثرهم عندها لم يجاوزها ولم يفكّر أن يزيد عليها. ولقد بدأت هذه العلوم كما تبدأ الأنهار الكبار: ينابيع كثيرة تخرج منها السواقي الصغيرة، ثم تتجمع في جداول، ثم تجتمع الجداول فيكون النهر. ولو رسمنا خطاً بيانياً لهذه العلوم لوجدناه يرتفع ويعلو، حتى إذا جاء القرن الرابع الهجري بلغ القمة أو كاد، ثم يستوي لا يصعد إلاّ قليلاً إلى القرن الثامن؛ يصدق هذا الحكم على النحو والبلاغة وعلوم العربية كما يصدق على الفقه والحديث وعلوم الدين. أو هي كالمحصولات الزراعية تأتي من المزارع، ثم تجتمع في الأسواق، ثم تُجفَّف أو تُحفَظ، ثم توضع في المستودعات الكبار. لقد كان القرن التاسع عصر المستودَعات تُكدّس فيها

البضاعة، وهذه المستودَعات هي دوائر المعارف (المُعْلَمات، أي الإنسيكلوبيديات) (¬1). في هذا القرن أُلّف «الإتقان في علوم القرآن» و «المُزهر» للسيوطي في علوم اللغة، وفيه أو قريب منه أُلّفت «نهاية الأرب» للنُّوَيري و «صُبح الأَعشى» للقَلْقَشَندي و «فتح الباري» و «لسان العرب». وهذه المجموعات الكبار لم تؤلَّف في قرن واحد، ولكنها أُلِّفت كلها بعدما وقف الابتكار وانقطع التجديد، فصار الفقه رواية لأقوال الأئمة لا استنباطاً من كلام الله وسنّة رسوله ‘. والنحو صار قواعد جافة منقطعة عن صحيح الشواهد وبليغ المأثور من كلام العرب. والبلاغة لا تجعل دارسها بليغاً إذا نطق أو كتب بل حافظاً لما وقفَت عنده لمّا جَفّ ينبوعها وانقطع جَريها؛ كانت البلاغة «نقداً» منظَّماً، كلما جاء شاعر عبقري أو أديب بارع بصورة جديدة من صور التعبير الجميل عرّفوها، ثم صنّفوها ثم وضعوها موضعها من علم البلاغة. فإن جاء مَن يُدخِل كناية في استعارة سمّوا ما جاء به «استعارة مَكْنيّة»، وما يَحسُن به الكلام من زينة اللفظ أو المعنى جعلوا له عِلماً هو «علم البديع»، وصنّفوا هذه «المُحَسّنات» وابتكروا لها الأسماء. ولبثَت البلاغة صاعدة إلى الجرجاني ثم السكّاكي، فجاء القَزويني فلخّص ما قاله، فوقفنا عند «التلخيص» نشرحه ثم نختصر الشرح، أو نختصره ثم نشرح المختصَر! كانت البلاغة نقداً حياً يمشي مع الأدب الحيّ، فصارت قواعدَ باردة ميتة لا تبرح مكانها، ولبث الأدب (بشعره ونثره) ماشياً فانقطع ما كان من سبب بين البلاغة والأدب. ¬

_ (¬1) لماذا لا نسمي دائرة المعارف «المُعْلَم» على وزن المُعْجَم؟

كان علماء القرن الماضي والقرون المتأخّرات قبله علماءَ رواية ونقل، يفهمون ما تركه السلف ولكن لا يزيدون عليه ولا يستطيعون أن يأتوا بمثله، كان حرصهم على الكتب لا على العلم الذي أُلِّفت لدراسته هذه الكتب. لذلك تقرؤون في ترجمة الواحد منهم أنه قرأ كتاب كذا وكتاب كذا وأنه أقرأ تلاميذه كتاب كذا وكتاب كذا. فالشيخ أبو اليسر عابدين كان نموذجاً لهؤلاء العلماء، ولكنه كان نموذجاً كاملاً. قرأ على أبيه الشيخ أبي الخير عابدين الحاشية -مثلاً- بأجزائها الخمسة الكبار ثلاث مرات، وأقرأها من بَعْدُ أكثر من ثلاث عشرة مرة. وقرأ عشرات من الكتب، لا كما قرأت أنا قراءة سرد لأعرف ما فيها ولأرجع عند الحاجة إليها، بل كما عهدنا طلاّب الأزهر يقرؤون قبل أن ينتقل الأزهر إلى رحمة الله وتسكن منازلَه هذه الجامعةُ ... وَرِثَتْهُ وليست من وَرَثَته الشرعيين! كان الشيخ أبو اليسر فهرساً ناطقاً (كمبيوتر) لكتب الفقه الحنفي، تسأله عن المسألة فيدلّك على موضعها من الكتاب الذي هي فيه كأنه هو الذي وضعها بيده، ولكن إن عرضَت مسألة جديدة ليست فيها لم يقدر على جوابها. وكان له مثل هذا الاطلاع على أصول الفقه (الحنفي) وكتبه، ولكن كتابه الذي ألّفه لنا في الأصول كان أعقد الكتب. وأنا لم أتعب في «الأحوال الشخصية» التي كان يدرّسها ولا في الوصايا والفرائض، لأني كنت قد قرأتها قبل أن أقعد بين يديه طالباً في كلية الحقوق، أما أصول الفقه فلم أدرسه من قبل ولا فهمته من كتابه، فهل تدرون مَن الذي ضوّأ لي

طريقه وجرّأني على سلوكه؟ إنه أستاذنا سليم الجندي. أما الكتب القديمة، المنار والتحرير (¬1)، فما كنت لأستطيع قراءتها فضلاً عن فهمها. وأول من أعرفه عرَض هذا العلم عرْضاً سهلاً واضحاً هو الغزالي في «المُسْتصفى»، ومن علماء القرن الحاضر أو قبله بقليل الشيخ الخضري، ثم جلاّه للناس ووضّحه وشرحه الشيخ عبد الوهاب خلاّف، الذي عرفتُه في مصر وفي الشام واستفدت منه ومن زميله الشيخ علي الخفيف، وأحسب أن الأول عقله أكبر من علمه والثاني علمه أكبر من عقله. وكان الشيخ خلاّف يملك قدرة عجيبة على «تبسيط» المعقَّد من المسائل وتوضيحها، وكان مثله -ممّن عرفت- الشيخ شلتوت الذي اجتمعت به عند الشيخ عبد المجيد سليم في مصر لمّا أخذني الزيات إليه فطالت صحبتي إياه. من هذه الكتب فهمت أصول الفقه، ثم ألِفته، ثم إني -كما أظن- أتقنتُه. وممّن ألّف فيه الشيخ محمد أبو زهرة رحم الله الجميع. أعود إلى الشيخ أبي اليسر عابدين. لقد كان أستاذاً في كلية الحقوق فخطر له أن يَدرس الطب، ودراسة الطب لا تتم إلاّ بمعرفة اللغة الفرنسية فتعلّمها، وصار طالباً نظامياً في «الطب» وهو أستاذ يدرّس في «الحقوق»، حتى حاز شهادة «دكتور في الطب» سنة 1926، وحاز على شهادة «الكولكيوم» الفرنسية، وفتح عيادة فكان يمارس فيها التطبيب ويدرّس في الحقوق، وله ¬

_ (¬1) «التحرير في أصول الفقه» لابن الهمام الحنفي و «منار الأنوار» للنسَفي، من أشهر كتب الأصول ولهما شروح كثيرة (مجاهد).

حلقة في جامع الورد الذي يؤمّ فيه ويخطب الجمعة، وكان يُفتي المستفتين ويُقرئ في داره مَن يقصده من طلبة العلم، وكانت له مكتبة كبيرة فيها الكثير من المخطوطات النادرة فهو يعكف عليها، يقرأ دائماً ويكتب، ومن مكتبته أخذ صديقنا وأستاذنا عزّالدين التّنوخي مخطوطة «الإبدال» لأبي الطيّب اللغوي التي طبعها المجمع العلمي في دمشق. ترك ثلاثين مؤلَّفاً مكتوبة بخطه رأيتُها وكتبت عنها في جريدة الأيام الدمشقية في 18/ 5/1961 (¬1)، ما طُبع منها إلاّ واحد هو كتاب «أغاليط المؤرّخين». ومن علماء الأساتذة سعيد مَحاسِن، وهو أقدر محامٍ عرفتُه في الشام ومصر في الدعاوى المدنية، نشأ طالب علم على طريقة المشايخ ثم درس الحقوق في إسطنبول وأخذ الشهادة منها، وصار سنة 1928 وزيراً في حكومة لم يكن الشعب راضياً عنها فخرجت المظاهرات ضدّها، وناله الكثير من الأذى فخرج منها بعد أشهر يحمل من الوزارة وِزرها. كان يدرّسنا «المجلة»، وهي المادة الأساسية في كلية الحقوق، أصدرها العثمانيون بعد تأسيس المحاكم النظامية لتكون بمثابة القانون المدني، وضعَتها لجنة من كبار العلماء سنة 1286هـ وجمعَت في أولها القواعد الفقهية في مئة مادة، ترتيبها -في الجملة- حسن ولغتها جيدة، ولكنها أُخذت من المذهب الحنفي فقط. وثَقُلت على الحاكمين فوضعوا المادة 64 في قانون «أصول المحاكمات» العثماني ¬

_ (¬1) في سلسلة مقالات «كل يوم كلمة صغيرة»، وهي في كتاب «مقالات في كلمات: الجزء الثاني» ص212 - 216 من طبعة دار المنارة الجديدة (مجاهد).

فنسفوا بها ربع المجلة، ولبثنا نحكم بها حتى جاء حسني الزعيم سنة 1949 فنسف ما بقي منها وجاء بالقانون المدني، وسيأتي حديثه. وللأستاذ سعيد محاسن شرح للمجلة جيّد، وأوسع شرح لها شرح الأتاسي، ولقدري باشا قانون وضعه هو لم يُعمل به على غرار المجلة، يستند إليه الأستاذ السنهوري كثيراً في بحوثه. كان درس محاسن فيّاضاً بالفوائد، لا سيما حين يحدّث الطلاّب عن بعض ما مرّ به في قضاياه التي كان يرافع فيها. وكان -إلى علمه الواسع- ذكياً من أذكى مَن عرفت من الرجال، يظن خصمه في المحكمة أنه تمكن منه وأمسك بخناقه وضمن كسب القضية، فإذا به يتمسك بخيط كان خافياً عليه لم يلتفت إليه، فلا يتنبه إلاّ والخيط محيط بعنقه وإذا الرابح الأستاذ محاسن. صار نقيب المحامين وكان أكبر محامٍ في البلد وأجره أغلى أجر، على عقدة في لسانه ما انحلّت عنه حتى توفّاه الله. وكان أحدَ خمسة لو آتاهم الله مع العلم البيان وفصاحة اللسان لما قام لهم أحد. منهم أستاذنا سليم الجندي، وشيخ القضاة الشرعيين الفقيه الحنبلي سليل الفقهاء الحنابلة الرجل المستقيم النزيه الذي لا يعرف في الحقّ مجاملة ولا مساومة الشيخ حسن الشطي، وشيخنا أبواليسر، وشيخ مشايخنا العالِم المعمَّر الذي عاش مئة وثمانية عشر عاماً وعاشت معه ذاكرة قوية لم تضعف ونكتته صريحة لاذعة لم تخفّ، رئيس محكمة التمييز الشرعية الشيخ عبد المحسن الأسطواني. ومن الأساتذة من كان قائماً بعمله ناجحاً فيه، لا هو بالعالِم

الظاهر علمه ولا هو بالجاهل المكشوف جهله؛ منهم الأستاذ شاكر الحنبلي. وكنا نعرف اسمه ونحن في الابتدائية على عهد العثمانيين أيام الحرب الأولى لأننا كنا ندرس تاريخ الملوك من بني عثمان في كتاب من تأليفه، وكان مهيباً وقوراً لا يتكلم أحد منا في درسه ولا يهمس، مع أننا نتكلم في درس غيره ونخرج وندخل، فإذا كان الدرس له لم يدخل منا أحدٌ بعدما يبدأ الدرس ولا يخرج منا أحد قبل أن يكمل الدرس. ولم يكن يزيد على ما في الكتاب، ولعله كان يحفظه، ولكنه إنْ سُئل أجاب بما يدلّ على وفر عنده من المعلومات. ولما أصدر كتاب «أصول الفقه» وأهداه إليّ وجدته يعرض فيه كتاب «المنار» عرضاً مفهوماً بأسلوب العصر، لكن ساءني منه أنه سرق من كتاب الشيخ عبدالوهاب خلاّف صفحات وصفحات، نقلها كما هي ولم يُشِر إلى مصدرها. ولم يمنعني كونه أستاذي أن أشير إلى هذه السرقات لمّا كتبت -كما طلب مني- نقداً للكتاب. ثم هبط من يَفاعه ونزع عنه جبّة الوقار، وهو في آخر العمر، ونزل إلى ميدان الصحافة فأنشأ مجلة «الأقلام»، ودعاني إلى الكتابة فيها، فصرت أراه بالعين التي أرى بها كل صاحب جريدة أكتب فيها. ومنهم أساتذة كانوا أقرب إلى الضعف، ولكنهم يسترون ضعفهم. وكان منهم واحد استمعت له المحاضرة الأولى (أو الدرس الأول كما كنا نقول)، فوجئت به أول دخولي الكلية يدور في غرفة الدرس يخطب ويتشدّق ويتقعّر ويشير باليدين، ولكني لم أخرج منه بكثير نفع، فكان رحى (طاحون) لها جعجعة وما فيها من الدقيق إلاّ قليل. ولكن بقي في ذهني إلى الآن شيء ممّا

قال لأنه كان يومئذ جديداً عليّ، هو أننا طلاّب جامعة وطالب الجامعة ليس كتلميذ المدرسة، فالتلميذ يُلقَّن العلم فيحفظه والطالب يعمل بنفسه بإرشاد أستاذه حتى يصل إليه، وفي المدرسة كتاب مقرّر يدرسه الطالب ويَعيه ويكون امتحانه فيما جاء فيه، وليس في الجامعة (اسمعوا هذا أيها الجامعيّون) ليس في الجامعة كتاب مقرَّر بل موضوعات مطلوبة يجمعها الطالب من مصادرها وينظّمها ويُبدي رأيه فيها، ثم يقدّمها للأستاذ بحثاً مُعَدّاً. والجامعة التي تفرض على طلابها كتاباً تمتحنهم فيه ليست جامعة بل مدرسة متوسطة! وما قاله صحيح، ولكني وجدته لمّا خبرته مثل بيانات المرشَّحين في الانتخابات، برامج كاملة ولكنها موقوفة التنفيذ، مواعيد ولكنها «مَواعيدُ عُرْقوبٍ أخاهُ بيَتْرَبِ (يَتْرَب لا يَثْرِب)، هو الأستاذ سامي الميداني المحامي الكبير، وكان يدرّسنا الحقوق الدولية. ومن أفاضل المدرّسين الأستاذ ستيف، فرنسي عالِم كان المستشار التشريعي للدولة السورية، درّس لنا علماً هو كالمدخل إلى دراسة الحقوق، كان يُلقيه إلقاءً جيداً فصيح اللهجة واضح النبرة، يدلّ درسه على فهمه وعلمه، ولكن الذي نقله إلى العربية جاء به (نصاً ...) معقّداً ركيكاً لا واضحاً ولا مفهوماً، لكنه كان في بداية العهد بالتدريس، وقد نضج بعدُ وصار من فضلاء الأساتذة وصار وزير الأوقاف، فحسن عمله في الوزارة، ثم دخل مع حسني الزعيم وصار رئيس وزرائه، ثم قُتل معه لمّا قُتل، هو الأستاذ محسن البَرازي.

ومنهم من هو ذكي الجنان طلق اللسان، قوي الشخصية له منزلة اجتماعية، لو أجهد نفسه قليلاً لكان من أحسن الأساتذة، ولكنه كسلان لا يُعِدّ لدرسه ولا يحفل به، كأنْ ليس له ضمير يحاسبه؛ هو أحد أركان الكتلة الوطنية وأحد المحامين الخطباء، الأستاذ فايز الخوري، الأخ الأصغر لفارس بك، وكان يدرّس الحقوق الرومانية. وأستاذ نحبه لنُبْل نفسه وحُسْن خلقه، ولكنا لم نجد عنده علماً بل صَفّ كلام وتزجية ساعات، فهو أقرب إلى الجهل، أو هو جاهل. وآخَر لم يكن جاهلاً فقط بل عبقرياً في الجهل (إن كان في الجهل عبقريات!)، يدرّسنا الاقتصاد في كتاب كان في الأصل من تأليف شارل جيد المشهور، ترجمه جاويد باشا الوزير الاتحادي المشهور أيضاً (وهو يهودي الأصل من طائفة الدونمة واسمه دافيد (أي داود)، فحوّله، أو حوّله له أبوه جاويد ليكون كأسماء الأتراك، فيكون أبلغ في المكر وأشد في العداوة للإسلام). ثم كان الأستاذ الذي يدرّسه كلما وجد في الأساتذة أو الطلاّب مَن له قلم بليغ سأله أن يعود على عبارته بالتنقيح والتصحيح حتى صار كتاب أدب! ولم يكن يستر جهله بصمته بل يكشفه بلسانه، فيُضيع أولاً ربعَ ساعة بقراءة التفقد، يرفع النظارات عن عينيه حتى يقرأ الاسم ثم يعيدها حتى يبصر الطالب المسمّى، ثم يأمر أحد الطلاّب فيقرأ الفصل من الكتاب فيضيع ذلك ثلث ساعة، ثم يشرح. وهاكم مثالاً ممّا بقي في ذهني من شرحه: يمرّ في الكتاب ذكر السلسلة العددية والهندسية فيقول: أتدرون ما السلسلة العددية وما الهندسية؟ فنقول (للتسلية بشرحه

والهزء به): لا ندري. فيفكّر ويأخذ هيئة العالِم الجادّ ويقول: العددية يا أولادي هي التي تنقص والهندسية هي التي تزيد! وجاء مرة ذكر «ميزانتروب» (وهو اسم مهزلة كوميدية لموليير) فقال: أتعرفون من هو ميزانتروب؟ قلنا: لا. قال: هو عالِم من علماء الاقتصاد! قلنا: أفادك الله كما أفدتَنا. * * *

ذكريات عن الجامعة والامتحانات

-53 - ذكريات عن الجامعة والامتحانات الطلاّب درجات: فمنهم فئة يُعطَون رواتب، أي أنهم يتعلمون ويكسبون، كطلاب المملكة العربية السعودية؛ يأخذ الواحد منهم ألف ريال في الشهر، وأنا أُحلت على التقاعد بعدما بلغت ذروة سلّم الوظائف وأُعطيت في الشام مثل مرتّب وكيل الوزارة، وما وصلت إلى ما يعدل ألف ريال! ومنهم من يدرس مجّاناً، ومنهم من كان مثلي لا ينال العلم حتى يدفع الثمن «أقساطاً». وهؤلاء منهم من له الأب الغني يعطيه ما يطلب ولا يُشعِره الحاجة إلى شيء، فكان يُفرّغ نفسه لدراسته، ينفق فيها وقته كله ويضع فيها جهده كله، وأنا قد دخلت الجامعة (كما عرفتم) وما لي مال أمدّ يدي إليه ولا أب ولا قريب أعتمد عليه، وكان عليّ فوق أداء «ثمن العلم» أن أعول نفسي وأهلي. فكنت طالباً في الجامعة، ومعلّماً في المدارس الأهلية، ومدرّساً حيناً في الكلية العلمية الوطنية، وأعمل محترفاً في الصحافة، أكتب المقالات وأصحّح «البروفات» وارتّب الأخبار وأعلّق عليها التعليقات، على حين كنت أخطب في الحفلات وفي المظاهرات وأعمل مع لجنة الطلبة في إعداد الإضرابات، وأحضر -مع هذا-

مجالس العلماء وأقعد في حلقات المشايخ، وأشارك في أعمال الجمعيات الإسلامية من غير أن أنتسب رسمياً إليها أو أدخل فيها، وأخطب خطبة الجمعة، وأُلقي دروساً خصوصية. ومن أصعب ما مرّ بي من تجارِب في مجال الدروس الخصوصية تجرِبة كنت ناسيَها فما حدّثتكم حديثها، هي أنه كان في «بوّابة الصالحية» مؤسسة أهلية لأستاذ لبناني اسمه (كما أذكر) سليمان سعد، تُدعى (كما أظن) الجامعة العربية، سمع بأني أحسن العربية وأحتاج إلى المال، فعرض عليّ أن ألقي عنده درساً خاصاً لطالب واحد بأجر كان يُعتبر كبيراً جداً، فقبلت. وكانت المفاجأة الكبيرة يوم الدرس أن هذا الطالب جاء يحمل معه تاء التأنيث، لم يكن طالباً ولكن طالبة شابة تتفجّر شباباً وتفيض حسناً، تنشر حولها ساحة من الفتنة مثل الساحة المغنطيسية، لم أقدر أن أمكّن نظري منها لأصف وجهها وعينيها، ولكن اللحظة التي لقيت عيناي فيها عينيها كَفَت لتقول لي وأقول لها. ولعلّي بالغت في تصوّري، ولعلّ شبابي وكوني لم أجتمع قبلها بفتاة من غير أهلي وأن في نفسي من العواطف والرغبات ما يكون في نفوس أمثالي من الشبان، لعل هذا هو الذي خَيّل إليّ أني أرى فيها ما رأيت. والخلاصة أني أُصِبت منها بمثل ما يصيب من يمسّه السلك مشحوناً بتيار الكهرباء. ووقفت ألتقط أنفاسي وأرقب أن أفيق من دهشتي، يتقاذفني ميل نفسي إلى تدريس هذه الفتاة مع حاجتي إلى الأجر الكبير الذي عُرض عليّ، وخوفي من الله الذي أسأله أن يبعدني عن طريق الحرام ومزلاّت الأقدام، وتردّدت هل أقول:

لا، فأحرم نفسي متعة الجمال والمال، أم أقول: نعم، فأسلك سبيل الضلال؟ وتمنيت أن أقوى على الرفض فلم أستطِعه، ومنعني ديني أن أعلن القبول. وكانت هذه الخواطر تمرّ في نفسي مرّ «الفِلم» الذي يكرّ مسرعاً، وهما يرقبان الجواب وهو يستحثّني عليه يشجّعني على القبول، فقلت: ولكني لا أستطيع أن أدرّس الآنسة وحدها. وقد نسيت أن أقول لكم إنها كانت سافرة يتهدّل شعرها على كتفَيها وتبدو ذراعاها، قالا: ولِمَه (¬1)؟ قلت: لأن ديني يحرّم هذا عليّ. قالت: آتي بأخي معي يحضر الدرس. وليتها ما نطقَت! فقد كان صوتها فتنة أخرى كامنة فيها، ومن الأصوات ما يفتن ولو نطقَت صاحبته بالموعظة والتذكير. وحضر أخوها، ودرّستها. والدرس (تصوّروا) موضوعه منهاج تاريخ الأدب في البكالوريا الذي يجيء في أوله شعر بشّار وأبي نواس، ولو درّس الشابّ مثلَ هذه الفتاة أحاديثَ البخاري لوجد الشيطانُ مدخلاً إلى مجلسهما، فكيف والدرس في غزل بشّار المكشوف المفضوح وشعر أبي نواس؟! درّستها أربع حصص أو خمساً، اللهُ أعلم كيف كنت فيها، وإن لم أدرِ (صدّقوني) ما لون عينيها، فأنا كنت الخجلان لا هي؛ فكنت أتحاشى النظر إليهما، على رغبة نفسي فيما أتحاشاه. ثم رأيت أن استمرار الدرس مع غضّ البصر ولزوم الاحتشام ومع ما في النفس من الرغبة الطاغية نوعٌ من عذاب الدنيا، ونظري إليها ورفع الكلفة معها وتوثيق الصلة بها تعريض نفسي لما هو أشدّ منه من عذاب الآخرة. فتركت لها ما بقي لي من الأجرة معها، وهربت ¬

_ (¬1) هذه هاء السكت.

منها وقلبي عندها! ولو وضعت في هذه الحالة قصة لكانت من أروع القصص. وأنا قادر على كتابتها، ولكني أُكرم شيبتي أن أعود الآن إلى هذا الهراء، وأرحم الشباب من القرّاء. * * * وكانوا يُلزموننا بالدوام، أي بحضور عدد معيّن من دروس الأساتذة، فإن لم نستكمله لم يمكّنونا من دخول الامتحان. وما ينبغي لطلاب الجامعة أن يُكرَهوا على استماع دروسها، بل إنّ مردّ ذلك إلى مقدرة المدرّس وتقدير الطالب. فمَن كان من الأساتذة ذا علم يشعر الطالب بالحاجة إليه ويحسّ بالاستفادة منه، وكان ذا بيان يعرض به علمه: بحسن إلقائه وجمال تعبيره، ولم يكن فظاً غليظ الطبع ولا مدّعياً ولا مستكبراً ولا جاهلاً، مثل هذا المدرّس يُقبِل الطلاّب على درسه من غير أن تسوقهم عصا أو يضطرّهم إكراه، كما يُقبِلون على سماع الدروس النافعة في المسجد والمحاضرات المفيدة في النادي، يتسابقون إليها وما أجبرهم أحد عليها. فلماذا لا تكون محاضرات الجامعة مفتوحاً بابها للطلاّب جميعاً، من حضر فأهلاً به وسهلاً، ومن غاب فلا لوم عليه ما دام النجاح بالامتحان، وعند الامتحان يُكرَم الطالب أو يُهان؟ وليس لك أن تسأله من أين حصلت العلم: مِن درس المدرّس أم من الكتب أم من أفواه العلماء من غير المدرسين، المهم أن يلمّ بالمطلوب منه في المنهج وأن يجيب على السؤال الذي ألقي عليه يوم الامتحان. أليست هذه هي سُنّة طلاّب الأزهر قديماً وأخوات

الأزهر: مدرسة القرويين، والزيتونة، ودار الحديث في دمشق، وحلقات العلم في المساجد كلها؟ لقد أخذنا هذه الطريقة أخيراً، ولكنا لم نأخذها صافية من العين بل أخذناها من الساقية بعدما قطعَت الساقيةُ شوطاً بعيداً، فمرّت بأميركا ثم عادت إلينا، وقد غيّرت اسمها فصار اسمها «نظام الساعات المعتمَدة». أنا أدرّس من سنة 1345، ولم أنقطع عن التدريس إلى السنة التي نعيش فيها سنة 1403. وكنت أسمع من الناس أنني من الأذكياء، فلما طال ذلك صدّقتُه وحسبت -غروراً مني- أني ذكي حقيقة، فلما جاءنا نظام الساعات رأيت أني من كبار الأغبياء لأني لم أقدر أن أفهمه! ولا أدري لماذا لا نعود به إلى أصله الذي أُخذ منه وهو أسلوب الدراسة في الأزهر وأمثاله، على أن نهذّب حواشيه ونعدّله حتى يكون صالحاً لهذه الأيام؟ أو نعود إلى نظام السنوات الذي كان على أيامنا: تُوزَّع العلوم على السنين، فكلما أحاط الطالب بمنهج سنة منها وأتقنه فهماً انتقل إلى السنة التي تليها. أو لعلّي أقول هذا لأني لم أدرك حسنات نظام الساعات، أو لأني صرت «عجوزاً» يلتفت دوماً إلى الوراء، يحبّ القديم ويحنّ إليه ويكره الجديد وينفر منه ... لست أدري! * * * كانت المشكلة الكبرى لي ولأكثر الطلاّب معي هي «الميمات»، حتى تَحدّث بها الركبان -كما يقولون- ونقل خبرَها السلَفُ من الطلاّب إلى الخلَف، ورُكّبت عليها النكت والنوادر ونُظمت فيها الأشعار. هذا الأستاذ أديب التقي البغدادي (أستاذ

العربية في ثانوية البنات) وقد كان من طلبة الحقوق قبلنا يقول لفارس بك الخوري: يا ليتَ شعريَ والأيامُ ظالمةٌ (¬1) ... وأنتمُ عَضُدُ المظلومِ إنْ ضيما ماذا تقولونَ في محتاجِ ميمِكُمُ ... إنْ جاءَ يطلُبُ منكم ذلكَ «الميما»؟ يأخذها بالنكتة البليغة من غير أن يعمل لها عملها، كما كان الشعراء المدّاحون يأخذون أموال الأمّة بالقول الجميل الذي كان أكثره كذباً ... أموال يدفعها العاملون الكادحون فيتلقّفها الكاذبون المنافقون (أعني أكثر المادحين لا كلّهم). وما «الميمات»؟ إن الأساتذة كانوا يقرؤون أسماء الطلاّب في أول كل درس (أي حصة) ليعرفوا مَن حضره ممّن غاب عنه، لأن باب الكلية مفتوح ليس عليه بوّاب يُحصي الداخلين ويمنع الخارجين. لذلك كان هذا «التفقّد» في أول كل درس، يضعون أمام اسم الحاضر ميماً (أي موجود)، ثم تُعَدّ الميمات قُبَيل الامتحان، فمن حاز منها القدر المطلوب قُبِل فيه ومن لم يَحُزه أُقصِيَ عنه ومُنع منه. هذه هي «الميمات». ومن الأساتذة من كان يقرأ الأسماء كلها، ومنهم من يضنّ بوقته ووقت الطلاّب عن أن يُهدِرَه في أمر ليس من شأن الأساتذة ولا من عملهم، وإنما هو عمل إداري تتولاّه الإدارة، ومنهم من يوكّل طالباً يثق ¬

_ (¬1) تعبير شائع ولكن الشرع يحرّمه لأن الذي يضرّ وينفع هو الله، ومنه حديث «لا تسبّوا الدهر».

به ليشير في الجدول إلى الحاضرين والغائبين، ثم يعدّ الطلاّب من بعيد يُحصيهم بنظره، فإن وجد الميمات في الجدول أكثر من الحاضرين في المكان علم أن من ائتمنه قد خان. ومنهم من لا يعد الأسماء ولا ينظر في الحاضرين ولا يقيم للأمر وزناً، ويوقّع الجدول ناسياً أنها أمانة وأنّ الله يسألنا عن كل ما اؤتُمنّا عليه. وكنت أنغمس فيما أمارس من أعمال يكاد يضيق عنها وقتي، وأختلس من بينها ساعات أروغ فيها إلى الكلية أسرع الخُطا لآخذ «الميم» وأنسلّ هارباً، إلاّ إن كان الدرس لمثل أبياليسر عابدين أو فارس الخوري أو سعيد المحاسني أو ستيف، فلا أقدر على الهرب. ومَن يقدر على الهرب من المائدة الحافلة وهو جوعان؟ أبقى على ذلك السنة إلاّ أقلها، وربما نسيت في غمرة أعمالي الكلّية وما فيها، حتى إذا لم يبقَ بيني وبين الامتحان إلاّ شهر واحد تركت كل ما في يدي واختفيت فلا يراني أحد ولا يعرف مكاني، وعكفت على كتب الكلية ومذكّراتها ومراجعها لا أفكر إلاّ فيها ولا أشغل ذهني بغيرها، وكان اختفائي (أكثره) في دار عمّي الشيخ عبد الوهاب، والدار بجوار الجامع الأموي عند المدرسة البادرائية وحمّام سامه، في زقاق عرضه أربعة أذرع تتفرع منه حارة عرضها أقلّ من باع، تدخل فيها أربعين ذراعاً ثم تلتوي بك فتمشي أربعين أخرى، قد ركبَتها البيوت فهي مظلمة في وضح النهار، تدخل من بابها إلى دهليز صغير فيه «قاعة» الضيوف ومرافقهم ثم إلى صحن واسع فيه شجرات و «دالية» صاعدة إلى «المَشْرَقة» تحمل كل عام أكثر من مئتي (كيلوغرام) من العنب البلدي الذي يزيد حجم حبّته على حجم إبهام الرجل

الضخم، كأنه «مقامع البلّور» كما وصفه ابن الرومي، وفي صدر الدار الإيوان تطل عليه غرفة كبيرة، كان فيها مقامي في هذا الشهر ومنامي. وكنت أشعر من اللحظة التي ألِجُ فيها الدار أنني خرجت من الدنيا وخلّفتها وراء ظهري، فلا أرى منها شيئاً ولا أسمع فيها صوتاً. وماذا أسمع؟ وما كانت يومئذ هذه الأصوات التي تلحقك اليوم وأنت في قرارة دارك، تقضّ عليك مضجعك وتُفسِد عليك عملك وتكرّه إليك عيشك، فتفزع إلى طبيب الأعصاب وإلى الفاليوم والنوربيوم والتريبتيزول والأنسيدون وأسرتها الكثيرة العَدَد القليلة المَدَد، التي يصطفّ أمامي الآن على الرفّ اثنا عشر واحداً منها، لا بورك فيها! لم يكن هذا الرادّ (الراديو) الذي نسمعه الآن من كل مكان وفي كل آن، لا يستريح ولا يريح، يطلع من قبل أن تطلع الشمس ولا ينزل ولو نزل ميزان الليل ودنا السحَر، إن سكتت محطة نطقت أخرى! ولو أن من أراد أن يسمع سمع وحده لما كان لي عليه سبيل لأن له أن يسمع ما يحب، لكن لماذا يجبرني أنا أن أسمع ما لا أحب؟ (¬1) إن الذي اخترع هذه «الإذاعة» لو علم أنها ستكون أداة إزعاج ووسيلة إجرام يضعها في يد الرجل الجاهل والمرأة الحمقاء لانتحر، فبلع حبة سيانور البوتاسيوم أو رمى نفسه ¬

_ (¬1) اقرؤوا في كتاب «فصول اجتماعية» مقالة «ارحمونا من هذا الضجيج» والتي بعدها: «صيحة شكوى»، ومقالة «من حديث المزعجات» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

من الشبّاك أو أطلق على نفسه الرصاص، أو انتحر بما هو شرّ من ذلك بأن تكون له «معاملة» في بلد يدين موظفوه بدين «الروتين» مضافاً إليه إهمال الموظفين و: "تعالَ بكره، مشغولين"! ما كان عندنا يومئذ (سنة 1931) إلاّ جهازان للرادّ، أحدهما عند محمد علي بك العابد رئيس الجمهورية والآخر عند الأمير سعيد الجزائري، وكان الجهاز بحجم الثلاّجة، ما كانت قد وُجدت هذه الروادّ الصغيرة التي تحملها باليد كما يحمل المريض جراثيم مرضه المعدي ينشرها (مجّاناً) في الناس. * * * لقد كنت آخذ «الميمات» بمثل وسيلة الأستاذ التقي وبأمثالها، وبالحيلة وبالتهديد. وأستغفر الله الآن من هذا الذي كان، وليس الذنب فيه عليّ وحدي بل على من وضع هذا القانون. حتى إذا انقضى الشهر وكمل إعداد سلاح المعركة برزت شاكي السلاح ودخلت الامتحان. ولقد أدّيته في السنة الأولى وأنا بالعباءة والعقال، فوفّق الله وكنت الأوّل بين رفاق منهم من هو أقرب إلى فضل الأساتذة منه إلى حال الطلاّب. ترون ذلك في صورة صفحة السجل (¬1)، أما الشطب على كلمة «الأوّل» مع إبقائها ظاهرة فسببه أنهم أبطلوا نظام ترتيب الطلاّب واكتفوا بدرجات ثلاث: جيد وحسن وضعيف. ¬

_ (¬1) وهي في جزء الصور والفهارس (مجاهد).

ولست أنصح الطلاّب أن يعملوا مثلي فهذا شيء عملته مضطراً إليه، والطالب العاقل يُعِدّ للامتحان من أول يوم، يمشي على مهل خطوة خطوة مثل سلحفاة لافونتين، فهذا أسلم من أن يقلد (كما قلدت أنا) الأرنب، وكما أصنع دائماً. إن هذا من عيوبي، وعلى الكاتب أن يجنّب قرّاءه عيوبه. إني أؤخر كل عمل إلى آخر وقته ثم أقوم مسرعاً أعدو كالمجنون؛ لقد تركت الحكمة العربية الصحيحة «لا تؤخّر عمل اليوم إلى الغد» وأخذت الكلمة الحمقاء للكاتب الفاسق أوسكار وايلد «لا تؤخر إلى غد ما تستطيع عمله بعد غد»! لقد أضاع عليّ التسويف خيراً كثيراً في الدنيا وأسأل الله -ضارعاً إليه- ألاّ يضيع عليّ خير الآخرة (¬1). لقد حاسب الغزالي نفسه مرة فقال لها: يا نفس، ألا تؤمنين بأن الله مطّلع عليك ناظر إليك؟ قالت: بلى. قال: ألا تعلمين أن كل ما تعملينه يُقيَّد لك أو عليك، وأنك واقفة غداً بين يدَي الله فمحاسَبة عليه ومَجزيّة به؟ قالت: بلى. قال: ألا تعلمين أنه غفور رحيم وأنه سريع الحساب شديد العقاب؟ قالت: بلى. قال: فكيف إذن تعصينه؟ فتبيّن له أن العلّة ليست من ضعف الإيمان ولكن من التسويف وفقد العزم. لقد قلت من قبل إن كل واحد منا يريد أن يستقيم وأن يتجهز للسفر ويتزود للرحيل، ولكنه يؤجل ويسوّف. إنه يؤمّل دائماً أن يتوب، ولا يزال في التسويف والأمل حتى يسبقه الأجل. فيا ربّ قوّةً منك أصحّح بها العزم على العودة ¬

_ (¬1) من شاء فليقرأ المقالة الظريفة المفيدة «لا تؤجّل» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

إليك، فإنه لا حول ولا قوة إلاّ بك. كنت في السنة الثانية من كلية الحقوق لمّا عُيّنت معلّماً (وسيأتي الحديث عن ذلك)، وكان قد بقي للامتحان أقلّ من شهرين، فتسلمت عملي وواظبت عليه، واضطُررت إلى تأجيل امتحان الحقوق إلى الدورة الثانية ووُفّقت والحمد لله فيه. وممّا اعترض دراستي في الجامعة أنه مُنع الجمع بين الوظيفة والدراسة الجامعية، وكان كثير من الطلاّب موظفين. وكانت أزمة استغلها المعارضون وكَثُر فيها الجدل، على نحو ما نقرأ الآن في الصحف عن حكومة المغرب التي مارست الآن مثل هذا المنع. وخاب كل مسعى وأصرّت الحكومة على قرارها، ولكن لكل قاعدة شواذّ، وكنت من الشواذّ، فقد غَضّوا الطرف عن بسّام كرد علي لأن عمّه أستاذنا محمد كرد علي هو الوزير، وعني لأني ... لأني ماذا؟ هل أعترف بالحقيقة فأقول: لأني حديد القلم طويل اللسان محاط بجيش من الطلاّب؟ وسمحوا لي أن أوكّل وكيلاً عني يدرّس في مكاني. وكان من أصدقائي رجلٌ عصامي، طالب علم من أصحاب الشيخ هاشم الخطيب، وكان نجاراً في «القَباقبيّة»، نجّاراً بارعاً يأكل من كسب يديه مالاً حلالاً كما كان شأن بعض كبار الصحابة وكبار العلماء. وكان يغدو إلى درس الشيخ هاشم في المسجد ثم يؤمّ دكانه في السوق، يُحسِن عمله وينصح من يعامله ويقنع بالقليل الحلال، لم يكن غشاشاً ولا طماعاً ولا مدّعياً في صناعته، وكان -إلى ذلك- من أرباب الفتوّة، لاعب سيف. وكانت لعبة السيف

والترس ممّا يفخر به الرجال، وكان البطل فيها يمسك بيديه سيفَين وينازل خصمَين، وكذلك كان هذا الصديق، وكان يحطّ على الأرض قاعداً القرفصاء ثم يثب من قعدته في الهواء كما يفعل أهل القوقاز. وهو اليوم أحد الشيوخ المعروفين في الشام، انقطع إلى العلم وخرّج علماء وأفاد المسلمين. ذلكم هو الشيخ صالح فرفور، وهو أسنّ مني مدّ الله في عمره وقوّاه. وكان من مشاقّ طريق الدراسة هذه الأقساط، وهي تعدل بسعر اليوم ستّة ريالات، وكدت من أجلها أخرج من الجامعة وأضيع دراستي! لقد كان صباح يوم 29 نيسان سنة 1932، تاريخ أذكره دائماً لأنه كان آخر أجل لدفع القسط، فذهبت إلى عمّي أطلب منه المبلغ قرضاً، فوجدته في الطريق، وكلمته فتجاهل طلبي وقال: السلام عليكم، ومشى. ولم يكن بقي من وقت الدفع إلاّ ساعتان، فأكرهت نفسي على تجرّع كأس المذلّة وأعدت السؤال، فقال: ما معي، السلام عليكم. فكدت أنفجر من الغضب وكاد لساني، بل وكادت يدي يفلتان مني، ولكني كظمت غيظي وقلت: اقترضها لي من المكتبة. وكان قد وصل إلى باب المكتبة الهاشمية، وأنا أعلم أن له فيها مالاً وأنهم لا يردّون له طلباً. ولم يدرِ كيف يتخلص مني فقال لهم: هل عندكم عشر ورَقات (وكنا نقول عن الليرة ورقة)؟ قالوا: نعم، بكل ممنونية. فرأيته أشار إليهم بحاجبه ألاّ يعطوني، فاستدركوا وقالوا: ولكن بعد يومين. فلم أقُل شيئاً، ووجدت من أقرضَني فدفعت المبلغ الكبير الذي كاد يقطع عليّ دراستي ويضيّع مستقبلي وهو عشر ليرات، أي ستّة ريالات! ثم جاءت المصيبة الكبرى وهي رسم

الشهادة، وكنت قد أكملت الدراسة في الكلية، ولكن الشهادة لا تُسلّم إليّ حتى أدفع الرسم القانوني وهو أربعون ليرة. دفعها الشيخ عبد القادر العاني قرضاً، ثم علمت بعد سنين طوال أنه جمعها من التجّار من غير أن يذكر لهم اسمي؛ أي أنني دفعت ثمن الشهادة «شحادة»! * * * وهاكم صورة للأساتذة وللطلاّب المُجازين معي سنة 1933 (¬1)، منهم اثنا عشر من دمشق، واثنان من حلب، وأربعة من حماة، وواحد من حمص، وواحد من جبلة، وواحد من القريتين (جنب تَدمُر)، ومنهم ستّة من لبنان، وأربعة من الأردن، وخمسة من بغداد (إذ لم يكن فيها جامعة في تلك الأيام) منهم يونس السبعاوي الذي شارك في حركة رشيد عالي وصار وزيراً ثم قُتل شهيداً، ومنهم الزعيم المعروف صدّيق شنْشَل. ومن زملائنا الأستاذ الفقيه الوزير الشيخ مصطفى الزرقا، والزميل القاضي الشهيد الشيخ عادل العلواني، والقاضي المستشار الأستاذ بدر الدين الكاتب، والأستاذ فؤاد شباط وكيل وزارة الداخلية وعميد الكلية فيما بعد. ولست أعدّ أسماءهم جميعاً، وهذه صورهم أمامكم وأسماؤهم تحتها، فاذكروا من تعرفون منهم، قوّى الله من بقى منهم على شيخوخته ورحم من ذهب إلى لقاء ربه. * * * ¬

_ (¬1) الصورة في جزء الصور والفهارس (مجاهد).

فارس الخوري

-54 - فارس الخوري كان أستاذي، استفدت منه وقدّرت فضله ومدحته، ولكنْ كان آخر مسلم في آخر الأرض أقرب إليّ منه! هذا الكلام لم أقله الآن ولكن صدعت به على المنبر من نحو ثلاثين سنة، فاستأذنني الأستاذ أحمد عسّة (وكان يوماً تلميذي) أن ينشره في جريدته فأذنت، فنشرَته الجريدة بالخطّ الكبير (المانشيت) بالقلم العريض. وكانت إحدى مرّات ثلاث ثارت فيها جرائد دمشق كلها عليّ وتبارت في ذمّي وشتمي وجرّب كل ذي قلم قلمه فيّ. أما ذنبي الذي لا يُغتفَر فهو أني «كفرت» بدين الوطنية ودعوت إلى الطائفية، وفرّقت بين المواطنين بسببٍ من اختلاف الدين، وهم يهتفون كل صباح: بلاد العُربِ أوطاني ... منَ الشامِ لبغدانِ ومنْ نجدٍ إلى يمَنٍ ... إلى مصرَ فتَطوانِ فلا دينٌ يفرّقُنا ... ... لا يفرّقنا الدين؟! أي أنهم يريدون أن نجعل الكافرين

كالمسلمين وأن ندعو بدعوة الجاهليّين، ندَع كلام ربّ العالمين: {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} فننكر أُخوّة الإيمان ونتمسّك برابطة اللسان، فيكون أبو لهب وأبو جهل أقربَ إلينا من بلال وسلمان. كلاّ، ولا كرامة! قلتها من أول حياتي وأقولها الآن. أفتدرون ماذا كان موقفي من هذه الحملة وماذا كان ردّي عليها؟ كان بياعو الصحف يعلّقونها على جدار القصر العدلي، وكنت أمرّ بها وأنا أدخل إلى المحكمة فأرى عناوينها وأنا ماشٍ: «الطنطاوي كذا والطنطاوي كذا»، فلا والله ما مددت يدي إلى واحدة منها ولا قرأتها ولم أعرف إلى هذه الساعة ما الذي كان فيها. حلفت لكم لتصدّقوني، وكنت أصل إلى محلّي وأباشر عملي وما حرّك هذا كله شعرةً في بدني، لأني تعوّدتُه فما عدت أشعر به! أما الذي قلت عنه هذا الكلام، فأثار عليّ أصحاب الأقلام من المسلمين فرموني بكل جارحة من التهم وكل قارص من القول، وهو أستاذنا فارس الخوري، فقد قابلته في الطريق فحاولت أن أقول له شيئاً، فسبقني فقال لي (بالحرف الواحد): لا عليك؛ لقد جهرتَ بحكم دينك وهذا ما أُكْبره فيك، وجعلتَني أقرب النصارى إليكم وهذا ما أشكرك عليه! وكان ممّن حضرت عليه في المدرسة وفي الجامعة أساتذة من النصارى، ودرست العبرية في دار العلوم في مصر على الأستاذ اليهودي ولفنسون، فكنت أقدّر علم العالِم منهم لا أنكر فضله ولا أبخسه حقّه، وأبرّ منهم من لم يقاتلنا قومُه في الدين ولم يخرجونا من ديارنا وأقسط إليهم، ولكنْ لا أجامل واحداً منهم أو

مِن غيرهم في ديني ... إذا جاء حكم الدين بطلت المجاملات! كذلك كانت صلتي بفارس الخوري؛ صلة تلميذ يقدّر أستاذه ويأخذ من علمه، وسترون أن ذلك كله لم يمنعني أن أعلن أن الإسلام لا يُجيز انتخاب غير المسلم نائباً في مجلس يشرّع القوانين للمسلمين. ولم يسمع الناسُ مثلَ هذا الكلام جَهاراً من أحد قبلي، وسيأتي تفصيل هذا الإجمال في موضعه من سلسلة المقال. كان فارس الخوري أحدَ عباقرة العرب في هذا العصر علماً وفكراً وبياناً. ورُبّ عالِم واسع المعرفة كثير الاطّلاع لكنه غير مفكّر، ورُبّ مفكّر سديد الفكر بعيد الغور ولكنه ضيّق المعرفة، ورُبّ عالِم مفكّر لكنه ضعيف البيان عَيِيّ اللسان. أما فارس الخوري فقد جمع الله له الثلاثة، وكنت أعجب منه كيف يكون له هذا الاطّلاع على الإسلام وهذا العقل، ولا يهديه عقله إلى اتّباع دين الحقّ الذي لاحقّ في الأديان غيره! لا سيما أنه كان يتمسك بأوهى خيط من النصرانية، فقد كان بروتستنتياً، بل كان أقرب إلى أن يكون بلا دين. فلما مرض وطال مرضه رأيناه كلما عاده أحد من المسلمين حدّثه عن الإسلام، وكان يُكثر أن يطلب من شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار (ومن غيره) أن يقرأ عليه القرآن، وأوصى (ونُفّذت وصيته) أن يُتلى القرآن في مجلس التعزية به إذا مات. فكنت أحار في تفسير هذا كله، حتى نشر الأستاذ محمد الفرحاني كتابه عنه (وقد كان ملازماً له في مرضه لا يفارقه أبداً) فإذا هو يؤكّد أنه

مات على دين الإسلام، فرحمه الله ورحم الفرحاني الذي فرّحنا بهذا النبأ. وكنت سنة 1947 أقيم في مصر وأُشرفُ على تحرير «الرسالة» (راجع ما كتبه الزيات في العدد 733 في البريد الأدبي)، وكان (أي فارس الخوري) مندوبَ سوريا في مجلس الأمن، وكانت إليه رئاسة المجلس حين عُرضت قضية مصر عليه. وخطب مندوبها النقراشي باشا مدافعاً عن حقها، وخطب فارس الخوري، فكانت خطبته "نقطة التحول في مجرى الرأي في مجلس الأمن" كما كتب الأستاذ الصاوي في «أخبار اليوم». وحين كانت الجرائد تتحدث في مصر عن مجلس الأمن والنقراشي وعن فارس الخوري على التخصيص (الذي كان الناس يومئذٍ يزدحمون على الرادّ في المقاهي والشوارع ليستمعوا إلى خطبته وهو يلقيها بالإنكليزية والمذيع ينقلها إلى العربية) لم يكن يُعرف عنه في مصر إلاّ القليل، فكتبت في العدد 740 من الرسالة، الصادر يوم 23 شوّال (8 سبتمبر 1947) كتبت مقالة عنوانها: «ما أعرفه عن فارس الخوري»، تناقلَتها جرائد كثيرة وعلّق عليها كتّاب كبار منهم الأستاذ العقاد في العدد 741 من الرسالة بعنوان «الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان». وكان ممّا قلته في مقالتي: أقيمت في ردهة المَجمع العلمي العربي في دمشق من نحو عشرين سنة (أي سنة 1927) حفلة لتكريم حافظ إبراهيم لمّا زار دمشق حضرتُها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في ريق الشباب على أبواب العشرين من

العمر، نقصد هذه الحفلات لننقد الخطباء ونبتغي لهم المعايب، فمَن لم نَعِبْ فكرته عِبْنا أسلوبه ومن لم ننتقص إنشاءه انتقصنا إلقاءه! وخطب في هذه الحفلة كثير، وألقى فيها شاعر الشام شفيق جبري إحدى روائع قصائده، وكنا ننتظر من حافظ قصيدة مثل شاميته الأولى، فكأنه أُرْتِجَ عليه فاكتفى ببيتيه المشهورَين: شكرتُ جميلَ صُنعِكمُ بدمعي ... ودمعُ العينِ مقياسُ الشعورِ لأوّلِ مرّةٍ قدْ ذاقَ جَفني ... -على ما ذاقهُ- طعمَ السرورِ ولم يأتِ فيهما بشيء! وكان فيمن خطب رجل قصير القامة كبير الهامة أبيض الشعر، ألقى قصيدة لا أزال أذكر أن مطلعها كان: ليالي التّصابي قد جفاني حُبورُها ... ولُمّتيَ السوداءُ أشرقَ نورُها ومَن لي بإنكارِ الحقيقةِ بعدَما ... تجلّى على وجهي وَفَودي نذيرُها تذكّرتُ أيامَ السرورِ التي مضَتْ ... فيا ليتَ شِعري هل يعودُ سرورُها؟ أسِفْتُ على عهدِ الشبابِ ولم تعُدْ ... تُثيرُ فؤادي مقلةٌ، وفتورُها وأدنَتنيَ الأيامُ من هُوّةِ الوَنى ... فأصبحَ منّي قابَ قوسٍ شَفيرُها وكادَت صُروفُ الدهرِ تطوي صحائفي ... وهل بعدَ هذا الطيّ يُرجى نُشورُها

ومنها: أَحافظُ حيّيتَ الشآمَ تحيّةً ... يفوقُ عبيرَ الوردِ منها عبيرُها وألبستَها ثوباً منَ الحمدِ دونَهُ ... حدائقُها في زَهوِها وزهورُها وطوّقتَها بالحبِّ والعطفِ رِبقةً ... قلادةَ أسرٍ لا يُفادى أسيرُها وهي طويلة. وأقول الآن: إنها موجودة في الكتاب القيّم الذي لم يصنع وفيٌّ لحافظ وشوقي مثلَه، هو كتاب «ذكرى الشاعرَين» للأستاذ أحمد عبيد الذي جمع فيه ما كُتب عنهما وما قيل فيهما، وكانت هذه السنة (أي سنة 1982) وقت الحاجة إلى تجديد طبعه لمرور نصف قرن على وفاته. أقول: إنها قصيدة جيدة، ألقاها بصوت كان قوياً على انخفاض، مدويّاً على وضوح كأن له عشرة أصداء تتكرر معه، فتحسّ به يأخذك من أطرافك ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأذنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد يدك تلمس فيه شيئاً ضخماً ... على صحّة في المخارج، وضبط في الأداء، وقوة في النبرات، وثبات في المحطّات. هذا الصوت الذي له هذا الدويّ كله يخرج من فم صاحبه باسترسال واسترخاء، لا يفتح له شدقه ولا يمُدّ نَفَسَه ولا يُجهد نَفْسَه، فأنسانا أن ننتقد القصيدة أو نجد لها العيوب، وملك بها قلوبنا وقلوب الحاضرين فصفّقنا حتى احمرّت منّا الأكفّ. وقلت لسعيد: من هذا؟ قال: هذا فارس الخوري.

وعلّق الأستاذ العقاد على مقالتي فقال: ومن أصغى إلى هذا الخطيب المطبوع وهو يتكلّم عَلِمَ أنّ أداة البيان قد تَمّت له لفظاً وحساً كما تَمّت له بداهة ومعنى، فصوته من تلك الأصوات الغنيّة كما يقولون في اللغات الأوربية، لا تحسّ فيه جهداً ولا حاجة إلى جهد لأنه يملأ عليك جوانب السمع، كأن له عشرة أصداء تتكرر معه كما قال الأستاذ الطنطاوي في وصفه. * * * وكنت قد سمعت باسم فارس الخوري قبل ذلك بزمان، من سنة 1919، وكنت تلميذاً في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية وكان هو علَماً من أعلام السياسة وكان وزير المالية، وكان قبل ذلك (أي سنة 1912) نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان (جمع فارسي لكلمة مبعوث)، أي مجلس النوّاب العثماني، وعُيّن بعد الحرب أستاذاً في معهد (أي كلية) الحقوق. ومرّت الأيام، واشتغلت بالسياسة كما عرفتم، وصرت واحداً من قادة الطلاّب، وكنت محرّراً في «الأيام»، جريدة الكتلة الوطنية التي كان الطلاّب وكان الشباب يأتمرون بأمرها ويعملون بقيادتها، وكان في دار الأيام بهو يجتمع فيه (كما سبق القول) رجالها؛ هناك عرفت فارس الخوري كما عرفت هاشم الأتاسي وشكري القوّتلي وسعد الله الجابري ولطفي الحفار وجميل مردم وزكي الخطيب وعفيف الصلح وفخري البارودي وإخوانهم. وكنت إذا احتاجوا إليّ دعوني فحضرت طرفاً من مجالسهم التي

يبحثون فيها بعض شؤون الطلاّب أو يكلفونهم بشيء أحمله أنا إليهم لتنفيذه. عرفت فارس الخوري من قرب فرأيت فيه رجلاً وديعاً ظريفاً حليماً واسع الصدر، ولكنه كان -مع هذا كله- هائلاً مخيفاً؛ تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة، لا يهزّه شيء ولا يُغضبه ولا يخرج به إلى الحدّة والهياج. يدخل أعنف المناقشات بوجه طلق وأعصاب هادئة، فيسدّ على خصمه المسالك ويُقيم السدود، من المنطق المحكم والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة والعلم الفيّاض والأمثال والحِكَم والشواهد، يرقب اللحظة المناسبة، حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك، ثم مدّ يده يصافح الخصم الذي سقط. لا يرفع صوته ولا يثور ولا يعبس ولا يغضب، ولكنه (أيضاً) لا يفرّ ولا يُغلَب. وما رأيته -على طول ما صحبته- يناقش أحداً إلاّ شبّهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدلَّلاً غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وكلمته وبسمته صبره عليه، وتملكه منه، وإشفاقه عليه! ثم كنت تلميذه في كلية الحقوق، وكان يدرّس «علم المالية» و «أصول المحاكمات المدنية»، يلقي درسه إلقاء لا تدري أأنت تعجب وتطرب لفصاحة نطقه أم لغزارة علمه، إلقاء غير محتفَل به ولا متجمَّع له. وكانت له عادة (لازمة) هي أن يأخذ قلماً رصاصياً طويلاً (مَرسَمة) فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقرّ ولا يكاد، كأنه يكره أن تبقى يده بلا عمل فهو يشغلها به، أو كأن هذا الدرس لا يستحقّ انتباهه كله ولا

يملأ هذا الرأس الكبير، فيأخذه على أنه لهو وتسلية! على أن هذا (وإن فعله أستاذنا) ممّا لا يحسن بالمعلم لئلا يسرق انتباه الطلاّب بما يصنع عمّا يقول، كما لا يحسن به أن يكون في هيئته أو في لهجته شيء غريب يشغل به الطلاّب عن درسه. وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشكلات في كل موضوع، فيجيب عنها كلها بتحقيق العالِم أو نكتة الأديب. ومن أجوبته الحاضرة ونكته السائرة أن طالباً (ثقيلاً) سأله: ما فائدة هذه الحروف اللّثَوية، ولماذا نقول ثاء وظاء فنخرج ألسنتنا ونُضطرّ إلى هذه الغلاظة؟ فأجابه على الفور (وأنا أسمع)، بل لقد أجابه قبل أن يتمّ سؤاله: لا فائدة لها أبداً، وسنتركها فنقول: «كسّر الله أمثالك». فسكت الثقيل خزيان. ومن عجائب حلمه وسعة صدره ووقاره الذي لا يزلزله شيء أني أقبلت عليه مرة بعد الدرس (وكانت لي عليه جراءة) فقلت له أمام الطلاّب: يا أستاذ، ما هذا القرار السخيف الذي وضعَته البلديّة لتقسيم أرض الدرويشية؟ (وكانت الدرويشية حياً من أبهى وأغنى أحياء دمشق هدمَته مدافع الفرنسيين وأحرقَته نارهم، وبقي أنقاضاً إلى ذلك اليوم. وفي كتابي «دمشق» قصّة عنوانها «في خرائب الدرويشية»). وقلت له: أليس من العار أن يصدر عن بلدية دمشق مثل هذا الجهل وهذا الظلم وهذا الـ ... في عشر مترادفات من هذا النمط ساق إليها نزق الشباب. فلما انتهيت منها قال لي والابتسامة لم تَمّحِ عن شفتيه: "أنا الذي وضع صيغة هذا القرار". وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لخجلي لم أستطع أن

أستوعب ما قال. وخرجت من الكلية، فكنت ألقاه في الترام أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه لي وسؤاله عني ما يملأ نفسي شكراً. وهذه مزيّة من مزاياه، يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلاّ بذكره ومعرفة أمره. وكنت أزور أستاذنا محمد كرد علي في المجمع فألقاه مع من كنت ألقى فيه من أعضائه، وهو من أكبرهم، فأراه أحياناً في مناقشات أدبية أو لغوية. فإذا هو في مجال العلم والحفظ كما كان في مجال الرأي والفكر، وإذا هو متسلط غالب في مصاولات اللغة والأدب كما كان المتسلط الغلاّب في مصاولات السياسة. ومرّت الأيام وصار رئيس مجلس النواب، فكانت رياسته عجباً من العجب. وكان الوافدون على دمشق إذا رأوا آثارها ووعوا مآثرها طلبوا أن يروه في المجلس ليحدّثوا قومهم إذا رجعوا إليهم بجليل ما رأوا. كان النوّاب بين يديه (ولا مؤاخذة يا سادتي النوّاب) كالتلاميذ، بل إن أكثرهم كانوا تلاميذه فعلاً، وكان يصرّفهم تصريفاً لا يوصَف ولا يثبت على الورق، وما هم بالذين يسيَّرون أو يُصرفون، وإن فيهم لَكلّ باقعة داهية ذرب اللسان حديد الجنان، آفة من الآفات يطيح بالحكومات وينسف الوزارات، ولكن الحدَأة تسطو على العصافير فإن قابلَت النسر المَضْرحيّ عادت هي عصفوراً. وكانت تشتبك الآراء وتتداخل المقترحات وتشتدّ المنازعات وتثور الحزبيّات، فما هي إلاّ أن يتكلم ويلخّص الموقف ويفسّر

الأقوال ويبيّن المقاصد حتى يقرّب البعيدَين ويجمع الشتيتَين، ويصبّ على جمرات الغضب سطل ماء، ويستلّ الرأي الموافق من بين الآراء المتشابكة سَلّ الشعرة من العجين ويعرضه للتصويت. وكان له في هذا العرض «فن» يستطيع به أن يجعل التصويت ينجلي عن الموافقة أو عن الرفض، تنبّهت إليه فكتبتُه، فلقيَني لمّا قرأه فقال لي وهو يضحك: يا عفريت! كيف أدركت هذا؟ وهذا الذي أدركتُه وكتبتُه قبل أن يتنبّه الناس إليه هو أن في النوّاب من لا يعمل شيئاً، حتى إنه لا يرفع يده عند «التصويت». وكان يعرفهم، كل عملهم حضور الجلسات صامتين وقبض الرواتب صامتين. فكان إذا أراد لمشروع أن يفوز قال: المخالف يرفع يده، فيكونون بذلك مع الموافقين، وإذا أراد له أن يخسر قال: الموافق يرفع يده، فيكونون مع المخالفين! وغضب مني مرة سعد الله الجابري، وكان رئيس الوزراء، ونسب إليّ أني أحرّض عليه. وهو رجل حلبي لا يعرفني، فاضطُررت أن أستشهد بعضَ من يعرفني من رجال الكتلة، فما رأيت أقرب إليّ من فارس بك. وكان رئيس المجلس وقُطْب رحى السياسة كلها، وكان كثير المشاغل ضيّق الوقت، ولم يكن بُدّ من أن أسأله موعداً، ولكني كنت في عجلة من أمري فذهبت إليه بعد العصر في ساعة ينام فيها أكثر الناس، فحاول الشرطي أن يردّني فنهرتُه ورفعت صوتي، فسمعني وخرج إليّ مبتسماً بثياب التفضّل (أي ثياب البيت) وقال له: هذا الشيخ علي، ألا تعرفه؟ إنه دائماً مشاغب!

وكنت أُدعى الشيخ عليّ من يوم كنت في آخر الثانوية. وأدخلني فرأيت المنصب لم يبدّل منه شيئاً؛ إنما يبدّل المنصبُ من يكون أقلّ منه فيكثر به، لا من كان في نفسه أكبر من المناصب كلها. وقديما قيل: السنبلة المملوءة بالحَب تحني رأسها، أما الفارغة فترفعه. ودخلت عليه مكتبه مرّات لا أحصيها وهو رئيس الوزراء، فما وجدت إلاّ أستاذنا فارس الخوري، الأستاذ العالِم الأديب الحاضر الجواب الصائد النكتة. وكنت أظنّ أني سأجد دولة الرئيس فارس بك الذي لا يُكلَّم إلاّ بعريضة ولا يخاطَب إلاّ بالمُصطلَح (أي البروتوكول الذي كان يُدعى المصطلح). وهو واحد من أعضاء «مجلس الشيوخ». لا أعني المجلس الذي يكون حيال مجلس النواب، فليس عندنا في سوريا مجلس شيوخ أو مجلس أعيان كما يُدعى في بعض البلدان، بل هو مجلس غير رسمي كان يجتمع فيه بعض شيوخ السن الذين تعتزّ بهم دمشق، والذين إن فاخرت إنكلترا بتشرشل في السياسة وعمله مثل عمل الشباب وهو في سن الشيخوخة أو ببرنارد شو في الأدب فإن كل واحد من هؤلاء كان لنا تشرشل وشو؛ أكثرهم كان يحضر هذا المجلس وقلّة منهم لم تكُن تحضره، لا نفخر بأنهم لبثوا شباباً وهم شيوخ، بل بما جمع الله لهم من العلم والعقل والفضل (وسأتكلم عنهم إن مدّ الله في الأجل وزاد في القوة). لقد شهدَت صحف الدنيا سنة 1947 بعبقرية فارس

الخوري، ورأت فيه شخصية ضخمة لا توزَن بها الشخصيات؛ حمل أعباء رئاسة مجلس الأمن فكان من أفضل رؤسائه وأقواهم، هذا وليس وراءه جيش جاءت منه هيبته ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما وراءه إلاّ دولة صغيرة كبّرَتها عبقريته، ضعيفة قَوّتها شخصيته، حتى كان صوتها أعلى الأصوات وكلامُها أبلغَ الكلام. ولقد عجب الذين لا يعرفونه لمّا قرؤوا في الأخبار أنه لم يقرأ خطبته من كتاب ولا تلاها من ورقة بل ارتجلها ارتجالاً، ولم يكن في يده إلاّ بطاقة نظروا فيها لمّا انتهى فإذا كل الذي فيها خرابيش بقلم الرصاص، قال النقراشي إنه رآه وهو يخطها فحسب أنها مذكّرات له في مسائل عادية من مسائل الحياة اليومية، فلما رأى أنها هي الخطبة العظيمة التي هزّت أكبر هيئة دولية في الأرض بلغ عجبه منه وإعجابه به أبعد المدى. أما نحن فلم نَعجب لأن الشيء من معدنه لا يُستغرب، وهذا الرجل الذي بدأ يتعلم الإنكليزية وينبغ فيها قبل أن يُولَد أكثر أعضاء الوفد المصري في مجلس الأمن، والذي أعطاه الله هذا الذهن فجعله لغوياً أديباً شاعراً حقوقياً مشاركاً في كل فروع العلم، وأمدّه بمنطق سديد وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء ما أعرف أحدّ منه ولا أمضى، وبديهة غريبة، وجعل له مع هذا كله هذا الرأسَ الكبير وهذه الشيبة المهيبة، وهذا الصوت المدوّي المليء بالعظمة والثقة بالنفس، وهذا الصدر الواسع، وهذا الحلم مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف ... هذا الرجل لا يُستكثَر عليه أن يرتجل خطبته بالإنكليزية وأن يكون لهذه الخطبة أثرها في مندوبي

أكبر دول الأرض. وهو يخطب مثلها أو أبلغ منها في التركية والفرنسية، أما العربية فقد كان من أساطينها. * * * وبعد، فلا يحسب القارئ أني غلوت أو بالغت، فما ذكرت إلاّ ما أعرفه حقاً. وما في الأمر مجال لرغبة تدفع للمدح ولا رهبة تمنع من القدح؛ فأنا لا أرهب الرجل ولا أخافه ولا أرغب في شيء منه ولا أطمع فيه، وربما لم يقرأ هذه المقالة ولم يطّلع على هذا العدد من الرسالة، ولكنْ حسبي أني شاركت في تاريخ واحد من نابغينا. وأقول الآن إنه إن انفرد فارس الخوري بهذه الصفات فإن مظاهر العظمة لم تجتمع كلها فيه، وإن عندنا في تاريخنا القريب كثيراً من العظماء إن لم يكونوا مثله في بابَته (¬1) فليسوا دونه في منزلته ولكن في بابة أخرى، ولا يمنع نبوغُ الطبيب العبقري في طبه نبوغَ المهندس العظيم في هندسته، وتاريخنا القريب كتاريخنا البعيد، كالغابة المزدحمة بعمالقة الأشجار، تختلف في أنواعها ولكن تتفق في رسوخ أصلها وضخامة جذعها وامتداد فروعها وطول عمرها. إنه أخصب تاريخ في الدنيا وأحفله بالعظماء، ولكن عيبنا أننا لا نعرف تاريخنا ولا نقدّر عظماءنا، ونتسابق إلى اقتناء الزجاج من عند غيرنا ونزهد بالألماس الذي تفيض به خزائننا. فيا أيها الشباب، لا يخدعْكم زجاج غيركم عن حُرّ جواهركم! * * * ¬

_ (¬1) يقول العرب: «هذا من بَابَة فلان» إذا كان من أشكاله ومن أمثاله.

مع أستاذنا شفيق جبري

-55 - مع أستاذنا شفيق جبري الناس إن ذكروا أيام الدراسة ذكروا أجمل مراحل العمر، أيام كانوا يسيرون في الجنّة الفيحاء بين الظلّ والماء، ما عرفوا بعدُ همومَ الحياة ولا كُلّفوا متاعب العيش ولا أحسوا أثقال العيال، يستمتعون بثمرات المال والجمال، يهيمون في أودية الأماني والآمال، يحملون من ذكرياتهم رحيقاً يتعللون به إذا بلغوا صحراء العمر، ولا مناص لكل سالك من بلوغ هذه الصحراء. هأنذا (¬1) اليوم أودّع هذه المرحلة، فما الذي حملتُه منها إلا ذكرى التعب والنصَب وما عشت فيه من الضيق، وما كُلّفته من حمل أعباء الأسرة؟ ما الذي أصبتُه من مُتَع الشباب ومن لهو الشباب؟ لا شيء! لقد كانت كلية الحقوق منزلاً نزلتُه أنا الآن مُفارقُه، كنت كالمستأجر الذي انقضى أمَدُ إجارته فهو يجمع أشياءه ليحزمها فيحملها ويسلّم مفتاح الدار ويمشي، يُخلي المنزل لمستأجر جديد. وكذلك يتداول الناس المساكن كأنها مقاعد الطيارة، ¬

_ (¬1) ها أنا ذا، تُكتب متصلة: هأنذا.

مقعدك لك مدّة الطريق فإذا وصلت صار لغيرك، حتى إذا رحل الركاب جميعاً من هنا اجتمعوا هناك، وهناك المقام الدائم: إمّا في السجن الضيق أو في المنزل الفسيح، في العذاب الباقي أو النعيم المقيم، فأين يكون منزلنا؟ إن لذلك المنزل ثمناً، فمَن جَمَع ثمنه حوّله «حوالة» فوجده قد سبقه إلى هناك. وأنا ما دفعت الثمن وما جمعته لأدفعه، فهل بقي في العمر ما يكفي لجمع الثمن؟ اللهم ما لي إلاّ الأمل بعفوك ورحمتك، اللهم لا تكلني إلى عملي. رحمتك وسعت كل شيء ومغفرتك لا تضيق بذنوبي. * * * من يترك منزلاً يفتش أركانه وزواياه عله نسي فيها شيئاً، وقد فتشت فوجدت (أشياء ...) كثيرة صغيرة، حملت الأشياء الكبار ونسيتها، فماذا أصنع بها الآن؟ لقد وضعتها في صناديق وسأحملها معي، فكلما جاءت مناسبةُ عرضِ واحدٍ منها عرضته عليكم. ذكريات صغيرة كثيرة: من عهد الطفولة والمدرسة الابتدائية ومكتب عنبر، ودار العلوم وأيامي في مصر والجامعة السورية، وأهلي ومشايخي ومن عرفت في هذه المرحلة من الرجال وما تركوا في نفسي من آثار ... كل ذلك قد حملته معي، فإذا جاء وقت عرضه عرضت ما بقي في ذهني منه، ممّا لم أذكره فيما سلف من حلقات هذه الذكريات. هذا عن الأشياء الصغيرة التي نسيتها في الأركان والزوايا، فما رأيكم فيّ إذا كنت قد نسيت منزلاً كاملاً، نزلته حيناً من العمر ونسيت أني قد نزلته؟!

ذلك هو «كلية الآداب». لم يكن اسمها يوم أُنشئت كلية الآداب ولا كانت تابعة للجامعة، بل كان اسمها «مدرسة الآداب العليا» وكانت مرتبطة (إدارياً) بوزارة المعارف. وهذا النوع من المدارس موجود (أو كان موجوداً على أيامنا) في فرنسا، ففيها «مدرسة المعلّمين العليا»، وتُعتبر شهادتها أرقى من شهادات الإجازة (أي الليسانس) لأن طلاّبها يدرسون علوماً تزيد على ما يدرسه طلاّب الجامعة. وفيها المدرسة المركزية (إيكول سنترال) للهندسة، وهي التي تخرّج فيها رفيق صفّنا وجيه السمّان الذي جمع العلم وطرفاً من الأدب وصار وزير الصناعة أيام الوحدة بين سوريا ومصر، وفيها مدرسة الهندسة التطبيقية (البوليتكنيك)، وأحسب أنها تابعة للجيش. وجعلوا مديرها (أي عميدها، والحديث عن كلية الآداب) الأستاذ شفيق جبري، وهو أحد شعراء دمشق الأربعة، وقد عرفتموهم، بل هو أشعرهم. وكان يلقي كل أسبوع محاضرة واحدة، وكانت محاضرات السنة الأولى (1929 - 1930) عن المتنبي، وقد طبعها في كتاب سَمّاه «المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس». وأذكر من أساتذتها أستاذَينا اللذين سبق مني الكلام عنهما واللذين جعلت إهداء كتابي الأول (الهيثميات) المطبوع سنة 1349هـ إليهما: «إلى روح المنفلوطي سيد كتّاب العصر، وإلى حضرة شيخَي علوم العربية: الجندي والمبارك». وقد عرفتم أني سَمّيتُه «الهيثميات» لأنني كنت أنشر مقالات بإمضاء «أبوالهيثم».

وأذكر منهم الشيخ عبد القادر المغربي، نائب رئيس، فرئيس المجمع العلمي العربي في دمشق، وهو زميل السيد رشيد رضا صاحب «المنار»، وهو سَنينه (أي في مثل سنه)، يصغره بسنتين فقط. عاش أكثر من تسعين سنة ولم يفارقه نشاطه، يمشي على رجليه كل يوم ستة أكيال، طَلْق المُحيّا جميل الوجه أنيق الثياب، خفيف الروح صاحب نكتة ودعابة في أحاديثه وفي محاضراته، استفدت منه في اللغة، ولم يكن فيها بمنزلة الجندي والمبارك ولكن كان عنده ما ليس عندهما، هو أنه كان يمنح الألفاظ صفات الأحياء من الناس، فيتحدث عن المادة اللغوية حديثه عن الأسرة من الناس، يصوغ ذلك قصة يستهويك عرضها ويرسّخها في نفسك جمع مفرداتها وبيان القرابة بينها. ومن نظر في أعداد السنة الأولى من «الرسالة» (رسالة الزيات) وجد نموذجاً لذلك، وهو قديم الاشتغال بهذا الفن (والفن هنا بمعنى النوع لا الفنّ بالمعنى الخاصّ L’art) وقد أصدر كتابه المشهور «الاشتقاق والتعريب» سنة 1908. تشعر بأنه أديب حتى في بحوثه اللغوية والعلمية، وقد صحب جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده مدّة يسيرة. وله «تفسير جزء تبارك»، حاول فيه أن ينحو منحى الشيخ محمد عبده في «تفسير جزء عَمّ» ولم يستطع مجاراته. وأذكر أنه فسّر فيه السماوات بأنها مدارات الكواكب (أقول ذلك من ذهني وليس كتابه الآن تحت يدي)، أي أنه جعل السماوات أشياء وهمية، مع أن الله وصفها بأنها «بناء» وأنها جُعلت «سقفاً محفوظاً» وأن لها أبواباً، وأن الله زين هذا السقف بمصابيح وأن هذه المصابيح

هي «الكواكب»، وأن السماوات سبع وأنه جعلها «طِباقاً». وقد كتبت من قديم أن هذه الأوصاف لا تتحقق إلا إن تصورنا السماء كرة ضخمة جداً، وأن هذا الفضاء بكل ما فيه من مجرات وما في المجرات من شموس وأجرام، هذا الفضاء كله وسط هذه الكرة التي هي السماء الدنيا، وأن حولها فضاء الله أعلم بسعته تحيط به كرة أخرى هي السماء الثانية، ثم فضاء ثم سماء إلى السماء السابعة، يليها مخلوق لا يتصور العقل مدى كبره هو الكرسي، ومخلوق أكبر هو العرش. وأقول بالمناسبة (استطراداً) إن هذا الفضاء وما فيه مصغّر تصغيراً لا يتصور العقل البشري مدى دِقّته وصغره في الذرّة، وما فيها من فضاء وأجرام يدور بعضها حول بعض هي الكهارب (أي الإلكترونات). ومنهم الشيخ سعيد الباني، وهو عالِم لم يعرف الناس قدره وكثير منهم نسي اسمه، مع أني أكاد أفضّله في مصنّفاته على علماء عصره حتى الشيخ جمال الدين القاسمي، على كبر أقدارهم وسموّ منازلهم وكثرة مؤلّفاتهم، التي ليس فيها (غالباً) إلا نقل أقوال العلماء وجمعها. أما الشيخ سعيد فهو يقرأ النقول ويفهمها ويهضمها (كما يقولون)، ثم يعطيك خلاصة عنها مكتوبة بقلمه هو ممزوجة برأيه فيها مع إيراد ما يناسبها. وعندي الآن كتابان له، كتاب اسمه «عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق» طُبع سنة 1341هـ، قدّم بين يديه مقدمات لو أُفرِدَت بالطبع، أو لو أخذتها مجلة إسلامية فأعادت نشرها، لكان للقراء منها خير كبير. وهذه المقدّمات هي: الإسلام دين الفطرة، إن هذا الدين يسر، اتساع الشريعة الإسلامية، الأئمة المجتهدون على هدى من

ربهم، إلخ. ألحقَ بها فصولاً نافعة جامعة هي: الرأي ينقسم إلى محمود ومذموم، في إصابة الحق، السؤال عمّا لم يقع، الدعوة إلى توحيد المذاهب، ما فيه مساغ للاجتهاد وما لا مساغ له فيه، التقليد وأنواعه وحكمه، لا إفراط ولا تفريط ... وفصول أخرى كل فصل منها يصلح رسالة قائمة برأسها. والكتاب الثاني في «أحكام الذهب والحرير»، طبع سنة 1349هـ، في أوله أيضاً مقدّمات نافعة قد فصّل فيها القول وأقام عليها الدلائل، كلها ممّا يحتاج الشباب اليوم إليه وأكثرها ممّا لا يجدون مراجع فيه، هي: أقسام التكاليف الشرعية، يُسْر الشريعة وسعتها، كلام في علّة الحكم، تصرفات الرسول ‘؛ أي ما كان منها تبليغاً لشريعة الله، وما كان من باب الفتوى أو القضاء، أو ما كان من تصرفات الحاكم والقائد، وما كان في أمور الدنيا الخالصة من الشؤون الزراعية أو الطبّية، إلخ. وهذه العناوين لا تدل على ما تحتها، فقد تكلم عن مسائل في الدعوة وفي السياسة وفي تحصيل العلوم الجديدة، كتب ذلك قبل أكثر من ستّين سنة، ولو نُشر مثله الآن لعُدّ من حسنات هذا الزمان الذي اتسعت فيه العلوم وسَمَت الأفكار ووُجد فيه ما لم يكن يُعرف قبله. ولو أن أخانا الأستاذ إبراهيم سرسيق ينشرها في جريدة «المدينة» أو لو أن المشرف على الصفحة الإسلامية في «الشرق الأوسط» نشرها لاستفاد منها القرّاء. جاء به الأستاذ كرد علي (وكان وزير المعارف) مدرّساً لنا في الكلية فلم ينجح في التدريس، ولم يستطع ضبط الفصل وشاغبه

الطلاّب. ولا تحسبوا الطلاّب فتية صغاراً كمن تحوي المدارس، إنهم كانوا طلاباً من صنف نادر، ذلك أنهم لما أنشؤوا هذه الكلية فتحوا أبوابها لكل مدرّس ومعلّم لمن شاء منهم أن يحصل على شهادة عالية، وما أكثر من كان يريد الحصول عليها لحاجته إليها! فكان من أصغر الطلاّب أنا ورفاقي أنور العطار وسعيد الأفغاني وجميل سلطان وزكي المحاسني وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي، ومَن هم أكبر منّا سناً كسليم الزركلي، أو لعل بعض هؤلاء لم يدخلوها (نسيت لطول العهد). وأذكر يقيناً أنه كان من طلاّبها مَن كانوا في سن آبائنا كالشيخ زين العابدين التونسي الذي كان أستاذنا في المدرسة السلطانية الثانية سنة 1919 وكان قبل ذلك أستاذاً في المكتب السلطاني العربي أيام العثمانيين، وهو أخو الشيخ الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر. والأستاذ عبد الغني الباجقني الذي كان مدير مدرسة ونحن تلاميذ في الابتدائية، وهو رجل عالِم بالعربية فقيه مالكيّ واسع المعرفة، من أفصح من عرفت لهجة، يكاد يكون كلامه كله فصيحاً (لا أعرف مثله في ذلك إلا قليلاً، منهم الشيخ بهجة البيطار والأستاذ محمد البزم، ومن إخواننا الأحياء المحامي محمد كمال الخطيب). ولما كنت رئيس مجلس الأوقاف ومات مفتي المالكية في دمشق رشّحته (أي الباجقني) لمنصب إفتاء المالكية لأن عندنا في دمشق مفتياً رسمياً لكل مذهب من المذاهب الأربعة. وقد عاد في آخر عمره إلى بلده في طرابلس الغرب (ليبيا، وكان سلَفنا يدعوها «لوبية») وتُوفّي فيها. هؤلاء هم الطلاّب الذين كانوا يشاغبون الأساتذة، حتى إن

الأستاذ الجندي قال لهم مرة ضاحكاً: ماذا أقول لكم وأحفادكم اليوم يجلسون على مثل هذه المقاعد، وأنتم تعملون عملهم؟ * * * أما الأستاذ شفيق جبري فقد قلت لكم إنه كان يُعِدّ محاضرة واحدة في الأسبوع، المحاضرة في نحو ستّ صفحات فقط من صفحات الكتاب، يقرؤها من الورق إلقاء متّئداً جميلاً، لا يزيد على المكتوب شيئاً ولا يفتح صدره لمناقشة، وأظنه لا يقدر عليها. وهو شاعر في الطبقة الأولى من شعراء هذا العصر، كنا نقدّم عليه خير الدين الزركلي، ولكن الزركلي تدفق شعره غزيراً فيّاضاً نحو عشر سنين ثم غاض، وجبري استمرّ. وهو أديب ولكن حظّه من الاطّلاع على الأدب العربي القديم (الذي يسمّونه اليوم بأدب التراث) حظّ قليل، مطّلع على الأدب الفرنسي أو على جانب منه، لم يُحِط به كلّه ولم يعمّق النظر فيه ولكنه فهم الجانب الذي اطّلع عليه فهماً تاماً. كنت أحفظ وأنا في المدرسة مقطوعات من شعره وألمس فيه روحاً وطنية، وكنت أراجعه في وزارة المعارف، وكان ركناها بعد الوزير هما: شفيق جبري رئيس الديوان (وهو بمثابة وكيل الوزارة) ومصطفى تمر المفتّش العامّ. وكنت أسمع قصائده يلقيها في المجمع العلمي فأُعجَب وأنا شابّ بجودة شعره وحُسن إلقائه، وعرفته من قرب أيام اشتغالي في جريدة «فتى العرب» عند صديقه الأستاذ معروف الأرناؤوط. فما الذي أثارني عليه وبدّل نظرتي إليه؟

هي محاضرته الأولى التي قرّر فيها أن الأدب أُلْهِيّة من الألاهي. وهذا مذهبٌ في الأدب، ولكنه اختار أسوأ الأوقات لإعلانه، فقد كنا في عهد نضال للاستقلال نحاول أن نسخّر له قُوى الأمة كلها، فطلع علينا بهذه النظرية يثبّط بها الهمم ويحلّ العزائم، ذلك لمّا قال في محاضرته الأولى يوم 9/ 11/1929: "فكرت في شيء من الكلام أمهّد به السبيل إلى دراسة الأدب، قلت «دراسة الأدب» وكان يجب عليّ أن أقول «أحاديث الأدب»، لأن كلمة الدراسة تدلّ على شيء من جهد الذهن وعَنَت الفكر، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا أُلهية يتلاهى بها العقل، ولكنها أُلهية شريفة لا تشبه غيرها من الألاهي، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا لذّة الفكر وراحة البال". لمّا سمعت هذا الكلام قمت أسأله (وقد قلت لكم إنه لم يكن يحبّ السؤال وأنه كان يكره المناقشة) فأجاب جواب كاره، فعدت أسأله فتنصّل واعتذر بضيق وقته وبحلول موعد كان قد ارتبط به، ومضى. فأعددت كلاماً طويلاً بادأتُه به في أول المحاضرة الثانية قبل أن يشرع بها، فلم يدعني أتكلم. ولم أكُن لأسكت أو أنهزم، ورأيت أن مناقشته لم يبقَ لها في الكلية مجال فكتبت رسالة وطبعتُها، والعجيب أني كنت -على ضيق ذات يدي- أطبع هذه الرسائل على نفقتي وأوزّعها مجّاناً أو بثمن لا يكاد يزيد إلا قليلاً عن المجّان، فكان ثمن هذه الرسالة قرشاً سورياً واحداً، أي هلالة (هللة)! كان عنوان الرسالة «الأدب القومي» (وأنبّه إلى أن كلمة «القومية» لم تكُن قد أخذت المعنى الذي نفهمه منها الآن)

مكتوب على غلافها: «مقالة من كتاب لنا في نقد محاضرات كلية الآداب سنُتِمّه قريباً». وأحسب أنكم تأمّلتم كلمة «لنا»، هذا الأسلوب في التكلم بصيغة الجمع (قرأنا، وقع لنا، وجوابنا ... على طريقة: نحن فؤاد الأول ملك مصر أمرنا بما هو آتٍ)، هذا الأسلوب في التعالي على الخصم بالدعوى العريضة واستصغاره، والسخرية به وسبّه وشتمه، وذكر معايبه ومثالبه بدلاً من اقتصار الناقد على الفكرة يبيّن فسادها وعلى التعبير يشير إلى ضعفه وإلى خطئه، كان هو أسلوبنا، أي أننا لم نكُن ننقد ولكن نهجو، كنا نتبع فيها شيخنا الرافعي في كتابه «على السفّود»، بل نتبع العقاد أيضاً فلم يكن يقصر في نقده أحياناً عن الرافعي. كذلك كان الأسلوب المتبع في تلك الأيام، ولي فيه كتابات كثيرة معدَّة لتكون كتاباً كبيراً عنوانه «مناظرات وردود»، ولكني لم أطبعه وما أحسب أني سأطبعه، لأني عزفت عن هذا الأسلوب على اقتداري عليه، وكرهته وانصرفت عنه ولم أعد أسيغه. وهذه الرسالة مطبوعة سنة 1349هـ (1930م)، فيها مقدمة مكتوبة بهذا الأسلوب الذي انصرفت عنه، وبعدها فصل من الكتاب الذي أعددت أكثره، آخذ منه فقرات لتكون نموذجاً لكتابتي يومئذ أنشرها بلا تبديل: الأديب في الأمة لسانها الناطق بمحاسنها الذائد عن حماها، وقائدها إلى مواطن فخرها وذرى مجدها ... فهل عندنا الأديب الذي عرف آلام الأمة وآمالها وبحث فيما يسرّها وما يسوؤها، ثم جرّد قلمه لتصوير آلامها والسعي لإبلاغها آمالها؟ هل عندنا الأديب الذي ... هل عندنا الأديب الذي ...

(إلى أن قلت): كنا نأمل أن ينشأ فينا مثل هذا الأديب، وكان يقوّي هذا الأملَ ما يظهر فينا من الشباب المبرزين في الأدب المخلصين للأمة وللوطن، حتى فاجأنا صوت خرج من حلق وطني بإيعاز أجنبي يقول لأدبائنا: دعوا الوطن وشأنه، لا تسخّروا أدبكم له ولا تُتعبوا أنفسكم من أجله، بل الهوا والعبوا فما الأدب إلا أُلهيّة! هذا ما قاله الأستاذ جبري لتلاميذه في الكلية، وأفهَمَهم أن هذه الكلية لم تنشأ لمثل ما أُنشئت له الحقوق والطبّ من تخريج رجال عاملين لمنفعة الأمة، بل لإخراج أناس يدركون جمال هذا العالَم. ولو شئت شرحاً لقلت: إن قوماً من البشر ساءهم فيضان الروح الوطني على معهد الحقوق وما يقذف به كل عام من الرجال الذين يكونون كالشجى في حلوقهم والقذى في عيونهم، فأحبوا أن يضربوه بمعهد آخر يعمل لغير ما يعمل له معهد الحقوق، ويطفئ هذه النار من الحماسة التي تضطرم في نفوس الحقوقيين، ويُخمِد من هذه العزائم التي ضُمّت عليها ضلوعهم فأصبحوا يدأبون على العمل لا يعرفون كلالاً ولا سأماً، ويقدم للأمّة أُناساً خاملين قد شغلهم الخيال عن الحقيقة، وألهاهم الأمل عن العمل، واللهو عن الجدّ ... الأستاذ (أي شفيق جبري) يدعو إلى أدب مجرد يُمارَس ليُدرَك به جمال الوجود ويُفرَج به غمّ الحياة وكربها، ويصوّر من النفس عواطفها وميولها ومن الطبيعة جمالها وجلاها، وحْيَها وإلهامها، لا يعنيه أخلاق تُقوَّم ولا عادات تُصَحَّح، ولا تهمّه أمّة ولا وطن، فهو ليس إلا أُلهيّة شأنه شأن الملاهي الأخرى، وإن قال إنها «أُلهية شريفة»!

أي أنه يطلب من شبابنا الأدباء ألاّ يروا في الحياة إلا اللهو واللعب، وأن يكون كل مطلبهم منها لذّتهم فيها. يريد منهم أن يكتفوا بوصف أحزان نفوسهم وأشجانها عن تصوير شقاء الأمة وعذابها ... كلا يا أستاذ! فنحن في حرب، في نضال للاستقلال، في معركة، وأدباؤنا قُوّادنا. فماذا تكون حال جيش تركه قُوّاده في المعركة تحت أزيز الرصاص ودويّ القنابل، وراحوا يفتّشون عن الجمال في ميدان المعركة ليصفوه ويَنْظموا فيه الأشعار ويتخذوا من أدبهم «أُلهية شريفة» يفرّجون بها عن أنفسهم همَّ أنفسهم وغمها؟ كلا يا أستاذ! بل أدباء يلقون بأنفسهم في غمرات هذه الحرب متخذين من أدبهم سلاحاً لأمتهم ماضياً ولواء لها مرفوعاً، يكون باعثاً لعزمها لا مخدراً لأعصابها. فإذا انتهت المعركة وانجلى الغبار، وآبوا بالنصر وأصبح لهم في الدنيا كيان، حقّ لهم أن يلهوا بالأُلهية الشريفة التي هي الأدب. إلى أن قلت: إن الأدب لا يجدي إن لم يكن أدب الحياة، ولا يكون أدب الحياة حتى يُحكِم صلته بها ويداخلها، فيعرف مَواطن الخير فيها فيدلّ عليها وأماكن الشر فينفّر منها. * * * كان هذا الكلام سنة 1349هـ. كانت موازنة بين دعوتين: دعوة لجعل الأدب أُلهيّة شريفة، ودعوة لاتخاذه سناداً للخُلُق وعاملاً للإصلاح وسلاحاً للنضال. فأيهما الذي كُتب له النصر؟ هل التكريم والتمجيد الآن للشاعر المؤمن المخلص المناضل

أم للشاعر الفاسق المفسد النازل؟ لقد أنكرنا على أستاذنا شفيق جبري لأنه قال (قولاً) إن الأدب أُلهية شريفة، فكيف لا ننكر على من جعله (فعلاً) أُلهية ولكنها ليست شريفة ولا عفيفة ولا نظيفة؟ على من يلهو بالغافلات من بنات الناس يستبيح منهنّ مواطن الجمال الظاهر والخفيّ، ثم لا يجد في نفسه حياء يحمله على أن يسكت، ولا يلقى في الناس قوّة تضطرّه أن يكتم، فلا يكفيه أنْ جنى حتى يصف جناياته مفاخراً بها ذاكراً تفاصيلها في شعر جميل، فيفتن الناسَ جمالُ شعره وتعمى عيونهم عمّا صنع بأعراض بناتهم! ثم يأتي مَن فقد تقوى المؤمن وغيرة العربي ونخوة الرجل، فيثني عليه ويدافع عنه، ويشتم من أجله من يقول له كلمة الحقّ ويعلن فيه حكم الله! فما الذي أصابنا حتى اختلطت الأحكام واضطربت الموازين، وهبط العالي كما يهبط الذهب إلى قعر الماء، وعلا الحقير كما تعلو البعرة إلى السطح؟ أهذا هو المسخ الذي كتبه الله على من كان قبلنا؟ إنه ما خلا عصر من شعراء أوتوا الفنّ الجميل وحُرموا الخلق النبيل، أُعطُوا ألسنة تحسن النطق ولم يُعطَوا قلوباً تخفق بحب الحقّ، كان بشّارٌ شاعراً فاسقاً وقحاً لا يستحي أن يعلن ما فعل، وكان أبو نواس أفسق وأوقح، ولكن ما عرف تاريخ الأدب العربي من غاص في حمأة الرذيلة وغطس برأسه في أنجاسها، وغمس معه من بنات الناس مَن لانت معه وتبعته، ثم خرج بالأقذار على ثيابه، بالرائحة تفوح من أطرافه، ليصف ما جرى له بشعر جميل لا شك في جماله، رائع لا مراء في روعته، ولكنه نجس نجس! لم

يخجل به لأن ما ملأ عينيه ممّا كان في الحفرة التي نزل فيها منعه أن يرى صنعه فيخجل ممّا صنع. لقد ركبه شيطان شهوته حماراً ذَلولاً إلى غايته، فمضى مسرعاً لا هو يقف ولا يصادف من يَقِفه، بل يأتي من يدافع عنه. فكيف يكون عربياً ويكون مسلماً ويكون «شريفاً» من يقيم نفسه حارساً للأنجاس مدافعاً عن لصوص الأعراض؟ لقد أدركت من أكثر من أربعين سنة خطر هذه «الشجرة الملعونة» يوم نبتت في طريق الأدب نبتةً ضئيلة هزيلة فحذّرتُ منها، وقلت في مجلة «الرسالة»: اقلعوها قبل أن تغلظ ساقها وتطول أغصانها ويعظم شوكها فلا تقدروا عليها. فما سمعوا تحذيري، حتى صارت عثرة في طريق الأدب تمزّق بشوكها السامّ ثيابَ البنات الغريرات فتدعُهن عرايا بلا ثياب. أفنأخذ شِعراً جميلاً وأدباً رفيعاً، علينا أن ندفع ثمنه من أخلاق فتياتنا وأعراض بناتنا؟ ولو كانت هذه المبادلة لبنتِ مَن يتطوع (لحساب الشيطان) للدفاع عن هذا الفسوق والعصيان أو لأخته، أفكان يرضى بها؟ إن رضي فأبعده الله وأخزاه. أنا رجل مشتغل بالأدب، وأنا من خمس وخمسين سنة أكتب وأنشر ولي صفحات لا يستطيع أعدى الأعداء أن ينكر أنها من جيد الأدب، وأنا مع هذا أقول: لعنة الله على الأدب وعلى الشعر وعلى الفنّ، إذا كان لا يجيء إلا بذهاب الدين وفقد الشرف، وضياع العفاف وهتك الأعراض. * * *

في سلمية

-56 - في سَلَمْيَة تركتموني في آخر الحلقة 45 وقد عطلت «السّلطة» الصحيفةَ التي كنت أعمل فيها وأستمدّ قُوتي وقوتَ عيالي منها، فَسُدّت أمامي المسالك وأُغلقت الأبواب، إلا باب الوظيفة الذي كنت أمرّ به من قبل فأُعرِض عنه ويُفتَح لي فآبى دخوله. ولكن: إذا لم يكن إلاّ الأسنّةُ مركَباً ... فما حيلةُ المضطرّ إلاّ ركوبُها فذهبت إلى وزارة المعارف فتسلمت هذا الكتاب: "دولة سورية، وزارة المعارف، الديوان رقم 55/ 2344. لحضرة السيد علي الطنطاوي المحترَم، دمشق. رأينا تعيينكم معلّماً ملازماً في مدرسة سَلَمية، فنرغب إليكم أن تباشروا وظيفتكم هذه. والسلام عليكم. دمشق في 10 نيسان 1932. وزير المعارف محمد كرد علي". ثلاثة أسطر، ولكنها بدّلَت مسار حياتي؛ وضعتني في طريق جديد أوله واضح بيّن ولكن نهايته غامضة خفيّة، لأنها المستقبَل

الذي أسدل الله عليه ستاراً حاجباً لم يكشفه لأحد، لكن يشقّه قليلاً لمن يشاء بمقدار ما يشاء. إنه عمل جديد في بلد جديد، لا أعني بالعمل التعليم فالتعليم عرفته وألفته، وأقول من باب التحدّث بنعمة الله: إني نجحت فيه من أول ما مارسته. ولكن أعني حياة الموظف، فهل أقدر عليها؟ الموظف الصالح (عندهم) هو الذي يطيع كل أمر وهو صامت؛ يطلق يديه بالتنفيذ ويمسك لسانه عن الاعتراض، يقيس الرجال بمراتبهم ورواتبهم ويقيم تقديره لهم على أرجل كراسيهم، فمن كان أعلى رتبة وأكثر راتباً وأضخم كرسياً كان هو المقدَّم، وكان هو الأفهم، وكان الأعلم! فهل أستطيع أن أروّض نفسي على هذا السلوك لأكون الموظف الصالح؟ هل أمشي مُكِباً على وجهي من كثرة الانحناء ليقولوا إني مثال الاعتدال؟ إن أثمن ما أقتنيه في حياتي حرّيتي وكرامتي، وأنا أبذل حياتي ليسلما لي ولا أبذلهما لتسلم لي حياتي، فكيف أقيّد حرّيتي بحبل الوظيفة وأُذِلّ كرامتي بالخضوع للرؤساء؟ أنا أذلّ أمام الله لأن الذلّ أمامه عزّ، والمسلمون الأولون لمّا وضعوا جباههم على الأرض ذلاًّ لله أعزّهم الله حتى وضع الجبابرة رؤوسهم عند أقدامهم. وأنا أخضع لحكم الشرع لأن الله هو الذي شرعه وأمرَنا باتباعه، وللقانون الذي يُقرّه أولو الأمر منا ويكون فيه مصلحة لنا ولا يخالف شرع ربنا. ولكني لم أذلّ يوماً لرئيس ولا انقدت لشهوته في التحكّم ولا استشعرت الصَّغار أمامه، لهذا كله لم أكُن موظفاً طيّعاً منقاداً بل كنت (عندهم) مشاكساً مشاغباً.

كنت أواظب على عملي لا أتأخر عن موعد الدوام بل أسبقه، وأقوم بالعمل كاملاً لا أنقص منه بل أزيد عليه، أعطي الوظيفة وقتي كله وجهدي كله، وأعترف للرؤساء بالحقّ الذي أقرّه لهم القانون وأعاملهم بالأدب الذي يقتضيه العرف، فإن طلبوا مني أكثر من ذلك أو ساوموني على عزّة نفسي وكرامتها لم يجدوا عندي إلا الإباء. يحملني على هذا المسلك ثلاث: واحدة تكاد تكون فينا معشر العرب جميعاً، بقيت من عهد البداوة، هي الإفراط في «الفردية». إن كل واحد منا يشعر أنه جماعة وأنه أمة وحده، يريد النفع لبلده لكن بشرط أن يجيء على يده، فإن جاء على يد غيره نَفِسه عليه وتربّص به العثرات والسقطات. والواعظ يدعو الناس إلى الله ويرغّبهم في التقوى، فإن اتقوا عن طريق غيره وجد عليه وربّما تنكّر له! ونحن جميعاً نكره النقد ولا نصبر عليه ونضيق بالمعارضة ولا نحتملها؛ إن أنت نقدت ديوان شعر صرت عدواً للشاعر وإن تكلمت عن كتاب صرت خصماً لمؤلف الكتاب، لذلك قلّت فينا الأعمال الجماعية، وإن وُجدَت فقدت روحها وصارت -غالباً- مؤسسة فردية: الفعل فيها لواحد والاسم للجماعة، كأن الله خلقنا على مثال الثوم (في شكله لا في ريحه): تأخذ رأس الثوم فتقشره فتجد فيه رؤوساً أصغر منه، فاقشر أحد هذه الرؤوس تَلْقَ فيها رؤوساً أخرى صغاراً، فنحن مثل الثوم كلنا رؤوس! أما الثانية: ففينا أهلَ الشام، مَن أدرك منا أيام الانتداب (وهو الاستعمار) وما شابهها من الأيام، حين كان حُكّامنا من

غيرنا وكنا نرى موالاتهم ذنباً وطاعتهم ضعفاً ومدحهم جريمة، وكان من البطولة أن نعصي أوامرهم وأن نتمرّد عليهم. وبقيَت في نفسي بقيّة من هذا الشعور إلى الآن، حتى إنني أتحرّج حين أمدح من الحكام مَن هو صالح في نفسه مُصلح في عمله مستحقّ للمدح ما في مدحه ظلم ولا فيه معرّة، ولكنه أثر ما نشأت عليه ولم أتخلص منه. الثالثة: فيّ أنا خاصّة، هي أنني خُلقت أبِيّاً على الظلم منيعاً على الاستبداد، لا أحترم الكراسي بل مَن كان عليها ممّن يستحقّ الاحترام لصلاحه وعلمه وفضله، فإن لم يكن من هؤلاء كان الكرسي -فارغاً- أكبرَ في نفسي وأملأ لعيني من الرئيس القاعد على الكرسي! لذلك كانت حياتي في الوظيفة صداماً وعراكاً ونقلاً مستمراً من مكان إلى مكان. ثم إني لم أكُن أقصُر نزاعي مع الجَهَلة أو مع الظالمين من الرؤساء على مكان العمل، بل أنقله بقلمي إلى الصحف أُصليهم به ناراً وأقلّبهم على متوقد الجمر، وأحمله بلساني إلى المنابر أرجمهم من فوقها بنقد صادق أشدّ من وقع الحجارة على رؤوسهم. على أني ألين لمن يلقاني منهم بالأدب (والأدب واجب في لقاء الكبير بالصغير مثل وجوبه على الصغير عند لقائه الكبير) ولمن يعاملني بالإنصاف، بشرط أن يكون مستقيم السيرة طاهر السريرة شريف النفس، فإن كان فاسقاً أو منحرفاً أو فاسداً لم أَلِنْ ولو أولاني أكبر الاحترام ونالني منه أجزل النفع. * * *

وذهبت لتسلّم عملي في سَلَمية (¬1). ما ذهبت بنفسية موظف جديد يتهيب العمل ويتهيأ لمقابلة الرؤساء، بل بنفسية شابّ معتزّ بنفسه. ولو صحّفتم الكلمة وبدلتم مواقع النقط على الحروف لما ابتعدتم عن الواقع، فلقد كنت مغتراً بعض الغرور، وبين الاعتزاز والاغترار فرق يسير. وكيف لا يصيب الغرور شاباً صار له اسم في البلد وزعامة في الشباب، ووزن في الأدب وذِكْر في الخطباء ومشاركة في التأليف، ومعرفة بكبار رجال السياسة والعلم والأدب، وهو لم يجاوز الرابعة والعشرين؟ وكانت هذه هي المرة الثانية التي أخرج فيها من دمشق. ففي الأولى (أي قبل أربع سنين) كانت سفرتي إلى مصر وقد عرفتم خبرها، وهذه الثانية. ذهبت في الأولى بالقطار إلى حيفا وركبت في الثانية السيارة إلى حمص: تخرج من دمشق فتمشي ثلاثة عشر كيلاً في طرف الغوطة، إلى دوما التي كانت بلدة الأعناب فأصاب كرومها (التي كانت تمتد أكيالاً) آفةٌ ذهبت بها، تمر في الطريق إليها على حَرَسْتا بلد الزيتون وفيها معاصره التي تعصره زيتاً لا نظير له، وقد اتصلَت دمشق الآن بحَرَسْتا (وأظنّ اسم حرستا سريانياً معناه المحروسة)، ثم بدوما، ثم جاوزت دوما إلى القصير (والقصير مثل شَهار هنا والعصفورية في بيروت والعباسية ¬

_ (¬1) اسمها الشائع بين الناس هو السلميّة (بالتعريف وبتشديد الياء)، والصحيح فيه أنه بلا تعريف وبميم ساكنة بعدها ياء مفتوحة: «سَلَمْيَة»، كذا وردت في معجم ياقوت وفي بيت لأبي فراس: عَبرْنَ بماسحٍ والليلُ طِفلٌ ... وجئنَ إلى سَلَمْيةَ حين شابا ... وفي بيت للمتنبي صدره: «تثير على سَلَمْيَةَ مُسْبَطِرّا» (مجاهد).

في مصر؛ فيها مستشفى الأمراض العقلية)، ثم تمرّ بقربة عَدْرا، وضُمَيْر التي مرّ بها وذكرها المتنبي: لئن تركنَ ضُمَيراً عن ميامِننا ... لَيحدُثنّ لمن ودّعتُهم ندمُ ثمّ ترتقي التنايا (الثنايا، وهي ثنيّة العقاب التي هبط منها خالد سيد قُوّاد التاريخ القديم لما جاء من العراق)، ثم تمرّ بالنَّبْك ومنطقة يَبرود، وهي أعلى مصايف لبنان الشرقي، ثم يهبط بك الطريق إلى حمص، وطوله مئة وستّون كيلاً في نهاية كل أربعين كيلاً منها منزل فيه خان أثري ومحطّة للقوافل، وهي القطيفة والنّبك وحسية، وكانت لها مقاصد أخرى هي أنها كانت مراكز اتصال، فكان الرسل يصلون إليها على خيولهم المتعَبة فيجدون خيولاً أخرى مُعَدّة مستريحة فيستبدلونها بخيولهم، وربما سلّموا الرسائل إلى رسل آخرين مستعِدّين فحملوها ونزلوا هم فاستراحوا، فيمشي البريد أبداً ليلاً ونهاراً. وهذه الخانات متصلة من دمشق إلى حلب. وعندنا سلسلة من القلاع مبنيّة كلها على تلال صناعية، أكملُها وأجملُها قلعة حلب، وإلى الجنوب منها قلعة حماة وقلعة حمص، ومن حلب إلى الشرق قلعة الموصل وقلعة أربل (أربيل) وقلعة كركوك، وقد تَخرّب بعضها. وقد مررت بها لمّا عدت من العراق، وسيأتيكم خبر ذلك. وكان عندهم أسلوب آخر للاتصالات السريعة اهتموا به أيام هجوم التتار والمغول: نيران توقد ليلاً إذا كان هجوم، فإذا رآها من في المركز الثاني أوقدوا ناراً مثلها، فينتقل الخبر من العراق إلى الشام في أقصر الأوقات، وفي النهار يجعلون بدل النار دخاناً كثيفاً يُرى من بعيد.

وكانت تلك أول مرة أجاوز فيها دمشق شمالاً إلى أبعد من النبك، فكنت أتأمل المشاهد من حولي وأرقب الطريق من خلفي، أخشى أن تسقط إحدى حقيبَتَيّ كما سقطت في السفرة الأولى في طريق حيفا. فلما طال الطريق مللت وأغمضت عيني، ولكن ما نمت لأن مقعد السيارة كسر ظهري، فقد كان صُلباً عالياً قائم الظهر، لم تكُن هذه المقاعد المريحة ولا هذه السيارات الفسيحة المدفّأة في الشتاء المبرَّدة في الصيف. واذكروا أني أتكلم عن سنة 1932، أي عمّا كان قبلَ خمسين سنة. ولم يكن في السيارة ممرّ من داخلها، بل كانت مقاعدها موصولة مصفوفة صفوفاً لا يوصل إلى أحدها إلا من باب السيارة أو من نافذتها، كانت كعربات الترام التي ألغيناها في الشام ونزعنا من الأرض خطوطها، ومرّت مدّة ثم رأيتها أمامي قد عادت كما كانت بقِدَمها وبِهِرَمها وبسَقَمِها، ولكن في بروكسل لمّا ذهبت إليها، قد رُدّت إلى أهلها لأن الشركة التي كانت عندنا بلجيكية جاءت من هناك. إن القادم على بلدة جديدة يتخيل شكلها ويفكّر فيها ويعرض في ذهنه الصور الممكنة لها، ولكن صرفني عن ذلك تعبي في مركبي، ومللي من طول الطريق، وبرودة الهواء وبرد أحاديث الرفقاء، وأن المقاعد امتلأت بالركّاب فوقها وبالسلال والقِفاف والأحمال أمامها وفيما بينها، حتى إنه كان في الصف الأخير شاة تقول طول الطريق «باع» وأطفال يبكون يصرخون «واع»، والفكر ضاع بين باع وواع. لم يكن في ذهني عن سَلَمية إلا ما يقوله مُنكِرو نسب الفاطميين من أن جدّهم (القدّاح) كان منها، لم يكن جدّهم

فاطمياً ولا علوياً والله أعلم، فما أريد الآن تحقيق نسبتهم أو إثبات افترائهم. وأنها بلدة الإسماعيليين من أتباع آغا خان، ينظرون إليه نظرة تقديس ويعاملونه معاملة عبادة (¬1). وأنها فُتحت فيها ونحن في أوائل المدرسة الثانوية مدرسة زراعية، بذلوا لها كرائم الأموال وجاؤوها بأفاضل الرجال ولم يبخلوا عليها بشراء أجوَد الآلات وأفضل المعدّات، ودعوا التلاميذ إلى الانتساب إليها ووعدوهم ومنّوهم، فما استجاب لهم إلا نفر من رفاقنا كانوا ¬

_ (¬1) حينما نشر الشيخ هذه الذكريات في جريدة «الشرق الأوسط» ختم الحلقة الستّين منها بحاشية عنوانها «تصحيح وتوضيح» لم ترد في الطبعة السابقة من هذا الكتاب، وقد وجدت إدراجها في هذا الموضع مفيداً، وفيها: "تلقّيت رسالة من الأستاذ في الجامعة الإسلامية في المدينة أحمد الأحمد الذي كان من تلاميذي سنة 1938 يقول فيها إن أهل سلمية ليسوا جميعاً من الإسماعيلية، بل إن ثلثهم من أهل السنّة والجماعة ومن السلفيين، وهو من هؤلاء. وأنا أذكر أنه كان في سلمية لمّا كنت معلّماً فيها سنة 1932 رجل سنّي اسمه محمد أفندي الجندي بنى مسجداً فيها وله جماعة، ولست أدري الآن ما صلة سامي الجندي به. وهذا توضيح وتصحيح لما قلت، ومن كان لديه علم عن هذا الأمر فليتفضّل بإعلانه". قلت: وقد وجدت في الدراسة التي كتبها محمد المبارك عام 1958 وسمّاها «تركيب المجتمع السوري» (ونُشرت من قريب) أن بعض علماء حمص قاموا بالدعوة إلى الإسلام السنّي في قرى سلمية في أيام الانتداب الفرنسي فتسنّنَ كثيرٌ من أهلها، وانتبه الفرنسيون فأخرجوا هؤلاء العلماء، وبقي من عاد إلى الإسلام من الناس على إسلامه، حتى إن بعض الأسر قد انقسمت إلى قسمين إسماعيلي وسني، وحصلت بين الفريقين مصادمات ومشاجرات (مجاهد).

من أضعفنا في العلوم وأقلّنا في الدرجات. فانطبعَت بذلك صورة سيئة لها في نفسي. ثم انصرفت الحكومة عنها وكأنها يئست منها، فتركت من كان فيها من التلاميذ ليكملوا دراستهم فيها، واستغنت عن خيرة أساتذتها، وقررت إلغاءها. فلما بلغتها وجدتها كالآثار: ديار ولكن ما فيها ديّار، صرح عامر ولكن: تحمّلَ عنه ساكنوهُ فُجاءةً ... فعادَتْ سواءً دُورُهُ ومقابرُه مشاتل صوّح نبتُها ويبس زرعها، وبساتين ماتت أشجارها وبادت ثمارها، وآلات صدئ حديدها ورثّ جديدها؛ صار القصر قبراً وصار الواقع ذكرى. لقد محت الأيام الآن صورة سلَمية من ذاكرتي إلا بقعاً منها ثبتت ألوانُها على مرّ الزمان، حتى أراها اليوم -بعد نصف قرن كامل- واضحة ظاهرة كأنما هي قد رُسِمت أمس. لمّا ركبت السيارة من دمشق كان قد بقي من السنة المدرسية شهران اثنان. وكنت أعلم هذا، ولكني لمّا جئت أختار الكتب التي أحملها معي كنت أرى الكتاب فأقول إنه يفيدني، والثاني فأرى أنه يسلّيني ... وكتبُ العالِم (أو طالب العلم مثلي) هم أصدقاؤه، ولا تطاوعني نفسي في التخلي عن أحد من أصدقائي، بل إنني لطول معاشرتي الكتب وابتعادي (إلا عند الاضطرار) عن الناس أفيض عليها صفات الأحياء من الأصدقاء، فهذا مخلص ولكنه قبيح الصورة صعب العِشرة، وهذا عالِم مطّلع ومعلّم نافع ولكنه ثقيل الدم بعيد عن القلب، وهذا خفيف الروح يسلّيك ويطربك

لكن لا تخرج من صحبته بطائل، وهذا حبيب إليك لا تملّ رفقته ولا تحتمل فرقته، وهذا بغيض إليك ولكنه مفروض عليك ... وقد جمعت كتباً لا يتسع لقراءتها عامان، مع أنه لم يبقَ لديّ إلا شهران وعندي امتحان، فقد كنت في السنة الثانية من كلية الحقوق. وكنت أعرف هذا ولكن الإنسان طمّاع، يجمع من المال ما لا ينفقه ومن الكتب ما لا يقرؤه ومن اللباس ما لا يلبسه، يريد أن يملك كل شيء. يبتغي الألف فإن نالها طلب الألفين، وإن وصل إلى المليون طمح إلى المليونين، ولو كان له وادٍ من ذهب لابتغى له ثانياً، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * خرجت من دمشق صباحاً، وكنت أرجو أن أبلغ سلمية قبل انصراف التلاميذ فما بلغتها إلا ليلاً، فوجدتها أشبه شيء ببلدة بَحْرة (¬1) وحولها صحراء كالتي تحيط ببحرة، ورأيت فيها وأنا في السيارة مضارب بدو، خيامهم قائمة وماشيتهم سائمة، وفي وسطها قهوة فوقها بناء جديد، كالذي ترونه وسط بحرة لكنه أكبر وأعلى. وبحرة على الطريق إلى مكة، فلا يكاد المارّ بها يتأملها لأن بصره موجّه إلى غايته فهو يريد بلوغها، فلا يتنبّه إلى ما يمر به في الطريق إليها، وسلمية غاية لقاصدها، ينقطع الطريق عندها فلا يصل إلى مدينة بعدها. ووقفت السيارة في رحبة البلد أمام القهوة، فخرج منها ¬

_ (¬1) في منتصف الطريق القديم بين مكة وجدة، و «البَحرة» في اللغة مجتمَع البيوت.

المرحّبون بي القاعدون في انتظار استقبالي. ووجدت أن مدير المدرسة هو الرجل الطيّب النبيل بكر (باكير) أفندي الأورفلي الذي كان من معلّمينا في المدرسة الابتدائية (وهو من حماة)، ووجدت اثنين من المعلمين فيها كانا معنا في المدرسة: الشيخ منير لطفي والرسّام البارع شعيب أفندي. وقعدنا نتحدث كأننا متعارفون متآلفون طول العمر، وكنت موضع التكريم. ومن يَعِشْ في القرية المنقطعة يأنسْ إن قدم قادم، لأنه وجه جديد معه خبر جديد، يبدّد به وحشة العزلة وملل الحياة الرتيبة. أما أنا فقد كنت في نشوة من الأنس بهؤلاء الإخوان وبما أحسست من الأمان والاطمئنان، وبالهدوء الذي أُقدِم عليه وأعيش فيه بعد الصخب والضجيج في الجريدة ولجنة الطلبة والخطب والمظاهرات ومصادمات الشرطة ومناظرات ومهاترات الصحف ... في بلد جديد آمل أن أجد فيه طريفاً مشوّقاً. ثم إني بين إخوان بدا لي من اللقاء الأول أنهم طيّبون لا خلاف بينهم ولا تباغض، ما بينهم -كما يبدو- إلا المحبّة والوداد. ثم إني سأستريح من طَرق أبواب الرزق وآخذ مرتّباً كافياً، هو ستّ وثلاثون ليرة (تعدل بسعر اليوم اثنين وعشرين ريالاً). ذلك كان مرتبي في الشهر، أي أقلّ من ثمن بطيخة واحدة أو كيل بلح في أيامنا هذه! بثمن بطيخة أنفق على نفسي هنا وعلى إخوتي وعمّتي في الشام شهراً كاملاً لأنني كنت أشتري بها قبل خمسين سنة ما لا يُشترى الآن بألفَي ريال! وانفضّ الجميع فذهب المعلمون إلى بيوتهم، وصحبت المدير إلى دار السيد (الذي صار من بعدُ شيخاً بجبّة وعمامة) منير

لطفي الذي دعانا إلى العشاء. وكنت من صغري أكره الدعوات، ولكني لم أكُن قد اتخذت رفضها سُنّة دائمة لا أحيد عنها كما أفعل من عشر سنوات. وأنا لا أحبّذ المخالفة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُنّته هي الطريق المستقيم وهي الرأي الحكيم، ولا أدعو أحداً إلى تقليدي بل أدعوه إلى إجابة دعوة الأخ المسلم فهي من حقّه عليك، وأنا أستغفر الله من رفضها والهرب منها، وما فعلت ذلك إلا لأنه آنَسُ لحالي وأعون على إنجاز أعمالي وأحفظ لوقتي، ولو أني أجبت كل دعوة واستقبلت كل قادم وودّعت كل مسافر وهنأت كل مسرور وعزّيت كل مُصاب (وكل هذا مطلوب محبوب، يقوّي المحبة ويزيد الألفة) لو فعلته لما كتبت شيئاً ولا خطبت ولا حاضرت ولما وجدت وقتاً لمطالعةٍ ولا لمراجعةٍ. وحياتي كلها ثلثها نوم، وثلثها عمل لا بد منه ولا غَناء عنه، والباقي منها أنفق أكثره في المطالعة، فهي أنس نفسي وغذاء عقلي. ولو أني أجبت دعوة إياد واعتذرت لعمرو (¬1) لأغضبت عَمْراً، لذلك أعمّ بالاعتذار الجميعَ وأستغفر الله. ومن عذري أن من يدعوني يطعمني ما هو ألذّ من طعامي المعتاد، ولكنه يسلبني حرّيتي في اختيار وقت الأكل وتحديد نوعه وانتقاء من يأكله معي، وربما أطعمني ما لا أريد مع من لا أحب في غير الوقت ¬

_ (¬1) إياد الطبّاع وعمرو حتاحت من أحفادي الذين بلغوا إلى الآن عشرين، منهم من الأطباء والمهندسين، كما بلغ أولاد الأحفاد إلى الآن (1404) ثمانية، وفّقهم الله إلى ما يرضيه. قلت: ثم زاد الحَفَدة اثنين فصاروا اثنين وعشرين، وبلغ أولادهم (وأنا أعدّ هذا الجزء للنشر) سبعة وأربعين (مجاهد).

الذي أريد أن آكل فيه. لذلك أهرب من الدعوات، ولا أنصح أحداً أن يفعل فعلي. وهذا كله في الولائم الرسمية والدعوات التي يُتكلَّف لها ويُحتفَل بها، أما أن أكون عند صديق لا أحتشمه فيحين موعد الطعام فيأتي بما تيسّر، أو يكون عندي فأقدّم له ما حضر، فهذا من باب آخر. ومن هذا الباب الآخر كان عشاؤنا أنا والمدير عند أخينا منير، ولمّا قُضي العشاء اقترح أن نزور «قائم المقام»، أي الرئيس الإداري للمنطقة. والتقسيمات الإدارية عندنا هي: «الناحية»، ويتألف «القضاء» من عدد من النواحي ويكون رئيسه قائم المقام (ويدعونه القائمْقَام) وهو تعبير عثماني، وتتألف «المحافظة» من عدد من الأقضية ورئيسها «المحافظ». وفي القضاء محكمة شرعية فيها قاضٍ شرعي تنظر في دعاوى الأحوال الشخصية، ومحكمة صلح فيها حاكم صلحتنظر في القضايا الأخرى (الصغيرة منها)، ودائرة مالية فيها «مديرمال»، ودائرة عقارية ودائرة صِحّية، وضابط الأحوال المدنية (ويسمّونه مأمور النفوس)، ومخفر للدرك يقوم عليه ضابط يأتمر بأمر قائم المقام، والمفتي وموظف الأوقاف وموظف الزراعة والمصرف الزراعي، كلٌّ يتبع وزارته. ولقائم المقام الإشراف العام. وأفهمني بأن زيارة الموظف الجديد لقائم المقام أمر متعارف لا بد منه وهو «تقليد رسمي»، فذهبنا إليه في بيته. وكان أميراً من أمراء المنطقة وقوراً مهيباً ليس على شيء من العلم ولكنه مهذب الطبع، فاستقبلني مرحّباً وقال بأنه كان يسمع بي ويقرأ مقالاتي ويتابع أخباري، وكان عليّ أن أصدّقه أو أن أظهر أني

مصدّقه! ووجدت الموظفين يجلسون حوله كأن على رؤوسهم الطير فلا يتحركون خشية أن تطير، أما أنا فلم يكن على رأسي إلا طربوشي ... ووجدتهم يعظّمون فيه الكرسي لاينظرون إلا إليه، وأنا إنما أرى الرجل وأكلمه وأعطيه قدر ما يعطيني، فلما رأيته يكلمني بأدب وتهذيب كلمته بتهذيب وأدب، ووجدته يسألني فأجبته عمّا يسأل. وأدلى بآراء في قضايا طلب فيها رأيي فبينت رأيي فيها، فوافقته في بعض ما قال وخالفته في بعض، وهم يوافقونه على كل ما يقول ولا يخالفونه في شيء. فعجبوا مني ونظروا إليّ وكأن عيونهم تقول لي: إننا نعرف ما تعرفه ونستطيع أن نقول ما قلتَه، ولكنا كبار مجرّبون نريد أن نأكل خبزاً، وأنت شابّ غرير لم تجرّب الحياة ولا يهمّك أكل الخبز. ولو عرفوني لعلموا كم جرّبت وكم تعبت حتى أكلت وأطعمت أهلي الخبز! وكانت النتيجة أن الرجل زاد في تقديري وأثنى عليّ، ونلت منه بصراحتي وصدقي ما لم ينَله هؤلاء بموافقتهم ومسايرتهم. وودّعني إلى الباب الخارجي وطلب أن أُكثِر التردّد عليه، ولكني جعلتها الزيارة الأولى والأخيرة. وأصر المدير إلا أن أنام في داره وأصررت على النوم في الفندق، وقلت له: أنت أستاذي وقد علّمتَني الصدق، وأنا أسألك: ألا تريد راحتي؟ قال: بلى. قلت: يا سيدي، إن راحتي في الفندق. * * *

في مدرسة سلمية

-57 - في مدرسة سَلَمْيَة لقد كانت أيامي في سلمية قليلة ولكنها جميلة؛ كانت كأنها حلم قصير تصحو وفي قلبك حلاوته، ولكنك إذا جئت تحدّث به وجدته قد تَفلّت منك كأنه كرة مدهونة بالزيت أو كأنك كنت قابضاً على الماء. ولا تحسبوا أني عشت فيها في مثل نعيم الجنّة، فما كانت سلمية جنة ولا كانت قطعة من لبنان أو من الزّبَداني وبْلودان، ما كان فيها الينابيع الصافية والسواقي الجارية والقمم العالية تشرف على الأودية المسحورة التي تتلوّى: تبين وتخفى، تجري في قرارتها الجداول والأنهار وتقوم على حفافيها الأشجار، فيها الثمار أو الزروع الحالية بالأزهار. ما كانت سلمية إلا قرية في صحراء تقوم على طرف بادية الشام، التي تبدأ من حيث تنتهي هذه القرية ولا تنتهي إلا حيث تبدأ أرض العراق ويبدو «السواد» في الطريق إلى بغداد، فما الذي جعلني إذا ذكرتُها حننت إلى أيامي فيها وأنست بذكراها؟ أنا اليوم -بحمد الله- أحسن حالاً وأكثر مالاً وأروَح بالاً، وأوسع ذكراً وأعلى اسماً، فلماذا لا أستمتع بما أنا فيه من نِعَم

وأرى تلك الأيام كأنها من بهجتها الحلم؟ ذلك لأني أرى اليوم الدنيا بعين الشيخ المودّع وقد كنت أراها بعين الشابّ القادم، وكم بين لقاء القدوم واجتماع الوداع! الشابّ يحيا بالأمل وهو في غمرة الألم، لا يرى الشجرة العارية في قلب الشتاء بل يبصر البراعم والزهور التي سوف يكسوها بها الربيع، والشيخ يبصرها في الصيف لابسة ثوبها الأخضر متوّجة رأسها بزهرها الأصفر والأحمر، فلا يرى فيها إلا خشبها وحطبها حين يحلّ بها الشتاء فيجرّدها من ثوبها. لقد أدركني شتاء العمر الذي لا ربيع بعده إلا ربيعاً دائماً لا أستحقّه بعملي وأطمع فيه برحمة ربي. * * * لقد تركتكم على باب الفندق، وليس فندق شيراتون أو الهيلتون اللذين سمعت بهما ولا أحبّ والله أن أُضطرّ إلى دخولهما، بل كان شيئاً يشبه الفنادق، غرفاً فيها أَسرّة وكراسي وفيها شيء من الطعام والشراب. وقد قلت إني لا أحب دخول الفنادق وأحسّ فيها كأني ضائع، لأن أكثر هذه الفنادق الكبار تقوم في بلادنا وكأنّ الداخل إليها قد خرج من بلادنا، فلا العادات فيها عاداتنا ولا طعامها طعامنا، بل إن لسان أكثر أهلها غير لساننا (¬1). وأنا أكره الفنادق من شبابي ولكني صرت الآن أشدّ كرهاً لها، بل إني صرت إذا بتّ عند بنتي لم أنَم ليلتي الأولى؛ لم أعُد أستطيع ¬

_ (¬1) انظر مقالة «في الفندق» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

أن أبدّل عاداتي في شرابي وطعامي ومنامي وقيامي، لأنها كانت مثل الغصن الليّن تلويه فيلتوي فصارت مثل الحطبة اليابسة إن حاولت ليّها (أي لوْيها) كسرتَها. لقد قضيت ليلتي الأولى في سلمية (كما أقضي مثلها في كل مكان خارج بيتي) ساهراً، لم أنَم إلا غفوات تُتعِب ولا تُريح، وقمت مصدّع الرأس. ولكن تحمّل الشباب، والبلد الجديد الذي جئته في سواد الليل وأحبّ رؤيته في بياض النهار، والعمل الجديد، كل ذلك أنساني تعبي وجدّد لي نشاطي. وجاء المدير. وقد قلت لكم إنه كان أستاذنا في المدرسة الابتدائية، لم يعلّمني ولكنْ علّم الطلاّب الذين كانوا أصغر مني، وهو الرجل الصالح الفاضل حقاً بكر الأورفلي. وكنا على طريقة الأتراك ننطقها «باكير»، و «الأورفة لي» نسبة إلى «أورفا»، وهي التي كانت تُسمّى قديماً «الرُّها» ولها ذكر في الفلسفة. أما اللام (أورفلي) فهي لام النسب في التركية، وإنْ نسبوا إلى الصناعات جعلوا مكانها جيماً. وكانت المدرسة في ظاهر البلد قائمة وحدها في خلاء من الأرض. ووجدنا المعلّمين واقفين لاستقبالنا، والتلاميذ يزيدون على الثلاثمئة مصطفّين ليروا المعلّم الجديد الذي جاءهم في آخر العام الدراسي بدلاً من «فلان أفندي» الذي كانوا يشكون من قسوته وضعف مقدرته وما يزعمون من سوء سيرته. فلما وصلنا إليهم هتفوا مرحّبين، ثم أنشدوا «نشيد الاستقبال» كأني قائد عاد من المعركة بالنصر!

ستتصورون أني زهيت بهذا الاستقبال ونفشت ريشي ونفخت صدري. أنا (لا أكذبكم) أُسَرّ بمثله، ولكن ضيقي به وخجلي منه يغلب مسرّتي به. إنه -والله- من أصعب الأشياء عليّ، وطالما فررت من مثله وارتكبت حماقات لا يسيغها العرف ولا يرى لها الناس تبريراً، بل إني أعجز أنا عن تبريرها ولكني لا أستطيع تركها. ودخلنا المدرسة، وعرض عليّ الإخوان المعلمون ما أشاء من المواد لينزلوا لي عنها، كأنها كلية في جامعة وليست مدرسة ابتدائية في بُلَيدة هي أقرب إلى القرية! فاخترت أقرب المواد إلى الأدب: الكتابة والخطابة والتاريخ. وكنت من حماستي وممّا وجدت من ذكاء التلاميذ وحُسن استجابتهم ورغبتهم في الاستفادة والتحصيل، كنت أريد أن أجعل منهم كتّاباً وخطباء. وجعلت من دروس التاريخ محاضرات وطنية لا مجرد معرفة بأحداث الماضي وتحليل لها وبحث عن أسبابها واستفادة من نتائجها، وكانوا في الواقع أذكياء جداً، لكن التاريخ تاريخ فرنسا لا تاريخ الإسلام ولا تاريخ العرب. وهذه سُنّة المستعمرين في كل زمان وكل مكان؛ يعمدون إلى الصغار الذين لا تزال عظامهم طريّة وسرائرهم نقية، وهم مستعدّون لقبول كل ما يُلقى إليهم، فيربّونهم على ما يريدون هم لا على ما يريد لهم دينهم ومصلحة بلدهم، يأخذونهم عجينة فيشكّلونها على الشكل الذي يعجبهم ثم يخبزونها في أفرانهم! وقد جروا على هذا لما جاؤونا «مبشّرين» (أي مكفّرين ومنصّرين)

فأنشؤوا في قرى الجبل المدارس التي صارت من بعد الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية، وفتحوا المستشفيات يداوون فيها الأجساد ويُمرِضون الأرواح، فلما دخلوا علينا بعد «ميسلون» وصاروا هم المتحكمين فينا وصار إليهم أمرنا أعلنوا خُطّتهم، فبدؤوا بعلوم الدين وهي: التوحيد والتجويد والفقه والأصول والحديث والمصطلح، فجعلوها مادة واحدة سَمّوها درس الدين، وأعطوها من الوقت كالذي يُعطى للرياضة أو الموسيقى أو الرسم! ثم ربطوا الدروس كلها في السنوات الأولى التي يكون فيها التأسيس والتي تُغرَس فيها في نفوس التلاميذ بذور الكفر أو الإيمان، والصلاح أو الفساد، والفصاحة والبلاغة أو العي والركاكة، فإذا لم يدرس التلميذ فيها قواعد لغته لم يتعلمها أبداً ... ربطوها كلها بمعلم واحد، ربما كان نصرانياً أو كان ملحداً أو كان مسلماً بالاسم مهملاً للواجبات مرتكباً المحرّمات، ومن جملة هذه الدروس درس الدين. وجعلوا الطفل في مدرسة الحضانة يتعلم (ABC) مع (ألف باء تاء)، حتى صار منهم من يُتقن الفرنسية أكثر ممّا يُتقن العربية، وجعلوا الحديث بين الطلاّب في «الفسحة» بالفرنسية، فمن تَكَلّم العربية أُعطي «السينيال»، وهي قطعة من الخشب أو النحاس على مَن يُعطاها أن يراقب التلاميذ حتى إذا رأى متكلماً بالعربية دفعها إليه، ومتى قُرع جرس الدرس وهي معه ناله العقاب. وكنا نحن التلاميذ الكبار في أوائل العشرينيات نأبى الحديث إلا بالعربية ونرى ذلك من الوطنية، لذلك كبرت وأنا لا أحسن

التحدّث بالفرنسية، مع أني أفهمها إذا قرأتها وأني درست أدبها مثلما درست أدب العرب. ومما صنعوه أنهم رفعوا من المنهج تاريخَ العرب والمسلمين إلا ما خافوا من رفعه، وهو كلام موجَز شديد الإيجاز في السيرة وكلام أوجَزُ منه عن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، أما الشرح والتفصيل والعرض المغري الجميل فلتاريخ فرنسا من عهد الملوك الأوّلين إلى الثورة إلى ما بعدها، حتى صار الطلاّب يعرفون من سيرة لويس الرابع عشر ونابليون أكثر ممّا يعرفون عن عُمَر وخالد! بل إنني أعرف أنا اليوم من ذلك وممّا قبله وما بعده مثل الذي أعرفه من تاريخنا. * * * لو كنت أعلَم وأنا معلّم في مدرسة سلمية سنة 1932 أني سأُكلَّف الكتابة عنها سنة 1983 لقيّدت في دفتري أحداثها وسجّلت مناظرها ولما تركتها تهرب، فماذا أصنع وقد هربَت؟ لم يبقَ لديّ من سلمية إلاّ مشاهد معدودة قد ارتبطت بحادثة أو بمكان أو بنغمة. نعم، إن من الذكريات ما يرتبط ببعض النغمات. كنت أسمع وأنا في الفندق أغنية لأم كلثوم لا أحفظ منها إلاّ كلمات «مين بحبه شاف هنا زيي أنا» من تلحين زكريا أحمد. وقد لحّن لأم كلثوم كثير ولكن أطرب ما غنّته ما لحّنه الشيخ زكريا. والفنّ غير الطرب، قد يكون معه وقد يفارقه، والطرب ذكريات قديمة مدفونة في أعماق العقل الباطن، لذلك يكذب من يدّعي أنه يطرب للغناء الإفرنجي بمجرد أنه أقام سنوات هناك. قد

يُعجَب به ولكن لا يطرب، أو تذكّره الأغنية المكان الذي سمعها فيه والناس الذين كان معهم والشعور الذي كان يشعر به، وهذا كله غير الطرب. نحن نطرب للأغنية «الفولكلورية»، أي التي صارت ملكاً للناس كلهم ونُسي واضعُ لحنها، كالعتابا في الشام، ونخلتين بالعلالي في مصر، والأبوذية في العراق ... ومن الأغاني ما ينتشر ويأتي على كل لسان وما هو من «الفولكلور» كأغنية «يا مال الشام يا الله يا مالي»، فهي لأبي خليل القباني. لم يبقَ في ذهني من أغنية أم كلثوم إلا هذه الكلمات، ولم أحب أن أبحث عنها وأعرف مطلعها لئلاّ أفسد هذه الصورة الحلوة التي بقيت لها في ذاكرتي. أما النغمة فإن لي أذناً واعية، ما سمعت نغمة مرتين إلا حفظتها. قد لا أستطيع أن أؤدّيها ولكني أميزها، لذلك قلت وأصرّ الآن على ما قلت: إن لحن «بلادي بلادي منار الهدى» الذي يقول «فلان» إنه له، هذا اللحن بذاته أحفظه من أكثر من نصف قرن، وكثير من المصريين يحفظونه، وكلماته معارضة لأنشودة مصطفى صادق الرافعي، وهو غير نشيد «بلادي» المعروف الذي وضع لحنَه سيد درويش. قلت هذا لكن ما أَحَبّ أحدٌ أن يصدّق ما قلت، وجاؤوا بشهود (عدول!) فشهدوا أن اللحن الذي أحفظه من خمسين سنة هو لهذا الملحّن الشاب ... إلا أن الملحن الأول سرقه منه من قبل أن يولَد! * * * وارتجّت البلدة يوماً وازدادت فيها الحركة، وظهر فيها الاستعداد ليوم لا تشبهه الأيام، حرّك الساكن وأظهرَ الكامن

وبعث الروحَ في بلدة كادت من الركود تفقد الروح، فزُيّنت دار الحكومة ورُفعت على المنازل والدكاكين الأعلام، ودرّبوا الطلاّب والشباب على التحية والسلام. قلت: ما هذا؟ قالوا: إن مؤتمر العشائر (أو اجتماع رؤساء العشائر، نسيت ماذا كان اسمه) سيُعقد هنا. وكان الفرنسيون (على عادة كل مستعمر وكلّ عدوّ، والإسرائيليين الأشرار الآن في لبنان) يفرّقون الناس، يجعلون الأمة الواحدة أمماً والدولة دُويلات، لذلك جعلوا للعشائر من بدو الشام قانوناً خاصاً يمتازون به عن الشعب المحكوم بالقانون العامّ، أحيوا فيه أعرافهم وثبّتوا عاداتهم وجعلوا لهم حُكّاماً من أنفسهم. لا حباً بهم ولكن فصماً لهم عن جسم أمتهم وإقامة كيان لهم خاصّ بهم. وكانت أكبر القبائل عندنا «الرولة» (¬1)، وهم فرع من عنزة، وعنزة بن أسد من ربيعة (ومنهم آل سعود الكرام)، وكان شيخ مشايخ الرولة نوري الشعلان. ولما كانت الجزيرة مقسّمة «في كل ناحية ملك وسلطان»، وكان ابن سعود في نجد (بعد توحيد نجد) وابن الرشيد في حائل، كان النوريّ في «القُرَيّات» وكانت له فيها شبه دولة. ولا يعرف مبلغ ما وفق الله إليه عبد العزيز من توحيد الجزيرة وإقامة هذه المملكة، التي أكرمها الله فجعل لها بين الدول وزناً راجحاً ورفعها مكانة عالية، ومنّ عليها بالمال وبنوابغ ¬

_ (¬1) ويدعونها «رْوَلَة» بتسكين الراء وفتح الواو، مع أن العرب الأولين ما كانوا يبدؤون بساكن ولا يقفون على متحرك.

الرجال حتى طرق أبوابها زعماء الشرق والغرب، لا يعرف هذا إلا من عرف كيف كانت الجزيرة يوم كانت في الرياض دولة، وكان في منفوحة دولة أخرى، وكان بينهما خلاف في المعتقَد ونزاع بالسلاح! كان نوري الشعلان يومئذ في القريات، ثم استقرّ في عَدْرا (عذراء) وراء الغوطة وبنى في طرف دمشق في بساتينها داراً واسعة له ومسجداً ومنازل، وسُمّي ذلك «حيّ الشعلان». ولما توسّعَت دمشق صار في وسطها بعد أن كان في طرفها، ولطالما خطبت في مسجده (أي في جامع الشعلان) ورأيته وسلّمت عليه، وكان داهية مهيباً، ويقولون إنه كان في شبابه جبّاراً بطّاشاً مخيفاً، عاش مئة سنة إلا سنتين. وكان يليه من كبار مشايخ العشائر مجحم بن مهيد، وكانت منازله في شرقي البادية ممّا يلي العراق. اجتمع المشايخ كلهم، وحضر المسيو سولومياك مندوب المفوَّض السامي. والذي يهمني ذكره أن المندوب أو وكيله (نسيت) أعلن أنه سيزور المدرسة، فخرج المدير والأساتذة كلهم وصفّوا التلاميذ لاستقباله من أمام الباب، وظهر هنا شموس طبعي وعنادي فأبيت أن أخرج معهم، ونصحني المدير، وهو أستاذي وصديقي، والإخوان المعلمون وخافوا عليّ، فلم أخرج ولم أدَعْ تلاميذي يخرجون. وكان من تلاميذ الصف الخامس تلميذ ذكيّ جداً، صار كاتباً وصار وزيراً وصار نائب رئيس الوزراء وألّف كتباً، هو سامي الجندي، ولست أدري أيذكر ذلك اليوم أم نسيه

لأني لم ألقَه بعد تلك الأيام. بقيت مع التلاميذ في «الصفّ»، فدخل عليّ هو وقائم المقام ومن معه من كبار الموظفين، فهممت بالسلام عليه فأشار إليّ أن أكمل الدرس، ففرّج الله بذلك عني. وكان الدرس (أو جعلته أنا) عن أسباب الثورة الفرنسية، فتكلمت عن حقوق الشعب وعن حرّيته، وعمّن تعدّى على حقوقه واستلب منه حرّيته، وأن الثورة كانت هي الجواب الطبيعي لهذا الظلم وهذا العدوان. وقلت كلاماً لا يختلف إلا قليلاً عمّا كنا نقوله في المظاهرات، ولكنْ لم أخرج فيه عن المنهج المقرّر. وكانوا يترجمون له همساً ما كنت أقول، وطال وقوفه ولكنه لم يقُل شيئاً، وأشار إليّ أن أستمرّ وخرج. وكان لهذا الموقف أثر في البلد تحدّث به الناس وبالغوا فيه، وجاؤوا بما لم أقُله يترجمون به عمّا تُكِنّه نفوسهم من حب الحرّية وكره الاستعمار، ونسبوا إليّ بطولة ما كنت صاحبها وبلاغة ما نطقت بها. وخاف إخواني أن ينالني مكروه فلم يكن عليّ شيء والحمد لله. * * * ولما رأى المدير أن نزولي الفندق يُتعِبني وأني أبَيت أن أنزل بضيافته في داره اقترح (أو اقترحت أنا، لم أعُد أذكر) أن أنام في المدرسة، فأعدّ لي سريراً ونضداً وما أصنع به الشاي، وبتّ فيها، وكان البوّاب ينام فيها في غرفة عند الباب. لمّا سكن الليل وأحسست بالصمت الكامل جلت حول المدرسة، وكانت ليلة حلوة لا حَرّ فيها ولا برد، وكانت السماء

صافية تتلألأ نجومها كما تتلألأ أضواء الأعراب الذين نصبوا خيامهم حِيال الأكَمة المواجهة للمدرسة، التي تبدو كأنها سفينة أو كأنها موجة في بحر هادئ. أذكر أنها مرّت على نفسي مشاعر ودارت في رأسي أفكار لو أني دوّنتها ... لو، وما نفع لو؟ إن «لو» تفتح عمل الشيطان. أذكر أني لمّا تلقيت أمر تعييني في سلمية تألمت وبتّ بليلة نابغية لم يغتمض لي فيها جفن، أفكّر فيما أنا مُقدِم عليه، كيف أُلقي بنفسي في قرية على شاطئ الصحراء لست أدري ماذا ألقى فيها من الآلام ومن سأعاشر من اللئام، فما وجدت إلا مسرّةً وكرماً من كل مَن قابلت، ولكنّ منبع هذه المسرات هو الأستاذ بكر (باكير) الأورفلي، فإذا قرأ هذه المقالة أحدٌ يعرفه فليخبره أن السنين الطوال لم تُنسِني كرمه وأني لا أزال شاكراً فضله داعياً له، وإن كان قد سبقنا إلى لقاء ربه فأسألُ الله أن يرحمه وأن يُسكِنه جنّته، وأن يغفر لي ذنبي لأكون في جواره (¬1). لقد كنت أستحي من كثرة ما كان يوليني من الإكرام؛ أخبرتُه عرَضاً أني إن لم أشرب الشاي بعد الطعام فكأني ما أكلت وأن أكلتنا الشامية، أكلة الفقراء (الزيت والزعتر) مع الشاي أفضل عندي من خروف محشوّ بلا شاي. وما كدت أنتهي من كلامي حتى قُرع جرس الدرس فدخلتُ، فلم تمرّ عشر دقائق حتى جاءني فقال: إن زائراً ينتظرك في غرفتي، فاذهب وأنا أقوم ¬

_ (¬1) قدم مكةَ ولدُه ولكني لم أستطع أن أقوم بحقّه، وترك لي رسالة من مجموعة الرسائل التي بعثت بها إلى أبيه. رحم الله أباه وبارك فيه.

مقامك. فذهبت فإذا «إبريق» الشاي الأخضر ينتظرني مع كلمات أحلى من سكّر الشاي. ما كان يؤلمني شيء مثل ألمي لإضاعة سنتي في كلية الحقوق، فقال لي يوماً: إن السيارة مُعَدّة لتحملك إلى حمص، فأِعدّ حقيبتك فستذهب إن شئت إلى دمشق. قلت: وماذا أصنع في حمص؟ قال: إن المفتّش يطلبك. وكان في دمشق الوزارة وفي حلب دائرة للمعارف، أمّا حمص وحماة فمَردّ أمر مدارسهما كلها إلى مفتّش واحد مقرّه حمص. فكاد العناد يعصف برأسي وأقول: ماذا يريد مني؟ وهل أنا جندي عنده يستدعيني فأذهب ويعيدني فأعود؟ وكدت أرفض، ولكن طيب المدير ولطفه وإخلاصه عقد لساني. وأنا لا أُغلَب إلا باللطف، فإن هوجمتُ وجدت الفرج لأن المقاتلة أهون عليّ من المجاملة. غلبني فقلت: نعم. وركبت معه إلى حمص، وأنا أسأل طول الطريق عن هذا المفتّش الذي لا أفتأ أسمع من المعلمين ذكره وألمس من حديثهم عنه خوفهم منه، وجعلت أفكّر ماذا يريد مني، وهل أنا ساعٍ إلى هيجاء أم ماشٍ إلى وليمة؟ حتى إذا وصلنا ودخلنا عليه سمعته يقول: هيك (أي هكذا) يا منظوم (وهي كلمة ملاطفة شامية فيها عتاب خفيف) لا تزور أستاذك؟ ونظرت فإذا هو أستاذنا الدكتور صبحي راغب. كنت أعرفه طبيب أسنان في «الجسر الأبيض» في «طريق الصالحيّة»، فلما سافر أستاذانا الدكتوران الكيّال والشمّاع (وكان ثالثهما الدكتور

حسني سبح) لإكمال دراستهما في لوزان سنة 1924 أو 1925 جاؤونا به ليدرّس لنا، وكانت دراسته في إسطنبول فكانت عربيته مكسّرة، وكنت أصحّح له لغته بطلب منه، وكان يمزح معي ويحبّني. فأنست به لمّا رأيت أنه هو المفتّش، وكان -كغيره من الموظفين- يساير الفرنسيين، لكن ما علمنا منه خيانة ولا انحيازاً إليهم فيه ضرر على الوطن. وكانت جلسة أستاذ مع تلميذه لا معلّم مع رئيسه. وسألني عن الكلية فخبّرته أني إن لم أذهب لأدفع القسط وأستكمل «الميمات» ضاعت عليّ السنة. قال: هل تكفيك إجازة أسبوع؟ قلت: نعم. فقال للمدير: وماذا نصنع بدروسه؟ قال: أقوم بها أنا. ولقد كافأت الدكتور (المفتّش) بعد ذلك بإحسانه إليّ؛ ذلك أن القوم ائتمروا به وأقاموا عليه الصحف وأوغروا عليه صدور الرؤساء حتى أُبعِدَ عن عمله، ولم يجد ممّن كان يتردّد عليه ويتزلّف إليه مَن ينطق في نصره بكلمة، فانبريت للدفاع عنه بمقالة كان لها مثل حدّ السيف ومثل حرّ اللهب، وما كذبت فيها وما قلت إلا حقاً، فردّت إليه كرامته وأنعشَت نفسه. * * * وجاء يوم العطلة. وكنا ننتظر هذا اليوم لنودّع فيه أيام الكدّ والتعب ونستقبل أيام الراحة والأُنس، وكنا جميعاً في بهجة، نركب بالمزاح زميلنا

الأستاذ (...)، حتى إذا امتلأ صدره ضجراً منا وامتلأنا ضحكاً معه (لا عليه) ذهبنا إلى إلقاء الدرس الأخير. ثم اصطفّ التلاميذ وخرج المدير يحمل نتائج الامتحانات، يُسعِد بها فريقاً ويُشقي آخرين (وما أسعدهم ولا أشقاهم إلاّ أنفسهم)، فوقف صامتاً وهم ينظرون إليه صامتين، يحدّقون إلى وجهه علّهم يستطلعون الخبر من النظر. ثم نطق فقدم ما شاء من مقدمات، وسَمّى السقوط فائدة لأنه اختبار وتدريب، وأطال المقال وهم يرقبون النتائج، ثم وزّعها عليهم فانصرفوا بين باكٍ حزين وضاحك فرِح. أمّا المعلمون فقد ودّع بعضهم بعضاً ومضى لطيّته (أي لغايته)، ولم تكُن إلاّ نصف ساعة حتى أصبحَت هذه العمارة التي كانت تعجّ بالطلاّب خالية، قد سكنت فيها الأصوات ولم يبقَ فيها إلاّ المدير وأنا والبوّاب. * * *

العودة إلى دمشق

-58 - العودة إلى دمشق أُرخِيَ الستار وما انتهى الفصل، ورُفع القلم وما اكتمل، فأنا أَصِلُ اليوم ما انقطع في الحلقة الماضية. تركتكم آخر يوم في السنة المدرسية، وهو 31 أيار (مايو) 1932، في عمارة كبيرة وسط صحراء منبسطة، كانت صدرَ النهار تعجّ بثلاثمئة تلميذ يَعْدون حولها، يملؤون الجو صخباً وضجّة ويُترِعونه حياة وبهجة، وكان فيها ثمانية من المعلّمين يمرحون ويمزحون، لا ينظرون إلى ما مضى من أيام العلم التي قضوها في كدّ وتعب بل إلى ما يُقبِل من أيام العطلة التي يأملون أن يُمضوها في راحة ومتعة. أما التلاميذ فقد أخذوا «نتائجهم» وذهبوا، وأمّا المعلمون فقد تبادلوا سلام الوداع وتفرّقوا، منهم من ذهب إلى حمص ومن ركب إلى حماة ومن سلك طريق الشام أو طرابلس، راح كلٌّ إلى بلده، وبقيت أنا والمدير والبوّاب. وكان المدير يداورني لأذهب معه، وأنا عازم على البقاء أياماً وحدي أُعِدّ للامتحان (امتحان الحقوق) وأقرأ ما حملت معي من كتب، وتعبت معه حتى رضي

أن يدَعني فودّعني وانصرف. واستأذن البوابُ أن يذهب ولكن بعد أن أسمح له (!) أن يقوم بواجبه وألاّ أغضب من قيامه به، وكان «واجبه» أن يجمع أثاث المدرسة كله في غرفة كبيرة، يغلقها ويمشي. ذهب الجميع وبقيَت غرف خالية عارية في دنيا سكت فيها كل صوت، فلا تسمع إلاّ الصمت، وسكنَت كل حركة فلا ترى إلاّ الجمود، والصحراء على هيئتها وهيبتها، والبلد بعيد وأنا وحدي. ولقد عرفت الوحدة من قبل وظننت أني تعودت عليها، ولكني أدركت اليوم أني كنت مخطئاً وأنه ما وُصِف الإنسان بأنه «حيوان ناطق» إلاّ لصعوبة الصمت والوحدة عليه. قرأت مرةً قصّة روسية نسيت لمن هي، أن حوذياً يسوق عربة أجرة مات ولده وضاق صدره عن احتمال الألم، فهو يريد أن ينفّس عن نفسه بالكلام عنه وإلاّ انفجر كما ينفجر مِرجل الماء المغليّ إذا أحكمتَ سدّه، فركب معه راكب فبدأ يحدّثه عن ولده وهو يستمع إليه مجاملة له وشفقة عليه، حتى بلغ غايته فدفع الأجرة ونزل، وركب آخر فكانت حاله مثل الأول، وثالث ورابع وسابع وثامن، لا يستمع قصّتَه أحدٌ ولا يشاركه حمل أساه أحد، فمرّ من فوق الجسر فترك العربة وألقى نفسه في النهر! * * * قعدت أقرأ قصة، وكانت -لسوء اختياري- قصة «آلام فرتر» التي تجعل المبتهج مغموماً والضاحك باكياً، والتي تُذهِب هي وأخواتها (رفائيل، وبول وفرجيني، وغادة الكاميليا، ومانون

ليسكو، وماجدولين، وغرازبيللا، وجوسلان، والأجنحة المتكسرة لجبران ...) تُذهِب من الشابّ رجولته وتقتل مطامحه، وتحصر عالمه كله في فتاة واحدة يحدق إلى عينيها أو يجثو عند قدميها، لا يبتغي من الدنيا إلاّ عطفها ووصالها! على أنها (والحقّ أحقّ أن يُقال) أقلّ ضرراً من الأدب المكشوف والشعر الداعر، الذي يحول الشباب إلى قِطاط (¬1) في شهر شباط! رميت القصة ولم أعُد أستطيع البقاء، ولو كان السفر ممكناً لسافرت، ولكن السيارة لا تمشي إلى حمص إلاّ مرة في اليوم ومشيها إلى حماة أقل، ولا بد من انتظار الغد. وكنت قد سمعت أن في البلد أقنية قديمة تُعَدّ بالعشرات محفورة من أيام الرومان وزاد فيها ووسّعها العرب، تمتدّ من جبال البلعاس إلى نهر العاصي، وأن قرب البلد على بُعد كيلين منها (أتكلم عن سنة 1932) عيناً اسمها العين الزرقاء، وعلى أكَمة عندها قلعة قديمة وأنقاض برج عالٍ وبئر جافة عميقة، فقلت: أمشي إليها فأُمضي ساعات من هذا النهار الطويل الثقيل. ولولا الحياء للحقت المدير و «استأنفت» الحكم الذي أصدرتُه على نفسي بالسجن مع النفي. وفي السلمية آثار كثيرة لم يكن قد جرى (يومئذٍ) التنقيب عنها، لا سيما في المقبرة الرومانية في مكان كان يُدعى «ظهر المُغْر» (¬2)، وكان الناس يحملون منها قطعاً من الفخار والزجاج كانت يوماً جِراراً وكؤوساً. ولا يُطلَق اسم «الآثار» على ما مرّ ¬

_ (¬1) جمع القط قطاط. (¬2) يريدون بالمغر المغارات، جمع مغارة.

عليه مئتان أو ثلاثمئة سنة، وإلاّ عُدّ نصف دمشق القديمة ونصف القاهرة من الأماكن الأثرية؛ الأثر هو ما مرّ عليه قرون طويلة أو كانت له دلالة تاريخية خاصّة. أمضيت ليلة من أشدّ الليالي التي رأيتها في حياتي: ظلمةٌ ووحشة وصمت، والساعات تمرّ بطيئة كأن الدقيقة فيها ساعة، وقد انقطع تيّار الكهرباء فأوقدت مصباح الكاز (النفط). إن بقيت في الغرفة أحسست كأن جدرانها تتقارب وتتدانى حتى تُطبِق على صدري، وإن خرجت في الظلام حسبت كل ضوء أراه من بعيد أو أتوهّم أني رأيته، أحسبه عينَي ذئب أو ثعلب، وهي كثيرة في تلك الناحية. وإن لمسَت رجلي وأنا أمشي نبتةً جافّة ظننتُها عقرباً. والأرض، بل والمدرسة، ممتلئة بالعقارب. وإن حملت الفانوس خفت! لا تتعجبوا من قولي ««خفت»، فإنه خوف العاقل لا خوف الجبان، وأنا لي عيوب جمّة ولكن ليس منها الجبن، والتفكير في الأخطار والابتعاد عنها ليس من الجبن. كنت أخاف لأن هذا الفانوس يُرى في تلك الفلاة من مسافة عشرة أكيال أو أكثر من كل جهة، ولعل في الجوار لصاً أو مجرماً يطمع بي، يراني وأنا لا أراه، فالعقل يقضي عليّ بأن أطفئه وأخوض ظلام الليل، فظلام الليل أهون من ظُلم البشر. ومشيت حتى تعبت ومللت فعدتُ، وطال الليل. وجعلت أذكر كل ما أحفظ من الشعر في الشكوى من طول الليالي، من ليل امرئ القيس ملك الشعراء (إن كان شوقي أميرَهم) ووليّ عهده النابغة، إلى آخر من أعرف من رعاياه. ثم رأيت أنّ أصدَقَه قول بشار: «لم يطُلْ ليلي ولكنْ لم أنَمْ». نعم، فالليل لا يطول ولا يقصر ولكن مقاييس الزمان عندنا

مختلّة، ساعاتنا كلها خَرِبة، وإلاّ فخبروني: كيف تكون ساعة العروس (أقصد العريس) في أول ليلة من شهر العسل ستين دقيقة، وساعة المحبوس في سجن الجبّارين يذوق فيها أفانين العذاب ستين دقيقة؟ لم يطل ليلي ولكن لم أنم، بل بقيت الليل كله أنظر من الشبّاك أتبصّر هل طلع الفجر، فلما رأيت بياض الأفق الشرقي وأيقنت أنه الفجر وأن موعد الفرج قد دنا، عبّأت كتبي في حقيبتي وألقيت فوقها ثيابي، وصلّيت الفجر وحملتها، وأغلقت باب المدرسة وأخذت طريقي إلى البلد. وكان موقف سيارة حمص بعيداً والحقيبة ثقيلة، ولكني لمّا بلغت أطراف البيوت ودخلت البلد كان قد طلع النهار، فوجدت من تلاميذي من حملها عني وسار بي حتى بلغت القهوة، فأكلت فيها ودعوت من معي وشربنا الشاي، حتى جاء موعد انطلاق السيارة التي كان ينتظرها المسافرون، فأكرموني فأركبوني جنب السائق، وودّعت من كان معي وسرت، أعني سارت بنا السيارة، وكان ذلك اليوم (وهو أول حزيران (يونيو) 1932) آخر عهدي بسلمية، لم أرَها بعده. * * * وصلنا إلى قرية أظن اسمها قرية عزّ الدين (أو اسماً يشبهه)، فركب معنا شيخ بعمامة لها عَذَبة طويلة ولحية بيضاء، فلما سمع السائقَ يدعوني بالطنطاوي هشّ لي وأقبل عليّ، ومدّ يديه يعانقني ويقول: يا بركات السيد البدوي، أهلاً وسهلاً بابن طنطا، هل أنت منها؟ قلت: جدي منها وأنا لا أعرفها. وانطلق يحدّثني من

فوق كتفي (لأنه ركب الصف الأول من مقاعد السيارة وأنا إلى جنب السائق) ويقصّ من كرامات السيد ما لا يقبله عقل ولا يُقرّه دين ويؤكد أن الشيخ عزّ الدين المدفون في هذه القرية من أتباعه، وكانت محنة ولكنها لم تطُل لأنه نزل بعد قليل. ومررنا بمضارب بدو فدعونا إلى القهوة، واختلف الركاب ثم نزلوا، فقعدنا على بساط نظيف واستندنا إلى وسائد وضعوها لنا، وسقونا القهوة العربية المرة وثلثاها (كما هي العادة) من الهيل والثلث من البُنّ، وهي منشّطة لذيذة. بقينا عندهم أكثر النهار، وأرادونا على أن نتعشّى عندهم فاعتذرنا. وكان كرمهم الفطري وصفاء نفوسهم وصدق حديثهم قد نفض عنا التعب. ومشت بنا السيارة في سهول خضراء تارة وفي قفرة جرداء تارة، والأرض منبسطة من حولنا لا يحدّها إلا الأفق حيث ترى العينُ السماءَ قد التقت بالأرض، ولم نجد في مسيرتنا إلاّ مضارب البدو المنتشرين في تلك النواحي لأنه كان عام خير، وكانت المراعي كثيرة والنعم وفيرة، والجِمال تبدو أمام الشمس المصفرّة المائلة إلى الغياب كأنها تسبح في بحر من النور أو كأنها لوحة سينما كبيرة. حتى إذا توارت بالحجاب وأُسدِلَ ستار الظلام بدت أنوار من بعيد، فقالوا هذه حمص. ونزلنا نستريح في «الروضة»، وكانت روضة حقاً؛ بناء جميل حوله حديقة أنيقة فيها الموائد والمناضد المنصوبة حولها الكراسي المصفوفة، فجلسنا سويعة أكل فيها مَن أكل وشرب من شرب، وصلينا كلنا المغرب جماعة ثم افترقنا.

وركبت -مع ثلاثة يقصدون دمشق- سيارة صغيرة. واستأذنت أن أركب جنب السائق لأني كنت (ولا أزال) إذا ركبت وراء أصابني شيء من دُوار، أو توهّمت أنه أصابني. وكانوا كراماً فأذنوا لي. وما سرنا إلا قليلاً حتى بدأ السائق ينعس ويكاد رأسه يميل على مِقوَد السيارة، فنبّهناه فلم يتنبّه، وكان الطريق ضيّقاً وهو يصعد حتى يبلغ أعلى لبنان الشرقي، ثم يهبط وهو يلتوي ويدور، ومن غفل من السائقين وهو يقظان في النهار تعرّض للأخطار، فكيف بمن يسوق السيارة نعسانَ في سواد الليل؟ وكان معنا راكب كهل من حماة، أبيض الشعر وقور، ولكنه متين البنيان قوي الجسد كأنه مصارع من أصحاب الوزن الثقيل، وكانت له يد كفّها بعرض كفّيّ معاً، وهو يتكلم ببطء بالسرعة الإملائية، وهي تسمية ابتدعَتها محطة الشرق الأدنى في يافا قبل الحرب الثانية، تُلقى فيها النشرة الإخبارية جملة جملة لينقلها مُخبِرو الصحف. فتوجّه إليه وقال له: يا ولدي، الله يرضى عليك، العجلة فيها الندامة والطريق خطر، وأنا لا أخاف على نفسي فأنا كهل، ولكن أنت شابّ ولك عيال، إلخ. وهو يقول: نعم، نعم، أمرك يا عمّ، أمرك. ولكنه يعود إلى ما كان فيه، ويخفق رأسه حتى يميل على المقود. فما كان من الكهل إلاّ أن طلب منه أن يقف السيارةَ دقيقة، فظنّ أنه يريد النزول لقضاء حاجة، فوقف والتفت إليه وقال: نعم؟ فلم يشعر إلا بهذه اليد تنزل عليه بضربة لو أصابت ثوراً لتَضَعْضَع ولو كانت بمصارع لهوى، وعاد يقول له بالسرعة الإملائية والصوت الخفيض واللهجة الحانية: يا ولدي، الله يرضى عليك، العجلة فيها الندامة ... إلى آخر المحاضرة.

فبُهت وتحيّر: هل يغضب للضربة أم يرضى بالنصيحة؟ ولكن النوم طار من عينيه إلى آخر الطريق. ووصلنا بسلام. * * * وبلغت دمشق، وأحسست لمّا هبّت عليّ نسائمها كأني غريق خرج إلى الهواء. ولقد شرّقت من بعدُ وغرّبت ورأيت بلاداً لا أحصيها عدداً، فما رأيت فيها أجمل من دمشق. أفهي كذلك أم تجمُل في عينَيّ لأنها بلدي، وكل إنسان يؤثر بلده على سائر البلدان؟ لقد عرفت مَن ذهب إلى أميركا وعاش في أكبر مدنها واستمتع بمنتجات حضارتها ووسائل الترف فيها، فما أنسته نيويورك وناطحات السحاب فيها قريتَه ولا بيته المبنيّ من الخشب واللبِن في أزقّتها، وكان يحس أنه في أميركا غريب، نزيل في فندق، ما شعر بالاستقرار إلاّ لمّا وصل القرية وولج الدار. وهذي لعَمري من حكيمِ ما قدّر الله، وله الحكمة البالغة في كل ما قدّر؛ ولولا ذلك لاجتمع الناس كلهم في مواضع المال والجمال وخربت البلاد الفقيرة وأقفرت. كنت أشكو في سلمية السكون الذي يشبه الموت والفراغ الذي يحكي العدم، فعدت إلى مثل ضجيج المعركة وزحمة الحشر، ورجعت إلى ما ابتعدت عنه واسترحت منه: خطب سياسية في الأموي عقب صلاة الجمعة، بعدها مظاهرات وهتافات ومصادمات بيننا وبين الشرطة، فإنْ حَمِي الوطيس دُعي الجند من السنغاليين وغيرهم أو نزلَت المصفّحات. ونستريح بعدها قليلاً ثم يُستأنف النضال.

والمدارس التي كنت أعلّم فيها: ولها عليّ حقوق ولي بها ارتباط، وهي مدارس أهلية عملها في الصيف أكثر من شغلها في الشتاء، لأن آباء التلاميذ لم يكونوا قد ألِفوا العطلة الصيفية وكانوا (أو كان أكثرهم) يظنّ أنها تُنسي التلميذ ما تعلّمه، لذلك كانوا يُدخلون أولادهم هذه المدارس الأهلية يَبقون فيها مدّة الصيف، فإذا انقضت العطلة وفُتحت مدارسهم «الأميرية» عادوا إليها. وكنت وأنا تلميذ أحد هؤلاء التلاميذ، فلما عدت الآن إلى دمشق رجعت إليها أعلّم فيها، في الأمينية والتجارية والجوهرية والكاملية، فكانت تعجّ بالتلاميذ وكانت تُقام لهم الحفلات، فأرجع إلى ما كنت فيه من قبل، أؤلّف لهم مسرحيات مدرسية يخرجها صديقي المحامي أحمد حلمي العلاف، وأعلّمهم أنا الإلقاء بأنواع اللهجات التي يقتضيها المقام: الاستفهام والتأنيب والغضب والتهديد والسخرية، وكيف يعبّر الوجه عن كل موقف. والذين كانوا يزورون المدرسة ويرونني أعلّمهم هذا كله يشهدون لي بالنجاح فيه، لكن لو سُئلت من أين تعلمته أنا لما دريت. وأخذت مرة مجموعة من الصور (لي) أعبّر فيها بوجهي عن هذه المواقف كلها على طريقة السينما الصامتة، وبقيَت عندي مدّة طويلة، حماقة من حماقات الشباب. والثالثة: الصحف التي كنت أعمل فيها محترفاً، وعدت إلى الكتابة فيها. وكانت تصدر لي في بعض الأيام مقالتان في صحيفتين معاً، وكان من أهمّ الموضوعات التي كتبت فيها أني واليت الدعوة إلى الأدب القومي، أو ما يُدعى الآن «أدب الالتزام»؛ لا الالتزام بمذهب سياسي ولا بمنهج حكومي، بل

بمصلحة الأمة، ومن أولى مصالحها المحافظة على دينها وعلى أخلاقها ومحاربة الأدب الرخو المائع أو المنحرف الزائغ، أدب الشهوات وأدب الشبهات. كتبت في ذلك سلسلة مقالات بدأَت بالرسالة التي طبعتُها رداً على أستاذنا (في كلية الآداب) شفيق جبري، وانتهت بالسؤال الذي وجّهتُه إلى «الرسالة» وسيأتي خبره. والرابعة: العمل مع المشايخ والجمعيات الإسلامية. وقد عرفتم أن دراستي كانت مزدوجة، في المدارس النظامية على الأسلوب الحديث وفي حلقات المشايخ على طريقة الأزهر القديم؛ فقد جوّدت القرآن علي شيخ قرّاء الشام الشيخ محمد الحلواني وعلى الشيخ عبد الرحيم دبس وزيت وولده القارئ الفقيه الحنفي (تلميذ أبي) الشيخ عبد الوهاب، ودرست الفقه على المفتي الشيخ عطا الكَسْم والشيخ أبي الخير الميداني الذي قرأت عليه النحو أيضاً والصرف، والحديثَ والتفسير على الشيخ عبد الله العلمي والشيخ محمد بهجة البيطار، وقرأت على الشيخ صالح التونسي وصحبتُه مدّة طويلة. وممّن حضرت دروسه ولزمته حيناً المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسَني، وصِنْوه وقرينه السيد محمد بن جعفر الكتّاني صاحب «الرسالة المستطرَفة» التي أحصت من كتب الحديث ما لا يوجد مَحْصِيّاً في غيرها، والشيخ أمين سويد وكان يتفرد في المعقولات، والشيخ عبد القادر بدران صاحب «المدخل» وهو معروف هنا، والشيخ عبد القادر الإسكندراني، والشيخ الكافي، وكثيرون جداً ربما جاء ذكرهم. فلما عدت إلى دمشق بعد هذه الغيبة القصيرة جدّدتُ العهد بهم

(أعني بمن بقي منهم) وبمجالسهم. أما الجمعيات الإسلامية فقد عرفتم أني لما ذهبت إلى مصر أول مرة سنة 1928 وشهدت مولد جمعية الشبان المسلمين أو قرب العهد بمولدها، وعرفت حسن البنّا وعبد السلام هارون ومحمود شاكر وعبد المنعم خلاف (وكنا كلنا يومئذ شباباً، رحم الله من ذهب للقائه ووفّق من بقي إلى إرضائه)، عرفتم أني عدت يومئذ وعملت على إنشاء جمعية الهداية الإسلامية التي توالت من بعدها الجمعيات، وأولها «التمدّن الإسلامي» التي أنشأها ولا يزال يقوم عليها الأستاذ أحمد مظهر العظمة والأستاذ محمد بن كمال الخطيب، يشاركهم حيناً الأستاذ محمود مهدي الإسطنبولي. * * * وكان من أحداث ذلك الصيف أن مات حافظ إبراهيم، فأقيمَت له «حفلات» التأبين في كل بلد ورثاه كل ذي قلم وكل ذي لسان، ودمشقُ أخت العروبة وظئر الإسلام لم تقُل في تأبينه كلمة ولم يُقِم مجمعها حفلة. وانتظرت شهرين، فلما لم يتحرك المجمع كتبت في «ألف باء» في منتصف أيلول (سبتمبر) مقالة هزّته فحرّكَته، فأقام «حفلة التأبين». وكان ممّا قلت فيها: إذا مات حافظ فهل ماتت دمشق؟ وهل مات مجمعها ومات أدباؤها، فلا يذكرون -وهم أهل الأدب- أن حافظاً كان علَماً من أعلامه هوى، ولا يذكرون -وهم أهل الشام- أن حافظاً طوّق بلدهم من شعره قلائد الذهب، وأنه مدّ يده إليهم عن ستة عشر مليوناً من

الناس (وكان هذا عدد سكان مصر يومئذٍ على ما أظنّ) مصافحاً يقول لهم: هذي يدي عن بني مصرٍ تصافحُكم ... فصافحوها تُصافحْ نفسَها العرَبُ فما الكِنانةُ إلاّ الشامُ عاجَ على ... ربوعِها مِن بَنيها سادةٌ نُجُبُ وقوله وقوله ... (إلى أن قلت): ألم يبيّن أن الشام أخت مصر، أمّهما واحدة وأخوّتهما خالدة، باقية على الأيام رغم الخطوب الجِسام: إنما الشامُ والكنانةُ صِنوانِ ... برغمِ الخطوبِ عاشا الزّمانا أمّكمْ أمُّنا وقد أرضعَتنا ... مِن هُداها ونحنُ نأبى الفِطاما ألم يضرب بكم الأمثال لأهل مصر ... (إلى أن قلت): فاسمعوا قوله: فرجالُ الشآمِ في كرةِ الأرضِ ... يبارونَ في المسيرِ الغَماما رَكِبوا البحرَ جاوزوا القطبَ فاتوا ... موقعَ النيّرَينِ خاضوا الظلاما يمتطونَ الخطوبَ في طلَبِ ... العيشِ ويبرونَ للنضالِ السِّهاما وبنو مصرَ في حِمى النيل صرعى ... يرقُبونَ القضاءَ عاماً فعاما (وأقول: كان ذلك يوم كان ابن مصر يجزع إن نُقلَت وظيفته إلى الفيوم فضلاً عن أسوان، فصار المصريون الآن يعملون فوق كل أرض وتحت كل كوكب، ومن عرف ما كانت عليه حالهم تعجّب وأُعجِبَ بما آل إليه مآلهم).

(إلى أن قلت): ألم يعرّج في شعره على العالَم الجديد، فيصف حال السوريين وراء البحار وكيف أقاموا لهم كياناً وبنوا لهم من المجد بنياناً، ولا عَلَم يجمعهم ولا أسطول يحميهم، ولا دولة تُعنى بهم: بأرضِ كولُمْبَ أبطالٌ غطارِفةٌ ... أُسْدٌ جياعٌ إذا ما وُوثِبوا وثَبوا لم يحمِهم علَمٌ فيها ولا عَددٌ ... سوى مضاءٍ تحامى وِردَهُ النُّوَبُ أسطولُهم أملٌ في البحرِ مرتحِلٌ ... وجيشُهم عملٌ في البَرِّ مُغتربُ ما عابهم أنهم في الأرضِ قد نُثروا ... فالشُّهْبُ مَنثورةٌ مُذْ كانتِ الشهُبُ (أقول: وهذا الكلام وصف لأهل مصر الآن) (إلى أن قلت): وهذا المجمع ماذا يصنع؟ أأقلّ من حفلة؟ حفلة تكون أمارة على حياته هو وهو حيّ ميت، لا أسفاً على موت حافظ وهو ميّت حيّ؟ أأقلّ من حفلة، وقد مرّ شهران على موت حافظ، ورثاه كل أديب له لسان وكل كاتب له قلم، وكان هو سيد مَن رثى فأجاد الرثاء، حتى تمنّى «الأمير» أن يكون قد مات قبله ليحظى بمرثيّة منه: قد كنتُ أطمَعُ أن تقولَ رثائي ... يا منصِفَ الموتى من الأحياءِ وإن كانت جملة «تقول رثائي» كالآجرّة المضعضَعة في الجدار لا تعرف الاستقرار، وما سمعنا من العرب إلاّ «قال في رثائه» أو «قال يرثيه»، وإن لم تكُن خطأً من شوقي، وما كان مثلي ليخطّئ مثلَ شوقي. ولحافظ مَزيّة في مراثيه. إن الحياة مسرحية كبيرة، فمَن

أراد أن يصف لك فصلاً منها عرض عليك مشاهده ولخّص حواره وتسلسل مناظره ومقدرة ممثليه، منهم من يصف بعينيه فيريك الفصل كأنه «السينما الصامتة» التي كانت على أيامنا ونحن صغار، ومنهم مَن يصف بأذنيه فيُسمِعك الأصوات ويُبلغك الحوار، كأنك تسمع «الفصل» من الإذاعة، ومنهم من ينقلك إلى «السينما» فيُقعِدك في المقعد المريح في الشرفة المقابلة للوحة العرض، ترى وتسمع بعينيك وأذنيك لا بوصف الناقل، وتحكم بشعورك لا بشعور الناقد. أما حافظ في مراثيه وفي وصفيّاته فإنه يُدخِلك فرقة التمثيل حتى تكون أنت ممّن يمثّل، ينطق ويتحرك لا يكتفي بأن يقرأ أو يسمع. اقرؤوا مرثيته سعداً، وأنا أروي ما أحفظ منها، لست أحفظها كلها وليس ديوانه قريباً مني لأرجع إليها. يُدخِلك النادي الذي سيخطب فيه سعد يوم كان سعد خطيب مصر، لا في براعة القول وحسن رصف الكلام، فإن خُطَبه إن قُرئت قراءة لم يدرك قارئُها براعتَها ولم يعلم فيمَ كان هذا التأثير لها. كان تأثيرها في بلاغتها، أعني البلاغة بمعناها عند أهلها وهو مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال وأن يخاطب المرء الناس على مقدار عقولهم ويقول لهم ما يفهمونه حتى يؤثّر فيهم. وكذلك كان سعد: لمّا عاد من المنفى في جزيرة سيشيل كان ينتظره عند المحطة في ميدان باب الحديد جماهير تملأ الميدان، وكان أكثرهم من الفلاحين تركوا قُراهم وجاؤوا مصر لاستقباله، لأنه كان رمز الشعب وكان الناطق بلسانه المحامي عن حقوقه. وكان في الناس -يومئذ- من يضع الوزراء والكُبَراء فوق والفلاّحين تحت، فكانت البلاغة كل البلاغة

في خطابهم ما قاله سعد، قال لهم: "إنكم جئتم لتكريمي وما أنا من الكبراء ولا من ذوي السلطان، ما أنا إلاّ فلاّح وابن فلاّح". تقرؤون هذه الجملة الآن وقد انطفأ بريقها وهمدَت شعلتها، ولكن الذين سمعوها من الفلاّحين فعلت فيهم فعل السحر ومشت في أعصابهم مَشْي الكهرباء. هذه هي مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال، هذي هي «البلاغة». أعود إلى حافظ في رثاء سعد: وضع السامعين «في الصورة» كما يُقال، أدخلهم المشهد حتى كأنهم فيه، ينتظرون سعداً فلا يرون سعداً، فقال: أين سعد؟ لِمَ لا يحضر وقد كان حاضراً دائماً في صدور المجالس، كما كان حاضراً في القلوب بحبهم له، وحاضراً في الأسماع بإصغائهم إليه: أينَ سعدٌ؟ فذاكَ أوّلُ حفلٍ ... غابَ عن صدرِهِ وعافَ الخِطابا لم يُعوِّدْ جنودَهُ يومَ خَطبٍ ... أن يُنادى فلا يَرُدَّ الجوابا ثم راح يتلمّس لغيابه الأسباب: لعلّه قد عاقه عائق؟ فلننتظر. ولكن طال الغياب، أفيكون نائماً لم يسمع؟ أيكون غائباً لم يعلم؟ فاجهروا بالنداء، فإذا لم يُجِب فاعلموا أن المصاب قد حلّ والمحذور قد وقع: لم يُعوِّدْ جنودَهُ يومَ خَطبٍ ... أن يُنادى فلا يَرُدَّ الجوابا علَّ أمراً أعاقهُ، علَّ خطباً ... قد عراهُ، لقد أطالَ الغيابا أيْ جنودَ الرئيسِ نادوا جَهاراً ... فإذا لم يُجِبْ فشُقّوا الجيوبا إنها النكبةُ التي كنتُ أخشى ... ...

وقصيدته في ذكرى الزعيم الشاب مصطفى كامل، أتلو عليكم ما أحفظه منها. لكن لا تقرؤوه قراءة، بل تصوّرا حافظاً بقامته المديدة وصوته الجهوريّ وإلقائه الرائع، تصوّروا أنكم تسمعونه منه وهو ينظر إلى الأمام كأنه يحاول أن يتعرف وجه حبيب وسط الزحام، فهو يحدّ النظر ويفتح العينين ويقول: إني أرى، وفؤادي ليسَ يكذِبُني ... روحاً يَحُفُّ بهِ الإكبارُ والعِظَمُ أرى جَلالا، أرى نوراً، أرى مَلَكاً ... أرى مُحَيّاً يحيّينا ويبتسمُ يُلقي الجملة ويُعلي صوته في الثانية، ثم يزيده علواً حتى انطلقت أساريره إذ وجد ضالّته وعرف محبوبه: الله أكبرُ، هذا الوجهُ أعرِفُه ... ... ........................... فكأنهم قالوا: ومن هو؟ فقال: ........................... ... هذا فتى النيلِ، هذا المُفرَدُ العلَمُ غُضّوا العيونَ وحيّوهُ تحيّتَهُ ... منَ القلوبِ إذا لم تُسعِدِ الكَلِمُ وأقسِموا أن تذودوا عن مبادئِهِ ... فنحنُ في موقفٍ يحلو به القَسَمُ ثم تحوّل إلى الزعيم الراحل، كأنه حاضر وكأنه يخاطبه، فقال: لبّيكَ نحنُ الأُلى حرّكتَ أنفسَهم ... لمّا سكَنتَ ولمّا غالَكَ العَدَمُ جئنا نؤدّي حساباً عن مواقفِنا ... ونستعدُّ ونستعدي ونَحتكِمُ وهل نسيتم موقفه من العدوان على طرابلس (في ليبيا) سنة 1912 لمّا هجم عليها الطليان، فكان شعره سلاحاً من أسلحة

المعركة وجندياً من جنود التحرير؟ أليس سلاحاً ماضياً قوله: قد ملأنا البرَّ مِن أشلائهم ... فدعوهم يَملؤوا الدّنيا كلاما وقوله لمن يُعَدّ عندهم من رجال الدين وهو عون للمعتدين وحلف للسارقين الغاصبين، كما يفعل جمهور الشياطين الذين يُدْعَون الحاخامين: باركَ المُطرانُ في أعمالِهم ... فسَلوهُ: باركَ القومَ علاما؟ أبهذا جاءَهم إنجيلُهم ... آمراً يُلقي على الأرضِ السلاما؟ * * * وانقضى الصيف وجاء أوان «التشكيلات»، أي تنقّلات المعلّمين التي يترقّبها كلّ معلّم ليعرف مصيره، فيتسابقون يوم صدورها إلى الصحف أو يزدحمون على أبواب وزارة المعارف. وكان نصيبي منها هذا الكتاب بإمضاء الوزير مظهر رسلان: إلى حضرة السيد علي الطنطاوي المعلم في مدرسة سلمية المحترَم: قرّرنا نقلكم إلى مثل وظيفتكم في مدرسة سَقْبا، فنرغب إليكم أن تباشروا وظيفتكم هذه حالاً والسلام عليكم. دمشق في 29 أيلول 1932. وزير المعارف. * * *

بردى والغوطة

-59 - بَرَدى والغوطة ختمت الحلقة السابقة بكتاب وزارة المعارف بنقلي إلى مدرسة سَقْبا في وسط غوطة دمشق. أفأمضي إليها من غير أن أقف معكم وقفة في دمشق؟ تجوزون الدّيارَ ولم تعُوجوا ... كلامُكمُ عليّ إذن حرامُ أفتريدون أن تحرمني دمشق مناجاتها وحديثها بعد أن حرمَتني الأيامُ رؤيتها وحرّمَت عليّ قربها؟ فيا مَن في دمشق، تنشقوا عبير الخلود من دمشق فما تلقون إن فارقتموها مثلها، مثل ميزانها وشاذِرْوانها (¬1)، وغوطتها وواديها، والأنهار السبعة التي تمتدّ على السفحَين في «الرّبْوَة» كأنها عنقود اللؤلؤ في جيد الحسناء، والبساتين التي يضلّ فيها النظرُ سكرانَ من الفتون، وهذي المنارات وهذه القباب، والمسجد الذي تكسّرَت على جدرانه أمواج القرون وهو قائم وارتدّت عنه العصور وهو شامخ، يروي لأبناء الأرض تاريخ الأرض مُذْ كان معبداً وثنياً، إلى أن صار كنيسة نصرانية، إلى أن غدا جامعاً إسلامياً. وهذا الجبل ¬

_ (¬1) الشاذروان عند منعطف الوادي في الطريق إلى دُمّر.

الذي يفترّ أبداً عن مثل ابتسامة الأمل على حين تعبس الجبال! لن تلقوا بعدها مدينة مثلها: ثيابها زهر، ونسيمها عطر، وحديثها شعر، وجمالها سحر، ومياهها خمر، خمر حلال لأنها جنّة المستعجل. إنها أقدم مدن الأرض العامرات؛ ماتت أخواتها من دهور وبقيَت سالمة، وأدركَتها سنّ الشيخوخة وهي شابّة، وكانت عروس الماضي وستبقى أبداً عروساً، فأمّوا آثارها وسائلوها تخبرْكم أخبار الأمجاد الخوالد، وترفّقوا في سيركم على ثُراها، فإنّ تحت كل حجر تاريخ بطولة، وفي ظلال كل دوحة قصة حب، وفي خرير كل ساقية قصيدة عبقرية لا تنتهي قوافيها. "دمشق التي تجمّع فيها ما تفرّق في مدن الأرض من الجمال: فالجِنان في غوطتها، والأنهار في ربوتها، والسهل في مزّتها، والبساتين تحفّ بها والجبال من حولها، وكل مجالي الوجود فيها، لا ينقصها إلاّ البحر، ومن قاسيونها ترى بحراً من الخضرة النضرة ما له من آخر" (¬1). "دمشق التي تحرسها «الرَّبْوَة» ذات «الشّاذِروان» وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبّح الله وتحمده على أن أعطاها شطر الحُسن وقسّم في بقاع الأرض الشطر الآخر. وما «الرّبوة» إلاّ حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأبهى العواطف التي عرفها قلب بشر، حلم يذكّر كل إنسان بليالي حبه وساعات سعادته، ثم يتصرّم الحلم ويستحيل ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث. الربوة، لحن علوي وعته الأرض مرة واحدة حين أُلقيَ في أذن دمشق! كانت دمشق مدينة عامرة قبل أن تولد ¬

_ (¬1) من كتابي «مقالات في كلمات».

بغداد والقاهرة وباريس ولندن، وقبل أن تشاد الأهرام ويُنحَت من الصخر وجه أبي الهول" (¬1) ففي أرضها من مدنيات مَن سلف طبقات تحت طبقات، والحضارة لها فيها جذور ممتدّة تحت الثرى وفروع باسقة في الهواء. * * * "وبردى؟ إنه سطر خطّته يد الله على صفحة هذا الكون ليقرأ فيه أولو البصائر فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل. واختصّ به العرب، فجمع فيه تاريخهم ببلاغة علوية معجزة. والله الذي جعل الآية المعجزة في القرآن هو الذي جعلها في الأكوان، والله الذي أعجز أئمة البلاغة وأمراء البيان بسور من آيات وكلمات وحروف، هو الذي أعجز أرباب الفكر وأصحاب العقول بسور من بحار وأنهار وكهوف. وما «بَرَدى» إلاّ سورة من قرآن الكون أجراه في الأرض الذي أنزل القرآنَ من السماء، وما إعجاز بردى في أنه يجري، فكل الأنهار تجري، ولكن في أنه ينطق وأن في كل شبر فيه تاريخ حقبة من العصور وقصة أمة من الأمم: أمم وُلدَت في حِجْره ورضعت من لبانه، وَحَبَتْ بين يديه، ثم قويَت واشتدّت وبنت فأعلت ... وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتَت واستكبرت، فأخذها الله ببعض ما اكتسبت، فإذا تلك العظمة والجبروت ¬

_ (¬1) هذه القطعة بين الأقواس من مقالة «دمشق» المنشورة في أول كتاب «دمشق، صور من جمالها وعبر من نضالها» (مجاهد).

ذكرى ضئيلة في نفس بردى وأنقاض هيّنة إلى جواره، وصفحة أو صفحات في كتاب التاريخ، وإذا بأمّة أخرى تخلفها في أرضها وترثها مجدها، ثم يكون سبيلُها سبيلَها. هكذا يدور الفلك في السماء ويدور السلطان في الأرض، فتنشأ من القبر الحياة ويغطي على الحياة القبر، والسلسلة لا تنتهي والناس لا يعتبرون، وبردى يتبسم ساخراً من غرور الإنسان ضاحكاً من جهالته، يحسب نفسه شيئاً، فيصارع الكون ويتطاول بعقله القاصر إلى الكلام في صفات الربّ العظيم، يقيس الخالق على المخلوق، ويزعم لأدبه وفنّه الخلود وما عمره إلاّ ساعة واحدة من عمر بردى! وما عمر بردى إلاّ ساعة من عمر الأرض، وما عمر الأرض إلاّ ساعة من الزمان المطلق الذي لا يعرف حقيقته إلاّ خالقه. بردى وهو يجري على الأرض رمز لتاريخ أمة العرب وهو يمشي في الزمان، ففي كل قسم من بردى فصل من التاريخ: يخرج بردى من بقعة في الزّبَداني منعزلة صعبة لا يبلغها إلاّ مَن كان من أبنائها عارفاً مداخلها ومخارجها، كما خرج العرب من هذه الجزيرة الصعبة المنعزلة التي لم تكُن يوماً إلاّ لأبنائها، والتي ردّت عنها الفاتحين كافّة وجعلت رمالها رمساً لكل من يجرؤ منهم على وطئها، حتى من كان من أبنائها تحت راية واحد من أعدائها كان مصيره مثل مصيرها وابتلعته هذه الجزيرة كما ابتلعت جيش كسرى في «ذي قار»، ثم لم يقنعها ما صنعت حتى ابتلعت دولته كلها في «القادسية» تحت راية القرآن، وقالت للدنيا: هذا جزاء من يطأ أرض الجزيرة!

ويسير بردى في غور عميق لا يخرج إلى هذه الجنّات الجميلة الفتّانة التي قامت على مقربة منه، يمشي في حضيض الوادي تلتطم مياهه وتصطدم كما كان العرب في جاهليتهم يقتتلون ويصطرعون، يشتغلون بأنفسهم عن العالَم من حولهم! حتى يبلغ بردى «الفيجة» فتصبّ فيه المياه العذبة الكثيرة من «عين الفيجة» التي يخرج ماؤها مندفعاً فوّاراً كأنه سيل ينحدر من قمة الجبل، كما خرج المسلمون يفتحون الأرض لينشروا فيها الخير الذي هبط عليهم من السماء في غار حراء. تنزل مياه «الفيجة» في بردى فتضيع قلّته وكدورته في كثرتها وصفائها، ويكون منهما نهر جديد يعدو عَدْواً ويهدر ويعلوه الزبَد، وقد كان -من قبلُ- يمشي بطيئاً، قد خالطه الطين، يسرع إلى أرض الأزهار والثمار، كما انصبّت على عقائد الجاهلية مبادئُ الإسلام الصافية السامية. وترى بردى يتجافى بعكَره عن مياه الفيجة، يجاورها ويأبى أن يختلط بها، فيسير النهر مئة متر ترى الماء من يمينه معكَّراً، ذلك ماء بردى، ومن يساره صافياً رائعاً لأنه من ماء الفيجة؛ كما تجافى العرب عن الإسلام وأبوا أن يتبعوه وكادوا لأصحابه، حتى صارت الجزيرة كبَرَدى فيها عكَر الشّرك وفيها صفاء التوحيد، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهليون المشركون المختلفون، ثم مكّن الله لرسوله فخضعت له الجزيرة التي لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته ولم تجتمع تحت راية أحد قبله، فقادها خلفاؤه إلى أرض التين والأعناب، لا لتستمتع بخيراتها بل لتمدّ بالخير أهلها، لاتريد أن تأخذ الغنى والترف منها بل لتقدّم

الحضارة المؤمنة إليها. ويبلغ بردى «بَسّيمة» و «الأشرفية» و «الجدَيْدة» فيجعلها الله به أجمل البقاع، يسقيها من مائه فيكون شكرها إياه خمائل قلّما رأى الراؤون مثلها، تعانقه السواعد الغضّة من أشجارها وتلثم خدَّه الروائعُ من أزهارها، وهو يلين تارة حين تُرى حصباؤه من صفائه، ويشتدّ أخرى فيُرغي ويُزبِد ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل، مرهوب ولكنه محبوب، كما كانت الأمة العربية المسلمة بعد أن بسطت سلطتها على العالَم القديم كله محبوبة مرهوبة، يحبّ الناس عدلها ويرهبون بطشها، أغاث الله بها أرجاء الأرض فكان شكرها إياه هذه الأموال التي فاضت بها خزائنها وهذا النعيم الذي تفيّأ ظلالَه أبناؤها. وكانت تستقيم لها الأمور فتلين حتى تجعل البلاد جنة يسعد بها أهلها، وكانت تغضب فيغضب لها الدهر وتسير إلى عدوّها فيسير في ركابها الموت. كانت تحمل في يمناها السعادة والهداية والسلام لمن أراد السلام، وفي يسراها الموت والخراب والشقاء لمن أراد الحرب، كما يحمل بردى عند بَسّيمة والجديدة الخير والنماء والطوفان والغرق. ويبلغ بردى الربوة ويمشي عند «النَّيْرَبين» وقد صار النهرُ الواحد سبعةَ أنهار، منها العالي الذي يمشي في عَدوة الجبل، والذي في السفح، والذي يقبع في قرارة الوادي، منها الكبير الممتلئ والصغير الفارغ، كما انقسمت الأمة إلى طوائف وحكومات منها القوي ومنها الضعيف، وإن كان من هذه الحكومات الصغيرة حكومة ردّت الصليبيين وغلبتهم في حطّين كحكومة صلاح الدين، وحكومة هزّت في «الحدَث»

دولة البيزنطيين وانتزعت من بين أيديهم النصرَ المبين" (¬1) الذي يحدّثكم عنه المتنبي (¬2). * * * ما انقسم بردى إلى السبعة الأنهار إلاّ ليسقي دمشق كلها وضواحيها جميعاً، غورها ونجدها، فأول ما ينفصل عنه نهر «يزيد» من عند «الهَامَة» (على بعد عشرة أكيال من دمشق)، يأخذ قسطاً محسوباً مقدّراً من ماء بردى ثم يسيل في مجرى حُفر له في الجبل، لا يميل ميل الأرض ببردى بل يبقى عالياً ليصل إلى الأحياء العالية من دمشق. ثم ينفصل «تُورا» بماء أكثر من ماء «يزيد» محسوب مقدَّر، فيجري تحت مجرى «يزيد»، وتنفصل الفروع الأخرى تِباعاً، كل واحد له مجرى معلوم يناله من ماء النهر قَدْر معلوم، يمشي ليسقي أراضي محدّدة معلومة. ترتيب قديم عظيم بدأ به الرومان وأتمّه وضبطه المسلمون، وسُجّل ذلك بوثائق واختُصّ به ناس يتوارثون معرفته؛ فلكل قرية ماؤها يصل إليها ولكل بقعة في ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس من مقالة لي نُشرت في «الرسالة» سنة 1353هـ. قلت: والمقالة في كتاب «دمشق» وعنوانها «نهر دمشق» (مجاهد). (¬2) في قوله: هل الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرفُ لونَها ... وتعلمُ أيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ؟ و «الحدث» قلعة حصينة قرب مَرعَش (إلى الشمال من حلب)، أوقع فيها سيفُ الدولة الحمداني بالصليبيين هزيمة منكرة في شعبان سنة 343هـ (مجاهد).

القرية حقها من هذا الماء، لا يطغى بستان على بستان لا يأخذ أحدٌ أكثرَ من حقه ولا يُحرَم أحد شيئاً من حقه. وأعجب من هذا التقسيم لماء القرى والبساتين قسمة الماء على حارات دمشق وأحيائها، فلكل حارة نصيب معلوم ثم يُوزّع هذا النصيب على البيوت، ومقاسم المياه تقوم في أزقّة البلد، ويسمّى المَقسم «الطالع»، وهو بناء مربّع بحجم البرّاد الكبير أو الخزانة، يقوم في زاوية الطريق، يصل الماء إليه من فتحة لها سعة محدَّدة ثم يُوزَّع على فتحات أصغر منها، كل واحدة توصل الماء إلى دار من الدور. ومن المنازل ما يأتيه الماء منها رأساً ومنها ما يكون ماؤه من فائض دار أخرى. وفي كل دار بِركة ينصبّ إليها الماء من «السّبع»، هذا اسمه، ولعلّه كان قديماً على صورة سبع يُنزل الماء من فمه كما ترى في صور «الحمراء» في الأندلس، ويفيض من «الهارِب» (¬1). ثم يخرج الماء من الدور إلى المجاري. وفي دمشق مجارٍ تحت الأرض مبنيّة، قديمة جداً، لعل منها ما يزيد عمره على ألف ومئتي سنة، ولا تحتاج إلى مضخّات تدفع ماءها كما هي الحال في البلاد الأخرى، لأن أرض دمشق مائلة من الغرب إلى الشرق، لذلك يجري فيها الماء جرياً طبيعياً. ¬

_ (¬1) في مقالة «طريق السعادة» المنشورة في كتاب «مع الناس» يقول الشيخ: "قعدت أمام البحرة وأردت أن تمتلئ ففتحت السباع كلها فتدفق الماء"، ثم شرح ذلك في الحاشية فقال: "البحرات: البِرَك التي تكون في بيوت الشام القديمة، فيصبّ الماء إليها من تماثيل من النحاس على هيئة السّباع، لذلك يُسمّى مصب الماء «السبع» ومجراه «الهارب» (مجاهد).

أما بردى فإنه يذلّ بعد عزّه، ويفتقر بعد غِناه، ويضعف بعد قوّته، ويصل في الصيف إلى دمشق قليل الماء معدوم الصفاء، حتى إن الهرّة تمشي في مائه فلا تغرق! ثم يخرج إلى الغوطة. ولقد جئت أحدّثكم عن الغوطة، ولا أظن أنكم تعرفون عنها إلاّ مقالة ياقوت الحموي في «معجم البلدان»، ياقوت الذي ساح في بلاد الله شرقاً وغرباً ورأى أقاليم الأرض، فما رأى مثل غوطة دمشق، وأقرّ أبا بكر الخوارزمي على أن متنزَّهات الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصُغد سمرقند، وشِعْب بَوّان، ونهر الأُبُلّة. أما سمرقند فلم أصل إليها، وأما شعب بوّان فقد خبّرَنا المتنبي أن: مَغاني الشِّعبِ طِيباً في المَغاني ... بمنزِلةِ الرّبيعِ منَ الزّمانِ ولكنّ الفتى العربيَّ فيها ... غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ ملاعِبُ جِنّةٍ لو سارَ فيها ... سليمانٌ لسارَ بتُرْجُمانِ وأما نهر الأبلّة (ويُدعى اليوم «أبو الخصيب») فسيأتي كلامي عنه حين أصل إلى ذكريات سنة 1936 لمّا ذهبت إلى البصرة مدرّساً للأدب العربي فيها. وأما الغوطة فهي: "بساتين متصلة حافلة بأنواع الثمار، تمشي فيها من طرَفها إلى الطرَف الآخر أكثر من تسع ساعات، وما تنفكّ تمشي في ظل شجرة مثمرة أو بجوار نبتة مُزهرة. ولو اجتمع على مائدة واحدة ما يخرج منها من الثمار لاجتمع أكثر من ثلاثمئة طبق، ما في طبق منها مثلُ ما في غيره من الطباق. إذا رأيت نساءها يَلُحْنَ لك من بعيد وهنّ ساربات خلال الأشجار أو منثورات وسط الحقول رأيت

ثياباً زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهنّ زهراتٍ من زهرها، على شمول ثيابهن وسترها. وتظنّ الربيع قد جاء في الخريف حين تكون الأرض مفروشة برقائق الذهب من صفرة الأوراق التي نثرها الخريف، كنّثار الدنانير على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الرائق اللون كأنه تماثيل في متحف فرعوني صُبّت من خالص العَسْجَد، ثم يأتي الشتاء فتخلع الأشجار ثيابها على حين يتدثّر الناس بالصوف، و «الحور» لم يبقَ منه إلاّ عيدان، فكأن «الحور» فتية أذاب جسومَهم الغرامُ فأضحوا من جَواه جلوداً على عظام. و «المشمشات» كأنهن معشوقات هجرَهنّ الأحبّة، و «الجوز» العاري يقف صابراً عظيماً في محنته كما كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون فلا يُرى إلاّ لابساً ثيابه، لا هو يلقيها عنه يضحك بالزهر إن أقبل الربيع ولا يأسى إن جاء الشتاء وبكت السماء، فهو الفيلسوف الذي لا يبالي من الحياة أفراحَها ولا أتراحها ولا يحسّ نِعَمها ولا نِقَمها. و «السواقي» وهنّ جَوارٍ من كل جهة إلى كل جهة، ساقية تجري عميقة بين الأعشاب لا يوصَل إليها ولا يُنال ماؤها وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر انحداراً لها صخب وهدير وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار، وصافية نقيّة وعكرة خبيثة، وسالكة طريقها قانعة بمجراها وكاسرة حدودَها عادية على غيرها ... فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس؛ كل يعمل على شاكلته وكل مُولٍّ وجهته ساعٍ إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها. والناس كالسواقي؛ ينزل ماؤها إلى الحضيض على أهون

سبيل ولكن لا يصل إلى المعالي إلاّ إنْ ضخّته مضخّات وبُذل فيه كبير النفقات. الناس كسواقي الغوطة، عميق النفس لا تدرك قرارته ولا تعرف حقيقته، وواضح بيّن ظاهرُه كباطنه وباطنُه كظاهره، وجيّاش صخّاب وصامت سَكوت، ونقيّ الطويّة وخبيث السريرة، ومنصف وظالم، وكبير وصغير ... وكل يستمدّ من غيره ويمدّ سواه. هذه هي الغوطة، إن رأيتها ففَتَنك جمالها وبهاؤها فقد فَتنَت مِن قبلك ملوكاً وقُوّاداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي لها مسرات. هذا، وقد وصفتها لك في الخريف، ولو رأيتها حين تهبّ عليها نسائم الربيع فتلبس حلّة بيضاء أو صفراء أو حمراء من الزهر، ويُترَع جوّها من زهرها العطر، إذن لرأيت جنة الدنيا وبهجة العمر" (¬1). * * * ولكن «الغوطة» التي قرأتَ وصفها لن تجد إن زرتَها الآن إلاّ نصفها، كانت حاضراً يُرى فصارت تاريخاً يُروى؛ لقد أكلَتها الدور الجديدة، أعني أقفاص الإسمنت التي تراكمت فصارت عمارات يركب بعضها ظهر بعض، ترتفع ارتفاع المنارات ويزدحم فيها الناس ازدحام السردين. فيا أسفي على دمشق، ويا حسرتا على أني لم أكُن شاعراً! ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس من مقالة «هذي دمشق»، وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعبر من نضالها» (مجاهد).

لقد سقى شعراؤنا بدموعهم أطلال الديار، بكوا الحفرة التي كانت حول الخيمة وآثار الموقد الذي كان لأهلها ... جاؤوا لبقايا حياة فقيرة في صحراء، فخلّدوها بقصائد حوّلَتها في خيال من يقرؤها إلى جنّات مسحورة في حُلم فاتن، فأين شعراؤنا اليوم يبكون «الميزان» الذي كان نزهة المشتاق وملتقى العشاق ومجتمَع الرفاق، يوم كنا نشدّ إليه أحمالنا فنبسط البُسُط ونمدّ الموائد وننصب السَّمَاوَرات، و «المِزّة» بسهلها من ورائنا و «الرَّبوة» ومدخل واديها من أمامنا عن شمائلنا، و «قاسيون» أجمل الجبال (حاشا أُحُداً وحِراء) يواجهنا، تنام في حضنه أحياء «المهاجرين» و «الصالحية» و «ركن الدين»، وتحت قدمَيه البساتين، أينما نظرت رأيت البساتين، وإلى أمامنا من بعيد قبّة النّسر ومنارات الأموي، أبهى المساجد وأقدمها وأعظمها (اللهمّ إلاّ الحرمين والأقصى الذي هو ثالثهما)، وتحت أرجلنا نهر «باناس» أصغر أبناء بردى وإلى جنبه أخوه «قَنَوات»، وعلى سفح قاسيون أكبر الإخوة «يَزيد» وتحته «تُورا»، وفي صدر الوادي «الشّاذِرْوان». أين هذه المغاني؟ لقد صار «الميزان» مستشفى المواساة. إنه يداوي الأجساد، ولكن ألم يكن الميزان يعالج بجماله النفوس فيكون منه دواؤها؟ وهل للنفوس شافٍ من أمراضها مثل الجمال؟ و «صدر الباز» الذي كنا نمشي إليه كل «صبحيّة» وكل «مَسَويّة»، المرج الأخضر منبسط من حولنا وبردى يتوثّب من نشاطه جارياً بين أيدينا وقاسيون يطلّ علينا، نضع البطيخةَ في جانب النهر حتى تبرد وإبريقَ الشاي على النار حتى يسخن، ونأخذ بأطراف الحديث حتى نتسلّى. أين «صدر الباز»؟ إنه المعرض الدولي

الدائم وملاعب كرة القدم. أخذوه منا وهو وقف إسلامي، مسجَّل في الدائرة العقارية محفوظة سيرته في صحف التاريخ! ذهبَت دمشقُ التي عرفناها وجاءت دمشق أخرى ننكر منها أكثر ممّا نعرف، وأصاب الغوطة «شلل نصفي» عطّل جانبها الغربي كله فعالجوه بالبتر، فغدت الغوطة اليوم شقّ غوطة الأمس! كان النصفان كأنهما شقيقان فلم يبقَ إلاّ شِقّ واحد، فلا دمشق دمشق ولا الغوطة الغوطة. فيا ليتني لم أقف اليوم عليها ويا ليتني مضيت قدماً إلى حديث القرية التي نُقلت إليها معلّماً في مدرستها! لقد أثارت هذه الوقفة أشجاني وجدّدَت أحزاني، وإن ضاق بالشباب يومه فرّ بالأمل إلى المستقبل، أما الشيخ فلا مهرب له إلاّ إلى الماضي. فلنعُد إلى الماضي الذي كنت أتحدّث عنه، إلى يوم تلقّيت كتاب الوزارة بنقلي إلى سَقْبا، ومَن كان منا معلّماً في قرية فنُقل إلى دمشق كان كأنه نال الأماني، ومن اقترب منها فقد دنت منه الآمال. كنا كلّنا معلّمين في المدارس الابتدائية: أنا وسعيد الأفغاني وسليم الزِّرِكْلي وأنور العطّار وجميل سلطان وزكي المَحاسني، ومن كان قبلنا ممّن هم مشايخنا أو مثل مشايخنا: الشيخ بهجة البيطار (مؤسّس دار التوحيد) والشيخ زين العابدين التونسي وعبد الغني الباجِقْني والشيخ (الطبيب) رفيق السّباعي وشيخ القرّاء الشيخ عبد الله المنجّد والشيخ سعيد البُرهاني وحسني كنعان، ومن جاء بعدنا بقليل كمحمود مهدي الإسطنبولي وحكمة هاشم، ومن بعدهم كأمجد الطرابلسي، هؤلاء وأمثالهم

كانوا معلّمي الابتدائية. فهل في أساتذة الجامعات اليوم مثل هذه «المجموعة»؟ وفي مصر كان المتخرجون في دار العلوم العليا يوم كنت طالباً فيها من خمس وخمسين سنة (سنة 1928) يُعيَّنون أولاً في المدارس الابتدائية، ولذلك قلت في إحدى حلقات برنامجي في الرائي إن عدد المدارس اليوم أكثر ولكن العلم فيها أقلّ، كنّا مثل البئر فوّهتها ضيقة ولكنها عميقة، فصرنا مثل الغدير واسع ولكنه ضحل. وكانت سَقْبا إحدى قرى أربع متجاورات: حَمّورية التي التصقت بسَقبا يوم كنت معلّماً فيها (سنة 1932)، وجِسرين وفيها مزرعة أستاذنا كرد علي، وكفر بَطْنا، وسقبا. وإلى جوار جسرين يجري بردى وقد استردّ بعض شبابه واستعاد شيئاً من قوّته، وعاد عند «جسر الغيضة» غزير الماء سريع الجري، وهو غير نهر «قُلَيط» الذي تجتمع فيه المجاري فيُصلِح الزرع ولكنه يُفسِد الهواء، وإن كان -لكثرة مائه- أقلّ تلوثاً من أمثاله. والقرى في الغوطة متوارية من الحياء وسط الأشجار، تتستّر بها حتى لا تُرى كالمخدَّرة الحيِيّة التي تخشى أن تلمحها عيون الرجال، فلا يبين منها إلاّ ذرى مآذنها. والمآذن أُحدِثت بعد عهد الرسول ‘ ولكنها صارت اليوم أمارة الإسلام في البلد الذي تقوم فيه، ولما غلب علينا الاهتمام بالمظهر أكثر من الجوهر بالغنا في التأنق في بنائها وزخرفتها ورفع ذُراها ... وإن كان المؤذّن لا يصعد إليها بل يؤذّن بالمكبّر من وسط المسجد. ودخل المبشّرون، أعني

أنه دخل المكفّرون المنصّرون من هذا الباب، فأقاموا الكنائس الضخمة في أحياء المسلمين ليُوهِموا الناس أن لهم فيها قوة وجمعاً، والمسلمون نائمون أو أنهم لا يبالون. * * * وكانت داري في شارع بغداد يوم كان طريقاً خالياً وسط البساتين ما على حاشيته شيء من هذه العمارات التي تقف اليوم، فكان البصر يسرح منه إلى الجبل لا يحجزه شيء. فإذا وصلت إلى آخره من جهة الشرق وجدتَه يقطع طريق دوما الذي يقف على حدود الغوطة كشارع السِّيف (الكورنيش) الذي يقوم على شاطئ البحر. وهل تبدو الغوطة من الجبل إلاّ بحراً أمواجه هامات الشجر، والعالي منها كأنه سواري المراكب الماخرة فيه؟ هناك قرب باب توما، أحد أبواب دمشق السبعة (وقد بقي سالماً إلى الآن ستة منها)، هناك كانت تقف سيارات الغوطة. وهي من سيارات فورد الصغيرة، في مقدمتها المحرّك عليه غطاؤه، وعلى جانبَيها رفارف يصعد الراكب عليها، دواليبها رقيقة، حجمها ضئيل لا تتسع إلاّ لأربعة ركاب. لم تكُن هذه السيارات الفخمة المنظر الجميلة المظهر، ولكنك إن ضربتَها بجمع يدك وكنت قوياً أثّرَت ضربتك في غطائها الرقيق، على حين كانت السيارة الأولى متينة قوية. كأننا كلما ازددنا علماً ازددنا غِشّاً! تقف حتى يجتمع الركّاب الأربعة، فربما طال وقوفك نصف ساعة وربما مشت بك بعد دقائق. وكان بين هذا الموقف وسَقبا

نحو سبعة أكيال، أي أقلّ ممّا بين الحرم في مكة ومنى، أو الحرم وجامعة أم القرى. * * *

جلسة في مقهى (في صورة قديمة)

-60 - جلسة في مقهى (في صورة قديمة) أعددت صحائفي وأمسكت قلمي لكتابة هذه الحلقة، فإذا الهاتف من إدارة الجريدة يخبرني بأن أحمد مَظهر العَظْمة الذي ذكرتُه في الحلقة الماضية قد تُوفّي من شهر، نبّأ بذلك رجل قادم من دمشق. فسالت مدامعي والله من حيث لا أشعر، ورأيت من خلال الدمع خيال تاريخ طويل مرّ بي في لحظة، تاريخ كله حياة ونشاط وإخلاص وعمل لوجه الله لا للناس، ومال ومنصب وشهرة وشِعر ونثر، كل ذلك غطّت عليه كلمة من ثلاثة أحرف، هي كلمة «الموت»! رحمه الله رحمة واسعة. أسّس «جمعية التمدّن الإسلامي» من خمسين سنة، وبقي قائماً عليها يحرّر مجلّتها ويكتب فيها، ويقوم على ناديها، ويدعو المحاضرين إليه ويحاضر هو فيه، وكان يدوّن بنفسه أسماء المشتركين في المجلة ويكتب هو عناوينهم بيده ويلصق الطوابع بذاته، ليوفّر على الجمعية أجرة موظف يتولى هذا العمل. يجيء الجمعية كل عشيّة في موعد لا يتأخر عنه ولا يتقدم، عادة استمرّ عليها هذه المدّة كلها حتى

بعد أن صار رئيس مفتّشي الدولة خلفاً لأخي نهاد القاسم، وهو منصب رفيع يراقب منه الوزارات كلها، له الحقّ أن يدخل عليها ويسمع كل شكوى منها ويحقّق فيها. ولمّا كان الانفصال عن مصر (وسيأتي حديثه) وأُلِّفت أول وزارة أعطوا الإسلاميين ثلاث وزارات، مع أن الإسلاميين هم دائماً أصحاب العمل، ولكن القاعدة في كل بلد في مثل هذه الحال هي: وإذا تكونُ كَريهةٌ أُدعى لها ... وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعى جُنْدُبُ وكان لي رأي في اختيار الوزراء الثلاثة، فأصررْتُ على أن يكون الأستاذ مظهر واحداً منهم. صار وزيراً ولكن لم يبدّل عادته، ولم يأخذ دقيقة من وقت الجمعية وإن لم يقصّر في أعمال الوزارة، وبقي يكتب العناوين ويلصق الطوابع، لم يبدّله المنصب ولم تغرره الوزارة لأنه كان أكبر من المنصب ومن الوزارة. عرفتُه من أيام المدرسة (وإن كان في السن أصغر مني وكان في الصفوف بعدي)، وكنا -كما عرفتم- نسكن في الدّيمَجيّة في طرف العُقَيبة وهو في السّمَّانة. وهذه أسماء أحياء صغيرة فقيرة (ولكنها ليست حقيرة) في دمشق. منها خرج أحمد مظهر العظمة وأنور العطار وشكري فيصل، ومن جوارها خرج أحمد حمدي الخيّاط، وأظن ولا أؤكد أن معروف الأرناؤوط وخير الدين الزّركلي منها. أما العلماء من هذا الحي فكثير. وكان إلى جنب داره مسجد صغير ما له إمام ولا خادم، فتبرع هو فكان مؤذّنَه وإمامَه وخادمَه، وكان يُقيم فيه صلاتَي المغرب والعشاء، حتى أيام تولّيه الوزارة، ولا يستنكف عن كنسه بنفسه.

عرفته في الطريق إلى مكتب عنبر، يمرّ يحمل كتبه وغداءه في «سَفَرْطاس» (وهو طبقان أو ثلاث بعضها فوق بعض يجمعها نطاق تُحمَل منه)، يمشي قُدُماً لا يكلّم أحداً، يحسّ من يراه أنه «ولد مؤدّب». ثم عرفته من قرب، وكان في صفّ محمد المبارَك الذي تخرج فيه جماعة من الأعلام: المبارك الذي عرفتموه هنا، وفؤاد جبارة الذي صار من كبار القضاة، وعلي أسعد الخانجي وكيل وزارة الخارجية، وأحمد الحاج عبود الفتيح الذي صار وكيل وزارة المعارف والأمين العامّ لرياسة الجمهورية، وداود تكريتي المحامي، ورفيق الفرّا ووجيه القدسي الأستاذان في الجامعة، ومختار وصفي الجابي الطبيب، وفريد السكري أمين سرّ الجامعة، وكلهم كانوا بعدي بثلاث سنوات، وقد مضى أكثرهم إلى لقاء ربه. وكان يخرج من كل صف (في كل سنة) جماعة من النابغين لا نكاد نجد مثلهم الآن، على كثرة المدارس وفشوّ التعليم. ولما ذهبنا إلى العراق مدرّسين في ثانوياتها سنة 1936 اجتمعنا فيها أنا وهو وأنور العطار رحمهما الله وأحسن خاتمتي. ولما كانت فورة القومية في العراق (1938 - 1939)، وكان الذي تولّى كبرها سامي شوكت المدير العام للمعارف، كان أحد ثلاثة ثبتوا على الدعوة الإسلامية وأبوا القومية التي تنافيها وتخالفها، فنفوهم إلى بلاد الأكراد: مظهر إلى إربل (وتُسمّى اليوم إربيل)، وعبد المنعم خلاّف إلى السليمانية، وعلي الطنطاوي إلى كركوك. فاستقال عبد المنعم وعاد إلى بلده مصر، وذهبنا نحن ثم استقلنا. سبقته أنا إلى العودة إلى الشام وبقي بعدي أشهراً حتى قامت الحرب فرجع.

رافقته في الصغر وفي الكبر، وفي الحضر وفي السفر، وفي الصفو وفي الكدر، فما رأيت فيه إلا مسلماً تقياً، وصديقاً وفياً، ومؤمناً قوياً، ما بدّلته الليالي ولا غيّرته المناصب ولا غرّته الدنيا، أصيبَ من سنين طويلة بمرض عصبيّ مثل الفالج لا أعرف اسمه، فما منعه من العمل ولا من الكتابة. وكان آخر عهدي به صيف سنة 1398، ما رأيته بعدها ولا رأيت الشام. رحم الله أحمد مظهر العظمة وأنور العطار، ورفاقنا الذين تلاحقوا حتى لم يبقَ منهم إلاّ الأقل: يودّعُ بعضُنا بعضاً ويَمضي ... أواخرُنا على أثرِ الأوالي وغدا مَثَلي قول شوقي: مالَ أصحابُهُ خليلاً خليلا ... وتولّى اللّداتُ إلاّ قليلا نصَلوا أمسِ من غبارِ الليالي ... ومضى وحدَهُ يحثُّ الرّحيلا اللهم اجعله رحيلاً إلى رحمتك لا إلى عذابك، اللهم اغفر لي ولمن قال: آمين. * * * أعود إلى ذكرياتي؟ وأنّى لي أن أعود؟ لقد عزفَت نفسي عن حديث الذكريات. بلغَت الحلقات التي نُشرت ستّين وأنا لا أزال في سنة 1932، لا أزال في أول الطريق ولا تزال أمامي ذكريات نصف قرن كامل فيها أكبر أحداث حياتي، ولقد تبدّلَت فيها الدنيا من حولي، فهل أعيش حتى أسجّلها؟ وإن عشت فهل أذكرها، وما عندي شيء مكتوب أرجع إليه وأعتمد عليه؟ وإن ذكرتها

وسجّلتها فما حاجة القرّاء إليها وما استفادتهم منها؟ بل ما انتفاعي أنا بها في آخرتي إذا ودّعت دنياي؟ يا أخي الأستاذ رئيس التحرير، لقد مر وقت طويل على وضع استقالتي بين يديك، أفلا ترى أن من الخير لي وللقراء أن تقبلها وأن تعفيني؟ لقد أخذت الآن ورقة وكتبت أسماء من كانوا هم رفاقي على طريق الحياة، من كنت أشاركهم حلوها ومرّها، من كنت ألقاهم ويلقونني وآنس بهم ويأنسون بي، ومن كنت أزور من أساتذتي ومشايخي وغيرهم من أولي الفضل عليّ، ومَن كان يخطب معي في الاجتماعات التي كنت أخطب فيها ومن كان يكتب في الصحف والمجلات التي كنت أكتب فيها، ومن كان على مشربي أؤيّده ويؤيّدني ومن كان خصماً أحاربه ويحاربني ... كتبت أسماء مئة وتسعة وسبعين ممّن خطرت أسماؤهم على بالي، كان كل واحد منهم جزءاً من الدنيا التي أعيش فيها، ونظرت فوجدت أنه لم يبقَ منهم إلا ثلاثة وعشرون؛ يتساقطون واحداً بعد واحد يوماً بعد يوم، فلماذا أنتظر حتى يصبح القرّاء في يوم ثلاثاء فيأخذوا «الشرق الأوسط» فلا يجدوا حلقة الذكريات، بل يجدوا اعتذاراً عن عدم نشرها لأن كاتبها لم يَعُدْ يستطيع أن يوالي كتابتها فقد أدركه الأجل: ما زالَ يدأَبُ في التاريخِ يكتُبُه ... حتى غدا اليومَ في التاريخِ مكتوبا وربما كُتبت يومئذ في رثائي فصول ومقالات، وربما أثنوا

عليّ بما لست له بأهل أو هجوني بما لا أستحقّ، أو أعرضوا عني فأهملوني حتى نسوني ... ما الذي ينالني من ذلك كله؟ ماذا ينفع الميتَ من الثناء وماذا يضرّه من الهجاء، وماذا يؤثّر فيه الإهمال والنسيان؟ إنّ دعوة صالحة من قلبٍ حاضر من أخ مؤمن بظهر الغيب، خير للميت من ديوان كامل من عبقري الشعر في رثائه، ومن مئة خطبة في تأبينه وعشرة كتب في دراسة أدبه. * * * وقف هنا القلم وجمد الفكر، ولم يبقَ عندي ما أكتبه، فنحّيت صحيفتي وقعدت. وكانت أمامي بنتي ترتّب أوراقاً لي قديمة فاستخرجَت هذه الصورة وجعلَت تتأملها وتسألني عنها، فأخذتُها فإذا فيها تتمّة الموضوع، صورة أُخِذت في الأيام التي أكتب عنها الآن (مطلع الثلاثينيات)، المكان الذي أُخذت فيه هُدِمَ ولم يبقَ له أثر: مقهى في شارع رامي في دمشق، ذهب وقامت في موضعه عمارة كبيرة، والناس الذين بدوا فيها ماتوا ولم يبقَ إلا اثنان منهم، والدنيا التي كنّا نعيش فيها يومئذ تبدّلَت وصارت دنيا جديدة فيها ناس جُدُد. إنها تمثّل ما يملأ نفسي من صور ورأسي من أفكار وأنا أكتب هذه الحلقة، وما أظنني بحاجة إلى أن أقسم لكم أن الذي قلته هو الحقّ، ما تخيلت ولا جئت بهذا الكلام صنعة أديب بل هو الذي كان، ورُبّ مصادفة كما يقولون خير من ميعاد. أمسكت الصورة أنظر إليها وأفكّر: أتكون صورة على الورق أبقى من حياة إنسان على الأرض؟ أيموت الإنسان ويُهدَم المكان

وتثبت الصورة؟ نعم، ولكنْ في هذه الدنيا، والدنيا -كما تعرفون- مؤنَّث الأدنى، أمّا الحياة العليا فهي الحياة الأخرى {وإنّ الدّارَ الآخِرةَ لَهِيَ الحَيَوانُ (أي الحياة) لَوْ كانوا يَعْلَمون}. وأنّى لمن لا يؤمن بالوحي أن يعلم بما لا يعرفه العقل إلا من طريق الوحي؟ أن يعلم بما وراء المادة التي حصر فكره فيها وقصر علمه عليها؟ وإن وراءها لَعوالِم أكبر وأكثر، لا يعلمون علمها لأنهم أعرضوا عن مصدره ولم يُقبِلوا عليه، فعاقبهم الله بكفرهم جهالة بتسعة أعشار ما هو موجود وغروراً يظنّون به أنهم يعلمون، وما يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. وأطلت النظر في الصورة فأثارت في نفسي خواطر وأفكاراً وذكرياتٍ، لو كنت أقدر على إبراز الأقلّ منها، وهيهات! لقد قلت مرة: يُطِلّ بي الفكر على آفاق واسعة، وتنبلج في النفس أصباح مشرقة، فأجد في نفسي عشرات من الصورة المبتكَرة وفي رأسي عشرات من الأفكار الجديدة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيّدها بالألفاظ وأغُلّها بالكَلِم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم ولا أنا سجّلتها في مقالة صنعت منها تحفة أدبية. ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكان شيئاً عظيماً، ولكني لا أقدر ... ولا أصبّ في مقالاتي إلا حثالة أفكاري؛ تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجفّ فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي! ويتفجّر الينبوع في نفسي ويتدفّق ويسيل، ثم ينضب وينقطع فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي! وينبثق الفجر في نفسي ويقوى ويشتدّ، ويكون الضحى والزوال، ثم

يعود الليل فآخذ قبضة من ظلام الليل لأكتب منها مقالة عنوانها: «ضياء الفجر»! (¬1) * * * وانظروا الآن إلى مَن في الصورة (¬2): الأول (من اليمين) الدكتور منير العجلاني أطال الله عمره، والثالث كاتب هذه السطور، أما الثاني فهو أنور العطار. هل قرأتم المقدّمة التي كتبتُها سنة 1948 لديوانه «في ظلال الأيام»؟ إني كتبت المقدّمات لأكثر من خمسة وعشرين كتاباً، للأستاذ الكبير الشيخ أبي الحسن الندوي وللأستاذ الداعية الشيخ محمد محمود الصواف وللأستاذ المربّي محمود مهدي الإسطنبولي، وأمثالهم من الأفاضل الذين شرّفوني فكلّفوني أن أقدّم كتبهم، لا لأعرّف بهم ولا لأرفع من أقدارهم، فكلّهم معروف بالفضل عالٍ في القدر، بل ليكون لي حظّ اقتران اسمي بأسمائهم. وأكثر هذه المقدّمات ضاع مني لم أُبقِ صورة منه عندي، ولو كنت أحصيتها وجمعتها، أو لو أن أحداً يصوّرها ويبعث إليّ بها لوضعتُها في كتاب أسمّيه المقدّمات (¬3)، يكون فيه تعريف بهذه الكتب التي قدمت لها، ابتداء بكتاب «المطالع النّصرية» الذي كتبت في أوله ¬

_ (¬1) من مقالة نُشرت في العدد 209 من «الرسالة» الصادر في 26 ربيع الثاني 1356 هجرية. (¬2) الصورة في جزء الصور والفهارس (مجاهد). (¬3) صنع ذلك أخونا مجد مكي؛ جمع من المقدّمات التي كتبها الشيخ لسواه من المؤلفين ثلاثاً وعشرين مقدمة، وأعدّها في كتاب نشرته دار المنارة باسم «مقدمات الشيخ علي الطنطاوي» (مجاهد).

ترجمة مؤلّفه لسان الدين الخطيب سنة 1347هـ. ولكنّ أوسع هذه المقدمات وأقربها إلى الأدب: مقدّمة ديوان أنور العطار (في ظلال الأيام) ومقدّمة «مكتب عنبر» للأستاذ ظافر القاسمي. أنور العطار صديق العمر، رفيق المدرسة، شقيق الروح. "لم يكن يرانا الناس إلاّ معاً، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي" كما قلت في مقدّمة الديوان. وهو شاعر مبكّر النبوغ؛ لمّا أقام أستاذ الجيل محمد كرد علي حفلة تكريمية للشعراء الأربعة الشباب من إخواننا: أنور وجميل سلطان وزكي المحاسني وعبد الكريم الكرمي، وكانوا وكنا طلاباً في الثانوية، ألقى أنور قصيدة عنوانها «الشاعر» لو قالها الآن واحد من أكابر الشعراء لعُدّت من جيّد ما قال، وله قصيدة في لبنان ما أظن أنه قيل فيه أنعمُ منها ديباجة ولا أمتن، ولا أحلى صوراً ولا أجود تشبيهاً واستعارة، على طريقة شعراء العربية لا أصحاب هذا الشعر الجديد. وله في بردى قصيدة مثلها. وشعره في «الزهراء» (في أواخر العشرينيات، يوم كانت الزهراء مجلة الخاصّة من الأدباء) وفي «الرسالة» من يوم أنشئَت الرسالة. وكان له أسلوب في الشعر كما كان لصاحبه (وسامحوني إن نوّهت بنفسي) أسلوب في النثر، لم يقلّدا فيه أحداً وقلّدهما فيه كثير. ولكنه -على هذا كله- لم يُنتخَب عضواً في المجمع العلمي ولا في المجلس الأعلى للآداب (أو ما أدري ماذا كان اسمه)، مع أنه انتُخب عضواً فيهما وفي أمثالهما مَن هم دونه؛ ذلك لأن الانتخاب للمَجامع وللمجالس وللجوائز، كل ذلك يُبنى على الصداقات الشخصية أكثر ممّا يُبنى على الكفايات العلمية والأدبية. فمن كان معتزلاً

عاكفاً على كتبه قانعاً من الحياة الاجتماعية بمجالسة إخوانه من أهل العلم والأدب، لم يذكره أحد، إنّما يَذكر من بأيديهم أمر المجامع والجوائز والرحلات إخوانَهم وأصدقاءهم، أو من له فضل عليهم يحبّون أن يكافئوه به أو من يريدون أن يسلّفوهم يداً يأملون أن يكافئوهم يوماً بها؛ فالمسألة إذن شخصية اجتماعية لا مسألة كفايات ولا استحقاق. * * * والرابع في الصورة هو الأستاذ عزّ الدين (علم الدين) التّنوخي. وقد تَقدّم ذكره عند الكلام على الأستاذ عارف النكدي، وقد صحبتُه أمداً طويلاً وعندي من أخباره وأخبار صديقه ورفيقه الشيخ محمد بهجة البيطار الكثير الكثير، أرجو أن أروي يوماً بعضه. وهو عالِم بالعربية كاتب شاعر، درس حيناً في الأزهر وحيناً في فرنسا ونال منها شهادة في الزراعة، يُحسِن الفرنسية، اشتغل بالتدريس في العراق وفي سوريا، وهو الذي وضع كلمة «الفيزياء» للفيزيك وكلمة «برمائية» لحيوانات البر والماء، ووضع مصطلحات كثيرة، وكان من أقدم من ألّف الكتب المدرسية. وقد ترجم أحسن كتاب أعرفه عن حياة التلاميذ هو «قلب الطفل» للمؤلف الإيطالي الذي نسيت اسمه مع أني قرأت الكتاب مرات (¬1). وأسلوبه فوق متناول التلاميذ، ولو وجدت الهمّة ¬

_ (¬1) اسمه إدموند دي أميتشيس، وقد نَشر كتابه هذا في ميلانو عام 1886، وللكتاب ترجمة أخرى نُشرت في مصر منذ نحو خمسين سنة ضمن سلسلة الكتب الألف التي أصدرتها وزارة التعليم العالي بمصر في الخمسينيات (مجاهد).

وأذن لي ورثة الأستاذ لأعدت كتابته بأسلوب أوضح وأسهل، لا أبلغ ولا أجمل، ثم اقترحت أن تنشره وزارات المعارف في البلاد العربية بين التلاميذ، على أن يُعرَّب (أيضاً) فتُبدَّل الأسماء الإيطالية فيه بأسماء عربية، وأن يعلَّق عليه تعليقات يسيرة تقرّبه من حياة التلاميذ في مجتمعاتنا. كان الأستاذ التنوخي أمين سير (أي ناموس أو سكرتير) المجمع العلمي في دمشق ومن مؤسّسيه، وقد ترك كتباً نافعة منها تعليقه أو شرحه لكتاب «الإيضاح» للقزويني في البلاغة، وكتاب «إحياء العَروض»، وهو أحسن كتاب أعرفه في علم العروض، إذا ضُمّ إليه ما كتبه صديقنا الأستاذ ميشيل الله ويرْدى (ومعناها «ميخائيل عطاء الله») والرقم (أي النوتة الموسيقية) التي وضعها لبحور الخليل كان منها «مرشد العروض». والأستاذ التنوخي صافي القلب صادق الودّ سهل المعاشرة، حاضر الجواب بعيد عن التكلّف، مثله في ذلك مثل الدكتور عبد الوهاب عزام. * * * والخامس في الصورة: الأستاذ سعيد البحرة، كان أستاذ الفلسفة وعلم النفس في مكتب عنبر، أي المدرسة الثانوية في دمشق. والسادس هو الأستاذ كامل الكيلاني، وكان يوم أخذ الصورة في زيارة لدمشق، والولد القاعد على الأرض هو ابنه. وهو أديب مصري معروف كان من أوائل من عُني بأدب الأطفال، ألّف لهم القصص الكثيرة المطبوعة آنَق طبع على أجود ورق،

ولكنها -مع الأسف- مملوءة بأخبار الجنّ والعفاريت وما يشبه ما يُعرَض على الأطفال كل يوم في الرائي من «الصور المتحركة»، التي تسلّي الأولاد وتملأ فراع وقتهم، ولكني أظنّ أنها تفسد عقولهم. وقد طالما تكلمت في ذلك مع الأستاذ كامل، في دمشق وفي ندوته الأسبوعية المعروفة في مصر، فكان يُدلي بحجج ويسوق أدلة على أنها تقوّي الخيال وتُعين على النبوغ في الأدب وفي كتابة القصة خاصّة، وما اقتنعت بما قال. والأستاذ كامل لم يقتصر عمله على أدب الأطفال، بل ألّف في التاريخ ودرّس وأفاد، وكان عالماً أديباً فاضلاً. وسأتكلم يوماً (بمناسبة ذكر ندوته الأسبوعية) عن الندوات التي أعرفها: هنا كندوة الأستاذ الأديب عبد العزيز الرفاعي، وفي الشام كندوة الأستاذ محمد كرد علي، والأمير طاهر الجزائري (حفيد الأمير عبد القادر)، ومصطفى بك بَرْمَدا عميد القضاء في الشام، والدكتور أحمد حمدي الخياط شيخ الأطباء، وأخي نهاد القاسم الذي سبق ذكره، وغيره ممّن أرجو أن أوفق إلى الكلام عنهم. والسابع هو الشاعر الصافي النجفي، الذي عاش بالشّعر يأكله ويشربه لا يكاد يبالي طعاماً ولا شراباً غيره، وينام معه ولو في المقاهي أو فنادق ما لها من صفات الفنادق إلا اسمها، ويلبسه ولو أسمالاً بالية وعباءة عتيقة، يصبح فينظم ويُظهر فينظم ويُمسي فينظم، ويرتضي حياة البؤس ولكنه يَنظم في وصفها شعراً يحوّل بؤسها نعيماً. وكذلك يصنع الأدب ويصنع الفنّ: فالعجوز التي جفّ جلدها وتجعّد وجهها ليست جميلة، ولكن صورتها المتقَنة غاية في الجمال. وشِعر الصافي -على كثرته وصدق صوره- شعر

مادّي يمسّ أطراف الحس ولا يهزّ قرارة النفس، أرْضيّ لا يسمو سموّ الشعر، ضعيف النسيج لا يثبت على مرّ الدهر، وفي بعضه ما لا يرضى عنه علماء العربية وأئمة البيان. والثامن: شاعر من شعراء الشام لم يتجاوز اسمُه حدودَها ولا يُعرَف فيما وراءها، اسمه فايز سلامة، كان يُدعى (أو يدعو نفسه) «شاعر الصعاليك»، ينظم في أغراض نقدية اجتماعية محلّية. * * * وبعد، فسامحوني يا أيها القرّاء أن أغرقت صباحكم بالدموع واستهللت يومكم بالأحزان، فليس الضحكُ الأصلَ في الحياة ولكن البكاء. يُولَد الطفل باكياً ويودّعه الناس إذا مات باكين، لذلك كانت أخلد القصص الأدبية وأعظمها هي المآسي، وكانت النغمات الحزينة أعمق في النفس أثراً، وكانت المراثي الصادقة أشرف وأكرم من المدائح: ضحِكنا وكانَ الضحكُ منّا سفاهةً ... وحُقَّ لسكّانِ البسيطةِ أن يبكوا ولو أن المعرّي قال «جهالة» بدلاً من «سفاهة» لأصاب الحقّ، ففي الحديث: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً». اللهم لا تجعلنا من الضاحكين في الدنيا الخاسرين في الآخرة. * * *

في مدرسة سقبا

-61 - في مدرسة سَقْبا بدأت فصلاً جديداً من سجلّ حياتي. وحياةُ الإنسان فصول كفصول المسرحية، تتبدّل فيها المشاهد ويتغير الحوار ولكن الموضوع واحد. لقد صرت أغدو كل صباح على سقبا وأروح منها كل مساء. وسَقْبا إحدى قرى أربع متجاورات: هي وحمورية وكفر بطنا (¬1) وجِسرين، في إقليم من الغوطة كان يُسمّى «إقليم داعية»، يسقيه فرع من فروع بردى اسمه الداعياني. وهذه النون موجودة في النسبة إلى أكثر قرى الغوطة، وأظنها نسبة آرامية، وأكثرها ذكره الأولون في أشعارهم وكتبهم، وما منها إلا وقد خرج منه علماء وأدباء نُسبوا إليه. وإذا رجعتم إلى معجم البلدان لياقوت رأيتم أسماءها وأسماءهم: سَقبا وكفر بَطنا وكفر سوسية ¬

_ (¬1) «الكَفْر» بمعنى القرية، وفي الشام أمكنة كثيرة بهذا الاسم: كفر بطنا، كفر يَبوس (منسوبة إلى اليبوسيين)، كفر طاب، كفر سوسية، وقد نُسب إليها جماعة من الأعلام (والنسبة إليها «كَفَرْسوسي» ويقال اليوم «كَفَرْسوساني») وآخر من عرفنا من العلماء من أهلها الشيخ محمود العطّار، وقد صارت الآن حياً من أحياء دمشق. وفي مصر كفر الزيات وغيرها.

والمَنيحة (ويدعونها اليوم المليحة، ويزعمون أن سعد بن عبادة مدفون فيها مع أنه مات في المدينة) وزَمَلكا ومَسرابا، وهي حديقة ورد يُزرَع فيها الورد الجوري الأحمر الذي لا نظير له في لونه ولا في عطره (والجوري منسوب في الأصل إلى مدينة قرب شيراز اسمها جور) وبَلاط (وكانت تُدعى بيت البلاط) وداريّا بلد العنب الفاخر ويُنسَب إليها أبو سليمان الداراني (¬1)، وقرى أُخَر ما كتبت هذا الفصل لإحصائها ولا لوصف جمالها وبهائها، ولا لرواية ما قيل فيها من الشعر ومن خرج منها من العلماء، إنما جاء ذكرها عرَضاً. وكبرى هذه القرى دُوما التي يسمّيها ياقوت «دومة»، وقد اتصلَت اليوم بدمشق، أما القرى القريبة منها (جوبَر وكفر سوسية والمِزّة والقَدَم والقابون) فقد أصبحَت أحياء في دمشق. والطريق الذي كنت أسلكه كل يوم إلى سقبا ومنها لا يزيد طوله عن سبعة أكيال، أي ربع طول مدينة جدّة، والسير فيه يُنعِش النفس ويمتع البصر، ولكنه يخضّ البدن ويُقَضقض العظام، لأنه طريق وعر لا تمشي فيه السيارة مشياً بل ترقص رقصاً، ولكنه رقص بلا اتّساق وعلى غير إيقاع. أمّا متعته فلأنه يضطجع على بساط ممدود على هذه الأرض المبارَكة، على جانبَيه الأشجار صفوفاً وراء صفوف لا يدرك البصر آخرها، كأنها الجند قامت تحيّي القادمين، تظلّل حواشيه فروعُها المزدانة ببارع الزهر أو يانع الثمر، وتمرّ بها في السيارة متقدماً فتبصرها تمرّ بك هي ¬

_ (¬1) قلت: وإليها تُنسَب عائلتنا؛ زعموا أن جداً لنا كان يسكن حي الميدان في دمشق تزوج امرأة من داريّا، فنَسَب أهلُ الميدان أولادَه منها إليها فقالوا: أبناء «الدّيْرانيّة»، فمشى الاسم، والله أعلم (مجاهد).

راجعة، كالراكب في القطار يرى المزارع والقرى تمشي ويرى نفسه قاعداً، وكالواقف في المصعد يبصر البيوت هي التي تنزل لا يشعر أنه هو الذي يصعد. والحركة والسكون من الأسرار التي نظنّ أننا كشفناها وما كشفناها، ولو لم يكن في الفضاء إلا نقطتان تتحركان فكيف تعرف أي النقطتين هي الثابتة وأيتهما المتحركة؟ كيف؟ إنك لا تميّز فيهما الحركة من السكون إلا إن كان أمامك نقطة ثالثة ثابتة تقيسهما بها وتنسبهما إليها، فالحركة والسكون أمران نسبيّان لا نعرف «ماهيّتهما» ولا ماهيّة المكان المطلَق ولا الزمان. * * * ولمّا بلغتُ سَقبا تركت السيارة ومشيت في مسالك بين البساتين، ثم في حارات بين البيوت، حتى بلغت ساحة صغيرة في طرق القرية. أمّا الساحة الكبرى فكان فيها السوق، ووسط السوق المسجد، وكانت المدرسة في هذه الساحة الصغيرة، وهي حسنة البناء رحبة الفناء، في غرفة منها قبر عالٍ يزعمون أنه قبر عبد الله بن سلام. وعبد الله بن سلام مات في المدينة، ولكنك إن قلت هذا لهم كرهوه وغضبوا منه، كما يغضب أهل دمشق إن قلت لهم إن القبر القائم في الجامع الأموي في غرفة من الرخام بلغت الغاية في الإبداع وفوقها قبة ما رأيت قبة أجمل ولا أرشق منها، يغضبون إن قلت لهم إنه ليس قبر يحيى بن زكريا. ولمّا ألّفت كتابي عن «الجامع الأموي» رجعت إلى ما أعرف من كتب التاريخ وبعثت

من سأل علماء النصارى من جميع الفرق، فما وجدت دليلاً ولا شبه دليل على أنه قبر يحيى عليه السلام، إلا خبراً عند ابن عساكر ما له سند ولا عليه دليل ... وكما يغضب أهل مصر إن قلت لهم إن رأس الحسين ليس مدفوناً في مسجده المعروف في القاهرة، أكّد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وجاء بالأدلة عليه. كما أن في دمشق قبراً في آخر شارع خالد بن الوليد مكتوباً على باب تربته أنه قبر عمر بن عبد العزيز، مع أن عمر مدفون في دير سمعان الذي قيل فيه: يا ديرَ سمعانَ قُل لي: أينَ سمعانُ؟ ... وأينَ بانوكَ؟ خبِّرني: متى بانوا؟ وأينَ سكّانُكَ اليومَ الأُلى سلَفوا ... قد أصبحوا وهُمُ في التُّرْبِ سكّانُ وقَفتُ أسألُهُ جهلاً ليُخبِرَني ... هيهاتَ مِنْ صامتٍ بالنّطقِ تبيانُ أجابَني بلسانِ الحالِ: إنهمُ ... كانوا، ويكفيكَ قولي: إنهم كانوا وما كنت أعرف مكانه على التعيين حتى علمت من أيام من الأستاذ خالد الحراكي (والد زوج حفيدتي) أنه إلى جنب بلدهم: مَعَرّة النُّعمان (¬1)، مع أن المشهور المتعارَف أنه بقرب حمص. * * * ¬

_ (¬1) المعرة التي يُنسَب إليها أبو العلاء، ولعله اسم آرامي بمعنى المغارة=

وكان في المدرسة ثلاثة صفوف ولها مدير ومعلّمان وآذِن (فرّاش) (¬1)، فلما جئتها جاؤوا كلهم معي، ولمّا دخلت بابها دخلوه معي لأنهم كانوا جميعاً في ثيابي، فأنا المدير وأنا المعلّمان وأنا الفرّاش! فكأني ما جئت مدرسة سقبا بل دخلت بهو المرايا في «فرساي»، وما أكثر الذين يعيشون وكأنهم في قصر فرساي في بهو المرايا، حيثما تلفّت الواحد منهم ما رأى إلاّ نفسه! فكيف أقسّم نفسي أنفساً ثلاثاً فأعلّم ثلاثة فصول في وقت معاً؟ أنا بحمد الله مسلم عاقل لا أستطيع أن أفهم كيف يكون «1+1+1=1» كما يزعم القائلون بالتثليث، فماذا أعمل؟ كنت أعرف من أهل سقبا رجلاً طالب علم كان «مزيّناً» اسمه الذي نعرفه به أبو رضا السّقباني، والمزيّن في الاصطلاح الشامي هو الذي يختن الصبيان، فسألتُه فدلّني على شيخ كتّاب في القرية اسمه الشيخ حمزة، وكان أشلّ يعمل بيد واحدة ولكنه رجل صالح يُحسِن تعليم القراءة والقرآن، وأنا لا أحتاج إلى يده ولكن إلى عقله ولسانه، وأحتاج قبلهما إلى قلبه وإيمانه، لأن أكبر ذنب في التربية والتعليم نرتكبه (والله سائلٌ مرتكبَه عنه ومجازيه به) ¬

_ = وفي الغوطة أسماء فينيقية مثل دمر وأصلها دامور وتامور باسم إله لهم مزعوم، وبلاط (بالبيت)، ومثلها فليطة ومعربا ومعناها المغرب، وأسماء حثية مثل الغوطة وقَطَنا (وأصلها كنا وكنتا)، وأسماء يونانية الأصل مثل الفيجة ومعناها الينبوع، ورومانية الأصل مثل قلمون وبانياس، وما أصله فارسي مثل جوبر (جويبار) ومنين. (¬1) نحن نقول له في الشام الآذن، وهو أقرب إلى مصطلح الأقدمين، وفي مصر والسعودية يقولون فرّاش.

هو أن نسلّم الولد أو نسلّم البنت، وقلوبهما صفحات بيض، إلى معلّم لا يخشى الله أو معلمة لا تتقيه، فينقشا عليها سطور الشكوك والعصيان بدلاً من كلمات الاستقامة والإيمان. والمعلّم مهما بلغ من سعة العلم وكِبَر الشهادات وبلاغة اللسان لا يكون في خير إن لم يكن له -مع ذلك- المعرفة بالشرع والإخلاص لله. جئت به وسلّمته الصفّ الأول (أي تلاميذ السنة الأولى)، وأذنت له أن يجيء معه بتلاميذ الكتّاب وأن يأخذ منهم (بموافقة أوليائهم) ما كان يأخذه في الكتّاب، واشترطت عليه إشرافي على عمله، فقبل الشرط، وتوجّه حيث وجّهتُه فبدّل طريقته في التعليم. وكان ديّناً ذكياً يحب أن يتعلم كما يحب أن يعلّم، فاستفاد وأفاد. وما فعلته عن أمري لكن بعد استئذان وزارة المعارف، أعني المفتّش العام فيها، وهو العالم المربي الفاضل الذي كان أستاذنا في السلطانية الثانية سنة 1919 مصطفى تمر، أحد الجنود المجهولين في عالم التربية والتعليم، وليس يضره إن جهل الناس قدره وأنكروا فضله، فلقد كان يعمل لله والله لا يضيع أجر من يعمل له. * * * لقد علّمت سنين قبل أن آتي هذه القرية، ولكني كنت أعلّم في مدارس أمرُها إلى غيري، لم أكُن أملك إدارتها ولم يكن لي الحكم فيها، وهذه أول مرّة أتسلّم فيها مدرسة فيها أكثر من مئة من الأولاد، يأخذون مني ما أعطيهم ويسمعون ما أقوله لهم ويسيرون من حيث سيّرتهم، فأحببت أن أكون لهم كما كان

أفاضل أساتذتي لي ولرفاقي؛ لا أجعل عملي كله أن آخذ ما في كتبهم المقرّرة فأحشو به أدمغتهم وأسجّله على ذاكراتهم، حتى يؤدّوه يوم الامتحان كما تَسلّموه ساعة الدرس، ثم يُمحى منها فلا يكاد يبقى منه أثر فيها ... هذا الذي تريده مني وزارة المعارف وتكافئني عليه وتقنع مني به، ولكن الله يريد مني أن أراقبه فيهم وأن أدلّهم عليه وأرشدهم إلى ما يرضيه منهم، وأجعل منهم أعضاء في جسم الأمّة سليمة من العلل قائمة بالعمل، لا أعضاء معتلّة ولا مشلولة ولا خاملة. حاولت أن أعوّدهم على أداء العبادات، على إقامة الصلاة، على الصدق في القول، على الجرأة في الحقّ، أغرس في قلوبهم الخوف من الله وحده وأنزع منها الخوف من عبيده، لا سيما الرؤساء، على أن يحترموهم وأن يطيعوهم فيما ليس فيه معصية لخالقهم. لا أريد منهم أن يجانبوا طريق الأدب معهم فالأدب مطلوب، ولكن التذلّل هو المرفوض، فأنا لا أريد أن يذلّوا أمامهم. الذلّ أمام الله في الصلاة وأمام الضعيف لمساعدته ابتغاء ثواب الله وأمام صاحب الحقّ ليصل إلى حقّه، هذا كله عزّ. ولكن الذي أبَيتُه لنفسي وعوّدتهم على إبائه هو الذلّ أمام الجبّار الظالم خوفاً من جبروته، وأمام الغنيّ أملاً بغناه، وأمام ذي المنصب من أجل منصبه. ووقع أمر كان امتحاناً عملياً لي أمامهم. ذلك أني لمّا وصلت القرية لاستلام عملي زرت مدير الناحية، وهو -كما قلت من قبل- المرجع الإداري لمن هو فيها. وكان شاباً مهذّباً

متخرجاً في معهد (أي كلية) الحقوق، وقد نسيت اسمه، فذهبوا به وجاؤوا برجل من آل المؤيد، وهم فرع من أسرة العظم التي كنت أعرف بعض رجالها، حقي بك الذي حضرَنا في امتحان الشهادة الابتدائية وكان حاكم دولة (!) دمشق، وأُعجِبَ بأجوبتي (لأن الامتحان كان شفهياً) ومنحني جائزة ثمينة لأني كنت الأول بين التلاميذ: دواة لها قيمة بقيَت عندي إلى أن كبرت. وعرفت سامي بك مدير وزارة العدل، أي وكيلها، وكان صديقاً لوالدي، وكان من جماعة خالي محب الدين الخطيب، لزم معه الشيخ طاهراً الجزائري ودخل معه الجمعية العلمية لمّا أنشأها، وكان يحبني ويودّني. وأعرف رجلاً من فقراء آل العظم عالماً معلّماً مؤلّفاً فاضلاً هو جميل بك. وكان من رفاقنا ناظم المؤيد العظم وهو في الذؤابة منهم نسباً، ورمزي العظم، وأعرف الأخ الأكبر لهذا المدير الجديد وهو صفوح بك، ولكني لم أعرفه هو ولم ألقَه. وأنا أزور المرجع الإداري مرة عند حضوري لأن ذلك عُرف قانوني، ثم أعكف على عملي. وكنت في المدرسة يوماً فإذا الأولاد يقولون: المدير جاء. قلت: أهلاً وسهلاً. ومشيت لاستقباله لأنه ضيف على المدرسة. وإني لَعبدُ الضيفِ ما دامَ ثاوياً ... وما فيَّ إلاّ تلكَ من شيمةِ العبدِ ورحبت به، ولكنه صعّر خدّه وشمخ بأنفه، وقال: أنت المعلم؟ وتوجّه إلى التلاميذ يكلّمهم. وكان يلبس لباس الصيادين، وهو حذاء طويل إلى الركبة وقد غرس فيه درّة (كرباج صغير)

ورداء (جاكيت) من الجلد، وقد برّم شاربَيه الكبيرَين. فحكمت عليه بأنه مغرور متكبّر «على الفاضي»! وثارت الكرامة في نفسي، وأنا حين أحسّ أن كرامتي مُسَّت لا أعود أرى الذي هو أمامي. وقلت له بلهجة أجفّ وأيبس من لهجته: نعم أنا المعلم، وأنت من تكون؟ فأشار إليّ العسكري مِن خلفه إشارةَ مَن يخاف منه عليّ ثم قال: يا أستاذ، حضرته المدير. فقلت للعسكري: أولاً أنت ما سألك أحد فاسكت، ثم إنه لو كان المدير لكان مؤدَّباً عارفاً بمواضعات الناس المؤدَّبين، يستأذن قبل أن يدخل ويسلّم بعد أن يستأذن ... فصرخ: ماذا تقول يا أفندي، هل تعرف مَن تخاطب؟ قلت: لا لأنك غير معروف ولم يعرّفني أحد بك، أما أنا فإنني معروف، وإن جهلتَني فاسأل عني أخاك صفوح بك. ورفع صوته فكان صوتي أرفع، واحتدم الجدل، فصحت بالطلاّب: انتباه! فسكتوا، ثم قلت لهم: صفّ. فاصطفوا، فقلت لهم: انصراف، خذوا كتبكم واذهبوا إلى بيوتكم. فانصرفوا! وأدرت له ظهري ومشيت إلى غرفتي، وتركته وحده يشتم ويهدّد ويتوعد، ثم خرج وهو يرتجف من الغضب، وأسرعت إلى دمشق فزرت بديع بك كبير أسرة آل العظم وخبّرتُه بما كان، لم أخرم منه حرفاً ولم أبدّل شيئاً ممّا قال وما قلت وما كان منه وكان مني. ويظهر أن بديع بك قد استدعاه وكلّمه فسكت ولم يذكر المسألة بعد ذلك، وأبلغني بعض المتصلين به أنه لامه وقال له: أتريد أن تعمل ثورة جديدة في الغوطة تكون أنت المسؤول عنها؟ ألا تعلم أن له لساناً يهزّ المنابر ويحرّك البلد؟ ألا تعرف أنه من زعماء الطلاّب؟ ألا تقرأ ما يكتب؟

وما زال به حتى اعتذر له عمّا صنع، بدل أن يكلّفني أنا الاعتذار، ثم صار صديقي. * * * وكنت خلال ساعات الدوام أؤدّي عملي الرسمي على أكمل وجه، بل إني أعمل أكثر من العمل الرسمي وأسدّ مسدّ ثلاثة معلمين. وكنت قريب عهد بقراءة كتاب كان له -لمّا صدر في فرنسا- صدى عظيم لأنه جاء بشيء جديد في التربية الاستقلالية، هو كتاب «التربية الحديثة» لإدمون ديمولان، فحاولت أن أطبّق بعض ما فيه. وخلاصة ما جاء به (أقولها من ذهني وقد قرأت الكتاب من نصف قرن)، خلاصته أن يُكلَّف التلميذ أو المجموعة من التلاميذ بعمل يعملونه ويُترَك لهم وضع الخطة لإنفاذه، ولا يراقبهم المعلم أثناء العمل وإنما يسألهم عن نتائج العمل. فبدأت بنظافة المدرسة، وهي من عمل الآذن أو الفرّاش ولكن المدرسة ليس فيها آذن ولا فرّاش، فاقتديت بمَن هو أفضل مني بألف درجة ومن لا أبلغ في العلم ولا في الدين ولا في العبقرية عُشر مِعشار (¬1) ما عنده منها: عمر بن الخطاب لمّا أراد أن ينظّف بيت المقدس ممّا ألقاه فيه اليهود، عملت مثله: فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم ... إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ فطلبت مكنسة وأخذت أكنس فناء المدرسة، فأسرع التلاميذ يأخذونها من يدي ويقولون: ماذا تفعل يا أستاذ؟ قلت: أفعل ما ¬

_ (¬1) المعشار واحد من مئة من المتر (سانتي)، أما الميلّي (أي الواحد من الألف) فهو مُعَيشير (تصغير مِعشار).

فعله ثاني رجل في الإسلام، مَن كان يحكم ثلاث عشرة حكومة من حكومات اليوم. أنظّف المدرسة. إن المدرسة دارنا فإن لم يكن عندنا خادم أفنقعد على الأوساخ؟ كنت أخاف إن أمرتهم بذلك أمراً أن يهربوا منه، فلما رغّبتهم فيه ترغيباً وسبقتهم إليه تزاحموا عليه، فقلت: رتّبوا أنتم أمركم وتقاسموا العمل بينكم، حتى تكون مدرستُكم نظيفة مثل دُوركم. ثم عملنا على غرس الأغراس وزرع الأشجار في فناء المدرسة، ولم يحتاجوا إلى مَن يعلمهم فقد كانوا أولاد أبرع الفلاحين، فما مرّ شهر حتى تحوّل الفناء من أرض خراب إلى جُنَينة تُعَدّ تحفة في الجنائن، قام بذلك كله التلاميذ متعاونين. وكنت أبقى في المدرسة النهار كله لأن وقت الدراسة كان قبل الظهر وبعده، يذهب التلاميذ للغداء والصلاة ويرجعون. وكنت أحمل غدائي معي، وما غدائي؟ قارورة صغيرة فيها زيت وأخرى فيها زعتر، وطبق صغير من أطباق أكواب الشاي وآخر مثله، أضع الزيت في واحد والزعتر (¬1) في الثاني، وعندي موقد (كاز) صغير وإبريق للشاي، فيكون غدائي خبزاً عليه الزيت وفوقه الزعتر، فإذا فرغت قلبت الصحن على أخيه ووضعتهما في علبة إلى الغد. وكان يزورني ساعة الظهر بعض الجيران أو ناس من السكان، وربما جاءني بعض المشايخ من علماء دمشق أو بعض إخواننا فيها، فأطعمتُهم ممّا آكل. وقد علّمونا ألاّ نبخل بموجود ¬

_ (¬1) وقد يُدعى الصّعتر بالصاد، وهو معروف من القديم.

وألاّ نتكلف لمفقود. وأذكر أن أحد آباء التلاميذ من أغنياء القرية ووجهائها رثى لي وبعث إليّ بمائدة صغيرة، فرددتُها شاكراً وأفهمتُه أن هذا طعام آكله في بيتي. وأنا لا أزال آكله إلى الآن وربما آثرتُه على أطايب الطعام، فإن كان بدل الشاي بطيخ أحمر كان أطيب عندي من موائد الملوك (أحياناً لا دائماً). وربما بعثت تلميذاً فجاءني بأوقية (وهي مئتا غرام) من اللحم المشوي ثمنها مع الرغيف فرنك واحد، أي خمس هللات! * * * وكنت أدرّب التلاميذ على فنون من الرياضة وأرغّبهم بها لتصحّ أجسادهم، وأعلّمهم المشيَ بانتظام، ثم نخرج أحياناً بعد الدروس فنزور القرى المجاورة، ونصل إلى «جسر الغيضة» حيث يجري بردى ممتلئاً جيّاشاً وعنده خمائل ممتدّة وأشجار مزدحمة أشباه الغابات، كان لها -لا سيما في منطقة «الزور» - دور كبير أيام الثورة السورية. وكانت قريتنا وما جاورها من القرى تزرع القنّب، وهو قصب لطيف إذا نُزعت قشرته عاد مثل الخشب الناعم، ولكنه ضعيف ينكسر لأدنى ضغط، مجوّف يلعب به الأولاد يسحبون به الماء بأفواههم من النهر، ويُحمَل على الدوابّ بعد أن يُصَفّ صفاً في إبالات كبيرة (¬1)، القنّب الطويل في أطرافها والمكسَّر في وسطها، ليؤخذ إلى أفران الشام توقد به النار، لأنه سريع الاشتعال حتى لَتُضرَب به في ذلك الأمثال، كما ¬

_ (¬1) الإبالة (ويقول لها العوام بالة) الحزمة الكبيرة أو الصغيرة، ومنه قولهم «جاء ضغثاً على إبّالة» بمعنى قول العامّة «زاد الطين بلّة».

يُضرَب المثل بضعفه حتى ليقال للإنسان الضعيف: كأن عظامه من القنّب. أما قشره فتُصنَع منه الحبال، فترى الحبّالين بين البساتين قد نصبوا أعمدة مدّوا عليها الحبال لبَرْمها. أمّا الاستعمال الأعلى للقنّب أو لبعض أنواعه فهو أن يُستخرَج منه المورفين (المخدّر، أي الحشيش). والغريب أن أهل الغوطة والبقاع الأخرى من الشام وبعض الأماكن في تركيا يزرعه أهلها ولا يتناولونه، لكن يبيعونه بالخفاء لمن يتعاطاه ويربحون منه المال الكثير، يهربون به لأن الحكومة تمنعه. ثم جعلت أبتعد بالتلاميذ، فزرنا مدرسة زَمَلْكا، وكان فيها صديقنا بشير ياسين (وعمّه الشيخ محمود ياسين هو خال شكري فيصل)، وكنا نتبارى في حُسن تعليم التلاميذ وتنظيمهم فكنا كفرسَي رهان، حتى جاء يوماً بما عجزت عنه، هو أنه ألبس تلاميذه كلهم الطرابيش مثل تلاميذ المدينة، فغلبني. ولكني ثأرت منه في حادث طريف ولكنه ليس بظريف، وأنا هنا أسجّل ما لي وما عليّ. مللت من انتظار السيارة كل يوم لتحملني إلى المدرسة، فاشتريت درّاجة وتعلمت ركوبها، ولكني لم أتقنه، فكنت أقف على حجر أو كرسي فأمتطي الدراجة وأمشي بها متعثراً خائفاً. ومررت به يوماً وأنا راجع (لأن قرية زملكا على طريقي) فدعوته ليركب ورائي على الدراجة فيستريح من انتظار السيارة ويوفّر أجرتها. قال: لا، ياعم، أخاف أن ترميني. قلت: يا عيب الشُّوم (وهي كلمة تُقال في الشام بمعنى «يا للعار») أتخاف وأنت ورائي؟ قال: اتركني الله يرضى عليك، قلبي غير مطمَئنّ. قلت: اركب ولا تخف.

فركب مُكرَهاً، وسرنا والطريق خال، فاعترضنا نهر صغير عليه جسر (أي كوبري، والكوبري بالتركية الجسر) فقال: أنزل وأمشي، قلت: لا، ابقَ راكباً. وكان الجسر خشبتين طويلتين عليهما خشبات صغار معترضة فوقها بعض فروع الشجر، فلما بلغت وسط الجسر اضطربَت يداي وملت به، فسقط في النهر وسقطت فوقه وسقطت الدراجة معنا! ولم يكن النهر عميقاً ولكن كان نجساً، وكان مجراه طيناً منتناً. أما الدراجة فالتوى عمودها الفقري وانكسر مِقوَدها (أي ذراعاها)، وأما نحن فخرجنا على شرّ حال، وتركته يُلقي في سبّي «مُنولوجاً» طويلاً، لو كنت في غير هذه الحالة لأخذت قلماً وورقاً وكتبت الشتائم المبتكَرة التي نطق بها، ولا أدري من أين اقتبسها فهي أوسخ من كل ما قال شعراء الهجاء، بل أوسخ من النهر الذي سقطنا فيه، ولكن الحقّ هو أني كنت مستحقاً لها. واستوقفنا سيارة مرّت بنا، فلما رأى سائقها ثيابنا ساقها وتركنا، وسيارة أخرى وثالثة ورابعة فلم يقف لنا أحد من سائقيها، فانتظرنا حتى حلّ الليل وأسدل ستاره، فمشينا مشياً حتى بلغنا دمشق فدخلناها من غير الشارع العامّ. ولما وصلت الدار وكانت فيها عمّتي (بعد وفاة أمي) أبت عليّ دخول الدار إلا إنْ نزعت هذه الثياب عني ثم مشيت رأساً إلى المطبخ لأغتسل في زاويته. ولم يكن في دارنا ولا في أكثر دور الشام حَمّام. ولا تعجبوا، فلقد ذهبت سنة 1970 إلى «بون» (في ألمانيا) والمدن المجاورة لها وزرت كثيراً من منازل الطلاّب العرب فيها،

فوجدت أكثرها من البيوت القديمة التي ليس فيها حمام. وكان التعليم الابتدائي إلزامياً، وكان عندنا قانون (أظنه صدر أيام العثمانيين) يُلزِم كل ولد في سنّ الدراسة الابتدائية بالذهاب إلى المدرسة، فإذا امتنع أجبره الدرَك (شرطة الأقضية والقرى) على الذهاب وغرّموا وليّه مالاً ووَقفوه (¬1) في المخفر. ولم أحتَجْ إلى هذا القانون، فقد تدفّق الأولاد على المدرسة حتى لم يبقَ فيها مكان، ضاقت هي ولكني لم أضِق أنا بهم ولم أتبرّم بكثرتهم، بل كنت أزداد بهم فرحاً كلما ازدادوا عدداً. وكان أنبه التلاميذ رضا (ابن أبي رضا الذي ذكرتُه) فجعلته على صغره عريفاً، وجعلت من متقدمي الطلاّب معلمين أو معاونين لمتأخّريهم، فكبروا بذلك قبل أوان الكِبَر. وكنت أراقبهم من بعيد فلا أجد بحمد الله إلا التعاون الصادق، حتى صارت هذه المدرسة إماماً لمدارس القرى. ونفخت فيهم روح الحماسة للعمل وإخلاصه لله لا للناس، وكانوا -على صغرهم- يدركون هذا كله، إن لم تدركه عقولهم وَعَتْهُ قلوبهم واشتملت عليه ضمائرهم. وكان قبلي في هذه المدرسة معلّم أصله من درعا اسمه الشيخ «فلان» الحلبي، وكان محرّكاً (موتوراً) لا يقف ومبعث نشاط لا ينضب، لم أرَه ولكن رأيت آثار عمله وكانت آثاراً طيبة. ولم يكمل تعليمه من تلاميذ هذه المدرسة إلا الولد الأصغر لأبي رضا السقباني، يعمل الآن ¬

_ (¬1) وقفه بمعنى أوقفه، ولم يرد في الفصيح أوقفه. ومن هنا جاء اسم «الوقف» و «الأوقاف».

مستشاراً قانونياً في إحدى الإدارات في الرياض، اسمه أحمد عبده، يذكر تلك الأيام وإن مضى عليها الآن نصف قرن كامل. * * *

دفاع عن فلسطين

-62 - دفاع عن فلسطين صرت موظفاً وأمسك بمعصمي القيدُ، ولكنه كان قيداً واسعاً أستطيع أن أُخرِج يدي منه متى شئتُ. بعت بعضَ وقتي بهذا الراتب وبعضَ حرّيتي، ولكن لم أبع ضميري ولا لساني، فأنا لا أزال حرّ الضمير طليق اللسان، ما هجرت المنابر ولا طلّقت الصحف، بل عدت إلى الأموي أخطب فيه كلما حدث حادث، فما إن أصيح صيحتي المعروفة (إليّ إليّ عباد الله) ويتبين المصلون صوتي تتجاوب أصداؤه من أرجاء المسجد، يصل إليها بلا مكبّر للصوت، حتى يُقبِلوا عليّ ويسرعوا إليّ ليسمعوا مني ما كانوا يسمعونه قبل أن أصير موظفاً. وربما قدت المظاهرات تخرج منه كما كنت أقودها قبل أن أكون موظفاً، ورجعت أكتب في الصحف ما يُرضي الحكومة وما يُغضِبها، ما جعلت من همّي يوماً رضاها ولا غضبها، كان كل همي أن أرضي ربي وأن أكون صادقاً أمام نفسي. المقالات التي كتبتها في هذه المدة كثيرة جداً، لكنْ لا تسألوني عن عددها لأني لم أجمعها كلها، فهل يأتي -يوماً- من يكون أحرصَ على جمعها مني أنا صاحبها، فيبحث في

مجموعات الصحف الشامية: فتى العرب، والمقتبس، والقبس، وألف باء، والجزيرة التي أنشأها تيسير ظبيان، والناقد، والمكشوف لفؤاد حبيش في بيروت، فيأخذ ما كتبته فيها فيجعل منه «المجموعة الكاملة» لبواكير كتاباتي التي لم أجمع منها في كتاب إلا ما اشتمل عليه كتابي «الهيثميات» الصادر سنة 1930؟ ولكن هب أنها جُمعت وطُبعت، فما انتفاعي أنا وما انتفاع الناس بها؟ فدعوها مدفونة فلن تُرجع لمن مات الروح! موضوعات هذه المقالات كثيرة، ولكن أهَمّها: موضوع النضال للاستقلال وما صنعنا في هذا المجال، وموضوع الماضي وأمجاده، ما كتبتها لنفخر بها وننام عليها بل لنصنع مثلها، والنقد الأدبي وما نتج عنه من مناظرات وردود، وقصص من التاريخ، وصور ومشاهدات من الحياة، وتعليق على بعض أفلام السينما وتلخيص لقصصها (عرفتم أني كُلّفت بذلك لمّا احترفت الصحافة) والموضوع الذي أخذ من قلبي ومن لساني الحظّ الأوفر: وهو قضية فلسطين التي كنت أكتب فيها وأخطب في أواخر العشرينيات. * * * لقد ضاع (مع الأسف) أكثر ما كتبت يومئذ، ولكن أمامي الآن مقالة كُتب لها البقاء. نُشرت «افتتاحية» لعدد يوم الأحد 15/ 10/1933 من جريدة «ألف باء» للأستاذ يوسف العيسى. أنذرت فيها العرب «داهية دَهياء لا ينادى وليدها» إن بقينا على تجاهلنا قضية فلسطين؛ كأني كنت (وكان غيري ممّن يكتب عن هذه القضية) نحس بالخطر الذي يتربص بفلسطين وأهلها، ما

اطّلعنا على الغيب ولكنّ المقدمات أشعرَتنا بالنتائج. فكتبت وكتب مَن هو أكبر مني في البلاغة قدراً وأعلى في البيان مكاناً وأعرف بالسياسة ظواهرها وخفاياها، نصرخ في قومنا كما كان يصرخ في القبيلة النذير العريان، وممّا جاء في هذه المقالة حملة على الأدباء قلت لهم فيها: أيهيج نفوسَكم ويؤلمكم ويسوّد الدنيا في عيونكم حبيبٌ يُعرِض عنكم، أو ليلة وصال منه تخسرونها، أو ابتسامة يُحجَب عنكم نورها؟ ولا يؤلمكم أمة في فلسطين تضيع بقَضّها وقَضيضها، يهاجمها في عقر دارها أذلّ شعب وأخسّه وأهونه على الله والتاريخ؟ يستلب بالثمن الغالي أرضها يشتريها منها، ثم يبعث بالفاسقات من بناته فيسترده منها، يعطيها بأيدي رجاله ويذهب ما أعطى من بين أرجُل ... نسائه! ألا يؤلمكم أن تصبحوا يوماً فتجدوا أن فلسطين صارت لغيركم، وأنكم صرتم غرباء في أرضكم أو تائهين مشرّدين في أرض الناس؟ ونحن نعرف «اليهودي التائه»، فهل تسكتون حتى يصير منا «العربي التائه»؟ الأدب هو محرّك الشعوب ومثير الهمم وباعث العزائم، الأدب يوقظ النائم وينبّه الغافل، فأين أنتم يا أدباء العرب من «قضية فلسطين»؟ إن خطبة طارق فتحت الأندلس، وخطب نابليون أكسبَته إسترلتز، وخطب فيخته أعادت الروح إلى الألمان وأرجعتهم إلى مكانهم من الحياة، فأين القصائد الفلسطينيات؟ أين الأقلام الحرّة المؤمنة التي يتطوّع أصحابها ليكونوا جنوداً في معركة فلسطين: تصف نكبة فلسطين وتحرّك الدنيا لنصرة

فلسطين، بل تهزّ قبل ذلك أهل فلسطين وجيران فلسطين ليتداركوا فلسطين قبل أن يأتي يوم يندمون فيه، وليس ينفع في ذلك اليوم الندم. لقد مرّ على دخول الإنكليز فلسطين خمس عشرة سنة، ودخول اليهود معهم، حشرات متعلقات بأذنابهم. أفما تكفينا خمس عشرة سنة (¬1) لنصحو من نومنا ونفتح عيوننا، فنبصر الماء يجري من تحتنا وبوادر النار من حولنا، والهوة السحيقة أمامنا نمشي إليها بأقدامنا؟ (إلى أن قلت): لينظم الشعراء القصائد في نكبة فلسطين، وليتغنَّ المغنّون بشعر فلسطين، ولتؤلَّف اللجان في كل بلد عربي، في كل بلد مسلم لإنقاذ فلسطين. لم تأتِ الآن معركة الدم والحديد، فلنحارب بالمال، لنردّ عدوان اليهود بالفكر السديد، بالخُطَط المدروسة، بالاتحاد، وقبل هذا كله وبعد هذا كله بالعودة إلى الله، لأن العدوّ مهما كبر ومهما كبر من يعينه وينصره فالله أكبر، فمن كان مع الله لم يخَف أحداً. لنبدأ بجمع المال لإنقاذ فلسطين، ليقدّم كلٌّ ما يستطيع لا يخجل به مهما قلّ، إن الشحّاد يستطيع أن يقدّم «نِكلة» في الشهر فليقدّمها (¬2). نكلة في الشهر، وقرش في الشهر، وفرنك ¬

_ (¬1) دخلوها سنة 1918م. (¬2) النكلة نصف قرش سوري، والقرش يعادل هلالة (هللة)، والهللة كالملّيم في مصر والفلس في العراق، والورقة (أي الليرة) مئة قرش والفرنك خمسة قروش.

في الشهر، وربع ورقة في الشهر، ونصف ورقة في الشهر ... وأنا رجل مفلس ولكني أقدم من اليوم نصف ورقة في الشهر. لا تقولوا إن ذلك قليل، فالقليل إلى القليل كثير. ولو أن أهل دمشق دفعوا ما يعادل ربع ليرة فقط من كل منهم لاجتمع في الشهر خمسة وسبعون ألف ليرة. يا أيها الناس، إخوانكم وأبناء عمّكم يريد اليهود أن يطردوهم غداً من ديارهم أن يُميتوهم، فاشتروا حياتهم بمالكم. الأدب، ثم المال، ثم الدم؛ هذه هي الأركان التي يقوم عليها العمل لإنقاذ فلسطين. فسيروا فهذا هو الطريق، سيروا من الآن بخُطى ثابتة وسريعة، لا يجوز أن نتمهل فالوقت يمرّ علينا لا لنا. يا أيها الناس، ثقوا أنها إن ضاعت فلسطين ضعنا. * * * هذا ما قلته من أكثر من خمسين سنة، ولكن ما سمعه أحد. ولو أننا جمعنا كل شهر في دمشق وحدها خمسة وسبعين ألف ليرة لمساعدة فلسطين واستمررنا عليها، فكم كان يجتمع لنا إلى الآن؟ لقد كانت موازنة «دولة سورية» يومئذٍ سبعة ملايين ليرة. كان ثمن الليرة الذهبية الرشادية خمس ليرات سورية ونصف الليرة. خمسة وسبعون ألف ليرة تعدل بقوّتها الشرائية -يومئذ- مليونَي ليرة اليوم أو أكثر. فلو جمعنا من كل بلد من بلاد المسلمين مثلها لاشترينا فلسطين من جديد. لقد كتبت بعد هذه المقالة عشرات من المقالات، وكتب غيري ممّن هو أخلص مني وأفصح وأغيَر مئات، فما تنبّه أحد.

مرّت خمسون سنة ونحن نُنْذر ونحذّر، نقول: إننا في حرب مع أمكر وأخسّ البشر، فهل رأيتم من يعيش في الحرب مثل عيشه في السلم؟ هل رأيتم من ينفق فيها على السرف والترف والكماليات، بل على ما لا صلة له بالكمال، ما فيه إلاّ النقص والعار؟ ننفق ولانزال ننفق! نصبّ في هذه البالوعة ما لو وفّرناه لكان لنا منه جيش ينقذ فلسطين ويخلّص كل بلد مسلم يعاني مثل الذي تعاني فلسطين. طالما قلت للناس: إن هرّة مريضة تموء في الشارع تحت شبّاكك تطرد من عيونك النوم، فكيف تنام ومن إخوانك العرب المسلمين من يئنّ ويشكو ويمزّق من بكائه سكون الليل؟ من يدق جارُه مسماراً في جداره يفيق مذعوراً ويتعذر عليه المنام، فكيف تنام وفي الأرض عرب مسلمون تدكّ المدافعُ دورَهم وتهدم بيوتَهم، مدافع أصداؤها تملأ الدنيا، أفلا تسمعها؟ خمسون سنة ونحن نقول إن فلسطين أمانة في عنق كل عربي، عقيدة في قلب كل مسلم، فأنقذوها؛ أنقذوا المسجد الأقصى مسرى نبيّكم، قبلتكم الأولى. لا تنفقوا قرشاً بعد نفقتكم ونفقة عيالكم إلاّ على فلسطين، لا تبذلوا جهداً بعد الضروري من جهودكم لتأمين معيشتكم إلاّ على فلسطين. إن اليهود يعملون على سرقتها كافّة فاعملوا أنتم على استردادها كافّة. قاتلوا مجاهدين في سبيل الله لا لمجرد استرداد الأرض، فالأرض تُسترَدّ بالجهاد الذي معه عون الله، ولكن عون الله لا يأتي لمجرد القتال للأرض. لا تيأسوا فإنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون. لقّنوا أولادكم مع حليب الأمهات وجوب الجهاد لاسترداد

فلسطين، علّموهم كلمة «فلسطين» مع كلمة «بابا» و «ماما». فإذا كنا نحن -مع الأسف- جيل الهزيمة لبُعدنا عن ديننا واختلافنا في أمرنا، فسيظهر منهم جيل النصر، ولو بعد خمسين سنة أو مئة سنة. أما لبثَت القدس بأيدي من كانوا أقوى من اليهود نحواً من مئة سنة؟ فما احتاج استردادها إلا لمَن يطوي راية الجاهلية وينشر راية الإسلام، ويرمي السيف الذي استعاره من الكافر ويضرب بسيف محمد ‘، ويدَع دعوة الباطل ويَدْعو بدعوة الحقّ. إن نسيتم فاقرؤوا تاريخ عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، الذين قاموا في زمان كنّا فيه أكثر انقساماً وأشدّ اختلافاً؛ كان في سوريا وحدها عشر حكومات إسلامية وصليبية، كانت حماة دولة وشَيْزر دولة، كان في صَرخد (وهي قرية في جبل الدروز) دولة! فلما جاءت دعوة الإسلام محت دول الباطل، دول الضعف والانقسام، وأقامت دولة الوحدة تحت راية التوحيد. لقد أضعنا أياماً كثيرة وفرصاً كثيرة، ولكن لا يزال تدارك الأمر ممكناً. تقولون: بماذا؟ بتغيير هذه الحال. تقولون: كيف نغيّر هذه الحال؟ لقد شرح الله لنا القانون: {إنّ اللهَ لا يُغيّر ما بقَومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسِهم}. فهل غيّرنا ما بأنفسنا؟ هل طهّرناها من أوضار الشبهات وأدران الشهوات؟ هل بدّلنا بتفرّقنا اجتماعاً على كتاب الله؟ هل سددنا آذاننا عن وسواس الشيطان من الإنس ومن الجانّ وفتحناها لنداء الرحمن؟ أمرَنا الله أن نُعِدّ السلاح للمعركة فقال: {وأعِدّوا لهُم ما اسْتَطعْتُم مِن قُوّةٍ}. فلا بد من القوّة ولا بد من السلاح، ولكن هل

نُعِدّه لأن النصر مقرون دوماً وحتماً بالسلاح؟ لا، بل للإرهاب: {تُرْهِبونَ بهِ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكم} {وما النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ اللهِ}. وأنزلَ الله يوم بدر ملائكة، ولكن للتطمين: {ومَا جَعَلهُ اللهُ إلاّ بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكم} لا للنصر فالنصر من الله، مع الملائكة ومن غير أن تنزل ملائكة، فاطلبوه منه بعد استعدادكم له. هذه عقيدة المؤمن وهذا تفكيره وهذه نفسيته، يعمل كل ما يقدر عليه ولكن لا يعتمد عليه وحده، بل على قوة من آمن به ووحّده التوحيد الكامل وجاهد في سبيله. * * * لقد عشت مع قضية فلسطين؛ سايرتُها مراحلها كلها، ولكن من مقاعد المشاهدين لا من مكان الممثّلين. لم أرَها من الداخل مع الخاصّة من أصحابها بل من الخارج مع العامّة من متتبّعي أخبارها، وإن شئتم تاريخها ممّن عاش معها في داخلها فتداركوا الأستاذ عزة دَرْوَزَة فاسألوه عن خفاياها، وإن أردتم معرفة خبرها ممّن كان قريباً من قادتها الذين لهم يد في تحديد مسارها فعليكم بالأستاذ أكرم زعَيْتر. أما أنا فلقد عرفت منها ما عرفت وكتبت عنها ما كتبت مستمِدّاً علمي من سطور الصحف وأفواه الناس. والذي رأيته ورآه الناس كلهم هو أن تاريخ الظلم والسرقة والغصب والتعاون على الإثم والعدوان لم يعرف أبشع ولا أشنع ولا أفظع من قضية فلسطين؛ ناس آمنون في مساكنهم التي ورثوها عن آبائهم واشتروها بأموالهم، ما لأحد حقّ فيها معهم، جاء مَن لا يخاف الله ولا يتقي العار ولا يأبى اللعن فوعد بها عصابة

من أخسّ اللصوص، ثم سعى حتى ولّوه هو أمرها و «انتدبوه» لتعليم أهلها فنون الحضارة، فكان خصمَها الحاكم فيها، وكان «حاميها»! وعدٌ آثم بعده تعاون ظالم. ما اتفقَت دولة الشرق ودولة الغرب إلاّ علينا، هم دوماً في خصام ولكنهما يتفقان إنْ جمعهم عداؤهم للإسلام. ما التقى صاحب «البيت الأبيض» وصاحب «البيت الأحمر» إلا على كرهنا وعلى قتالنا، يعطوننا كلاماً حلواً، والكلام «بلاش» (¬1) ويعطون عدوّنا وسارقي أرضنا كل ما يريدون: من الشرق رجالاً لهم أيدٍ تعمل وأدمغة تفكّر، ومن الغرب مالاً يبني لهم وسلاحاً يقتلنا نحن، فإلى أين نلجأ؟ الملجأ قريب منا والمَنجى أمامنا، ولكن بهرج الحضارة المادّية أزاغ عنه أبصارنا، ذلك هو «البيت الأسود» في بطن مكة، البيت الذي يلبس الثوب الأسود وهو الأبيض بياض النهار المشرق، بياض النور الهادي، بياض الحقّ الأبلج. رَبّ هذا البيت الأسود هو وحده القادر على إنقاذنا من صاحب البيت الأبيض والبيت الأحمر، والبيت الأصفر إن انضمّ إليهما وكان معهما علينا في تأييد عدوّنا! فلماذا لا نرجع إليه، وبابه مفتوح ويده مبسوطة؟ لماذا نحوّل وجوهنا عن بابه؟ لماذا لا نُدخِل الإسلام في المعركة فيدخلها معه ألف مليون؟ إن جعلناها عربية خالصة لاسترداد الأرض العربية أبعدناهم عنا، ولكن إن جعلناها جهاداً إسلامياً لاسترجاع قبلة ¬

_ (¬1) بلاش (العامية) أصلها بلا شيء.

المسلمين الأولى ومسرى نبيّهم كانت معركتهم، ما نحن بأحقّ بها منهم لأن الأقصى لنا ولهم، والإسلام يجمعنا ويجمعهم. وسترون فيما يأتي من الذكريات أني قلت هذا الكلام لغلام محمد الحاكم العامّ لباكستان سنة 1954، أمام الشيخ أمجد الزّهَاوي والشيخ محمد محمود الصواف. لقد دنونا يوم 1973 من الإسلام قليلاً فَدَنا منّا النصر كثيراً، فلما عدنا فابتعدنا عنه رجع فابتعد عنا. قال أحد حكامنا يومئذ: "كنت أقاتل دولة إسرائيل ولكن لا أستطيع أن أقاتل أمريكا"! وهذا صحيح بجميع المقاييس المادّية، فلا جيوشنا كجيوشها ولا سلاحنا كسلاحها ولا نحن في العلم مثلها، ولكن لو فكّر المسلمون الأوّلون مثل هذا التفكير ما فتحوا قرية واحدة من أرض الشام ولا العراق ولا مصر، لأن الروم والفرس كانوا يومئذ كأميركا وروسيا الآن؛ كانوا أقوى في العدّة وأكثر في العدد وأغنى بالمال. فلو استعملنا هذه المقاييس الأرضية المادّية لانهزمنا. لقد قسنا المعركة بمقياس آخر لا يزال له وزنه وقيمته حتى في أيام الدبابات والطيارات، هو القوة المعنوية (¬1). الجندي الذي يقاتل في سبيل عقيدة يعتقدها وجنة خالدة يطمع في دخولها إن مات في سبيلها ليس كالجندي الذي يُساق سوقاً إلى معركة يقاتل فيها مُكرَهاً عليها لا مقتنعاً بها، العصا ¬

_ (¬1) قد تقولون هذا كلام شيخ لا يعرف الحرب، ولكن المارشال مونتغمري قاله في كتابه، أفلم يكن مونتغمري بطل العلمين يعرف الحرب؟

في يد الأول أقوى من البندقية، والبندقية في يد الثاني تؤخذ منه بالعصا. وإذا كان المثل الإسلامي الأول بعيداً عنكم فهاكم المثل القريب: ما يصنع المجاهدون المسلمون في الأفغان، وما صنعنا بالأمس في الجزائر وطرابلس (ليبيا)، والغوطة وجبل الدروز، وفي الرميثة في العراق، وفي منطقة القناة في مصر، وفي كل مكان فيه مسلمون إذا دُعوا لَبّوا وإن استُنصِروا نصروا، على أنْ يُدعَوا باسم الدين لحماية الأرض والعرض وأن تكون معركتهم لإعلاء كلمة الله، فلقّنوا المقاتلين هذه العقيدة وانظروا ما يصنعون. إني لا أريد أن أتألم ولا أن أؤلم القرّاء، ولكن ما حيلتي وأنا أعرض ما علق بذهني من مراحل قضية فلسطين، وما فيها إلا الألم؟ كل ما رفضناه بحقّ عدنا نطلبه ممّن لا يعرف الحقّ، حتى بعد نكسة (أو نكبة) 1967. وسترون في هذه الذكريات أنّا رحلنا سنة 1954 إلى آخر آسيا نشرح للناس مأساة فلسطين، كنا نشكو ما كنا فيه قبل عدوان سنة 1967، فما الذي كان حتى مُسخَت مطالبنا فصار أقصى ما نريده هو «إزالة آثار العدوان»؟ أي أن نعود إلى ما كان وما كنا نشكو منه! ولن أزيد إيلامكم بسرد بقية القصة فإنكم تعرفونها. وإذا لم يُعجِب بعضَ الناس المثلُ الإسلامي من أيام الفتوح والمثلُ الجديد من الأفغان، فهاكم مثلاً من قوم لا يدينون دين الحق ولا يتبعون شرع الله، آمنوا بالجبت والطاغوت فنصرهم الله بهذا الإيمان في الدنيا. وإن الإيمان يكون معه النصر دائماً، فإن كان إيماناً كإيمان الفيتنام نصرهم به النصرَ المؤقّت في الدنيا، حتى على أميركا وقوّتها الهائلة، أما إن كان إيماناً كإيمان الصحابة

فعاقبته النصر دائماً. ربما يخسر أهله معركة أو يُخذَلون يوماً ولكن العاقبة لهم، إن لم يروها في هذه الحياة الدنيا رأوها في الحياة الباقية. وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، إنها دقيقة واحدة من عمر الآخرة. فقد انتصر قابيل على أخيه وقتله، فاستمتع بلحظة النصر، فما نسبة هذه اللحظة لما مرّ من الزمان حتى الآن؟ وما نسبتها لما سيأتي في هذه الدنيا من أزمان؟ فكيف بالزمان الذي يُمضيه الكافر خالداً في نار جهنم؟ يقولون: إنكم تريدون أن تُلقوا بالإسرائيليين في البحر. وأنا أسأل الإنكليز الذين هم رأس البلاء ومبعث الداء، وأسأل الأميركان الذين يؤيدون الظلم وينصرون الاعتداء، وأسأل الروس الذين هم معنا بالمقال وهم يُمِدّونهم بالرجال، أسألهم جميعاً: ماذا يصنعون لو جاء شعب نذل خسيس سارق مجرم يريد أن يطردهم من ربع لندن أو واشنطن أو موسكو ويملكها من دونهم، ثم يعمل على التوغّل في بلادهم وسرقة طريفهم وتالدهم وإفساد بناتهم وأولادهم، ماذا يصنعون بهم؟ إنهم إن لم يلقوهم في البحر شرّدوهم في القفر أو وضعوهم في الأسر، وإلاّ فماذا؟ خبّروني ماذا تصنع الأمم بالواغل عليها يسرق ديارها ويمحو آثارها؟ ماذا يفعل من يقتحم اللص عليه بيته ليطرده منه ويَسكنه من دونه: هل ينصب له المائدة ليأكل ويمدّ له الفراش لينام، ثم يقف باحترام ليعطيه مفتاح الدار ويمضي بسلام؟! هذا هو السلام الذي تريده إسرائيل والذي كان منّا من يرحب به ويصفّق له. يقولون: وإلى أين نذهب بهؤلاء اليهود؟ لقد ألقى هذا السؤالَ رئيسُ أميركا الذي كسب الحرب، ألقاه

على ابن الصحراء الإمام العبقري الملك عبد العزيز، فردّ سؤاله بسؤال وجّهه إليه هادئاً، قال له: من أين جاء هؤلاء؟ أرجعوهم إلى بلادهم التي أُخرِجوا منها. لقد بُهت روزفلت ولم يقدر على الجواب لأن الحقّ غلاّب. قالوا: إنكم رفضتم التقسيم ثم جئتم تطالبون بالتقسيم! نحن كمن كان يمشي آمناً فاعترضه مجرم خطف كيس نقوده وفيه ألف ريال، فلحقه يطالبه به فقال: تأخذ خمسمئة لك ولي خمسمئة. فأبى، وحقّ له الإباء فالمال ماله والكيس كله له، فشدّ اللص يده على الكيس وعدا هارباً، فلما يئس منه قال: طيّب، هات الخمسمئة. قال: لا، ذاك عرض مضى، تأخذ أربعمئة؟ فأبى ومضى اللص، فلما يئس منه قال: طيّب، هات الأربعمئة. قال: لا، ثلاثمئة. تأخذ ثلاثمئة؟ رفضنا التقسيم، وما لنا ألاّ نرفضه؟ مَن يرضى أن تُقسَّم داره بينه وبين اللص الذي يقتحمها عليه؟ ورجعنا فطالبنا به حتى لا تذهب الدار كلها ما دام قد غلب الباطل وفُقد النصير. أنا لا أريد ولا أقدر أن أؤرّخ قضية فلسطين، أنا أدوّن ذكريات لا أكتب تاريخاً. ولكن أقول: إنه ليس في تاريخ الظلم والعدوان مثل قضية فلسطين، ولا في تاريخ التخاذل والانقسام وقلة الاهتمام مثل موقفنا من قضية فلسطين، ولا في تاريخ التعاون على الإثم والعدوان مثل موقف الدول في غرب الأرض وفي شرقها من قضية فلسطين. وما لنا إلا الله، فهل نعود إليه؟ * * *

الشعر والأدب عند أساتذتنا ورفقائنا

-63 - الشعر والأدب عند أساتذتنا ورفقائنا أبقى هذه الحلقة مع رفاقنا الشعراء، جمعني بهم أحد إخواننا من أساتذة الجامعة هنا، لقيني فحدّثني عن هذه الذكريات حديث الصديق الذي يراها بعين الرضا، فأثنى ثم قال لي مازحاً (ويقول أهلنا في الشام: «في المزاح تشتفي الأرواح»، أي أن الذي لا تجرؤ على قوله جاداً تقوله مازحاً)، قال: ولكنك تبالغ أحياناً. قلت: فيمَ بالغت؟ قال: بقولك عن صديقك أنور العطار -رحمه الله- إن قصيدته التي قالها وهو طالب في الثانوية لو قال مثلَها شاعرٌ كبير معروف لكانت من جيد شعره. ألا ترى في ذلك مبالغة؟ قلت: إني أحفظ أكثر هذه القصيدة، لأن ما حفظته في الصبا وفي الشباب بقي محفوراً في ذاكرتي، وأنا أعي الآن في ذهني أكثر من أربعة آلاف بيت من الشعر حفظتها تلك الأيام. وهذه القصيدة منشورة في الجزء السادس من «الحديقة» لخالي مُحِبّ الدين الخطيب، المطبوع سنة 1346هـ لمّا كان عمر أنور وعمري تسع عشرة سنة، وقد نظمها وألقاها قبل ذلك. فهل تحب أن

تسمعها أو تسمع بعضها لتحكم لها أو عليها؟ وأنا راضٍ بحكمك لأنك أستاذ في علوم العربية ولأنك قارئ جيد وناقد ذوّاق. قال: هات. فهل يسمح القرّاء أن أعرض عليهم ما عرضت عليه ليروا ماذا كان يقول الطلاّب يومئذ، ويقرنوه بما يقول الشعراء (أعني بعض الشعراء الأساتذة) الآن؟ عددت أبيات القصيدة فوجدتها ستة وخمسين، عنوانها «الشاعر»، مطلعها: خَلِّياهُ يَنُحْ على عَذَباتِهْ ... ويَصُغْ مِن دُموعِهِ آياتِهْ ويُرتّلْ ألحانَه بخشوعٍ ... مُستمِدّاً من العُلا نَغَماتِه ومنها: ورواها فمُ الزمانِ بشجوٍ ... فحسِبنا بُناتِهِ من رُواتِهْ كتبَ البؤسُ فوقَ خدّيهِ سَطراً ... تتراءى الأحزانُ في كلماتِهْ للهوى قلبُهُ وللشّجوِ عينا ... هُ وللعالَمينَ كلُّ هِباتِه أليس هذا وصف الشاعر: قلب عاشق، وعينان شجيّتان، وثمراتهما شعر يؤنس قلوب الناس؟ شاعرٌ صاغَهُ الإلهُ من البؤ ... سِ وأبدى الأسى على نظراتِهْ وكذلك كان أنور لمّا قال هذه القصيدة. كان رقيق الجسد، حالم النظرات، حلو الحديث، يلبس حلّة قديمة ولكنها نظيفة، لا يبدلها لأنه لا يملك غيرها، قد حال لون حواشيها لكثرة ما تُنظَّف بالبنزين! مات أبوه وهو صغير، فتولّى أمرَه وأمرَ إخوته الصغار

أخوهم الكبير، وما كان لهم كما كنت (بحمد الله) لإخوتي، فلم يكن أنور يُرى إلاّ منفرداً متوحداً. وحباهُ السحْرَ الحلالَ فغنّى ... شاكراً ربَّهُ على نَفَحاتِهْ وسريُّ النظيمِ ما كانَ وحياً ... فالهوى والشعورُ في طَيّاتِهْ وسريُّ النظيمِ ما كانت الحِكـ ... ـمةُ فيّاضةً على جَنَباتِهْ هذا هو الشعر: حكمة باقية وعاطفة سامية، لا شعر المواخير وبيوت الخَنا. يسمَعُ الصخرُ شعرَهُ وشجاهُ ... فتلينُ الصّخورُ من أنّاتِهْ يومُهُ مثلُ أمسِهِ في شقاءٍ ... ولعلَّ الرجاءَ طيُّ غداتِهْ إنْ دجا الليلُ يرقُبُ النجمَ أسيا ... نَ ويُزجي إلى العُلا زَفَراتِه لا الدجى نازحٌ ولا الفجرُ يَرثي ... لِشجيٍّ أدنى الرّدى خَطَواتِهْ وختمها بقوله: بينما الشاعرُ الحزينُ يناجي ... ربَّهُ والصّبَاحُ في بُشرياتِهْ غابَ عن عالَمِ الشقاءِ وفاضَتْ ... رُوحُهُ وانطوى ببُردِ نَجاتِه * * * كان هذا مذهب شعراء الشباب أكثر شعرهم من هذا الباب، ذلك لأننا كنا جميعاً متأثرين بلامارتين وأصحابه «الرومانسيين» الذين دالت اليوم دولتهم أو كادت، وانصرف الناشئون عنها واستبدلوا بها ما ليس خيراً منها.

كان هذا المذهب مسيطراً علينا، تجدون آثاره في أشعار الشعراء من رفاقي ورفاق أنور رحمه الله ورحمهم: عبد الكريم الكرمي (أبي سلمى) وزكي المحاسني وجميل سلطان، وقد نبغوا جميعاً من صفّ (أي فصل) واحد في مكتب عنبر. ولم تكُن تخلو سنة من شاعر أو كاتب جديد ينبغ من بين الطلاّب، فمن إخواننا الذين هم أكبر منّا قليلاً سليم الزّركلي، وممّن جاء بعدنا بسنين أمجد الطرابلسي وعدنان مَرْدَم بك وناجي الطنطاوي، وممّن هم في مثل سني عمر أبو ريشة في حلب، وممّن هو أكبر سناً بدر الدين الحامد وعمر يحيى في حماة. ولعلّ أشعر مَن سَمّيت هنا عمر أبو ريشة وأنور العطار. عمر أبعد أُفقاً وأوسع مجالاً وأكثر تصرّفاً في فنون القول، وأنور أنعم ديباجة وأحلى أسلوباً. هذا رأيي وكل رأي يحتمل الخطأ والصواب. اجتمع في مكتب عنبر الشعراء الأربعة. وممّن انصرف إلى الأدب وعلومه، ولكن لم يُحسِن الشعر: أنا وسعيد الأفغاني. وكان معنا في المدرسة شاعر ليس من أقراننا ولا سنّه من أسناننا، هو بدر الدين الحامد (الأخ الأكبر لشيخ حماة الشيخ محمد الحامد). كان معلّماً بلا شهادة فجاء يَدرس سنة في «التجهيز» و «دار المعلّمين» ليحصل على الشهادة. وكانت مدّة دار المعلّمين ثلاث سنوات تبدأ من بعد الابتدائية، أي أنها مدرسة متوسطة، ثم زادوا مدّتها سنة بعد سنة حتى صارت مثل المدرسة الثانوية، لذلك رأيتم في صورتنا -يوم نلنا الشهادة الابتدائية- معلّمين في مثل أعمارنا نحن التلاميذ.

وكانت مشكلة هؤلاء الطلاّب الأدباء هي علوم الرياضيات، أي الحساب والجبر والهندسة بأنواعها، وبينها وبين الأدب مثل الذي بين الإضافة والتنوين: كأنيَ تنوينٌ وأنتَ إضافةٌ ... فحيثُ تراني لا تحُلُّ مكاني وكل منهم حل المشكلة على طريقته: أمّا بدر الدين الحامد فقد نظمها كلها، كما نظم الكيمياء والفيزياء (وكنّا نسميها «الحكمة الطبيعية») أراجيزَ كأرجوزة ابن مالك في النحو، وحفظها كلها. وكان سريع النظم قوي الحافظة، فنجا من شرّها ونجح في الامتحان. وأما زكي المحاسني فكان يضع أمامه مسألة الجبر أو الهندسة ويحفظ الشكل كما هو، لا أدري كيف يرسمه على ذاكرته كأنه صورة شمسية ينقلها مع شرح الصورة: مثلت (ب ج د) وخط (ب ج) وخط (ج د) وزاوية كذا، تنطبع في ذهنه انطباعاً مدهشاً ثم يطبعها في ورقة الامتحان، فنجا بذلك أيضاً مع أنه لم يفهم منها شيئاً. أما أنور فلم ينظمها نظم الحامد ولم يطبعها في ذهنه طبع المحاسني، وكان يسقط أبداً في الامتحان. فجئنا وفداً إلى أستاذنا مسلَّم بك عِنَاية فقلنا له: هذا شاعر نابغة ولا يحتاج إلى الرياضيات، ولا يستطيع أن يفهمها، فهل تتغاضى عنه حتى يتفرغ لأدبه وشعره، ولا تُعيقه عن السير بما لا يحتاج إليه ولا يقدر عليه؟ كنا نقول له هذا وهو ذاهب إلى غرفة الطعام ونحن معه، فلما وصل قال رافعاً صوته: انظروا كم شاعراً حول هذه المائدة من الأساتذة؟ البِزِم شاعر، والجندي شاعر، والمبارك شاعر، والقوّاس شاعر ... وراح يعدّهم وهم ينظرون متعجّبين، قال:

هل تظنون أننا نستكمل استقلالنا ونحمي بلدنا، ونستغني عن صناعة غيرنا بمصنوعاتنا وعن الاستعانة بعلومهم بعلومنا، ونكون مثل الأمم التي نسمّيها متحضرة، بالشعر وحده؟ لا يا أولادي! وطردنا، وسقط أنور في الامتحان. وهذا الأستاذ الذي تسمعون باسمه أول مرة والذي نسيه أهل بلده كان من العباقرة، فيه سموّ عبقريتهم وفيه غرائب شذوذهم، وبين العبقرية والجنون جدار رقيق. الناس في مجتمعاتهم كقافلة تمشي، فقد ينفصل عنها رجل ضعيف لأنه لم يستطع أن يمشي معها، أو رجل قوي لا يريد أن يسير بسيرها ولا يحب أن يمشي على طريقها، بل يريد أن يشقّ لنفسه طريقاً جديداً أو يجتازه مسرعاً، فيسبق من كان معه، وهذا هو العبقري. إذا رأيت رجلاً يركض في الشارع في باريس وراء عربة يكتب على جدارها أرقاماً تقول إنه مجنون. ولكن أمبير صاحب المقياس المعروف في الكهرباء كان يحمل معه الحوّار (الطباشير)، فإن عرضَت في ذهنه مسألة وقف أمام جدار أسود ليحلّها، فوقف مرّة يحل مسألة على جانب عربة خيل، فلما سارت العربة عدا وراءها يكمل مسألته لا يحسّ بسيرها. وإن رأيت من يريد أن يسلق بيضة وينظر في الساعة، فوضع الساعة في الماء الذي يغلي ونظر في البيضة، ألا تقول إنه مجنون؟ إن نيوتن صنع هذا، وهو عبقري. وإن رأيت من تسأله امرأة في إسطنبول: أين دار وزير المعارف؟ فيقول (صادقاً): لا أدري، ولكن من هو وزير المعارف؟ فهل يخطر على بالك أن الذي قال هذا هو أمر الله أفندي العلامة التركي الذي كان هو وزير المعارف؟

وإن قرأتم مقالتي «مجانين» في كتابي «صور وخواطر» رأيتم أمثال هذه الأخبار. أستاذنا مسلّم بك عناية كان أحد هؤلاء. كان برتبة «كولونيل» في الجيش العثماني، فلما انحلّ الجيش جاءنا كأكثر زملائه العسكريين مدرّساً في مكتب عنبر، ولكنه كان أكبر من أن يكون مدرّساً للطلاّب فلم يستطع أن ينزل إليهم وما استطاع أن يرفعهم إليه، فكانت بينهما فجوة ملؤوها شغباً وضحكاً وهزراً حتى صار درسه مثلاً مضروباً للفوضى. كان «أستاذاً» في الرياضيات، يضرب بذهنه رقمين في رقمين ويعطيك الجواب خلال ثوانٍ، والمسائل التي يعجز الأساتذة عن حلّها يحلّها على أهون سبيل، يُحسِن التركية ويُعَدّ أديباً فيها، والفرنسية وكان يدرّسها في مدارس الشرطة، والألمانية، وكان أساتذة الكيمياء إذا لم يقدروا على إجراء تجرِبة رجعوا إليه فأجراها هو أمامهم وأمام الطلاّب. عالِم بالموسيقى وعازف ممتاز، أمّا ذكاؤه فلم أرَ من كان له مثله، لكن ذكاءه كان يجاوز الحدّ. أضرب لكم مثلاً: رجلاً يريد أن يقفز حتى يصير على ظهر الفرس، إن كانت قفزته قصيرة وقع دونها، هذا هو الغبي، وإن كانت معتدلة جاء على ظهرها وهذا هو الذكي، وإن كانت طويلة وقع وراء الفرس، وهذا الذي يجاوز ذكاؤه الحدّ. كنا نقول له كلمة، فلا يزال يديرها في ذهنه ويستخلص منها المعاني حتى يصل إلى معنى لم يخطر لنا فيه إساءة إليه، فيغضب منّا. (ومثله في هذا خالي مُحبّ الدين الخطيب). كان يدّعي أن الرياضيات فيها جواب كل مسألة. سمعَنا مرة

نتساءل عن قوله تعالى {ليسَ كمثلِهِ شيءٌ} لماذا جاء بأداتين من أدوات التشبيه: الكاف ومثل؟ فقال لنا: جوابها في علم الهندسة، في نظير النظير: مثلث (ب ج د) نظيره (د ج ب)، هذا ليس مثله، ولكن مثيله هو نظير النظير (ب ج د). وخذوها على أنها طرفة، أليست ظريفة؟ أما أنا وسعيد الأفغاني فلم تكُن لنا مع الرياضيات مشكلة، لأنني لم أنقطع إلى الأدب حتى ملأ ذهني كله، ولم أتنكّر للعلم؛ فكنت أحرز درجة الجيّد وأحياناً الجيّد جداً في العلوم. ونحن إذا قلنا في الشام «علوم» نقصد بها العلوم الطبيعية، إنه اصطلاح مدرسي. وكانت شهادتي (البكالوريا) علمية لا أدبية، لكنني وجدت في الرياضيات مصيبة تهون معها المصائب وتُستسهَل المصاعب، هي الجذر التكعيبي. ولقد مرضت بعد ذلك حتى أشرفت على الموت، وغرقت في البحر في بيروت وأنا لا أحسن السباحة حتى عاينت الهلاك، وذقت السجن (مدة يسيرة، يوماً واحداً) في حاشِرة (زنزانة) لا أستطيع من ضيقها أن أضطجع فيها، وضللت مرة ليلة بطولها في أعالي جبال حلبون (من لبنان الشرقي) وما فوقي إلاّ سماء لا يطلّ منها نجم وفي الجبل دِبَبة رأينا آثار أنياب دُبّ منها في باب المدرسة، وظُلمت وأوذيت ومرّت بِيَ الأهوال، ولكني لم أجد أشدّ ولا أصعب من «الجذر التكعيبي» الذي يصل الآن التلميذ إلى جوابه بكبسة من إصبعه على زر في علبة! وليس أصعب من الجذر التكعيبي هذا الذي أُبطِلَ من المدارس فلم أعُد أسمع له ذكراً، لا أصعب منه إلاّ حل رموز

اللوحات التي وضعتها أمانة العاصمة المقدسة في شوارع مكّة لتدلّ الناس على الطرق، لم أقدر أنا ولا وجدت من قدر على حلها، حتى أخي شيخ أساتذة الرياضيات في سوريا الذي يدرّس الآن في جامعة أم القرى الدكتور عبد الغني: «شرق (أ)، (ب) شمال ق. ل. م. جنوب غرب، إلخ» ما معنى هذا؟ ولمن وُضعت هذه اللوحات إذا كان ما كُتب فيها لا يفهمه أحد؟ كان عندنا في الشام قديماً كاتب عرائض (عرض حالجي) أسعاره مختلفة: عريضة رقم (1) بعشرة قروش وعريضة رقم (2) بخمسة وعريضة رقم (3) بقرش واحد. فسألوه فقال: عريضة (1) أقرؤها أنا ومن تُقدَّم إليه، وعريضة (2) أقرؤها وحدي ولا يستطيع غيري أن يقرأها، وعريضة (3) لا يقدر على قراءتها أحد، وأنا لا أستطيع قراءتها! فهذه اللوحات كلها من زمرة العريضة (3). * * * نعم، كان للشباب قبل سنة 1933 أدب جيّد وكان لهم شعر ومقالات وكتب، فلقد صدر لي قبل هذه السنة كتاب «بشّار ابن برد» وكتاب «الهيثميات» و «قصص الهيثميات»، وكتبت مسرحيات وعشرات وعشرات وعشرات من المقالات، وصدر لجميل سلطان كتاب «صريع الغواني». ولكن الغالب على أدبهم المذهب الرومانسي، إلاّ قصائد وطنية لسليم الزركلي تأثّر فيها بابن عمّه الشاعر الكبير خير الدين، وقصائد لعمر يحيى ولغيرهما ممّن لا أذكر الآن.

حملت على هذا المذهب بسلسلة من المقالات عنوانها «الأدب القومي». وأول من جَرَت كلمة القومية على قلمه -فيما أعلم- مُحبّ الدين الخطيب، وهو أول (أو من أوائل) مَن دعا إلى إحياء لغة العرب وتاريخها وأمجادها، رداً لفتنة «التتريك» التي جاء بها الاتحاديون، كما أنه كان من أول (أو من أوائل) من دعا إلى تنظيم العمل الإسلامي في مصر، وأنشأ أول جريدة (أسبوعية) إسلامية هي «الفتح»، ولكن عزلته وابتعاده عن مجتمعات الأدباء وأصحاب الأقلام وأرباب السلطان جعلت الناس يهتمون بمَن هُم أقلّ منه شأناً وأضعف أثراً وينسونه، ولكنْ يعزّيه هو وأمثالَه أن الله لا يضيع عمل عامل، وأن ما عند الله خير وأبقى. فمن هذه المقالات مقالة عنوانها «الأدب القومي أيضاً»، نُشرت في «ألف باء» يوم الجمعة 13/ 10/1933، فُقدت فيما فُقد من كتاباتي لأن عدد الجريدة لم يُحفَظ ولأن المقالة (وكل ما كتبتُ في تلك الأيام) لم أودعه كتاباً من كتبي، ولكني وجدت نسخة عنها في دفتر كتبه أخي بخطه. قلت فيها: كنت غائباً عن دمشق أقيم في قرية من القرى، متعزّلاً الحركة الأدبية، فلم أرَ إلاّ اليوم كتاب الأستاذ أمين الريحاني «أنتم الشعراء»، ولم أتعرف الضجّة التي أثارها خطابه عن الأدب القوي والأدب الباكي. وقد وجدت الكتاب أقلّ ممّا وُصف به وما قيل عنه، ووجدته يوصي الشعراء بإكرام سيبويه ثم يخالف سيبويه ونفطويه والكسائي وإخوانهم جميعاً مخالفة ترتجف لها عظامهم في قبورهم! ولكن الكتاب -على هذا كله- صحيح الفكرة،

والدعوة إلى الأدب القوي التي بدأ يتولاّها مثل أحمد أمين في مصر وأمين الريحاني هنا، وأدعو إليها أنا (على ضعف قلمي) دعوة صالحة مباركة. (إلى أن قلت): من الذي حجب عن عينيك أيها الشاعر ملذّات الحياة ومفارحها ولم يُرِك إلاّ آلامها وأحزانها؟ لماذا ترى سواد الليل ولا ترى بياض الضحى؟ لماذا تصف بكاء السماء بالمطر في الشتاء وتدَع ضحك الأرض بالزهر في الربيع؟ لماذا تصوّر حشود المآتم وتهمل حفلات الولادة؟ الدنيا ليل ونهار، وشتاء وربيع، وموت وولادة؛ إنها كالقمر، له جانب مظلم وجانب مضيء، فمَن ملأ قلبَه ظلامُ اليأس لم يرَ إلاّ الجانب المظلم، مع أنه خفيّ لا يُرى. أحبَّ ولكن لا تنسَ دينك ولا رجولتك في حبك. ابقَ رجلاً، انتصب قائماً على قدميك وشدّ عضلاتك وقُل لمن تحب (بالحلال): تعالي! لا أن تجيئها خاملاً متهافتاً ضعيفاً، تجثو على قدميها وتقول لها من خلال دموع الضعف في عينيك: أنا أحبك! إن المرأة لو خُيِّرت لما اختارت إلاّ الرجل القوي في جسده وفي روحه، الذي يعمل على تحقيق أمله في مستقبله. أمّا الرجل الأصفر النحيل البائس اليائس الميت من قبل الممات، فماذا تصنع به؟ هذا يحتاج إلى ممرضة لا إلى حبيبة! (إلى أن قلت): ثم إن للشاعر مظهراً لعاطفته غير نفسه وعواطفها ومسرّاتها ومواجعها، وأن ينادي: «يا لوعتي يا شقايا»، لماذا اللوعة ولماذا الشقاء؟ «ضاع الأمل من هوايا». طيّب، وأنا

ما لي؟ فتّش عن هوى آخر أو ابكِ هواك وحدك، لا تصدّع به رأسي من «الأسطوانات» طول النهار! لا تعِش لنفسك وحدها بل عِش لها ولأمتك، فكّر بعقلها، اشعر بشعورها، وأدِّ ما يجب عليك لها. أما أن تقول: هذا حبي وهذه عاطفتي فاشتغلوا بها معي، فلا. إن أدبك يكون إذن مخدّراً للحسّ الوطني. (إلى أن قلت): حسبنا بكاءً ويأساً ورثاء للماضي وفزعاً ممّا يخبّئ لنا المستقبل، كفى تبرّماً بالحياة وشكوى منها، ودعونا من أدب لامارتين وموسّه ومن عبد الوهاب ولوعته وشقائه وحبه الذي ضاع منه. * * * هذا ما جاء في المقالة المنشورة من خمسين سنة، وهؤلاء رفاقنا الذين كانوا طلاّباً وكانوا شعراء، فما تعليق القرّاء على هذه المقالة لو أنها نُشرت اليوم؟ هل تستطيعون أن تقولوا: إن في الطلاّب والشباب من ينظم مثل هذا الشعر؟ من له مثل هذا الأدب؟ هل علونا وارتقينا أو انحططنا ونزلنا؟ هل صار أدبنا أبعد عن الانحراف وأقرب إلى الصواب، وأكثر شعوراً بآلام الأمة وآمالها، وأشدّ اهتماماً بها وتعبيراً بأدبه عن مشاعرها؟ إن من منافع نشر الذكريات أن نفاضل بين ما نحن اليوم فيه وما كنّا بالأمس عليه، فما الذي استفدناه وما الذي خسرناه؟ الجواب عندكم أنتم. * * *

من أصعب الأيام في حياتي

-64 - من أصعب الأيام في حياتي لما كنت أعلّم في المدارس الابتدائية الأهلية في دمشق كانوا يخرجون مع التلاميذ في جولات في قرى الغوطة وفي وادي بردى الذي يمتدّ إلى الزبداني مسافة خمسين كيلاً، فخرجت معهم مرة، ورجعنا مساء وقد أظلم الليل، وكنا نمشي حيال سكة الحديد (من وراء وزارة الإعلام وساحة الأمويين اليوم)، حيث يجري نهر باناس تحت الأرض لا يظهر إلاّ من فتحات تُخفيها الحشائش، والتلاميذ يُنشِدون الأناشيد ويهزجون ويصيحون. فلما وصلنا إلى المدرسة تنبّه بعضهم إلى أن تلميذاً من التلاميذ قد فُقد، وكان ابن الشيخ ياسين الجويجاتي، وهو أحد القرّاء المجوّدين أصحاب الخلق والدين. فانتشروا يفتّشون عنه واستعانوا بمن حضر من أولياء التلاميذ وبذوي النجدة من الناس، فتبيّن بعد ساعات طِوال ثِقال أنه سقط في إحدى هذه الفتحات، وتحققنا أنه مات. وحاروا كيف يبلّغون النبأ أباه، فاقترح الشيخ عبد الرحمن الخطيب أن يخبروا الشيخ بدر الدين، وكان الأب يحضر درسه. فتكلّم الشيخ في الصبر وسرد ما ورد فيمن فقد الولد، حتى عرف الشيخ ياسين، فاسترجع وصبر. وعوضه الله أولاداً نبغوا وجمع

الله لهم الدين والدنيا. وكدتُ وأنا معلم في مدرسة سقبا، كدت أقع في مثل هذا، ولكن الله سلّم. أخذت التلاميذ فقطعت بهم عرض الغوطة إلى بَرْزة فسهل القابون، حتى صرنا في حارة الأكراد، وكانت يومئذ (أي قبل خمسين سنة) مغلَقة على أهلها لا يدخلها غيرهم، فلما صرنا فيها اجتمع علينا صبيانها يرجموننا بالحجارة، فأصرخ بهم فيفرّون منّا ثم يكرّون علينا. واستنجدت بمن صادفت من كهول الحيّ فما أنجدني منهم أحد ولا اهتمّ بي ولا بمن معي، فلم يبقَ أمامي إلاّ أن أقابل الشرّ بالشرّ والجنون بجنون مثله، فأمرت التلاميذ بصوت عالٍ أن يجمعوا الحجارة وأن يرموا بها من يرميهم، ومن أصاب واحداً منهم فأسال دمه كافأته ومن أخطأه عاقبته، فناداني كهول الحيّ وقالوا: ماذا تقول؟ أهذه وصية معلّم لتلاميذه؟ قلت: الله يقول: {وَجَزاءُ سَيّئةٍ سَيّئةٌ مِثْلُها}، فكُفّوا عنّا صبيانكم أكفف عنكم تلاميذي. وكان ذلك، فكفّوا وكففنا. وكان طريقنا من فوق البيوت، نسير في لحف الجبل، نجوز حيّ الأكراد فالصالحية فالمهاجرين، ثم نمشي على شفير الوادي فنهبط دُمَّر، ثم نصعد الجبل المقابل فننزل معه وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى نبلغ المزة. وقد سلكت هذا الطريق من قبل مرات كثيرة حتى إني لأمشي فيه مغمض العينين، ولكننا وجدنا هذه المرة ما لم نكُن نحتسبه. لمّا بلغنا ذروة الجبل العالي المطلّ على الربوة ومتنزّهاتها ومقاهيها، المقابل لـ «المنشار» و «قبة السيّار»، وملنا لنهبط إلى

المزة، اعترضَتنا حظيرة من الجنود السنغاليين على رأسهم عريف فرنسي. فمنعونا، فأردنا أن نرجع من حيث جئنا فأبوا ذلك علينا. قلت لهم: فماذا نصنع؟ فأشاروا إلى الربوة، أي أن نهبط من وجه الجبل. وكان ذلك ممّا يشقّ على المحترفين من متسلّقي الجبال، فما بالكم بأولاد منزلهم الغوطة، ما عرفوا الجبال ولا ألفوا صعودها وهبوطها؟ والجبل من هنا كأنه جدار قائم عليه حجارة صغار، إذا وضع النازل رجله عليها تدحرجت من تحت رجله، فكأنما مشت الأرض أو خُسفت به فهوى معها. عدنا إليهم نحاول إقناعهم، فلا أقنعهم العقل ولا حركتهم العاطفة ولا نفع معهم كلام، كأننا نكلم صخرة أو نخاطب دابة، وكلما ألححنا عليهم حرّكوا زناد البندقية ووجّهوها إلينا. امتحان مرّ عليه نصف قرن ولم أنسَ ما قاسيت منه. وكان معي إخوتي الثلاثة، فكنت أضع أخي ناجي مرة أمامهم وأكون أنا من خلفهم، ومرة أكون أنا قدّام وهو من وراء، وكنت أدعو الله أسأله (إذا كان مقدَّراً على أحد منا الموت) أن أموت أنا أو أحد إخوتي وينجو أبناء الناس. هل يفرّط أحد بنفسه أو بأخيه أو يهون عليه فقده؟ ولكني اخترت أن أقع أنا أو أخي ولا أوقع أحداً من هؤلاء لأنهم أمانة في عنقي، فمن يخلّصني من آبائهم وقد عرّضتُهم أنا إلى الهلاك؟ وتردّد الأولاد وخافوا، وكنت أشدّ منهم خوفاً وأكثر تردّداً، ولكني تجلّدتُ وشددت صوتي وأمرتهم أمراً عسكرياً أن ينزلوا بعد أن علّمتهم كيف يكون النزول، وهددت من يتأخر أو يجبن

بالعقوبة وأثرت الحماسة والشجاعة في نفوسهم. وكنت متعوداً على الجبال، عرفتها وألفتها وطال عهدي بها، فهوّنت النزول عليهم، فنزلوا والحجارة تتدحرج من تحت أقدامهم، وكل من كان في المقاهي أو كان قاعداً على السفح أو كان يتنزّه بين الأنهار التي تجري في الجبل، كلهم يصرخ بي: ما في نزلة من هنا، ارجع، ارجع. ما في نزلة، خطر. يرون الخطر وأنا أراه معهم، ولكنهم لم يروا ولم يعلموا ما الذي جعلني أهجم على الخطر وأعرّض أولاد الناس إليه. وكانت ساعة أطول من دهر، لا يعلم إلاّ الله ما مرّ عليّ فيها وأنا أتوجّه إليه أدعوه ضارعاً مضطراً، وهو الذي يجيب دعوة المضطرّ. كنت أرى الموت في كل خطوة نخطوها بأقدامنا وفي كل حجر ينحدر من تحت أرجلنا، أراه في الوادي الذي يبدو لي كقرارة بئر ما إليها وصول، أرى لمعان مياه الأنهار كأنها سيوف مُشرَعة أو سكاكين محدّدة، أمام قلبي الذي كاد من شدة الخفقان يفارق الضلوع، وكانت صورة الولد الذي سقط قديماً في النهر لا تفارق مخيّلتي، فأسأل الله ألاّ تُعاد وأدعوه أن يمرّ اليوم بسلام. وما كنتَ تراني إلاّ صاعداً ونازلاً، وكذلك يصنع أخواي ناجي وعبد الغني: يتعثّر تلميذ فنسرع إليه أو يعلق فنمضي لإنجاده، والأصوات لا تنقطع من تحتنا من المقاهي ومن شطوط الأنهار، لم يبقَ للناس عمل إلاّ مراقبتنا والنداء علينا. وما صدقت أن بلغت السفح حتى تشهّدتُ، وألقيت بنفسي

على الأرض أستريح قليلاً لأشرح للناس الذين تكوّموا علينا: لماذا نزلنا من هنا. * * * والذكريات -كما تعرفون- يجرّ بعضها بعضاً، فقد ذكّرتني هذه الجولة برحلة إلى حَلْبون (أشرت إليها في الحلقة الماضية)، كنت قد كتبت مقالة أصف فيها الجانب المسلّي منها ووضعتها في كتابي «من حديث النفس»، ولكني واصفٌ اليوم الجانب الآخر. وإذا كان فيما نُشر من قبل شيء من تهاويل الخيال فإن الذي أقوله اليوم هو الواقع أرويه كما وقع. كان ذلك سنة 1931، وكان أخي أنور العطار معلّماً في مدرسة مَنين (¬1) خلفاً لأخي سعيد الأفغاني، فعُيّن صديقنا حكمة هاشم معلّماً في مدرسة حلبون، وكان شاباً في الثامنة عشرة، فضَمِنّا (أنا وأنور) لأبيه أن نذهب معه إليها لنوصله وندبر له أمره. ولقد وصفتُه في المقالة المنشورة يومئذ (مازحاً) بأنه أستاذ جامعة حلبون، فمرّت الأيام ورأيته مدير جامعة دمشق حقاً. ومنطقة التلّ ومنين إحدى متنزَّهات دمشق ومناطق الاصطياف فيها، يخرج أهل دمشق إليها للتفسّح من ضيق الحياة عليهم والتفرّج من شدتها وكربها. أول هذه المناطق وأَولاها باهتمامهم، بل لتكاد تُعَدّ مَصِيفهم الأصلي، لا يقصدون غيرها ¬

_ (¬1) كذا ضبَطها ياقوت في معجمه، بفتح الميم. واسمها الدارج على ألسنة العامة بسكونها، فيلفظونها «مْنِين» (مجاهد).

ولا يفكّرون في سواها، هي منطقة وادي بردى، ابتداء من الرَّبْوة والشّاذِروان إلى دُمَّر والهامَة، وإلى جنب الهامة قرية داثرة هي جَمرايا (¬2) قرية الشاعر ابن واسانة التي قال فيها قصيدة طويلة لا نظير لها في الشعر العربي، يصف فيها ضيوفاً نزلوا عليه نزول البلاء وأكلوا ما عنده أكل الجراد، وخرّبوا عامره وسرقوا متاعه وهمّوا بالتعدي على عِرضه، كأنهم جيش الدفاع الإسرائيلي، أي الدفاع عن شرع إبليس لعنه الله ولعنهم ولعن من يُعينهم ويحمي أمنهم، إنه أمن اللصّ الذي يريد أن يسرق (على كيفه) فلا يروّعه صاحب الدار. وهذه القصيدة العجيبة في «يتيمة الدهر» فاقرؤوها. وعند الهامة يتّسع الوادي قليلاً، ثم يأخذ في الضيق عند الجدَيْدة، فإذا صار عند «العين الخضراء» لم يبقَ منه إلاّ ما يسع بردى، يجري فيه كالشاب المتهوّر الطائش المجنون ولكنه قوي جميل، وعين الخضراء تتوارى وراء الصخرة عند رِجل الجبل كالفتاة الفتّانة المستحية العذراء. وهو أجمل من وادي زحلة عند البردوني، الذي قال فيه شوقي «يا جارة الوادي» وغنّى عبد الوهاب ما قال شوقي، فكان من ذلك أحلى لحن في أحلى شعر. ثم يصل إلى «الفيجَة» (وقد سبق الحديث عنها)، فيمشي بعدها بين جبلين متقاربَين إلى «التكيّة» حيث نُصبت من قديم مولّدات الكهرباء يحرّكها الماء المتحدر، ثم يصير الوادي الضيّق ¬

_ (¬2) وهي اليوم في أرض الدكتور عدنان والشيخ أبي الفرج الموروثة عن والدهم الشيخ عبد القادر الخطيب.

سهلاً فسيحاً، هو الصورة المصغّرة لسهل البقاع الذي تدور فيه الآن المعارك وتتحدث عنه الصحف والإذاعات. هذا هو سهل الزَّبَداني، عن يمينه مَضايا وبُقّين، وفي صدره وعن يساره الزبداني، وفوق الزبداني بْلودان، درة مصايف دمشق وأكثرها عمراناً، وأكثرها فساداً أيضاً. والحضارة المعاصرة لا تدخل بلداً إلاّ دخل معها الفساد. والمنطقة الثانية منطقة النَّبْك ويَبرود، وسأحدثكم حديثها حينما أنتقل إليها -قاضياً فيها- سنة 1941. يَبرودُ يَبرُدُ صيفاً من أقامَ بها ... لذاكَ قِيلَ مع الإشباعِ يَبرودُ والإشباع مدّ الفتحة حتى تصير مثل الألف والضمة حتى تصير مثل الواو: كلمة «شَرٌّ» مثلاً تصير بالإشباع «شارون»: أصله وحقيقته شر ولكنهم شبّعوا الفتح والضم فصار شارون، وبقي شراً على الحالَين ... وهل يأتي من يهودي إلاّ الشرّ؟ والمنطقة الثالثة منطقة التل ومنين التي أتحدث عنها. * * * كان لدمشق يومئذ ثلاثة مداخل (أو مخارج): غربيّ من وادي الربوة إلى بيروت، وجنوبيّ من «القَدَم» في آخر الميدان إلى درعا ثم الأردن ثم إلى المدينة المنورة، وشرقيّ من آخر حيّ النصارى «القَصّاع»، وهو طريق حلب الذي يُضرَب به المثل في الوضوح فيُقال: «أوضح من طريق حلب»، يتفرع عنه من أوله طريق يوصل إلى القَابُون ثم إلى بَرْزَة، وكلاهما صار الآن من

أحياء دمشق. ومن برزة يبدأ وادٍ صغير مُقفِر (أو كان يومئذٍ مقفراً) إلى مَعْرَبا، وهي قرية تقع على الوجه الآخر لجبل قاسيون، ومنها إلى «التلّ»، وهي قرية كبيرة، أو بلدة صغيرة، وأهلها كلهم من البنّائين المَهَرة، وهم الذين بنوا بأيديهم مدينة الرياض في مطلع نهضتها العمرانية من نحو ثلاثين سنة أو أقلّ. ثم تمشي في وادٍ أخضر فيه الشجر والماء إلى منين، وعين منين من أجمل العيون: ينبوع صافٍ غزير حوله بِركة واسعة: يَرُوعُ حصاهُ حاليةَ العَذارى ... فتلمَسُ جانبَ العِقدِ النّظيمِ أي أن الفتاة ترى الحصى في الماء كاللآلئ فتحسب أنها حبات عقدها، فتلمسه لتتحقق من أنها لم تنفرط. وما رأيت في عمري نبعاً أصفى ماء وأجمل حصى من ماء عين منين وحصاها، وكم لي فيها من ذكريات، ولكنّا حُرمنا منها كما حُرمنا من العين الخضراء ومن كل المتنزَّهات لأن الخمر دخلتها فخرجنا نحن منها. وهذه المتنزَّهات للناس جميعاً، فإن لم تتبع شرع الله وتحرّم ما حرمه (وذلك حقّ الله على كل مسلم) فإن الديمقراطية هي (عندهم) حكم الشعب، والذين يشربون الخمر من الشعب لا يجاوزون بضعة أفراد في الألف، أفمن أجل بضعة أفراد من العُصاة نَحرم بقيّة الألف من الطائعين الاستمتاعَ بجمال بلادهم؟ * * * كان الطريق المعبَّد ينتهي عند منين، فمن أراد الوصول إلى حلبون مشى على غير طريق. يصعد جبلاً ويهبط وادياً، يسلك سهلاً ووعراً. وكان الوصول إلى حلبون من جهة الوادي أسهل

ولكنه أطول، ومن فوق الجبل أقرب ولكنه أصعب. ولم تكن معنا سيارة (ولا تستطيع أن تمشي سيارة بلا طريق)، لذلك جاؤونا بدابّة واحدة لنتناوب ركوبها، فتركت لهم نوبتي وسرت على قدمي لأني وجدت المشي أهون من ركوب هذه الدابة. "وذهبنا نصعد الجبل، وكلّما بدت لي قمة قلت: هذه هي النهاية. فإذا وصلت إليها بدت لي من بعدها قمم، وتلفتّ إلى الوراء فإذا منين كلها بقدر الكفّ، وإذا هي من عمقها كأنها في قعر البحر، وإذا أمامنا وعن أيامننا وعن شمائلنا جبال وبِطاح لا حدّ لها مغطّاة كلها بالثلج، وإذا نحن نبلغ موضعاً نُشرِف منه على دمشق من بعيد ونرى جبل قاسيون كأنه أكَمَة تحتنا (أو كذلك خُيّل لنا)، ثم تَوَعّر الطريق فغدا شِعْباً ضيّقاً، على يمينه جبل عال كأنه جدار وعن شماله وادٍ لا يبلغ البصر قرارته" (¬1). وبلغنا حلبون بعدما بلغت أرواحنا التراقي. وليست القصة عن بلوغنا حلبون ولكن عن الرجوع منها. بتنا فيها، فلما كان الغد أبى أنور أن يعود معي وأصررت على أن أعود، فذهبوا يفتّشون لي عن دابّة تحملني ودليل يدلّني، فلم يأتيا إلاّ بعد العصر، فودّعتهم وسرت مع الدليل. وقد نسيت أن أقول لكم إننا كنا في قلب الشتاء، وإن الثلج كان يغطّي تلك الجبالَ كلها ويرتفع سُمْكه أحياناً حتى تغوص فيه القدم، وربما علقت به فلم تدرك صلابة الأرض، وإن الوحوش كثيرة، يدفعها الجوع إلى الإقدام على الفتك بالإنسان. لذلك كنا كلما رأينا ¬

_ (¬1) ما كان بين قوسين فهو من المقالة القديمة.

صخرة أو أغصان شجرة يابسة تبدو في الثلج الأبيض حسبنا ما رأينا واحداً من هذه الضواري التي كنا نسمع أصواتها من بعيد ... ومن أفتكها الدببة، وما أدراك ما دببة حلبون؟ ولقد رأيت على باب المدرسة (وهو من الخشب السميك) آثارَ أنياب دبّ منها كأنها مسامير دُقّت في الخشب ثم نُزعَت. ركبت ومشى معي الدليل، ثم عزمت عليه أن يركب هو وأمشي أنا لتكمل المساواة بيننا. وغابت الشمس فنويت الجمع لأني لم أجد مكاناً جافاً أصلّي فيه، وأظلم الكون وسكن الليل ونحن نمشي صامتَين، وبدا لي ضوء من بعيد، قلت: ما هذا؟ قال: هذه منين. قلت: ارجعْ إذن، فأنا أكمل الطريق وحدي. فأخذ الدابة ورجع، ونزلت في منحدر من الأرض فغاب عني الضوء، وكانت السماء غائمة لايبدو فيها نجم أستهدي به، فندمت على أن صرفت الدليل، فناديته فلم أسمع إلاّ صدى صوتي تردّده هذه البطاح، فخفت. نعم، خفت. أتريدون أن أكذب عليكم فأدّعي لنفسي شجاعة تجاوز حدود العقل؟ إن كل ما جاوز العقل جنون. لمّا جئنا كنا ثلاثة ومعنا دابة ودليل ونحن في النهار، وقد قرأتم وصف ما مرّ بنا، فكيف بي الآن وأنا وحدي والدنيا ليل، لا يبين لي طريق فأسلكه ولا نجم في السماء فأهتدي به، وما معي سلاح أردّ به عن نفسي وحشاً يهجم عليّ؟ خفت، ومن خوفي جعلت أعدو لا أعرف إلى أيّ وجهة أتجه، أسقط في حفرة أخفاها الثلج المتراكب عني، ثم أنهض

فأخرج منها. وكنت ألبس دِثاراً (¬1) من الصوف فوق القميص، ومن فوقه الرداء (الجاكيت) ومعطف ثقيل، فابتلّت ثيابي كلها من العرق كأنّها غُسِلت بالماء. وكان الجوّ بارداً، جوّ ثلج، فإن وقفت في البرد وثيابي مبتلة أصابني «الرشح»، فلم يكن أمامي من خيار إلاّ الحركة الدائمة. لم أشعر بالتعب ولا الجوع، لأن الشعور بالخوف غطّى عليهما. قطعنا على الطريق من منين إلى حلبون لمّا جئنا ثلاث ساعات، وقد مضت عليّ الآن خمس ساعات وأنا كحمار الرحى، أدور وأدور وأنا في مكاني، أعلو وأنزل وأنحرف يميناً وشمالاً على غير هُدى، حتى مَنّ الله عليّ فأبصرت مرة ثانية الضوء الذي قال لي الدليل في أول الليل إنه ضوء منين. فأخذت سَمتي إليه لا أنحرف عنه مهما اعترضني لأن الأمر صار أمر حياة أو موت، وفي مثل هذه الحال قد يتحقق المحال. وصلت منين -بعدما قاسيت ما لم يعلم به إلاّ الله- وقد صارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان مدير الناحية فيها صديقي وقريبي نذير الخطيب (أبوه الشيخ عبد القادر الخطيب ابن عمّ أمي) فاستحيت أن أدق الباب عليه، فسلكت طريق «التل»، وهو وادٍ متعرّج يجري فيه ماء عين منين في نهر صغير مزبد متحدّر له صوت، فاستسهلت ما كنت فيه وأنا فوق الجبل: كنت أرى ما حولي أحسّ بالخطر قبل أن يصل إليّ، فصرت هنا لا أرى ما بعد منعطف الوادي. وبمقدار جمال الماء المتحدّر المتكسّر في ضياء الشمس ¬

_ (¬1) ما لامس الجسد من الثياب فهو الشعار، وما يُلبَس فوقه لطلب الدفء فهو الدّثار.

يكون الخوف منه في سواد الليل، لذلك كان سلوك هذا الوادي أشقّ عليّ من الضلال فوق الجبال! ووصلت «التل» وقد بقي دون الفجر أقل من ساعتين، وكانت سيارات البلد الكبيرة رابضة تنتظر طلوع النهار وتوافُد الركاب، وكانت أجرة السيارة إن هي امتلأت مقاعدُها كلها ثلاثَ ليرات، فقلت: خذوا ثلاث ليرات وأوصلوني إلى دمشق، فما قبلوا. فماذا أصنع؟ مشيت الليل كله وأنا جائع خائف وثيابي كلها تقطر ماء، والليلة باردة، وقد أنفقت آخر ذرة من طاقتي. فاضطُررت أن أسأل عن دار معلّم المدرسة، ووجدت بعض المبكّرين فدلّوني عليها، فقرعت عليه الباب فقال: مَن؟ قلت: عليّ الطنطاوي، افتح لي. ففتح مدهوشاً (وربما كان مرعوباً)، فقلت: تسبّني، تشتمني، تقول عني ما شئت، الحقّ معك والله يسامحك، بس (¬1) أدخلني وأعطِني قميصاً وثوباً حتى أجفّف ثيابي، وشيئاً آكله. فأدخلني وأوقد المدفأة، وجاءني بثياب وتركني أنزع قميصي وردائي وألبس ما جاءني به، وأتاني بالشاي وبالطعام فأكلت وشربت، ورويت له قصتي باختصار، وتركني لأنام. * * * ¬

_ (¬1) كلمة «بَسْ» بمعنى فقط معرَّبة من القديم.

نمت ثلاث ساعات، ثم نهضت فكتبت له ورقة أشكره فيها وهربت. أما هذا المعلم فهو الأستاذ محمود مهدي الإسطنبولي، رفيق المدرسة، كان في مكتب عنبر بعدي بسنة واحدة ثم صار صديقي، أحبّه ويحبّني وأناقشه فأسبّه ويسبّني، ألتقي معه في أصول المسائل وأخالفه في فروعها، نفترق فنشتاق ثم نجتمع فنختصم. فإذا لقيتموه فأبلغوه أنها مرّت اثنتان وخمسون سنة شمسية ولكني لم أنسَ ما صنع لي تلك الليلة، إنها ليلة أموت ولا أنساها. * * *

من سقبا في بطن الغوطة إلى رنكوس في رأس الجبل

-65 - من سَقْبا في بطن الغوطة إلى رَنْكوس في رأس الجبل وصلت الآن في ذكرياتي إلى سنة 1933 (1352هـ)، وأنا لا أزال أمشي في تدوينها على ترتيب السنين، تذكّرني -إن نسيت- أوامر وزارة المعارف بنقلي من مدرسة إلى مدرسة وتواريخ الصحف التي نُشرت فيها مقالاتي، وإن بقي عندي الأقلّ منها وضاع أكثرها. وكانت دمشق هذه السنة، بل كانت سوريا كلها، كأنها تعيش بجوار بركان يفور أحياناً فتفتح أبواب جهنّم ويهدأ أحياناً؛ سنة مظاهرات وهزّات، تسكن دمشق قليلاً فتتحرّك حلب، أو تهيج حمص أو حماة، وكنت ممّن يُضرِم هذه النار وينفخ فيها بلساني وبقلمي، كما يصنع كثير من أقراني وأمثالي. ما كنت في ذلك وحدي، وإن كنت من أحدّهم لساناً وأمضاهم قلماً، وأنا أشير (على سبيل المثال) إلى مقالة عنوانها: «يا أمة الحرية» نُشرت في جريدة «اليوم» عدد 27/ 12/1931، وعندي إحدى عشرة مقالة مثلها كتبتها في ذلك العهد. وهاكم فقرات منها:

أنا لا أجمجم الكلام ولا أديره على وجوهه التي ترضون عنها، فقد يئست حتى ما في نفسي مكان لأمل ولا متّسَع لخوف، واليائس لا يخيفه شيء، وإن نحن عجزنا عن أن نعيش أحراراً فلن يُعجِزنا أن نموت أحراراً، وما بعد الذي كان يوم الأحد أمل ولا خوف. لقد قُضي علينا أن نهبط من عليائنا وأن نُسلَب حرّيتنا ونفقد استقلالنا، ولكن لم يأتِ بعد، ولن يأتي أبداً، اليوم الذي نخسر فيه إيماننا وكريم خلالنا. إننا اليوم كما قال ملككم فرنسوا الأول: «خسرنا كل شيء إلاّ الشرف»، كتب ذلك في رسالة بعث بها إلى الملك المسلم العظيم سليمان القانوني يستنجده، فوجد منه النجدة والمدد. فجئتم أنتم -يا أحفاده- تردّون جميل صنعه لكم بقبيح صنعكم بنا، ولا عجب، فقديماً قال شاعرنا: ملكنا فكان العدلُ فينا سجيّةً ... فلما ملكتُم سال بالدّمِ أبطحُ وحلّلتمُ قتلَ الأُسارى وطالَما ... غدونا على الأسرى نمُنُّ ونصفَحُ فحسبُكمُ هذا التفاوُت بينَنا ... فكُلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضَحُ لقد قاسينا منكم الظلم وعايشنا الفقر وشاهدنا الخراب، وأصبحَت مدينتنا أطلالاً وأهلها مشرّدين ونساؤها ثاكلات، فماذا نخاف بعد هذا؟ عندكم أشدّ من الرصاص؟ فقد فتحنا له صدورنا. والقنابل؟ قد أعددنا لها دورنا. هل عندنا أغلى من الأرواح؟ لقد بذلناها ثمناً للاستقلال. ثمنُ المجدِ دمٌ جُدنا بهِ ... فانظروا كيفَ دفعنا الثمنا

كيف سقينا بدمنا وادي ميسلون وجنان الغوطة، وبطاح حماة وحمص وأرجاء حلب. والأرض التي تُسقى بالدم لا تُنبِت إلاّ الاستقلال. ألم يقُل لكم أحد: إن الدم العربي أحمر مثل الدم الفرنسي حارّ مثل الدم الفرنسي، وإن لشهدائنا آباء وأمهات يبكون ويتألمون ثم يصبرون أو يُقدِمون وينتقمون، كما يصنع الآباء في فرنسا؟ فإذا كانت ثورتكم الكبرى التي تعتزّون بها قد أثمرت -كما تزعمون- قوّة فرنسا، فإن ثمرات ثورتنا ستجيء حين يجيء موعدها. فاملؤوا المرجة دبّابات، واقتلوا منّا المئات، واكذبوا فانشروا ما شئتم بلاغات، فكل ما هو آتٍ آت. إن الهرّة إذا حُبست وضويقت انقلبَت لبؤة، والبركان إن سُدّت فوهته كان الانفجار، والشعب إذا استُذِلّ ثار، والنار ولا العار، وللشهداء عقبى الدار. * * * هذا مثال ممّا كنت أكتبه في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي، تنشره الجرائد لأن الصحافة كانت حرّة، ولا تنالني منه مضرّة لأنه لا حبس إلاّ بحكم المحكمة. كذلك كانت الحال أيام الاستعمار، فما الذي صار؟ واشتدّت الحركة في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1933، وكانت دمشق هائجة: أسواقها مغلَقة والمظاهرات فيها مستمرّة، والمصادمات بين المتظاهرين وقُوى الأمن قائمة، هؤلاء بالسلاح

وأولئك بالحجارة. في ذلك اليوم خطر لابن خالتي (وأستاذي) الشيخ شريف الخطيب مدير المدرسة الأمينية (التي سبق الكلام عنها) أن يسوق تلاميذه، وهم يزيدون على المئتين، ويزورني بهم، لعلّ هذه الزيارة تنقل حُمّى الحماسة إلى الغوطة فتشارك دمشق النضال. وبعث من يخبرني أنه وصل بهم إلى طرف القرية، فرأيت أن من الخير ألاّ يدخل بهم المدرسة لئلاّ يحمل ذلك الفرنسيين على إغلاقها، وبعثت من يدلّهم على مكان متّسع ليلعب فيه التلاميذ إلى أن ألحق بهم. وانتظرت حتى انتهى «الدوام»، وكان يوم خميس، فصففت تلاميذي ووكّلت بهم من يقودهم إلى المكان. وكانوا يمشون بنظام مشي الجند، سواء أكنت معهم أم كنت بعيداً عنهم، وكان من يرى ذلك يعجب منه ويراه شيئاً كبيراً، وما هو إلاّ التدريب والإقناع مني والطاعة عن رضا وقناعة منهم. فلما خرجوا -وكنت على وشك اللحاق بهم- جاءني من يدعوني إلى الهاتف لأني مطلوب من دمشق، فذهبت. قلت: نعم؟ قال مَن في الطرف الثاني من الخطّ: أنت الأستاذ؟ فلما سمعت لقب الأستاذ اطمأننت لأن من يريد الشرّ لا يدعوك الأستاذ، وقلت: نعم، أنا. قال: هنا قيادة الدرَك، وقد فهمنا أنك دعوت قريباً لك مدير مدرسة لتُحدِثوا قلاقل في الغوطة، فنحن ننصحك أن ترجعهم. قلت: أما أنه قريبي فنعم، ولكني ما دعوته وما نويت أن أحدث حدَثاً ولا أن أخلّ بالأمن، وأنا لا أملك إرجاعهم لأنهم ليسوا عندي، وليس من عملي ولا في طاقتي أن أرجعهم.

وتركتُه ولحقت بالشيخ ومعه معلّمو مدرسته وتلاميذه، فاجتمع نحو أربعمئة من التلاميذ، فأكلوا وشربوا، وكانت خطب وكانت لعب. ثم حضر ثلاثة من رجال الدرَك على الخيول فصاحوا بنا ليهوّلوا علينا: اسمعوا، ممنوع بقاؤكم هنا، يجب أن تنصرفوا حالاً. ظنّوا أن هذا يخيفنا، ولكنا ما خفنا، بل دعوناهم ليقعدوا معنا ويأكلوا من زادنا ويشربوا من شاينا، فأخذ كبيرهم وضع الجدّ، وكان رقيباً كبير السن، وقال: يا أفندي هذه أوامر الحكومة، ونحن قد جئنا لتنفيذها لا لنأكل ونشرب ونلهو ونلعب. قلت: على كيفكم، اعملوا ما يجب عليكم، أمسكوا الأولاد وأرجعوهم أنتم لأننا لا نريد الرجوع الآن. فصرخ: يا أولاد، هنا، اصطفّوا. فما ردّ عليه أحد، فأمسك بواحد وقال له: قف هنا لا تغادر هذا المكان. وولاّه ظهره ليأتي بغيره فهرب، وحسبها الأولاد «لعبة يعيش»، وهي لعبة كانت معروفة ينقسم فيها اللاعبون إلى قلّة تمثل دور الشرطة وكثرة تقوم بدور المتظاهرين، وكلما أمسكت الشرطة بواحد أي قتلته (بالرمز لا في الحقيقة) جاء أحد رفاقه فلمسه فيعيش، فكأن مهمة الشرطة في اللعبة الإمساك بالآخرين ومنع رفاقهم من الاقتراب. وبلغت النشوة والفرحة بالتلاميذ أقصى مداها حين رأوا أنهم يلعبون مع عسكر حقيقيين لا مع عسكر ممثّلين، وعلَت ضحكاتهم وارتفع هتافهم، ورجال الدرك المساكين قد كلّت أرجلهم من السعي وألسنتهم من الشتم، لا سيما الكهل رئيسهم.

فقمت إليه فقلت له: اسمع مني وتعالَ أنت وأصحابك فاقعدوا فاستريحوا واشربوا كوباً من الشاي ودَعوا هذه اللعبة السخيفة فلن تأتي بنتيجة. هؤلاء أولادكم، فهل تطيب قلوبكم بإيذائهم؟ وهل معكم أمر بإطلاق النار عليهم؟ ولو أمروكم أفتنفّذون أمر أجنبي كافر في أولادكم؟ لقد عملتم ما استطعتم ونحن نشهد بذلك معكم، فلا ترهقوا أنفسكم خدمة لعدوّكم ومحتلّي بلادكم، فإنّ أخسرَ الناس من باع دينه بدنيا غيره. قال: والله صحيح، الله يلعن أبو فرنسا واللي جابها، لعنة الله عليهم! ودعا صاحبيه أن تعالوا يا شباب، حاجِة (¬1) مَسْخَرة، نلحق أولاد صغار بعد هذا العمر؟ الله يلعن أبو فرنسا واللي جابها! وكسبنا المعركة ولكن خسرنا الحرب، إذ لم تمضِ إلاّ أيام حتى تلقّيت الكتاب الرسمي بنقلي إلى رَنْكوس. * * * أرأيتم الذي غرقت سفينته فتعلق بخشبة منها، قد انحصرَت أمانيه في الوصول إلى الشطّ، تدفعه موجة إليه فيقرب منها فيستبشر، فتأتي موجة أخرى فتبعده عنه فييأس؟ كذلك كنّا أنا وإخواني جميعاً، كنّا معلّمين في القرى فإن اقترب أحدنا من دمشق دنا منه الفرج، نُقلت إلى سقبا فكأني صرت في دمشق، لم تبقَ بيني وبينها إلاّ خطوة، فما لي الآن أُرجِعت خطوات إلى الوراء، إلى رَنكوس؟ ¬

_ (¬1) حاجة معناها «يكفي»، أو كما يقولون في مصر «كفاية».

هل تذكرون كلامي في الحلقة الماضية عن منين وكيف تركتها وأخذت شمالي إلى حَلبون؟ إن منين هي محطّة في الطريق إلى رنكوس، يمشي بعدها الطريق صاعداً في الجبل حتى يصل إلى صِيدْنايا؛ وفيها الدير الكبير وهو من أكبر أديِرَة النصارى وأعمرها، وله تاريخ طويل، والنصارى يحجّونه ويعتقدون فيه عجائب الأباطيل. ثم يزداد الطريق صعوداً ووعورة حتى يبلغ رنكوس. عندنا قريتان كانتا تُعجِزان الحكومات، صلابة وشدّة وعنفاً وجرأة منقطعة النظير، هما رَنْكوس هذه وفيها آل سرسق (¬1) وسَرْغايا من هناك، وهي بعد الزّبداني وفيها آل الشمّاط. لا أقول إنهما أسرتا فتوّات، فما كانا عليه أكبر من عمل الفتوّات؛ كان أشبه بعمل عُتاة العصابات، أقصد الذي كان لا أتكلم عن حالهما الآن. والذي زاد ألمي أنه كان معنا في الصفّ (أي الفصل) في مكتب عنبر طالب أكبر منّا سناً ولكنه مقصّر دائماً، ينجح سنة ويسقط أخرى رغم عناية بعض الأساتذة به لأنه ابن أسرة كبيرة وجيهة، وكان أبوه (كما أظن) وزيراً. صار هذا الطالب معلّماً في رنكوس، وكان أهله يبذلون طاقتهم كلّها ويسخّرون وجاهتهم لنقله، فلما حدث هذا الحادث استندوا إليه فنقلوني معلّماً في رنكوس مكانه وأعطوه مكاني. ¬

_ (¬1) وإنها لتتشابه الأسماء وتتفاوت الأفعال، سرسق وسرسيق، الأول اسم من عرفتم وسرسيق اسم الصديق العالِم الكاتب، وإن كان له قلم يجعله إن شاء أنكى من سلاح آل سرسق وأبقى أثراً.

لقد آلمني هذا الظلم وكان أشدّ عليّ من الإبعاد. * * * فارقت سَقبا وسلّمتها إلى هذا المعلم الجاهل. ولست أسبّه إن قلت إنه جاهل، هل تسبّ الحمار إن قلت إنه حمار ولم تقُل إنه غزال بآذان طوال؟ ولكن لا، أستغفر الله لي وله، فقد مضى إلى رحمة ربه وأنا ماضٍ بعده، ولقد كان رفيقي في المدرسة، فاللهمّ ارحمه وسامحني. وخرجت من مدرسة سقبا كأني لم أدخلها ولم أبِت فيها ليلة قط ولم أعِش فيها عاماً ونصف عام، وكأنّي لم أُودِعها من ذكرياتي ومن حياتي ما لا أستطيع أن أنساه لأنه صار جزءاً مني، أي من الـ «أنا» التي أقوم بها وتقوم بي. وإن أنسَ لا أنسَ يومَ الوداع، يوم ألقيت على هؤلاء الصغار الأطهار وصيّتي الأخيرة ثم فارقتُهم فراق الأب أبناءه. خرجت وهم يشيّعونني واجمين، الحزن يملأ قلوبهم ولكن العجز عن البيان يمسك ألسنتهم، ولقد رأيت فيهم مَن يتكلم بدمعه لمّا عجز عن الكلام بفمه. وليس هذا عجيباً، فقد أشعرتُهم أني كنت لهم أباً أو أخاً كبيراً، أؤدّبهم وقد أضربهم ولكنني كنت أخاف عليهم وأحبّهم، ألا يؤدّب الأبُ ابنَه الذي يحبّه؟ لقد كان يهوّن عليّ فراقَهم أنني ما غششتهم وأني نصحت لهم، وأني لم أدّخر وسعاً في تقويمهم وتربيتهم؛ لم أكُن معلّماً كالمعلّمين بل كنت مرشداً وناصحاً. نبّهت الإيمان في قلوبهم الصغيرة، ما قلت إني غرسته لأن الإيمان مغروس في أعماق كلّ

قلب، ولكن يغفل فيحتاج إلى تنبيه ويُستَر (أي يُكفر) فيحتاج إلى إظهار. علّمتُهم الصدق حتى إن أحدهم يعترف بذنب ارتكبه لم يرَه عند ارتكابه أحد. كانت وراء المدرسة قطعة أرض كبيرة تابعة لها مهمَلة فكلّفت التلاميذ انتخاب نفر منهم ليفلحوها ويزرعوها، وعلّمتُهم كيف يكون الانتخاب فانتخبوهم بإشرافي. بدأت منهجاً علمياً في التربية وفي التعليم، ولكنهم لم يدَعوني أُتمّه من أجل خاطر رفيقنا ابن الأكرمين، فانهدّ البناء كله لمّا تركتُه. وجدت ورقة في دفتر قديم فيها سطور كتبتها يوم 31 كانون الأول (ديسمبر) 1933 هذا نصّها أنقله كما وجدته: "أنا الآن في قعر الهوّة، فهل أخرج منها؟ هل أذكر هذه الأيام المريرة فأتحدّث عنها وأحمد الله على الخلاص منها، أم قد ذهبَت الآمال إلى غير رجعة؟ هل قُضي عليّ أن أبقى أبداً معلّماً في القرى أم ... " أم ماذا؟ لم أجد بقيّة الجملة، ومهما تكن فإن الله -وله الحمد- قد نقلني من تلك الهوة إلى «أم» (¬1). فيا أيها الواقعون في الضيق، الذين يعيشون الشدائد، الذين يقاسون المصائب ويتحمّلون الآلام، لا تيأسوا من رَوح الله؛ إن الله عنده من كل ضيق مخرج وبعد كل شدّة فرج. هل قرأتم كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي التنوخي؟ لقد قرأته وعمري إحدى عشرة سنة، ثم قرأته أكثر من ثلاثين مرّة وحفظت قصصه كلها من كثرة ما أعدت النظر فيه، وصحّحت من حفظي الكثير ¬

_ (¬1) عُرضت مرّة مجموعة من السبايا على المعتصم، فسأل واحدة منهن: أنتِ بكر أم أيش؟ قالت: أيش يا أمير المؤمنين.

من أخطاء النسخة المطبوعة منه، ولو وجدت له نسخة مخطوطة صحيحة لحقّقتُه وأعدت نشره لأني صرت من أعرف الناس به. فاقرؤوه -على كثرة أغلاطه- تجدوا فيه ما لا تجدون مثله في كتاب آخر من صور المجتمع العباسي ومصطلحات أهله، وأحوال الموظفين وأوضاع التجّار، وأقلّ ما تستفيدون منه أنه يهوّن على المحزون منكم حزنه حين يرى أن مِن الناس مَن أصابه أكثرُ ممّا أصابه. ولكن فيه كلمات من اللغة العبّاسية لا يكاد أحدٌ يعرف معناها معرفة يقين (¬1)، ومثلها في «البخلاء» للجاحظ، حاول بعض المستشرقين تفسيرها فوُفّقوا في بعضها. خرجت عن الموضوع كالعادة فمعذرة. * * * ¬

_ (¬1) في ختام حلقة لاحقة نشر جدي رحمه الله التعليق التالي: "تعليقاً على ما قلتُه في الحلقة الماضية عن كتاب «الفرج بعد الشدة» خبّرني أخي، أو ولدي، الأستاذ العصامي النابغة زهير الشاويش صاحب «المكتب الإسلامي» للنشر وناشر العشرات من كتب الفقه الحنبلي والكتب السلفية القيّمة ومحققها، خبّرني أن الأستاذ عبّود الشالجي حققه ونشره في خمسة مجلدات، فسّر فيها الألفاظ العبّاسية وعلّق عليها، كما نشر الكتاب الآخر للقاضي التنوخي وهو «نشوار المحاضرة»، ففرحت بهذا الخبر عنهما وعجبت كيف لم أرَهما ولم أسمع بهما وقد طُبعا من سنين" (مجاهد). قلت: وتحقيق المحامي عبود الشالجي لكتابَي القاضي التنوخي هذين في غاية النّفاسة، وقد أعانه على شرح ألفاظهما العبّاسية الغريبة أنه من سكان بغداد، وُلد ونشأ فيها كما يظهر من تعليقاته وحواشيه الكثيرة المفيدة (مجاهد).

لمّا نُقِلت هذه النقلة كنت في قلب الشتاء، وكنت أستطيع أن أطلب إجازة ولكني لم أقبل الهزيمة، وكانت هِمّة الشباب تملأ جوانحي، فحزمت حقيبتي وركبت إلى صيدنايا، فلما بلغتها ووقفَت السيارة الكبيرة فيها ونزل منها رُكّابها قلت: ولكني أريد الوصول إلى رنكوس. فقالوا: مستحيل. قلت: ولِمَ؟ قالوا: الطريق مقطوع قد سدّته الثلوج. قلت لصاحب السيارة: أدفع لك ما تريد فأوصلني. قال: ما عندنا ركّاب فهل تدفع أجر المقاعد كلها؟ قلت: نعم. قالوا: وإن لم نستطع الاستمرار في السير؟ قلت: إن لم تستطيعوا فعودوا والأجرة لكم. وسرنا وسط الثلوج في طريق جبلي خطر، فلما بلغنا نصفه أو أكثر قليلاً لم يعُد بالإمكان أن تتقدم السيارة ذراعاً واحداً. فقلت: عودوا وأنا أمشي. قالوا: كيف تمشي؟ الطريق خطر ولا يخلو من وحوش، والثلوج كما ترى. فأصررت ومشيت؛ مشيت نحو ساعتين ونصف الساعة، الله وحده يعلم ما قاسيت فيهما، وكان البرد يَقصّ العظم. ووصلت فسألت: أين المختار (أي العمدة)؟ فنظروا إليّ مدهوشين كأنهم يرون فيّ جنّياً طلع عليهم، وقالوا: مَن أنت؟ وكيف جئت؟ قلت: أنا المعلم، وقد جئت ماشياً من نصف طريق صيدنايا. وكانوا رجالاً صِلاب العود يقحمون الأهوال، فعجبوا من شابّ شامي يبدو في أنظارهم رقيق العود قليل الصمود، يفعل ما لا يُقدمون على فعله. ودلّوني على المختار، وكان قاعداً مع صحبه على دكّة (مَصطبة) يواجه شمس الشتاء الضعيفة، فسلّمت فردوا

رداً ضعيفاً وقالوا: مَن الأخ؟ فخبّرهم من كان معي أنني المعلم وأنني جئت ماشياً، فكبرت في أعينهم قليلاً. ودعوني إلى القعود، ثم قال المختار: لا يا جماعة، بل يدخل فيأكل شيئاً ويستريح. ودخلت معهم إلى «المَضافة» فشربت الشاي وأكلت ما حضر، وسألت: أين المدرسة وأين تلاميذها؟ فسبّوا الحكومة وشتموا المعلّم، وفهمت من كلامهم أن الوزارة لم تستأجر داراً للمدرسة، ولا صنعَت ولا صنع المعلّم شيئاً للقرية. وتلقّيت أنا هذه الشتائم بوصفي الموظف الحكومي الوحيد بينهم! وكان الناس قد تواردوا على «المضافة» ليروا هذا المعلّم العجيب الذي بلغ حبّه التعليم وشغفه به أن يخوض إليه الثلج ويلتحف البرد ويتعرض للمهالك. فلما كثر عددهم قمت فألقيت عليهم خطبة نارية مجلجلة، أثرت بها وطنيتهم ونبّهت إيمانهم وحيّيت بطولتهم ورجولتهم، ورغّبتهم بالعلم ليكون من أبنائهم من يحتلّ هذه الكراسي التي يقتَعِدُها الجواسيس والمنافقون من رجال السلطة وأذناب الاستعمار. وما إن انتهيت حتى صرت عندهم شيئاً آخر غير الذي رأوه أول مرّة. واستأذنتهم أن أرجع اليوم وأعود إليهم إن شاء الله بعد أن تُفتح المدرسة وتستكمل عدّتها. ولم أرجع ماشياً، بل تطوّع واحد منهم عنده سيارة فحملني إلى قلب صيدنايا. * * * هل كان يخطر على بالي يومئذ أنها ستمرّ إحدى وخمسون

سنة، وأني سأكون في مكّة، وأني أذكر تلك الأيام وقد انطفأت حرارة ألمي منها حتى لأتحدث عنها كأن غيري هو المُصاب فيها؟ كنت أراها في حينها هي الواقع كله، كنت أحسب أنها آخر الدنيا وأنه كُتب عليّ تجرّعها وإن لم أسِغْها، فالحمد لله أن جعلها مجرد ذكرى وصيّرها حديثاً يُروى. فليأخذ المتألمون المعذَّبون العبرة من هذا الذي أقول، فما أسرد خيالات ولا ألقي مواعظ، بل أروي لهم ما وقع لي. وسيأتي على هؤلاء المتألمين المعذَّبين بمرض ينغّص عليهم عيشتهم، أو فقر ينكّد عليهم أيامهم، أو سجن ظالِم يقيّد أيديهم ويحرمهم أهلهم وأولادهم، أو عذاب مستمر من جبّار آثم يغاديهم به ويماسيهم ... سيأتي عليهم يوم يكون فيه هذا كله ذكرى في النفس وحديثاً في المجالس. ومهما اشتدّ الضيق فالفرج موجود. اقرؤوا ما كتب الأستاذ مصطفى أمين عمّا قاسى في سجنه، وما كتب غيره عمّا في سجون الظالمين ومعتقلات المجرمين، وها هو ذا قد نجا منها ورجع يكتب والتفاؤل ملء بردَيه والأمل يظهر على سنّ قلمه. وإن لم يرَ البائسُ الفرح في الدنيا، فما الدنيا؟ أيام معدودة، وإن الحياة الباقية لهي الحياة الآخرة، وهنالك يعوَّض المظلوم تعويضاً يرضيه، ويرى الظالم ما قدّم لنفسه. * * *

المجمع الأدبي في دمشق

-66 - المَجْمَع الأدبي في دمشق في هذه الأيام التي أكتب عنها عاد من أوربّا منير العَجْلاني يحمل الدكتوراة في الحقوق. ولم يحمل هذه الشهادةَ قبله إلاّ قليل من أهل الشام من أقدمهم أستاذي كامل نصري، ونجيب الأرمنازي، وكامل عيّاد. أما الأطباء فيحملون الدكتوراة لقَباً بلا شهادة، ولم يحصل على الشهادة فيما أعلم أحدٌ قبل عارف صدقي الطَّرَقْجي الذي جمع دكتوراة الطبّ والحقوق معاً. ولم نكن نفرّق بين شهادات الدكتوراة حتى كتب منير العجلاني فبيّن أن في فرنسا نوعين منها: دكتوراة الدولة وهي المعتبَرة، ودكتوراة الجامعة. وعلمنا بعدُ أن في ألمانيا (التي تخرّج فيها نصري وعياد) نوعين منها أيضاً. ونوع ثالث موجود في فرنسا وألمانيا وأمريكا وكل مكان، وهو شهادة دكتوراة ولكنها مثل شهادة الزور أمام القاضي، تُشترى بالمال ولا تقترن بالعلم، ادفع تجد من يكتب لك الرسالة من الأساتذة وتجد من الأساتذة من يضمن لك الفوز في مناقشتها، وكل شيء له ثمن، فمن دفع الثمن نال ما يطلب وعاد يغشّ به البشر.

عرفت منير العجلاني قبل أن ألقاه من مقدّمته التي كتبها لرواية «سيد قريش»، بأسلوب ناعم رشيق مملوء بالأمثال والشواهد من الأدب الفرنسي، تدلّ على أنه متمكّن منه وأنه قد خالط نفسه وعايشه. أسلوب لا أدري لماذا يذكّرني كلما قرأته بصوت فيروز: فيه كل مزايا الأصوات القادرة المعبّرة لكن بمقياس صغير صغير، كأنك ترى المنظر الجميل بالمنظار المقرّب، ولكن من الجهة الأخرى، فترى المنظر كله ولكنْ مصغّراً بدلاً من أن تراه مكبّراً. وقد كان له نشاط بين الطلبة في فرنسا، فلما عاد أراد أن يصنع شيئاً، لم يستطع أن يقعد خاملاً، فجمع أدباء الشباب ممّن هم في سنّي وسنّه ومَن هم أكبر قليلاً، وجعل يحدّثنا عمّا جدّ في الأدب، يحدّثنا عن الشعر الصافي (¬1) وعن المذاهب الجديدة وأهلها. وكان يجمعنا في مكتب أخيه المحامي في عمارة العابد، أقدم وأضخم (وإن لم تكن أعلى) عمارة في دمشق، يقدّم لنا أطيب المرطّبات وأنفس الحلوى. ثم انتقلنا من الأحاديث المتفرّقة في الأدب والمناقشات والمناظرات إلى اقتراح إنشاء نوع من الروابط بيننا، جمعية أو لجنة أو رابطة. واختلفنا وأمضينا وقتاً طويلاً في الاتفاق على اسم نسمّيها به، أي أننا نسجّل اسم الولد في دوائر النفوس قبل أن يولد وقبل أن نعرف هل المولود ذكر أم أنثى! ومرّت عدّة اجتماعات لم نملّ منها ولم تعزف نفوسنا عنها، لأن المرطّبات والحلويات مستمرّة، وهذا هو المطلوب. ثم اقترحت أنا (أذكر ذلك تماماً) أن نسمّي ما نحن فيه «المَجمع ¬

_ (¬1) poesie pure.

الأدبي» ليكون في الاسم -إن لم يكن في الفعل- موازياً للمجمع العلمي، ووافقوا على الاسم ولم يبقَ إلاّ معرفة المسمّى. و «المَجْمَع العلمي» في دمشق أقدم المجامع العربية، أسّسه أستاذنا محمد كرد علي سنة 1920، وبُدِّل اسمه أيام الوحدة مع مصر فسُمّي «مجمع اللغة العربية». «المجمع الأدبي» اسم جميل موافق. ولكن ما عمله؟ ومرّت أسابيع أخرى ونحن نتساءل عن عمله لنجعل ما نتفق عليه «غاية» ونضع للوصول إلى هذه الغاية طريقاً و «منهجاً»، ثم ننتخب اللجان. ودعوني أنقل لكم فقرة من مقالة كانت إحدى حلقات سلسلة «من رسائل الصيف» التي كنت أنشرها في جريدة «ألف باء» سنة 1933، قلت فيها: "وانتخب السادة منير العَجْلاني سكرتيراً أو ناموساً، ومحمد الجيرودي خازناً، وأنور العطّار وسعيد الأفغاني وميشيل عفلق وعلي الطنطاوي أعضاء إداريين، وسليم الزّركلي وجميل سلطان وحلمي اللحّام وزكي المَحاسني ومصطفى المَحايري أعضاء عاملين. هؤلاء الأعضاء المؤسّسون انضمّ إليهم السادة كامل عياد ومصطفى العظم وأنور حاتم وإبراهيم طوقان وآخرون. أما غاية المجمع فهي إيقاظ الروح الأدبية في هذا البلد، والتعاون على الإنتاج، ومساعدة كل أديب نابغ أقعده عارض من عوارض الدهر، وإنشاء أدب جديد قوي.

والتجديد كما نفهمه (أو كما أفهمه أنا على الأقلّ) لا يكون بقطع الصلة بالماضي، ولا بالخروج على قواعد اللغة وسنن العرب في كلامها، ولا بالدعوة الحمقاء إلى العامّية، ولا بأن نعمد إلى عقود الشعر فنقطع خيوطها وننثر حبّاتها ونأتي بشيء لا هو بالنثر ولا هو بالشعر؛ بل أن تبقى اللغة عربية سليمة من العلل، بليغة قوية بعيدة عن الركاكة والضعف، ونصبّ فيها بعد ذلك ما شئنا من أساليب جديدة وأفكار جديدة، أي أن نصنع ما صنع أجدادنا في العهد العبّاسي حين ترجموا كتب اليونان والفرس فجعلوها عربية، ولم يجعلوا لغتهم من أجلها يونانية ولا فارسية ولا لغة ممسوخة مسخاً، هي من أصلها العربي كالقرد الذي كان إنساناً فمُسخ قرداً أو خنزيراً (¬1). هذه اللغة القردية التي نراها في المجلاّت، تترجم عن الإنكليز والفرنسيين أدبهم، تنقله إلينا كما يُنقَل التمثال البديع لكن بعد كسره، لا تنقله تمثالاً بل رفات تمثال! وقد أنفق ساعة من وقتي أحاول أن أفهم صفحة منه ثم لا أفهمها". هذا كلامي في مقالة منشورة قبل نصف قرن كامل، أي قبل أن يولد هذا المولود المشوَّه الكريه الذي اسمه «الشعر الحرّ»، الذي سكرت أبصار الناس حتى رأوا فيه حَسَناً ما ليس بالحَسَن، وما هو إلاّ مسخ للشعر كما مُسخ من قبلُ قوم بيغن وشارون. * * * ¬

_ (¬1) المسخ الوارد في القرآن: من العلماء من قال إنه مسخ حقيقي ولكن من يُمسَخ لا يعيش إلاّ قليلاً ولا يكون له نسل، ومن قال إنهم مُسخوا في أخلاقهم وسلوكهم فصارت كصفات القِرَدة والخنازير.

كان عليّ وأنا أكتب عن «المجمع الأدبي» بعد هذا الأمد الطويل أن يكون تحت يدي ما أذكر به ما نسيت وما أستشهد به على ما أذكر، فلقد فتح له صاحب «القبس» الأستاذ نجيب الريّس صفحة كاملة في جريدته، نُشر فيها شعر كثير وأدب كثير ليس عندي شيء منه الآن، وإن كان قد بقي منه شيء فهو عند الدكتور منير، فهل يكتب هو ذكرياته؟ وهل ينصرف أحد طلاب كلّية الآداب فيعدّ رسالة ماجستير عن الأدب الشامي في ذلك العهد؟ لقد كان منّا نحن الشباب (أعني الذين كانوا شباباً قبل خمسين سنة) أصحاب أقلام وقرائح، وكانت لهم في الأدب آثار تستحق العناية والدرس، وإن كانوا يتنازعون الصدارة في هذه الصفحة الأدبية يختلفون على من تُنشر مقالته أولاً، مع أن تقديم النشر لا يرفع القدر، والصدر حيث يكون الصدر، والتافه لا ينفعه التقديم والجيد لا يضره التأخير. جمع هذا «المجمع الأدبي» المتفرقين وحاول أن يؤلّف بين المختلفين. ماذا يجمع بين علي الطنطاوي وسعيد الأفغاني، وبين ميشيل عفلق وأنور حاتم؟ إن الماء والزيت تخضّهما فيختلطان، ولكن حين تدَعهما يفترقان، وكذلك كان. بقي في المجمع الأدباءُ الذين تربّوا على أدب القرآن وعلى نهج البُلَغاء من الأدباء، وخرج مَن هُم أميَل إلى غير ذلك فألّفوا لأنفسهم جماعة أظن أنهم سَمّوها «ندوة المأمون». وقامت حرب أو شبه حرب بين فكرتين وأسلوبين. وكنت قد اعتزلت الكتابة في الصفحة الأدبية، فلما حمي الوطيس

واشتدّت المعركة جاؤوا إليّ لأخوضها، فكتبت مقالات لا أرتضي الآن أسلوبها لأن أكثرها كُتب على طريقة شيخنا الرافعي، بل وأستاذنا العقّاد أيضاً، وكان ذلك الأسلوب رائجاً وكان يومئذ معروفاً غيرَ منكَر. وقد ضاعت هذه المقالات إلاّ واحدة وجدتها في دفتر كتبه أخي عبد الغني، أنقل بعضها لأمثّل به لأسلوب النقد في هاتيك الأيام عنوانها: «المجمع الأدبي وخصومه: نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُ أمةً من الذباب بضربة من جناحه». وقد قدّمَت لها الجريدة مقدّمة قصيرة بقلم منير العجلاني، أنقلها بنصّها وإن لم يحسن بي أن أنقل مدحي بنفسي، قالت: قدمنا إلى قُرّائنا طائفة من أعضاء المجمع الأدبي الذين تلطّفوا بمؤازرة «القبس» بمقالاتهم وأشعارهم، ولكن النّقادة الأديب الأستاذ علي الطنطاوي طلب منّا أن ننشر مقاله بلا تمهيد ولا تقديم، فنحن نجاريه في رغبته على إعجابنا الشديد بأسلوبه العالي وأدبه القوي، وقال الطنطاوي: تفنّدني فيما ترى مِن شراستي ... وشِدّةِ نفْسي أمُّ عمروٍ ولا تدري فقلت لها: إنّ الكريمَ وإنْ حلا ... لَيلقى على حالٍ أمرَّ من الصّبرِ وفي اللينِ ضَعفٌ والشراسةُ قوّةٌ ... ومَن لا يهَبْ يُحمَلْ على مَركَبٍ وَعْرِ

وما بي على مَن لانَ لي منْ فظاظةٍ ... ولكنّني فظٌّ أبيٌّ على القَسْرِ وبعد، فقد طالما لنّا لهؤلاء الذين ينخرطون في أمر الأدب، ويدخلون فيه وما هم من أهله، ويتجرؤون على هذا المَجمع وينطحون صَفاتَه (¬1)، ولم نحبّ أن يكون بيننا وبينهم جدال خشية أن يُظَنّ أنّا منهم أو أنهم منّا، فخلّينا بينهم وبين ما يريدون وكنّا وإياهم كما قال الأول: وكمْ قائلٍ: ما لي رأيتُكَ راجلاً؟ ... فقلت له: مِنْ أجلِ أنّكَ راكبُ حتى إذا أكثروا علينا وحسبوا سكوتَنا عجزاً وترفّعَنا جُبْناً، لم نجد بُدّاً من أن نريَهم شيئاً من غِلظتنا كما أريناهم «أشياء» من ليننا. ونحن ما أنشأنا هذا المجمع الأدبي إلاّ لأن طائفة من الناس ادّعت هذا الأدب (وما الدعيّ كالصحيح النسب)، وبَعْبعَت بغير علم، وظنّت أن كلّ من أمسك بقلم وخطّ في صحيفة كان كاتباً نحريراً. (إلى أن قلت): وإذا أنت سألته: ما الدليل على أنك كاتب أديب؟ قال: لأني نشرت كيت وكيت في صحيفة كذا وكذا. فإن قلت: فلماذا نشرت ما نشرت؟ قال: لأني أديب كاتب. فهو أديب لأنه نشر مقالات، وهو قد نشر مقالات لأنه أديب! أما أن يقرأ كما يقرأ الأدباء ويدرس كما يدرسون، فيتقن النحو والصرف ¬

_ (¬1) الصفاة الصخرة، ومثلها المَرْوة والصَّفْوان والمَروان، كله بمعنى واحد.

ويتمكن من اللغة ويدمن النظر في آثار البلغاء ويمسك بأسباب البيان، فهذا ما لا يخطر له ببال. وكثرت هذه الطائفة وانتشر بلاؤها، وملأت الصحفَ بآثارها والمجامعَ والمجالس بأحاديثها، وطفقَت تكتب في الأدب، وما كتابتها إلا كصلاة حارثة الذي قال فيه الشاعر: ألم ترَ أن حارثةَ بنَ بدرٍ ... يُصَلّي وهْوَ أكفرُ من حمارِ (وأقول الآن: إن الحمار لا يكون كافراً؛ لا يكفر إلاّ الإنس والجن لأن الله أعطاهما حرّية الاختيار وسلوك أحد طريقَي الجنّة أو النار، وسائر المخلوقات مطيعة الله تتبع ما فطرها عليه وتسعى إلى ما سخّرها إليه، كلّها يسبح بحمده {ولكنْ لا تَفقَهون تَسبيحَهُم}). أعود إلى المقالة: فأنشأنا هذا المجمع وانتخبنا له خير أدباء الشباب (¬1)، وقلنا للناس: هذا عملنا، فمَن عمل مثله فهو مثلنا، ومن عمل خيراً منه فهو خير منّا، ومن عمل دونه فهو دوننا، لا فضل لأحد على أحد إلا بفضل عمله. وحفظنا لشيوخ الأدب في البلد أقدارَهم ولم يفكر واحد منّا في انتقاصهم والتسميع (¬2) بهم. نستغفر الله، أننتقص شيوخنا وأساتذتنا؟ إنّا إذن لقوم سوء. ولا نزعم لأنفسنا احتكار الأدب ولا الاستئثار به، وهل الأدب بضاعة تُحتكَر؟ نقول هذا صادقين ونعلنه، فمَن لم يفهمه أو لم يُرِد أن يفهمه فما علينا من إثمه شيء: ¬

_ (¬1) وردت كلمة الشباب جمع شابّ، والأشهر أن نقول شُبّان. (¬2) سمّع به: أشاع عنه قَالةَ السوء.

عليَّ نحتُ القوافي من معادنِها ... وما عليَّ إذا لم تفهمِ «البشرُ» أو «البقر» كما قال الشاعر! وما علينا شيء من الإثم إذا كان في البلد قوم لايرضون عن المجمع إلا إذا جعلناهم أعضاء فيه، ونحن لا نقدر على ذلك لأنه مجمع «أدبي» وما هم من الأدباء. وليس في طوقنا إرضاء الناس جميعاً، ولكن في طوقنا أن نعمل ما نستطيع، وأن نسمع ونطيع لكل ناقد ناصح ينطق بالحقّ ويَهدي للّتي هي أحسن، ونقول له مقالة الرجل العظيم عمر: «رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي». أما الذين لم يتعلموا من «النقد» إلاّ باب السبّ والشتم فلا نحفل بهم، ولا نقيم لهم وزناً، ولا نرد عليهم، ولا نقابل قولهم بمثله: ومَنذا يعَضُّ الكلبَ إن عَضّهُ الكلبُ بل نقنع من رضا الناس برضا عقلائهم وذوي الرأي فيهم: إذا رَضِيَتْ عنّي كرامُ عَشيرتي ... فلا زال غَضباناً عليَّ لئامُها هذا منطق المجمع وذاك منطق خصومه؛ ندعوهم إلى نقدنا النقد الصحيح فيسبّوننا السبّ البذيء، ونقول لهم: اعملوا ونحن معكم، فيقولون لنا: اعملوا أو لا تعملوا فنحن عليكم. فاحكموا -يا أيها القراء- بيننا. دلّونا على الرجل العالِم البليغ بين خصوم المجمع وأنا أناظره علَناً، وأعده أمامكم وعداً صادقاً أنني أخضع للحق إن ظهر أن معه الحقّ. دلّونا على العاقل بينهم يأخذ على المجمع زلّة أو يخالفه في مسألة، يثبت أنه هو المصيب فيها ونحن المخطئون، لندَع خطأنا

ونعود إلى صوابه. يقولون: حفلة المازني. أنا لم أحضر الحفلة التي أقامها المجمع لتكريم المازني في دمشق ولكن إخواني حضروها، فقولوا لي ما الذي أخذتموه عليها حتى أميل معكم إلى الحقّ الذي تقولونه، أو تميلوا أنتم عن الباطل الذي تفترونه. أما السبّ والشتم فنحن -والله- أقدر عليه لو أردناه، ولا يُعجِزنا إذن أن نكيل لهم الصاع سبعة أَصْوُع وأن نَحْطِمهم كما يحطم النسر أمة من الذباب بضربة من جناحه: ولي فرَسٌ للحِلْمِ بالحِلْمِ مُلجَمٌ ... ولي فرسٌ للجهلِ بالجهلِ مُسرَجُ فمَنْ رامَ تقويمي فإني مقوَّمٌ ... ومَنْ رامَ تعويجي فإني مُعَوَّجُ ولكنّا لا نحب أن نعجّل عليهم بالشرّ، وما نحب أن نكون من الجاهلين. على أن سبل النقد واضحة لمن يعرفها. وللنقد قواعد يُعتمَد عليها وآداب يُرجَع إليها، وفي المجمع كتّاب وفي المجمع شعراء، فهَلُمّوا انقدوا كتابتهم وشعرهم وبيّنوا مواضع النقص ومواطن الخطأ والانحراف فيها. وما كتبه خصوم المجمع إلى الآن ليس من النقد الفني في شيء، وإنما هو هجاء بذيء ولغط وهذَيان، وليس من النقد الفني ما جاء في مجلة «الدهور» على التخصيص، وما هو إلا مجموعة من الخطأ في الفكر واللحن في اللغة والركاكة في التعبير، وهو دليل على سوء النيّة وقلّة البضاعة، فاستحيوا فإن الحياء من الإيمان، واكتموا حسدكم

واكظموا غيظكم، واستروا نقدكم هذا كما تستر الهرّة ما يخرج منها وتغطّيه بالتراب ... ولعلّ الذي يخرج منها أقلّ نجساً وقبحاً من الذي يخرج من ألسنتكم وأقلامكم! * * * وكانت بدايةَ معركة هي إحدى المعارك القلمية الكثيرة التي خضت غمارها، وقد بقي عندي من الصحف التي فيها ما كتبت في هذه المعارك ما يملأ كتاباً كبيراً، أعددته للطبع وكنت أنوي أن أسَمّيه «مناظرات وردود» ثم آثرت ألاّ أخرجه للناس الآن. ولو كان تحت يدي ما كتبت في معركة المجمع هذه وما كتبوا لصوّرت المعركة للقراء، ولكني لم أجد الآن شيئاً من ذلك إلاّ صفحة مصفرّة قديمة من «القبس» عليها صورتي (في تلك الأيام)، وتحت الصورة كلمات قدّمت بها الجريدة لإحدى مقالاتي في هذه المعركة، وفوقها صورة إبراهيم طوقان الشاعر العبقري (عضو المجمع الأدبي) ومقطوعة شعرية له، وجدت مقدّمة المقالة ولم أجد المقالة نفسها. * * * ومن المعارك الصغيرة معركة كانت في تلك الأيام بيني وبين ماري ينّي، وهي أديبة فلسطينية أو لبنانية (لم أعُد أتذكّر) وأظنّ أنها كانت صاحبة مجلّة نسائية، وكان موضوع المناظرة أو المعركة «المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة». جادلتها بالتي هي أحسن وسُقت لها الأدلة والحُجَج، فلما رأيت أن ذلك كله لم يُفِد معها ملت إلى السخرية، فقلت لها (والمقالة منشورة في صحيفة

«ألف باء»): "الآن حصحص الحقّ وتبيّن أني أنا المخطئ وأنت «المُصيبة» (والدنيا لا تخلو من المصائب)، لذلك أرجع عما قلت إلى ما قلتِ أنت، وسأُعِدّ عريضة وأقف في رأس سوق الحميدية وأوقّعها من الرائح والغادي، وأرفعها إلى الحكومة لتأمر بتحقيق هذه المساواة الكاملة، وتُصدِر قانوناً مستعجَلاً يُلزِم الزوج أن يحبل سنة وتحبل المرأة سنة، ويُرضِع هو الطفل سنة وتُرضِع هي سنة؛ إذ لا يُعقَل ولا تتحقق المساواة بأن يعملا معاً في الإدارة أو في المصنع ويحمل كل منهما على عاتقه نصيبه من العبء، وتحمل هي فوقه في بطنها ما لا يحمل في بطنه مثله. وإلى أن يصدر هذا القانون ويُطبَّق فعلاً، أقطع هذه المناظرة معترفاً بأني قد انهزمت وأني غُلبتُ، وأنها هي التي غلبَت وانتصرَت". * * * هذا هو «المجمع الأدبي»: جمع أشتاتاً وضم نقائض، وحاول أن يخالف طبائع الأشياء فيمزج الزيت بالماء في سائل واحد متماسك مؤتلف. وأين الآن أعضاؤه؟ أمّا أنور وجميل وزكي وطوقان فقد قدّموا للأدب العربي في هذا العصر أجمل ما قدروا عليه من شعر، ثم مضوا إلى حيث يمضي كل حيّ، وبقيَت أشعارهم تحت أنظار الناقدين والدارسين. وأمّا سليم الزِّرِكلي وهو الشاعر المجوّد، وسعيد الأفغاني الباحث الذي انتهت إليه الصدارة في علم النحو في الشام، ومنير العجلاني الأستاذ الأديب، وعلي الطنطاوي فهم باقون يسألون الله دوام العافية وحسن الخاتمة،

ومثلهم محمد الجيرودي وإن شغلَته المحاماة عن الأدب فهجره من قديم. وأمّا عفلق فتعرفون عنه ما يُغنيكم عن الكلام فيه، وكامل عياد شغلَته الفلسفة وتدريسها منذ كان، ما كان أديباً قط، وأنور حاتم سمعت أنه اليوم أستاذ للأدب الفرنسي في جامعة من أكبر جامعات فرنسا، أظن أنها جامعة ليون. عربي نصراني يعلّم الفرنسيين الأدب الفرنسي! وهو أنبغ مَن عرفت من أصحابنا في الفرنسية، ولقد اتفقنا مرّة أن أعلّمه العربية ويعلّمني الفرنسية، ولم نستمرّ على ذلك طويلاً. وممّن أتقن الفرنسية من أصحابنا ظافر القاسمي، وهو ابن أستاذ أساتذتنا الجمال القاسمي. كان «المجمع الأدبي» تجرِبة مثل تجرِبة «الرابطة الأدبية» التي أشرت إليها في هذه الذكريات، ورجال المجمع أعرق -في الجملة- في الأدب وأقدر على النظم والكتابة من أعضاء الرابطة، حاشا الأجلاّء منهم: كسليم الجندي وخليل مَرْدَم وعزّ الدين التنوخي وأمثالهم، ولكن الرابطة أصدرت مجلّة حفظت بعض إنتاجها ونحن كتبنا في الصحف اليومية فلم تُحفَظ ولا حُفظنا. وفي هذه السنة (1933) كان حدث كبير في تاريخ الأدب العربي في هذا العصر، حدث مبارَك كانت له ثماره الطيبة وآثاره العظيمة، هو صدور مجلّة «الرسالة». وفي الحلقة القادمة -إن شاء الله- الكلام عن ذكرياتي عنها. * * *

ظهور مجلة «الرسالة»

-67 - ظهور مجلّة «الرسالة» كانت مصر في السنة التي أتكلم عنها (1933) كالأرض العالية؛ ينزل الماء منها إلى ما دونَها ولا يصعد ممّا تحتها إليها، فالمطبوعات في مصر (من كتب ومجلاّت) تُقرأ في الشام (أي سوريا ولبنان وفلسطين) وفي العراق وفي جزيرة العرب، والمطبوعات في الشام تُقرأ في العراق والجزيرة ولكن قلّما تُقرأ أو تُعرَف في مصر، والمطبوعات في العراق لا تكاد -يومئذ- تصل إلى غيره، أما الجزيرة فلم تكن فيها مطبوعات تُذكَر، أمّا المغرب فقد قطع المستعمرون صلتَنا به فلا يصل إلينا شيء من مطبوعاته. ولقد أمضيت أنا أكثر سِنِي دراستي الابتدائية والمتوسطة وأنا عاكف على كتب الأدب القديم، ما عرفت من الجديد إلاّ المنفلوطي الذي نشأنا على «نظراته»، أدمنت قراءتها حتى حفظتها، و «عبَراته» وما تُرجم له فكتبه بقلمه من القصص الفرنسية. وعرفت -كما قلت لكم- «مجلّة الرابطة الأدبية» التي صدرت في الشام نحو سنة 1920 ومجلّة «الميزان» التي كان يُصدِرها أحمد شاكر

الكرمي. وعرفت شعر شوقي وحافظ والمطران من قديم، ولست أدري إلى الآن ما الذي جمع مطران بهما وحشره معهما، وما هو من طبقتهما ولا من أقرانهما، وما قرأت له عشرة أبيات متوالية يُقال لها «شعر»، حتى قصيدته المشهورة عن بَعْلَبكّ ما هي إلاّ تاريخ منظوم وأفكار تمشي على الأرض، ليس فيها ما يطير إلى جوّ الشعر! وعرفت شعراء مصر أو أكثرهم من كتاب الصديق الأستاذ أحمد عبيد «مشاهير شعراء العصر». ثم فُتح أمامي الباب على مصراعيه، فعرفت من «الهلال» وأخواتها أو بناتها ومن السياسة الأسبوعية ومن غيرهما أكثرَ أدباء مصر، وقرأت كل كتب العقّاد يومئذ («المطالعات» و «ساعات بين الكتب» والديوان وغيرها)، وكنت وأنا طالب أُعجَب بفكره وأستفيد من سعة اطّلاعه ولكنْ لا أطرب كثيراً لأسلوبه. وقرأت كتب المازني: «حصاد الهَشيم» و «قَبْض الريح»، ورواية «ابن الطبيعة» التي ترجمها عن الإنكليزية لا عن أصلها الروسي، وكادت تؤثر في ديني وتُفسِد فكري لولا أن أنقذني الله من شرّها. وقرأت له «إبراهيم الكاتب» و «غريزة المرأة» التي سرقها أو اقتبسها أو قلّد فيها الكاتب الإنكليزي غالسورثي، ما بدّل إلاّ الأماكن، فبدلاً من ميدان طرف الغار (¬1) مثلاً في لندن وضع ميدان السيدة، وبدلاً من الأسماء الإنكليزية وضع لأشخاص الرواية أسماء عربية، وفضحه محمد علي حماد في جريدة البلاغ (كما أظن) فنشر النص الأصلي من الرواية الإنكليزية في عمود وإلى ¬

_ (¬1) المشهور أن اسمه «الطرف الأغر» (ترافلغار)، مع أنها كلمة عربية أصلها «طرف الغار» وبها سُمّيت المعركة.

جانبه -في عمود آخر في الجريدة- نصّ رواية المازني. كما أخذ صفحات كثيرة من قصّة «ابن الطبيعة» (واسمها الأصلي «سانين») فوضعها في قصّته «إبراهيم الكاتب»! وللمازني أقصوصة على صورة حوار مع صحفي سأله فيها عن قصة حياته، فخبّره أنه كان له أخ وكانا توأمين فغرق أحدهما فمات ولم يدرِ: هل الذي غرق هو أو أخوه، إلخ. وقد وجدتها بذاتها بعد وقت طويل للكاتب الأمريكي الفَكِه مارك توين، سرقها منه المازني كما هي. على أني أحببت المازني وكنت أطرب لأسلوبه وفكاهته وسخريته، وتأثرت به حيناً وحاولت تقليده، ولكن من أين لي خفّة روحه؟ وإنْ كان يؤذيني منه تهاونه بأمر دينه وكلامه عن شرب الخمر كأنه يتكلم عن شرب الشاي. وسواء لديّ أشربها أم كان على طريقة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، فالمهمّ عندي أثر ما يكتب الكاتب في نفوس القراء، وعليه أن يذكر أن الله سائله عنه. أمّا الرافعي فكنّا نقدمه يومئذ ونتعصب له ولا نُؤْثر عليه أحداً. وقد تبدّل نظري الآن إلى أسلوبه كما تغيّر حكمي على كثير ممّن كنت أقرأ لهم في شبابي. أمّا طه حسين فقد عرفته من قديم، وشهدت في مصر لمّا كنت في دار العلوم سنة 1928 طرفاً من معركة «الشعر الجاهلي». وأذكر أنه لما شكّك طه حسين في امرئ القيس والمجنون كتب المازني (سنة 1345هـ) مقالة عنوانها «طه في ميزان التشكيك» قال فيها: لنفرض أن مؤرّخاً في القرن الثالث والعشرين -مثلاً- تناول حياة الدكتور بمثل تمحيصه وتحقيقه العلمي، فهل تكون النتيجة إلاّ كما يأتي: يزعمون أن رجلاً اسمه الدكتور طه حسين

عاش بمصر في أُولَيات القرن العشرين، وأنه صاحب هذه الكتب المختلفة التي نسبوها إليه ونحلوه إياها، ولكن ما اطّلعت عليه ممّا يُعزى له يحملني على التردّد بين رأيين: أحدهما أن يكون هناك أناس كثيرون يَتَسَمّون باسم طه حسين، وثانيهما أن يكون هذا اسماً استعاره فرد أو عدة أفراد لِما كتبوه ونشروه. ذلك أنه -على ما روي- أزهريّ النشأة، والأزهر هذا جامعة إسلامية كبرى يلبس طلابها الجبّة والقفطان والعمامة، وأنه كان في صدر أيامه يكتب في صحيفة يومية اسمها «الجريدة»، ولكني راجعت مجموعة هذه الجريدة في دار الكتب فألفيت أحد أدباء ذلك العصر واسمه عبد الرحمن شكري يسمّيه طه أفندي حسين. فهل طه أفندي حسين هو عين الشيخ طه حسين؟ ولا شك أن شكري يعرف طه حسين فقد كانت بينهما ملاحاة، يدلّ على ذلك قصيدة نشرتها «الجريدة» بإمضاء طه حسين مطلعها: قُلْ لشكري فقدْ غلا وتمادى ... بعضُ ما أنت فيهِ يَشفي الفؤادا وممّا يضاعف الشكّ في أنهما شخص واحد أن الشعر لم يكن من أدوات الشيخ طه حسين. ويُعزى إلى طه حسين (ولا أدري أيهما؟) مقال، بل عدة مقالات يدعو فيها إلى تغيير الهجاء ورسم الكلمات، فهل كان الداعي لهذا والمُلِحّ فيه الشيخ طه أو طه أفندي؟ أمّا الشيخ طه فكان -على ما يقولون- مكفوف البصر، وكان في ذلك الوقت طالباً بالأزهر، ومن المعلوم أن طلبة الأزهر كانوا من المحافظين ومن أشد الناس استنكاراً للبدع. زِدْ على ذلك أنه ضرير، وما اهتمام الضرير برسم الكلمات؟ ...

فالأرجح أن هناك شخصين اسم كل منهما طه حسين: أفندي مبصر وشيخ ضرير. والآن من هو الدكتور طه حسين صاحب «حديث الأربعاء»: أهو الشيخ أم الأفندي، أم شخص ثالث؟ * * * ويمضي المازني في المقالة على هذا السَّنن، ويقارن بين أسلوب الشيخ طه حسين في كتابه «ذكرى أبي العلاء» وينقل عنه قوله: كان أبو العلاء يحرص أشدّ الحرص على أن يُخفي نفسه على القارئ، ولكن شخصه يأبى إلاّ الظهور، وكان يلقي بينه وبين القارئ أستاراً صَفيقة من غريب اللفظ وحُجُباً كثيفة من ثقيل السجع ويُقيم حوله أسواراً منيعة من المباحث اللغوية، ولكن عواطفه الحادّة تأبى إلاّ أن تخترق هذه الموانع كافة لتصل إلى قلب القارئ، إلخ. وهو أسلوب لاشذوذ فيه كما ترى، ولكن اقرأ الآن الفقرة الآتية من كلام «الدكتور» طه حسين في نفس الموضوع أو المعنى، قال: ذلك أن أبا العلاء كان -كما تعلم- من أشد الناس إيثاراً للغريب وتهالكاً عليه، ثم كان أبو العلاء إلى هذا (فيما أعتقد أنا) يتكلّف الغريب ويتعمّده ليصدّ عامة الناس وجُهّالهم، سواء في ذلك العلماء وغير العلماء، عن قراءته والظهور على ما فيه، إلخ. ومقالة المازني هذه طريفة، يستطيع من شاء من القراء الرجوع إليها والإطّلاع عليها. * * *

أقول: إنني كنت كما كان إخواني وأمثالي يعرفون سنة 1933 كل شيء عن مصر وأدباء مصر ورجال مصر والأحزاب في مصر، ولكن أهل مصر لم يكونوا (إلاّ نفراً منهم) يعرفون عنّا شيئاً. ولا يغضبْ أحدٌ من هذا الكلام ولا يعتبْ أحد، فأنا أسجّل تاريخاً وأكتب عمّا كان، لا أكتب عن مصر وأبنائها الآن، فقد هدّوا اليوم السور الذي كانوا يحبسون أنفسهم وسطه وانطلقوا في البلدان، فلهم في كلّ بلد وجود وفي كلّ مكان أثر طيّب محمود. وإنما أتكلم عمّا كان قبل خمسين سنة، وسيمرّ بكم في هذه الذكريات أنها لمّا وُحِّدت محكمتا النقض في سوريا ومصر أيام الوحدة وذهبنا لعقد الجمعية العمومية للمحكمة في القاهرة (وكنت مستشاراً فيها) قلت هذا الكلام في خطبة في نادي القضاة، وضربت أمثلة واقعة ممّا كان من جهل المصريين يومئذ بأحوالنا في الشام وفي العراق. ما كان أكثرهم يفرّق بوضوح بين سوريا ولبنان وفلسطين، كلها بَرّ الشام وكلهم إخواننا العرب، كما أننا -في الشام- لم تكن في أذهاننا صورة واضحة عن طرابلس وتونس والجزائر والمغرب، كلها بلاد المغرب وكلهم إخواننا المغاربة. وما ذلك بذنبنا ولا ذنب المصريين، ولكنه أثر الاستعمار، فلما زال الاستعمار (أعني الاستعمار العسكري) صار من المصريين مَن هو أعرف ببلدي وبلاد العرب مني ومن أهل تلك البلاد. ومصر بلد الأزهر لا تعيش بغير العرب، والعرب لا يعيشون بغير مصر، ونحن ومصر لا نعيش ولا نعتزّ ولا نَقوى ولا نَشْرُف إلاّ بالإسلام، فإنْ أعرضنا عنه فلا شرف لنا بل ولا وجود.

ما كانوا يعرفون في مصر من أدباء الشام إلاّ قليلاً، ممّن عاشوا فيها أو كتبوا في صحفها، أمثال كرد علي والمغربي ورفيق العظم ورشيد رضا وشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب، ثم خير الدين الزركلي وعادل زعيتر وإسعاف النشاشيبي وصاحب جريدة «الشورى» محمد علي الطاهر، ولست أحصيهم ولكن أمثّل لهم بمن خطرت على بالي الآن أسماؤهم. وكانت أكثر الصحف يملكها ناس من نصارى الشام كالأهرام والمقطَّم والمقتطَف والهلال، حتى أنشأ الشيخ علي يوسف جريدة «المؤيّد» ومصطفى كامل «اللواء». وكانت أكثر دور النشر لشاميين تمَصّروا؛ كدار الهلال، ودارَي الخانجي والبابي الحلبي اللتين نشرتا من المخطوطات ما يملأ مكتبة كاملة، ثم الشيخ منير الدمشقي وحسام الدين القدسي، وقبلهما دار المنار والمطبعة السلفية لمحبّ الدين، التي خلّصت المؤلّفين من هذا المرض الذي نحسّ أوجاعه ولا نجد الدواء له، مرض الأخطاء المطبعية التي طالما فكّرت -من غيظي منها- أن أدع كتابة هذه الذكريات والفتاوى وأن أحرّم على نفسي النشر في الصحف! كانت «السلفية» (كما كانت قبلها «الأميرية» ببولاق) دار الأمان من الأخطاء، لأن خالي محبّ الدين كان يصحّح تجارِب الطبع بنفسه، والأميرية كان يصحّح فيها أكابر علماء مصر كالشيخ نصر الهوريني صاحب «المطالع النصرية». أقول: إن مصر كانت هي الميدان المنوَّر، من أحب أن يُرى مكانه ذهب إليها أو نشر آثاره فيها، حتى إن الممثلين والموسيقيين لا يُعرَفون إلاّ إنْ عرفت بهم مصر، يأتونها مغمورين فتجعلهم

مشهورين: نجيب الريحاني (من الموصل)، جورج أبيض، أنور وجدي (من دمشق)، وقبلهم أبو خليل القبّاني (من دمشق) وسعاد محمد وفايزة وبديعة، وبنات الخطاط حسني البابا الدمشقي: نجاة وسعاد وغيرهن. فما أحبّ أن أكون داعية للمغنيات، وإن ذكرت مَن ذكرت فللتاريخ لا لتمجيدهنّ ولا ليكنّ قدوة يُقتدى بهنّ. * * * وكان الحدث الذي عرّف مصر بأدباء الأقطار العربية وزادهم معرفة بأدبائها هو إنشاء مجلّة «الرسالة». ولقد كتب كثيرون عن الرسالة، ولكن لم يُكتب بعدُ التاريخ المرجوّ لها. وتحت يدي كتاب عن «الزيات والرسالة» أهداه إليّ الأستاذ الرفاعي وهو الذي نشره، فيه الكثير ولكن الذي فات مؤلّفَه أكثر. ولست ألومه فقد بذل فيه جهده وأودعه كل ما بلغته يده، ولكنه وُلد بعد إنشاء الرسالة بثلاث سنوات كما كتب على غلاف كتابه، ولما أُغلقت كان يدرس في المدرسة مع الطلاب، ولو أنه مشى معها (مثلي) طريقَها كله، وكتب فيها طول عمرها، وتسلم الإشراف عليها شهوراً طويلة من سنة 1947، وعرف كتّابها وشهد معاركها، لكان كتابه عنها أجمل وأجمع. وله مع ذلك الشكر والتقدير. عرفت الزيات قبل الرسالة فيمن عرفت من أدباء مصر، قراءة لهم لا لقاء بهم. ولما صدر كتابه في تاريخ الأدب كنّا في سنة البكالوريا فقرأناه وفضلناه على «الوسيط»، وقرأت له «آلام فرتر» و «رافائيل»، وبلغ إعجابي بهما وحبي لهما الغاية لأني كنت في طَراءة الشباب وتيقّظ العاطفة وتفتّح النفس، وطربت لأسلوبهما

الذي قلت (ولا أزال أقول) إنه نموذج للترجمة الأدبية، وإن تبيّن لي لمّا قرأنا الأدب الفرنسي أنه لم يلتزم نقل ما كتب مؤلّفا القصتين. ولا يضرّه إن لم يلتزمه، ولو ترجمها ترجمة حرفية كما يفعل التراجمة الآن لأسقطهما وأذهب بهاءهما ومسخهما. وعرفت الزيات لما مرّ بدمشق وألقى في المجمع العلمي محاضرة عن «ألف ليلة وليلة»، ولكني لم ألقَه. وأنا لم آتِ «الرسالة» مبتدئاً، بل لقد كنت لمّا جئتها كاتباً معروفاً في بلدي، نشرت مئات (مئات حقاً لا مبالغة) من المقالات في السياسة وفي الحماسة وفي النقد وفي القصص التاريخي وفي المناظرات، حتى في المسرح. ولست أنكر فضلها عليّ ولكن لا أحب أن أبخس نفسي حقها، فإذا عُدّ مَن تخرج في الرسالة، أي من بدأ منها وفيها، فلست منهم، وإن كان للرسالة ولصاحبها أكبر الفضل عليّ؛ فقد فتح لي صدره واتخذني أخاً وولداً له، واتخذتُه أستاذاً ووالداً أو أخاً كبيراً، ولم أرَ منه على طول ما صحبتُه في العمل وفي النزهة وفي زياراتِ مَن أخذني لزيارتهم وفي مجالس المفاكهة أو المجادلة في مصر، وفي دمشق وفي قراها وجبالها لمّا أخذته أنا وأنور (رحمه الله ورحمه) إليها، لم أرَ منه إلاّ أطيب الخلق وأنظف اللفظ وأجمل المعاشرة. لقد كان صادق الودّ، عفّ اللسان، صافي الجنان. ما كنت أول من نشر في الرسالة من أدباء الشباب في الشام؛ لقد كتب فيها قبلي من إخواننا سامي الدهّان وأنور العطّار وحلمي اللحّام وجميل سلطان، رحمهم الله، وأخي ناجي نشر فيها قبلي

ترجمة شعرية لقصيدة للشاعر الفرنسي أندره شينيه عنوانها «اللقاء العجيب»، وخليل هنداوي. ولا تؤاخذوني إن ذكرت حقيقة فيها مدح لنفسي، فأنا أعلم أن أثقل كلام على أذن السامع ما فيه ثناء من المتكلّم نفسه، ولكنني أسجّل حقائق مكتوبة منشورة مَن طلبها وجدها، لا أخترعها ولا أدّعيها. ذلك أن الزيات رحمه الله -بأستاذيته وخبرته- كان يجعل لمن يكتب في الرسالة درجات، فمنهم من ينشر اسمه مجرداً بلا لقب، ومن يلقّبه بالأديب، ومن يقول عنه الأستاذ. وكل الذين نشروا قبلي في الرسالة كتب أسماءهم مجردة إلاّ أنور العطّار، لقّبه حيناً بشاعر الشباب السوري ثم أعاده إلى الاسم المجرد، وأنا كتب عني (ولا مؤاخذة) من أول يوم «للأستاذ فلان»، وكان يضع مقالتي بعد الطبقة الأولى من الكتّاب الكبار مباشرة، وأول من أخذ من الرسالة مكافأة مالية على مقالاته بعد الرافعي والعقّاد وطه حسين وأمثالهم هو كاتب هذه الذكريات. نُشرَت أول مقالة لي في العدد الثاني والعشرين (16 شعبان 1352)، وكان عنوانها «سؤال». قلت فيها: إذن فأخبرني يا سيدي: هل تنشر الآثار -إذ تنشرها في «رسالتك» - لأنها وافقت خطّة معروفة اختَطّتها لنفسها الرسالة في الأدب، وطريقة معيّنة اتخذَتها، أم أنت تنشر كل جيّد يُبعَث به إليك، لا تبالي منه إلاّ بشرف القول وحسن الأداء والبلاغة في التعبير عن القصد؟ وهل تفعل هذا إلى أمد قريب ثم تطلع على الناس بخُطّتك الأدبية وتحمل كتّابك عليها، أم أنت تفعله

أبداً؟ ثم أخبرني: ألا ترى أن الأدب العربي قد شبّ ولم يعُد طفلاً يدلَّل ويرقّص، وأن الإيمان به قد خالط قلوب الأدباء فلم يعودوا من المؤلَّفة قلوبهم الذين يُسترضَون ويُعطَون لئلاّ يَجنحوا إلى الردّة بعد الإيمان؟ وأن من مصلحة هذا الأدب أن يتفق طائفة من شيوخه وقادته على مذهب واحد فيه، ثم يعلنوا هذا المذهب للناس ليتبعوه ويؤثروه؟ ومذاهب الأدب كثيرة، ولكنا منها بين اثنين: مذهب «الأدب للفن» ومذهب «الأدب للحياة». أنعمل وغايتنا «الجمال الفني» وحده، وسواء لدينا أكان هذا الجمال في مقطوعة ماجنة أم قصّة مفسدة أم مقالة ملحدة، وسواء لدينا ... أم نعمل وغايتنا تسخير الأدب للقضية الكبرى، واتخاذه أداة لتحقيقها ووسيلة من وسائل الإصلاح، الإصلاح الأخلاقي والسياسي والاجتماعي؟ أوَلا ترى -ياسيدي- أن هناك حقيقة أسمى من الحقيقة الفنية (إن كان للفن حقيقة)؟ وأنه لا يجوز أن نقول بمقالة بعض الفرنجة «الفن للفن» لأن هذا هو القياس مع الفارق، ولأن لأولئك مدافع وأساطيل وكياناً واستقلالاً، ونحن قوم يبنون لأنفسهم كِياناً واستقلالاً، فيجب أن نجمع قُوانا كلها على هذا البناء وأن نجعل الأدب في مقدّمة هذه القوى ... إلى آخر ما جاء في المقال الذي صيغ صياغة السؤال. وكنت أريد به أن تكون «الرسالة» من المجلاّت الملتزمة، لا بما تُلزِمها به أهواء الحكّام أو شهوات القراء أو أسباب الرّواج، بل تلتزم بألاّ تنشر ما ينافي الدين وما ينافي الخلق الكريم وما يعارض الحقّ والعدل.

وقد علّق عليها الأستاذ الزيات بهذه الكلمة: يسأل الأستاذ الفاضل: أتنشر الرسالة ما تنشر من الأدب لأنه يسير في طريقها المرسومة إلى غايتها المعلومة، أم تنشره لأنه امتاز بشرف القول وبلاغة العرض وحسن الأداء؟ ثم يصوغ هذا السؤال صيغة فنية فيقول: أنعمل وغايتنا الأدب أم نعمل وغايتنا الأدب للحياة، إلخ. (إلى أن قال): أمّا خطّة «الرسالة» وغايتها فلعل الأستاذ يذكر أننا رسمناها في استهلال العدد الأول منها، وما نشرنا ولن ننشر إلاّ ما يساير هذه الخطّة بوجه من الوجوه، نقول بوجه من الوجوه لأن القول بأن «يتفق طائفة من شيوخ الأدب ...» قول تأباه الطبيعة وتنكره أصول الفطرة، إلخ. (إلى أن قال): وهذه جملة قصيرة من الجواب، أما سائر الجواب فستقرؤونه مفصَّلاً في العدد المقبل. * * * وفي العدد الثالث والعشرين كتب الأستاذ أحمد أمين مقالة مطوَّلة عنوانها «جواب على سؤال»، قدّم لها الأستاذ الزيات بكلمة قال فيها: وجّه الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الماضي إلينا وإلى كتّاب الرسالة سؤالاً خلاصته (وذكر خلاصة السؤال)، وقد أجبنا عن بعضه وتفضّل صديقنا الأستاذ أحمد أمين فأجاب تفصيلاً عن البعض الآخر. وقال الأستاذ أحمد أمين: لك الحقّ -يا أخي- أن تصرخ ونصرخ معك في وجه زعماء الأدب العربي، طالبين أن يلتفتوا

إلى الأدب القومي ويُكثِروا القول فيه، فالعالَم العربي كله يجيش صدره بآلام وآمال، والأدب يجب أن يعبّر عن هذه الآلام والآمال بأسلوبه الرشيق وعواطفه القوية وخياله الرائع، إلخ. (إلى أن قال): ثم التفَتوا إلى الأدب القديم فلم يجدوا فيه غذاءهم كافياً، ليس فيه شعر يتغنّى بالحرية كما نودّ ولا بالقومية كما نحبّ ... (إلى أن قال): فلك الحقّ أن تطلب من الزعماء وأن تطلب من «الرسالة» أن تدعو الكتّاب والشعراء أن يلتفتوا إلى مواطن النقص فيكملوها ... لك الحقّ أن تنعى على الأدباء أن أكثرهم لم يتّجه هذا الاتجاه إلاّ قليلاً. وإلاّ فأين هو أدبنا القومي؟ وأين التغنّي بمناظر طبيعتنا؟ وأين الروايات الاجتماعية تصفنا؟ (إلى أن قال): وبعد، فموقف الرسالة -كما أفهم من مبادئها- يجب أن يكون الدعوة إلى تكميل النقص في الأدب العربي. وأن يكون موقفها -فوق الموقف الأدبي- موقف المصلح؛ فترفض أن تنشر الأدب الساقط المرذول المضعف للخلق المفسد للرجولة، إلخ. ويجب أن تكون بجانب دعوتها إلى الإصلاح سجلاًّ للنزعات الأدبية مع اختلاف أنواعها، ما لم تكن النزعة مستهتِرة تُميط قناع الحياء وتخرق حجاب الحشمة. وأخيراً لك الشكر -يا أخي- على ما حوى كتابك من غيرة صادقة وعاطفة نبيلة، وما أثرتَ من موضوع يستحقّ العناية ويدعو إلى طول التفكّر. أحمد أمين. والمقالة منشورة كلها في الجزء العاشر من كتابه «فيض الخاطر». * * *

حاشية: سألني سائل: هل قرأت على الكوثري الذي قلت عنه «أستاذنا»، وهل أنت معه في كلّ ما كتب؟ والجواب: لا؛ ما قرأت عليه، ولكن قلت عنه «أستاذنا» لأني استفدت من علمه ولأنه كان السبب في طبع «رسائل الإصلاح»، وهي أول ما كتبتُ. ولست معه في كلّ ما كتب ولا مع غيره؛ أنا لا أمشي مع أحد أبداً مغمض العينين، بل آخذ من كل عالِم وأدَع، إلاّ قول الله وما صحّ من قول رسول الله ‘، آخذه كله وأسأل الله أن يعينني على العمل به. والكوثري -كغيره- يصيب ويخطئ، ولكني قدّرتُه لعلمه ولِمَا أحسنَ إليّ. ولم يجمعني به إلاّ بضعة مجالس في دمشق، ومجلس في مصر خرجت منه مخالفاً له في كلام قاله عن ابن تيمية ... بعد أن تحررت من كره ابن تيمية في صباي بتأثير بعض مشايخي، ثم من الإفراط في حبه بتأثير خالي محبّ الدين وأستاذي كرد علي، ثم العودة إلى الانصراف عنه بتأثير الكوثري، ثم الرجوع إلى الإقبال عليه بتأثير شيخنا بهجة البيطار، ثم تحررت من هذا كله ونظرت إليه بعين الإنصاف فرأيت عظيم مزاياه وواسع علمه، وأنه لو سبق به الزمان لكان أحد الأئمة المتبوعين. وبقيَت مسائل مما يقول به لم أستطع إلى الآن قبولها، وكل عالِم يؤخَذ منه ويُترَك إلاّ ما بيّن فيه حكم الله وأيد بيانه بالدليل القطعي. * * *

المحتويات الحلقة (39) رسائل «سيف الإسلام» ... 5 الحلقة (40) في اللجنة العليا لطلاّب سوريا ... 15 الحلقة (41) في المقاومة الوطنية ... 27 الحلقة (42) دمشق، صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها ... 41 الحلقة (43) جريدة «الأيام» ... 53 الحلقة (44) أطفال الصّحراء ... 67 الحلقة (45) من الصّحافة إلى التعليم ... 79 الحلقة (46) أمّي وأبي ... 93 الحلقة (47) يوم ماتت أمّي ... 105 الحلقة (48) هنا مسقط رأسي وهنا قبر أبي وأمّي ... 121 الحلقة (49) مآتم الشام وكيف كان مأتم أمّي ... 135 الحلقة (50) المدرسة الصيفية ومجلة البعث ... 151 الحلقة (51) الدعوة إلى العقال ... 163 الحلقة (52) ذكريات عن الأساتذة والمشايخ ... 173 الحلقة (53) ذكريات عن الجامعة والامتحانات ... 189 الحلقة (54) فارس الخوري ... 203 الحلقة (55) مع أستاذنا شفيق جبري ... 217 الحلقة (56) في سَلَمْيَة ... 231

الحلقة (57) في مدرسة سَلَمْيَة ... 245 الحلقة (58) العودة إلى دمشق ... 259 الحلقة (59) بَرَدى والغوطة ... 277 الحلقة (60) جلسة في مقهى (في صورة قديمة) ... 293 الحلقة (61) في مدرسة سَقْبا ... 307 الحلقة (62) دفاع عن فلسطين ... 323 الحلقة (63) الشعر والأدب عند أساتذتنا ورفقائنا ... 337 الحلقة (64) من أصعب الأيام في حياتي ... 349 الحلقة (65) من سَقْبا في بطن الغوطة ... إلى رَنْكوس في رأس الجبل ... 363 الحلقة (66) المَجْمَع الأدبي في دمشق ... 377 الحلقة (67) ظهور مجلّة «الرسالة» ... 391

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق ... 1935 2 ـ قصص من التاريخ ... 1957 3 ـ رجال من التاريخ ... 1958 4 ـ صور وخواطر ... 1958 5 ـ قصص من الحياة ... 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح ... 1959 7 ـ دمشق ... 1959 8 ـ أخبار عمر ... 1959 9 ـ مقالات في كلمات ... 1959 10ـ من نفحات الحرم ... 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) ... 1960 12ـ هتاف المجد ... 1960 13ـ من حديث النفس ... 1960 14ـ الجامع الأموي ... 1960 15ـ في أندونيسيا ... 1960 16ـ فصول إسلامية ... 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) ... 1960 18ـ فِكَر ومباحث ... 1960

19ـ مع الناس ... 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات ... 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) ... 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام ... 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي ... 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) ... 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) ... 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) ... 2001 27ـ فصول اجتماعية ... 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) ... 2002 29ـ نور وهداية ... 2006 إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

الجزء الثالث

ذكريات علي الطنطاوي الجزء الثالث طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

شهادة للبيع والانتقال معلما إلى «زاكية»

-68 - شهادة للبيع والانتقال معلّماً إلى «زاكية» كنت أعجب لشيخنا الرافعي؛ هو في دولة الأدب «لواء» أو «فريق»، وفي عالَم الوظيفة «عريف» أو «رقيب». كاتب كبير من كتّاب الطبقة الأولى و «كاتب» في محكمة طنطا. كيف تكون هذه منزلته بين الأدباء وتلك منزلته بين الموظفين؟ فكرت في هذا وأنا أسجل ذكريات سنة (1933 - 1934) فرأيتني مثله، مثله في وضعه وحاله لست مثله في أدبه وبيانه: كتبت في أكبر المجلاّت ساجلت العلماء والأدباء، وقرأت الكثير ولا زلت عاكفاً على القراءة، كنت أؤمّ مجالس العلم حلقات المدرّسين، من درس الشيخ بدر الدين الحسني السيد محمد ابن جعفر الكتاني، وكانا شيخَي دمشق، وسائر من عرفت من علماء دمشق ممّن سيأتي طرف من سِيَرِهم إن شاء الله، إلى مجلس الأستاذ محمد كرد علي والجندي والمبارك ومصطفى برمدا وأمثالهم، ومجلس الشيوخ: شيوخ الأدب والعلم والتجرِبة والسنّ، وأرجو أن أتكلم عنه يوماً. ما كنت أدع مجلساً فيه فائدة

إلاّ حضرته، ولقد كنت مواظباً على محاضرات المجمع العلمي (على عهد كرد علي) وكانت مدرسة لنا، وبقيت -مع ذلك- معلّماً في مدارس القرى، ذلك لأني بدأت أتسلّق الجبل من الحضيض، وممّن جاء بعدي من تلاميذي من بدأ من صُلب الجبل فسبقني صعوداً، وإن لم يسبقني دراسة ولا تحصيلاً ولم يكن أكثرَ مني آثاراً ولا أقوَم ثقافة ولا أبلَغَ لساناً ولا قلماً، بدأ من التدريس في الثانوية أو في الجامعة وأنا بدأت من المدرسة الأولية في القُرى، أي أنني كنت شيخ كتّاب. أليست المدرسة الأولية هي الكتّاب؟ ولمّا نلت شهادة الحقوق، وكنت يوماً في ساعة ضيق وفي شبه اليأس (والمؤمن لا ييأس من رحمة الله) فكتبت مقالة (هي في كتابي «من حديث النفس») عنوانها: «شهادة ليسانس للبيع»، قلت في آخرها: "إني أعرض شهادتي هذه ولقبي الكريم «ليسانسيه في الحقوق» للبيع برأس المال، أي بالرسوم والأقساط، أما فوسفور دماغي وأيام عمري فلا أريد لشيء منه ثمناً، وأجري على الله. فمن يشتري؟ المراجعة في جريدة «ألف باء» الغرّاء. شهادة على ورق أبيض بخطّ جميل، ولها إطار بديع، عليها توقيعات وأختام أصحاب الفخامة والدولة والمعالي: رئيس الجمهورية، والوزارة، والوزير، ورئيس الجامعة ... فرصة نادرة، لا تضيعوها". * * * وكان لهذه المقالة أصداء وقد عُلّقت عليها تعليقات كثيرة. ولست أدري لماذا كان أستاذنا محمد كرد علي يُعجَب بها (مع أني أنا أقرؤها الآن فلا أرتضيها ولا يسرّني أن تُنسَب إليّ) كما

كان يُعجَب بمقالة «وداع العمامة» للشيخ (أي الشيخ سابقاً) علي عبدالرازق، وقد نزعها (إثر ما كان) لمّا ألّف كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وقد أخطأ فيه وما أصاب، وأساء وما أحسن، وجار وما عدل، واستحقّ كل ما قيل عنه وما وقع عليه. وإن كنت أشهد له، ولأخيه الشيخ مصطفى الذي عرفته أستاذاً جليلاً ولم أقرأ عليه، وشيخاً للأزهر وقد راجعته مرّات في بعض شؤون الطلبة السوريين في الأزهر، فما رأيت منه (ومن أخيه أيضاً) إلاّ خلقاً كريماً، ونبل نفس، ونظافة لسان، وأخلاق عالِم. ولعلّ إعجاب أستاذنا كرد علي بمقالتي ومقالة الشيخ علي عبد الرازق إعجاب من يتمنّى الشيء ولا يقدر عليه، فهو كاتب جادّ موضوعيّ، لا يمدّ رأسه ولا يُظهِر نفسه من بين سطور مقالاته، ونحن كنّا نسلك طريق «الرومانسيين» الذين يَشغلون الناس بأخبار ذواتهم ويُشرِكونهم معهم في مشاعرهم: في مسرّاتهم وأحزانهم، يسفرون عن وجوههم، وقد يُسرِفون فيكشفون للملأ عن عوراتهم كما فعل رائد الرومانسية (روسّو) في اعترافاته حين ذكر ما صنع الفاسق به! وما وصلنا إلى هذا الدرك من الإسراف في الإسفاف. في تلك الأيام، وأنا في تلك الشدّة وكل أملي أن أُنقَل إلى قرية هي أقرب إلى دمشق، قابلت في الترام سامي بك العظم مدير (أي وكيل) وزارة العدل، وهو صديق أبي ومن إخوان خالي محبّ الدين ومن جماعة الشيخ طاهر الجزائري، وهو أكثر آل العظم تواضعاً وصفاء. فسألني عن حالي، فلما خبّرته بما ألقى من وزارة المعارف قال: دعهم وتعالَ إلينا، فإن لديّ وظيفة شاغرة.

قلت: وما الوظيفة؟ قال: وظيفة قاض؛ نحن بحاجة إلى قضاة من حملة شهادة الحقوق. ولم أعُد أفهم تمام الجملة، فقد فوجئت وأحسست -لما نشأنا عليه من التربية العثمانية- بالخجل، وشعرت -ممّا ضممت نفسي- أن بعضي يدخل في بعض. كنت أرى منصب القاضي كبيراً جداً لا أملأ كرسيه، كنت أبصره عالياً جداً لا أصل ولو وثبت إليه. وأخذت الكلمة على أنها كلمة مجاملة وتشجيع، مع أني علمت بعد تسع سنين (لمّا دخلت القضاء فعلاً) أنه كان يقول حقاً وأن ما عرضه عليّ كان ممكناً. * * * طُبع لي في تلك الأيام (1934) رسالة صغيرة في أقلّ من عشرين صفحة، كتبتها في جلسة واحدة عنوانها: «مقالة في التحليل الأدبي»، وهي موجودة في كتابي «فكر ومباحث». إذا لم تسخروا مني قلت لكم إني لا أزال معجَباً بها، بل إني لأعتزّ بها مع أن أكثر ما كتبته في تلك الأيام لا أرتضيه الآن. تكلمت فيها عن مكان الحقيقة من الأدب، وعرّفت الأدب، وفرّقت بينه وبين النقد وتاريخ الأدب، وهذه كلها مقدمات للبحث. والبحث هو «تحليل شخصية الأديب» والعوامل التي كوّنتها، وقلت: هل إلى حصر هذه العوامل من سبيل؟ هل تستطيع أن تحصر العوامل التي كوّنَت شخصيتك؟ هل تعرف كل خُلُق من أخلاقك وطبع من طباعك من أين مصدره، وما هو منحدره إلى نفسك؟ ". وبعد كلام عن الشخصية حصرت

العوامل في تكوين شخصيات الأدباء في خمس هي: الزمان والبيئة والثقافة والوراثة والحالة الجسدية. وتكلمت بالتفصيل عن كل منها، فبيّنت أنْ ليس المراد من الزمان أحداثه التاريخية ولكن الوصول -على قدر الإمكان- إلى معرفة الذوق الأدبي العامّ في ذلك الزمان. وأن المراد بالبيئة بلد الأديب وأثره فيه، وأسرته، والأسلوب الذي تربّى عليه، ومَن أهمّ أساتذته الذين أثّروا فيه ورفاقه الذين كان يرافقهم، ومثلت بذلك ببشار وأبينواس. وشرحت صعوبة الوصول إلى معرفة بيئات أكثر أدبائنا، وتكلمت عن الثقافة اللغوية والفكرية والاجتماعية وعن الوراثة، وعن التكوين الجسمي، وضربت المثل ببشار بن برد والمعرّي وأثر ذلك في غزلهما، إلخ. وأنا أفكر الآن: كيف كتبت ذلك الفصل؟ لم أنقله نقلاً من كتاب، ولا يمكن أن أكون قد اخترعته اختراعاً؛ فهو -إذن- حصيلة دراستي للأدب. أمّا تاريخ الأدب العربي الذي قرأناه في المدرسة في «الوسيط» ثم في كتاب الزيات فليس فيه شيء من هذا، ولا في كتب الأدب التي كنت أعكف عليها وأدمن النظر فيها، فلم يبقَ من مصدر لي إلاّ ما قرأناه في تاريخ الأدب الفرنسي. ولقد قرأنا كثيراً: كنّا نرجع إلى كتاب لانسون، هذا المرجع الكبير كنّا نعرفه ونقرأ فيه، وكنّا قرأنا لإميل فاكيه ولأناتول فرانس، وقرأنا آثار النقّاد سانت بوف وتين وبرونتيير، قرأنا كثيراً في المنهج الرسمي (وهو كما قلت لكم المنهج الذي يتبعه طلاب المدارس الفرنسية في فرنسا بذاته) وفي غيره. وأنا لا أحفظ ما أقرأ وأردّده بألفاظه، بل أُدخِله نفسي كما

تدخل الموادّ الأوّلية المصنع وتخرج منه شيئاً آخر، هو منها ولكنه ليس ذاتها. وربما آخذ فكرة لغيري فأرويها منسوبة إليه، ولكن «مصنع ذهني» يعدّلها ويبدّلها أو ينقص منها، فيكون لي فيها مثل عمل شارح ديوان الشاعر يفسّر كلامه تفسيراً ما خطر له على بال. لكني لا أصنع هذا -بحمد الله- في الأحكام الشرعية، ولا أنكر أني من كبر السن صرت أنسى شيئاً منها وأُقِرّ بأني ناسيه، لكن لا أبدّل فيها ولا أغيّر، ومالست متوثّقاً منه لا أُفتي فيه، وإن كان الخطأ يقع مني فإن نُبّهت إليه رجعت عنه. في تلك السنة اقترح عليّ الأستاذ أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية، وهو الأديب الشاعر أن أضع كتاباً عن أبي بكر الصديق. وقد أعانني فكان يأتيني بالمراجع، وهو مِن أعرَف الناس بها. ومنها ما لم أكن أعرفه من قبل ومنها ما هو مخطوط، وهو مِن أعلَم الناس بالمخطوطات، تُوفّي إخوته الأربعة وبقي أطال الله عمره. واشتغلت بتأليف الكتاب ولم يعترضني في شيء، لكن لمّا جئت آخذ الأخبار التي جمعناها من مئة كتاب (مذكورة في آخر كتابي) وأنشئ منها دراسة عن حياة أبي بكر رضي الله عنه، أبى إلاّ أن نضع الأخبار كما هي ونكتفي بالتعليق عليها، وطبع الكتاب على ما أراد في رجب سنة 1353هـ. ودفع لي عن حقّ التأليف ثلاثين ليرة سورية، وكان راتبي يومئذ ستاً وثلاثين ليرة في الشهر. * * * أعود إلى حديث الوظيفة.

تركتموني وأنا معلّم في رَنكوس، بقيت فيها شهراً في سجلّ الوظيفة من (1/ 1/1934 إلى 31/ 1/1934) وإن لم أبقَ إلاّ ساعتين في واقع الزمن. وأين أبقى والقرية منقطعة وليس فيها نُزُل أنزل فيه ولا مدرسة أدرّس فيها، وهي في رأس جبل ما لي فيها مقام ولا إليها سبيل، والشتاء بارد يَقصّ من برده المسمار، والثلج بساط أبيض يغطّي الأرض؟! رجعت إلى وزارة المعارف، وكان ركناها -كما قلت لكم- هما الأستاذ العالِم المربّي مصطفى تمر وهو المفتّش، مفتّش واحد لدمشق وملحقاتها، والأستاذ الشاعر الأديب شفيق جبري. كانا في غرفة واحدة، هذا في ركنها الأيمن في الزاوية وذاك في الركن الأيسر، وهما جسيمان هادئان قليلا الكلام طويلا الصمت، يبقيان النهار كله لا يتحدثان إلاّ إن زارهما (معاً) زائر أو جمعهما حديث لا بد منه، حتى يحين موعد الانصراف، فيرفع جبري بصره إلى تمر، يسأله بعينه وبهزّة خفيفة لا تُدرَك من رأسه أن: تقوم؟ فيقول الآخر بمثلهما من عينيه ورأسه: أي نعم، فيتحركان في كرسييهما، ثم ينهضان كأن أحدهما يرى الآخر في المرآة، ثم يرتدي كلٌّ معطفه ويتوجّهان إلى الباب. دخلت عليهما فرحّبا بي، وإن كان في نفس جبري شيء (بل أشياء) مني لأني رددت عليه وكتبت عنه، ولكني لم أرَ لذلك أثراً في معاملته لي. وكلاهما كان أستاذي: مصطفى تمر في السلطانية الثانية سنة 1919، وشفيق جبري في كلّية الآداب سنة 1930. وابتدرني مصطفى تمر قائلاً: ثو جابك؟ لازم تكون في

رنكوث. أنت حاثب الوظيفة لعبة؟ وكان رحمه الله ألثغ، ينطق السين ثاء والشين قريباً من الثاء والزاي ذالاً، (يقول: شو جابك؟ لازم تكون في رنكوس. إنت حاسب الوظيفة لعبة). قلت: اسمح لي أسألك، هل زرت رنكوس؟ فأدرك بذكائه ما أريد فقال: ثو فيها؟ هواء نقي ومناظر جميلة. قلت: نعم، ولذلك «أكلنا هَوَا» ورجعنا. وكلمة «أكلنا هوا» في عامية أهل الشام لها معنى مشهور يشير إلى شيء قبيح، تُقال عند الخيبة وضياع الأمل، فتبسّم لي وسكت عني، وضحك شفيق بك. وانتهت المقابلة بإعطائي إجازة شهر. وعند انقضاء الشهر (أي في 1/ 2/1934) نُقلت إلى «زاكْية» (¬1)؛ من قرية في جبل أهلها أشدّاء إلى قرية في حَرّة فيها مثل أهل رنكوس. وأنتم تعرفون حرّتَي المدينة المنورة، وفي معجم ياقوت أسماء حِرار كثيرة في جزيرة العرب، ولكن حرّة زاكية (أو «وَعرة زاكية» كما تُسمّى في الشام) أشدّ منها كلها: حجارة بركانية الواحدة منها أكبر من الجمل البارك، كثيرة متقاربة، وأرضها من الصخر. أمّا الطريق إليها فمن دمشق إلى المِزّة (مِزّة كلب، أي بني كلب قديماً) ثم إلى الجنوب، ثم يتشعب الطريق إلى ثلاث شعب: شعبة إلى اليمين إلى قَطَنا، وهي مركز القضاء وهي قصبة منطقة وادي العجَم، إلى سفح جبل الشيخ الذي يُطلّ على دمشق بعمامته البيضاء من الثلج، والذي سلّمَه انقسامُنا وتخاذلنا وبُعدُنا عن شرعة ربنا إلى ¬

_ (¬1) يلفظونها بسكون الكاف وبإمالة آخرها (مجاهد).

اليهود، وشعبة إلى اليسار إلى زاكية ثم إلى الكِسْوَة، والطريق من الأمام إلى القُنَيْطرة، القنيطرة عاصمة هضبة الجولان التي تقرؤون اسمها في الصحف وتسمعونه من الإذاعات. أفتدرون ما هضبة الجولان؟ أنا لا أحسن الوصف الجغرافي وليس تحت يدي مصوَّر (¬1) يحدّد المسافات، ولكن أعرض من ذهني صورة عامة كما يتصورها رجل (عامّي) زار المكان. هذه الهضبة الواسعة التي تضمّ مدينة القنيطرة وقُراها الكثيرة تنتهي عند الجنوب بخطّ، كأنّك -إذ تصل إليه- تقف على جدار قلعة عالية تُشرف منها على منبسط من الأرض. هل رأيتم الهَدى (¬2) والمنظر الذي تطلّ عليه؟ لا، بل عندكم نموذج هو أقرب إلى هضبة الجولان هو منظر تِهامة من السَّودة (أو السوداء) قرب أبها. أتذكرونها؟ ألا ترون تحتكم جداراً مائلاً ارتفاعه ألف متر ثم بقعة بارزة ضيّقة تحتها جدار آخر مثله، وتهامة من تحت تُطلّون عليها؟ كذلك كنّا نُطلّ من طرف الجولان على بلادنا التي سرقها اليهود، وأعانهم قوم آخرون سيجزيهم الجبّار بما يستحقّون ويُخزيهم وينصركم عليهم، إن نصرتم الله باتّباع دينه. كنّا نرى تحتنا طَبَريّا ووادي الحِمّة، أغزر الينابيع المعدنية في العالَم كله ¬

_ (¬1) أي خريطة، كذلك سمّاها جدي دائماً (مجاهد). (¬2) تُكتَب بألف مقصورة وبتاء مربوطة (الهَدى والهَدة)، وهي أدنى قرى الطائف إلى جبل كَرا الذي ينحدر من الطائف إلى مكة، أو هي برأس هذا الجبل مما يلي مكة، وكانت تسمى قديماً «هدة هذيل» (مجاهد).

وأغناها بالمواد الكيميائية، المشهورة من القديم، وعليها بناء أثري من أيام الرومان، وإليها جاء عمرو بن لحي الخزاعي وأخذ منها «هُبَل» فنصبه إلهاً وسط الكعبة، «شحده» شحادة، أرأيتم إلهاً يُشحَد؟ وكان من العقيق فوقع على الأرض فكُسرت يده، أرأيتم إلهاً تُكسَر يده؟! أين هُبَل وأين اللات والعُزّى، وأين عمرو بن لحي، وأين كل طاغية عُبِد من دون الله وكل جبّار طغى وتكبّر على عباد الله؟ مضوا وصاروا أحاديث، وسيمضي كل طاغوت وكل طاغ جبّار. والمغرور من اغترّ بدنيا مصيرُها الزوال، والعاقل من صبر (وهو مؤمن) على عذابها أياماً قصاراً، ابتغاء سعادة أيام لا ينقضي نعيمها. * * * هذه البقعة التي تُطلّ عليها من شفير هضبة الجولان متحف للأمجاد، «سوق مركزية» تُعرَض فيها أحداث من أجلّ أحداث التاريخ؛ في هذه البقعة أو قريباً منها كانت معركة حطّين التي استردّ بها صلاح الدين قلبَ فلسطين، وعن يسارك غيرَ بعيد، في أول هذا الوادي الذي يجري فيه نهر اليرموك ليصبّ في بحيرة طبرية، كانت قبل حطّين معركة لا تقلّ عنها، بل إنها لتزيد عليها، معركة من المعارك الفاصلة في تاريخ البشرية هي معركة اليرموك. وغير بعيد (جداً) من هذه البقعة كانت معركة أخرى من المعارك الفاصلة وقعت بعد حطّين بزمن غير قريب، هي معركة عين جالوت. وبجوار زاكية التي نُقلت إليها معلّماً فيها، في قرية طالما قرأتم اسمها وما منكم من يعرفها هي قرية شقحب، بل

إنني عُيّنت معلّماً في زاكية وهي إلى جوارها ولم أعرف وصف المعركة وطبيعة الأرض التي وقعت عليها إلاّ من الأستاذ زهير الشاويش، هو أعرَف بها لأن لأبيه أرضاً فيها، فمن هنا عرفها. منه علمت لماذا اختار المسلمون هذه القرية وجرّوا العدو إليها لتجري المعركة فيها. وكان المسلمون يختارون هم -غالباً- مكان المعركة، من معركة بدر الكبرى إلى أكثر معارك الفتوح إلى يوم حطّين، ومن تتبّع ذلك وجد الشواهد عليه. شقحب كما شرح لي زهير فيها نبع صغير إذا حُصِر أهلها شربوا منه، يمشي قريباً منها نحو الأعوج (وهو، كاسمه، معوجّ المجرى كثير المنعطَفات) ومن جهة أخرى جبل المانع (وهو جبل عالٍ يُرى من أرجاء دمشق، وأكثر الناس يستدلّون به على القبلة)، فإذا هجم العدوّ سَدّوا النهر وطوَّفوا ماءه فغطّى الأراضي الشرقية حتى يتعذّر السير فيها، ويتصل الماء بالوعرة (أي الحرّة) فلم تعُد تنفع فيها الخيل، لأن الراجل يصعد إحدى الصخور فيتناول الفارس من فوق فرسه أو يُرديه هو والفرس، ومَن فرّ لم يجد مفراً إلاّ أن يلجأ إلى «اللجا»، ولا منجى لهارب من اللجا. وكان بطل معركة شقحب شيخ الإسلام ابن تيمية، كما كان بطل عين جالوت هو سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، لأن اللسان الصادق يصنع ما لا يصنع السنان الصائب إن كان ينطق عن إخلاص لله ملأ قلبَه، يخاطب أقواماً ملأ الإيمان قلوبهم. فهاتوا أمثال الشيخين تروا النصر إن شاء الله؛ فما ذهبَت عزة الإيمانمن نفوس المسلمين ولكن خَبَتْ نارُها فهي تحتاج إلى من ينفخ فيها.

إن طال يوم الصهاينة في فلسطين فلقد مرّ بها يوم أطول وتسلّط عليها عدوّ أكبر، الصليبيون، أي دول أوربّا كلها، ومن بعدهم المغول والتتر، أي قبائل المشرق كلها. فدعوا أمريكا تتخلّى عن مدّهم بالسلاح والمال وروسيا عن مدّهم بالرجال، ثم انظروا كم تعيش دولة إسرائيل؟ والله يمدّ للظالم ثم يأخذه. * * *

الجولان وجبل الشيخ

-69 - الجولان وجبل الشيخ حدّثتكم عن الجولان وجبل الشيخ يُطلّ عليها من طرفها. عين منه عليها وعين على البقاع في لبنان، فهو يُشرِف على سوريا ولبنان معاً. وما كانا قطّ إلاّ بلداً واحداً، هل تفرّق حدود على الأرض أو ألوان على المصوَّر بين مكّة وجدّة أو بين القاهرة والإسكندرية أو بين بغداد والبصرة؟ بل إن الشام كلّه من جنوبي تبوك في اصطلاح العرب الأولين إلى جبال طورس بلد واحد؛ إذا ذُكرت الشام في كتب التاريخ أو كتب الجغرافيا العربية شملَت هذا كلّه. ولكن ما لي نسيت الحقيقة الكبرى التي ما انقطعت يوماً عن ترديدها، ما كَلّ منها قلمي ولا ملّ منها لساني، الحقيقة التي يردّدها معي كلّ مؤذّن على كل منارة وكل تالٍ للقرآن ما بين بغداد وتطوان، بل ما بين أميركا واليابان حين يقرأ قوله تعالى: {إنّمَا المُؤمنونَ إخْوَة}، أخوّة ربطت عقدتَها يدُ الله فلن تحلّها يدُ بشر، أمة واحدة بنص القرآن الذي هو دستور السماء فلن تصير أمماً ولو اجتمعت دساتير الأرض على تفريقها. جبل الشيخ الذي أقول (ورأسي من الخجل منحنٍ على

صدري وبصري منخفض إلى الأرض) أقول: إننا تركنا أخسّ الأمم تصعده أمامنا وتملكه من دوننا! سُمّي «الشيخ» لأن المشايخ عندنا يُعرَفون بالعمائم البيض، وهذا معتَمٌّ أبداً بعمامة من الثلج لها منه بياضه ولها طهره ولها خيره. ولقد درت مرّة بالقرى على سفحه، أخذني إليها صديق لي عبقري في الهندسة وعبقري في الرسم فنّان من طراز نادر المثال، ذهب إلى رحمة الله هو الأستاذ الضاشوالي. انظروا كتابه «المرايا»، المرايا مجموعة لوحات، مجموعة صور في لوحات «كاريكاتورية» لخمسين أو ستين (لا أذكر الآن) من رجال السياسة والأدب، كل لوحة في صفحة. لا كما تعرفون من «الكاريكاتور» بل هو نوع منه أخصّ وأسمى نادر. اطلبوه واطّلعوا عليه. وتحت كل صورة بيت من الشعر أو جملة من بليغ القول هي أيضاً صورة فنّية أخرى. أنا -يا سادتي القرّاء- قد تلقّيت حكمكم عليّ بأني أخرج دائماً عن الموضوع وأنني أستطرد وأنا اعترفت بالذنب وقبلت الحكم، ولقد سرّني ما قرأت في «الجزيرة» للأستاذ أبي عقيل الظاهري يوم الخميس 24/ 6/1403؛ إنه دفاع عن الاستطراد قوي مقنع من محام ذكيّ وخطيب مصقع، لكنْ ليته جاء قبل صدور الحكم عليّ، ولا بأس فإنني أستأنف. لقد وجدت الآن أوراقاً بالية فيها مسوَّدة كتاب كتبته إلى الأستاذ الضاشوالي بعد هذه الرحلة، ولا أدري هل بيّضت هذه المسوَّدة ونقّحتها وأرسلتها إليه أم طويتها ونسيتها، أم أنا قد نشرتها بعد التنقيح، لا أذكر من ذلك شيئاً. ومهما يكن فإن فيها صورة صادقة لهذه القرى المَنثورة على سفوح جبل الشيخ

تسمعون أسماءها كل يوم في الأخبار عن الجولان وما فيه، وإذا سمحتم فإني أقرأ لكم طرفاً من هذا الرسالة. قلت له: (¬1) "يا أخي الأستاذ عبد اللطيف، إنني أشكرك. لقد كنت أعرف بلادي فزدتَني معرفة بها، وكنت أحبّها فصيّرتَني أكثر حباً لها، وكنت أظنّ أن الشام أجمل بلاد الدنيا فأريتَني أمس أنها أجمل ممّا كنت أظنّ، وأشهدتَني من جمالها ما لم أكن قد شهدته. أفليس عجيباً أن أكون ابن دمشق وأنني لا أزال من خمسين سنة (خمسون سنة يوم كتبت هذه الرسالة) أتسلّق جبالها وأهبط أوديتها، وأتيمّم ينابيعها وأجول في قراها، حتى حسبت أني قرأت كلّ صفحة من كتاب روعتها وكلّ جملة من حواشيها وعرفت كلّ بقعة من بقاعها، فأتيت أنت من حلب لتثبت لي أني لا أزال أجهل كثيراً من بهائها، وأنني أجهل الأكثر من كنوزها؟ (والرسالة طويلة، إلى أن قلت): سلكنا طريق القنيطرة (القنيطرة التي أخذها اليهود ثم رُدَّت إلينا الآن وحدها مهدَّمة)، حيث الفضاء ممتدّ على جانبَي الطريق والأرض الممرعة الخضراء تصل إلى الأفق منبسطة كصفحة الكفّ، وإذا بنا نميل عن الجادة ثم ننحدر، فإذا الستار ينحسر لنا فجأة عن عالَم من المفاتن كان مخبوءاً وراءه، وإذا الأرض التي كانت منبسطة صارت أودية ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس، مما يلي هاتين النقطتين إلى رأس الصفحة 64، منشورٌ أكثرُه (باختلاف يسير أحياناً) في مقالة «على سفوح جبل الشيخ» التي ضمّها الشيخ إلى كتاب «دمشق» في إحدى طبعاته الجديدة، ولم تكن فيه يوم صدر أول مرة سنة 1959 (مجاهد).

وتلالاً وصخوراً تُخفي وراءها ينابيع وزهوراً، كانت من قبل سهولاً مكشوفة كحقائق العلم فغدت جِناناً مطوية ومفاتن غامضة كأنها صور الحلم. لا تتقدم في الطريق مئة متر حتى يتبدّل المنظر من حولك، فإذا أنت في دنيا جديدة وفتنة جديدة، معرض للصور لا تُقدِم فيه على صورة تحسب من روعتها أن الجمال كله فيها حتى تجد إلى جنبها صورة أجمل منها: ها هنا مدرّج من الرفارف الخضر يستدير من حول ينبوع وعلى جنباته الزهر، تخطر أشجاره المثمرة على تلك السفوح المخضرّة كما تخطر صبايا القرية على طريق العين، فإذا درت حول الهضبة رأيت بستاناً كأنه سُرق من الغوطة فألقُي به في ذلك الوادي، فإذا هبطت الوادي أبصرت نهراً متحدّراً جيّاشاً تتكسّر مياهه في شعاع الشمس يسير من حول التلّ يبرق مثل بريق عقد من الألماس حول عنق الكاعب الغيداء، فإذا صعدت الجبل تجمّعَت لك المشاهد حتى تأخذ ببصرك الوادي كله، فترى القرى متمدّدات على السفوح تمدّد الحصّادات الحسان على بساط الكلأ عند الظهيرة في ساعة الراحة بعد العمل، والبيوت متجاورات عند الصخرات دانيات تتناجى تناجي المحبّين عند العشيّة، والمآذن شامخات كأنهن أصابع ممتدّات تشهد أن لا إله إلاّ الله. في كلّ جهة عين، وعلى جنب كل درب ساقية، وفي كلّ ناحية شلاّل يتدفق، ينبثق ماؤه مسرعاً إسراع العاشق إلى موعد لقاء، وللسواقي وشوشة كأنها مناغاة الأحبّة بعد طول فراق! ووراء ذلك كله الوادي العظيم، وادي بحيران، بأشجاره المثمرة ومياهه المتحدّرة وجوانبه المزهرة، ينتهي بشقّ ضيّق بين صخرتين

هائلتين من صخور المرمر، تقومان رهيبتين مهيبتين كأنهما باب الغار المسحور في قصص الجنّ. ولقد سرنا على كتف الوادي نُشرِف عليه من فوق كأننا نراه من طيارة، ثم صعد بنا الطريق وصعدنا معه نمرّ بالقرى العامرة والمشاهد الساحرة، حتى بلغنا قرية «قلعة جندل» حيث تصطفّ بيوت القرية صفّ الجند تقوم في لحف الجبل على علوّ 1500 متر من سطح البحر، ثم صعدنا وصعدنا حتى وصلنا إلى قلعة بقعسا التي تعلو 1700 متر عن وجه البحر، فإذا تحتنا منظر يعجز عن وصفه القلم يمتدّ إلى السهل الواسع الذي تذكرون برؤيته منظر سهل البقاع وسهل الزبداني، والإطار البارع لهذه اللوحة كلها جبلُ الشيخ، فحيثما توجّهت من عرنة إلى قلعة جندل إلى بقعسا إلى كفر حور إلى عين الشعرة (التي كان من حقها بروعة منظرها أن تُسمّى عين الشعراء)، هنالك تجد الجبل أمامك مُغطّى بالثلج الأبيض النقي إذا خالطه شعاع الشمس كان له مشهد عجيب، لا يكاد ثلجه يفارقه أبداً، ولقد كنّا نراه دائماً من دمشق فنبصر بياضه حتى في قلب الصيف. هذا الجبل هو برَكة هذا الإقليم؛ من ثلوجه هذه الينابيع التي لا يُدرِكها الحَصر. وحسبك أن في قرية عرنة وحدها أكثر من 300 عين، وبعض هذه العيون ينبع من أعالي الجبل: عين الوادي في قلعة جندل علوّها نحو 1400 متر وحرارة مائها 8 درجات، وعين الجوزة علوها 1450 متراً، وعين الحقل 1450 متراً وحرارة مائها 8 درجات، لذلك لا تشعر فيه بالحر ولا تستثقل الشمس ولو كنت في تموز وآب. ومن كثرة عيونه وبرد جوّه ربما

فُضّل على إقليم الزبداني". * * * هذا كله طرف الجولان، فإذا مشيت إلى الجنوب انحدرتَ من ذروة جبل الشيخ الذي يعلو عن وجه البحر نحو ثلاثة آلاف متر إلى الحمّة التي هي تحت البحر منها، من الحمة تستمر الأرض منحدرة حتى تمرّ بطبريّا ثم تصل «الغَوْر» وهو أعمق بقعة على وجه الأرض إلى البحر الميت. البحر الميت الذي يحوي من المعادن ما يُحيي الله به بلاداً كبيرة ميتة. وكثير من غنى هذا البحر جاءنا من نبع الحمة، وسأحدثكم عنها يوماً بمناسبة زيارتنا لها مع إخوة أربعة كنت أنا الخامس لهم. وكنّا نعتمد سائقاً صادقاً صالحاً بارعاً ماهراً في سيارة قوية جديدة سيارة عامّة، فنذهب معه كلنا نقصد معه كل جمعة مكاناً، واستمررنا على ذلك زماناً، وهم زميلنا في القضاء نهاد القاسم الذي صار وزير العدل المركزي في مصر أيام الوحدة، وزميلنا الأستاذ أنيس الملوحي، وقد ذهبا إلى رحمة الله، وزميلنا القاضي مرشد عابدين، وزميلنا في كلّية الحقوق الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا. الحمة جنة في الشتاء، فيها من الغراس ما لم أرَ مثله إلاّ في سنغفورا وأندونيسيا لمّا زرتهما؛ أشجار وثمار وأزهار استوائية نبتت في غير أرضها، فكانت في ذلك تحفة نادرة. وهل تُقاس الأشياء إلاّ بندرتها؟ لو كان كل ما في الأرض من حجرٍ ألماساً لكان الألماس حجراً ما له قيمة.

الحمة في وادٍ منخفض هو ملتقى سوريا بالأردن بفلسطين، تتلاقى كلها في هذا الوادي، تنحدر إليه من حوران من فيق (أي من الزويّة) في طريق يتعرّج ويلتوي، أو تنحدر إليه من طريق القُنيطرة. جئناه نحن من حوران من درعا إلى الزويّة، ومررنا قريباً من موقعة اليرموك العظيمة، ورأينا شلاّلات «تلّ شهاب» التي تنحدر فيها المياه من علوّ شاهق والتي إذا استُثمرت جاءت بالخير العظيم. وصلنا إلى مدخل فخم يقوم على جانبيه صفّان من الأشجار، ثم يلقاك الفندق الضخم والبيوت والدارات (أي الفيلاّت) وأبنية الحمّامات، تحفّ بها مَعارش يعرش على حافّتيها الورد والزهر ويمتدّ على طرفَيها المرجان (شجر المرجان)، ويجري خلال ذلك نهر اليرموك، ينشطر شطرَين فتكون بينهما جزيرة فتّانة في وسطها هضبة بارعة الجمال مغشّاة بغرائب الزرع وعجائب النبات، تُشرِف من منعطف النهر على مثل منظر الربوة ووادي الشاذروان في دمشق من قبة السيّار. وفي كلّ مكان طرق معبّدة ومسالك يجري فيها الماء، ووراء ذلك بيارة البرتقال جنة الحدائق. ومن أراد أن يرى الحمة الآن استطاع أن يراها من الحمة الأردنية، والحمة السورية والحمة الأردنية يفصل بينهما نهر اليرموك. ترون منها ما فعلنا فيها وما أقمنا فيها من مبانٍ، وما مددنا فيها من ظلال وصنعنا من حدائق، يستطيع أن يراه ولكن من شقّ النهر الثاني (نهر اليرموك) الذي يفصل الحمة السورية عن الحمة الأردنية. وهما حمة واحدة لكن فرّق بينهما الاستعمار،

وفرّق بينهما البلاء الذي جاءنا بعد الاستعمار. وهما وقف إسلامي على الخطّ الحجازي الذي هو وقف إسلامي، والوقفية مصدّقة من أعلى هيئة قضائية هي محكمة التمييز، ومعترَف بها من عصبة الأمم التي ماتت في جنيف فخلفتها الأمم المتحدة التي تقيم الآن في نيويورك، وكلتاهما أداة في يد القوي الظالِم ولا ينتفع بهما ضعيف مظلوم! * * * الحمة فيها ثلاثة ينابيع حارة وينبوعان باردان. يقول الدكتور رشدي التميمي في بحث له عنها استعان عليه بخبراء من بلاد شتّى أجروا اختبارات وبحوثاً عن الحمة، فتبيّن له أن الينابيع الحارة تُخرج خمسة عشر مليون لتر من الماء في اليوم، فهي أغرز الينابيع المعدنية الحارة في العالم كله. أولها المسمّى «المَقْلى»، حرارة مائه نحو 47 درجة، في لونه زرقة خفيفة فيها رائحة ضعيفة لغاز الكبريت، يحتوي على طائفة جليلة من المواد الكيميائية مفصّلة مقاديرها في كتاب الدكتور التميمي، فمن شاء رجع إليه. ويقول الأطبّاء بالتجرِبة إنها تفيد فائدة عجيبة في حُصَيّات الكُلى والمرارة والمثانة، وفي العقم والتهاب الأعصاب وأشياء أخرى ليست من شأني ولكنها من شأن الأطباء. الينبوع الثاني يُسمّى «البَلْسَم»، حرارته نحو الأربعين وله رائحة كبريتية قوية، يفيد في الأمراض الجلدية الحادّة والمزمنة (أنواع الأكزيما). الثالث يُسمّى «الرّيح»، حرارته ستّ وثلاثون

درجة، وهو منشّط مفيد للأعصاب. وكلها ذات إشعاع (راديو أكتيفيتي)، يخرج منها الإشعاع الراديومي مما ليس له مثيل -كما يقولون- في ينابيع العالم. نبع «المقلى» هذا الأول، قال الخبراء بأنه ينبثق من عمق 2300 متر، أُقيمت عليه بركة كبيرة من الحجر المنقوش المزخرَف تنحدر المياه على أدراجها في منظر بارع الجمال، وقد أقيم لهذا النبع بركتان كبيرتان للنساء مستورتان تماماً وأخرى للرجال، وفوقها أبنية ضخمة وبركتان صغيرتان أخريان خاصتان. وسُحبَت مياهها إلى داخل المغاني (الفيلاّت) فيستطيع المقيم فيها الاستحمام في أي وقت شاء ليلاً أو نهاراً. أما «البلسم» فهو ينبع من أرض منخفضة تحفّ به بركة واسعة وحدائق غنّاء، وفيه أربع برك للاستحمام عليها بناء ضخم وبركتان صغيرتان. أما الثالث الذي يُسمّى «الريح» فهو أمتع الينابيع وألذّها، يستطيع المستحمّ أن يبقى فيه ساعات. وقد أقيمت على بِرَكه الواسعة التي يمكن السباحة فيها مبانٍ كبيرة وجميلة، وفي كلّ ينبوع حَمّامات للرجال وأخرى للنساء وبينهما حجاب ساتر. زرناها سنة 1952 ووصفتها هذا الوصف في حديثي في إذاعة دمشق (وكانت الأحاديث في الإذاعة أسبوعية). ولم يكن يعرفها من الناس إلاّ قليل، فأقبل الناس عليها وتسابقوا إليها، وبنوا فيها وشادوا وزرعوا، فذهب ذلك كله إلى «إسرائيل»! * * * أمّا الذي أحيا هذا المشروع (لأن من الأمانة أن نذكر صاحب

الفضل بفضله) وغارس جنّاتها ورافع بنيانها فهو رجل رآها سنة 1910 مقفرة مهمَلة مملوءة بالأشواك والحيّات والوحوش (¬1)، فصنع فيها هذا كله، صنعه وهو شيخ في عمره ولكنه شابّ في قلبه. هذا الرجل هو سليمان نصيف، من الحقّ أن أذكر اسمه وقد مات (وأخوه أمين نصيف صاحب جريدة «مرآة الشرق»، من الصحف التي صدرت في مصر في وقت مبكّر). وقد عرض عليه اليهود مبالغ هائلة ليشتروا منه مشروع الحمة فأبى، ففاوضوه على أن يأخذوا الماء الذي يفيض عن الحمّامات لثلاثين سنة بمئة ألف جنيه فلسطيني في تلك الأيام، فأبى. * * * هذه هي الحمة ذات التاريخ المجيد القديم وذات المعادن والمنافع، والتي هي وقف إسلامي مصدَّق من أعلى الجهات القضائية وأعلى الهيئات السياسية في العالم، هذه التي أصبحَت الآن في أيدي اليهود، وسنستردّها إن شاء الله. * * * ¬

_ (¬1) هذه الفقرة إلى آخر المقالة لم ترد في طبعات الكتاب السابقة، وقد تضمنتها حلقة الذكريات التي صدرت في الجريدة في حينها. فترددت هنيهة وأنا أفكر: هل سقطت سهواً فاردّها حيث كانت أم حُذفتعمداً فأدَع الأمر على حاله؟ ثم ملت إلى إثباتها لأن فيها فائدة وعبرة (مجاهد).

رحلة الحجاز (1) الخروج من دمشق

-70 - رحلة الحجاز (1) الخروج من دمشق أحدّثكم اليوم عن رحلتنا إلى الحجاز. تقولون: وما رحلة إلى الحجاز، وكل يوم يذهب من دمشق إليه ناس ويعود ناس؟ وهل كشفتم في هذه الرحلة أميركا؟ لا، ولكن الذي لقيناه فيها من المتاعب والمصاعب إنْلم يزِد على ما لقيَه كولومبس وأصحابه فإنه لا يكاد يقلّ عنه. وحسبكم أنه مرّ الآن على هذه الرحلة خمسون سنة كاملة (كانت سنة 1353هـ). ولا تزال أحداثها متمكّنة من ذهني ماثلة أمام عيني. أمضينا فيها على الطريق من دمشق إلى مكّة ثمانية وخمسين يوماً، لم نكُن نمشي فيها على الحرير ولم نتقلب في نعيم الراحة والأنس والأمان، ولم نكن نسلك الجادّة التي يؤمَن فيها العثار، بل كنّا نعتسف البوادي، نسير في أرض نبصر أولها ولا ندري إلى أين ينتهي بنا آخرها، نطأ الحجارة، نواجه الصخور، نغرق في كثبان الرمل الناعم، فنخرج من سياراتنا ونربط الحبال بأكتافنا

وأعناقنا لنُخرِج السيارات الغارقة فيها. ضعنا أياماً، بتنا ليالي والوحوش قريبة منّا، والعقارب كانت تدبّ من حولنا ونحن ننام على الأرض، قلّ معنا الزاد فكدنا نُشرِف على الهلاك، وفقدنا الماء حتى إذا وجدناه والدود الأحمر يملؤه نزعنا العمائم (أي الغتر) من فوق رؤوسنا وصفّيناه بها، فشربنا ما قطر من الماء ونفضنا الدود نفضاً. وكان أدلاّؤنا يمشون بنا حيث تمشي الإبل لأن الدليل ما دلّ -من قبل- سيارات، بل كان يدلّ قوافل الجمال، فكان يأتي بنا إلى مثل الدرَج في الصخر يريد أن تصعده السيارة كما يصعده الجمل، فإذا أدرك أنْ ليس للسيارة يد ترفعها كما يرفع يدَه البعيرُ عاد يسلك بنا طريقاً غيره، فنغرم بهذه العودة ثلاثين أو أربعين كيلاً ضاعت هدراً. ذقنا في هذه الرحلة العذاب ألواناً ورأينا الموت عياناً أحياناً، أمضينا فيها شهرين في نَصَب وتعب، وفي خوف وحذر، ولكني خرجت منها بذخيرة من الذِّكَر والعِبَر ومن الأخبار والطرائف لا أزال أتحدّث عنها، ما نفد ما عندي منها وإن مضى عليها نصف قرن. وأقطع اليوم الطريق نفسه في ساعتين وأنا على المقعد المريح في الطيّارة «المكيَّفة»، طعامي يوضع أمامي وفراشي تحتي، إن نعست مسست زراً فصار المقعد فراشاً، لا أتعب في الرحلة ولكني لا أربح منها شيئاً، لا أخرج منها بذكرى، أنساها وأنسى كل ما كان فيها بعد يومين لأنها لم تُرِني عجباً ولم تُثِر في نفسي عاطفة؛ لا أحس فيها رهبة ولا خوفاً ولا تطلعاً إلى جديد.

ربحنا الوقت ووفّرنا الجهد، ولكنا خسرنا المشاعر والذكريات. * * * قررت حين دُعيت إلى تلك الرحلة وعزمت عليها أن أدوّنها وألاّ أكتفي -على عادتي- بما تحمل ذاكرتي، فاتخذت دفتراً (¬1) كنت أتأبطه دائماً، فلا نسلك طريقاً ولا نقطع وادياً ولا نُبصِر جبلاً إلاّ كتبت اسمه وصِفَته وطبيعة أرضه، ولا نلقى قوماً أو نحلّ أرضهم إلاّ سألت عن أنسابهم وأحوالهم، ووصفت مساكنهم وما عرفت من عاداتهم وحكيت ما سمعت من لغاتهم ولهجاتهم، ولا بتنا ليلة إلاّ ذكرت كيف حططنا الأحمال وكيف نهضنا الغداةَ للارتحال، ولا أرى منظراً أو أشهد مشهداً إلاّ سجّلت في دفتري أثره في نفسي وما بعث فيها من ذكرى وما هاج فيها من عاطفة وملأته بما يناسب المقام من الشعر (وكنت أحفظ الكثير منه، ولا أزال)، وإن سمعت من شعر البادية شيئاً كتبته مَشكولاً مَشروحاً لأن الكثير منه ممّا لم أفهمه، وإن كان هذا الشعر قد قيل في حادثة معروفة كتبتها وعرّفت بها، على ضبط في الأرقام وتحرٍّ في جمع الأخبار وتوثّقٍ من صدق الراوي، على قدر ما أستطيع من التحرّي والتوثّق. حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على التمام وقاربَت الرحلة الغاية، امتدّت يدٌ لم أعرف صاحبها (الله وحده يعرفه) فذهبَت بالدفتر. ولا تزال لوعة فقده في قلبي إلى اليوم، ولو فقدت مالي لكان أهون عليّ، لأن المال يُعوَّض، والريالات ¬

_ (¬1) هذه الفقرة أكثرها من كتابي «نفحات الحرم».

والليرات والدولارات تختلف مقاديرها عدداً ولكن تتفق أفرادها شكلاً، كالكتاب المطبوع يضيع منك فتشتري غيره. أما ذلك الدفتر فمن أين آتي بمثله؟ وأعزّي نفسي أحياناً فأقول: لعلّه لم يكن كما وصفتُه ولعلّ فَقده زيّنه في عيني، كالوالدَين يحصران في ابنهما الذي مات المزايا كلّها وربما لم تكن كلها فيه. ومهما يكن فإن الدفتر قد فُقد، وأسأل الله عِوَضه ثواباً. لذلك امتنعت بعدها عن الكتابة إلاّ مقالات بعثت بها خلال الرحلة إلى «الرسالة» فنشرها الزيات، رحمه الله وجزاه عني خيراً، وإلى «ألف باء» في دمشق فنشرها الأستاذ يوسف العيسى. ولم أدوّن الذي كتبته عنها والذي أودعتُه كتابي «من نفحات الحرم» إلاّ بعد سنوات طوال. وما أنشر هنا ما في الكتاب، إلاّ أن أستشهد بفقرات منه أو أن يقتضي تسلسل القصة إعادة شيء ممّا فيه، فأكتبها بأسلوب آخر أو ألخّصها تلخيصاً. * * * وبعد، فما قصة هذه الرحلة؟ لمّا وحّد الملك عبد العزيز رحمه الله الجزيرة وأنشأت المملكة «معتمَديّة» في دمشق كان أول معتمَد هو الشيخ ياسين الروّاف. وقد قلت لكم إنه كانت في دمشق أُسَر نجدية الأصل تُسمّى «العقيل»، وكان أبناؤها غالباً أدلاّء للحُجّاج عندما يخرج موكب المحمل. والمسنّون من أهل مكّة والمدينة يعرفون «المَحْمِل

المصري» و «المحمل الشامي»، وهما من البدع المُحدَثة وربما عدت إلى الحديث عنهما. وكنت أعرف الشيخ ياسين رحمه الله، حتى إنه سبّب لي لوماً شديداً من بعض مشايخي لأني خطبت في حفلة المعتمدية. لماذا؟ لأنها لم تكن وضحت الأمور وتبيّنَت الحقائق وعرف المسلمون ما هي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكان كل من اتصل بالمعتمَدية وهّابياً. وكانت تهمة الوهابية شيئاً مخيفاً، حتى إن الأستاذ المودودي (رحمه الله) حدّثني عن رجل هندوسي تاجر كان يعامل المسلمين هناك ويعاملونه، فكان خصام بينه وبين أحد التجار المسلمين، فأعلن في المسجد أن فلاناً (أي الهندوسي) وهّابي، فقاطعوه حتى اختلّت تجارته، ولم يخلّصه إلاّ أن أرضى التاجر المسلم فجاء المسجد فأعلن أنه تاب من الوهابية ورجع إلى بوذيته، فرجعوا إلى معاملته! وقد رويت هذه القصة في كتابي «محمد ابن عبد الوهاب» المطبوع سنة 1381هـ. الداعي إلى هذه الرحلة والذي أعدّ لها هو الشيخ ياسين الرواف، بعد أن ترك المعتمدية ووضع الملك عبد العزيز رحمه الله أخاه الأكبر الشيخ عيداً مكانه فيها، ونقله هو إلى وظيفة أخرى. أمّا القصد منها فهو فتح طريق للسيارات يربط دمشق بمكّة، وكان يومئذ حلماً من الأحلام. رحمه الله، كم قابل رجالاً وكم أقام من حُجَج وكم تعب وكم بذل من وقته ومن راحته حتى استطاع إقناع خمس من

شركات السيارات بالقيام بهذه الرحلة، شركات صغيرة فقيرة لا يملك أقواها وأغناها أكثر من عشرين أو ثلاثين سيارة. وأعدّوا لهذه الرحلة أربع سيارات من طراز بويك وواحدة ناش، وحملوا معهم مااستطاعوا من صفائح البنزين، وأخذوا معهم أحسن خبير (ميكانيكي)، وهو رجل يستطيع أن يفكّ السيارة قطعة قطعة ثم يعيدها. كانت سياراتنا أول سيارات تطأ هذه الصحراء من يوم خلق ربي هذه الصحراء، اللهمّ إلاّ سيارة الشيخ عبد العزيز بن زيد الذي كان يومئذ (أي سنة 1353هـ) مفتّش الحدود، ثم صار سفير المملكة في دمشق وشرّفني بصداقته، وقبله السفير رشيد باشا. فقد قطع الشيخ عبد العزيز بالسيارة ما بين القُرَيّات ودمشق. * * * كانت تلك الرحلة مثلاً مُفرَداً في «باب التنظيم»، فيها نوادر لولا أنها واقعة وأنني كنت أحد أبطالها لما صدّقتها. كان طريقنا على إمارة شرقي الأردن (التي صارت الآن المملكة الأردنية الهاشمية) ولم يكن لها ممثّل في دمشق، فكان على من يريد دخولها أن يطلب الإذن من القنصل البريطاني. أنا العربي المسلم إن أردت دخول أرض الأمير عبد الله العربي الهاشمي المسلم، أستأذن من الإنكليزي غير العربي وغير المسلم! وطلبنا الإذن فأباه علينا، كأن الأرض أرضه وأرض أبيه وجَدّه هم الذين فتحوها بسيوفهم وهم الذين نشروا فيها النور الذي هبط من حراء عليهم، وكأن جبل حراء بجنب لندن لا بجوار مكّة!

فماذا نصنع؟ جاءنا من يقول لنا إنه يعرف طريقاً ينقلنا من سوريا إلى الحجاز من غير أن نمرّ على الأردن، وصدّقناه، ولم يخطر على بال واحد منّا (ولا أنا، الذي كان يحمل يومئذ ليسانس الحقوق) أن يُلقي نظرة على المصوَّر (¬1) ليرى أنْ ليس بين سوريا والحجاز حدود مشتركة وأنه لا بد من المرور بالأردن! يقولون إن الهوى يُعمي ويُصِمّ. وكان هوانا في أن نرى الكعبة ونشرب من زمزم، ونقوم في الروضة ونزور رسول الله ‘، كأن هوانا هذا قد أعمانا فلم نرَ الحقيقة الماثلة أمامنا. إني لأذكر ذلك الآن فأضحك من نفسي، من جهلي وجهل من كان معي. إن الرسول ‘ أمرَنا إذا كنّا ثلاثة أن نؤمّر علينا واحداً منّا، ونحن هنا ثلاثون لا ثلاثة، ولم نتخذ لنا أميراً، وكنّا كعادتنا دائماً: كنّا جميعاً أمراء! كرؤوس الثوم، هل نسيتم قصة رؤوس الثوم؟ فكانت رحلتنا -كما قلت- مثلاً مُفرَداً في باب التنظيم، أقصد عدم التنظيم، أي أنها المثَل الكامل للفوضى. ما إن عرض عليّ الشيخ ياسين رحمه الله الأمر حتى وافقت، وافقت بلا تفكير. تصوّرت أني أتوجّه كل يوم خمس مرّات إلى الكعبة، وبيني وبينها الآماد البعاد والجبال والرمال والمسافات الطوال، فأحنّ إليها ويهفو قلبي -على البعد- إليها، فهل أستطيع، وقد عُرض عليّ الوصول إليها والطواف بها والتعلّق بأستارها، أن أقول: لا؟ ¬

_ (¬1) أي الخريطة (مجاهد).

لم أفكّر أني موظف مرتبط بوظيفة عيشي وعيش أهلي منها، وأن لي إخوة أنا مسؤول عنهم لا يسَعني تركهم، وأن الرحلة تحتاج إلى مال وأنا رجل لا مال لي، وأنّى؟ وما ورثت من أحد شيئاً، وراتبي ست وثلاثون ليرة في الشهر؟ ما فكّرت بشيء من هذا لِما غلبني من الشوق إلى هاتيك المعاهد، إلى الأرض التي استقبلَت آخر رسالات السماء، إلى البلد الذي وُلد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب كل مسلم، والبلد الآخر الذي عاش فيه ومات فيه، والذي يحسّ مَن يزوره أن كل مكان فيه وكل جبل وكل حائط (أي بستان) يحدّثه حديث المصطفى الحبيب ويتلو سيرته. إن الذي يحبّ إنساناً حباً أرضياً جسدياً يأنس بزيارة الدار التي وُلد فيها والبلدة التي عاش فيها، ويحبّ ما يذكّره به ويُخبره خبره، فكيف وحب المصطفى في قلب كل مسلم هو الحب السماوي، لأنه يتصل بوحي السماء الباقي، لأنه من شؤون الآخرة الباقية لا الدنيا الفانية؟ وشيء آخر جعلني أسارع إلى الموافقة وإن لم يكن كالأول، هو أني كنت أراها أمنيّة من الأماني، كلاماً يذهب في الهواء، كتصريحاتنا كلها واحتجاجاتنا وخطبنا وصياحنا في مظاهراتنا، وكنت موقناً أنها لن تكون رحلة ولن يذهب في هذه الرحلة أحد. فلما جاءني الشيخ ياسين يقول وهو مستبشر فرحاً: "هيا استعدّ فقد تقرّر السفر" سُقط في يدي ولم أدرِ ماذا أفعل! وقعت بين مشكلتين: إخلاف الوعد أو ضياع الوظيفة. ثم وجدت أن ضياع

الوظيفة أسهل من الإخلاف، ومع مَن؟ مع نَجدي سَلَفيّ لا يعرف من كلمة «نعم» إلاّ أنها وعد مُبرَم لا يحلّه إلاّ الموت، فقلت له: أنا حاضر. ويسّر الله فسمحَت لي الوزارة بالسفر، وأعددت الجواز وكان أمر استخراجه سهلاً، وحُدّد موعد المسير، وكان بعد عشرة أيام. هل تدرون لماذا أجّلوه عشرة أيام؟ كان ذلك لسبب لا يخطر لكم على بال؛ هو أن تطول لحاهم ليذهبوا إلى مكّة بلحى مُعفاة لا بذقون محلوقة، لأنهم سمعوا أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر تمسك من كان حليق الوجه! لهذا أعفوها، أو أعفاها أكثرهم. لا اتّباعاً لسنّة رسول الله فقط، بل لأنهم سمعوا أيضاً أن الرجل هناك بلحيته، فمن كان أطولَ لحية كان أعلى قدراً! وجاء الموعد ولم يكن سفر، فضاقوا ذَرعاً باللحى التي ربّوها لغير الله، واستحيوا أن يواجهوا بها الناس وضنّوا بها أن يحلقوها بعدما ربّوها. وكان موعد جديد، وجاءنا الأهل والإخوان مودّعين، وأعددنا الحقائب وقلنا: الرحيل غداً، ولكن جاء الغد ولم نرحل. وتكررت القصّة ستّ مرّات حتى مللنا وملّ المودّعون، وقلّ اهتمامنا بالرحلة واهتمام إخواننا وأهلينا بنا، ثم جاؤوا فقالوا: هذه الحاسمة، السفر بعد غد فهاتوا ثقلكم. وأخذوا الثقل فبيّتوه في المرأب (الكاراج)، وذهبنا نبيت في بيوتنا على أن نوافي المرأب الفجر. صلّينا الفجر وجعلنا ننتظر حتى طلعت الشمس، وكان الضحى، وأذّن الظهر، وكان العصر، وهممنا بالانصراف ولكن

السيارات حضرت، وعلّقوا في صدرها لوحة كبيرة كتبوا فيها «الوفد السوري لاكتشاف طريق الحجّ البري». مع أن الطريق كان معروفاً ومسلوكاً، تمشي فيه قافلة الحُجّاج كل سنة ومعها قوّة عسكرية لتحميها، ولم تكن تنجو مع ذلك من الأعراب ومن قُطّاع الطرق. وكانت القوّة تحمل معها «الصرّة» وفيها مال من الدولة يُوزَّع على الأعراب وقُطّاع الطرق. وكانت الدولة العثمانية قد أقامت على الطريق سلسلة من القلاع لتضمن سلامة سالكيه، ووكّلت بكل قلعة أسرة من أسر «الميدان» الكبيرة لحمايتها. كذلك كان طريق الحجّ، فرحم الله عبد العزيز. * * * في هذه اللحظة أيقنت بالسفر. وفكّرت كيف أفارق أهلي وموطني وأطوّح بنفسي في هذه الصحراء في رحلة فقدَت كلّ أسباب السلامة، فلا خطّة لها نتبعها، ولا قوّة معها تحميها، ولا أمير لها يحكم أمرها. واستفاقت في نفسي مئات من الذكريات، فأبصرت في كلّ بقعة من دمشق التي أفارقها قطعة من حياتي، وفي كلّ طريق وفي كلّ مسجد وكلّ بستان وكل مئذنة تبدو لي على البعد، وفي قاسيون الذي يعانق هذا كله يحيطه بذراعَيه الحانيتين. وهل حياة المرء إلاّ في قلوب أصدقائه ووجوه أصحابه، وجوانب داره ومشاهد بلده؟ من أجل ذلك اقترن الموت بالخروج من الديار، ومن أجل ذلك كانت الهجرة لله جهاداً في سبيل الله. واستغرقت في هذه الأفكار، ما نبّهني إلاّ أصوات مئات من أبواق السيارات! وإذا نحن قد سرنا وسار خلفنا المودّعون، في قطار

طويل بلغ أوله «بوّابة الله» (¬1) في آخر «الميدان» جنوبي البلد وآخره لا يزال في «باب الجابية»، حتى لقد ظننت أنها لم تبقَ في دمشق سيارة لم تمشِ معنا. وكان مشهد ظلّ يذكره ويحدّث به من كان رآه سنين وأعواماً. وقف الموكب ظاهر دمشق حول قبة العسالي وقد ملأ الناس الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقمت أنا أشكرهم باسم الوفد وأودّعهم وأشرح مقاصد الرحلة. وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب فزاد شحوبها الموكب رهبة وجلالاً، وأقبل كلّ من المودّعين على ذويه يودّعهم، فلم تكن ترى إلاّ العناق والتقبيل والدموع التي تسيل. ورقّت نفسي رِقّة شديدة. وحين ترقّ النفس ويحضر القلب ينطلق اللسان بما لا عهد لصاحبه به، وألقيت على الناس كلمة لو سُئلت ماذا قلت فيها لما دريت، لأني لم أُلقِ كلاماً أدبياً من طرف اللسان بل قولاً روحانياً من أعماق الجنان. وقد وقع لي مثل هذا مرّات سأذكرها تحدّثاً بنعمة الله، منها: يوم اجتمع علماء سوريا كلها وقابلوا (أيام الوحدة مع مصر) كمال الدين حسين، وشرّفوني فكلّفوني الكلام عنهم. ويوم انقطع ¬

_ (¬1) يلفظها العامة «بابْطَالله»، ويُسمّى هذا الموضع أيضاً «باب مصر». وليس في المكان باب من أبواب دمشق حقيقة، بل هي تسمية مجازية للنهاية الجنوبية لحي الميدان من حيث يفارق المرءُ دمشقَ من الجنوب (أو هكذا كان)، وسُمّي كذلك تيمّناً بسفر الحُجّاج من هذا الموضع إلى الحج (مجاهد).

الغيث (أيام الوحدة أيضاً) سنين متعاقبة، فدعوت إلى إحياء سنّة الاستسقاء، وكانت معطَّلة في الشام من زمن قديم، فتكلّم السيد مكي الكتاني الرجل الصالح النبيل، ثم تكلمت أنا بكلام لم أحفظه، لكن رأيت من أثره وأثر ما قال السيد أن العيون فاضت بالدموع والقلوب توجّهَت إلى الله بالدعاء، وكان حولنا مركز للدفاع المدني فيه بنات سافرات كنّ قبل الصلاة وقبل الخطب في نقاش مع نسائنا المتحجبات، فأبصرتهن يبكين مع الباكين ويمددن الأيدي للدعاء مع الداعين. ولطف الله بعباده، بكرمه لا بخُطَبنا، فهطلَت الأمطار بعد يوم أو يومين، حتى امتلأت العيون ورُوي الناس والحيوان وأمرعت الأرض، وكان فضل الله عظيماً (¬1). عفواً أيها السادة، لقد نسيت موضوعي فتكلمت عن يوم الاستسقاء. وما أكثر الأيام التي رجعنا فيها إلى الله ذراعاً فرجع إلينا خيرُه باعاً، وما أكثر ما نسينا بعد ذلك وابتعدنا! اللهمّ دُلّنا عليك وأعدنا إليك ولا تحرمنا فضلك. وأذّن مؤذّن نديّ الصوت فردّدَت الأقطار الأربعة أذانه، ثم اصطفّ القوم كلهم لصلاة المغرب، حتى إذا قُضِيَت الصلاة مشينا على بركة الله، نخوض ظلام الليل في طريق طويل مجهول، وقد سلّمنا أمورنا لله. * * * ¬

_ (¬1) سيأتي خبر لقاء العلماء مع كمال الدين حسين في الحلقة 154 وخبر صلاة الاستسقاء في الحلقة 157 والتي بعدها (مجاهد).

رحلة الحجاز (2) في متاهات الصحراء

-71 - رحلة الحجاز (2) في متاهات الصحراء تركتكم عند «قبّة العسالي» ظاهر دمشق. وأمامها قرية «القدم» التي زعم أهلها أن على صخرة فيها أثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا زارها، مع أنه لم يزُرها ولم يتجاوز في سفره إلى الشام مدينة بُصرى، وما زعموه ما له أصل. وسرنا إلى دَرْعا (أَذْرِعات) على الطريق المعروف، وكنّا سكوتاً لا نتحدث لأن كل واحد منّا كان في حديث مع نفسه، مع حياته التي خلّفها وراءه وفيها كل عزيز عليه حبيب إليه، ومع المجهول المَخوف الذي يُقدِم عليه: وهو اقتحام الصحراء التي لا يعرف عنها شيئاً، ولا يدري إذا ما دخلها أيخرج منها أم يكون آخر العهد به فيها؟ كنّا نشعر بمثل ما يشعر به «المكتشفون» الذين مشوا يرون منابع النيل في أدغال إفريقيا أو مكان القطب وراء ثلوج ألاسكا. وبلغنا درعا. ودرعا اليوم مدينة، لكنها كانت -من قبل- قرية

من قرى حوران، فلما مُدّ الخطّ الحجازي (سنة مولدي) جعلوا محطّاته بعيدة أحياناً عن القُرى ليكون مستقيماً فلا يتعرّج ليصل إلى كل قرية منها، فنشأت حول المحطّة بُلَيدة مُحدَثة، لكنها جديدة البناء حسنة التخطيط، وكان فيها دار الحكومة وسوق التجار. بلغناها بعد العشاء فوقفنا فيها ريثما حيّينا مَن جاء للسلام علينا، وهتفنا بآل المقداد في بُصرى (وهم وجوهها وأعيانها) نخبرهم بقدومنا وتوجهنا إلى بصرى. لمّا كنّا نتعلم في المدرسة الابتدائية على عهد الترك كانوا يسمّونها «بصرى إسْكي الشام»، أي الشام القديمة، لأنها كانت يوماً حاضرة الشام وأكبرَ مدنها، ولا يزال فيها من الآثار ما يشهد بما كانت عليه؛ من ذلك المدرّج الروماني، وهو أكمل المدرّجات الرومانية الباقية، لا ترى مثله ولا في إيطاليا. ليس مدرّجاً فقط كالذي في عَمّان، بل إن فيه وراء المسرح أبنية ضخمة لها واجهات قائمة على أعمدة ولها شرفات، كلها من الحجارة الكبيرة المصقولة. والمدن كالناس تُولَد وتموت، وتشبّ وتشيخ، وتعزّ وتذلّ. هذه إسطنبول (إسلامبول) كانت يوماً عاصمة أوربا، نازعَتها القيادة قرية في الأناضول هي أنقرة، التي مرّ بها امرؤ القيس وقال فيها: «رُبّ جفنة مثعنجرة، وطعنة مسنحفرة، تبقى غداً في أنقرة» وذكرها أبو تمّام في بائيته التي لم يقُل أعظم منها المتنبي. وهذه برلين العظيمة أخذت منها الصدارةَ قرية كبيرة تُدعى بون، بل ضاحية منها هي بادكودنبرغ (ومعناها حمام الجبل الجميل).

وكذلك صنع الزمان ببصرى والجابية وممفيس التي ذهبت وبقيت خيمة عمرو بن العاص (أي فسطاطه)، والمدائن صارت «سلمان بك». نسي الناس اسم كسرى وذكروا اسم سلمان، فكان قبره أبقى على الزمان من ذلك الإيوان! استقبلَنا أهلُ بصرى بالأضواء والمشاعل والأهازيج والأغاريد. وكانت ليلة وصولنا كأنها ليلة العيد، خلَت فيها البيوت وسالت بأهلها الطرق، ونزلنا على قوم كِرام أرونا من ألوان الرعاية ما عجز عن شكره اللسان، وأرادونا على المبيت فأصررنا على السفر، وطلبنا دليلاً عارفاً بالأرض يسلك بنا مسلكاً يوصلنا إلى «القُرَيّات» في أرض عبد العزيز دون أن نمرّ على الأزرق التي يسيطر عليها «أبو حنيك». وأبو حنيك هذا هو غلوب باشا الإنكليزي، داهية من الدواهي، والعرب يعبّرون بصيغة التصغير عن التعظيم والتكبير، فيقولون في مثله: «دُوَيهِيةٌ تَصْفَرُّ منها الأناملُ» (¬1). رافق العربَ وعاش معهم في باديتهم وجرى على عاداتهم في طعامهم ومنامهم، وعرف لهجات قبائلهم وصار يكلّمهم بلهجاتهم. وأنا أحسب أنه كان صادقاً في حبّ العرب، أعني عاداتهم ولغاتهم لا أعني أنه يُؤْثر مصالحهم على مصالح أمته. ويؤكّد هذا حديث لمندوب من «المجلّة» أجراه معه من قريب، ولقد سَمّى ولده باسم عربي وملأ داره في لندن بذكريات حياته مع العرب التي يبدو أنه لا ينساها ولا يزال يأنس بذكراها. ¬

_ (¬1) من ذلك ما يُلاحَظ هنا في المملكة من كثرة الأسماء المصغَّرة يُسمّى بها كبار الرجال.

جاؤونا برجل اسمه «الحاجّ نمر» قالوا إنه يعرف البادية كما يعرف صحن داره، وإنه يسلك بنا طريقاً إلى القُرَيّات لا يمرّ به على الأزرق ولا يدنو من مخافر الجيش الذي كان يقوده أبوحنيك. وضَمِنوه لنا فوثقنا به، وسلّمناه رقابنا ومشينا مع الحاجّ نمر، الذي تبيّن لنا بعد قليل أن أولى به أن يُدعى «الحاج غراب» على قاعدة: «قدْ ضَلَّ مَن كانتِ الغِربانُ تهديهِ»! سار بنا جنوباً لا يتبع طريقاً مرسوماً، وما كان ثمة طرق مرسومة نتبعها. وكان مسيرنا في آخر الهزيع الأول من الليل، فما مضى إلاّ قليل حتى أبصرنا أنفسنا وسط بلدة أثرية بها بنيان كثير وفيها أزقّة وطرقات، وفيها برج عالٍ قديم، لكنها مهجورة كما يظهر منذ قرون ليس فيها ديّار ولا نافخ نار، اسمها «أم الجمال». لم أدرِ ما تاريخها، وأنا أعجب كيف مرّت هذه المدّة كلها وأنا لم أعرف إلى الآن ما خبرها، وأظنّ (ولست مؤكداً) أني سمعت الشيخ حمد الجاسر يذكرها مرّة في الإذاعة، فأرجو منه وممّن له علم بها أن يتفضّل عليّ ويبعث به إليّ، أو يكتبه وينشره لينتفع الناس به إذا عرفوا خبره. وطلبنا الدليل، فإذا هو مريض قد غثَت نفسه وغلبه القيء، فأسعفناه. وكان معنا كلّ ما يحتاج إليه الإسعاف العاجل، كما كان معنا من الطعام ومن الشراب ومن الأدوات والآلات ما لا يُستغنى عنه في مثل هذه الرحلة، كما حملنا معنا مئتي صفيحة بنزين مختومة، لأنه لم يكن ينبع النفط إلاّ في العراق ولا كنّا نعرف محطّات الوقود على الطرقات.

لمّا صحا سألناه، فاعتذر بأنه لم يركب سيارة من قبل، فلذلك دار رأسه وانقلبَت معدته. وتبيّن أنه لا يعرف في هذا المكان طريقاً نسلكه، وطلب أن نرسله وحده في سيارة ليكشف بها الطريق وننتظر نحن عودته هنا. وغاب وطال غيابه، وكانت ليلة باردة ونحن في العراء لا غطاء ولا وطاء، ولا نستطيع أن ننام، وأين وكيف ينام من يريد المنام؟ حتى طلع النهار فإذا هو قريب منّا، فسألناه لماذا لم يرجع إلينا، فكان جوابه أنه كان ينتظر أن نلحق نحن به! اتضح لنا الآن أننا خُدعنا به وأنه قليل الخبرة، ولكن ماذا نصنع؟ إن كان قليل الخبرة بالمسالك فنحن لا خبرة لنا بها أبداً، والقليل خير من الصفر، ولا يمكن أن نعود لنأتي بغيره. فرجوناه ورفقنا به، وشتمناه وقسونا عليه، وأطعمناه ووعدناه وخوّفناه وهددناه، فكأنه استعاد ما فقد من المعرفة بالطرق ومن الثقة بنفسه، وأقسم أنه يخبر هذه الأرض شبراً شبراً وأنه مشى فيها بعدد شعر رأسه. فاطمأننّا قليلاً وسرنا معه، وكانت الشمس قد بزغت وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة. مشي بنا في جبل وعر فيه أحجار وفيه حُفَر، ومضت ساعة كاملة وهو لا يزداد إلاّ وعورة، فثار به القوم وأوسعوه أسئلة وشتائم، وهو يحتمل: إما صبراً وحسن أخلاق أو بلادة وفَقد حِسّ، ثم ادّعى أنه ليس بيننا وبين القريّات إلاّ أن نقطع هذه الوعرة. فصدّقه ناس منّا ومالوا إلى رأيه وأعلن آخرون: حسبنا ما جرّبنا. وصرنا -كما يقول المثل الشامي العامّي- مثل أهل الحمّام إذا انقطع عنه الماء! ولم يكن لنا أمير نرجع إليه فكثر الجدل

والصياح، ثم قال الذين غلبوا وانتصروا: لابد من العودة. فعدنا ننزل من الجبل الذي صعدناه بدلالة «الحاجّ غراب». ونزلنا فوجدنا جادة معبّدة فسرنا فيها، والدليل صامت، لم يعُد يسأله أحد ولا يبدأ هو أحداً بالكلام. سرنا أربع ساعات والجادة لا تنتهي ولا توصلنا إلى شيء، ثم وجدنا مركزاً عسكرياً فيه ضابط إنكليزي فسألناه: إلى أين تمشي هذه الجادة؟ قال: إلى العراق! وبلغ من إهمالنا أننا لم نصحب معنا خريطة ولا حملنا بُوصْلة (¬1) نستدلّ بها على الجهات. هنالك وثبوا على الدليل يسبّونه ويضربونه، وهو يتحمّل ساكتاً صابراً صبراً عجيباً. ثم تركوه وركن كلٌّ منّا إلى اجتهاده، فقال قائل من السوّاقين: إن هنا حرّة فيها طريق يصل إلى القريات، وقد جزته وأنا أعرفه. قالوا: هلمّ بنا إليه. قال: الحقوني. ووصل بنا إلى حَرّة من أوسع الحِرار وأعجبها، واسعة ممتدّة الجوانب ملتوية الأرض مفروشة بحجارة سوداء لمّاعة كأنما قد صُبّ عليها الزيت، أكثرها حادّ الأطراف كالسكاكين، فلما بلغنا وسطها رأينا بقايا طريق كان يوماً معبّداً ولكنه تخرّب وغطّته الحجارة، فكنّا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لتمشي، وكنّا إذا بلغنا هضبة لا تقوى السيارة على صعودها ربطنا السيارة بالحبال وجررناها من أمامها ودفعها ناس منّا من خلفها. واستمرّ ذلك إلى الغروب، وقد قطعنا في هذا الطريق تسعين ¬

_ (¬1) الكلمة طليانية، وقد ثبت أن العرب عرفوا البوصلة واستدلّوا بها.

كيلاً، فلما خرجنا منها وجدنا أننا أمام «الأزْرَق» الذي هربنا منه، وإذا بنا قد وقعنا فيه. * * * من المشاهد ما يبقى محفوراً في ذاكرة الإنسان حتى كأنه يراه أمامه، منها هذا المشهد. كنّا ننزل في منحدَر وأمامنا عن بُعد مركز «الأزْرَق» يلوح العلم فوقه ويقف الجند حوله وتحفّ السيارات العسكرية به، فخشينا أن يكونوا قد رأونا فتضيع جهودنا كلها ويذهب تعبنا عبثاً، وكان عن شمائلنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء ذو أشواك، أرضها من الرمل الناعم، وهو العدوّ الأكبر للسيارات لأن دواليبها تغوص فيه فلا تُستخرج منه إلاّ ببالغ المشقّة، ولكنْ ليس أمامنا إلاّ دخولها. فدخلناها تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتستقيم، وكانت مثقَلة بأحمالها، فيها فوق رُكّابها الحقائب والزاد وقطع التبديل، ومئتا صفيحة (أي تنكة) بنزين. ورحمَنا الله فوصلنا إلى قاعٍ مستوٍ وقفنا فيه وتهيّأنا للمبيت. والقاع في عُرف البدو مستنقَع ماء أو غدير جفّ فكان بقعة مستوية كأنها الكفّ، أرضها من الطين المتماسك فيه شقوق. وكان خالياً موحشاً، فلما نُصِب فيه السرادق (وهو خيمة كبيرة) وأُشعلت فيه مصابيح الغاز (الأتيريك)، وأُوقدت أمامه النار ومُدّت فيه البُسُط، رأيت القاع قد استحال إلى قرية صغيرة أو معسكَر من معسكَرات الكشافة. وكنّا قد أحضرنا معنا رادّاً (راديو) وصّلوه بكهرباء السيارة فانطلق يصدح بالأغاني، ولم تكن هذه الروادّ الصغيرة التي توضع في الجيب وتعمل على الأحجار، أي البطاريات الصغيرة.

وكانت هذه ليلتنا الثانية، ولكن لم تكن كالأولى بل كانت ليلة أُنس ومسرّة، نضج الطعام فتعشّينا وشبعنا، وأكلنا من حلوى الشام التي حملناها معنا، وسمعنا من موسيقى مصر التي نقلها الرادّ إلينا، وجدنا معنا عبد الوهاب وأم كلثوم هنا بين الشيح والقيصوم! وما كان معي إلاّ «إحرام» واسع كنّا نستعمله في دمشق في الشتاء، من الصوف الخالص ناعم رقيق إن بسطته غطّى عشرة أشخاص نيام وإن شئت زيادة في الدفء طويته، فكان هو فراشي وكان لحافي. وبسط كل منّا ما حمل معه، ونمنا نومة كانت بعد ذلك التعب ألذّ نومة نمتها في حياتي. وأنا في العادة أستدعي النوم طويلاً وهو يتدلّل عليّ، ولكني ما وضعت خدي تلك الليلة على المخدّة حتى غرقت في المنام. ولو كنت في غرفتي في بيتي لما كفاني نوم تسع ساعات، ولكني صحوت في الصحراء قبل أن يُطِلّ الفجر من الأفق الشرقي نشيطاً قوياً، فرأيت الفجر عياناً وما عرفته من قبل إلاّ على السماع أو في الكتب. رأيت الفجر الكاذب الذي يكون فيه النور خيوطاً متفرقة كأذناب البقر، والفجر الصادق الذي يطلع معترضاً يملأ الأفق، كما عرفت نجوم الليل وما كنت أراها من قبل إلاّ لماماً، ما استطعت قبل تلك الليلة أن أستلقي وأن أتأملها وأتصوّر مدى عظمتها وكثرتها فيسجد قلبي لمبدعها وخالقها. عرفت في هذه الرحلة معنى قول الرافعي رحمه الله: إنّما الإسلامُ في الصحرا امتهدْ ... لِيَجيءَ كلُّ مسلمٍ أسَدْ ذلك أن الصحراء لا يعيش فيها ضعيف ولا جبان، لا تعيش فيها إلاّ الأسود والفهود والصخور الصلد والجبال الرواسي.

الصحراء التي لا يعرف أهلها الغشّ ولا النفاق لأنها مكشوفة ليس فيها سقوف تستتر تحتها المعاصي ولا زوايا يختبئ فيها الخداع. وأبصرت الإخوان كلهم قد صحوا مثلي واحداً بعد واحد، فتوضّأ أكثرهم وصلّى معنا جماعة، وتغافل الباقون ممّن لم يكن يصلّي. فألقيت كلمة ذكّرتُهم فيها من غير أن أنفّرهم، وحاولت أن أوقظ الإيمان في قلوبهم، فاستجاب بعضٌ وبقي بعضٌ على إعراض، فدعوت لهم بعد الصلاة بالهداية وصدقت في دعائي لهم وأمّنَ المصلّون، ثم ألهم الله أحد المصلّين كلاماً كان -على عامّيته- أبلغ فيهم من كلامي، وتكلّم ثالث، ثم قلت: يا إخوان، إننا مُقدِمون على سفرة مجهولة العواقب، قد نتعرّض فيها للهلاك أو نقابل الموت. إننا نغامر بحياتنا، أفلا نضمن تعويضاً عنها أبقى منها؟ يا إخوان، إن اعتمدتم على قوّتكم وحدها فسترون أن الصحراء وأهوالها أقوى منكم، فاعتمدوا على ربكم، صَفّوا حسابكم مع الله قبل أن تمشوا. إن تصفية الحساب إنما تكون بالتوبة والاستغفار وأن تؤدّوا حقّ الله عليكم، وأكبر حقوقه بعد تصحيح العقيدة إقامة الصلاة. وأفضت في مثل هذا المعنى. ثم قام أحد السوّاقين -وقد مسّته نفحة من نفحات الإيمان- فقال مقالة خرجَت من قلبه، فأحسَسْت أنا أنها حرّكت أعماق قلبي وأسالت الدمع من عينَيّ، وفعلَت بالحاضرين مثل الذي فعلَت بي، فلم يبقَ في القوم من لم يتوضأ ويقف بين يدي الله مصلّياً تائباً، آيباً إليه قارعاً بابه طالباً ثوابه، وكانت هذه هي البداية الخيّرة لهذه الرحلة. * * *

رحلة الحجاز (3) الوصول إلى القريات

-72 - رحلة الحجاز (3) الوصول إلى القُرَيّات بدأنا اليوم الثالث من رحلتنا بأحسن مبتدأ، بذكر الله وبالصلاة وبوقوفنا جميعاً صفاً واحداً بين يدي الله، بالاجتماع على التوبة وعلى الرجوع إليه، فالحمد لله. والمسلم يبدأ كل أمر مهمّ بحمد الله، لا الحمد من طرف اللسان بل من قرارة القلب الراضي عن الله. وأفطرنا مبكّرين، ومشينا نسابق الشمس، نريد أن نخرج من هذه الأدغال قبل أن تخرج هي من خدرها وتُطِلّ على الدنيا بنورها وبخيرها، فرأينا على الرمل آثاراً جديدة لدواليب سيارات عسكرية جديدة تبدو واضحة تدور من حول المكان الذي كنّا فيه قبل أن ندخل الدغل، فقدّرنا أنهم رأوا أضواء سياراتنا من الأزرق فأقبلوا يفتّشون عنّا. وأبصرنا أعرابيَين (بدويَّين) طلعا علينا من عُرْض البَرّ، فأشرنا إليهما فأقبلا. ومن مزايا الأعراب (البدو) أنك تدعو الواحد منهم فيأتي إليك من بُعد كيل أو كيلَين لتسأله عن الطريق أو

لتطلب منه شيئاً، لا يغضب ولا يتأفّف ولا يمنّ عليك ولا ينتظر منك أجراً؛ خليقة اضطرّتهم إليها طبيعة أرضهم وطيبة قلوبهم. سألناهما ففهمنا منهما أنهما هنا منذ الأمس، وقالا إن سيارات «أبو حنيك» مرّت من هنا تفتّش عن غرباء دخلوا المنطقة، فنظر بعضنا في وجوه بعض وابتسمنا. وقلنا: أين نحن الآن؟ قالا: على ماء «الهزيم»، وها هو ذا عند تلك الطّلحة. والطلح شجر من شجر البادية لا يُثمِر. وكان الأعرابيان بثياب رثّة، أسمال بالية، يقودان جملاً هزيلاً. ففتحت حقيبة لي فيها مال، وفهم الشيخ ياسين أنني أريد إعطاءهما فأشار إليّ أن لا تفعل. ففهمت إشارته ولكني تجاهلتها لأني وجدتهما فقيرَين، واستخرجت شيئاً من المال مددت يدي به إليهما، فغضبا وقالا ما لم أفهمه، فندمت على أني لم أُطِع الشيخ ياسين. ما كنت أعلم أن البدويّ يحمل نَفْس أمير وإن ارتدى ثوب شحّاذ، ولم أعُد بعدها إلى مثلها. وحوّلت مجرى الحديث، فقلت: وأنتما ما خطبكما؟ قالا: أضلَلْنا بعيرَين لنا فنحن في طلبهما منذ ثلاث. فأحسست أني دخلت البادية حقاً، بل لقد شعرت أنني دخلت التاريخ أعيش فيه. إن تاريخ العرب الاجتماعي والأدبي يعيش اليوم في باديتهم «حاضراً» يُرى لا «ماضياً» يُروى. ومشينا إلى ماء الهزيم نرى ما هو، فلما رأيناه انهزمنا نحن منه إذ وجدناه ماء آسناً منتناً، فتركناه وسرنا. * * *

كنت أعجب من سيارات أبي حنيك (وهو غْلوب، كنّوه أبا حنيك لأن رصاصة أصابت في الحرب حنكه فتركت فيه تشويهاً لا يزول)، كنت أعجب منها: لماذا لم تتعقّب سياراتنا وأثرُها ظاهر يراه كلّ ذي عينين، فكيف بالخبراء من رجال الجيش؟ وسرعان ما جاءني الجواب؛ لقد رأينا خطاً ممدوداً فيه السلك (¬1) الشائكة، وفي وسطه لوحة مكتوب عليها «المملكة العربية السعودية»، فعلمت أني قد وصلت إلى دار الأمان، إلى البلد الذي لم تدنّس ثراه أقدامُ مستعمر كافر ولم ترفرف فوقه راية لفاتح كافر، البلد الذي خُلق حُراً وعاش حراً وبقي حراً، على حين ابتُلِيَت بلاد المسلمين حيناً بالاستعمار وغلب عليها يوماً الكفار. لقد امّحت من وجوهنا سمات الخوف وكُتبت عليها سطور الفرح. أهو الفرح لأننا صرنا في السعودية، أم لأننا دنونا خطوة من بيت الله ومن مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم، أم لأننا نجونا ممّن كان يطاردنا، ويلاحقنا ليطردنا أو يثبّتنا ويحبسنا؟ وتجدّد نشاطنا وصُبّ الأمل في نفوسنا، فتقدمنا مطمئنّين على وعورة الأرض وكثرة الرمال، وجعلنا نعلو ناشزاً من الأرض ونهبط غائراً، حتى بدت لنا تلّة عالية فوقها سواد تبين لنا أنه خباء من أخبية الشعر، فأنسنا به وأسرعنا المسير إليه، فلما دنونا منه رأيناه مخفراً من مخافر الحدود فوقه علم مكتوب فيه «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» وتحتها سيفان، كلمة الحقّ لمن أراد الحقّ ¬

_ (¬1) السلك جمع سلكة.

والسيف لمن أبى إلاّ العدوان. ورأينا ثلاثة شُبّان كأنهم الرماح، بأثواب عربية فوقها رداء (جاكيت) عسكري، يهبطون من فوق التلّ لاستقبالنا بوجوه يشرق فيها الكرم، وجباه يسطع منها النبل، وملامح فيها القوّة وفيها الطِّيب، عليهم مناطق الرصاص، بأيديهم بنادق جديدة وعليها كتابة، لمّا قربوا منا قرأتها فوجدت فيها: «وقف لله تعالى، وقفه عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود». ساروا أمامنا ونحن نتبعهم حتى بلغنا الخباء في أعلى التلّ، فإذا فيه البسُط والجلود ورحل جمل يتّكئ الجالس عليه، وفي وسط الخباء حفرة فيها نار موقَدة قد وُضعت حولها «دِلال» القهوة، فأجلسونا على أفضل ما عندهم من أثاث وبذلوا لنا أكثر ما يقدرون عليه من إكرام، وقدّموا القهوة، ولم ينقطع ترحيبهم بنا وسؤالهم إيانا عن سفرنا. وقد شعرنا أنهم في مثل موقف المحرَج؛ فالواجب الرسمي عليهم أن يتحقّقوا من أسمائنا ويستقْرُوا (¬1) أحوالنا، وهم يعرفون الواجب الرسمي، والعرف العربي في البادية ألاّ يُسأل عن اسمه الضيف حتى يكون هو الذي يخبر به، وهم بين واجب الشرطي وكرم المضيف. وقد حلّ المشكلة الشيخ ياسين الرواف رحمه الله، وهو نجدي الأصل قصيمي، شامي المولد والنشأة دمشقي، فخبّرهم خبرنا وأعطاهم جوازات سفرنا، فوضعوا الخاتم عليها، ولمّا اطمأنّوا إلى أنهم أدّوا واجب الوظيفة الرسمية تفرّغوا لأداء ¬

_ (¬1) يُقال استقرى يستقري استقراء، أما استقرأ فمعناها طلب القراءة.

واجب الضيافة العربية. أكلنا طعامهم، وهو أفضل طعام وأخفّه على المعدة وأنفعه للجسم: الزبد والرز والتمر. وشربنا من ألبان النياق، وما ألذّه من شراب! حلبوه أمامنا وجاؤونا به تعلوه الرغوة، فوجدته مُحلّى وما مسّه سُكّر مصنوع، وما شربتُه قبل هذه المرّة. وحدّثونا حديثاً حلواً كتمرهم سائغاً كلبنهم، ثم سألونا عن الطريق الذي نعتزم على سلوكه فأشرنا إلى الدليل، فحدّثوه فألْفَوه أجهل الناس ووجدوه فلاّحاً يضرب بنا في الصحراء المهلكة على غير هُدى، فاختاروا واحداً منهم يمشي معنا إلى القريات يدلّنا ويهدينا. وكان فتى أسمر حلو الخُلق والخَلْق، ولكنه على جماله ورشاقته أمضى من السيف الباتر وأسرع من السهم الغائر، وكان اسمه «سلامة» فتفاءلنا باسمه خيراً، وكان عليه الصلاة والسلام يتفاءل بحسن الأسماء. قلت: "رافقَتنا إن شاء الله السلامة"، ونكّس الحاج غراب ذقنه وصمت لا يُبدي ولا يُعيد. ما فعل الله بك الآن يا سلامة؟ وأنتم أيها الشبان هل أنتم أحياء؟ وأيّ سماء تُظِلّكم وأي أرض تُقِلّكم؟ وهل تذكرون هذا الركب الذي مرّ يوماً بكم أم أنسَتكم خبرَه الأيام؟ أم قد سبقتمونا إلى اللقاء الذي ما منه بدّ ولا مهرب: لقاء الله؟ جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم، وأجزل عنّا مكافأتكم أحياء لا تزالون أم أمواتاً. لقد أحسنتم إلينا، وكان لقاؤكم براعة الاستهلال في هذه الرحلة وكان بداءة خير لها. * * *

وعدنا نخرق صدر البادية. والباديةُ كالبحر، داخلها مفقود والخارج منها مولود. لا يدري معنى هذا الكلام مَن يقطعها اليوم على طريق مزفَّت (¬1) يمشي عليه كما يمشي في شوارع المدينة، لا يخشى أن «تغرز» دواليب سيارته في الرمل ولا أن يضلّ في المفاوز ولا أن يتعرّض للمهالك، يقطعها على طريق مزفَّت يمتدّ متّصلاً بلا انقطاع من الدمّام على شطّ الخليج إلى جدّة على سِيف البحر، ومن مكّة إلى اليمن جنوباً، أو إلى بغداد أو طهران ... امتدّت طرق ما كنت أتصوّرها تلك الأيام ولا بالمنام. بل يفهم هذا الكلام مَن أقدمَ -مثلنا- يمشي بسيارته على أرض باقية كما خلقها الله؛ يصعد مع الجبل ويهبط مع الوادي، ويخوض الرملة أو يدور من حولها، مسيرة لا يُدرِكها إلاّ من سارها. ولكنّا كنّا هذه المرّة في أمان مع «سلامة» وقد أخذ مكانه جنب السائق يقول له: يمين، شمال، اصعد التلّ، تجنّب الرملة، دُر من حول الصخرة، أسرع، أبطئ ... والسائق يسمع ويطيع، ونحن نتغلغل بين هاتيك التلال التي لا يبلغها الحصر. حتى إذا كان الأصيل أبصرنا رملة بيضاء فسيحة، لها منظر البحر في سعته وتموّجه واستوائه أو سهل الزبداني وقد بسط الشتاءُ عليه بساطاً أبيض من ندف الثلج؛ منظر يملأ العينَ بالجمال والقلبَ -من سلوكه- بالخوف، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه خيال البنيان أو بساتين النخيل، فقال سلامة: هذه هي القريات، قُرَيّات الملح. ¬

_ (¬1) كلمة «المزفّت» فصيحة وردت في الحديث، أما كلمة «مسفلَت» فهي مسخ ما له نسب.

وقد علمت أنها ستّ قُرى صغيرة متقاربة أكبرها تُدعى «كاف». وفي تونس بلدة اسمها «كاف» منها شيخنا المعمّر الشيخ محمد الكافي الذي سأتحدث عنه إن شاء الله فيمن أثّر فيّ من الرجال. ولكن جميع هذه القرى لا يبلغ عددُ سكانها نصفَ سكان قرية من قُرى الشام، أو هكذا كانت لما زرناها من خمسين سنة كاملة، ولست أعرف ما وضعُها الآن. وهي في منخفض من الأرض، كان أول ما استقبلَنا منها الحصنُ، وهو حصن كبير من الحجر الأبيض المسنون، علمت أن الأمير نواف بن النوري بن الشعلان بناه أيام تسلّطه على تلك الديار من نحو سبعين سنة، يوم كانت الجزيرة العربية إمارات ودولاً قبل أن يوحّدها الملك عبد العزيز. أما بيوت القرى الستّ فهي أكواخ، أو شيء يقارب الأكواخ من اللبِن والطين، قائمة على شاطئ الرملة البيضاء كالميناء على شاطئ البحر، يحفّ بها نخيل قليل وحقول صغيرة تزرع الخضر، وتُسقى من عين جارية وفيرة الماء تقوم برَيّ متّسع من الأرض لو كان هناك مال ... هذا ما قلته سنة 1353هـ قبل أن يُخرِج الله لنا كنوز الأرض ذهباً أسود نستطيع أن نشتري به الدنيا ونشتري الآخرة؛ فإن المال ثمن قصور الجنة لمن أرادها فأنفق ماله فيما يُرضي الله، مؤمناً بالله طالباً ثواب الله. وحول القرية وبساتينها صخور كالأهرامات الهائلة رهيبة المنظر، كأنها سور أحاط الله به هذه القرى. أما مورد رزق أهلها فأكثره من الملح الذي يستخرجونه من «السِّباخ» الكثيرة القريبة منهم، يبيعونه في حوران وشرقي الأردن. والقريات «إمارة»، ومن مصطلَح السعوديين أنهم يسمّون

كل من يلي مدينة «أميراً»، فأمير الشرائع مثلاً أمير وأمير المنطقة الغربية كلها أمير. ولو أنهم عدّدوا الألقاب بتعدّد منازل الولايات لكان في رأيي أحسن، وفي جدّة لقب من بقايا اصطلاحات الأتراك هو «قائم المقام». * * * وكان الأمير لمّا وصلنا غائباً في مكّة لم يرجع -بعدُ- من موسم الحج، يقوم مقامه ابن أخٍ له، وكان في قرية أخرى من القُرى (أي القُرَيّات) فلم نرَه. ولقد كانت جدّتي إذا رضيَت عني تدعو لي أن أمسك التراب فيصير ذهباً، وإن أبطأتُ عليها في حاجة لها قالت لي: «الله يطعَمَك حجّة والناس راجعة»! فاستُجيبَت الثانية؛ فأطعمني الله الرحلة إلى منزل الوحي ومكان الحجّ بعدما رجع الناس من الحجّ، ولم تُستجَب الأولى، وإن كنت (والحمد لله) راضياً عنه شاكراً له، بلغت هذا العمر ولم احتَج إلى سؤال أحد، قد أغناني الله بفضله عن الناس، لا أحتاج إلاّ إلى دعوة صادقة بظهر الغيب من أخ مؤمن له قلب حاضر، على ألاّ يخبرني بها لأقول له أشكرك فتصير «مجاملة»، بل يَدَعُها بينه وبين الله، وله من الله بكرمه مثلها. وقد أدخلونا القصر بغياب الأمير ونائبه وأكرمونا، وأوقدوا النار بعيدان الغَضا (ولعلّ هذا من مظاهر الإكرام) فجدّد لي الغضا ما أحفظ فيه من الشعر. وإني لأحفظ إلى الآن كثيراً ممّا قال الشعراء فيه، ومنهم من كنّى به عن نجد، مهوى الأفئدة منهم ومثوى الجمال ومثار الخيال. ولقد جمعت مرّة طائفة ممّا قيل

في نجد وجعلتها على صورة قصة، أخذها أحد أبنائنا الأفاضل في الرياض فطبعها في كتاب صغير (¬1)، وقد دفع لي أخي ناجي من أيام مجموعة أخرى من أشعار نجد، وما أحسب بقعة في الأرض قيل فيها من الشعر ما قيل في الحجاز ونجد، وحسبكم «حجازيات» سيد شعراء الغزل، الشريف الرضيّ. رأيت شجر الغَضا، وهو كثير في البوادي، فوجدته كشجر المشمش غير أنه أجمل شكلاً وأدقّ ورقاً وأشدّ خضرة. وما رأيت في البادية شجراً أكثر منه اخضراراً، أمّا جَمْره فهو كالفحم الحجري بلا مبالغة، في شدّة حرّه وطول بقائه. واستعاروا إحدى سياراتنا لتأتي بالأمير، ودعونا إلى دار قوراء واسعة أخلوها لنا، وكانت دار مفتّش الحدود عبد العزيز بن زيد، وأظنّه الذي صار من بعد سفير المملكة في سوريا أو لعلّه غيره، وكانت أكبر دار في القريات وأجملها لكنها خالية لا شيء فيها لغياب صاحبها، ففرشناها من القليل الذي كنّا نحمله معنا والكثير الذي حملوه هم إلينا. * * * ¬

_ (¬1) اسمه «حلم في نجد»، وهو كُتيّب صغير في نحو أربعين صفحة (مجاهد).

رحلة الحجاز (4) في الطريق إلى تبوك

-73 - رحلة الحجاز (4) في الطريق إلى تبوك بتنا في دار ابن زيد هذا خير مبيت، وقد جاؤونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأيناه شاباً ذكياً ليس بالمتعلم، ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين ويحفظ شيئاً من الحديث تلقّاه في مجالس العلم. وتلك سنّة سنّها عبد العزيز رحمه الله، فجعل أكثر ليله للعلم وللعبادة؛ يأتي مجلسَه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتمّوه شرعوا في غيره، وتكون شروح ومناقشات علمية يشترك فيها بنفسه. وقلّده أمراؤه في ذلك وساروا على سُنّته، فمِن هنا حفظ هذا الأمير الشابّ ما حفظ. وقد نسيت أن أقول إنه استقبلنا على عتبة الباب وأفاض علينا البِشْر والإيناس، وجلس معنا يحدّثنا ونارُ الغضا تكاد تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة، لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قوله: قهوة، شاهي، شاهي، قهوة. ينطقون كلمة القهوة بتسكين القاف، وكذلك الأعراب اليوم كلهم في الشام والعراق والجزيرة، مع أن من سنن العرب الأوّلين في كلامهم أنهم لا يبدؤون بساكن

ولا يقفون على متحرّك، وهذا هو الشيء الطبيعي، فمن بدأ «ساكناً» وقف فلم يتحرك ومن وقف على «متحرك» سقط فلم يثبت. ثم أديرت علينا «المَجْمَرة» وفيها البخور، فلم ندرِ ما نصنع بها حتى رأينا الأمير يضمّ عليها طرفَي عمامته (أي غترته) وعباءته حتى يتعشق الطيبُ ثيابه ثم يدعها، فتشبّهنا به فصنعنا صنيعه: فَتَشبّهوا إنْ لم تكونوا مِثلَهم ... إنّ التشبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ وانتهى تدوير البخور علينا، وأبصرنا الأمير ينظر إلينا فلم نفهم ماذا ينتظر منّا، فقام الشيخ الروّاف فاستأذن فقمنا معه، على أن نعود إلى الأمير الظهر للغداء. فلما خرجنا قال الشيخ ياسين الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: لا والله، فما هو؟ قال: «إذا دار العود فلا قعود». فعلمنا عندئذ سرّ نظر الأمير إلينا. * * * وجئنا الظهر للغداء، فمدّوا سماطاً على الأرض ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها اثنان وقد مُلئت أرزّاً، وأُلقي فوق الرز خَروف كامل برأسه. نعم، برأسه، فهل خافوا أن نحسبه دبّاً أو ذئباً أو قطاً كبيراً، فجاؤوا بالرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف ابن خروف من أمّة الظأن لا من شعب الذئاب والثعالب! كذلك خُيّل إليّ، ثم عرفت أنّ الرأس يُترَك لينال الضيف من أطايبه. ومن رجع إلى ما كتب الجاحظ علم أن الطيبات في الرأس، فالمخّ له طعم لا يشبه طعم اللسان، ولهذا كان للرأس في الشام

مطاعم خاصّة يُدعى صاحبها «الروّاس»، يقدّم من الرأس أصنافاً وألواناً. وكان الخروف مفتوح العينين فتوهّمت أنه ينظر إلينا، وكان ناعس الطرف فتذكّرت ما قال الشعراء في العيون النواعس. ثم رأيت أني إن استرسلت في أوهامي وخيالاتي بقيت جائعاً، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشَمّروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يُقدِم على معركة، فخشيت أن يذهبوا باللحم ويبقى لي الوهم والرز بلا لحم، فأتغدّى خيالاً وأدباً ويأكلون هم الخروف. فنسيت عينه المفتوحة وطرفه الناعس، واعتذرت إليه وأقبلت أخوض المعركة. ولكن كيف أخوضها بلا سلاح، بلا ملعقة؟ إن القوم يأخذون قبضة الرز واللحم فيديرونها حتى تصير كالكرة الصغيرة، ثم يقذفونها في حلوقهم فتقع في المرمى وتصيب «الهدف». فحاولت أن أعمل مثلهم، فانفلت الرز من بين أصابعي وملأ السمن كفي، فرفعته إلى فمي فسال على ثيابي، فجعلت أعمل على إدخاله فمي فدخلَت فيه أصابعي كلها حتى كدت أختنق وما دخل فيه الرز ولا اللحم، وغسل وجهي السمن حتى صار يلمع، لا يضيء بالتقوى ولكن بالدهن! وإني لفي هذه المحنة إذ أحسست بيد تمسّ كتفي، فظننته يريد أن أفسح له ففسحت، وإذا به يزيد في إكرامي فيأتي بطبق من خالص السمن العربي فيصبّه على الرز بين يدي. فقمت وعيني إلى الطعام تملؤها الشهوة إليه، وبطني فارغ تزقزق عصافيره تطلب العودة إليه، وذكرت من قال عن فقد عبده في إشبيلية (التي كانت تُسمّى حِمْصاً):

حمصُ الجنّةُ قالَتْ ... لغلامي لا رُجوعا رحِمَ اللهُ غلامي ... مات في الجنّةِ جُوعا * * * لماذا لا تأكل العصافير القمح في سنابله وهو أشهى شيء إليها؟ لأن الله ركّب في رأس السنبلة أشواكاً طريّة، فإذا مدّ العصفور منقاره ليصل إلى الحَبّ اعترضَته وجاءت في رقبته فمنعته، فهو يرى الطعام ولا يصل إليه: كالعيِس في البَيداءِ يقتُلُها الظّما ... والماءُ فوقَ ظهورِها مَحمولُ وكذلك كنت في وليمة أمير القريات سنة 1353؛ الرز واللحم بين يدَيّ والرغبة فيه بين جنبَيّ، تصل إليه يدي ولكن لا تبلغ به فمي، فعلّموا يا أيها القرّاء أولادكم (ولو كنتم في المدن) الأكل بأصابعهم، فما تدرون متى يُضطرّون إليه، وعلّموهم كذلك الأكل في الموائد الرسمية باستعمال أنواع الشوكات والسكاكين، وكيف يأكلون اللحم وكيف يتناولون السمك والدجاج، فلعلّهم يحتاجون يوماً إليه. فما تعلّمت هذه ولا تعلّمت تلك، لذلك أكره أن آكل مع الأعراب كما أكره أن آكل مع الإفرنج والمتفرنجين. وجاؤونا بعد الطعام، ونحن في مجالسنا، بطست من النحاس عليه مصفاة فوقها قطعة صابون، وإبريق من مثل نحاس الطست (أو الطشت، كلاهما فصيح) له رقبة طويلة ملتوية: آخذ الصابون فأغسل يدي فوق الطست، والخادم يصبّ عليّ ثم يقدّم لي المنشفة.

ولم يكن ذلك غريباً عليّ، فقد كانت هذه عادتنا في الشام، ولطالما صببت على أيدي الضيوف بأمر من أبي. وكانت تلك أكره شيء إلى نفسي، لا سيما حين يُلقي الضيف ما في فمه في الإناء بعد أن يغسل فمه وأسنانه! وقد بَطُلَت هذه العادة حين اتخذنا «المغاسل» في البيوت. وهذه الطشوت وهذه الأباريق صناعة شامية عريقة يتفنّنون في أشكالها وفي العناية بها، كانت للاستعمال فصارت للزينة، وأقول (بالمناسبة): إن لولد شيخنا، أعني شيخ مشايخنا الشيخ جمال الدين القاسمي كتاباً (نفيساً جداً) عَدّ فيه الصناعات الشامية ووصفها وتكلّم عنها، وأكثر هذه الصناعات نُسيَ ومات أهله، فتضاعفت بذلك قيمة الكتاب (¬1). * * * وخرجنا نتجوّل في البلد (في القريات) فرأيناها كلها في جولة واحدة، ورأيت المساجد (في السعودية) أول مرّة. والمساجد تتفاوت في جمال بنائها وزخارف جدرانها والفن في منبرها ومحرابها واختلاف أشكال مآذنها، وهذا كلّه من البدع، وهو جميل رائع بمقياس الفنّ ولكنه مكروه مذموم بمقياس الدين، لأن كل ما يشغل المصلّي في صلاته عن الله مخالف لشرع الله. والمساجد في السعودية (ما رأيت منها سنة 1353) خالية منه، فهي دانية السقوف، يقوم سقفها على عمد كثيرة متقاربة من جذوع النخل أو من اللبِن، وأرضها مفروشة بالرمل، لا سجّادة ولا بساط ولا حصير. ولمّا سألنا عن سرّ ما رأينا عجبوا من ¬

_ (¬1) هو «قاموس الصناعات الشامية»، وقد سبق الحديث عنه في الحلقة الثامنة عشرة من هذه الذكريات (مجاهد).

سؤالنا، وكأنهم استخفّونا واستجهلونا لأن من المقرّر عندهم (أو عند عامّتهم) أن هذه هي سنّة السلَف وأن المساجد لا تُفرَش. وأنا رجل سلفي بحمد الله من قبل هذه الرحلة، ولكني لست «ظاهرياً» أتمسّك بحرفيّة النصّ وأحبس نفسي بحدود الألفاظ. وأنا أعلم أن الأصل في المسجد في بنائه وفرشه البساطة (البساطة بالمعنى المتعارف لا المعنى اللغوي)، فلما كانت أرض البيوت أو أكثرها من التراب كانت المساجد كذلك، أما أن نتخذ لبيوتنا أغلى السجّاد العجمي وأثمن الستائر وأفخم الفرش، ولا ندخلها بالأحذية المتربة الوسخة ونمسح عنها الغبار، ثم نجعل أرض المسجد من التراب، وأن نقعد عليه بأبيض الثياب وأن ندوس عليه بالأحذية (وإن كانت الصلاة بها مشروعة) وأن نضع أحذيتنا حيث يضع المصلّون جباههم فتؤذيهم وتكسر نفوسهم، فلا. وقد كانت الطرق في صدر الإسلام جافّة، وكانت نظيفة لأن تنظيفها وإماطة الأذى عنها من شُعَب الإيمان، فصارت الطرق مغمورة حيناً بماء المجاري النجس، حتى إنهم في بعض البلدان لا يمنعهم الدين ولا الذوق السليم أن يسقوا به الحدائق العامّة وسط الشوارع، فبدلاً من أن تشمّ شذى الورد وريّا الزهر تشم رائحة ماء المراحيض! * * * عدنا إلى الدار التي منحونا مفتاحها، ولكن ما الذي نصنعه فيها؟ ليس عندنا عمل نُنجِزه ولا كتاب نقرؤه، ولا جديد من الأحاديث نتناوله ونتجاذبه، وما بنا حاجة إلى المنام فننام، فطال علينا النهار وثقلت ساعاته. وأنا أفكّر من قديم في أمر نراه دائماً

ولا أعرف له تعليلاً: لماذا يضيق أحدنا بالزمان إذا لم يجد ما يقطعه به؟ لماذا تثقل عليه ساعات الفراغ؟ لماذا يملّ الانتظار؟ لماذا يكره أحدنا أن يخلو بنفسه؟ هل نفسي عدوّ لي أشتغل عنه دائماً بقراءة كتاب، فلماذا أقطع عمري بما يشغلني عن مراقبته والتفكير فيه؟ لقد وجدت الجواب: إنه ضعف الإيمان، ولو كنت كما ينبغي أن أكون لأنست في خلوتي بالله ولم أضِق بالوحدة ولا كرهتها، ولمَا أضعت لحظة من حياتي (التي سيسألني الله عنها) في غير ما ينفعني عنده يوم العرض عليه. ولكن ياأسفي! ما عندي إلاّ الكلام ورجاء العفو من الله. لماذا أقمنا ذلك النهار في القريات على قلّة العمل وكثرة الملل؟ لقد كنّا ننتظر الدليل الذي وعدنا أن يختاره لنا الأمير. وجاء الدليل فإذا هو سيد من سادات قبيلة الشّرَارات، وهم عُمّار تلك الديار، لمّا رأيناه أيقنّا أنْ قد أبدلنا الله بدرهمنا الزائف ديناراً صحيحاً حين صرف عنّا ذلك الدليل الجاهل الثقيل وجاءنا بهذا الأعرابي الفَكِه الظريف، الذي أفدنا منه فوائد كثيرة ولمسنا في صحبته السلائق العربية المسلمة: الذكاء والوفاء والإباء والمنطق البليغ، وكله بلهجة أهل البادية، والذاكرة القوية والجواب الحاضر والصبر والإيثار. ولقد أثمرَت لي صحبته أدباً جديداً حين كتبت قصته «أعرابي في حَمّام» و «أعرابي في سينما» و «الأعرابي والشعر»، وكلها نُشر في «الرسالة» وهي في كتابي «صور وخواطر». وما جاء

في هذه القصص من وصف الأعرابي هو وصف هذا الدليل الذي اسمه صْلِبي (بتسكين الصاد على عادة أعراب اليوم في الابتداء بالساكن)، وإن قامت هذه القصص على أعمدة من الخيال، خيال لم يُخرِجها من حدود الأدب الواقعي. والواقعية في الأدب ليست بسرد ما وقع فعلاً، بل بما يمكن أن يقع. جدّد لنا قدوم الدليل نشاطنا وشدّ من عزائمنا، فاتخذنا عُدّة الرحيل. وكان أهل البلد مجتمعين عند الدار التي كنّا ننزل فيها، جاؤوا يودّعوننا، فقد كان حضور وفدنا من الأحداث التي تُحفَظ ويُروى حديثها لأن القريات كانت -في تلك الأيام- كأنها منقطعة لا يكاد يمرّ بها أحد وليست على طريق يجتازه المسافرون. وكان السفر على الدوابّ، فلا سيارات ولا طرق يمكن أن تمشي فيها السيارات. هم جاؤوا يودّعوننا وذهبنا نحن معهم نودّع الأمير، فوجدناه قد أعد مجلساً عالياً يُشرِف منه على الفضاء الرحب. فاستقبلَنا ورحب بنا و «قَهْوانا»، ودعانا إلى المبيت وألحّ علينا وذهب يلتمس إلى إقناعنا الطرق، ونحن نشكر ونعتذر ونتملّص. لا أدري أكان ذلك حياء منه أن نطيل المكث في ضيافته أم كراهية البقاء في هذه البلدة الساكنة سكون المقبرة الخالية من كل شيء يشغل أو يسلّي، أم حماقة منّا! وقد تبيّن لنا بعد أن مشينا أنه ليس إلاّ الحماقة التي أعيت من قبلُ مَن يداويها. ولمّا عجز عن أن يقنعنا بالبقاء عرض علينا العشاء، فأصررنا على الاستئذان. ولست أنسى كلمة قالها هذا الشابّ، وكيل أمير القريات الذي لم يتعلّم في مدرسة ولم يحمل شهادة. قدّمنا إليه من الحلوى الشامية التي حملنا منها معنا،

والتي ملأت شهرتُها البلاد وعجزَت عن صنع مثلها أيدي الطهاة، فاستطابها وقال لنا إنه ما ذاق من قبل مثلها ولكنه (وهذه هي الكلمة)، قال: ولكنه كان يفضّل ألاّ يذوقها، لئلاّ يعوّده مذاقُها الترفَ ويسلبه روح الصحراء. كانت الحماقة وحدها هي التي حملتنا على ترك ضيافة الأمير؛ ذلك أننا لم نسِر إلاّ ساعة حتى أظلم الليل وتوعّرَت الأرض وتعذّر المسير، فقال لنا الدليل: قفوا، فوقفنا. فعرض علينا العودة إلى القريات لأن السير صعب والمبيت هنا أصعب، فأبينا، فنزل ودعا إلى النزول فنزلنا، قال: انظروا. فنظرنا، نظرنا فإذا الأرض تعصر ماء، وإذا هي سبخة من السباخ التي يُستخرج منها الملح، قال: ارجعوا فلا محطّ لكم هنا. فأبينا الرجوع، وتفرقنا وذهبنا يميناً وشمالاً نفتّش عن أرض خير منها نبيت فيها. قال: أين تذهبون؟ كل هذه المنطقة مثل هذه البقعة، فارجعوا فناموا في البلد، فإذا أصبح الصباح سرتم في ضوء النهار. قلنا: لا. قال: مَن أميركم؟ قلنا: كلنا أمير. فأنشد أبياتاً من الشعر النبطي ضحك منها الشيخ الرواف، لأن فيها -كما بدا- السخرية منّا والهزء بنا. أمّا نحن فلم نضحك ولم نبكِ لأننا ما فهمنا منها شيئاً، وربما كان الجهل نعمة على صاحبه أحياناً. وذهب هو والشيخ ياسين فقعدا في السيارة، وما أدري من أين هبط عليّ العقل تلك الليلة ففعلت فعلهما؛ آثرت أن أُمضي الليل قاعداً من أن أنام في الوحل. وما السبخة إلاّ وحل فيه ملح. وبسطوا هم بُسُطَهم على الماء فابتلّت، وناموا عليها

فما ناموا، ولكن قاموا يشكون كلهم الرثيّة (أي الروماتيزم) ويحسّون الألم في مفاصلهم وفي ظهورهم، وأصبحنا نحن وما نمنا فاسترحنا ولكنا ما مرضنا ولا وجعنا، ولقينا من الشدّة ما ذكرنا معه بالخير ليلة «أم الجمال»، وهذا جزاء الجاهل يركب رأسه ويعصي عقلاء الرجال. * * * تبدّل كل شيء بعد القريات. كنت أراها نهاية السفر فصارت بدايته، كانت هي غايتَنا فصارت الغاية تبوك، وأين منّا تبوك؟ ولو أننا مشينا مع خطّ الحديد نتجه جنوباً لكنّا قد وصلنا الآن إليها، فهي تبعد عن دمشق أقلّ من سبعمئة كيل ونحن قد مشينا إلى الآن أكثر من ألف وخمسمئة، لكننا كحمار السانية، وقديماً قالت العرب: «سَيرُ السّواني سفرٌ لا ينقطع»؛ أنها تسير وتسير وهي في مكانها، تدور في حلقة مفرَغة من حول بئر الماء، ونحن ندور حيث لا ظلّ ولا ماء. بدأت الآن المتاعب التي أرتنا ما كان قبلها بالنسبة إليها نوماً على فراش الحرير. كنت أتلفّتُ إلى دمشق بقلبي كما تلفّت الشريف، فلما رأيت هذه الصعاب صار تلفّتي إلى الأمام، إلى المَخلص منها والبعد عنها. لقد كانت سنة رحلتنا سنة جدب، حتى إننا سرنا ألف كيل بل أكثر، ما رأينا فيها ماء إلاّ ماء آسناً لا يُشرَب، ولا قابلنا فيها أحداً، فقد نزحَت القبائل عن تلك الديار، وما مررنا فيها ببقعة خضراء. ومن أين الخضرة ولا ماء، لا نابعاً من الأرض ولا نازلاً من السماء؟ لقد أحسَسْتُ كأننا منقطعون

حقاً عن العالَم، لقد صرنا وراء حدود الدنيا، فلا بشر إلاّ الرفقة التي أصحبها، وهي رفقة مختلفة لا مؤتلفة، مختلفة في الأفكار وفي العادات وفي المقاصد وفي الغايات، ما كنت أعرف منهم قبل الرحلة إلاّ الشيخ ياسين الرواف والسيد كامل البني، وكان معنا في المدرسة الابتدائية، وزكي آغا سكّر، لقيته مرّة لقاء لم تزِد صلتي به عليه. حتى الطبيعة من حولنا لا أحسّ منها إلاّ ما يبعث الخوف وينفي الأمان: تلال الرمال وصخور الجبال، وأرض تشتعل رمضاؤها وتنفث لهباً سماؤها، وسراب رأيتُه أول مرّة فحسبته ماء، لا يختلف منظره عن منظر بركة الماء فإذا جئته لم تجده شيئاً، فهو كالشهرة والمجد والجاه وكل ما في الدنيا من متع المال والجمال، كلها سراب يتمنّاها المحروم منها ولا يشعر بالمتعة بها من أوتيها. هل يستمتع صاحب السيارة الفخمة التي تمرّ بالفقير، والقصر الفخم الذي يمرّ به الفقير، المتعة التي يتصوّرها الفقير؟ سراب، صدّقوني إن اللذّات المادّية كلّها سراب. كان عملنا كله التدقيق في الأرض لئلاّ نغوص في رملة أو نمرّ على «شعيب» أو نصطدم بصخرة، والاستماع لما يقول الدليل إن كنّا في سيارته، أو تعليق أنظارنا بسيارته إذا كنّا في غيرها لنتبعها. لقد كنت أفكّر في هذا الإنسان الذي هو أنا وفي غروره: ما الإنسان بجنب هذه الصحراء، ما عمره في عمرها؟ ما مكانه منها؟ وهذه الصحراء ما هي من أرض الله الواسعة؟

وهذه الأرض ما منزلتها بين هذه الأجرام التي تُعَدّ الشمس بكبرها حجراً في صحرائها، وهذه الأجرام من الفضاء، وهذا الفضاء من السماوات؟ ونبّهَتني الصيحة فأنزلَتني من برجي، هل أقول «العاجي»؟ ما رأيت في عمري برجاً عاجياً ولا أعرف ما هو! الصيحة التي جعلَتنا نثب من السيارة لنُخرِجها من الرمل، وما أكثر ما كانت تغوص في الرمل. * * * سلكنا بعد القريات مَهامِهَ وفلوات لا يُعرَف لها أول ولا آخر، ولم أكُن أدري ولا يدري أحدٌ ممّن كان معنا أين موقعها على المصوَّر، وكلما ازددنا إيغالاً في الصحراء زادت بنا بُعداً عن مظاهر الحياة. وكنّا نستمع أخبار الدنيا من الرادّ فانقطعت عنّا لأننا لم نعُد نجد الوقت الذي نقعد فيه لاستماعه، ولا الكهرباء التي نمدّه بها لنستمع منه. لقد خافوا أن ينفد كهرباء السيارات، وكنّا أحوج إليه فلا نضيعه في سماع الأخبار. صرنا كأننا خارج الدنيا فلا نراها ولا نعرف أخبارها، فاسترحنا من مشاغل السياسة وهموم المجتمع وأعباء التفكير، وانحصر هَمّنا كله في أن تبقى هذه السيارات تحتنا تحملنا وتمشي بنا، وأن نجد ما نأكله وما نشربه، وأرضاً نُلقي عليها جُنوبنا. نصبنا السرادق أول ليلة فقط، ثم صرنا أعجز وأكسل من أن ننصبه. كنّا نسير النهار كلّه سيراً بطيئاً متعباً، ولطالما قفزنا من السيارات لنُخرِج واحدة غرقت في الرمل، كنّا نمشي:

في مَهْمَهٍ (¬1) تشابهَتْ أرجاؤهُ ... كأنّ لونَ أرضِهِ سماؤهُ ما في البريّة علامات يُهتدى بها إلاّ الشمس في النهار والنجوم في الليل، من هنا أدركت قوله تعالى: {وبالنّجمِ هُمْ يَهتدونَ}، وعرفت سرّ اعتماد العرب عليها في تحديد مواقع البلدان وولع الشعراء بذكرها عند غلَبة الشوق إلى أرض الأحبّة والخلاّن، حتى إن الشاعر المحتضَر لَيسُرّه ويخفّف عنه سكرات الموت أن يرى سُهيلاً (¬2) يطلع عليه من أرض العرب وهو يعالج السكرات في خراسان. * * * أمضينا من القريات إلى تبوك أربع ليالٍ، لعلّ ليالي السجين ¬

_ (¬1) المَهْمَه واحدُ المَهامِه، وهي الصحارى الواسعة والمفازات المنقطعة (مجاهد). (¬2) «سُهَيل» من ألمع نجوم السماء، بل هو ثاني ألمع نجوم السماء بعد الشِّعْرى اليمانية. وهو من نجوم الجنوب، تبلغ زاوية مَيَلانه -53 درجة تقريباً، لذلك لا يمكن أن يُرى أبداً فوق خط العرض 37 شمالاً. وكلما انحدرنا عن هذا الخط جنوباً صار أكثرَ ارتفاعاً في السماء (في ليالي الشتاء خاصة)، فهو يُرى بوضوح في جزيرة العرب، ولا سيما في وسطها وجنوبها، أما في خراسان المرتفعة إلى الشمال فقد احتاج الشاعر إلى رفع رأسه ليراه. والشاعر هو مالك بن الرَّيْب، في قصيدته التي رثى فيها نفسه، ومنها قوله: أقولُ لأصحابي ارْفَعوني فإنّني ... يَقَرُّ لِعَيني أنْ سُهَيْلٌ بَدا لِيَا ... وهي من عيون الشعر. وفي كتاب «رجال من التاريخ» لعلي الطنطاوي مقالة عنه عنوانها «شاعر يرثي نفسه» (مجاهد).

المعذّب والعاشق المهجور، والتاجر الذي أفلس والتلميذ الذي رسب، لعلها كانت أهون منها؛ كنّا نمرّ على الأرض الصلبة المتماسكة فنحمد الله ونسرع السير، ونمرّ على «القاع» وقد عرفتم ما هو، ويُسمّى في بادية الشام «الطليحة»، ونمرّ على «الشُّعَيب» وهو مسيلٌ جَرَفَ الماءُ ترابَه وأبقى فيه حجارة صغاراً وكباراً تُعيق السيارة كبارها وصغارها، أو نصعد رابية يسهل صعود السيارة أولها ثم تعجز عن بلوغ ظهرها فتقف دون تسلّقها ... من شدّة إلى شدّة، ولا نعرف ما الذي يستقبلنا فيها. مررنا على مياه من مياه البادية، وهي متغيرة اللون والرائحة والطعم. تسألون: من أين عرفنا طعمها؟ لقد اضطُررنا مرّات إلى شربها. كنّا نضع المنديل أو العمامة (الغترة) بين أفواهنا ومائها، نشرب ما يقطر منه، ويبقى على وجه المنديل أو العمامة مثل الوحل المنتن الخبيث. هذه المياه تُسمّى «غطى» و «العيساوية» و «الفجر»، ولم نصادف ماءً صافياً قط لأنها كانت سنة قحط وجدب وجفاف. لقد وصفتُ مسيرنا بعد عودتنا لأخ من إخواننا هو الأستاذ ياسين الحموي الذي صار -من بعد- مدير «الكلّية الشرعية»، فرسم هذه الخريطة (¬1)، رسمها بناء على وصفي الطريق بعدما رجعت. ولم أكُن أعرف حين كنّا نمشي أين نحن من الأرض. كل ¬

_ (¬1) لم تُطبَع الخريطة في طبعات الكتاب السابقة، وقد اجتهدت أن أضيفها في موضعها هنا. أخذتها من كتاب «من نفحات الحرم» الذي تجدون فيه تفصيلات هذه الرحلة، كثير منها ذُكر هنا وبعضها لم يُذكَر (مجاهد).

(صورة) مخطط طريق البعثة السورية بالسيارات لكشف طريق الحج عام 1935

الذي عرفته أننا تركنا «وادي السرحان» العظيم عن شمائلنا وسرنا إلى الجنوب، جنوب بشرق، حتى لاحت لنا على اليمين جبال عالية فقصدناها، حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأيت أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة فيها حجارة سود مرصوفة رصفاً، كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فُرشت ومُهّدت تمهيداً. مشينا في طرفها تسعين كيلاً حدّدها عدّاد السيارة، قال الدليل: إن اسم هذه الأرض «بُسَيْطة» بصيغة التصغير، حتى وجدنا ثغرة (شِعباً كبيراً مثل الوادي) فدخلنا هذه الثغرة، فإذا نحن في وادٍ موحش ما رأيت (وقد قطعت بعد ذلك ما بين سورابايا في آخر جاوة وفولندام في شمال هولاندة) ما رأيت مكاناً أوحش منه! كنّا فيه وحدنا لا إنسي ولا جنّي، ما رأينا فيه مخلوقاً حياً، حتى أمسى المساء فبتنا فيه ليلة اللهُ وحده يعلم كيف كانت، ولم يُدرِك الدليل -على حذقه- أننا ضالّون حتى أصبحنا غداة الغد. أكون أكذَبَ الناس إن قلت لكم إنني لم أخَف. لقد خفت وخاف كلّ من كان معي، خالط قلوبَنا الرعبُ من أن تكون نهايتنا ميتة في قفر ما فيه أحد يغسّلنا ويصلّي علينا ويواري أجسادنا التراب، ولا يكون لنا قبر يستوقف السالكين ليُهدوا إلينا بعد الموت هديّتهم: دعوة صالحة. وهل هنا من سالكين؟ نموت ولا نرى دمشق ومن خَلّفْنا في دمشق من إخوة وأهل وأحبّة؟ وأين منّا دمشق وبيننا وبينها مسيرة سبع ليال بالسيارة؟ وما إليها سبيل. أين بردى يجري زاخراً موّاراً ونحن هنا عِطاش، بدأ يشحّ

ما معنا من الماء وينفد ويستأثر بما معه منه من كان أقوى أو كان يحمل السلاح! لقد بلغت المسألة حدّ التنازع على الحياة، وهنا تتجلّى معادن الرجال، فإمّا الأثرة البشعة وهذا ما عند الأكثرين، وإما الإيثار البالغ وهو ما عند القلّة النادرة من عباد الله الصالحين. أين منّا عين الفيجة التي يتفجّر منها الماء الذي لم يخلق الله (فيما علمنا) أصفى منه ولا أبرد؟ أين عيون بلادنا وينابيعها؟ أنهلك ها هنا عطشاً ونحن أبناء الأرض المباركة، أرض العيون والينابيع؟ وكان الدليل حركة دائمة دائبة، لا يهدأ ولا يسكن، يصعد ذروة جبل وينظر، ثم يهبط ويصعد أخرى، فلا يرى شيئاً فيعود محتاراً متألماً. حتى نزل مرّة، وكان ذلك مساء اليوم الثاني لدخولنا هذا الوادي الذي سَمّيته «وادي الموت»، فلمح على البعد جبلاً، فهلّل وكبّر وقال: أبشروا فقد وصلنا، هذا شَرورَى. * * *

رحلة الحجاز (5) في تبوك

-74 - رحلة الحجاز (5) في تبوك لمّا قال الدليل مستبشراً فَرِحاً: "هذا شَرورى" أحسَستُ كأنه يهتف باسم حبيب قديم بَعُد به عهدي وطال عنه بُعدي، ذكرت الجبل الذي يطرب ويشرب ويغنّي، ألم يقُل الشاعر: سَقَوني وقالوا: لا تغنِّ، ولو سَقَوا ... جبالَ شَرورى ما سقوني لَغنّتِ على أنّ الذي كنت أحفظه «جبال حُنَين»، فأيّ الاثنين هو: شرورى كما قال ياقوت أم حُنين كما حفظت أنا؟ (¬1) أما حنين فهي جارة مكّة، طالما صرت من بعد (لمّا سكنت مكّة) أخرج إليها في عَشيّات أيام الربيع، أنفّس عن النفس باجتلاء جمالها وأروّح الروح برقيق نسيمها وعاطر روحها، بساتين كلّما زرتها ذكرت الغوطة وحسبت أنني فيها، فهل هربَت من الشام ¬

_ (¬1) الصحيح هو جبال حُنين، والبيت للحلاّج (مجاهد).

حتى نزلت «الشّرائع»، كما زعموا أن الطائف هاجرت من الشام فطافت الأقطار حتى استقرّت هنا، فمن ثَمّ سُمّيت «الطائف»؟ وليس هذا من صحيح الأخبار ولكنه من طرائف اللطائف. وفي حُنَين (وهي الشّرائِع) عيون كانت تأنس عيونُنا بصفاء مائها وتسرح أفكارُنا مع انطلاق سواقيها، عيون ولا كعيون الشام، «مرعى ولا كالسَّعْدان وماء ولا كصَدّاء» (¬1)؛ تلك تنبثق من بطن الثرى باردة تُثلِج الفؤاد وتبلّ الصدى، وهذه تخرج دافئة فاترة تدفع العطش ولكنها لا تلذّ الشارب، على أن هذه في هذا القفر وأختها الكبرى (الجِعْرانة) أغلى وأثمن من تلك التي تخرج من الأرض التي تجري من فوقها الأنهار. * * * لمّا قال "هذا شَرورى" حسبت أننا قد دنونا منه وأننا نمشي ربع ساعة بالسيارة فنكون أمامه، ما كنت قد تعلّمت بعد أن البدوي يستصغر المسافات فتتجاوزها همته فيراها قريبة. فسرنا النهار كله إلى الليل وشرورى ما دنا منّا وما رأيتُنا قد دنونا منه؛ إنه لا يزال رابضاً مكانه على حدود الأفق. فنزلنا للمبيت، ولمّا ¬

_ (¬1) «مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصداء» من أمثال العرب، والمعنى أن هذا نبات يصلح للرعي ولكنه لا يبلغ في الحسن مبلغ السَّعْدان. ويقول الكتّاب اليوم: «رجل ولا كالرجال» يريدون أنه رجل لا تبلغ مقامه الرجال، تعبير يستعمله الكتّاب حتى الكبار منهم كالعقّاد رحمه الله، وهو بعكس ما يقصدون، معناه أنه رجل ولكن لا يبلغ مبلغ الرجال لأنه دونهم لا أنه فوقهم كما يحسبون!

أضاء النهار عدنا فمشينا، حتى نزلنا غَوراً من الأرض غاب فيه عنّا شرورى، فلما خرجنا من الغور رأينا جبلاً عظيماً معترضاً، ما عرفت هل هو الذي غاب عنّا قد عاد فظهر لنا أم هو جبل غيره؟ فدار بنا الدليل من حوله ليجنّبنا صعوده، فإذا الجبل يدور معنا من حيث درنا، ولم يبقَ لنا بُدّ من أن نصعده. ولو كنّا نمشي على أقدامنا لكان أهون علينا، فإن متسلقي الجبال ربما ارتقوا جبلاً قائماً كالجدار مستعينين بالأوتاد وبالحبال، ولكن علينا أن نرتقيه بسياراتنا التي تحمل الأهوال من الأثقال، وتحملنا ومنّا من هو «أثقل» من كل تلك الأحمال. صرفنا نهاراً كاملاً في صعود الجبل، نمشي في مثل الممرّات الحلزونية، نرسم دوائر وسط دوائر، وقاسينا ما لا يبلغ مداه الوصفُ ولا يقوى عليه إلاّ صناديد الرجال، حتى بلغنا قنّته (¬1) فأشرفنا على عالَم جديد، على منبسط فسيح من الأرض كأنه البحر، في وسطه سواد كأنه باخرة ماخرة، قال لنا الدليل: هذه تبوك. * * * أقف قليلاً لأسألكم سؤالاً، أرجو أن تفكّروا معي في الجواب عليه: مالنا صار الاختلاف كأنه سجيّة فينا، مع أنه كان أبعد شيء عن سجايانا؟ هوجمنا في ديننا حتى كاد (لولا أن الله حافظه) يضيع الدين، تداعت الأمم علينا وغفلنا عن حقنا حتى غلبونا على بقعة من قلب بلادنا: على فلسطين، وطمع فينا ¬

_ (¬1) قُنّة الجبل هي قِمّته.

المُلحدون و «المبشّرون» وكل داعٍ إلى شرعة الشياطين، ونحن مع هذا كله لا نزال مختلفين. وقفت بكم على رأس جبل يُشرِف من بعيد على تبوك، ونحن قِلّة من الناس في جبل قَفر في برية منقطعة في ليل بهيم، معرّضون لخطر الضياع أو الهلاك، فلو تركنا الاختلاف مرّة لتركناه ونحن هنا. ولكنّا اختلفنا: أنبيت هنا حتّى يطلع النهار فنمشي في نوره إلى تبوك، أم نصبر على التعب وننزل إليها فننام فيها آمنين؟ ولم يكن علينا أمير مع أن نبيّنا علّمنا في مثل هذه السفرة (ولو كنّا ثلاثة) أن ننصّب علينا أميراً منّا، وطال الجدال وعلت الأصوات، وكنت مع الشيخ ياسين رحمه الله والدليل في سيارة واحدة فأمر السائق بأن يهبط. ومن أين يهبط؟ إني لا أزال أرى المشهد بعين الخيال من وراء خمسين سنة كاملة: منحدَر مائل ميلاً شديداً ممتلئ بحجارة صغار. فتشهّدت واستغفرت الله واستودعته أهلي وأحبّتي، وأغمضت عيني حتى لا أرى، وأذني حتى لا أسمع صوت الحجارة تتدحرج من تحت دواليب السيارة كأنها سيل ماء يتدفّق! وكان يوم كيوم هبطت مع تلاميذ مدرسة الغوطة من جبل الربوة في دمشق، دقيقته ساعة وساعته يوم، والموت يتربّص بنا في كلّ دورة يدورها الدولاب وكل حصاة يمرّ عليها. وصرنا من ميل السيارة كأننا راكعون في الصلاة لأننا انكفأنا على وجوهنا، ومضت مدّة لست أدري كم هي بلغة (الساعات) ولكني أدري أنها

كانت بلغة المشاعر يوم عذاب. وما صدّقت أننا بلغنا السهل سالمين، وخرجنا ننفض غبار الموت عن ثيابنا، ورفعنا رؤوسنا فإذا أصحابنا لا يزالون فوق، تبدو سياراتهم كأنها -من صغرها- علب الكبريت. فجعلنا نناديهم لينزلوا وهم يصرخون بأنهم لا يستطيعون، فلا نحن نتبيّن كلامهم ولا هم يتبينون كلامنا، لأن صدى الصوت يختلط به فلا نفهم الكلام من تعاقُب الأصداء. فلجأنا إلى الإشارات بالمناديل ونحن واقفون أمام مصابيح السيارة لعلهم يُبصروننا، ومضت مدّة ثم رأينا السيارات تتعاقب هابطة، ما أبصرناها تماماً ولكن رأينا حركة أنوارها. ووصلوا إلينا مع وصول الجند الذين بعث بهم أمير تبوك لاستقبالنا وإرشادنا، وبلغنا البلد، ولكني لم أبصر منه شيئاً ولا حاولت أن أبصر، شغلني ما كنت أجد من الإعياء ومن شدّة «الانفعالات»، حتى دخلنا المنزل. لم يكن منزلاً كالذي رأيناه من منازل القريات. تلك بيوت من اللبِن والطين وهذا بناء حضري، حسن العمارة واسع الأبهاء فيه الممرّات والحُجَر الكثيرة، ودفعني الفضول إلى أن أتعرف ما هو فمشيت قليلاً، فجاءني واحد من «الخُوَيّان» فقال لي: من هنا. فتبعته، فأوصلني إلى باب مغلَق فأشار إليه وتركني، فدخلت الباب فوجدت شيئاً ما كنت أطمع في مثله ولا في المنام، مفاجأة ملأت قلبي بالدهشة وبالفرحة معاً.

وجدت حَمّاماً مثل حَمّامات الشام (¬1) فيه «البرّاني» و «الجوّاني» والماء الحارّ والبارد، ووجدت المناديل و «المناشف» معلّقة والصابون معَدّاً. فرجعت إلى حقيبتي فاستخرجت منها ثياباً نظيفة وعدت إلى الحمام، ولست أكتمكم أن الأثَرة (أي الأنانية) غلبَتني فخفت أن يسبقني أحد إلى هذه النعمة. وكنت لمّا خرجت من دمشق قد اجتهدت فأخطأت حين ألقيت عنّي ثيابي التي ألفتها: البنطال والرداء (الجاكيت)، ولبست ثوباً عربياً مفتوحاً من الأمام، يُضَمّ طرفه إلى طرفه بالشالة التي نعقدها على أوساطنا، وهو الذي كنّا نلبسه في الأعياد، وهو لباس المشايخ في مصر (القفطان) وهو من صُنع الشام، مع أنّ اللباس الإفرنجي (أقول الحقّ) أخفّ في هذه الرحلة وأنفع، فما بلغت تبوك حتى تمزّق هذا الثوب وامتلأ بالأوساخ. فلما رأيت هذا الحمّام خلعت كل ما كان على جسدي، وكان الحمّام يُوقَد من داخله بالحطب فرميت تلك الثياب كلها في موقد الحمّام، وأقبلت أصبّ الماء الحارّ على جسدي فأشعر بمثل ما تحسّ به الأرض الجافّة إذا هطل عليها المطر، هذا إذا كانت الأرض تحسّ. أنهيت اغتسالي على عجل لئلاّ يطول عنهم غيابي ولأفسح المجال لغيري، ولبست الثياب النظيفة وعدت بها إليهم، فشُدهوا ¬

_ (¬1) في الشام حَمّامات عظيمة قديمة اندثر أكثرها لمّا أُنشئت الحمّامات في البيوت، وممّا بقي «حمام الجوزة» في سوق صاروجا، لا يزال قائماً من نحو تسعمئة سنة، وهو مصنَّف في المواضع الأثرية.

ودُهشوا، ولكن وجود الأمير أمسك ألسنتهم، فأسررت إلى أقربهم إليّ وأفهمتُه القصّة ودللتُه على الطريق. فما زالوا يقومون واحداً بعد واحد، يذهبون على حال ويعودون على حال. وكان قد حلّ الهزيع الأخير من الليل، فدُعِينا إلى الطعام، وكان الخروف المعهود برأسه، ولكن كان حوله أطباق الخضر وألوان الطَّبيخ وقد صُفّت حولها الملاعق وكؤوس الماء، فأكلنا أهنأ أكلة مُذْ فارقنا دمشق. ووجدنا من لطف الأمير وظرفه ومن كرمه وإيناسه ما لا يجزيه شكر، فيا أيها الأمير سامحني إن نسيت اسمك، فما نسيت كرمك ولا فضلك. ولقد عرفت أنه نُقل -بعد ذلك- أميراً للمدينة المنوّرة، وهو من الأسرة النبيلة الأصيلة من آل السديري. وما مثله بالذي يُنسى اسمه، ولكن مثلي من كبار السنّ هو الذي ينسى الأسماء، رحمه الله وجزاه عنّا خيراً. * * * صلّينا الفجر ونمنا إلى قريب الظهر، فقمنا نرى البلد، فإذا المكان الذي أنزلونا فيه مستشفى بُني لمّا مُدّ الخطّ الحجازي، وأمامه رحبة كبيرة يقابلها من الجهة الأخرى بناء كبير هو المحطّة، وهي أكبر محطّة بين دمشق والمدينة المنورة. وعلى يسارك -وأنت واقف بباب المستشفى تستقبل المحطّة- بساتين فيها ثلاث عيون، يقول أصحاب «المغازي» إن الله بارك فيها لمّا وصل رسول الله ‘ في غزوة تبوك إليها، وبساتين كثيرة فيها النخل، وخلال الأشجار ومن ورائها بيوت القرية ولا تكاد تبلغ المئة، كذلك قدّرتها لما

رأيتها، في وسطها مسجد كمسجد القريات وقصر الإمارة، وهو مبنيّ بالطين لا يمتاز من بيوت القرية إلاّ بأنه أكبر. هذه هي تبوك التي عرفتها، ولقد عرضوا مرّات في الرائي (التلفزيون) مدينة جديدة فيها الشوارع على جانبَيها العمارات تتراكض فيها السيارات، مدينة فيها كل ما في المدن، حتى هذه التي لم أفهم لها معنى (أعني «المجسّمات الجمالية» التي يخلو أكثرها من الجمال) قالوا إنها تبوك. إن كانت هذه هي تبوك فما هي -إذن- تبوك التي مررنا بها وبتّ فيها؟ أم أنني رأيتها طفلة، فصارت الطفلة فتاة فتّانة يلعب جمالها بعقول الرجال؟ أم أنا اليوم كعالِم الآثار، يحفر في الأرض حتى يستخرج من بطنها بلدة أخرى، كانت قائمة على وجه الأرض يوماً ثم ماتت فدُفنَت في أحشائها، فجاء هو يُعيدُها إلى ظهرها؟ أنا أعرف القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق (بلدي) كيف كانت قبل خمسين سنة وكيف صارت الآن، كلها امتدّ وتوسّع وزاد أضعافاً، ولكن لم يقطع شيءٌ منها شوطاً أبعد ممّا قطعت مدن المملكة، ولا يفهم معنى هذا الكلام إلاّ من عرفها تلك الأيام. * * * وذهبنا نزور الأمير في مقرّه، فدخلنا داراً قروية مثل دور القرية لها رحبة واسعة فيها غرف ولها درَج ملتوٍ صعدناه فبلغنا رحبة أصغر منها، في صدرها غرفة ليست بالكبيرة، في صدرها

مكتب عادي ومقاعد من الخشب ما فيها زخرف، بل إنه ليس عليها صباغ، فلم تكَد الغرفة تتسع لنا. نهض الأمير ومشى إلينا يستقبلنا، وما فرغنا من السلام عليه ومن أخذ مقاعدنا حتى قال بصوت منخفض: قهوة. وكنت قد لحظت وأنا داخل الرجال، أي الخُوَيّان (جمع خُوَيّ، أي الأخ الأصغر) واقفين في رحبة الدار وعلى السلّم وأمام الغرفة وعلى بابها. فما قال الأمير «قهوة» حتى صاح الذي على الباب «قهوة»، فقال الذي في الدرج «قهوة»، وكرّر الذي يليه «قهوة»، حتى وصل الصوت إلى صانع القهوة ولست أدري أين كان. سمعنا خمساً وخمسين قهوة، قهوة، هوه، هوه، وه، وه ... تخرج متعاقبة متلاحقة كأنها طلقات مدفع رشاش، خرجت كلها في ثلاث وأربعين ثانية، فارتعبنا ولم نعرف ما الحكاية وفعلَت المفاجأة بنا فعلها، فمنّا من أسرع يطلب الباب يريد الفرار، ومنا من صرخ، ومنا من سقط على الأرض، ومنّا من وضع يده على سلاحه! والأمير يضحك قد راقته هذه الدعابة، ونظر إليّ كالمتسائل فقلت: ما هذا؟ لقد حسبته الغزو. قال: لا، قد أمّن الله هذه البلاد بعبد العزيز فلم يبقَ فيها غزو ولا ما يشبه الغزو، ولكنها طريقتنا في طلب القهوة، نريد أن يسمع جيراننا ومن هم حولنا ليحضروا إلينا. ولذلك يكرهون (أو كانوا يكرهون حين الرحلة) طحن البُنّ بالمطحنة التي لا صوت لها ويستحسنون دقّه بالهاوِن (الكلمة

فصيحة). ويدقّونه عندنا في بادية الشام وقُراه بالمِهْبَاج، وهو هاوِن كبير من الخشب له مِدَقّة من مثله، ويُصنع من نوع معروف (عندهم لا عندي) من أنواع الخشب. ويكون المهباج منقوشاً مزخرَفاً، ومن يسمع الدقّ فيه ممّن يُحسنه يحسبه آلة موسيقية، لأنه يدقّ دقة على البُنّ في قعره ودقة على جوانبه، فكأنها «النوتة» العرفية التي يستعملها المغنّون ويضبطون بها النغمات: «دم» و «تك»، ويتولاّها الذي يمسك «الرقّ» في الجوقة (أي «التخت»، وكلمة الجوقة فصيحة). وقديماً كانوا يستعملون «تنّ» بالتشديد و «تنْ» بالتخفيف. ويُخرج الداقّ الحاذق أنواع النغمات والمقامات من المهباج الذي يدقّ فيه البُنّ. * * * وقد ذكرت في كتابي «من نفحات الحرم» بعض ما عرفنا من قوانين القهوة وأعرافها عند الأعراب وما رأينا من العناية بها، وقد فهمت سرّ حرصهم عليها لمّا رأيت أثرها في الجسد المتعب، فقد نصل غاية التعب فنشرب منها فناجين فنحسّ بالراحة والنشاط. ولا يطبخون القهوة كما نفعل في المدن، بل يضعون فيها من «الهيل» أكثر ممّا يضعون من مسحوق البُنّ، وينقلونها من دَلّة إلى دَلّة، ولهذه الدِّلال عند أصحابها من السُّقاة أسماء كأسماء الأولاد، فهذه «العروسة» وهذه «الأم»، إلخ. ومن آدابهم في تقديمها أن الساقي يمسك الآنية (الدَّلّة) باليسرى ويقدّم الفناجين باليمنى. ومَن صنع صنيعنا في الشام فقدّم الفنجان باليسرى عُدّ ذلك إهانة للضيف، ومن الإهانة أن

يتخطّى واحداً فلا يقدّم إليه الفنجان، والقاعدة أن يبدأ من اليمين ثم يقدّمها للقاعدين على تسلسل أماكن قعودهم، ولا يصبّ في الفنجان إلاّ قليلاً رشفة واحدة، وليس من الكرَم أن يملأه، ومن اكتفى هزّ الفنجان، فإن صبّه قبل أن يهزّه فعليه أن يشربه، فإن لم يشربه لم يَجُز أن يقدّمه الساقي لمن بعده بل يشربه هو أو يريقه على الأرض، ولو كانت مفروشة بالبساط الغالي أو السجّاد الثمين. هذا حُكم العادة، أمّا حكم الشرع فإن هذا لا يجوز لأنه من باب إضاعة المال وإفساده. وكان يدرّسنا اللغة الفرنسية من ستين سنة مدرّس فاضل اسمه شكري الشربجي، كان ضابطاً كبيراً في الحجاز بعد الحرب الأولى، وكان يقود فصيلاً من الجند أصلهم من الأعراب، فافتقدهم في ساعة عمل فلم يجدهم، فلما حضروا قال: فيمَ كنتم؟ قالوا: كنّا نَتَقهوى. قال: أفي مثل هذه الساعة وبلا إذن؟ قالوا: والله -يا البيك- نتقهوى ولو في خشم الأسد! وقد بطلت الآن بحمد الله أمثال هذه المشاهد وعمّ الجندَ الانضباط والنظام. ومن ولعهم بالقهوة أنهم نحتوا من اسمها فعلاً فقالوا: «تَقَهوى يَتَقهوى»، وتوسّعوا في معناه حتى صار يشمل ما يشمله اسم «حفلة الشاي». * * *

الخط الحديدي الحجازي

-75 - الخطّ الحديدي الحجازي وقفت بكم في تبوك أمام محطّة الخطّ الحجازي، هذا الخطّ الذي يصل دمشق بالمدينة المنوّرة، عاصمة الدولة الإسلامية الثانية بعاصمة الدولة الإسلامية الأولى. هذا المولود الذي استمرّ حمله تسع سنين، حتى وُلد سنة 1908 فابتهج به العالم الإسلامي وشارك في نفقات ولادته، ولكن لم تكَدْ تنتهي مباهج الفرحة حتى حلّت مواجع الوفاة؛ «المولود» الذي فرحنا به سنة 1908 مات سنة 1918، ما مات على فراشه ولكن قُتل قتلاً، ونحن قتلناه بأيدينا. لقد خبّر ربنا خبر اليهود الذين {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأيْديهِمْ وَأيْدي المُؤْمنين} فجئنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي الكافرين، لماذا؟ لأن إبليس وسوس لنا بأن نطمس آية {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} (ولا يقدر أحد أن يطمس آية من كتاب ربّ العباد) وأن نضع مكانها (وأستغفر الله ممّا أقول) آية ليست من كتاب الله هي: إنما العرب إخوة، لا أخوّة إلاّ أخوّة العروبة! وسخّر لذلك أقلامَ قوم من أهلنا (وليسوا في الحقيقة من أهلنا

لأنهم «عَمَلٌ غيرُ صالح») فدعوا إلى رباط القومية بدلاً من رباط الإيمان، وأعانهم على ذلك قوم سوء من الترك يبرأ منهم المؤمنون من الأتراك، هم الاتحاديون الذين نسوا أن دولة آل عثمان إنما قامت بالإسلام، والإسلام هو الذي نقل ملوكها من بدو رعاة لا يعرفون إلاّ القتل والقتال شأن الذئاب في الغاب، فجعلهم -لمّا اعتنقوه- سادة القارّات الثلاث وحُكّام الدولة التي كانت ثالثة الدولتين الكبرَيَين: دولة بني أميّة ودولة بني العباس. وقام ناس منّا، منهم من كان طاهر القلب صافي النية، ما يريد إلاّ دفع أذى هؤلاء «الاتحاديين» حين أرادوا محو ذكر العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وبُعث النبيّ منهم، وكانت القبلة في أرضهم والحجّ في ديارهم، وأرادوا «تتريك» العناصر غير العثمانية. ومنهم من وجدها فرصة للنيل من الإسلام وشقّ عصا أهله وإحياء الدعوة إلى العصبية المفرّقة فيهم، وأكثرُ هؤلاء من غير المسلمين كزريق وعَفْلق. ومنهم نفر من المسلمين بالاسم ولكنهم كانوا أشدّ من الكفار حماسة في هذه الدعوة الباطلة واندفاعاً في تأييدها كساطع الحصري ... وتحرّك شياطين الإنس الذين كانوا هم واليهود مصدر كل بليّة وكانوا رأس حربة الاستعمار، فبعثوا واحداً من أبالستهم اسمه لورنس ليقود الغافلين المخدوعين، كما يقود الأشرار المعادين، إلى تخريب الخطّ الحجازي. فاشترك في هذا الإثم الفريقان يؤمّهم هذا الشيطان. وكلما قرأت في مذكراته التي سمّاها «أعمدة الحكمة السبعة» (وقبّحها الله من حكمة، أعمدتها سبعة بعدد أبواب جهنّم)، كلما

قرأت أخبار نسف الخطّ وقتل «الوليد» الجميل الذي لم يتجاوز عمره عشر سنين، وحراسه وموظفيه من الأتراك المسلمين إخواننا في الدين، كلما قرأتها أو ذكرتها أحس الألم يحزّ في قلبي وأرى الدمع يقطر من عينَيّ. ولمّا قامت الدولة العربية في الشام سنة 1918، وكنت في آخر المدرسة الابتدائية، سمعت بأنه تألّفَت «مديرية خاصة» لإصلاحه، فأصلحَت أولاً ما بين دمشق ودرعا ثم ما بين درعا وحدود فلسطين. وفلسطين مثل سوريا والأردن ولبنان، كلها أرض الشام وكلها بلد واحد، ولكن المستعمرين إذا دخلوا بلدة قسّموها وجعلوها بلاداً وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة. كانوا أعزّة باتحادهم فصاروا أذلّة باختلافهم، «وكذلك يفعلون» دائماً. وأخذَت هذه المديرية تتابع إصلاح الخطّ الذي دمّره لورنس وتركه مُقطَّع الأوصال مقلَّع الخطوط مهدَّم المحطّات محطَّم القاطرات والحافلات فاسد المعامل والآلات، وكان على رأس هذه المديرية علاء الدين الدروبي، والي دمشق يومئذ. أمّا الأموال التي أُنفقت على بدء إصلاحه فلم تقدّمها الحكومة الجديدة الفقيرة، بل هي ما تَجَمّع من أموال أوقاف الحرمَين، وهي كثيرة جداً في الشام ومصر وغيرهما. ولو أن إدارة الحرمَين الآن (الشيخ سليمان بن عبيد والشيخ السبيّل) تابعتها وبحثت عنها ووكّلت محامين للمطالبة بها لأحسنَت صنعاً، ولشكرها الناس وأثابها الله، أو لو قامت بذلك رابطة العالم الإسلامي أو الندوة العالمية للشباب الإسلامي.

فلما وصل الإصلاح إلى مَعان كانت نكبة ميسلون ودخول الفرنسيين دمشق، فوقف العمل. * * * وبعد، فما قصة الخطّ الحجازي؟ إن لديّ من خبره ما لا يعرفه إلاّ القليل، أخذتُه من الصديق نديم الصواف (رحمة الله عليه)، وكان أعلم الناس بتاريخه لأنه عمل في إدارته نحو نصف قرن، من حين كان كاتباً صغيراً فيها إلى أن صار أكبر موظفيها، ومن مجموعة الوثائق التي أطلعني عليها وتقرير له شامل كان أعدّه. كان الحُجّاج من أهل الشام وما جاورها من البلدان يجتمعون في دمشق، فإذا كان موعد الحجّ خرجوا جميعاً إليه مع المَحْمِل الشامي ومعهم حامية عسكرية تحميهم بالقوّة، ومعهم «الصرة» تحرسهم بالمال، يدفعون كيد الأعراب الذي يمرّون عليهم بالترغيب وبالترهيب، فمن لم ينفع معه المال أفادت المدافع. وربما عجزت هذه وتلك عن دفع أذاهم فنال الأذى الحُجّاج. وفي «الصرة» ريع أوقاف الحرمَين ليوزّع على فقرائهما. و «المَحْمِل» هودج هرمي الشكل بارع النقش والزخرف يُحمَل على جمل (ولا يزال المحمل محفوظاً في متحف دمشق) يسبقه جمل آخر عليه «السّنْجَق»، وهو علم ملفوف. وكلا الجملَين يُلبِسونه ثوباً عليه مثل نقش المحمل وزُخرُفه، تتقدّمه الموسيقى العسكرية. ويكون «وداع المحمل» يوماً من أيام دمشق المشهودة،

يزدحم الناس على نوافذ البيوت التي يمرّ بها، وربما استُؤجِرت النافذة بالمبلغ المرقوم، وربما نام الناس على أطراف الطريق من قصر المُشيريّة (وهو الآن القصر العدلي) إلى آخر حيّ الميدان. وقد شهدت آخر مرّة خرج فيها المحمل، يمشي معه الوجوه والأعيان والمرتزِقة و «المهرجون» وأصناف الناس. فإذا انتهى الوداع خرج الحُجّاج في قافلة عظيمة إلى مُزَيْريب، وهي أدنى قرى حوران من دمشق، فدرعا (أذْرِعات)، فعمّان (وكانت عمان قرية، وأنا أعرفها كذلك)، ثم إلى معان. ويأتي الحُجّاج المصريون بقافلة مثلها أو أعظم منها من طريق العقبة فيها المحمل المصري، فيلتقي المحملان غالباً في معان ثم يمشيان إلى تبوك. وللمحمل المصري مراسم أضخم ووداع أعظم، وكلاهما بدعة في الإسلام تُرتكَب يوم وداعه في مصر وفي الشام مُنكَرات كثيرات، حتى كان حادث المحمل الذي سبّب الجفوة حيناً بين مصر والسعودية، وستعلمون نبأه بعد قليل. وكانت القافلة تقطع على الطريق من دمشق إلى المدينة أربعين ليلة، تمشي في النهار على الجمال (في الشقادف والهوادج) وعلى الدوابّ، وكثير من الناس يمشي على رجليه، فإذا دنت القافلة من المنزل سبقها الخيّامون فنصبوا الخيام، والباعةُ والصنّاع وتقدّمها الأعوان فأعدّوا الطعام، فلا يجيء الليل حتى تقوم في البرية مدينة كاملة، تُولَد العشيّة وتموت من صباح الغد.

فلما رأى السلطان عبد الحميد (الذي سوّد اليهود تاريخه كذباً وافتراء عليه، سوّد الله وجوههم، فنُسبت إليه ذنوب ما ارتكبها وأعمال لم يعملها، كل الذي عمله أنه طرد وفد يهود وبصق على ذهبهم وأموالهم وأبى عليهم امتلاك شبر في فلسطين، فرحمه الله وأخزى من افترى عليه، وسامح من صدّق المفترين عن غفلة منه ولا سامح من أيّدهم عن تعمّد وإصرار)، لمّا رأى ذلك عزم على مدّ هذا الخطّ الحديدي وبذل فيه خزائن المال، ورغّب المسلمين بالبذل فمدّوا إليه أكُفّاً مبسوطة بالعطاء. وشرع بالعمل سنة 1901، ولم تكفِ التبرّعات فأمر بإحداث طابع مالي يُلصَق على كلّ عريضة وكلّ معاملة رسمية، فدرّ على الخطّ مالاً كثيراً ولكنه قصّر عن إتمامه، فسخّر الجيش العثماني للعمل في مدّ الخطّ، فمات من الجند في سبيله آلاف، حتى قيل إن في كلّ مئة متر منه قبر شهيد. وصّلوا الخطّ أولاً بخط دمشق-بيروت، وكان خطاً ضيّقاً عرضه 105 معاشير (المعشار واحد من مئة من المتر؛ أي سانتي) ولا يزال يمشي عليه القطار إلى اليوم، وهو تحفة أثرية لا مثيل لها في الدنيا، ركبت فيه من قديم أنا وإخوتي فوصلنا بيروت في إحدى عشرة ساعة، فقط لا غير! والمسافة لا تزيد إلاّ قليلاً عن المسافة بين مكّة ومطار جدّة الجديد. لذلك جعلوه أول الأمر خطاً ضيّقاً بعرض خطّ بيروت، وكانت بدايته من مزيريب، ثم جاء المهندس الألماني مايسنر فأوصله إلى دمشق، واستمرّ العمل فيه فبلغ المدينة المنورة سنة

1908 (1327هـ، وهي سنة مولدي)، ومُدّ له فرع من درعا قصبة حوران (التي كانت تُعرَف في التاريخ باسم أذرعات) إلى حيفا. ولقد ركبتُه مراراً قبل ضياع فلسطين، ردّنا الله إلى ديننا لنستطيع ردّها إلينا. وبلغ ما أُنفِقَ عليه إلى تاريخ نشوب الحرب الأولى سنة 1914 أربعة ملايين ونصف مليون ليرة ذهبية عثمانية، فاحسبوا كم تعدل الآن؟ وإن شئتم الرقم المضبوط فهو 4515829 ليرة. وبلغ من اهتمام الدولة العثمانية بأمر الخطّ أنها ألّفت له بعد إعلان الدستور مجلساً أعلى برياسة الذات السلطانية، أي السلطان نفسه، والمجلس يتألف من رئيس مجلس الوزراء، ومن ذهني باشا، والداماد (والداماد لقب تشريف لا يحمله إلاّ صهر السلطان) محمد شريف باشا، واللواء جواد باشا. وفي سنة 1913 (قبل قيام الحرب العامة بسنة واحدة) سُجّل الخطّ وقفاً إسلامياً ورُبط بوزارة الأوقاف، والسبب في ذلك أن وزير المالية جاويد باشا (وهو من أركان الاتحاديين، وهو كأكثرهم يهودي الأصل من طائفة الدونمة واسمه الأصلي دافيد، أي داود) كان في فرنسا يطلب قرضاً منها فاشترطَت على الدولة جعل الخطّ الحجازي رهناً بهذا القرض، فأبرق بذلك إلى حكومته، وكادت تتمّ الموافقة لولا أن ذاع الخبر وانتشر، وسمع به المسلمون في أرجاء الأرض فضجّوا وغضبوا وأمطروا الدولة بالبرقيات والاحتجاجات، فاضطُرّت إلى تسجيله وقفاً إسلامياً على أن تكون له إدارة مستقلّة ويكون له استقلال مالي، وصدر

بذلك القانون رقم 488 عن مجلس النواب العثماني (¬1). وكان السلطان عبد الحميد (رحمه الله وبرّأه ممّا قالوا عنه وما افتروه عليه) قد اشترى أراضي كثيرة وقفها على هذا الخطّ، منها: (1) أراضي الحمّة التي فيها الينابيع المعدنية، وقد سبق الحديث عنها في هذه الذكريات. (2) أراضي كثيرة في حيفا وعكا والناصرة تبلغ أثمانها اليوم أرقاماً خيالية. (3) امتياز استثمار وادي اليرموك، وفيه مساقط المياه (الشلاّلات) العظيمة التي لم تُستثمَر إلى اليوم، وهي منجم طاقة لو وَجدت من يستفيد منها. (4) بناء واستثمار مرفأ حيفا ومرفأ يافا. (5) ممتلكات شركة الديليجانس التي كان لها امتياز نقل الركّاب بين دمشق وبيروت على عربات كبيرة تجرّها الخيول، كالتي ترونها في الرائي (أي التلفزيون) في أفلام الغرب الأميركي في القرن الماضي. وتشمل ممتلكات هذه الشركة (التي انتهت مدّة امتيازها) المكان الذي فيه اليوم فندق سميراميس في دمشق وفيه سينما العباسية وإدارة البرق والبريد، وهي في أغلى بقعة في البلد. وممّا تشمله محطّات الرّبْوة والهامَة في سوريا وشْتورَة والمَصْنع وبْعَبْدا وبيروت في لبنان، والمكان الذي فيه فندق سافوي وما جاوره من العقارات في ساحة البرج في قلب بيروت. ¬

_ (¬1) من تقرير الأستاذ الصوّاف رحمه الله.

(6) استثمار الفوسفات في الأردن. هذه كلها ملك الخطّ الحجازي وفيها حجج قضائية مصدّقة ووثائق ثابتة. فلما كان مؤتمر الصلح في لوزان في أعقاب الحرب الأولى طلب الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون ومن كان معهم) التصرّف في هذا الخطّ، فوقف لهم عصمت باشا المعروف الآن بعصمت أينونو (¬1) (نسبة إلى معركة أينونو مع اليونان) وأثبت لهم أنّ هذا الخطّ ملك المسلمين، بُني بأموالهم وهو وقف عليهم كلهم، وأنه لم يكن ملك الدولة العثمانية وما كان مربوطاً بوزارة من وزاراتها، بل كانت له إدارة مستقلّة برياسة السلطان الذي كان خليفة المسلمين. وبعد عشرة أيام ردّ المسيو بومبار سفير فرنسا في سويسرا (في 27/ 1/1922) باسم الحكومتين الفرنسية والبريطانية العاملتين في سوريا وفلسطين وشرقي الأردن، بأنهما -رغبة منهما بالاعتراف بالصفة الدينية للخطّ الحجازي- "تعربان عن استعدادهما لقبول تشكيل مجلس خاصّ للإشراف عليه وتأمين صيانته ونقل الحُجّاج عليه، من أربعة أعضاء مسلمين من كل من سوريا وفلسطين وشرقي الأردن والمملكة الحجازية، وأن تنفَق أرباحه عليه" (¬2). ونُصّ في المادّة «60» من معاهدة لوزان أن كلّ دولة انضمّ إليها شيء من الأملاك العامّة لدولة بني عثمان يكون ملكاً لها إلاّ ما كان منها وقفاً كالخطّ الحجازي. ¬

_ (¬1) وهو خليفة مصطفى كمال وشريكه في إثم ما ارتكبه. (¬2) من تقرير نديم الصواف رحمه الله.

وعملاً بهذه المادة أبَت فرنسا أيام انتدابها على بلادنا أن تملّك الحكومة اللبنانية ما طلبَته من أملاك الخط في أراضيها وأصدرت بها سندات تمليك باسم الخط الحجازي، ولما وضعت فرنسا استثمار الخطوط في سوريا بيد إدارة الشركة الفرنسية استثنت من هذه الوكالة عقارات الخطّ الحجازي، وشكّلت لإدارتها لجنة ألّفتها من كبار رجال الدوائر الوقفية، أي من المراقب العامّ للأوقاف والقاضي الشرعي وطائفة من الخبراء، سُمّيت «إدارة أملاك الخط الحجازي». فلما أُعلن استقلال سوريا أصدر المجلس النيابي سنة 1945 قانوناً بإنهاء وكالة الشركة الفرنسية بإدارة الخطّ وتأليف «مديرية عامّة» لإدارته، لها الاستقلال المالي والإداري ولها الشخصية الحقوقية؛ ونصّ على اعتباره وقفاً إسلامياً عاماً. إن هذا الخط وقف إسلامي وملك للمسلمين جميعاً لأنه أنشئ بأموال المسلمين كلهم، ولأنه يربطهم بمدينة نبيهم ‘، وكان المأمول -لو لم تَقُم الحرب الأولى- أن يربطهم بقبلتهم، ولأن مؤتمَر الصلح في لوزان أقرّ هذه الوَقفية بعد دراسة قانونية عميقة، ولأن الحكومات المتعاقبة في سوريا والأردن وفلسطين كلها قد أقرّتها، والمملكة العربية السعودية مُقرّة بها، وقد أُقِرّت صراحة في مؤتمر الرياض سنة 1954. أما المحاولات التي جرت بعد ذلك لإعادته واللجان التي تألّفت والدراسات التي أُجريت فهي جديدة يعرفها أكثر القرّاء. هذه لمحة من تاريخ الخطّ الذي يستفيد منه -لو صدق العزم وصحت النيّة على إعادته- حُجّاجُ الشام والعراق والترك والعجم

الذين يمرّون بدمشق، يركب الواحد منهم القطار فيبقى مستريحاً على كرسيه حتى يبلغ غايته. كان في هذا الخطّ مدد حياة لمدينة رسول الله ‘ وشريان يحمل دم الصحّة لكل مكان يمرّ به، فهل ييسّر الله إعادته؟ * * * كان شعراء العرب يجوزون بالمكان الذي كان مثابة المحبّين ومجمع العشّاق، فيثيرهم مكان الخيمة ومضرب الوتد وموقد النار، فيَنْظمون في ذلك خوالد الأشعار، من يوم وقف شيخهم امرؤ القيس واستوقف وبكى واستبكى، وما يبكون إلاّ وصال حبيب افتقدوه، أو مجلساً منه أو قبلة أو ضمّة أو شَمّة، أفلا يبكي شعراؤنا اليوم هذه المحطّات الخالية التي ينعب فيها البوم وتنعق الغربان؟ ألم يقف واحدٌ منهم على محطّة باب العَنْبرية في المدينة أو محطّة تبوك، أو المعمل العظيم الذي أقاموه في «القدم» ظاهر دمشق، وكان في عهد عِزّه قادراً على إنتاج قاطرة كاملة؟ ألا يذكّرهم مرأى هذا الخطّ ممتداً في البادية تغطّيه الرمال، يصبح وحيداً ويمسي وحيداً، لم يبقَ له من يمرّ عليه؟ لِمَ لا تكون هذه الكلمة دعوة منّي للشعراء (وما أكثرهم بحمد الله) ليقفوا على هذا الخطّ وعلى محطّاته ويتذكّروا تاريخ حياته، ثم يصوغوا ما تشعر به قلوبهم شعراً باقياً تفيض به ألسنتهم؟ هذه دعوة، ولكن هل من مجيب؟ * * *

ذكريات عن رمضان

-76 - ذكريات عن رمضان (¬1) قالوا: ألا تكتب عن ذكريات رمضان (1)، قلت: أي رمضان؟ أهو رمضان واحد حتى أكتب عن ذكرياته؟ لقد رأيت رمضان وكان على المائدة طبق المشمش الحموي الذي ملأه الله عسلاً والذي لا نظير له في غير الشام، أي أنني رأيته في قلب الصيف، ثم رأيته في وسط الشتاء، ثم درت معه خمس دورات من الشتاء إلى الصيف ومن الصيف إلى الشتاء، وكل دورة في خمس عشرة سنة، فعن أي الرمضانات أتكلّم؟ لقد اختلطت في نفسي الذكريات لمّا تعدّدَت الأحداث وتتابعَت المشاهد وكثرت الأسفار والرحلات. ألا ترون إلى الرائي (التلفزيون) حين يتفنّن المخرج أو المصوّر فيضع صورة فوق صورة، فترى المحدّث أو المغنّي أمامك يواجهك، تختلط صورته هذه بصورته الجانبية ويدخل معها مشهد من مشاهد الطبيعة، يعرض ذلك كله معاً، فلا تستطيع أن تميّز شيئاً من شيء بعد أن اختلطَت في الصورة الأشياء. ¬

_ (¬1) نُشرَت هذه الحلقة في رمضان سنة 1403.

لقد كنّا في دمشق قبل الحرب العامة الأولى نصلّي العشاء وننام، فتخلو الطرق إلاّ من أعقاب السابلة أو من أهل الليل، وما أهل الليل إلاّ الفُسّاق والعُشّاق واللصوص. يسكن كل شيء ويلفّه الليل بثوبه الأسود. ننام بعد العشاء لنصحو قبل الفجر، وإن غلَبنا النوم (وللنوم سلطان) قمنا قبل طلوع الشمس لندرك صلاة الفجر؛ ما كنّا قد ألفنا السهر ولا تعوّدنا شرّ عادة حين جعلنا ليلنا نهاراً ونهارنا ليلاً، كأننا نخالف سنّة الله وطبائع الأشياء، والله قد جعل الليل لباساً والنهار معاشاً. وكنّا ننام على الأرض، ما كانت السّرُر إلاّ عند الأغنياء وما كانت أسرّتنا منهم. فكنّا نمدّ الفُرُش في الليل لنطويها في الصباح ثم نضعها في «اليوك». وإن لم تعرفوا ما هو «اليوك» فإن ثلاثة أرباع أهل الشام لم يعودوا يعرفونه؛ إنه مثل الخزانة في الجدار لكن بغير باب ومن غير رفوف، نصفّ فيها الفُرُش المطويّة بعضها فوق بعض، ويُسدَل على اليوك ستارة كانوا يعتنون بنقشها وتطريزها. فأحسست يوماً وأنا نائم حركة عند فراشي، وكان عمري خمس سنين (سنة 1332) ولكني كنت واعياً، فنهضت فإذا خوان الطعام. وكنّا إذا أردنا الطعام مددنا الخوان على الأرض ووضعنا فوقه الصواني والصحون. فعجبت أشدّ العجب وأحسَستُ بمثل ما يحسّ به من يكشف شيئاً جديداً لم يكن معروفاً، ما لهم يستبدلون بالمنام الطعام؟ ما لهم يأكلون ليلاً وعهدي بالفطور أنه في النهار؟ وطار نومي من شدّة العجب، وسألت بنظرات عيني الحائرة

والدهشة المرسومة على وجهي، وسمعت المؤذّن، لكن لم يكن يؤذّن كما أسمعه كل يوم بل كان يُسرع، ينطق جملة «حيّ على الصلاة» مثلاً، ثم يمدّ لام الصلاة ويرخي صوته بها، ثم يرجّه رجّاً ثم يعود فيمدّه، فإذا بلغ المد أقصى مداه علا بصوته علوّاً مفاجئاً ورجّه رجّة سريعة، ثم صعد به أكثر فأكثر، ثم أخفاه حتى ينتهي الصوت فوق فتشعر كأنه طيارة ارتفعت حتى اختفت بين السحب وضاع أثرها. وأنا -كما قلت لكم من قبل- أوتيت أذناً لاقطة، فإن سمعت نغمة فلا أنساها، وقد لا أستطيع أداءها ولكن إذا سمعتها بعد ذلك عرفتها، لذلك أكشف الألحان التي يدّعيها الملحّنون وهي قديمة (كلحن «بلادي بلادي منار الهدى» الذي أحفظه بذاته من صغري). وكثرت عليّ العجائب تلك الليلة، فسمعت الباب يُقرَع. الباب يُقرَع في هذه الساعة من الليل؟ وسمعت رجلاً يضرب بالقضيب على طبلة معه ضرباً موزوناً، وينادي: يا شيخ أحمد أفندي، يا شيخ مصطفى أفندي (وهما اسما جدّي وأبي) قوموا لسحوركم ... ثم يقول كلاماً ظريفاً ما حفظته من أول مرّة. ولم يشأ أهلي أن يدَعوني في حيرتي ففسّروا لي ما خفي عني، قالوا إن هذا هو «المسحِّر» يدعو الناس للقيام للسحور لأنه قد جاء رمضان، وإن هذا الأذان العجيب بنغمته هو أذان السحور، فما دام صوت المؤذّن مسموعاً فإن الأكل يجوز، فإن انتهى فهو «الإمساك»، أما أذان الفجر للصلاة فيؤذّن به داخل المسجد. والعادة عندنا في الشام، وفي أكثر البلاد، أن يكون الإمساك قبل

الفجر بربع ساعة أو بعشر دقائق، مع أن الأكل يجوز بلا خلاف حتى يطلع الفجر. قالوا ولكني لم أفهم شيئاً. ما السحور؟ وما الصيام؟ وما رمضان؟ إن للأطفال يا أيها القرّاء قاموساً خاصاً بهم، وأكثر (إن لم أقُل كل) الذين يحدثون الأطفال في الإذاعة وفي الرائي، أو يكتبون لهم في المجلاّت، أو يؤلّفون لهم الكتب لا يدرون ما هو قاموس الأطفال، فيكلّمونهم بما ليس في معجمهم (أي قاموسهم). ذهب مرّة أحد أحفادي مع أبيه الذي يعمل مديراً في شركة كبيرة في جدّة (¬1)، فسألتُه: ماذا يصنع أبوك؟ قال: عنده برّاد (ثلاجة) يضع فيها الأوراق. أوراق في برّاد؟ إنه كان يعني صندوق الحديد لأن البرّاد أو الثلاجة هو الذي في قاموس الطفل. وهؤلاء الإخوان يكلّمون الأطفال بأسلوب الجاحظ، ولكن من غير بلاغة الجاحظ. وأنا أتمنّى على من يريد أن يحدّث الأطفال أن يجمع جماعة منهم من سِنّ مَن يريد أن يحدّثهم ثم يتكلم، فإن تركوا ما هم فيه وأقبلوا عليه وفهموا منه فقد نجح. وسمعت مرّة في الرائي مذيعة تزعم أنها تحدّث الأطفال، فتلقي عليهم كلاماً غريباً عنهم بعيداً منهم، ثم ترقّق صوتها وتتلطف في كلامها وتقول: فهمتم يا أعزائي الأطفال؟ وأنا واثق ¬

_ (¬1) الحفيد هو عمرو، وأبوه نادر حتاحت الذي كان مديراً مالياً في شركة كبيرة فأبدله الله بوظيفته خيراً منها، فأنشأ «دار المنارة» وصار هو الناشر الذي اختصه علي الطنطاوي بنشر كتبه جميعاً (مجاهد).

أن أعزاءها الأطفال لم يفهموا شيئاً، فهم كأطفال برنامج «ظلال القرآن» يحفّظونهم جواب السؤال الذي سيُلقى عليهم، فإذا ردّدوه كما حفظوه قيل للمعلّق: ما رأيك؟ فخطب خطبة طويلة ثم قال: إن هذا الطالب (مع أنه تلميذ ابن عشر سنين لا طالب) (¬1) قد أجاد وأحسن. ماذا أجاد وقد حفّظتَه أنت الجواب؟ مع أني في أشدّ العجب وأكبر الإعجاب بحفظ هؤلاء الأطفال وحسن تلاوتهم. عفواً لقد خرجت عن الخطّ، وهذه عادتي، أو علّتي لم أستطع منها فكاكاً فاحتملوني عليها. * * * قالوا: جاء رمضان فلم نستطع الأكل بالنهار. أفتدرون ما الذي فهمته (سنة 1332) وأنا طفل من هذا الكلام؟ فهمت أن رمضان هذا مخيف يمنع الناس من الأكل، فلا يأكلون إلاّ ليلاً لئلاّ يراهم! ولو قالوا لي: إن رمضان شهر من الشهور، والله الذي خلقنا ورزقنا قال لنا لا تأكلوا فيه شيئاً من الفجر إلى المغرب، وأن من أطاع يُدخِله الجنة، وهي بستان عظيم وبيت كبير فيه كل شيء لذيذ إذا طلبتَه وصلت إليه، والذي لا يطيع يضعه في النار ... لو قالوا هذا لفهمته، أو فهمت أكثره وإن لم أفهمه كله، وكان لنفسي ذخيرة إيمانية أستمدّ منها الخير طول العمر. ولكن الأطفال مظلومون، يُقال لهم دائماً ما لا يفهمون. ورأيتهم يستعدّون للخروج من الدار. قال جدّي: تذهب ¬

_ (¬1) من بلغ الجامعة سُمّي طالباً، ومن كان في الابتدائية أو المتوسطة فهو تلميذ.

معنا يا علي إلى المسجد؟ ففرحت وقلت: نعم. ومشينا في الطرق المعتمة إلاّ من ضوء مصابيح الكهرباء الصغيرة التي جاء بها الوالي ناظم باشا (وفي كتابي «قصص من الحياة» قصّة عنه) كما جاء بالترام من قبل مولدي بقليل. ووصلنا المسجد. وكنت قد جئت المسجد مرّة قبل هذه، ولكني وجدته هذه المرّة أسطع أنواراً وأكثر ناساً وأبهى رونقاً، ولمّا رجعوا إلى البيت ناموا. ما هذا؟ أأنا اليوم في بلاد العجائب؟ نأكل في الليل وننام في النهار، والمؤذّن يؤذّن بنغمة غريبة ولكنها حلوة، ورجل يضرب بطبلته في الحارة ويقرع الأبواب على الناس في البيوت؟ لم أفهم شيئاً، ولكني كنت مبتهجاً مسروراً كالذي يذهب إلى مدينة جديدة لا يعرفها يكشف جديدها، أو الذي يحلم حلماً يرى فيه ما يسرّ ولا يدرك سرّ ما يرى. ثم غلبني النوم فنمت، ولمّا نهضت قلت: ألا نفطر؟ فضحكوا وقالوا: نحن في رمضان، فكيف تأكل؟ ألست صائماً؟ قلت: وهل يراني رمضان إن أكلت؟ وماذا يعمل بي إن رآني؟ قالوا: بل يراك ربّ رمضان، يراك الله. وكنت أدرك إدراكاً مبهَماً أن الله الذي لا نراه هو خلقنا وعنده جنّة فيها ما شئت من السكّر والحلوى واللعب وكل ما أريد، يضع فيها من يحبه ومن يصلّي ومن يسمع كلام أمه وكلام أبيه، ولا يكذب ... أدركت ذلك من كثرة ما أسمعه من أهلي. ففهمت أننا لا نمتنع عن الطعام خوفاً من رمضان بل لأن الله لا يريد أن نأكل في النهار في هذه الأيام، وسكتّ راضياً وأنا أفكّر في المكافأة التي سأنالها من الله.

ولكني رجعت فسألت: إلى متى أبقى بلا طعام؟ قالوا: حين تسمع الأذان؟ قلت: الأذان الطويل؟ أعني أذان السحور. قالوا: لا، بل الأذان العادي. وجعلت أذني إلى المئذنة. وطال عليّ الانتظار، ووقت الانتظار عادة طويل مهما قصر، حتى سمعته فأسرعت أقول: هذا الأذان، قالوا: صحيح، فتعالَ لتأكل. وأكلت أكلة ما ذقت إلى يومها أطيب منها. أما قال الشاعر: «أُعِدّتِ الراحةُ الكبرى لمن تعِبا»؟ لذلك يفرح الصائم بفطره، والفرحة الكبرى يوم يلقى ربّه. اللهمّ اجعلني يومئذ من المسرورين، أنا ومن قال من القرّاء آمين، وجميع المسلمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) هنا انتهت الحلقة في الطبعات السابقة من هذا الكتاب، لكن هذه ليست هي نهايتها، فإن ما يأتي منها هنا هو التتمة التي لمتُنشَرمن قبل. فما الذي قطعها؟ لقد بدأت المشكلة يوم نشرت «الشرق الأوسط» هذه الحلقة يوم الثلاثاء 28/ 6/1983، فقطعتها ونشرت نصفها الأول فقط لضيق المساحة (آثروا على شطر المقالة إعلانات تدرّ المال)، واعتذروا عن قطعها ثم نشروا تتمتها في الأسبوع اللاحق باسم «ذكريات عن رمضان: الجزء الثاني»، وفي الأسبوع الذي بعده نشروا القسم الآخر من ذكريات رمضان: «ذكريات عن رمضان 2». فلما جُمعت مقالات الجريدة لتُنشَر في الكتاب اختلط الأمر على الجامع إذ رأى ثلاث مقالات تحمل عناوين متشابهات، فحذف واحدة ظنها مكررة لأنها تحمل رقم اثنين وما بعدها يحمل الرقم ذاته، فضاع القسم المتمّم من هذه الحلقة. وها هو ذا قد أذن الله بردّه، فاقرؤوه هنا وادعوا لصاحبه برحمة الله (مجاهد).

وكان من عادة أهل الشام أنهم يعلّمون الصغار الصيام الذي يسمونه «درجات المئذنة»؛ يصوم الطفل من الفجر إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى أن يفطر مع الكبار عند الغروب. ويُعِدّون له في أول يوم يصومه كاملاً «سفرة إفطارية»، وهي مائدة خاصة بالطفل الصائم فيها أطباق صِغار فيها من كل ما لذّ وطاب، من الطعام والشراب ومن أصناف الحلوى وأنواع الفاكهة الموجودة (لأننا لم نكن نجد الفواكه كلها في الفصول كلها كما تجدونها الآن، بل كان لكل موسم فاكهته). ويتصدرها الطفل الصائم يحفّ به الأهل ويمدحونه ويثنون عليه، ويعلمونه كيف يحمد الله ويشرحون له عظيم الأجر عند الله، حتى يسمعوا مدفع الإفطار. وكانت هذه المائدة من أشد الوسائل أثراً في تحبيب الصيام إلى الطفل. قلت «المدفع» لأن دمشق كانت صغيرة يُسمِعها المدفع الذي يُطلَق من جبل المِزّة، أما اليوم فلم تعد تُسمعها عشرة مدافع، ولا تُسمع جدة التي عرفتها يوماً متوارية وراء السور بين باب مكة وباب شريف والباب الجديد، طولها كيل واحد وعرضها كيل واحد. وعرفت الرياض التي كانت كلها الديرة فقط، وكان شارع البطحاء بطحاءَ حقيقية، فصارت كما ترون. فكيف بالقاهرة التي يسكنها عشرة ملايين؟ وكانت طرق دمشق وأسواقها تعجّ بعد العصر بالناس والأصواتُ تتعالى بالنداء على أطعمة رمضان تتخللها عبارة «الله وليك يا صايم» ولها نغمة خاصة. وقد عرفتم فيما سبق من هذه

الذكريات (¬1) أن نداء الباعة في الشام أشعار، إن فقدَت بلاغة اللفظ الفصيح فما فقدت وثبات الخيال وومضات العواطف، وفيها فوق ذلك روعة النغم. وللباعة في مصر أيضاً أنغام طالما سرق منها الملحّنون. هل سمعتم أغنية «يا فايتني وانا روحي معاك»؟ لقد أخذ محمد القصبجي لحنها من بيّاع زيتون، سمعه ينادي فلحقه يمشي وراءه في الأزقّة والحارات يحفظ النغمة، حتى أتقنها بعدما مشى وراءه إلى العباسية! واسألوا أبا الفرج الأصفهاني عن قصة الجارية التي كانت تحمل جرة الماء وتغني، فلحقها المغني المشهور (الذي نسيت الآن اسمه) يستعيدها النغم ويعطيها درهمين كلما أعادت، فقالت له: ما لكم؟ تعطّلون الجارية عن عملها وتعرضونها لغضب سيدها، وتعطونها درهمين وتأخذون لحناً تربحون به مئتَي ألف درهم! فكان كما قالت (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في الحلقة الثانية والأربعين، وهي في الجزء الثاني (مجاهد). (¬2) المغنّي هو إسماعيل بن جامع، وخبره مع الجارية السوداء التي لقيها باليمن فأخذ عنها النغم في الجزء السادس من «الأغاني» (ص315)، وفيه أنه سمعها في اليوم الأول بدرهمين، ثم احتال في اليوم الثاني ليسمعها بغير أجر، فقالت: إنك تستكثر فيه أربعة دراهم، وكأني بك قد أصبت به أربعة آلاف دينار! ومرّ زمان فغنى به الرشيدَ يوماً فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، فضحك، قال: ما يضحكك؟ فأخبره بالخبر، فمنحه الرشيد ألفاً رابعة وقال: لا نكذّب الجارية (مجاهد).

الشام أشد البلاد عناية بالطعام وبراعة في صنعه وكثرة في أصنافه، وما أقول ذلك فخراً لأني شامي المولد والمنشأ (وإن كنت مصري الجد)، فما فخر الإنسان بالطعام، إنما ذلك شأن الأنعام، ولكن الفخر بالدين والخلق. والشام (أو كانت الشام) مع عنايتها بالطعام من أكثر بلاد المسلمين تمسكاً بالدين وحفاظاً على الخلق الكريم. وأكثر ما يتجلى الأمران في رمضان: عندنا أطعمة خاصة بأزمان خاصة، ما لها أصل شرعي ولكنها عادات لا يأمر بها الشرع ولا ينهى عنها؛ ففي عاشوراء «الحبوب»، وهي أكلة معروفة وتسمى في مصر بالعاشوراء. وفي رجب يصنعون ما يسمّونه «ليلة الله» (أو «ليتَلاّ»، بلام مفخَّمة مشدَّدة)، وكنت أفرح بها وأنا صغير وأتغزّل (قبل أن أبلغ سن الغزَل) بشكلها قبل طعمها. إنها حلقات كالأساور، منها ما يكون بعرض الإصبع أو الإصبعين أو الأربعة، فيها خطوط ملوَّنة بشتى الألوان، كألوان الرائي (التلفزيون) الملون التي تظهر قبل عرض البرامج، مصنوعة من السكر المطبوخ الجاف على شكل الزجاج الملون، تنكسر إن وقعت أو مسّت شيئاً قاسياً، يوضع بعضها فوق بعض على عود من القنّب (وقد مر بكم ذكره في هذه الحلقات) (¬1)، عندما تراها عند البياع ترى منظراً عجباً، تحسب أنك وقعت على كنز من روائع البلّور (الكريستال). وهذه الحلوى تُصنَع في رجب. ¬

_ (¬1) في الحلقة الحادية والستين (في الجزء الثاني) عند الحديث عن ذكريات مدرسة سقبا. قال: "وهو قصب لطيف إذا نُزعت قشرته عاد مثل الخشب الناعم ولكنه ضعيف ينكسر لأدنى ضغط" (مجاهد).

فإن جاء شعبان فله «الغُرَيْبَة»، حلوى من الدقيق المعجون بالسمن والسكّر تكاد تذوب في الفم قبل أن تمسها الأسنان، وهي معروفة هنا. أما الذين يفتَنّون في صنعها ويخرجونها بشتى الأشكال (بل وشتى الألوان) فهم أهل باكستان. وقد كنت أدخل مخازن الحلوى في كراتشي (¬1) لأمتع عيني بمرآها وهي في جامات من الزجاج مصفوفة صَفَّ نفيس الآثار في المتاحف أو ثمين الحلية عند الصيّاغ، والأنوار القوية مسلطة عليها، ولكني كنت معها كما جاء في أغنية عبد الوهاب عن القمر: «حظنا منه النظر»؛ ذلك أن أكثرها فيه الفلفل والشطة وما يُلهب الفم ويحرق البلعوم، ولو خلا شيء من طعامهم من الفلفل لخلت منه هذه الحلوى. فإذا كان رمضان جاءت «البَرَازِق» (وهي موجودة على طول السنة)، والنهش، وهو نوع من البَقلاوة ولكنه يكون طبقات أكثر من الرقائق، محشوّة بالفستق الحلبي معجونة بالسمن مشبعة بالقَطْر. وجاءت «الجَرَادِق» (وهي كلمة فصيحة)، وهي رقائق واسعة من العجين رقيقة جداً تنكسر لأدنى لمسة، أحسبها تُعجَن بالزيت فما أعرف على التحقيق، يُرَشّ عليها خيط من الدبس المَغلي، لعلها ألذّ من سائر أنواع الحلويات الشامية وإن كنت لا أعلم من أمر صنعها شيئاً. ومن حلويات رمضان «الكلاّج»، وهو رقائق رقيقة جداً من لُبّ البُرّ أو من النشاء، يوضَع بعضها على بعض وتسقى بالحليب وتُحشى بالقشطة الخالصة، ثم تُغمَر بالقطر. ¬

_ (¬1) حينما زارها في رحلة الشرق، وسيأتي خبرها في الجزأين الخامس والسادس من هذه الذكريات (مجاهد).

قلت لكم إن الأسواق تزدحم بالناس من بعد العصر، وأكثر ما يكون الازدحام على الخبّاز. وفي الشام أنواع كثيرة من الخبز، ولكنهم يصنعون لرمضان نوعاً يسمى «المَعروك»، ونوعاً من خالص الدقيق طرياً على نضج، فيه قليل من السكر. وعلى الحمصاني، لأن للفول والحمّص في رمضان شأناً، فلا ترى -إذا اقترب المغرب- إلا حاملاً زبدية «التِّسْقِيَة». وهي ثريد بمرق الحمّص يوضع فوقها الحمص المسلوق وفوقه الصنوبر المقلي وأشياء ناعمة لا أعرف ما هي، ثم يُحمى السمن العربي ويُطَشّ فوقها (وكلمة طَشّ من العامي الفصيح). وربما صُنعت التسقية بالحمص المسلوق بلا سحق وفوقه اللبن الرائب وحب الرمان الحامض وأشياء أخَر، ثم السمن، وربما صنعت بالزيت «مكسوراً» بمادة قلوية (بَيكاربونات الصوديوم) فيصير لونه أبيض ويُرَشّ عليه مسحوق الكمّون. ويصنع من الحمص «المُسَبَّحة» وهي الحمص المسحوق مخلوطاً بالطحينة وعصير الليمون الحامض وأشياء أخَر لا أعرفها بالضبط، يُطَشّ فوقه السمن العربي المحمّى أو زيت الزيتون، ويسمى الحمص بالزيت، وهو طعام الإفطار التقليدي في لبنان، ويحسنون صنعه. والفول المدمَّس (وهي كلمة فصيحة، من الديماس). وله طرق لصنعه: بالحمص والبصل والثوم (لمن أراد الثوم) وفوقه الزيت. وقد يأكلونه في مصر ساخناً بلا حمص وفوقه السمن بدل الزيت، وفول الشام كبير وفول مصر صغير. فإذا دنا المغرب رأيت كلاً يسعى إلى بيته يحمل بعض ما

عدّدت من الطعام وما لم أعدّد. ولا بد مع ذلك كله من سطل شراب السّوس (العِرِقْسوس). وكان في الشام أناس معدودون يحسنون صنعه منهم أبو أحمد في العِمارة عند بوّابة الآس، وآخر في باب الجابية، وثالث بقي إلى قريب أمام الباب الشرقي لمسجد يَلْبُغا. والعرقسوسي لا ترى في دكانه إلا أواني عرق السوس والقدور التي يفرّغه منها وإليها والحفرة التي يكرّره فيها. وهو جذور (شُروش) نبات بري، تُجمَع وتغسل ثم تشبع بالماء، ثم يصب عليها الماء باستمرار، يدخل إليها ليخرج منها، وهذا هو التكرير، وهنا سرّ البراعة في صناعته. وهو من أنفع الأشربة، مذكور في جميع كتب الطب القديمة، يَعُدّون له فوائد كثيرة للصدر ويُستعمَل مليّناً للأمعاء ويفيد في قرحة المعدة، لكنه لا يصلح للمصابين بمرض السكر. * * * في الدقائق الأخيرة من النهار قُبَيل أذان المغرب يكون الرجال قد أووا إلى بيوتهم وخلت الطرق أو كادت ولم يبقَ إلا الأولاد، يتجمعون حول المنازل وفي زوايا الطرق، ينظرون إلى منارة العروس في الجامع الأموي (أو إلى غيرها إن كانوا بعيدين عنها لا يرونها)، فإذا أضيئت المنارة يكون قد دخل وقت المغرب. وهم يعتمدون في إضاءة المآذن أو ضرب المدفع على مئذنة الأموي. وللأموي منذ أكثر من سبعة قرون موقّتون ولهم رئيس،

وكان عمي الشيخ عبد القادر، العالم الفلكي، رئيس الموقتين. وهي وظيفة تشريف لا عمل. فإذا دخل الوقت أناروا المصابيح. وفي النهار -لمّا كانت مئذنة الأموي أعلى بناء في دمشق- يرفعون كرة كبيرة حمراء إلى رأس المئذنة ليراها الناس فيعلموا أن الوقت قد دخل. عندئذ يصيح الأولاد بنغمة موزونة: «أذن، أذن»، ويطيرون إلى بيوتهم مثل العصافير. * * *

ذكريات عن رمضان (2)

-77 - ذكريات عن رمضان (2) أذّن المغرب فأبيحَ لنا ما كان محرّماً علينا؛ كنّا نرى الطعام الشهيّ أمامنا ونحن نشتهيه، والشراب البارد بين أيدينا ونحن نتمناه ونرغب فيه، فلا نمدّ إليه يداً، نكفّ النفس عنه ومُناها الوصولُ إليه، لا يمنعنا منه أحد ولا يرانا لو أصبنا منه أحد، ولكنه خوف الله. لذلك قال الله في الحديث القدسي: «كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنه لي». إن كلّ العبادات لله فما بال الصوم؟ ولماذا خصّه الله بالنصّ على أنه له؟ لست أدري، ولكني أظنّ -والله أعلم- أن العبادات عمل فأنت تستطيع أن تعملها رياء، أما الصوم فهو «ترك عمل» فلا يمكن أن يدخله الرياء، إلاّ إنْ جاء مَن يلازمك لزوم الظل فيكون معك في كلّ لحظة وفي كلّ مكان، وهذا ما لا يدخل في الإمكان، بل إن من الممكن أن يشرب العطشان من حنفيّة المغسلة في المرحاض، ويمكن أن يبتلع الماء وهو يتمضمض عند الوضوء فلا يحسّ به أحد ولو كان الناس حوله ينظرون

إليه. لذلك كان الصيام الحقّ سالماً من رياء الناس، فهل هذا هو الجواب أم يقصر ذهني عن إدراك الجواب؟ * * * كان يحمل الماءَ إلى البيوت في مكّة وجدة السقّاؤون، وقد بقي ذلك في البيوت القائمة على الجبال أمامنا إلى عهد قريب، أراهم من شُبّاك داري في أجياد، يحمل السقّاء الصفيحتين ممتلئتين ويرجع بهما فارغتين، من الصباح إلى المساء، فماذا تكون حاله لو أرحتَه النهار كله، ثم جمعت الصفائح كلها فكلّفتَه أن يصعد بها الجبل مرّة واحدة؟ ألا يعجز عنها ويسقط تحتها؟ هذا الذي يصنعه أكثرنا في شهر الصيام، نريح المعدة من الفجر إلى المغرب، فإذا أذّن المغرب شَمّرنا وهجمنا، نشرب ونشرب ونأكل ونأكل، نجمع الحارّ والبارد والحلو والحامض، وكل مشويّ ومقليّ ومسلوق، كمن يضع في الكيس بطيخاً، ثم يضع خلال حبات البطيخ تفاحاً، ثم يملأ ما بين التفاح لوزاً، ثم يفرغ على اللوز دقيقاً حتى لا يدع في الكيس ممراً يمرّ منه الهواء! هذا مثال ما نصنعه على مائدة الإفطار، فيتحوّل ذلك شحماً نحمله ونمشي به، فترى ناساً منّا (وأنا مع الأسف من هؤلاء الناس) لهم بطون حبالى في الشهر الخامس عشر، غير أن الحُبلى تلد فتضع حملها ويخفّ عنها ثقلها، والحبالى من الرجال لا يلدون ولا تُلقى عنهم أثقالهم أبداً. وهنا تظهر حكمة التراويح التي هي رياضة للجسد، وراحة للروح، ومدعاة للأجر.

ولن أجدّد المعركة التي كانت يوماً في دمشق، معركة بالألسن على المنابر وبالأقلام في الصحف وبالأيدي حيناً في المساجد! معركة التراويح: هل هي عشرون ركعة كما يصلّيها المسلمون من قديم الزمان، أم هي ثماني ركعات فقط كما صحّ في الحديث؟ ولقد كنت يومئذ قاضي دمشق وخطيب مسجد جامعتها، فقلت للناس: إن الله لم يوجب التراويح، فمَن صلاّها ثماني ركعات فقد أحسن، ومن صلاّها عشرين فما أساء ولا ارتكب محرّماً ولا حمل إثماً، إنما يجترح الإثمَ من يفرّق جماعة المسلمين بلا سبب ويشغلهم عن معركتهم الأصلية، معركة الكفر والإيمان، بمعارك جانبية ما لها لزوم، يفلّ بها بأسهم ويُذهِب بها رِيحَهم، ولا يصنع هذا إلاّ عدوّ للإسلام متعمّد الضرر أو ساذج قصير النظر. * * * وكان أكثر أئمة المساجد في دمشق ينقرون التراويح نقراً يتبارون فيها سرعة، يقرؤون الفاتحة بنفَس واحد ثم يتلون: {الرّحْمن، عَلّمَ القُرآنَ، خَلَقَ الإنْسانَ، عَلَّمَهُ البَيانَ} ويكبّرون ويركعون، ومثل ذلك في الركعات كلها. إلاّ نفراً منهم كانوا يصلّونها على مهل ويناجون الله لا يعدّون الركعات، ومنهم من كان يقرأ كل ليلة جزءاً من القرآن يرتّله ترتيلاً، وأشهر هؤلاء إمام المشهد الحسيني في جامع بني أمية، وهو فاضل من آل الحمزاوي، شيخ صالح، وكان يقصده الناس من أطراف دمشق ليصلّوا معه. أما التراويح في «الأموي» فكانت ونحن صغار عجباً

من العجب: أربعة أئمة من أتباع المذاهب الأربعة يصلّون في وقت واحد، ووراء كل إمام مبلّغ من أصحاب الحناجر القوية والأصوات الندية، فتختلط أصواتهم فيسمع المقتدي تكبيرة الانتقال من غير إمامه فيسجد وإمامه لا يزال قائماً، حتى جاء مدير للأوقاف نسيت الآن اسمه (ولكن الله لا ينسى له فعله) فوحّد الجماعات وجعل الإمامة كل ليلة لإمام، هذا الذي لا يرضى غيره الإسلام. وأنت إذا دخلت الأموي من بابه الشرقي (وهو أقدم الأبواب) وجدت المحراب المالكي، وهو المحراب الأصلي للمسجد، وكان يُسمّى محراب الصحابة. وكان الجامع قبل أن يوسّعه الوليد بن عبد الملك ويبنيه البناء الذي كان إحدى العجائب في سالف العصور، كان الجامع بمقدار النصف ممّا تراه اليوم ولم يكن له إلاّ هذا المحراب، فلما بناه الوليد زاد المحراب الكبير، وهو إلى جنب المقصورة في نحو منتصف جدار القبلة. وفي سنة 617هـ نُصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي، وقد عارض بعض الناس في نصبه، ولكن ركن الدين المعظّمي ناصَرَ الحنابلة فأقيم، وأمّ الناسَ فيه الموفّقُ ابن قدامة المقدسي مؤلّف المغني والكافي. ثم رُفع في حدود سنة 730هـ وعُوّضوا عنه بالمحراب الغربي جنب باب الزيادة، وهو الباقي إلى اليوم. أما محراب الشافعية فأقيم سنة 728 بأمر تنكز، باني المسجد المعروف في دمشق. فصارت المحاريب أربعة: محراب الخطيب وهو الكبير، وإلى جنبه المنبر وهو للحنفية، ومحراب الشافعية وهو الذي يليه

من جهة الغرب، ومحراب المالكية وهو في أقصى الشرق من جدار القبلة، والحنابلة وهو في أقصى الغرب. وكانوا قبل سنة 694 يُصَلّون الفروض الخمسة في وقت واحد، ثم رُسم للحنابلة أن يصلّوا قبل الإمام الكبير، وفي سنة 819 انتقل الإمام الأول إلى محراب الشافعية، ثم استقرّت الحال على أن أول من يصلّي إمام الكلاّسة، وهي مدرسة شمالي الأموي ملحَقة به، وهي إلى جنب مدفن صلاح الدين الأيوبي، أو لعلّ صلاح الدين دُفن فيها، يعرف ذلك أخونا الدكتور صلاح الدين المنجّد، فهو والشيخ دَهْمان من أعرف أهل دمشق بدمشق. ثم إمام مشهد الحسين، والمشاهد في عرف أهل الشام مساجد صغيرة ملحَقة بالجامع وبابها إليه، وهي جزء منه يضمها سوره. والوضع اليوم على أن يصلي إمام الشافعية أولاً ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي، وتُرِكت الجماعات التي كانت في المشاهد (¬1). وهذا كله مخالف للسنّة ومفرّق للجماعة ومن المحدَثات في الإسلام، والصحيح أن المساجد التي لها إمام راتب لا يجوز أن تتكرّر فيها الجماعات، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، بل إن المحاريب نفسها لم تكن في القرن الأول وهو خير القرون. * * * وإذا أنا خصصت الجامع الأموي بطول الكلام عنه فلأنه ¬

_ (¬1) من مقدمة كتابي «الجامع الأموي». (¬2) انظر: حاشية ابن عابدين، ج1 ص265 وص371 من طبعة بولاق.

أقدم مساجد الإسلام، صارع النار والدمار وثبت على الأعصار والأدهار، تكسّرَت على جدرانه موجات الزمان وهو قائم كما تتكسّر أمواج البحر على أقدام الصخرة الراسية عند الشاطئ. ذهبَت أمية بسلطانها ومالها ولبث وحده يخلّد في الدنيا اسم أميّة، فكان أبقى من كل ما نالت أميّة من مال وسلطان. كان معبداً من أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوام كانوا قبلهم نسي التاريخ خبرهم، ثم صار كنيسة للمسيح، ثم انتهى لمحمد ‘ وعلى أخيه المسيح ابن مريم، عبد الله ورسوله، فبقي لأتباع محمد إلى يوم القيامة. إن ذكرياتي عن رمضان مستقَرّها الجامع الأموي، وأبناؤه وأحفاده: مساجد دمشق. وأين تكون ذكريات رمضان إن لم تكن في المساجد؟ في حلقات العلم والوعظ في المساجد، وفي صفوف المصلّين التي تملأ في رمضان المساجد؟ على أن في المساجد في رمضان ما يأباه الذوق السليم والخلق القويم، هو النوم فيها بين الصلوات. فهل أُنشئت المساجد لترى الناس نائمين فيها مضطجعين بالطول والعرض لا يحترسون من أن يؤذوا الناس؟ أنا لا أنكر أن الاعتكاف عمل مشروع وسنّة متّبَعة، ولكن هذا الذي يصنعه الناس ليس من الاعتكاف المشروع. إن ذكرياتي عن الأموي لا أكاد أحصيها، منها ما له نظير في غيره ومنها ما لا أعرفه إلاّ فيه. فمن أقدم الذكريات التي نُقشت صورتها في نفسي من عهد الصغر ثريّا ضخمة جداً على هيئة قبّة قطرها نحو أربعة أمتار، ليست من البلور (أي الكريستال) ولا من الصفر أو النحاس، ولكنها قضبان متشابكة من الحديد، إذا رأيتها

اليوم رأيت فيها مئات ومئات من المصابيح الكهربائية، وهذه حالها اليوم، أمّا حالها لمّا كنت في الابتدائية قبل خمس وستين سنة فقد كانت شيئاً آخر، شيئاً يوصَف ولا يُرى لأنه فُقد ولم يعُد يوجد. كان مكان المصابيح الكهربائية سرج: كؤوس صغيرة جداً كالتي نشرب فيها الشاي، تُملأ بالزيت ويوضع فيه الفتيل، وهو خيط غليظ من القطن المفتول ولذلك سُمّي بالفتيل، لأن «فَعيل» تأتي بمعنى «فاعل» وبمعنى «مفعول». والصورة الراسخة في الذاكرة هي صورة هذه الثريّا التي تعدل بحجمها قبة مسجد، المربوطة بحبل معلّق ببَكَرة، يُنزِلونها حتى تستقرّ على الأرض بعد أن يبسطوا تحتها بساطاً مشمّعاً لئلاّ يوسخ الزيتُ السجّاد، ثم يلتفّون حولها ويُشعِلون الفتيل في السراج حتى تضيء السرُج كلها، ثم يشدّون الحبل فيرفعونها، فتراها من تحتها والسّرُج ترتجف شعلاتها وتتراقص مثل النجوم المتلألئة في السماء الصافية في الليلة الساكنة. ويستغرق إيقاد هذه السرُج الوقت كله من المغرب إلى العشاء. * * * نشأت في دمشق، وفي دمشق عرفت رمضان وأحببت رمضان. ثم كتب الله لي (أو كتب عليّ) أن أشرّق في الأرض وأغرّب، مشيت إلى أقصى الجنوب الشرقي من آسيا إلى مدينة سورابايا وإلى فولندام في أقصى الشمال من هولندا (¬1) وأن أرى ¬

_ (¬1) كلمة «دام» في أمستردام ونوتردام وغيرهما معناها سدّ. إن هولندا (المعروفة بالأراضي المنخفضة) أرض مسروقة من البحر تختبئ وراء السدود.

رمضان حيثما سرت، لا في سنة واحدة بل في سنوات كثيرات وأزمنة متباعدات. في مصر سنة 1928 وأنا طالب في دار العلوم ومحرّر في «الفتح» وفي «الزهراء»، لمّا كان سكان مصر ثلث سكّانها اليوم وكانت القاهرة بربع حجم القاهرة، لمّا كانت القاهرة عاصمة العرب، شوارعها أنظف الشوارع وميادينها أجمل الميادين ومواصلاتها أسهل وأسرع المواصلات، والجامعة الوحيدة في بلاد العرب كلها كانت فيها (ولم أعدّ جامعتَي بيروت الأميركية واليسوعية لأنهما ليستا لنا)، وكان الأزهر «جامعاً» للطلاّب المسلمين فصار «جامعة» للناس أجمعين، وفيها حديقة الحيوان التي لا تفوقها جمالاً وسعة وعظمة إلاّ ثلاث حدائق في العالم، وفيها وفيها ... فما كتبت اليوم لأعدّ الذي كان فيها. وأن أرى رمضان في العراق لمّا كنت مدرّساً فيه، تنقّلت بين بغداد والبصرة وكركوك، أمضيت في الأعظمية سنة قلّما استراحت روحي مثل راحتها فيها. كنت أدرّس في الثانوية المركزية وأحاضر في دار المعلّمين العليا، وكنت حلقة من النحاس في سلسلةٍ حلقاتها من خالص الذهب: كان سَلَفي الأستاذان أحمد حسن الزيات ومحمد بهجة الأثري، وخلَفي الأستاذ زكي مبارك، هم الذهب وأنا حلقة النحاس. وكنت أدرّس في مدرسة الإمام الأعظم أبي حنيفة الذي تشرّفَت الأعظمية بانتسابها إليه، وكنت أنام في المدرسة وهي متصلة بالمسجد، فكان بين مضجعي المؤقّت في الكلّية ومضجع جسده في مدفنه ثلاثون متراً.

يا سقى الله أيامي في أعظمية بغداد وأهلها! كانوا يقولون لنا: "جايين تقَشْمرونا، تاخدون فلوسنا وتنسونا"، ما قال ذلك خاصّتهم وفضلاؤهم بل بعض العامّة منهم، فها هي ذي سبع وأربعون سنة قد مرّت، فهل رأيتموني يا أهل بغداد قد نسيتكم؟ هل كتب أحد عن بغداد بعد زكي مبارك أكثر ممّا كتبت أنا؟ أوَلَم أؤلّف كتاباً عن بغداد حالت عواصف السياسة وغبار تلك العواصف بينه وبين أهل بغداد، فلم يطّلع عليه إلاّ قليل منهم؟ وما لي بالسياسة من أرب وما كنت من أربابها ولا من أحبابها، ولكن كان ذنبي فيه أني وصفت ما رأيت، فمدحت ناساً صار مديحهم يؤذي من نزل بعدهم منازلهم وحلّ محلّهم. وكذلك الدنيا: مقاعد قطار، يصعد واحد وينزل واحد. ورأيت رمضان في البصرة، ومتّعت البصر بمرأى شطّ العرب وملايين من أشرف العرائس يستحممن في مائه، عرائس النخيل في الأُبُلَّة التي هي اليوم أبو الخصيب. ألم يشهد لهم شيخ المعرّة حين قال: وردنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ ... وزرنا أشرفَ الشجرِ النّخيلا وفي كركوك لمّا كانت قرية أو كالقرية، وكنّا نستضيء في لياليها بشمعات ثلاث لا تنطفئ أبداً، لا في الليل ولا في النهار ولا تحت المطر، ذلك لأننا لم نكُن نعرف أن الغاز الطبيعي له ثمن وأنه يمكن أن يُباع، فكنّا نحرقه لنخلص منه يوم لم يكن قد ظهر النفط في غير العراق. ورأيت رمضان في بيروت سنة 1937 وأنا مدرّس في الكلّية

الشرعية التي غدت اليوم أزهر لبنان، وكان من تلاميذها رجال بلغوا المعالي منهم العالِم المجاهد المفتي الشيخ حسن خالد. ورأيت رمضان في باكستان، وفي الهند، وفي أندونيسيا لما رحلت إليها مع بركة العصر الشيخ أمجد الزهاوي، وقد كتبت عنه بإذنه ورضاه في كتابي «في أندونيسيا»، وكانت رحلة لخدمة فلسطين والتعريف بقضية فلسطين، ما قبضنا فيها مالاً ولا تسلّمنا ممّا جمعوه قرشاً، بل أعطيناهم عنوان المؤتمَر الإسلامي وقلنا لهم: أرسلوا إليهم ما جادت أيديكم به. * * * قطّعت حياتي قِطَعاً وتركت في كلّ من هذه البلاد فلذة منها، لي في كلّ واحدة ذكرى أو ذكريات لو جمعتها ودوّنتها لجاء منها أدب أخلّفه بعدي. ولكن ما جدوى هذا كله وأنا أبقيه هنا: الأدب والشهرة والمجد؟ إن الذي يُجدي عليّ وينفعني هو الذي أحمله للرحلة الطويلة التي لا محيص عنها ولا رجعة منها، فعلامَ الأسى على زهرات لا تعيش إلاّ يوماً واحداَ ثم تذبل وتموت؟ إني أُدوّن هنا ذكرياتي، بل الأقلّ ممّا بقي في ذهني من ذكريات. والفضل فيها بعد الله لولدي الأستاذ زهير الأيوبي و «المسلمون» ثم «الشرق الأوسط»، أما أكثر الذكريات فقد سقط مني في مسالك الحياة أو امتدّت إليه فسرقَته أيدي النسيان. وجدت لرمضان في هذه البلاد كلها حقيقة واحدة ولكن صورها مختلفة، ومن أسرار خلق الله أنه جعل التعدّد في الوحدة والوحدة في التعدّد، فهندسة الوجوه كلها واحدة: عينان تحت حاجبَين وجبين فوق العينَين، وجعل فماً وشفتين، ولكنه لم

يجعل فيها وجهَين متماثلَين، بل إن التوأمَين بينهما -لو دقّقت النظر- فروق، وإلا لما عرفَت زوجةُ أحدهما زوجَها. والأحياء كلها على تعدّد أنواعها تكاد هندسة بنائها تكون واحدة: العمود الفقري وقفص الصدر والأطراف، حتى عدد فقرات العنق في الزرافة وفي الحيوان الذي لا يبدو له رقبة، حتى أعضاء التناسل في الذكر والأنثى هندستها واحدة على تعدّد أنواع الحيوان. أليس في هذا دليل من آلاف الأدلة على أن الصانع واحد؟ لو زرت معرض صور فيه مئات من اللوحات، نوع ورقها وأصباغها وطريقة ضرب الريشة فيها، كل ذلك واحد، ألا تفهم من ذلك أن مصوّرها واحد؟ ثم إن اختلاف صور رمضان في تلك البلدان جاء ممّا ابتدعه الناس وأحدثوه؛ فالدين واحد، والصورة الأصلية صورة مجتمَع الصحابة الذي كان يُشرِف عليه ويهديه سيد البشر محمد ‘، لو بقي المسلمون عليها لما اختلفوا، ولكنهم ابتدعوا بدعاً ألصقوها بالدين، وجاء العلماء فكشفوا تلك البدع. وهذا معنى الحديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدّد لها دينها»، يجدّده كما يغسل المرء ثوبه من الأوساخ فيعود جديداً كيوم اشتراه، التجديد المراد هو هذا لا أن يأتي بدين جديد غير ما جاء به رسول الله. * * * وكان أصعب رمضان مرّ عليّ هو الذي قضيته في جاكرتا، أنزل وحدي في فندق من أعظم ما رأيت من الفنادق، لي وحدي

جناح أكبر من بيتي في الشام، ولكني كنت فيه في سجن، كان حاشرة (زنزانة) ولكنها واسعة، أرى بعيني ولا أتكلم بفمي، أبصر (¬1) من حولي الهولنديين (من بقي منهم سنة 1954) أبصرهم مع أسرهم وأولادهم وبيني وبين أولادي ربع محيط الأرض. وجاء العيد، والناس يفرحون بالعيد وأنا أنشد مع المتنبي ما قال في العيد، وخرجت إلى ساحة مرديكا (ومعناها ساحة الاستقلال، وكان اسمها قبل الاستقلال ساحة كامبير) وبنفسي من الضيق ما لو وُزّع على ذلك الحشد الذي لا يُحصي أفرادَه عدٌّ لغَمّهم كلهم، الألعاب والباعة والأطفال، دنيا من الناس يموج بعضهم في بعض، وأنا في دنيا من هَمّي وغَمّي وضيق صدري، لا أجد من أكلّمه أو أفهم عنه أو يفهم عني. وما العيد إن لم يكن معه الأنس ببلدك وأهلك وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن فيه للنفس متعة وللقلب اطمئنان؟ إنه لا يبقى منه إلاّ رقم على صفحة التقويم. وجدت ساحة كامبير كأن قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة في ليلة واحدة، لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت؛ كان نساء جاوة الحلوات (غير الجميلات) يختَلْنَ في الثياب العجيبة الملوّنة بمثل ألوان زهر الروض، وكان لهن أفانين من التسليات والألاعيب، ولكني كنت عن ذلك كله في غفلة. كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد، بعيد في المكان والزمان، إنه يهيم في أودية الماضي يسرح في تلك السفوح الحبيبة من قاسيون ... ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر الحلقة من مقالة «صورة من الطريق» المنشورة في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

حتى بلغت حديقة لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء لما يبدو عليهم من آثار السرف والترف، وكان على باب الحديقة عجوز قد أمال ظهرَها ثقلُ ما حملت من كثرة السنين، وفي يدها طفلة كأنها الفلة المتفتحة جمالاً وطهراً في ثياب قديمة لكنها نظيفة، وكانت تنظر إلى هذا العالَم كأنه غريب عنها. وكان الأولاد يشترون أكف «الشوكلاطة» من بياع هناك، وكانت تنظر إليهم وهم يقشرون أوراقها ويأكلونها بعيون يلمع فيها بريق الرغبة المحرقِة يعقبها خمود اليأس المرير، ثم غلبها الطمع فلكزت خصر جدتها العجوز بمرفقها، حتى إذا التفتَت إليها أشارت بغمزة من عينها وحركة سريعة من يدها إلى الشوكلاطة، فتبسّمَت الجدةّ بعينيها ولكنّ مقلتيها كانتا تبكيان بلا دموع، وقلّبَت كفّيها إشارة العجز والفقر. فاشتريت لها أكبر كفّ من الشوكلاطة وذهبت فدفعته إليها، فنظرَت إليّ نظرة المشدوه، ثم نظرَت إلى جدتها كأنها تستنجد بها تسألها، فأشرق وجه العجوز بابتسامة كأنها إطلالة الشمس في يوم كثيف الغمام، وقالت بلسانها كلاماً لم أفهم منه إلاّ «تريما كاسي» (أي شكراً) «بنجاوم عمر» (أي الله يطول عمرك). وأسرعت البنت تجرّ جدّتها تُسرع بها، كأنها قطة أعطيتها قطعة لحم فهي تسرع بها كأنما تخاف أن أندم فألحقها لأستردّها منها. لم أخسر أكثر من أجرة سيارة أركبها في نزهة أريدها، ولكني ربحت من اللذّة ما لا أجده في مئة نزهة. أحسست أن ما كان في قلبي من الضيق قد انفرج، وما كنت فيه من الكرب قد زال، وأنه رُفع المنظار الأسود عن عيني فرأيت بهاء الكون

وبياض النهار، ووجدت العيد. فيا أيها القرّاء، ليست السعادة بالأموال ولا بالقصور ولا بالخدم ولا بالحشم، ولكن بسعادة القلب. وإنّ أقرب طريق إلى سعادة القلب أن تُدخِل السعادة على قلوب الناس، وإنّ أكبر اللّذّات هي لذّة الإحسان. فمن أراد منكم أن يجد العيد فلن يجده في سفره إلى لندن ولا باريس ولابانكوك ولا نيس، بل يجده على وجوه من يُوليهم الإحسان. * * *

رحلة الحجاز (6) جدة قبل نصف قرن

-78 - رحلة الحجاز (6) جدّة قبل نصف قرن أعود إلى الحديث عن ذكريات رحلة الحجاز. أكتب هذه الحلقة في جدّة، جدّة التي يقطع الماشي اليوم من شرقيها على طريق مكّة إلى شماليها على طريق المدينة أكثر من ثلاثين كيلاً، يمشي في غابة من العمارات الفخمة، في شبكة من الشوارع المعبّدة. هل هذه هي جدّة التي أكتب ذكرياتي عنها؟ إن جدّة الماضية ليست إلاّ «ذكرى» في ذهن جدّة الحاضرة، وجدة الحاضرة ما هي إلاّ «أمل» عند جدّة الماضية. بل لم يكن أحدٌ في جدّة يأمل أو يتصور أنه يمكن أن يصير طول جدّة ثلاثين كيلاً، ولو خبّرته بأن ذلك سيكون لعدّك أحد المجانين. إن الذي تحقّق في جدّة وفي مكّة وفي الرياض وفي مدينة الرسول ‘، بل في أصغر القرى الضائعة بين صخور جبال السَّرَاة وفي أوديتها، ما تحقّق يتعدى حدود الخيال. فهل سمعتم بحقيقة

سبقت شطحات الخيال؟ هذا ما وقع في المملكة في خمسين سنة، من زيارتي الأولى سنة 1353هـ إلى الآن. إن قطار الحضارة والفكر يجري دائماً إلى الأمام، يسيّره في كلّ مرحلة قائد من إحدى الأمم. ولقد مرّ يومٌ كنّا فيه أصحاب هذا القطار، وقدناه في الليالي السود حيث لا يدلّنا على الطريق صُوىً (¬1) منصوبة ولا مصابيح، حتى إذا بلغنا به المحطّة الآمنة جلسنا نستريح فنمنا. وجاء من زاد القطارَ قوّة في محرّكه وسرعة في سيره، وقاده من دوننا ونحن نيام، حتى بدأنا نستيقظ. وكانت يقظتنا الروحية على دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب والمادية على صوت مدافع نابليون؛ أفاقت مصر ثم أفاقت الشام على وقع أقدام المستعمرين، ما جاؤوا حباً بنا ولكن طمعاً فينا، فعلمنا بهذه الحضارة الجديدة وجعلنا نأخذ منها، من خيرها ومن شرّها، يمرّ القطار على بلادنا بلد بعد بلد يوقظ بضجيجه من بقي نائماً. فكان آخر من استيقظ هذه الجزيرة، جزيرة العرب التي كانت قديماً أول من أفاق، ومنها خرجَت الشعوب التي حملت مشاعل الحضارات الأولى فسارت إلى وادي النيل ووادي الرافدَين وإلى سواحل ¬

_ (¬1) قال علي الطنطاوي -في غير هذا الموضع- إن الاسم العربي الفصيح لما يضعونه على الطرق من علامات يستدلّ بها المسافر في سفره هو «الصُّوى». وفي المعجم: "الصُّوَّة هي ما نُصب من الحجارة ليُستدَلّ به على الطريق، جمعه صُوى". وفي الحديث: «إن للدين صُوىً ومَناراً كمَنار الطريق» (مجاهد).

الشام، والتي سطعت منها بعد ذلك الشمس التي طمست بنورها الوهّاج أضواء تلك المشاعل؛ شمسُ الإسلام. كانت الجزيرة عند زيارتي التي أكتب عنها لا تزال نائمة، مرّ بها هذا القطار فلم يقف هو عليها ولم تشعر هي به. أفاقت متأخرة فرأت أن من ركب القطار قد مضى، فهل تبقى مكانها لأن القطار قد فاتها؟ فأين -إذن- هِمَم الرجال وأين ما يفعل المال؟ وأين إرث الحضارة في دمها وسموّ الإسلام في روحها؟ ومتى كان المسلم يرضى بالدنيّة ويقبل من المعالي بأن يسكن السفحَ والناسُ يتسابقون إلى الذُّرى؟ لذلك ركبَت سيارة السباق ولحقت القطار، فإذا هي إلى جنب مَن أسرع إلى ركوبه. بدأَت متأخرة ولكنها جاءت سابقة، فالبلاد التي عرفتُها في رحلتي الأولى (التي أتكلم عنها) ولم يكن فيها سبع مدارس ابتدائية رسمية صار فيها سبع جامعات، ولم يكن فيها واحد يحمل (فيما أعلم) شهادة جامعية صار الدكاترة فيها يُتعبون العادّين والمُحْصِين، والتي لم يكن فيها مستشفى واحد يمكن أن يُقال له مستشفى صار فيها عشرات من المستشفيات التي تزاحم بمناكبها في حلبة السباق أفاضل مستشفيات العالم، ولم يكن فيها قبل خمسين سنة لمّا زرتها مدرسة للبنات فصارت فيها مدارس البنات بالمئات. والمملكة العربية السعودية التي كانت (لولا عبقرية منشئها وشخصيته) خفيفة الوزن في ميزان الدول صارت من أثقلها وأعلاها صوتاً وأرجحها رأياً، وصارت مثابة لعظماء الأمم من

الشرق ومن الغرب؛ كل يزورها ليتلقّى (كما قال نيكسون هنا في كلمة له عرضها الرائي) يتلقّى الحكمة ويتلقّى المال: إما ريالات ودولارات وإما ذهباً أسود اسمه النفط، فكانت كما قال الأول: نَشُدُّ أحمالَنا إلى ملِكٍ ... نأخُذُ مِن مالِهِ ومِن أدَبِهْ لقد وضع عبد العزيز الأساس وأرسى الدعائم، وجاء أولاده يُعلّون الجدران ويقوّون الأركان ويجمّلون البنيان، مهتدين -إن شاء الله- بهدى القرآن. * * * أعود إلى الحديث عن جدّة وحولي ثمانية من الأطفال: سبعة صبيان وطفلة واحدة، أمهاتهم أربع من حفيداتي وآباؤهم اثنان من أحفادي (أو أسباطي) واثنان ليسا من ذرّيتي ولكن لهما مثل ما لهم من محبّتي؛ أنظر إلى الوليد نظرة وإلى أبيه نظرة: إني لأذكر تماماً الأب الطبيب وأخاه المهندس وهم أطفال كهؤلاء، كأني أنظر إليهم، ألمسهم، أضعهم في حِجْري، يوقظني من نومي بكاؤهم ويسعدني لعبهم وصخبهم، فكيف أتصوّر أن هذا الطبيب أو هذا المهندس بطوله وعرضه وشاربه ولحيته هو ذلك الطفل؟ هذا مثال جدّة اليوم وجدة الأمس. هل تريدون -يا أيها الشباب- أن تروا جدّة كما رأيتها أول مرّة؟ هل تعرفون باب مكّة؟ لا أريد الحيّ كله بل الباب الذي

كان. إنه ضاع بين العمارات فاسألوا الشيوخ عنه (¬1)، وتصوّروه باباً حقيقياً يُفتح نهاراً ويُغلق ليلاً، وباب شريف والباب الجديد وإلى جنبه أو بالقرب منه الكنداسة (الكوندانسيه)، ثم صِلوا بين الأبواب بسور بجدار متصل: هذه جدّة كلها. وكان موضع وزارة الخارجية -كما يُخيّل لي الآن- تلاًّ يقتعد الناس جوانبه عند كل عشيّة، وليس بعده شيء من العمارات إلاّ طائفة من البيوت القديمة على ساحل البحر. وكانت الرُّوَيْس قرية، ولست واثقاً من هذا الذي أقول فالصورة قد بهتت لطول العهد بها، خمسون سنة ليست شهوراً معدودات، ثم إني لم أُقِم يومئذ في جدّة إلاّ أياماً قضيناها في دار الشيخ محمد نصيف (الأفندي نصيف) رحمه الله. عرفته من تلك الأيام، ثم اتصل الودّ بيننا وتوثّقَت المعرفة حتى صارت صداقة على بُعد ما بيني وبينه في السنّ وفي المنزلة، وفي نبيل الخلال وفي كريم الفعال. لقد كتبت عنه يومئذ فقلت: إن من زار جدّة ولم يزُر الشيخ نصيف فما زارها، سرقت المعنى من قول ذي الرِّمّة: ¬

_ (¬1) أعادوا بناء أبواب جدة غيرَ بعيد من صدور هذه المقالة، فأنشؤوا في موضع كل باب باباً جديداً بهيئته القديمة التي كان عليها (أو قريباً من هيئته القديمة، فما كنت يوم كانت الأبواب القديمة لأجزم بذلك، إلا أنهم جعلوها أقواساً لا أبواب تُفتَح وتُغلَق فيها)، فمَن ذهب اليوم إلى موضع باب مكة وجد الباب هناك، وكذلك باب شريف وسائر الأبواب. وفي أول الحلقة الثمانين من هذه الذكريات إشارة إلى هذا الأمر (مجاهد).

تمامُ الحَجِّ أن تقفَ المطايا ... على خَرقاءَ واضعةِ اللّثام لقد كانت داره أكبر (أو من أكبر) الدور في جدّة، وكان هو أوجه (أو من أوجه) أهلها. كان من يقصد جدّة من كبار الناس ينزل في داره حين لم يكن في جدّة فندق ولا دار ضيافة، كانت دار الضيافة داره ودور أمثاله، حتى الملك عبدالعزيز رحمه الله لمّا دخل جدّة من نحو ستين سنة نزل فيها، فماذا تقولون في دار تصلح لنزول ملك؟ وبناء هذه الدار له قصة سمعتها منه، ولم أحفظها كاملة لأرويها. ممّا أذكره أنه كلّما فرغت طائفة من البنّائين من عملها (الذين يقيمون الجدران ثم الذين يصلحونها ويصقلونها ثم النجّارون، ولست أعرف الطوائف كلها لأعدّها)، كلّما فرغت طائفة قال جده لكبيرها: ادعُ من شئت من زملاء صنعتك وأهل حرفتك من جدّة ومن مكّة، فيدعوهم ليريهم عمله، ويكون الشيخ قد أعدّ لهم وليمة ضخمة ووزّع عليهم هدايا مناسبة. وكان من تمام البراعة في بناء هذه الدار أني كنت أدخل غرفة الشيخ فينظر في مهبّ النسيم ويقول: يا ولد، افتح هذا الشبّاك وأغلق هذا الشبّاك ... فلا يزال النسيم رخيّاً في الغرفة والهواء جارياً من غير مروحة. وأحسب هذا من العلم الذي عرفه المسلمون من القديم، فإني لمّا زرت قصر المتوكّل، القصر الجعفري في «سُرّ مَن رأى» سنة 1936، وكنّا نشكو الحرّ وتنضح أجسادنا بالعرق وتضيق أنفاسنا من وهج الصيف كأننا ننظر في تنّور، دخلنا القسم الصيفي، أعني أنقاضه الباقية، فوجدنا النسيم

عليلاً والهواء متحركاً ينعش النفوس لأنه مبني بناء لا ينقطع فيه جريان الهواء. اعذروني إن أطلت الكلام عن الشيخ محمد نصيف، فلقد كنت أحبّه وكنت أُجِلّه، ولمّا مات حزنت عليه مثل حزني على أجلّ أساتذتي وأكرم أصحابي. عرفته من سنة 1353هـ واتّصل حبلي بحبله حتى توفّاه الله؛ إن قَدِمتُ جدّة فإن أول مكان أقصده بيت الشيخ نصيف، وأنا لا أجيب دعوة ولا أكاد آكل عند أحد، وكنت عنده آكل وأشرب وأنام إن شئت أن أنام. ولقد كان طرازاً وحده، كان رجلاً لا أكاد أعرف له من الرجال نظيراً فيما جمع من المزايا: كان تاريخاً ناطقاً، كان قاموساً للرجال، كانت عنده معلومات لم أجدها بعده في كتاب ولم أجد مثلها عند أحد. كانت في داره مكتبة من أكبر ما عرفت من المكتبات الخاصّة. ما كنت أزوره مرّة إلاّ وجدت عنده بعض أهل الفضل من المملكة ومن مصر ومن الشام ومن العراق ومن المغرب أدناه وأقصاه، كان له في كلّ بلد إخوان وأصدقاء، كانت داره فندقاً ولكنه أرخص الفنادق، لأن الأكل فيه والنوم بلا شيء، غرف النوم مُعَدّة ما عليها قفل ولا لها أبواب، والمائدة عامرة من شاء حضر الغداء، ولا يُسأل طاعم عن اسمه. كنت كلّما قَدِمت جدّة زرته، لمّا كنت أقدم من الشام قبل أن أقيم في المملكة ولمّا كنت أقدم من مكّة بعدما أقمت فيها. وجدت مرّة عنده رجلاً على الغداء، فلما عُدت بعد أسبوعين وجدتُه، ووجدته بعد شهر، فقلت: من هذا الذي أراه نازلاً عندك؟ فقال: رجل طيّب عرفته في بعض أسفاري إلى لبنان يبدو أن له أعمالاً هنا، لا أعرف اسمه.

ذكّرَتني هذه الحادثة بأخرى تشبهها ولو من بعيد: بعثتني وزارة العدل في الشام في مهمة قانونية إلى مصر أنا وزميلي في القضاء، رفيق السفر والحضَر الأستاذ نهاد القاسم رحمه الله، الذي صار وزير العدل في القاهرة أيام الوحدة. فلما قابلنا وزير العدل هناك (وكان خشبة باشا) كان أول ما قاله بعد السلام أنْ سألَنا عن رجل من الشام اسمه الشيخ أبو الخير الفرّا (أي الفرّاء)، فخبّرناه خبره وعجبنا من سؤاله عنه. ورأى العجب على وجوهنا فقال: أنا أخبركم بسبب سؤالي عنه. قدمت دمشق في العشرينيات من هذا القرن، فنزلت فندقاً في المرجة. فلما جلتُ في البلد وصعدت إلى «المهاجرين» على سفح قاسيون رأيت داراً مفتوحاً بابها وأمامه رجل على كرسي، فأعجبني المكان ومنظر البلد والغوطة من حولها يبدو واضحاً (¬1)، وسألت الرجل: أليس ها هنا فندق أنزل فيه أياماً؟ قال: نعم، تفضّل. ودخلت فأعطاني غرفة ما ارتضيتها، فقلت: أريد خيراً منها. فأعطاني غيرها فرضيتها، وسألت عن الطعام فقال: أطلب كل يوم ما تريده. فنزلت عنده، وجعلت أطلب الطعام والشاي وأكلّف الخادم بكل ما أشتهيه فيأتي به. استطبت المقام فأطلت المدّة، حتى إذا انقضى أسبوعان وعزمت على الرحيل فقلت له: أنا راحل غداً. قال: بسلامة الله. قلت: فأين قائمة الحساب؟ فضحك وقال: حساب إيش؟ هل تحسبه فندقاً؟ إنه بيتي وأنت ضيفي! * * * ¬

_ (¬1) لم يكن وأنا صغير شيء من البنيان تحت الجادة التي يمشي فيها الترام.

أعود إلى الشيخ محمد نصيف. لقد دامت صلتي به نحو نصف قرن، وكنت كلما ازددت به معرفة أزداد له محبّة واحتراماً. ووثّق عُرى هذه الصلة أنه كان صديق شيخنا محمد بهجة البيطار وشيخه الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، وصديق خالي محبّ الدين الخطيب. إن سيرة الشيخ نصيف تاريخ لهذا البلد ولوحة تعرض بعض مكارمه ونموذج لحياة رجال فقدناهم ولم نجد بعدهم أمثالهم، فأين أحفاده يكتبون سيرته، وهم جميعاً من صدور المثقفين والمتعلمين؟ وحسبكم أن منهم مدير الجامعة، وأخته عميدة الطالبات، وأخاه الذي يصفّي لنا ماء البحر فيجعله بإذن الله عذباً فُراتاً بعد أن كان مِلحاً أُجَاجاً (¬1)، وكلهم دكاترة لهم أذهان ولهم أقلام، فما لهم يقعدون عن أداء الواجب عليهم؟ وأنسباء الشيخ من آل جمجوم، وما أكثر الأفاضل والأماثل فيهم، وغيرهم ممّن عرف الشيخ. لا أريد أن يكتب سيرته من أجله هو، فهو في مكان ¬

_ (¬1) مدير الجامعة هو عبد الله نصيف، كان وكيلها لمّا جئتها أنا طالباً في كلية الهندسة في أول سنة 1977، ثم صار مديرَها وبقي سنوات كذلك، ثم انتقل مديراً لرابطة العالم الإسلامي ثم تنقّل في سواها من الوظائف العالية، وحيثما حلّ كانت له يدٌ في الخير والإصلاح. وأخته فاطمة نصيف التي كانت عميدة قسم الطالبات في جامعة الملك عبد العزيز، أي مديرة جامعة الطالبات، وهي من أخلص وأنشط الداعيات إلى الله، لها من الأثر ما أورثها حسنَ الذكر بين الناس وما يُرجى لها به الأجر من رب الناس. والأخير هو عبد العزيز نصيف مدير تحلية المياه في جدة (مجاهد).

لا يصل إليه من أمجاد هذه الدنيا ومن زينتها ومن زخرفها شيء، ولَدعوةٌ له صادقة من قلب مؤمن أو ريال يُتصدَّق به عن روحه خيرٌ من مئة كتاب، ولكنْ تُكتَب سيرته مفصَّلة لتكون نبراس هدى للناشئة وقدوة لهم صالحة وصفحة عطرة زاهية من تاريخ المَكرُمات (¬1). ورجل آخر لا أزال متألماً لأن الناس لم يعرفوا له حقّه ولأن هذا البلد لم يُعطِه بمقدار ما أخذ منه، رجل لم ألقَه إلاّ في زيارات معدودة في أيام معدودة في بومباي في الهند سنة 1954، ولكني لقيت ثمرات ما زرع؛ هو أبو التعليم في الحجاز الشيخ محمد علي زينل منشئ مدارس الفلاح. وقد قرأت في الصحف أن الرجل الفاضل الذي خدم البلاد بماله وبفكره، الذي افتقدناه من قريب، الشيخ إبراهيم الجفالي قد اشترى أرض «ملعب إسلام» في «البيبان» ووقفها على مدرسة الفلاح، فلماذا لا ينشط أخواه (وهما خليفتاه في عمل الخير) وأصدقاؤه ومن يريد للناس الخير ومن يرجو من الله الثواب، فيقيموا على هذه الأرض مدرسة جديدة ومُنشَأة خيرية تُعين الفقراء من طُلاّبها ومن غيرهم، ¬

_ (¬1) بعد نشر هذه الحلقة من الذكريات ببضع سنين نُشر كتاب «محمد نصيف: حياته وآثاره»، ألّفه محمد أحمد سيد أحمد وعبده أحمد العلوي، وقدم له طائفة من العلماء والأعلام من عارفي الشيخ وأصدقائه ومحبّيه. وكان فيمَن قدّم لهذا الكتاب علي الطنطاوي في فصل طويل أفاض فيه عن الشيخ وأجاد، فمَن شاء أن يقرأه فهو في كتاب «مقدمات علي الطنطاوي» الذي جمعه وأعده للنشر الأخ الصديق مجد مكي (مجاهد).

وتُسمّى «مبَرّة الفلاح» صدقة على روح إبراهيم الجفالي؟ * * * لمّا انقضت أيامنا في جدّة وعزمنا على التوجه إلى البلد الأمين ودّعْنا الشيخ ومشينا إلى باب مكّة بسياراتنا. وكان وصولنا إلى الباب في المساء، فسألَنا الجندُ ونظروا في أوراقنا وفتحوا لنا الباب، وخرجنا من باب مكّة. لم نرَ السوق الذي ترونه الآن ولا مررنا بوزارة الإعلام، ولا سلكنا هذه الشوارع، كل ذلك لم يكن؛ خرجنا من باب مكّة إلى أرض خلاء ما فيها بنيان قائم ولا طريق مشقوق، صحراء كالتي كنّا نمشي فيها قبل أن نصل جدّة، أذكر أن في مواضع منها «مشروع» طريق. حتى إذا وصلنا «بَحْرَة» (¬1) تشهّدنا وألقينا بأنفسنا على المقاعد الطويلة المصنوعة من القشّ المَضْفور، وهي لا تريح بل تكسر الظهر، وكانوا يسمّونها «الشايخانات» (الخانة أي المنزل) فهي محطّة لشرب الشاي. وليس البلاء فيما قبل بحرة بل فيما بعدها، في الشُّمَيْسي وبعد الشميسي بقليل. إنكم تمرّون بها الآن بسياراتكم المكيّفة المريحة المسرعة (على الطريق القديم) فلا تلتفتون إلى تلال واطئة من الرمل الناعم المتموّج، أو تنتبهون إليها للإعجاب ¬

_ (¬1) قرية في منتصف الطريق بين مكة وجدة، قريبة من «وادي فاطمة» (الذي كان يُسمّى قديماً «مَرّ الظّهران»)، كانت في وسط الطريق القديم بين مكة وجدة، فلما أنشؤوا الطريق الجديد صار يمرّ بحذائها ولا يمرّ بها (مجاهد).

بمنظرها وبنعومتها وبأنها تشبه أمواج البحر إذا تجمّدَت. كان علينا أن نسير بسياراتنا فوق هذه التلال، فجرّبوا أن تسيروا فوقها عشرين متراً. إن الأقدام لاتثبت عليها، فكيف بدواليب سيارات عاديّة من طراز 1934 مع ثقلها؟ هل تصدّقون أننا قطعنا على الطريق من جدّة إلى مكّة اثنتي عشرة ساعة؟ هل تصدّقون أنه قد خرج معنا أناس يركبون الحمير، فسبقت السيارةُ الحمارةَ بساعة واحدة فقط؟! تقولون: لقد تركناك في تبوك، فكيف وصلت إلى جدّة؟ وما لك لا تقصّ علينا نبأ السفر من تبوك إلى جدّة؟ والجواب في الحلقة القادمة إن شاء الله. * * *

رحلة الحجاز (7) مكة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز

-79 - رحلة الحجاز (7) مكّة المكرمة ولقاء الملك عبد العزيز وَعَدت أن أجعل هذه الحلقة في وصف الطريق من تبوك إلى جدّة. ويا له من طريق! ويا ما قاسينا فيه وما حملنا من مصاعب وما تجرّعنا من غُصَص! إنه حديث طويل إذا قرأه اليوم مَن يخرج بسيارته من تبوك فيصل جدّة بعد تسع ساعات يحسب أني أتلو عليه الأساطير أو أتخيّل الغرائب. إنه حديث مشوّق، ولكن كيف أسوقه إليكم وأنا واقف على أبواب مكّة؟ أتريدون أن أبلغ مكّة ولا أدخلها؟ وكل مسلم يتوجّه في صلاته إليها يتمنّى زيارتها ويحلم برؤيتها (¬1). ¬

_ (¬1) استطرد الشيخ في هذه الحلقة والحلقات الآتيات في أحاديث شتى فلم يعد قطّ إلى وصف طريق الرحلة من تبوك إلى جدة، ولا هو تحدث عن رحلة العودة كذلك. فمن أحب أن يقرأ هذا كله فليقرأه في الكتاب الآخر: «من نفحات الحرم»، في الفصول الأخيرة من الكتاب: «في طريق المدينة»، «المدينة»، «من المدينة إلى تبوك» (مجاهد).

ولكن مكّة التي بلغتها يومئذ ليست مكّة التي أقيم فيها الآن، فهل أستطيع وأنا في سنة 1403 أن أعرض عليكم صورة مكّة التي عرفتها سنة 1353؟ هل أقدر أن أحدّد معالمها، وقد طال العهد بها ومحت الأيامُ ذكراها؟ إنها خمسون سنة -يا سادة- طمست كثيراً من هذه المعالم في ذهني، بدّلت خطوط الصورة ورسمت في مكانها خطوطاً جديدة، فلم يبقَ من القديمة إلاّ بقع صغيرة بهتت ألوانها من كرّ الليالي ومرّ السنين. فهل تقنعون مني بعرض هذه البقع الباقية من الصورة إن لم أستطع عرض اللوحة كلها؟ وأنتم -يا أهل مكّة- أدرى بشعابها وأعرف بما كانت عليه وما صارت إليه، وفيكم أدباء في مثل سنّي ولهم أذهان أحدّ من ذهني وأقلام أمضى من قلمي، منهم مَن عرفت في تلك الزَّورة الأولى كالأستاذ محمد سعيد العامودي مدّ الله في عمره، فهم أولى بالكتابة مني. وما أعرفه عن مكّة من خمسين سنة مهما كثر لا يبلغ الأقلّ الأقلّ ممّا يعرفون؛ فهم أهل البلد وأنا عابر سبيل رأى شيئاً وغابت عنه أشياء. زرت مكّة ورجعت إلى بلدي، ثم زرتها مرّات ورجعت، ثم شرّفني الله وأكرمني بالإقامة فيها من عشرين سنة، فجئت هذه المرّة ولم أرجع لأنه قد حيل بيني وبين الرجوع، والله هو المستعان، أسأله وحده أن يكتب لي رؤية بلدي قبل الممات. وما بلدي بأفضل من مكّة أو المدينة، أستغفر الله، ما أؤثره ولا يؤثره مسلم عليهما، ولكن حُبّب إلى كل امرئ بلده: وحَبّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ ... مآرِبُ قضّاها الشبابُ هنالكا

على أني إذا رجعت أخاف أن أندم لأني لن أجد إخواني ولا أقراني، إنهم سبقوني إلى الغاية التي تدنيني الأيام منها. وما نفع الأوطان وقد خَلَت من الإخوان وبدّلها صَرْفُ الزمان وتتابُع الحَدَثان؟ هل أقوم فيها إلاّ مقام الشاعر الذي يخاطب الأطلال يسائلها عمّن مضى من الأحباب؟ ينادي فلا يسمع إلاّ صدى النداء: ناديتُ: أينَ أحبّتي ... فأُجِبتُ: أينَ أحبّتي * * * كان أول ما رأيت من مكّة بقايا «البيبان» (أي الأبواب)، ثم الثكنة (القشلة)، كانت هي نهاية البلدة للخارج منها وأولها للقادم عليها، ما كانت «الزاهر» ولا «الزهراء»، ولا كان شيء من هذه الأحياء، كانت كلها أرضاً خلاء، ثم تمرّ في طرق ملتوية حتى تصل إلى الحرم، ما كان شارع المنصور ولا شارع الستين ولا شارع الحفاير. وكانت مكّة تنتهي من الجهة الأخرى عند مسجد الجنّ عند عمارة البريد، وكانت صخرة «كُداء» المطلة على مقبرة «المُعَلّى» قائمة كاملة ما قُطعت ليمرّ فيها شارع الحُجون إلى العُتَيْبَة، ولا كانت العتيبة. ما بعد عمارة البريد، أعني موضعها لا ذاتها، إلاّ مقاهٍ بلدية، ثم بيت السقاف الذي شَرُفنا فيه بمقابلة الملك عبد العزيز رحمه الله. أما الجامعة وحيّ العزيزية وما قام الآن بعده من أحياء فلم يكن منها شيء إلاّ «حَوْض البَقَر»، وهو حوض يسيل إليه الماء من قناة العين على يسار الخارج من مكّة على سفح الجبل،

وكان ماؤها سبيلاً يسقي منه الرعاة مواشيهم. هذه هي مكّة كلها. كان الحرم كما كان المسجد النبوي، وكما كان (ولا يزال) الجامع الأموي، محجوباً بالبيوت تستره وتحيط به، فمَن أراد أن يخرج من أحد الأبواب ليدخل من الآخر، لفّ ودار ومشى في حارات، إلاّ «باب أجْياد» فكان أمامه شارع لعله كان يومئذ أكبر شوارع مكّة (مع أن عرضه لا يتجاوز ستة أمتار كما أذكر)، وكان يقابله بناء صغير من طبقتين له باب عريض إلى جانبَيه نافذتان وفي الطبقة الثانية مثل ذلك، تمتدّ أمامها شرفة (بلكون) وكان هذا مركز الشرطة، فإن استقبلتَه ومشيت إلى اليسار مررت بأسواق وشوارع صغيرة قليلة تشقّ الأسواق، حتى تصل إلى صخرات ظاهرة هُنّ أصل جبل، فوقها قوس عريض، هذه «المَرْوَة»، يقابلها من جهة الحرم صخرات مثلها، هذا «الصَّفَا». وكانا جبلَين صغيرَين أكلهما الناس، والناس يأكلون كل شيء، حتى الصخر قطّعوه وجعلوه حجارة بنوا بها مساكنهم! وبين الصفا والمروة كان «المَسعى»، تختلط فيه جماعات الحُجّاج والمعتمرين بالسائرين وبالبائعين والشارين، وكانوا يسعون في وَقْدة الحرّ تحت الشمس فبنى لهم الملك عبد العزيز مظلة تظلّل الطريق قائمة من الجانبَين على أعمدة من الحديد. وأصررنا على أن ندخل الحرم من باب السلام، فدارت بنا السيارات في الطريق حتى بلغناه، وأذكر أنه كان إلى جنبه حنفيّات للوضوء أو ما يشبه هذا. ألم أقل لكم إنه لم يبقَ في ذهني إلاّ بقايا من الصورة؟

وإذا شئتم أن تتصوروا كيف كان الحرم فخذوا البناء القديم، وهو باقٍ ظاهر. وكان المطاف حول الكعبة ضيّقاً تُحيط به أعمدة من المعدن تدور من حوله، وكان أمام باب الكعبة مقام إبراهيم وكان بناء صغيراً، والمنبر، وباب بني شَيبة (قوس قائمة وسط الحرم) إلى جنبه بناء زمزم، وأظنّ أنّ المؤذّنين كانوا يقومون فيه للتبليغ. وحول الكعبة مقامات أئمة المذاهب الأربعة، لا أذكر منها إلاّ مقام الحنفية وكان مقابل ميزاب الرحمة، كنت أصعد إلى طبقته الثانية فأصلّي بجوار المؤذّنين وأرى الكعبة وأشاهد المصلّين والطائفين. وكانت عند أبواب الحرم مدارس أو مساجد صغيرة يصلّي الناس فيها، وفي الجهة الشمالية المحكمة، ولم أعُد أدري أين كانت. قابلت فيها الرجل الذي أكبرتُه لفضله وعلمه وما سمعت عن عدله وصلابته في الحقّ، وكان له في الناس ذكرٌ حسن، هو الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وكان رئيس القضاة، وهو والد الوزير العالِم الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ. وصرت أتردّد عليه مدّة إقامتي في مكّة، أجلس إليه وأستفيد منه. وكان عند باب السلام مكتبات كثيرة اجتمعتُ فيها بطائفة من أفاضل العلماء والأدباء، منهم من لا يزال الودّ متصلاً بيني وبينه من تلك الأيام كالشيخ محمد سعيد العامودي، ومنهم من ذهب إلى رحمة الله كالأستاذ محمد حسن عوّاد، وأهدى إليّ كتابا صغيراً كان اسمه -على ما أذكر- «خواطر مصرحة» وأهديت إليه كتاب «أبو بكر الصديق» و «التحليل الأدبي» و «بشار ابن برد»، وكل ذلك من بواكير الشباب مني ومنه. ومنهم من

توثّقَت صلتي به حتى أُولعَ بي وصار يراسلني، كالأستاذ عبد الله المزروع وهاشم الزواوي. ولمّا عدت واستقررت في مكّة كنت ألقى المزروع قليلاً، أما الزواوي فما لقيته إلاّ مرّة واحدة مصادفة على باب الحرم. وعلى ذكر الأستاذ المزروع أقول: إني أعرف أن عنده دفتراً، إذا كان باقياً واشتراه أحد الناشرين بوزنه ذهباً لما كان مغبوناً، لأنه طفق على مدى عشرات من السنين كلّما ورد زائر له اسم وله شأن من رجال العلم والأدب والسياسة استكتبه كلمات يكتبها بخطّه في هذا الدفتر، فاجتمع فيه من خطوطهم ومن آرائهم ومن أساليب كتابتهم ومن ملاحظاتهم ما لا يوجد مجتمعاً -فيما أعلم- في كتاب آخر. والرأي أن يُطبَع طبعاً مصوَّراً، ويُعرَّف بكل من ورد اسمه فيه ويترجَم له ترجمة مختصَرة، أو يتولّى ذلك نادي مكّة الأدبي. على أن يكون لبنات المؤلّف مكافأة مالية، أو تشتريه من الورثة إحدى الجامعات وتحفظه حتى يأتي مَن يطبعه. وأرجو ألاّ يذهب هذا الاقتراح في الهواء. * * * هذا هو الوصف الخارجي للحرم، أما الشعور الذي كان في نفسي وما أحسست به لما رأيت الكعبة أول مرّة فشيء يجلّ عن الوصف ويضيق عنه الكلام، ولقد قرأت مرّة تقريظاً لقصّة يقول صاحبه (ولعلّه إميل فاكيه الفرنسي): إني لا أتمنّى إلاّ أن أنساها لأستمتع بقراءتها من جديد. لقد كتبت كثيراً أحاول تصوير ذلك الشعور، فما حملَت

أزهى الصور التي جئت بها إلاّ كوباً من بحر ممّا شعرت به. وأحسست مثل ذلك أو بأكثر منه لمّا رأيت المدينة بعد اختراقنا الصحراء، لمّا قال لنا الدليل: أكتب يالْ الكاتب، هذا «أُحُد». لقد دخل تحت يدي في حياتي أشياء كثيرة ثمينة وعزيزة، وأضعت في مساربها أشياء كثيرة جميلة وغالية، وما ملكت شيئاً ثم خسرته كان أكبرَ قدراً وكان فَقدُه أعظمَ خسراً من ذلك الشعور عندما تكحّلَت عيناي بمرأى مثوى الرسول ‘ في المدينة والكعبة في مكّة. وأنا لا أفرّق بين الحرمَين، وأنا أعلم أن مكّة أفضل وأن ثواب الصلاة في حرمها أجزل، ولكن لا أدري لماذا أجد أُنسَ النّفسِ في المدينة؛ ألأن المدينة مرتبطة بعزّ الإسلام؟ ألأن الفتوح انطلقت منها فكانت عاصمة الدنيا؟ ألأنها وَلدت دمشق المسلمة وبغداد والقاهرة وخرجت منها الرايات التي ظلّلَت ثلث المسكون يومئذ من الأرض في ثلث قرن، فاقترن اسمها بالنصر والمجد والظفر؟ أم لأن لنا -أهل الشام- صلة قديمة بأهل المدينة من أيام الحرب الأولى، حين هاجر أكثر أهلها إلينا فعرفناهم وعرفونا، وأحببناهم وأحبّونا، وأخذنا بعض عاداتهم وتعبيراتهم في كلامهم وأخذوا منّا؟ أم الأمر كما كان يقول أحد مشايخنا: التجلّي في مكّة تجلّي جلال وفي المدينة تجلّي جمال؟ على أن مكّة لا تزال أصل الإسلام؛ فيها بيت الله وهي أحبّ البلاد إلى الله، ولمّا صعدت جبل حراء سنة 1957 (وكان فيّ بقية من الشباب) كان الدليل "يطأ الصخر وطء متعسّف جبّار ويدحرج الحجارة بقدميه، فصرخت به: ترفّق ويحك، فإن هذه

الصخور قد سمعت يوماً أول كلمة من حديث السماء في أذن الأرض، إنها شهدت أول آية في كتاب الله، الذي هبط به سيد الملائكة جبريل على سيد البشر محمد، لقد انقطع بريد السماء مُذْ مات محمد ‘، ولم يبقَ من شهود الوحي إلاّ هذه الشعاف وهذه الأصلاد" (¬1). على أننا لا نقدّس جبلاً ولا نعبد حجراً، حتى الحجر الأسود نقبّله امتثالاً لأمر الشرع ونعلم أنه حجر، والأنصاب في منى نرميها امتثالاً لأمر الشرع ونعلم أنها حجر، وما عظّمنا الأولَ لذاته ولا حقّرنا الثاني لذاته. أنا مقيم في مكّة من عشرين سنة والحرمُ إلى جنبي، فلماذا لم أجد ذلك الشعور؟ لماذا؟ أهو شيء في طبيعة الإنسان أن يتمنّى البعيد عنه ويزهد بما هو بين يديه؟ أم أنا (لا قدّر الله عليّ) ضعيف الإيمان؟ اللهمّ إني أعوذ بك من ضعف الإيمان وأشهد أنه لا إله إلاّ أنت وأنه لا يُعبَد غيرك، وأن الحبّ المطلَق لك والخوفَ المطلَق منك والطاعة المطلَقة لك، فارزقنا اللهم الشعور بحلاوة الإيمان. اللهم لا حول ولا قوّة إلاّ بك، فقوّنا اللهمّ على طاعتك وحسن عبادتك. * * * قابلنا أولَ قدومنا نائب الملك (وكان نائب الملك هو الملك فيصل رحمه الله) في دار كبيرة أو قصر أظنّ أنه في «الغَزّة» مقابل عمارة البنك العربي، وكان في غرفة صغيرة في صدر بهو واسع. ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس من كتابي «من نفحات الحرم».

وكان أكثر من معنا من أصحاب شركات السيارات في دمشق وبعض الوجهاء، فكان يفتتح الكلامَ الشيخ ياسين الرواف، أول ممثّل للملك عبد العزيز في دمشق. ولم تكن للمملكة سفارة ولا مفوّضية، بل كانت تُسمّى المعتمَدية، ثم عُين في الوظيفة أخوه الشيخ عيد، ثم رشيد باشا، وأظنّ أنه كان في الأصل من جماعة ابن الرشيد أمير حائل، ولكن الملك عبدالعزيز -على طريقته في تألّف أعدائه- يوليهم الثقة فيعطونه الإخلاص، وكذلك خلفه الشيخ عبد العزيز بن زيد كان أيضاً من جماعة ابن الرشيد، وكلاهما تشرّفت بصداقته، أزوره دائماً مع شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، ووثّق الصداقةَ أني لم أكُن أريد من أحدهما شيئاً ولا أطلب منه طلباً. ولقد كُفّ بصر رشيد باشا في أواخر أيامه ولم يعُد يرى، ذهب بصره ولكن قويَت بصيرته، وكنت أدخل عليه أحياناً مع الشيخ بهجة فلا أسلّم ولا أتكلم وأجلس فيوجّه إليّ الخطاب باسمي حيث أكون جالساً. ومن الذين كانوا مع خصوم الملك عبد العزيز ثم صاروا من أخلص الناس له وأشدّهم له حباً السفير العالِم الأديب السيد عبدالحميد الخطيب، وهو أحد الرجال القلائل الذين يُحسَدون على ما أعطاهم الله (أي يُغبَطون عليه) ولا حسد إلاّ في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فأفاض منه على الناس، ورجل أعطاه الله علماً فنشره في الناس (أو كما قال). والسيد عبد الحميد جمع الله له الأمرَين، عرفته في كراتشي وكانت أكثر أيامنا فيها عنده، وفي قصره في دمّر، رحمه الله، وعرفت ولده الشيخ فؤاد في كراتشي، وسمعت أنه الآن في وظيفة كبيرة هو أهل لها ولأكبر منها.

لقد خرجت عن الخطّ فعفوكم. كنت أقول إن الشيخ ياسين كان يفتتح الكلام ثم أكون أنا الناطق عن الوفد، وإن كانت خطبةٌ ومنبر كنت أنا -على مقدار طاقتي- لها. خرجت من لقاء نائب الملك، أي الفيصل، وأنا ممتلئ القلب إكباراً له، لسعة اطّلاعه وسداد منطقه ومعرفته بالدنيا، وأنه يقول الكثير بالألفاظ القليلة، مع أنه كان يومئذ شاباً (كان رحمة الله عليه أكبر مني بثلاث سنوات). ثم كان لقاؤنا بالملك عبد العزيز؛ كان ينزل في بيت السقّاف، هكذا كانوا يسمّون القصر الذي ينزل فيه. وما هو بالقصر الفخم، ما هو إلاّ بيت واسع مثل بيوت أوساط الناس. وأنا أخشى مثل هذا اللقاء، وأشعر أن مقابلة مئة ألف من وراء المنبر أهون عليّ من غشيان مجلس لا أعرف أهله معرفة كاملة تزيح الكلفة وتمحو الوحشة. فكيف دخلت على الملك؟ أنا هنا من عشرين سنة في عزلة كاملة ما زرت أميراً ولا وزيراً، وإن فعلت أجد أني أخجل خجل ابن ثماني سنين وأنا على عتبة الثمانين، فإن صرت داخل المجلس سَهُل الأمر وانطلق اللسان، فكيف -إذن- دخلت على الملك؟ لقد سَهّل الأمرَ عليّ أني لم أكُن وحدي، وأني كنت أعرف عن الملك الكثير، وكنت أكتب إليه ويتفضّل فيجاوبني. جرّأني على الكتابة إليه شيخنا الشيخ بهجة، وكنّا نجعل عنوان الرسالة: «إلى جلالة الملك عبد العزيزبن عبد الرحمن الفيصل آل سعود»، ما كنت أطلب شيئاً لنفسي، كانت رسائلي كلها في أمور فيها مصلحة للناس ورضا لله، أو وساطة لأصحاب حقّ، وكان يأتيني جوابه الكريم في كلّ مرّة.

دخلنا مجلس الملك فقام لنا، وكان يقوم للداخل، وذلك قبل أن يثقل عليه ألم رُكبته ويتخذ الكرسي ذا الدواليب الذي أهداه إليه روزفلت. وجعلنا نحضر مجلسه كل يوم فلحظت أن له مقعداً خاصاً به، لا يختلف عن بقية المقاعد لكن لا يقعد عليه غيره. وكنّا نحضر عنده درساً، لا، ليس درساً بل قراءات جهرية؛ يُنصَب كرسي لشيخ يوضع له مصباح إلى جنبه، فيقرأ صفحات من كتاب في التفسير والحاضرون يستمعون، وربما علق الملك نفسه على بعض ما قرأ القارئ. وقد لحظت أنه يحفظ كثيراً من الأحاديث ومن أقوال الأئمة، وقد يشترك بعض الحاضرين فلا يمنعهم، ومنهم من يعارض رأيه فيناقشه الملك ويفرّع أوجه الرد فيقول: أولاً، ثانياً، ثالثاً ... ويقيم أمامه ستاراً من الحُجَج ومن الأدلّة. وكنّا نكلّم الملك في غير موعد القراءة ونحدّثه، فإذا رأيته منطلق الأسارير سُقت إليه الطرائف المناسبة ممّا أحفظ (وكنت أحفظ من الأخبار والأسمار والأشعار ما هو أكثر من الكثير، أيام كانت مطالعاتي مستمرّة وذاكرتي غضّة قوية). وقد رويت له من النوادر ما أضحكه مرتين، ولكني إن وجدت وجهه منقبضاً تبدو عليه بوادر الغضب سكتّ كما يسكت غيري. ولم أرَه غضبان وقد أقمنا في مكّة نحو أسبوعين نزور مجلسه كلّ يوم، ولكن سمعت أنه إن غضب كان غضبه مروّعاً. ورأيت أولاد الملك صفاً عن يمينه، على ترتيب أعمارهم، ورأيتهم إن جاء أمير منهم تنحّى له من هو أصغر منه ولو بأسبوع حتى يأخذ مكانه بحسب عمره. وكان يدخل عليه من الناس من شاء، وكان أهل البادية يدعونه باسمه: "والله يا عبد العزيز كان

كذا" ... ولا عجب، فهذه هي سنّة العرب، ما كانوا يقولون "يا فخامة أمير المؤمنين" بل يا عمر، بل كان الأعرابي يدخل مجلس الرسول ‘ فيسأل: أيّكم محمد؟ كانوا يعرضون شكاواهم فيقضي فيها، وربما قال للشاكي: رُح للشرع، أي أنه يأمره بمراجعة القاضي. ثم يقوم ونقوم معه إلى الطعام، على سماط مبسوط على الأرض. والطعام الأصلي الرز واللحم، ولكنّ على المائدة ألواناً من الطّبيخ، وليس للمائدة مُصطلَح (أي بروتوكول)، فمن شبع قام وقعد غيره مكانه، ولكني وجدت الملك لا يقوم حتى يحسّ أنهم شبعوا جميعاً. وكان من عجيب أمر الملك أنه أوتي بَسطة في الجسم، فهو طويل عريض المنكبَين إن مشى مع الناس ظهر كأنه راكب وهم مُشاة، وكان أكله -مع ذلك- قليلاً جداً، لا أعلم كيف كان يكفيه هذا الأكل القليل! لقد كان الملك عبد العزيز رجلاً من أفذاذ الرجال: ذكاء فطري يصغر أمامه كبار الأذكياء، وفكر نيّر يطوي أفكار العلماء، وقدرة نادرة على سرعة الفهم والقدرة على الإفهام، يدرك مُرادَك قبل أن تُتمّ كلامك، ويلخّص في جُمَل معدودات ما يحتاج إلى محاضرات، شهد روزفلت أنه فهم منه في مجلس واحد عن قضية فلسطين ما لم يفهمه من كبار الساسة في سنين، تواضُع ولِين حين يَحْسُنُ اللين وشدّة حين لا ينفع إلاّ الشدّة، خبير بنقد الرجال ومعرفة معادنهم. رحمه الله فلقد كان أحد عباقرة التاريخ. * * *

رحلة الحجاز (8) في مكة

-80 - رحلة الحجاز (8) في مكّة تكلمت من حلقتين عن جدّة التي عرفتها سنة 1353 ووصفت سورها وأبوابها، وقبل أن أقرأ هذه الحلقة منشورة في «الشرق الأوسط» قرأت في «عُكاظ» (¬1) مقالة عن أبواب جدّة الثلاثة، وإشارة إلى أمر الملك فهد بإعادتها كما كانت وأن أمين مدينة جدّة بادر إلى تنفيذ الأمر، ففرحت بهذا الخبر كأني قد أُعطيت به عطيّة أو نلت مكافأة، وذكّرني بكلمة الخليفة العبقري (¬2) عمر بن الخطاب: «لا يزال المسلمون بخير ما ذكروا أمر جاهليتهم». ذلك لأنه لا يعرف نعمة الغنى إلاّ من ذاق الفقر، ولا الضياء إلاّ من عاش في الظلام، ولا الصحّة إلاّ من قاسى المرض، ولا يدرك مقدار ما تنعم به المملكة اليوم إلاّ من زارها كما زرتها أنا ¬

_ (¬1) كان في مصر من ستين سنة جريدة أسبوعية اسمها «عكاظ» صاحبها فهيم قنديل. (¬2) الذي سماه العبقري هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من خمسين سنة. وليس بدعاً أن يُترك أحد أبواب السور القديم في وسط الشارع العريض في البلدة الجديدة، فإن أحد أبواب دمشق السبعة (وهو باب توما) تركوه قائماً وحده في الشارع، ورأيت في القدس لمّا مررت بها وأنا ذاهب إلى مصر سنة 1928 باباً مثله، ورأيت في آخن (وهي التي يسمّيها الفرنسيون «إكس لا شابل»، التي كانت عاصمة شارلمان وتقع اليوم على حدود ألمانيا وبلجيكا وهولندا وتلتقي الحدود الثلاثة في داخلها)، رأيت فيها أبواباً قديمة من أكثر من ألف ومئتَي سنة أبقوها قائمة في الشوارع الحديثة. بل إن من المدن ما بقي على حاله وجعلوا المدينة الجديدة إلى جنب القديمة كما صنعوا في فاس. ولمّا زرت مدينة هانوفر سنة 1970 وجدت في بلديّتها (أو بلدية فرانكفورت، نسيت) خريطة مجسَّمة لما كانت عليه لمّا صَحَتْ من حلم الحرب الثانية وهي مدينة مخرَّبة، مجموعة عمارات مهدَّمة، إذ كانت تظلّلها سحائب الموت، ألف طيارة أو أكثر من طيارات الحلفاء تمطرها الموت والدمار ألواناً وأشكالاً ممّا أنتجَته حضارة المتمدّنين، أنصار حقوق الإنسان الذين قدّموا من الخيرات للبشرية ما لم يقدّم مثلَه أحدٌ قبلهم: قنبلة هيروشيما، وإسرائيل، والاستعمار، والماركسية، وأمراضاً جديدة جنسية ما حفظت أسماءها ... هل في ثمرات الحضارات ما هو أعظم؟ فيا ليت أمانة جدّة تصنع خريطة مجسّمة للبلدة الآن تبيّن سعتها وامتداد شوارعها بصورة تقريبية، وتضع وسطها خريطة

جدّة التي كانت من خمسين سنة بسورها وأبوابها بصورة بارزة، ويا ليت أمانة مكّة تصنع مثل ذلك، وأمانة الرياض، حتى يوازن المُشاهِد بين حاضرها وماضيها. بل ليتنا نترك بعض البلدان أو بعض أحيائها وأقسامها على هيئتها التي كانت عليها، كما فعلت ألمانيا في مونشاو مثلاً، وكما هي الحال في أمستردام: في أقنيتها وجسورها الحجرية القديمة القائمة فوقها، وتمنع البلديات تبديل مظهرها الخارجي وتعوّض أصحابها عما ينقص ذلك من حرّيتهم في التصرف بأملاكهم. وشيء آخر أتمناه هنا في المملكة خاصّة، لا سيما في مكّة والمدينة، هو إبقاء الأسماء التاريخية للأماكن على حالها؛ فقد امتلأت بهذه الأسماء كتبُ التاريخ وفاضت بها الأشعار وخلّدَتها روائع الأدب، بدلاً من هذه الأسماء الجديدة للشوارع، لا سيما ما أُحدِثَ أخيراً في مكّة من اختلاط الأرقام والحروف بالجهات في عبارات ما فهمتها ولا صادفت إلى الآن من فهمها. أما الأسماء الجديدة لشوارع جدّة فهي إلى النكات والنوادر أقرب منها إلى الجدّ وإلى حسن اختيار الأسماء! وإذا وفّق الله ووُضعت هذه الخريطة المجسَّمة لمكّة قبل خمسين سنة فلا تنسوا أن تضعوا فيها الجبال كما كانت قبل أن تُخطّط هذه الطرق التي تبلغ عليها السيارات ذُراها وقبل أن تُفتح فيها هذه الأنفاق، والأودية قبل أن تقام عليها هذه الجسور، ليرى المُشاهد كيف كانت قبل خمسين سنة، بل كيف كانت قبل خمس سنين!

إذا سَمَتْ بأمين العاصمة المقدّسة همّته وأعانه شبابه والحكمة التي ورثها من أبيه معالي الأخ الشيخ محمد عمر توفيق، إذا أراد ما هو أكمل من هذا أعدّ في دار الأمانة بهواً يكون متحفاً صغيراً يعرض فيه جبال مكّة وواديها قبل أن يرفع فيه سيدنا إبراهيم القواعد من البيت وابنه إسماعيل، واللوحة الثانية أو الخريطة (¬1) المجسّمة الثانية للكعبة كما أقامها إبراهيم: بناء يعلو نصف علوّ الكعبة اليوم تشمل نحو نصف الحِجر، لها زاويتان (ركنان) من جهة الجنوب وشبه دائرة من الشمال، لها بابان لاصقان بالأرض وليس حولها بيوت. والثالثة للكعبة قبل قصي والبيوتُ بعيدة عنها وحولها أرض فضاء، ثم ما كانت عليه بعد قصي وحولها المطاف، أي فناء الكعبة والبيوت محيطة بها، لا تعلو مثل علوّها بل هي أخفض منها، وبين البيوت مسالك توصّل إليها. ولوحات أو مجسّمات لمكّة تبيّن تطوّرها وتظهر في كلّ عهد الأماكن التاريخية فيها، كدار أبي طالب ودار الندوة (وموقعها اليوم وسط المسجد الحرام) ودار أبي سفيان. وما أظنّ أن أحداً يُفتي بأن الشرع يحرّم ذلك، لأنه لا يخطر اليوم على بال أحد أن يقدّس هذه الآثار تقديساً يُفضي به إلى عبادتها، أو تعظيمها التعظيم المطلَق الذي هو من مظاهر العبادة. والعبادة بجميع طرقها وكافة مظاهرها لله وحده، وروحُ العبادة الحب المطلَق والخوف المطلَق، وألاّ تطلب ما لا يُدرَك بالأسباب المادّية من غير مَن وضع هذه الأسباب، وأن تعلم أن ¬

_ (¬1) الخريطة في اللغة قطعة من القماش مثل الكيس تضمّ جوانبها على ما يوضع فيها.

الذي بداية المخلوقات كلهم منه ومرجعهم جميعاً إليه هو الله، هو الربّ الخالق الحافظ، وهو الملك القادر المتصرف، وهو الإله الذي لا يُعبَد معه سواه، ولا يستحقّ العبادةَ غيرُه، وأن تؤمن بكل ما نزل به وحيه على رسوله، لا تُنكِر شيئاً منه ولا تردّه ولا تؤمن بشيء يخالفه ولا تقبله. فإذا كنت كذلك واجتنبت كبائر ما نهى الله عنه وأتيت ما أمر به، لم يضرّك أن تأخذ بهذا الذي اقترحت لتدرك مقدار ما أنعم الله علينا، لنحمده ونشكره عليه. * * * أعود إلى حديث الذكريات: أنزلونا لمّا جئنا مكّة في دار كبيرة أُعدّت للضيافة، كانت قائمة إلى عهد قريب جداً في أجياد، بين عمارتَي الأشراف والكعكي (ولم يكن يومئذ عمارة الكعكي ولا الأشراف) كنت أمرّ ببابها كل يوم لأني أسكن بجوارها من عشرين سنة، أمرّ بها فأذكر أيامي فيها، ولكن لم أفكّر مرّة في دخولها. كان مديرَ هذه الدار رجل من مصر فاضل جداً رضيّ الخلق حسن السيرة اسمه السيد عبد السلام غالي، ولم يكن يدَع شيئاً يقدر عليه فيه راحة لنا إلاّ قدّمه إلينا. ولم يكن في مكّة يومئذ كهرباء، كانت الكهرباء في الحرم فقط، مصابيح كهربائية (لَمْبات) صغيرة تستمدّ نورها من محرّك (موتور) أحسب أن أحد مسلمي الهند أهداه إليه. ولم يكن بعد هذه الدار إلاّ حيّ «بئر بليلة» وقصر لنائب الملك الأمير فيصل (رحمه الله)، وله قصر آخر في نهاية مكّة من أعلاها فمكّة

كلها بين قصَريه، وبعد ذلك الجبل: جدار من الصخر ... أتخيّل الآن كيف تكون حال الرجل من أهل مكّة يومئذ لو قلت له إن السيارة ستصعد هذا الجبل وتمرّ منه إلى عرفات، بل كيف تكون حاله لو قلت له إن جبال مكّة كلها ستُشَقّ أجوافها وتمتدّ الطرق في أحشائها من السَّد (¬1) إلى الأبطح (أي المعابدة)، وأن الطائرات الوثّابة (الهليوكبتر) ستحوم فوقها، وأن عدد السيارات الخاصّة في المملكة زاد على المليون بما هو قريب من ربع المليون، وأنّ وأنّ ... ممّا نراه الآن أمامنا وما كان قبل خمسين سنة ضرباً من الخيال الجامح، حتى لو جاء به أديب لأمسك النقّاد بتلابيبه وقالوا: إن الخيال مقبول، ولكن إن بلغ هذا المبلغ صار من التوهّم المرذول وصار صاحبه محموماً يهذي لا أديباً يتخيّل. الذي تحقق الآن كان قبل خمسين سنة فقط ممّا يُظَنّ أنه مستحيل. مشينا إلى الأمام على طريق الحضارة (أو المدنية) المادّية، ولكنا رجعنا إلى الوراء في طريق الحضارة الروحية، أو ما شئتم فسمّوها. كان من المشاهد المألوفة سنة 1353 أن أسمع الأذان فأرى البياعين يتركون دكاكينهم مفتوحة، يضعون في مدخل الدكّان كرسياً أو يجعلون فوق البضاعة عصاً، حتى إن الصرّافين وأمامهم أكوام الريالات وأنواع العملات يتركونها أو يغطّونها بقطعة من القماش ويذهبون إلى المسجد، فلا يمسّ ما تركوا أحد ولا يخطر على بال أحد أن يمسّه. ولمّا قدمنا المدينة (في الطريق إلى مكّة) افتقدنا حقيبة، فخبّرْنا أمير المدينة عبدالعزيز ¬

_ (¬1) أهل مكّة يقولون «السُّدّ» بضمّ السين، وهو فصيح للسدّ الطبيعي وبالفتح للسَدّ الصناعي.

ابن إبراهيم، وهو رجل عبقري كتبت عنه كثيراً وكنت أنا والشيخ ياسين الرواف ضيفَين عليه في داره مدّة إقامتنا في المدينة. فطمأنَنا بأننا سنجدها حيث سقطت منّا، فلما رجعنا ومررنا بالمكان الذي قدّرنا أنها سقطت فيه لم نجدها، فقال الرجل الذي أرسله الأمير معنا: إذا كنتم قد فقدتموها هنا فإنكم ستجدونها. وجعل يدور معنا ويتلفت، فرأى في الرمل الناعم المتموج بقعة عالية فأدخل يده فيها، فإذا الحقيبة قد غطّاها الرمل وهي على حالها. ولم تكن ترى وقت إقامة الصلاة أحداً يمشي في الطريق، كان الناس كلهم في المساجد. أمّا سبب هذا الأمان العجيب فهو إقامة حدود الله وتنفيذ شرعه، وهاكم فقرات من مقالة لي نُشرت في الرسالة سنة 1935: سمعت وأنا في مكّة أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة (آخر محرم 1354هـ) فجعلت أراقب وأنتظر، لا أحب أن أسأل أحداً كيلا تفوتني لذّة المفاجأة. حتى إذا قُضيت الصلاة ابتدر الناس أبواب الحرم يستبِقون إلى شارع الحكومة، وهو في أسفل «أَجْيَاد»، يمتدّ من شمال الصفا حتى يجاوز باب إبراهيم. فلم تكن إلاّ هنيّات حتى امتلأ بالناس ولم يبقَ فيه مَوطئ قدم، فجعلت أزاحم الناس لأخلص إلى الساحة فلا أتقدم خطوة ... ويئست وهممت بالعودة إلى الحرم، فإذا بالشيخ يوسف ياسين فتعلقت به وقلت: لا أدعك حتى تبلغ بي الساحة. وقادوني إلى غرفة أُعدّت للأمير فيصل ابن الملك ونائبه على الحجاز، فوقفت في النافذة بين فتية من آل بيته، فيهم ابن له في نحو الثانية عشرة من العمر، ما رأيت في لِداته أثقب منه ذهناً ولا أصحّ جواباً ولا

أحَدّ ذكاء، وقد علمت بعد ذلك أنه الأمير عبد الله الفيصل. وفي هذه المقالة وصف لقطع عنق قاتل وقطع يد مفسد في الأرض ورِجله، وهي في كتابي «من نفحات الحرم». * * * وزرت في مكّة الشيخ يوسف ياسين في جريدة «أم القرى»، وكان المشرف عليها. وأذكر أن مطبعتها كانت تُدار باليد، إذ لم تكن في مكّة -كما قلت- كهرباء، وكان الفضل في مدّها إليها لله ثم للصديق الفقيد الشيخ إبراهيم الجفالي ولأخويه اللذين لم أعرفهما (¬1). وممّن زرت في مكّة الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية، بل الساعد الأيمن للملك عبد العزيز في أمور المال يوم كانت الموارد قليلة والخزانة غالباً فارغة، والملك كما يعرف الناس كلهم: تعوّدَ بسطَ الكفِّ حتى لوَ انّه ... ثناها لقَبْضٍ لم تُطِعهُ أنامِلُهْ ولو لم يكن في كفِّهِ غيرُ روحِهِ ... لجادَ بها، فليتّقِ اللهَ سائلُهْ وأولاده في حياته ومن بعده كلهم على سنّته، لا يستطيعون ولو أرادوا أن يقولوا لسائل حاجة «لا»، ربّاهم على ذلك منذ الصغر. زرت الوزير (أي عبد الله السليمان)، وإذا قيل «الوزير» كان هو المقصود، وشارع الوزير في الرياض عُرف به ونُسب إليه لأنه ¬

_ (¬1) الشيخان علي وأحمد، وقد تفضّلا فزاراني فرأيتهما في الفضل والنبل كأخيهما رحمه الله.

أول شارع فُتح خارج السور. زرناه في داره في مكّة التي فيها الآن مكتبة الحرم، وكان البنّاؤون قد فرغوا يومذاك من بنائها، وكانت أجمل بناء جديد في مكّة، ربما جاء الناس من خارج مكّة ليروها. وكان لها حديقة كبيرة، بستان واسع قعدنا فيه وشربنا الشاي، فيه من الزهر أنواع وألوان وفيه من كل فاكهة زوجان، من أبهى ما رأيت من البساتين. وزرنا دائرة الصحة، وأول من قام بها جماعة من الأطباء السوريين منهم رئيسهم الدكتور حمودة والدكتور بشير الرومي (وهو من حارتنا في دمشق) والدكتور مدحت شيخ الأرض، وسمعت أن الملك عبد العزيز رحمه الله ضحك لمّا سمع اسمه وقال: مَن جعلك شيخ الأرض؟ الناس يتقاتلون على قطعة منها ثم لا يكادون يصلون إلى امتلاكها! وكان هؤلاء الأطبّاء قبل الدكتور رشاد فرعون. وزرنا المعهد السعودي، وأقيمت لنا فيه حفلة كبيرة خطب فيها بعض الأفاضل، ولولا أني نسيت أسماءهم لحلّيت هذه الحلقة بذكرهم، فقالوا وأحسنوا. وخطبت أنا خطبة مناسبة، افترى عليّ بعض الناس في دمشق فنسبوا إليّ فيها كلاماً لم أقُله، فاضطُررت أن أنشر في جريدة «ألف باء» في دمشق -لما عدت إليها- مقالة في عدد يوم 8/ 6/1935 دفعت فيها عن نفسي هذه التهمة. والمقالة في كتابي «من نفحات الحرم» (¬1). كانت أحياء مكّة لمّا زرتها ثلاثة عشر حياً، سألت مَن لقينا ¬

_ (¬1) وهي مقالة «من دمشق إلى مكة» في الكتاب المذكور (مجاهد).

من أهلها عنها وكتبت أسماءها هي: أَجْياد، والشُّبَيْكة، والباب، والقشاشية، والشاميّة، والقَرارَة، وسوق الليل، والنّقا، وجَرْوَل، وشِعب عامر، والسّليمانية، والمَعابدة، والمَسْفَلة. وما زاد عليها فهو ممّا أُحدِثَ بعدُ، ومن هذه الأحياء ما هو كبير وما هو صغير. وقد امتدّت مكّة اليوم من مصنع الكسوة إلى ما بعد الجامعة أو المدينة الجامعية، مسافة أكثر من خمسة وعشرين كيلاً. * * * وبمناسبة ذكر الكسوة فقد كانت تُصنَع في مصر وتُرسَل كل سنة إلى مكّة، تَرِدُ إليها باحتفال كالاحتفال بالمحمل. والمحمل بدعة لا أصل لها في الشرع، ولقد قرأتُ (ولم أتحقق) أن أصله الهودج الذي كان يحمل شجرة الدرّ لمّا حكمت مصر أمداً قصيراً. هذا المحمل المصري، فما قصة المحمل الشامي الذي سبق الكلام عنه في هذه المذكّرات؟ وكان سبب إبطال هذه البدعة أن الحُجّاج من السلفيين من أهل نجد وصلوا إلى مِنى يوم النحر من سنة 1344 فرأوا المحمل المصري منصوباً والجند من حوله يحفظونه ويضربون طبولهم وينفخون في مزاميرهم، أي أنها الموسيقى العسكرية تصدح عنده، فعجبوا ممّا رأوا وأنكروه، ورأوا الجند كأنهم يعظّمونه فلم يدروا ما هو، فقال قائل منهم: صنم، يعبدون صنماً في مِنى! وتصايحوا: الصنم الصنم، وأقبلوا يَحْصبونه ويرمونه كما يرمون الجمرات التي يرونها رمزاً للشيطان. وكان قائد الجنود المصريين

أحد الباشوات العسكريين، ويبدو أنه كان أهوج طيّاشاً لا يعرف الحكمة ولا يحسن تدبير الأمور، فنصب مدافعه ووجّه رشّاشاته وأمر بإطلاق النار على الحُجّاج وهم بلباس الإحرام، فسقط منهم خمسة وعشرون قتيلاً، وأربعون من الإبل ومن الدواب أصابها الرصاص. وسمع الملك وهو في سرادقه الصوت، فأقبل يعدو حتى وقف بين الفريقَين لا يبالي بالرصاص، يمدّ ذراعيه ينادي: أنا عبدالعزيز، أنا عبد العزيز ... فلما رآه قائد الحامية المصرية أمر بوقف إطلاق النار. وراح الملك يهدّئ الأمور، وأمر ولده فيصلاً (الملك فيصلاً رحمه الله) فأخذ قطعة من الجيش السعودي فأحاطت بالجنود المصريين لمنعهم من ارتكاب حماقة أخرى ولحمايتهم من الناس، حتى إذا أتموا مناسكهم رحل بهم محروسين إلى جدّة حتى ركبوا البحر سالمين. وغضب الملك فؤاد فقطع العلاقات مع المملكة أكثر من سنتين، ولكن الملك عبد العزيز ما قطع من جهته موصولاً ولا نسي أخوّة ولا قابل إساءة بإساءة. كل ما صنعه أن أنكر هذا المنكَر الذي كان إنكاره حقاً ومنْعُه واجباً أكيداً، فمنع المحمل، فانقطع بحمد الله من تلك السنة. وكانت كسوة الكعبة تُصنَع في مصر وتُرسَل منها، فلما قطعتها حكومة مصر يومئذ (ومنعت وصول ريع أوقاف الحرمَين إلى أصحابه) كان جواب الملك عبد العزيز ما يُرى لا ما يُسمع؛ فأمر بصنع الكسوة في المملكة. وصُنِعت على عجل، ثم حُسّنت صناعتها وارتقَتْ يوماً بعد يوم حتى أنشئ لها مصنع في جَرْوَل، ثم فُتح هذا المصنع الكبير في مدخل مكّة

فجاءت الكسوة محلّية خالصة، تُنسج هنا وتُكتب خطوطها هنا وتخاط هنا. فكان هذا الحادث خيراً وبركة، أزال بدعة منكَرة وأقام مصنعاً نافعاً. لقد كُتب عن الملك عبد العزيز الكثير الكثير ولا يزال في سيرته مجال لكتابة الكثير. * * *

ذكريات عن القوة والرياضة

-81 - ذكريات عن القوّة والرياضة هذه ذكريات عن القوّة وعن الرياضة، أعرضها منثورة لا يجمعها نظام (¬1)، أسوقها كما تخطر على بالي لا أراعي فيها التاريخ. والذي أثارها في نفسي صورةٌ قديمة وجدتها بين أوراقي لرفيقنا محمود البحرة الذي كان بطل سوريا في «الجمناز» (¬2) وكان من أبطال رياضة كمال الأجسام وكثير من ألعاب القوى، نبغ نبوغاً سريعاً ثم حاز شهادة معهد التربية في مصر، وكان فيها موضع الدهشة والإعجاب من كل من عرفه، وكان -على هذا- ديّناً صالحاً، ألهمه الله حفظ القرآن فحفظه على كبر وجوّد قراءته وأدام مراجعته، وكان يتلو كل يوم ثلاثة أجزاء لئلاّ ينسى ما حفظ. كان رحمه الله رفيقي في المدرسة، في مكتب عنبر الذي أطلت الكلام عنه في مطلع هذه الذكريات. وكنّا صديقَين إلاّ أننا ¬

_ (¬1) النظام هو الخيط الذي يمسك حبّات العقد أو السبحة. (¬2) الجمناز «Gymnase»، أما كلمة جنباز أو جنباظ التي يستعملونها فلا أدري ما هي.

إذا جاء الامتحان تَصدّع ما بيننا من ودّ، فقد كان يريد أن أعاونه في الامتحان وكنت طول عمري لا أعين أحداً في الامتحان ولا أستعين بأحد. أتدرون من الذي أخرج هذا البطل؟ الله طبعاً هو خالق كل شيء والذين من دونه لا يخلقون ذباباً، ولكنْ أسأل عمّن كان السبب في ظهوره وظهور طائفة من الأبطال في عهد لم تكن للناس فيه عناية بالرياضة ولا مالَ مع أهلها للنهوض بها؟ (¬1) إنه الأستاذ أحمد عزة الرفاعي. وقد تركت دمشق وهو صحيح معافى، فإن كان حياً -مدّ الله في عمره- فانقلوا إليه كلامي وأبلغوه سلامي، ليعلم أنه لا يزال في الناس من يشكر المحسن ومن يحفظ الجميل، وإن كان الله قد توفّاه فاسألوه له الرحمة، فهي خير له وأجدى عليه من تحيّتي له ومن ثنائي عليه (¬2). كنّا في مكتب عنبر سنة 1923، ومكتب عنبر -كما عرفتم- هو الثانوية الرسمية الوحيدة في دمشق، وكان المدرّسون فيها إمّا من المشايخ وإمّا من الضباط الذين سُرّحوا من الجيش العثماني لمّا نفخ إبليس في مناخير الاتحاديين أحفاد اليهود الذين تسلّطوا على الدولة فسلّوا منها روحها، وروحُها الإسلام، فتركوها جسداً بلا روح، وأدخلوها الحرب العامّة الأولى وما لها فيها ¬

_ (¬1) وكان من أوائل من عُني بالرياضة والكشفية المدرسةُ التجارية (اتحاد وترقي مكتبي إعدادي سي) التي كان أبي مديرها العام، أعرف أنا ذلك وذكره خالد بك العظم في مذكراته. (¬2) كتب إليّ رفيقنا المهندس منيب الدردري أنه حيّ وأنه حمل إليه مقالتي هذه فقرأها ودعا لي.

ناقة ولا جمل ولا شاة، دخلَتها وهي دولة معظَّمة فخرجت منها دولةً محطَّمة، ثم جاء الطاغوت الأكبر فأراد أن تكون دولة غير مسلمة، حسبُه جهنّم. كان من هؤلاء الضبّاط ضابط صغير ملازم اسمه أحمد عزة الرفاعي، وكان ناظراً لم يكن مدرّساً، أي أن عمله صف الطلاّب وإدخالهم الفصول وإخراجهم منها، وكان معلّم الرياضة. * * * وكنّا نعيش في عصر نهضة حقيقية بعد نوم طويل، كنّا كأننا فئة عمل (ورشة)، كلٌّ يشتغل وكلٌّ يبذل جهده، وكلّ من كانت له خبرة أو كانت لديه فكرة قدّمها للشباب، وكان الشباب يقبلون كل ما يُقدَّم لهم من خير. كانت الحماسة ملء جوانح الجميع، المعطين والآخذين. ولو استمرّت هذه الحماسة ولم نُبتلَ بالانتداب (وهو الاستعمار باسم مستعار (¬1))، ولم نصرف جلّ قوانا لاستعادة استقلالنا لكانت نهضتنا أظهر. على أن النهضة لم تَمُت أيام الانتداب بل بقيَت مستمرّة، نهضة في التعليم، نهضة في الزراعة، نهضة في الصناعة، ولولا الوباء الذي جاءنا أيام الوحدة، وباء الاشتراكية والتأميم، وربط أيدي العاملين بالحبال وسدّ أفواه القائلين عن المقال، لولا هذا ولو استمرّت النهضة الصناعية لكانت سوريا اليوم «يابان» صغيرة. ¬

_ (¬1) اسم الاستعمار من أسماء الأضداد، وإنما هو «الاستخراب»، وهو كاسم التبشير الذي هو التنصير والتكفير.

هل تريدون أدلّة على ما أقول؟ لمّا كنت مدرّساً في العراق كنّا نسافر بسيارات واردة من أوربّا أو من أميركا، فرأينا مرّة سيارة كبيرة (حافلة) قالوا إنها مصنوعة، أي مصنوع هيكلها في تل أبيب، فعجبنا وتألمنا. وكنّا قادمين لقضاء عطلة الصيف في الشام، فلما انتهت العطلة وجئنا نسافر لنعود إلى عملنا في العراق وجدناهما سيارتين. قلنا: ما هذا؟ قالوا: إن فلاناً، حدّاد شامي، رأى الأولى فصنع الثانية بأدوات دكّانه وبأيدي عُمّاله، فخرجَت مثلها حتى لا يكاد الرائي يفرّق بينهما. ولمّا تمّ الجلاء عن سوريا وزاح عن صدرها كابوس الانتداب بدأ إنشاء المعامل، فكان عندنا أيام الوحدة فوق معمل الإسمنت (وهو قديم) معملُ الشركة الخماسية، ومعمل الدبس للنسيج، ومعامل حلب للحلج والنسيج، وعشرات من المعامل، عصف بها إعصار التأميم فخرّبها وأماتها في أرضها. * * * أعود إلى موضوع القوّة والرياضة. كانت مدرستنا -كما عرفتم من قبل- في دار من الدور الشامية المترفَة الأنيقة ذات الصحن والإيوان، تغطّي جدرانَها النقوشُ والألوان. كانت عروساً يوم جلوتها، فهل رأيتم عروساً تلبس تبّان (أي مايوه) المصارع، أو قفّازات الملاكم، أو تخوض معركة فيها اللكم واللطم والنطح والرفس؟ ففي أي مكان من هذه الدار نضع الملعب؟ فتّشنا أرجاءها فوجدنا وراءها عرَصة خربة مهمَلة، فأقبل الأستاذ (حيّاه الله وقوّاه إن كان حياً، ورحمه وجزاه

عنّا خيراً إن كان قد مات) وأقبلنا جميعاً نعمل في تنظيفها وكنسها وتسويتها، ثم أقمنا فيها أجهزة التدريب: الثابت والمتوازيَين والحصان الخشبي ... واشترينا الأثقال المناسبة للتمرين. من هذا الملعب البدائي خرج محمود البحرة، وحسن الهاشمي بطل ألعاب الخفّة والرشاقة، وسامي السمّان بطل القفز العالي، وآخرون غيرهم لا تعرفونهم فلن ينفعكم سرد أسمائهم عليكم. وما أقول هذا لأعرّفكم بهم، بل لأبيّن لكم أن الرجل الواحد -إذا كان متحمّساً يعمل مخلصاً يريد الخير للناس احتساباً للأجر لا للفخر ولا طمعاً بالشكر- يستطيع أن يصنع الكثير على قلّة المال وضعف الوسائل. ثم أنشأ نادي قاسيون، يقابل نادي بردى الذي كان قبله، فكَثُر روّاده وكبر أثره، وأنشأ فرقاً لكرة القدم وكرة اليد وألعاب القوى. وقد عرفتم أن المدرسة التجارية (التي كان أبي مديرها) خرّجَت من السابقين إلى العناية بالرياضة: الطبيب محمد طاهر الطنطاوي، وهو ابن عمي، والطبيب محمد سالم، وقد تخرّج كلاهما طبيباً سنة 1920، فأقام الأول ملعباً كاملاً في بستان داره، وكانت داراً واسعة جداً هُدمت فأقيم على أرضها عمارتان كبيرتان، وعُنيَ الثاني بكرة القدم فكان من أوائل أبطالها. ولم يكن يحتاج لاعبو كرة القدم إلى شراء أرض أو استئجارها لإقامة الملعب عليها، فإن في «المرج الأخضر» متسعاً للجميع. وهو مرج فسيح وَقَفه -كما أذكر- الملك الظاهر بيبرس

رابع الفرسان الثلاثة (عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين) وأحد القادة العظام في التاريخ العسكري كله. وهذا المرج تقوم اليوم في جانبه أبنية المعرض السوري الدولي، وفي الجانب الآخر الملعب البلدي والتّكيّتان: تَكيَّة (¬1) السلطان سليم وولده السلطان سليمان، وقد أقيمتا في موضع «القصر الأبلق» الذي شاده الملك الظاهر المدفون في مدرسته (الظاهرية) التي فيها المكتبة. ولهؤلاء الأربعة تراجم في كتابي «رجال من التاريخ» (والمرج كله وقف إسلامي كما قلت من قبل). وخرّجَت دمشق قبلهم بطلاً عالمياً، نال بطولة العالَم في المصارعة سنة 1907 وعمره خمس وعشرون سنة، وكان اسمه يملأ أرجاء الشام ويمشي على كل لسان، يتناقل الناس أخبارَ قوّته ويتحدّثون عن بطولته، هو صائب بك العظم. كان أستاذه في المصارعة بطل العالَم الكوج محمد، ثم سافر إلى باريس سنة 1905 فدرس الرياضة على أصولها ودخل مدرسة دوبونيه (على اسم البطل المعروف). صارع على حلبات أوربّا وأميركا وبلغ من الشهرة والمجد الرياضي مالم يبلغه ممّن نعرفه أو نسمع به من العرب أحد، تُوفّي سنة 1961، وكان ضخم الجسم متين البناء، جسده كله عضلات، وكان أعجوبة من الأعاجيب. صائب بك رجل اجتمعت له كل وسائل النبوغ، فهو من ¬

_ (¬1) التكِيّة (ويلفظونها في الشام بتاء ساكنة في أولها) كلمة تركية الأصل تعني «رباط الصوفية»، وهي موضع للعبادة والتدريس وإطعام الفقراء. ولا أعرف الفرق بينها وبين «الخانقاه» (كلمة فارسية الأصل) التي هي دار للصوفية أيضاً، فما دخلت في عمري تكية ولا خانقاه (مجاهد).

آل العظم، أبوه وجيه كثير المال ولم يكن يبخل عليه بشيء، وكان قوي الجسد فلم يكن عجيباً أن ينبغ، ولكن العجيب هو محمد الزول، وهو رجل ليس من أسرة غنية ولا وُجد من يوفّر له الوسائل والأسباب، وكان يسكن في دار كانت ... لا، بل دعوني أرجع بكم قليلاً إلى الوراء. لما كنت صغيراً سقطتُ فكُسرت يدي. وكنّا يومئذ نقصد المجبِّر، وهو بمثابة طبيب عظام بلديّ اكتسب خبرته بالتجرِبة لا بالدرس. وكان المجبّر في حي قديم اسمه حيّ القيمرية، وكان الدخول إلى بيته من حارة لم أرَ في عمري ولم أتخيل حارة أضيق منها، لو أردت دخولها الآن لما وسعتني أنا وبطني! في هذا البيت من هذه الحارة تَدَرّب الشابّ محمد الزول حفيد هذا المجبّر، أفتدرون إلى أين بلغ به هذا التدريب؟ لقد دخل مسابقة كمال الأجسام فكان بطل العالَم الثاني سنة ... عفواً لقد نسيت التاريخ، ولكن أذكر أنه كان قبل أكثر من ربع قرن، وله الآن معهد للتدريب والعلاج الطبيعي يؤمّه كثيرون من الشباب، بل ومن غير الشباب. وممّن كان يقصده من غير الشباب الشيخ رضا الحلو، وهو من تلاميذ صائب بك، وكان في الثمانين من عمره حين كان يذهب إلى هذا المعهد، يتدرب لئلاّ يشيخ! وكان عندنا في الشام صنف آخر هم الأقوياء بالفطرة، كالذي قرأتم قديماً عن محمد بن الحنفية (وهو محمد بن علي ابن أبي طالب) وعن هلال بن الأسعر وقصته مع بطل المصارعة

(راجعوها في الأغاني للأصفهاني) (¬1)؛ أقوياء قوّة من الله ليست من ثمرة التدريب، منهم حَمي (¬2) وابن عمّ أمي الأستاذ صلاح الدين الخطيب، كان من شيوخ القضاة في سوريا، وكان يعمد إلى الصفيحة المملوءة بالماء فيحملها بأصبعه، وكان يرفع أكثر من مئة كيل بيد واحدة. وقريب منه في القوّة صديقنا الداعية المخلص الشيخ صلاح الدين الزعيم، الأخ الأكبر لحسني الزعيم. ومثله الحاجّ أحمد المغربي الذي كان صاحب فندق الأهرام في بيروت، رحم الله الجميع. ومن الأقوياء محمد علي بك العظم؛ كان يقعد على باب داره في الجسر الأبيض، فرأى مرّة عربة قد جمحت خيولها فاندفعت نازلة في هذا المهبط الخطر، وفيها امرأة معها طفلان وهي تستجير وتنادي، فصرخ: يا الله، ووثب فأمسك بمؤخرة العربة، وجرى معها قليلاً حتى أبصر ثغرة بين حجرين من حجارة الشارع فثبت قدميه فيها، وصبّ قوته في ذراعَيه ورجع بجسده ¬

_ (¬1) هلال بن الأسعر من الأقوياء المعدودين. له أخبار طويلة عجيبة في الجزء الثالث من «الأغاني» لا يتسع المجال هنا لسردها، فمن شاء رجع إليها هناك. وكان صاحبَ بسطة في الجسم وقوة نادرة، وله أخبار في كثرة أكله لا تكاد تصدَّق؛ زعموا أنه أكل مرة مئتي رغيف في وقعة واحدة، وحمولةَ قارب صغير من التمر في أخرى، وسُئل عن أعظم أكلة أكَلها فقال: جعت مرة ومعي بعيري، فنحرته وأكلته إلا ما حملت منه على ظهري! (مجاهد). (¬2) «حمي» على وزن أبي وأخي، أي والد زوجتي، وهو من الأسماء الخمسة.

إلى الوراء وهو يدعو الله متضرّعاً بصدق وإيمان وانفعال، والناس ينظرون مدهوشين وقلوبهم معه ومع المرأة، فوقفت العربة وعجز الفَرَسان عن جرّها. ولولا أن الحادثة رآها الكثير وحدّثني بها غير واحد ممّن رآها ما رويتها. ومنهم الأستاذ عبد الحميد سعيد، أول رئيس لجمعية الشبان المسلمين في مصر، وقد شهدت فيها سنة 1928 حفلة رياضية كان من فقرات برنامجها مصارعة بين اثنين من أقوياء الشباب، رفض أحدهما قرار الحكم وأبى أن يفارق الحلبة وهدّد وتَوعّد ولم يقدر أحدٌ أن يُنزِله، فصعد عبد الحميد بك فأمره بالنزول فعصى، فرفعه بيديه كأنه يرفع طفلاً وهو لا يملك دفعاً ولا منعاً حتى وضعه خارج الحلبة. على أن من أخبار القوّة ما يشتهر ويستفيض وهو غير صحيح. ألم تسمعوا مرّة أن فلاناً من الناس بلغ من قوّته أنه يمسك الدينار بين أصبعيه فيخرجه أمسح ما عليه كتابة؟ إنها قصة مشهورة، حتى إني قرأت مرّة عن أميرة من مصر كانت معروفة بالقوّة وكان أخوها مثلها، أرسلت إليه دنانير ليشتري لها قمحاً، فساءه إرسالها المال فمسح الدنانير بأصبعيه وقال لها: دنانيرك رديئة. فأخذت حفنة من القمح وضغطت عليها فكسرتها وقالت له: قمحك سيّئ. ولا أدري أي الخبرين أكذب من الآخر، وكلاهما مستحيل عادة. ولو كانت أصبعه أو أصبعها مبرداً وكان مقدار قوتها وزن مئة كيل (كيلوغرام) لأنثقبت الكف، لأن المقاومة أقل من القوّة.

ولكن الناس يتساهلون ويتسامحون عند سماع مثل هذه الأخبار. ومن الذين أعرفهم بالقوّة الهائلة من لِداتي (¬1) اثنان: منير مَشاقّة وابن عمّي الطبيب سامي الطنطاوي رحمه الله. أما منير فقد كان معنا في كلّية الحقوق التي نلت شهادتها سنة 1933، ثم لقيته زميلاً مدرّساً معي في ثانوية البصرة سنة 1936، ورأيت من قوّته عجباً. ولهذا الصديق وإخوته قصّة نادرة، فقد كان أبوهم إسكندر مشاقة من أقدم من عرفَت دمشق من الأطباء (وهو من أوائل الذين فتحوا في الشام مختبَرات للتحليلات من الأطبّاء)، فجرّب تجرِبة ما جرّبها أحد إذ أرسل الأول من أولاده ليدرس في فرنسا فنشأ على طباعهم وعلى شكلهم، والثاني إلى إنكلترا والثالث إلى أميركا، فجعلوا من دارهم معرضاً لاختلاف الطباع وطرق السلوك في الحياة، وصدق فيهم ما قاله جبران خليل جبران. أما ابن عمّي الدكتور سامي فقد كان ضابطاً طبيباً في الجيش العراقي سنة 1938، فأجروا في نادي الضبّاط في السليمانية مباراة في القوّة، فقال لهم وأنا حاضر: أنا أقعد على الكرسي وأفتح فخذي، فمن شاء وقف بينهما ثم خرج بقوّته من بينهما، ومن شاء ضمّ رجليه على فخذي وأنا قاعد فمنعني من فتحهما. وجرّبوا جميعاً، وكانوا كما أذكر بضعة عشر من أقوى الأطباء ¬

_ (¬1) لِداتي أي أقراني في السنّ، واللدة للرجل كالتِّرْب (والأتراب) للنساء، وكلمة لدة من فعل ولد، مثل عِدَة من وعد.

الشباب، فما نجح منهم في الاختبارَين أحد. ومن الأقوياء زميلنا في القضاء الأستاذ محمد آقْبيق، كان جسمه عادياً ما فيه عضلات بارزة، ولكنه أُوتي قوّة في ساعده فلو أمسك برأس فحل هائج من الإبل لجعله يلين ويخضع. * * * أقام أستاذنا الرفاعي الملعب وعلّمنا الحركات بأسمائها التركية: «تيكول» و «شفتاكول» وأنواع المحاور في الالتفاف حول «الثابث» والدوران، ونبغ كثير، وكان منّا جماعة ابتعدوا عن هذا كله فكان يعرّض بهم ويتّهمهم بالعجز والضعف، منهم أنا ورفاقي سعيد الأفغاني أستاذ النحو المتقاعد، وجمال الفرّا الذي صار الأمين العامّ (أي الوكيل) لوزارة المعارف والخارجية، ومحمد الجيرودي المحامي. أما أنا فكنت أعشق الرياضة من صغري وأهوى القوّة، ولو عُرضت عليّ وأنا شابّ عزَب صورة فتاة عارية ظاهر فتونها وصورة رياضي قوي العضلات متناسق الأعضاء مكتمل القوّة لكان منظره أحب إلى نفسي من منظرها. ولكني كنت من صغري بالغ الحرص على كرامتي أضنّ بها أن أفتح لأحد باب المساس بها، فكنت أخاف إن أدّيت الحركة المطلوبة أن أسيء فيها فيسخروا مني، لهذا لم أكُن أعملها، ولكني كنت أراقب وأدقّق، فإذا انتهت الساعة وخرج الطلاب رجعت وحدي إلى الملعب فجربت أداء الحركات كلها. وجمعت على مدى الأيام في رفّين من مكتبتي كل ما وصل

إليّ من كتب الرياضة، فكنت أدرسها وأجرّبها. وكان صديقنا الأستاذ واصل الحلواني من صغار تلاميذ صائب بك قد نشر فينا طريقة الرياضي الأميركي ماك فادن، وهي القيام بالحركة مع تركيز الذهن عليها، فكنت أمارس كل حركة وحدي أمام المرآة مرّة واثنتين وستاً وعشراً حتى أحسّ أني أتقنتها أو قاربتُ. ولكن أستاذنا لم يعرف شيئاً من ذلك ولا رفاقنا. وكان قد ركّب لنا تمرينات جمعت بين الحركات السويدية التي تكون مع شدّ العضلة والدنمركية التي تبدأ بها مع إرخاء العضلة ثم تشدّها، وأتقنتها ولكني لم أُمتحَن فيها، فبِمَ امتُحنت؟ كان أحمد عزة الرفاعي وطنياً متحمساً وديّناً صادقاً، وقد عرف (ولست أدري من أين عرف) أني أجيد إلقاء الشعر، أعبّر عن معانيه بشدّة صوتي أو لينه وبرفعه أو بخفضه، وأُظهِر الحماسة في موضع الحماسة والعاطفة في مكان العاطفة، وتشارك تقاسيم وجهي في التعبير عمّا ينطق به لساني، فكان يكلّفني في الامتحان إلقاء المقطوعات الوطنية لشعراء ذلك الزمان: شوقي وحافظ والزركلي وخليل مردم والبزم. وقد مر بكم أني ألقيت علناً في جمع ضمّ طُلاّب المدرسة وأساتذتها قصيدة شوقي «سلامٌ مِن صَبا بردى أرقُّ» وقصيدة الزركلي «الأهلُ أهلي والدّيارُ دياري»، والثورة قائمة والثوّار تبلغ غاراتهم باب المدرسة، وقنابل المدافع وقذائف الرشّاشات فوقنا ومن حولنا. وبعد خروجي من المدرسة بأكثر من ربع قرن كنت قاضياً في

دمشق، أتغدّى في المحكمة وأشرب الشاي وأستريح ثم أذهب بعد ساعتين إلى دار محمود بحرة فنتدرّب، أعمل كل حركة يعملها ولكنني لا أتقنها مثل إتقانه، وإذا كرّرها ثلاثين مرّة أكرّرها أنا عشرين أو أقلّ. وكنت ذاهباً إليه يوماً فرأيت الأستاذ الرفاعي، فسلّمت عليه تسليم تلميذ على أستاذه. وسألني عن حالي فقلت له: أنا ذاهب إلى موعد، إذا تكرّمت يا سيدي فرافقتني إليه رأيت شيئاً تعجب منه وتُسَرّ به. فذهب معي. فلما خلعت ثيابي ولبست ثياب الرياضة ورأى جسدي (وعندي مقاييسه من سنة 1940 إلى ما قبل خمس عشرة سنة، وهي المقاييس النموذجية عندهم إلاّ أن صدري أضيق بثلاثة معاشير، أي سنتمترات) ثم لمّا رأى حركاتي دُهش، فقلت له: يا سيدي، أين الذين كنت تقدّمهم وتُثني عليهم وتذمّنا نحن وتُعَرّضُ بنا؟ إنهم اكتهلوا وترهّلوا وبقيت أنا كما ترى، وقد جاوزت من عمري الأربعين. * * * ولحديث الرياضة وقصّتي معها بقايا وبقايا، ولولا أني تركت التمرين من نحو سبع سنين لما شخت؛ فلقد كنت أتدرب على الأثقال، وعلى كيس الملاكمة، وعلى السندو، وعلى الدولاب الذي لم تُخترَع أداة رياضية أخفّ منه حملاً ولا أعظم فائدة للبطن ولا أسهل استعمالاً. إني لا أزال «أعلم» الكثير عن التدريب وطرقه والحركات لكلّ عضو من الأعضاء، ولكني «لا أعمل» بما أعلم، فما فائدة

العلم بلا عمل؟ أما قصّتي مع السباحة فلها حديث آخر (¬1). وأنا أعترف الآن -مضطراً متحسّراً- أني شخت وأني أنا الذي جعلت نفسي أشيخ. فيا أيها الشباب، عليكم بالرياضة فهي قوّة، والقوة زينة الرجال: قوّة الجسم، وقوة العقل، وقوة الإيمان. وهي أوسع أبواب «التسامي» بالميول عن الغوص في حمأة الشهوات (¬2)، وهي أفضل ما يملأ الأوقات بعد أداء حقّ الله بالعبادة وحقّ العقل بالدراسة. والرياضة إن خلت من المحرّمات كانت أشرف ما يشتغل به الشباب (¬3). * * * ¬

_ (¬1) من شاء فليقرأ مقالة «في لُجّ البحر» في كتاب «من حديث النفس»، وفي أولها: "مات علي الطنطاوي! وليس عجباً أن يموت والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات ليصف للقرّاء الموت الذي رآه ... " (مجاهد). (¬2) راجع مقالتي «يا ابني» في كتابي «صور وخواطر»، أما أختها مقالة «يا بنتي» التي أبحتُ طبعَها لمن شاء أن يوزّعها مجّاناً فقد طُبعت إلى الآن (إلى سنة 1404) ستاً وأربعين مرّة وتُرجِمَت إلى الإنكليزية والأورديّة. (¬3) راجع مقالة «حديث في الرياضة» في كتاب «فصول اجتماعية» (مجاهد).

رحلة الحجاز (9) ساعة الوداع

-82 - رحلة الحجاز (9) ساعة الوداع لقد جاءت ساعة الوداع، وما أصعب الوداع. إن آلام البشر كلها كتاب عنوانه «الوداع»؛ فالمرض وداع الصحّة، والفقر وداع الغِنى، والسجن وداع الحرّية، والموت وداع الحياة. أين فرحتنا لحظة رأينا الكعبة قادمين من لوعتنا حين نودّعها قافلين؟ إنّ حُزناً في ساعةِ الموتِ أضعا ... فُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ (¬1) توجّهنا إلى الأمام، إلى جدّة، وقلوبنا تتلفّت إلى الوراء، إلى الحرم، إلى الحَطيم، إلى الكعبة والمُلتزَم. لقد فهمت الآن معنى قول الشريف: وتلفّتَتْ عيني فمُذْ خَفِيَتْ ... عنّي الطُّلولُ تلفّتَ القلبُ ¬

_ (¬1) البيت للمعرّي من قصيدته المعروفة: «غيرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعتقادي»، وإن كانت داليّته الأخرى: «أَحْسَنُ بالواجِدِ مِن وَجْدِه» أحلى منها.

ونأينا عن مكّة بأجسادنا وخلّفنا فيها قلوبَنا وأفئدتنا. ولولا أننا نأمل أن نداوي لوعة هذا الفراق بروعة ذلك التلاق، لقاء المدينة، لَتضعضعَت قلوبنا من موقف الوداع. ومشينا من حيث مشى سيد البشر محمد ‘ إلى حيث أراد: من مكّة إلى المدينة. وذكرت الهجرة التي لم تكن نقلة لثلاثة رجال من قرية إلى قرية، ولكنها رحلة التاريخ البشري كله من عهد إلى عهد؛ من الليل الذي طال حتى ظنّ المظلومون الذين يترقّبون الفرج أنه لن يطلع عليهم بعده النهار، من عهد الاستبداد والقهر والجهل إلى عهد الحضارة الخيّرة النيّرة التي جمعَت مطامح الروح، ومطالب الجسد، ومنطلَقات العقل. لقد كان أعظم موكب مشى على ثرى هذه الأرض. لم يكن موكباً ضخماً، ولم تكن تتقدمه الطبول والصّنجات، ولم تكن ترفرف فوقه الأعلام والرايات. ولم يكن يحفّ به الجيش معه الحرّاس والأعوان، ولكن تحفّ به ملائكة الرحمن وترفرف فوقه راية القرآن، وتتقدّمه البشائر من السماء بأن رحمة الله للعالمين قد أقبلَت، وتمثّلَت بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وُلد ويموت، وكان يصحّ ويمرض ويجوع ويشبع. بشر مثلكم ولكنكم لستم مثله وليس فيكم من يقدر أن يدانيه فضلاً عن أن يساويه أو أن يساميه، ولو لم يكن خاتم الرسل لكان أفضل البشر خُلُقاً وسُمُوّاً وصفاء ونقاء. وإذا كان العرض العسكري تُمثَّل فيه فرق الجيش وفصائله بأفراد منها تمشي فيه، فهذا العرض يمشي فيه وراء محمد ‘ من خلال القرون الآتية خرّيجو مدرسة محمد من كل خليفة كان

صورة حيّة للمُثُل البشرية العليا، وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً، وكل عالِم كان للبشر كالعقل من الجسد. "يمشي فيه أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين وأورنغ زيب ... يمشي فيه خالد وطارق وقُتيبة وابن القاسم والملك الظاهر ومحمد الفاتح ... يمشي فيه البخاري والطبري وابن تيمية وابن حزم وابن خلدون ... يمشي فيه الغزالي وابن رشد وابن سينا والبيروني ... يمشي فيه الجاحظ والخليل وأبو حيان ... يمشي فيه أبو تمام والمتنبي والمعرّي ... (¬1). كل أولئك والمئات من أمثالهم كانوا معه وهم في عالَم الذرّ قبل أن يخرجوا إلى هذه الدنيا، كانت أرواحهم تمشي في طريق الهجرة وراء محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم ما كانوا عظماء لولا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. يمشي فيه أبطال بدر واليرموك والقادسية وحطّين وعين جالوت، ومعارك الاستقلال في الريف المغربي والجزائر ومصر والشام والعراق، وأبطال المعارك القادمة التي سيقودها نور الدين (الجديد) وصلاح الدين (الجديد) لتطهّر الأرض التي قدّسها الله من رجس اليهود، كما طهّرها ممّن عدا عليها قبلهم وكان أقوى منهم. إن الغرام الواحد من الراديوم الذي استخرجَته مدام كوري وزوجها بيير (¬2) لم ينقطع إشعاعه ولن ينقطع بعد عشرة آلاف سنة. ¬

_ (¬1) انظر مقالتي «نحن المسلمين» في أول كتابي «قصص من التاريخ». (¬2) أتمنّى أن يقرأ كل طالب وكل طالبة كتاب «التلميذة الخالدة» ليروا كيف يكون الصبر على طلب العلم الدنيوي، فيصبروا مثله على طلب علم هو للدنيا وللآخرة.

أفينقطع إشعاع القرآن ولو تطاول عليه الزمان؟ وإذا قَسَت الجلود اليوم فلم يعُد يؤثّر فيها، فهل تظنّون أن جلود هذه الأمة ستبقى على قسوتها؟ أوَلا تعتقدون أن الله سيبعث من أصلابها مَن يُعيد لها عزّتها ومجدها ووحدتها ومكانتها تحت الشمس؟ ألم تبقَ هذه القرية التي كانت يثرب ألفَي سنة لا تحسّ بها روما ولا تدري بها القسطنطينية، ولم يسمع باسمها ولم يعلم بوجودها من في الصين أو من في الفلبّين، فلما نزلها محمد ‘ ذهبت يثرب وجاءت المدينة المنوَّرة بنور الإسلام، بالنور الذي انبثق من حِراء، ثم انتشر منها فوصل إلى الهند والصين وأندونيسيا والفلبّين، وإلى أرض الثلوج من شمالي أوربّا وكندا وبلاد الرمال المستعِرة في الصحراء الكبرى وصحراء نيفادا وما حولهما، وصل إلى الأميركيتين وإلى أستراليا. من حمله إليها؟ الجيوش المنظَّمة؟ إن ثلثَي العالَم وصل إليه نور الإسلام بعد انقضاء عهد الفتوح. دعاة من العلماء درسوا أصول الدعوة ووضعوا لها الخُطَط؟ إن أكثرها وصل إليه الإسلام عن طريق جنود مجهولين من التجّار. لما زرت أندونيسيا سنة 1954 ومشيت إلى أقصى الشرق منها فجاوزت سورابايا إلى كارّاشيك، «مقر الشيخ»، وهو الشيخ الذي حمل الإسلام إلى تلك الديار. ولما أردت أن أُؤلف كتابي «في أندونيسيا» سألت، فلم أجد أحداً يعرف من هو هذا الشيخ ولا من أين جاء! جندي مجهول، مجهول عندنا ولكنه معروف عند الله. رجل لا يعرفه أحد وُلدت على يديه أكبر دول الإسلام اليوم!

اذكروا أيام الفتوح الأولى حين كان عمر وهو في المدينة يدير ثلاث جبهات للقتال في الشام ومصر والعراق، يعطيها الأوامر التفصيلية، يرسم لها الخطط وكأن أمامه الهاتف الكهربي (الإلكتروني) والخريطة المجسَّمة، في عهد لم تكن فيه خرائط مجسّمة ولا هواتف. اقرؤوا كتاب أخبار عمر الذي ألّفته أنا وأخي ناجي، بل اقرؤوا من قبله أصلَه الذي أُخذ منه والذي ألّفته سنة 1352، وهو الكتاب الكبير الذي كان اسمه «عمر ابن الخطاب» (¬1). اقرؤوه، فستحسّون عند قراءته بقلوبكم تهزّها خفقات الإعجاب، وبدموعكم يُسيلها ما فيه من مواقف الإيمان والتضحية النادرة ابتغاء ما عند الله، فإنّ منها ما يُسيل دمع التأثّر من عيون الصخر. كان المجاهدون كلّما وقعوا في مأزق استنجدوا بعمر، فهزّ ¬

_ (¬1) هذا الكتاب غير موجود ولا أُعيدت طباعته منذ طُبع أول مرة، لأن جدي نقضه وأنشأ على أنقاضه كتابه الآخر: «أخبار عمر». ولهذا الكتاب قصة ستأتي فيما يأتي من حديث الذكريات. والصحيح أنه ألّفه سنة 1355 لا سنة 1352 كما صرّح في هذا الموضع وفي غيره، وفي آخر صفحة منه «كلمة الختام» وفي آخر سطر فيها تاريخ كتابتها: "منتصف المحرم عام 1356". ولا بد أن يكون كذلك لأن جدي ألّفه بعدما ألفَ كتابه عن أبي بكر (صرح بذلك غير مرة)، وكتاب «أبو بكر الصديق» أُلّف سنة 1353 بلا ريب. وقد أعياني البحث في هذه المسألة زماناً، لكني لم أهتدِ قط إلى السبب الذي أوقع جدي في هذا الوهم فظنّ أنه ألف كتابه القديم عن عمر سنة 1352، وتكررت إشارته إلى هذا التاريخ في مواضع شتى من هذه الذكريات (مجاهد).

عمر هذه القرية الصغيرة (المدينة) فإذا هي تُخرج الأبطال. لمّا أراد عمر قائداً يقف في وجه رستم، ورستم هو القائد العسكري الذي درس فنون القتال ونال أكبر قسط من الدراسة العسكرية في تلك الأيام وخاض معارك ونال انتصارات، نظر فوجد سعداً فقال: أنت يا سعد لها، فاذهب لتقف في وجه رستم. أين درس سعد؟ سعد ما نال شهادة ابتدائية ولا دخل مدرسة عسكرية ولا وقف على تواريخ المعارك والحروب، ولكن سعداً خريج مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، مدرسة القرآن، وحسبه ذلك. وبذلك انتصر على رستم. إني والله كلّما ذكرت المدينة أو سافرت إليها أشعر أنني أعود القهقرى في التاريخ، أطوي السنين، أتخطّى رقاب الأعوام لأصل إلى العهد الذي كان العهد الذهبي، لا للعرب وحدهم ولا للمسلمين فقط، بل للناس جميعاً. لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل بالحضارة التي شاد أساسها وأقام بنيانها على كل من قال: أنا إنسان. المدينة، هذه القرية التي لبثَت نائمة بين الحرّتين على فراش من الصخر قروناً وقروناً، هي التي ولدت دمشق الأمويين الذين: كانوا ملوكاً سريرُ الشرقِ تحتَهمُ ... فهلْ سألت سريرَ الغربِ ما كانوا؟ عالينَ كالشمسِ في أطرافِ دولتِها ... في كلِّ ناحيةٍ مُلكٌ وسُلطانُ وبغداد بني العباس:

لو كانَ يقعُدُ فوقَ الشمسِ من كرمٍ ... قومٌ لَقيلَ اقعُدوا يا آلَ عبّاسِ ثمّ ارتقُوا في شعاعِ الشمسِ إنّ لكمْ ... مجداً تليداً فأنتم أكرمُ الناسِ وهي التي ولدت القاهرة التي جدّدَت عز الإسلام لما رثّ في مصر ونام عنه بنو العباس. وهي التي ولدت إسطنبول المسلمة (إسلام بول) التي حلّت محلّ القسطنطينية النصرانية، فصارت إسطنبول يوماً عاصمة الشرق والغرب، ورفرف علمها الأحمر ذو الهلال والنجم (الذي نشأت في صِغَري في ظلاله في الشام أيام الحرب الأولى) حتى بلغ أسوار فييَنّا وأسوار صنعاء وأطراف الشرق الأوسط، وهذه آثارها في الحرم في مكّة وفي المسجد النبوي في المدينة، ولا يزال اسم السلطان عبد المجيد مقروناً ببابه الشمالي (الباب المجيدي). وولدت غزنة التي خرج منها السلطان محمود الغزنوي ففتح الهند، ثم السلطان الغوري الذي وضع عرشه على هام دهلي، والملوك الذين امتدّ سلطانهم حتى شمل الهند إلاّ أقلها ... الهند التي حكمناها ثمانمئة سنة. هذه مكانة المدينة المنورة. * * * عرض الرائي من سنوات قصّة خرافية عنوانها «نفق الزمان»، يدخل منه المشاهد فيردّه إلى ما سلف من الدهر. إني حين أزور المدينة أحسّ أني دخلت هذا النفق، ولكني لا أهبط فيه نازلاً بل أرتقي صاعداً إلى ذُرى المجد وهام المعالي؛

من المفازة الجرداء إلى الواحة الشَّجْراء، وسط الظلّ عند ينبوع الماء. أفارق الذين فرّقوا دينهم لمّا فرّقتهم دنياهم فصاروا شِيَعاً وأحزاباً، لألقى الذين ألّف الله بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمته إخواناً. سألني مرّة صحافي في المدينة: ما الذي تشعر به حين تزور المدينة أو تأتي مكّة؟ فقلت له: لمّا كنت في إحدى قدماتي المدينة سالَ العقيقُ، وكتبت عنه فصلَين في «الرسالة» سنة 1935 (¬1)، وغرق في هذا السيل مرّة ثلاثة من الشبان. فلو أنهم نجوا وسألتَهم ما الذي يشعرون به، فبماذا تراهم يجيبون؟ إني أشعر بما يشعر به الغريق حينما تمتدّ إليه يد الإنقاذ فيصافح أنفه الهواء بعدما ملأ رئتيه الماء، أو السجين حينما يخلّف وراءه قضبانَ الحديد ويستقبل حياة الحرّية من جديد ... شعور المحبّ امتدّ به الفراق وازدادت منه الأشواق ثم نَعِمَ بساعة التلاق. كل امرئ يحبّ وطنه لأنه إطار حياته وخزانة ذكرياته، ولكن إذا وقف على أطلال ديار الأحبّة أنساه موطنَ الجسد أنه رأى منزل القلب. فإن زار مَراح الأرواح، مبعث النور، مَشرق شمس الإسلام، نسي عند دار الروح دارَ الجسد ودارَ القلب. ها هنا في المدينة وفي مكّة مهاد الأفئدة، هنا الإيمان والأمان، هنا منازل الأحبّة، هنا أذكر محمداً وصحبه. هنا عاش تاريخ المجد، وُلد هنا ونما هنا. فهل في الأرض مسلم لا يفضّل ¬

_ (¬1) انظر مقالة «وقفة على العقيق» في كتاب «من نفحات الحرم» (مجاهد).

على كل منزل في الأرض الحجرةَ التي عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم: تنفّس هواءها واضطجع على ثراها، ثم ثوى جسده الشريف فيها؟ هل في الأرض مسلم لا يؤثرها على حجرته في داره، ويقبل راضياً (إذا خُيّر واضطُرّ) أن تُنسَف داره من الأساس وأن لا تَمسّ يدٌ بأذى حُجرةَ الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم؟ لمّا زرت المدينة في تلك الرحلة داروا بي من حولها فأروني موضع الخندق لمّا تحزّبَت الأحزاب وأحاطوا بالمدينة وضاق بالمسلمين الأمر واشتدّت عليهم الحال. فأين اليوم الأحزاب؟ وأين مِن قبلُ قريش التي أرادت أن تحبس صوت محمد صلى الله عليه وسلم بين جبلَي مكّة، فيضيع صداه في هذا الوادي فلا يستجيب لدعوته أحد؟ أين قريش؟ وما لها لا تأتي عرفات يوم الوقفة حين يقف ألف ألف ومعهم مثلهم ألف ألف، جاؤوا من كلّ أرض في الأرض ومن تحت كل نجم في السماء يجيبون دعوة محمد؟ من كل جنس وكل شعب ينادون كلهم استجابة لدعوة الله على لسان محمد يقولون: لبّيك اللهم لبّيك، دعوتَنا فجئنا نقول لبّيك. أمرتنا فقدمنا طائعين نقول لبّيك، وسنلبّي دعوتك إلى الجهاد نقول لبّيك، نجاهد بأنفسنا وبأموالنا كل طاغٍ فاجر يريد أن يطفئ بفمه نور الله، يريد أن يحجب بكفّه عن الدنيا ضياء الشمس، يريد أن يقضي على القرآن الذي أنزله وتعهّد بحفظه الله ربّ العالمين. أين مُشركو مكّة؟ إنهم بين مَن هداه الله إلى الإسلام فجعله الإسلام من عظماء البشر، وبين مَن أصرّ وكفر فأرداه الله، فطمس أثره ومحاه من الأرض. أين الأحزاب؟ أين يهود المدينة؟ أين

المنافقون؟ لقد صدّ الأحزابَ الخندقُ الذي حفره المسلمون في الأرض ليحول بينهم وبين الوصول إلى المدينة، ليحمي موطن الإسلام من أعداء الإسلام، والخندق الذي حفروه قبله في نفوسهم ليحول بينها وبين الشبهات والشهوات والمذاهب الباطلة والعقائديات (¬1) ويحميها من كيد الشياطين، شياطين الجنّ وشياطين الإنس. فاحملوا معاولكم لتحفروا خندقاً جديداً يمنع الإلحاد والفساد والفسوق والعصيان أن يصل إليكم. * * * من هنا طلع البدر علينا، من ثَنِيّات الوداع. ولكن أين ثَنيّات الوداع؟ لقد خلد اسمَها هذا النشيدُ الذي بقي في الأذهان على طول الزمان ومشى على كلّ لسان، ولا يعرف إلاّ العالمون من أهل المدينة أين ثنيّات الوداع. لقد غرّدت به وَلائدُ المدينة تستقبل به الطفولةُ المبرّأة رسولَ الله المبرَّأ من العيوب، حين عاد من تبوك (أو حين وصل المدينة يوم الهجرة) فغدا نشيدَ المسلمين كلّما طغى بهم الشوق إلى هذه الرحاب، كلّما أذابهم الحنين إلى العيش في ذكرى الهجرة والمدينة التي شرّفها الله فجعل رسوله يهاجر إليها ويستقرّ جسده الشريف في ثراها. يا ولائد المدينة، ما طلع البدر عليكنّ وحدكنّ بل عليكنّ ¬

_ (¬1) النسبة إلى الجمع تجوز إن جرى الجمع مجرى العلَم، كما نقول «رجل أنصاري» و «مسألة أصولية» و «قوانين عمّالية».

وعلينا، على الدنيا كلها، يزيح ظلام الباطل الطويل الثقيل عن صدرها، ظلام حكم كسرى وقيصر، وأمثالهما من كل متكبر جبّار يسري في الظلام ليصل إلى ظلم الأنام، يدوس الضعاف في طريقه لأنه لا يراهم، ولا يريد أن يقدح زناده فيشعل سراجاً فيراهم. البدر الذي طلع على الدنيا كلها فأضاء للعقول طريق التفكير، وللقرائح سبيل الابتكار والإبداع، وجعل الأيدي تبني وتشيد، فكانت حضارة دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ودهلي وبخارى ... ولولا البدر الذي طلع على المدينة ما كان هذا كله. يا ولائد المدينة، ما غاب البدر ولا أدركَته ليالي المحاق. إنه لا يزال طالعاً، طالعاً بشريعة الله، طالعاً بخيرات ما دعا إليه محمد ‘، طالعاً بالكتاب المحفوظ والسنّة المَصونة. ولئن حجبَته عنّا غيوم سوداء تصاعدت من أبخرة بحار معاصينا، ومن كيد أعدائنا وغفلتنا عن كيدهم لنا، فإن السحب ستنقشع ويصفو الجوّ ويعود البدر ليبهر بنوره الأبصار. * * * يا أيها القراء، إن لم تكن هذه الحلقة من صميم الذكريات فخذوها على أنها تحيّة لمدينة الرسول (عليه من الله الصلاة والسلام) ولأهل المدينة الكرام. * * *

في التعليم: مواقف ومساومات

-83 - في التعليم: مواقف ومساومات انتهت رحلة الحجاز، وكل شيء في هذه الدنيا إلى انتهاء، ما لشيء فيها بقاء. عدت إلى بلدي، مهد طفولتي ومرتع شبابي، وفرحت بعودتي ولكني أسيت على ما فارقت؛ على أني بعدت عن مهبط الوحي ومنزل النبوّة، وعن مواجهة القِبلة وأنا أصلي أراها أمامي عياناً، وعلى أني تركت البلد الحُرّ الذي لا يحكمه أجنبي ولا تلوح فوقه راية غريب كافر، أسيت على ترك بلد الإيمان والأمان، الذي لا يُعلَن فيه منكَر ولا يُجهَر فيه بفاحشة، ولا يتخلف فيه أحد عن الصلاة إذا نادى المؤذن: «حيّ على الصلاة». عدت إلى بلدي المنكوب بالاستعمار، وإن بدل الاستعمار الثياب وغيّر اللوحة على الباب فسمى نفسه الانتداب. إلى البلد المفتَّح لكل الدعوات الباطلة والمذاهب الخبيثة، يندسّ فينا مَن ينشرها في أبنائنا، حتى إذا اقتنعوا بها شبّوا عليها، حتى إذا صار الأمر بأيديهم ساروا وسيّروا أمتهم عليها، ولكني -على ذلك- أعدّها بلادي:

بلادي وإن جارَت عليّ عزيزةٌ ... وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ عدنا إلى دمشق، وكانت دمشق لا تزال لأهلها، أحياؤها معروفة وأهل كل حي يتعارفون بينهم. وكانت الأحياء تتسابق إلى الخير وتتنافس عليه، فلما عدنا بعد أن حقّقنا ما كان يعدّه أكثر الناس مستحيلَ التحقيق، وهو وصول السيارات من دمشق إلى مكّة، وبعد أن انقطعَت أخبارنا مدّة كتبَت فيها الصحف وتساءل الناس وخافوا علينا، فكانت لعودتنا فرحة عامّة في دمشق، وتبارت الأحياء في استقبال أبنائها من أعضاء الرحلة وفتح الأعضاءُ بيوتَهم للمهنّئين. أمّا الوجهاء منّا وذوُو المال من أصحاب المنازل الكبيرة والخدم والحشم فقد زيّنوا دورهم والطرقَ المؤدّية إليها، وأوقدوا المصابيح سلاسل على جوانبها كما يكون في بيوت الأعراس في مكّة، وفتحوها للمئات والمئات من المهنّئين. أما أنا فكنت أسكن في طريق مسجد القصب الذي يكاد يُعَدّ يومئذ من أطراف دمشق، ما كان فيه إلاّ البساتين وبيوت قليلة بُنِيَت في أطرافها في شارع بغداد الذي فُتح أيام الثورة سنة 1925، أي قبل رحلتنا هذه بعشر سنين. وكان خالياً، ما قامت على جوانبه إلاّ بيوت معدودة، أمّا داري فمساحتها كلها بمقدار بهو واسع من دور الأغنياء المترَفين، كانت داراً خشبية تدخل منها إلى رحبة مكشوفة في صدرها غرفة لا تزيد على أربع أذرع في أربع، والرحبة في مثل سعتها، يصعد منها درَج من الخشب في وسطه غرفة صغيرة إلى غرفة عليا كالغرفة الأرضية؛ هذه هي الدار كلها. وأراد أهل حيّنا أن يباروا الأحياء الأخرى، فجمعوا من

المال (جزاهم الله خيراً) ما مدّوا به سلاسل المصابيح من مسجد القصب إلى دارنا، مسافة ستّمئة متر أو تزيد، وأقاموا الأقواس من أغصان أشجار الغوطة وزيّنوها -على عادة الشاميين في تلك الأيام- بصوَر زعماء الوطنية أمثال هاشم الأتاسي وزكي الخطيب وشكري القوّتلي، ومعها الصورة المتخيَّلة التي تُعلّق على جدران القهوات، صور عنترة وأبي زيد الهلالي. وجاءت الوفود مهنّئة أفواجاً أفواجاً. ولكن أين أستقبلها وما في الدار إلاّ غرفة واحدة ما فيها أرائك (كَنَب)، ما فيها إلاّ فرش عربي لا يصلح إلاّ لاستقبال الأصدقاء المقرّبين والأقرباء الأدنَين، وما في الدار كراسي أصفّها ليقعد عليها القادمون من المهنّئين؟ ولكن كانت لنا يومئذ رابطة أضعناها؛ كان الجيران كلهم كأنهم إخوة، كانت بيوت الحارة جميعاً كأنها بيت واحد، فإن كان في بيت منها عُرس أو كان فيه مأتم، فكل كراسي الحارة تكون عندهم وكل الكؤوس والأواني التي يحتاجون إليها تأتي إليهم. وأنا رجل يعرفني الناس كلهم من فوق المنبر ومن صحائف الجرائد، ولكني كنت (ولا أزال) متوحّشاً لا أنغمس في الحياة الاجتماعية، وكنت (ولا أزال) أعُدّ أكبر المتع خلوة بكتاب أقرؤه أو إخوان زادت بيني وبينهم الألفة وزالت الكلفة أجلس معهم. وجاءت الوفود وتبرّع أهل الحارة ومن كان من الجيران في استقبالهم ووداعهم، وفعلت ما أقدر عليه، إلى أن جاءني أحد الجيران راكضاً يلهث، قال: قم فانظر، سبعون أو أكثر من الفرسان من «الزكرتيّة» جاؤوا على خيولهم، على رأسهم

عبدالسلام الطويل. وهو ابن صديق والدي الشيخ موسى الطويل، التاجر العالِم المجاهد الذي أبلى في الثورة أحسن البلاء، وكان له عمل ظاهر في كلّ أعمال الخير. أين -ناشدتكم الله- أضع سبعين خيّالاً في دار لا تزيد مساحتها على مساحة إسطبل واحد لفرس واحد من هذه الخيول؟ فخرجت إليهم إلى شارع بغداد. وكان الجيران والأقرباء قد جاؤوا بقِدْرٍ كبير عصروا فيه أرطالاً من الليمون البلدي وصنعوا شراباً، وجمعوا من بيوت الحارة كل ما عندهم من أكواب وصواني، وخرجَت الصواني عليها الأكواب تسقي الفرسان. وألقيت عليهم خطبة من الخطب التي كنت ألقيها في تلك الأيام، خُطَب حروفها من لهب النار وكلماتها من تيار الكهرباء، وهي مزدانة بألمع الصور، صور الجهاد الإسلامي من صدر تاريخنا الرائع الذي لم تملك أمة في الدنيا مثله، وكنت يومئذ أغلي بالحماسة وأتفجّر بالشباب، كنت ابن سبع وعشرين سنة، لست الشيخ ابن السبع والسبعين الذي يكتب هذا الكلام. وامتلؤوا حماسة، وتراءت لهم صور الأمجاد من تاريخنا الماجد. ثم قلت لهم وأنا أشير بيدي: إلى الأمام يا أيها الأبطال، إلى الأمام ... إلى المجد، إلى العلا، إلى الاستقلال! وركضوا خيولَهم وأسرعوا يعدون بها. ومشوا إلى الأمام فما انتبهوا إلاّ وهم في القَصّاع حيث ينتهي شارع بغداد. ما دنوا من المجد ولكن ابتعدوا عن داري، لابُخلاً ولا لؤماً، فما أنا بحمد الله من البخلاء ولا اللئام، ولكن الله لايكلّف نفساً إلاّ وسعها،

وثوب الولد الصغير مهما شددتَه لا يسع جسد المصارع الضخم، فكيف تتسع داري الصغيرة لهذا الجيش من الفرسان؟ على أنها لم تكن داري ولكني كنت مستأجرها، وأجرتها خمس ليرات في الشهر، أي أقل من ريالين بسعر الصرف اليوم (أوائل سنة 1405)؛ أجرة الدار في الشهر كله أقل من ريالين! * * * وعدت معلّم صبيان كما كنت من قبل هذه الرحلة. ولكن لماذا صرت معلّم صبيان وأنا بالمقياس الرسمي أحمل إجازة الحقوق (ليسانس) من سنة 1933 وأستطيع أن أكون قاضياً؟ ولقد عرض عليّ ذلك الأستاذُ سامي بك العظم، صديق والدي وصديق خالي محبّ الدين الخطيب، وكان معدوداً مع جماعة الشيخ طاهر الجزائري من الطبقة التي كانت قبلنا من الرجال أمثال أستاذنا كرد علي وخالي محبّ الدين. وكنت أستطيع أن أكون محامياً، ولكنها -كما يقولون- «الظروف». كانت لي صِلات بكبار رجال الأدب ورجال العلم، وكانت لي مكانة أدبية غير رتبتي الرسمية، كان لي بين المشايخ مكان ولي فيهم صوت مسموع، وإن كنت من أصغرهم وكان كثير منهم من مشايخي، وممّن أقبّل أيديهم وأُجِلّ أقدارهم وأعرف لهم حقوقهم. ولي في الأدباء منزلة، وإن كان فيهم من له سابقة ليست لي وكان له ذكر قبل نشوئي، وكان منهم من هو بموضع أساتذتي. وكانت مقالتي في الرسالة توضع بعد مقالات العشرة الكبار مباشرة من أمثال الزيات والعقّاد وطه حسين والمازني.

وكنت في المجالس الأدبية وعلى منابر الخطابة أو كراسي المحاضرة أقعد مع من هم وزراء وأمناء (أي وكلاء) أو مديرون ... فإن جاءت الوظيفة بقي هؤلاء في أماكنهم ونزلت حتى أقعد مع معلّمي الابتدائي، أي مع موظفي الدرجة الخامسة، أي مع الذين لا تزيد رواتبهم الشهرية عن ست وثلاثين ليرة في الشهر! ولكن كيف أقول هذا ولا أخشى أن أُتَّهم بأنني مُدّعٍ بلا دليل وأني مغترٌّ بنفسي بلا حقّ؟ كيف آمن أن يعدّني القراء من مادحي أنفسهم؟ إن لديّ أثواباً جميلة غير ما يراه عليّ من يعرفني هنا الآن، ولكني إن لبستها ورآني من لم يرَها عليّ ظن أني سرقتها أو استعرتها، فكيف لي بإقناعه أنها ثيابي أنا، لم أسرقها ولم أستعرها؟ كيف أقول لهم إني كنت في الوظيفة معلّم ابتدائي، موظفاً من الدرجة الخامسة، ولكني كنت في المجتمع وفي مجال الأدب ومجال العلم في مرتبة أعلى من ذلك؟ ولكن لماذا رضيت بالدنيّة فصرت معلّم ابتدائي؟ كان الطلاب هم المحرّك (الدينمو)، وكنت أقود الطلاّب وأحرّكهم. كنت أول خطيب بين الشباب يرتجل خُطَباً تثير الناس وتهيج الجماهير، وكان لي فوق ذلك قلم إن شئته غصناً من أغصان الجنّة أورقَ وأزهرَ وأنعشَ القلوب، وإن شئتُه حطبة من حطب جهنّم أحرقَ ودمّر. وكنت فوق هذا وذاك أعمل في أكبر جريدة وطنية هي جريدة «الأيام». وكانوا مستعدّين -لمّا عرضوا عليّ الوظيفة- أن يُعطوني وظيفة من الدرجات العُلى كما فعلوا مع غيري ممّن جاء بعدي وكان دوني، ممّن لا يملك من الوسائل التي تخيفهم منه وتدفعهم إلى استرضائه ما أملك، فلماذا قبلت أنا أن أكون معلّماً؟

إني لأفكر في هذا الآن فأرى أنني فعلت ذلك لأسباب؛ أولها: أنني اشتغلت من قبل بالتعليم، والمعلّم وإن كان موظفاً مقيّداً بقيود الوظيفة ولكنه في الفصل حر، يأمر كثيراً ولا يُؤمَر إلاّ قليلاً. ولأن تعييني مدرّساً في الثانوية كان يومئذ أمراً كالمستحيل، لأنه لم يكن في الشام إلاّ ثانوية رسمية واحدة هي «مكتب عنبر»، وقد عرفتموه، وكان يدرّس فيه أساتذتي، فهل أزاحم أساتذتي على كراسيهم وهم أحياء؟ أما الثانويات الأهلية فقد درّست فيها، كنت مدرّس الأدب العربي في الكلّية العلمية الوطنية سنة 1930 أو سنة 1931 (وطُبع لي يومها كتاب عن بشّار لاأرتضيه الآن). كنت معلّم ابتدائي ولكني كنت متمرّداً، أقوم بعملي كله أو بأكثر منه لأني كنت أحبّ عملي، ولكن لا أشعر بالخضوع لمدير. ولمّا جاءت بدعة دفتر التحضير رفضتها، ولم يستطع أحد أن يجبرني عليها لأنني إذا ضُويقتُ فزعت إلى قلمي فجرّدته فقرعت به أركان وزارة المعارف. كانوا يعرفون هذا ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام، لا أقول هذا فخراً وادّعاء بل أقرّر حقيقة يعرفها من عاش في دمشق قبل خمسين سنة. وأنا لا أرى للشباب أن يقلّدوني فيه، ولكن أذكر ما كان. وأنا أعلم أنّه لا يستقيم أمر أمّة إذا تمرّد موظفوها على رؤسائهم أو تكبّر عليهم رؤساؤهم؛ إنما يستقيم أمرها إذا وقّر صغيرُها كبيرَها ورحم كبيرُها صغيرَها، واتّبعوا في ذلك منهج الإسلام وسنّة الرسول عليه الصلاة والسلام. فكنت ذا صفة رسمية، معلّم ابتدائي، وصفة اجتماعية كما

ذكرت لكم. وكنت أستطيع أن أحرّك البلد وأن أغلق الأسواق، وكنت أنجح في حالات كثيرة بمعونة جماعات من التجّار وجمعية الهداية الإسلامية في الشام. والذي يجعل الناس يُصغون إليّ ويستمعون مني أني لم أكُن منتسباً يوماً إلى حزب ولا إلى هيئة ولا إلى جماعة، وما كان لي مقصد أو منفعة شخصية أبتغيها وأحرص عليها. قيّدوني بقيود الوظيفة ولكن ما استطاعوا أن يشدّوا لساني بخيط أو أن يربطوه برباط، كنت أقول ما أعتقد، لا أهاب فيه أحداً ولا أخشى له مغبّة. حتى حين كبرت وشخت وضاقت بلساني مسالك القول في أكثر البلدان، وسُدّت أمام القلم صفحات الجرائد والمجلاّت، صرت أسكت أحياناً مضطراً، أسكت عن كلمة الحقّ لأني لا أقدر أن أقولها، ولكن ما قلت قط كلمة الباطل. صرت أبتعد عن الصدع بالأولى أمام من بيدهم السلطان، بل أبتعد عنهم، ولكن ما قلت إلى الآن كلمة تُسخِط الله وتجافي الحقّ لأسترضي بها صاحب سلطان، والمطبوع ممّا كتبت إلى الآن (وهو تحت أعيُن الناس، يزيد عن عشرة آلاف صفحة) يشهد لي إن شاء الله بما أقول. ولا أزكّي نفسي ولا أدّعي العصمة، فالعصمة للرسول ‘، ولا أقول إني كامل، ولكن أقول إني أحرص دائماً على أن لا أنطق بغير الحقّ. كانت لي مواقف وأنا معلّم آذيت فيها الرؤساء بمخالفتهم وآذوني في رزقي وفي وظيفتي بسلطانهم؛ دُعيت مرّة أن أكون من اللجنة العليا الفاحصة في امتحان الشهادة الابتدائية (السيرتيفيكا)، وكان يُعقَد له على عهد الفرنسيين امتحان عامّ. وكنّا يومئذ نُعنى بالعربية عناية قد يعجب منها من يسمع الآن خبرها، من ذلك أن

التلميذ الذي يخطئ في الإملاء، أي في مواقع الهمزات وسط الكلمة، يُكسَر له درجة من عشر (وكانت الدرجة الكاملة عشراً)، فإن كان الخطأ فاحشاً كُسرت له درجتان، أي أن خمس خطيئات في الإملاء تعطيه صفراً، ومن أخذ صفراً في مادّة من الموادّ (مهما كانت) يرسب في الامتحان، ولو أخذ أعلى الدرجات في جميع الدروس. كنت في لجنة اللغة العربية، وكان رئيسها شيخنا الشيخ عبد القادر المبارك رحمة الله عليه. وقد عرفتم ممّا مضى من هذه الذكريات منزلته في الحفظ والاطّلاع على اللغة وأنه كان قليل النظير، ولكنه (وأقول هذا مضطراً) كان أمام الرؤساء ليّناً، لا يستطيع أن يثبت في وجه واحد منهم أو أن يردّ إرادة لهم. وكان المشرف العامّ على الامتحان مستشار المعارف، أي المسيو راجه الذي تقدّم ذكره ونُشرَت صورته لمّا كانت تُنشر هذه الذكريات في «المسلمون»، وكان في الشام مثل دنلوب المشهور في مصر. وكانت أسماء الطلاب في أوراق الامتحان مكشوفة، فجاءت ورقة لتلميذ من مدرسة نصرانية، والمستشار يريد أن تهتمّ به اللجنة وأن ينجح. أحصينا خطيئاته في الإملاء فبلغت عشراً، وخمس منها كافية ليرسب الرسوب النهائي في الامتحان. أراد أهل اللّين والمسايرة من إخواننا أن يعطوه ولو رُبع درجة لئلاّ يأخذ الصفر، وأصررت أنا على تطبيق النظام وعلى أن يأخذ الصفر. وكانت مشادّة احتكمنا فيها إلى شيخنا المبارك رحمه الله، فكأنه مال معهم. وكبرت المسألة حتى جاء المسيو راجه والله

بنفسه ومعه ترجمانه ميشيل السبع، ويعرف القصّة بعض إخواننا من المسنّين. فدخل عليّ فكلّمني باللّين، ثم شدّد في كلامه، ثم هدّدني. قلت للترجمان: بلّغ سعادة المستشار أنني أعلم أنه يقدر الآن أن يأخذ ورقة من فوق المكتب وأن يكتب فيها قرار عزلي من الوظيفة، ولا يردّ قرارَه أحد. يستطيع ذلك ولكنه لا يستطيع، لا هو ولا أكبر منه، أن يجعلني أوقّع على ماأعتقد أنه باطل. وثبتّ في موقفي حتى رسب الطالب، وكان لذلك صدى في دمشق. * * * الحوادث كثيرة. كانوا يبتعثون الطلاّب إلى فرنسا للدراسة العليا إذ لم يكن عندنا في جامعة دمشق إلاّ كلّيتان، وكنّا نسمّي الكلّية المعهد: معهد الحقوق ومعهد الطبّ. فمن أراد التخصّص (الإخصاء) (¬1) في مادّة أخرى كانوا يبعثونه إلى فرنسا. فزيّن لهم بعض الناس أن يبعثوا بعثة لدراسة اللغة العربية في فرنسا (¬2). وتعجّب الناس من ذلك، وكنت مستمراً على الكتابة في الصحف فكتبت مقالة عنيفة جداً انتقدت فيها هذا العمل، وقلت فيها: هل ترسلونه إلى أصمعي العصر المسيو مارسيه؟ ومرّت الأيام فاستدعاني وزير المعارف، فذهبت إليه، ولا ¬

_ (¬1) الإخصاء بمعنى التخصّص. (¬2) وهي البعثة التي ذهب فيها للدراسة في فرنسا الأستاذ محمد المبارك رحمه الله والأستاذ خلدون الكناني.

أريد أن أسَمّيه. قابلني بكِبْر وهو قاعد في مكانه، وسلّمت عليه فلم يردّ السلام وتشاغل بأوراق أمامه، ثم رفع رأسه وقال لي: أنت ماذا تعمل؟ ما هو عملك؟ عندئذ نسيت الوظيفة ونسيت أني محتاج إلى مرتّبها وأنني أعول إخوة لي لا مورد لهم غير هذا الراتب، نسيت هذا كله ولم أذكر إلاّ أن كرامتي قد مُسّت. قعدت أولاً بلا إذن منه وقلت له: أنا وظيفتي معلّم، أعلّم الكبار والصغار، أعلّمك أنت قبل كل شيء أن تستقبل ضيوفك باحترام لأن العربي يُكرِم ضيفه، وأن تردّ السلام على من سلّم عليك لأن ردّ السلام واجب في دين الإسلام. قال: لي أنا تقول هذا الكلام؟ قلت: نعم، وستقرؤه في الجريدة وتسمعه من فوق المنبر. لمّا رأى هذه اللهجة وهذا الكلام قال: لماذا أنت على هذه الدرجة من العصبية؟ ثم لان وبدّل أسلوبه معي وقال: أنتم هكذا معشر الشباب! وتكلّم بأمثال هذا الكلام، وطلب لي كوباً من الشاي وهدّدني خفية بالنقل إلى دير الزور أو إلى الجزيرة. عندئذ كلّمته وقلت: يا معالي الوزير، أنا والله إن ذهبت إلى الجزيرة لا أتبخّر بشمسها ولا أذوب بمائها، وأبقى صامداً كما أنا الآن ولا أقول -إن شاء الله- إلاّ كلمة الحقّ. فلم يكن منه أمام هذا الصمود وهذه اللهجة الحاسمة إلاّ أن وقف وودّعني بنفسه، ولم يلُمني على شيء بل كاد يوافقني على ما كتبته. وهذا الوزير كان معدوداً من الوطنيين! * * * وقعَت لي في هذه الفترة حوادث أذكر لكم واحدة منها: أرأيتم النمل إذا مشى صفاً واحداً لا تحيد عنه نملة. كل واحدة

تأخذ بعقب أختها؟ امسح بإصبعك جزءاً من خطّ سيرها تَرَها قد اضطربَت وحارت وماج بعضها في بعض؛ ذلك أنّ كل نملة تُفرِز شيئاً له رائحة تهتدي برائحته التي بعدها، فإذا مسحتَ الخطّ وزالت هذه المادّة ضلّت طريقها. كذلك الإنسان في حياته: عندما يعترض طريقه الذي يمشي فيه شيء يبقى حيران، لا يدري أيّ مسلك يسلك ومن أين يمشي. لقد وقع لي مثل ذلك وأنا معلّم، أتنقّل بين القرى ثم بين المدارس في دمشق، أجد المصاعب والمتاعب أريد مَنْجى منها، فقابلت العالِم الجليل المعمَّر الشيخ سليمان الجوخَدار (وسأتحدّث عنه حين أتحدّث إن شاء الله عمّن عرفت من الرجال) (¬1)، وكان شيخ أبي، وكان مفتي الشام من قبل الحرب الأولى بأزمان. فسألني عن حالي فشكوت ما أنا فيه، فقال لي: قابلني غداً في السراي (أي في قصر الحكومة المُطلّ على بردى) بعد العصر في غير أوقات الدوام الرسمي لأعرّف بك الأستاذ الشعباني. وكان الشعباني وزير المالية يومئذ قد أُعطيَ سلطات واسعة، فأصدر قرار التنسيق المشهور الذي اعتبر جميع الموظفين مُسَرَّحين، أي شبه معزولين، إلاّ من يصدر قرار جديد بتثبيته، وكان لذلك رجّة في الشام لا أدري هل دوّن أحدٌ قصّتها أم ضاعت فيما ضاع من أخبار تاريخنا القريب. أمّا أنا فأكتب ¬

_ (¬1) تجدون الحديث عنه في الصفحات الأولى من مقالة «مع بعض مشايخي» في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ذكرياتي، لا أؤلف تاريخاً، لذلك أذكر ما يدخل في نطاق هذه الذكريات. وجئت في الموعد. وكان الدخول إلى السراي في تلك الساعة ممنوعاً، ولكن الحرّاس من الشرطة أذنوا لمّا عرفوا اسمي لأن الشيخ كان قد خبّرهم بأمري، وكان يومئذ وزيراً. وصعدت إلى البهو الكبير المُطلّ على النهر لألقى فيه الشيخ الجوخدار، وفوجئت برئيس الجمهورية محمد علي بك العابد، وهو ابن أحمد عزّة باشا العابد الذي كان الرجل الأول من العرب في قصر السلطان عبد الحميد وكان أوجه العرب في ذلك الدور. وكان معه الوزير شاكر نعمة الشعباني ووزراء آخرون، وكانوا -كما بدا لي- في اجتماع لمجلس الوزراء انفضّ قبل قليل. وأنا أرتبك في مثل هذه المقابلات وأتضايق وأودّ لو وجدت مهرباً منها، ولكن لم يكن بد من السلام على رئيس الجمهورية، فقابلني ببِشْره المعهود، وسلّمت على من عرفت من الوزراء، وأوصلني إلى الشعباني، وكانا قد انتحيا ناحية من البهو فقال له: هذا فلان، عني. وأثنى على ذكائي وفصاحة لساني وقوّة قلمي، وأمثال ذلك ممّا يَسهُل على قائله أن يُفيض فيه ولكن يصعب أن يرويه الممدوح بفيه، فاعذروني إن رويته بلساني. رحّب الشعباني بي وقال لي: لقد أفهمك معالي الأفندي (وكنّا نطلق على أصحاب المناصب من المشايخ لقب «الأفندي»، فيقولون قاضي أفندي ومفتي أفندي، وذلك من مصطلحات الأتراك)، قال لي: لقد أفهمك الموضوع فما رأيك؟

تصوّروا حالي وأنا لم أعرف ما الموضوع، والأفندي لم يُفهِمني شيئاً قط، وما جئت إلاّ أملاً بمساعدة منه بنقلي إلى مدرسة أخرى أستريح فيها. ففوجئت بما لم أتوقع ولم أنتظر، وتردّدتُ، هل أقول له: "إني لا أعرف شيئاً عن الموضوع الذي تشير إليه" فيكون قولي تكذيباً أو شبه تكذيب للشيخ سليمان، أم أسكت. وركّزت ذهني كله وحصرت انتباهي لعلّي أمسك طرف الخيط فأعرف عمّ يتكلم وإلامَ يشير. وقلت: إني أستمهل معاليك لأفكر، ولكن أحب أعرف شيئاً عن التفاصيل. فقال: سيكون العمل في دمشق لا في حلب، وإن شئت بقيت في وظيفتك وكان عملك معنا انتداباً، وإن شئت تركتها ولم تأسف على تركها. وستكون حُراً في التحرير إلاّ في الأمور التي هي من سياسة الدولة، أو التي هي من أغراض الجريدة الأساسية. وهذا الكلام الذي ألخّصه الآن في ثلاثة أسطر بقيتُ على أشدّ حالات التنبه وتركيز الذهن ربع ساعة حتى فهمتُه من كلامه؛ تكلّم ربع ساعة حتى فهمت من الكلام هذه الأسطر القليلة. لقد كان الشعباني صاحب جريدة «الأهالي»، وهي جريدة مكروهة تصدر في حلب، تمشي مع الفرنسيين وتُعارض الوطنية وأهلها. فهمت أنه يريد نقلها إلى دمشق وإصدارها باستعداد ضخم، لتكون لسان الحكومة كما كانت «الأيام» من قبل لسان الوطنيين، ويريد أن أتولّى أنا تحريرها كما كنت أتولّى في جريدة «الأيام» سنة 1931 ما يشبه إدارة التحرير. وأشار إلى أني سأُعطى مرتّباً لمّا بيّنه لم أصدّق سمعي، لأنه كان يُعَدّ في تلك الأيام مبلغاً كبيراً جداً.

واستمهلت لأفكّر، وخرجت إلى ساحة المرجة ووقفت في زاويتها الغربية وأنا في عالَم آخر، أرى الداخلين إلى سينما غازي والمارّين في المرجة أمامي كأني أرى شخوصاً تمرّ بي في المنام. هل أقبل أم أرفض؟ هل أبقى عمري كله معلّم أولاد أم أستغلّ هذه الفرصة التي جاءت هي إليّ وهبطَت عليّ؟ لقد كنت كالمغامر بماله كله، إما أن يزيده ضعفَين أو أن يخسره كله. تارة أقول لنفسي: وهل الحياة إلاّ مغامرة؟ وهل يستكين ويرضى بالأقلّ إلاّ الخامل؟ وتارة أقول: أنا مكلَّف بإخوتي ما لهم بعد الله غيري، فهل أدع الطريق المسلوك الآمن ولو كان طويلاً ضيّقاً، وأسلك المفازة وأقتحم العقبة رجاء أن أجد وراءها كنزاً أو أن أصيب غنيمة؟ ولست أدري كم وقفت أفكر حتى مرّ بي صديق نسيت اسمه، وأنا آسف لنسيانه لكنني أتصوره، وإذا أجهدت ذهني ذكرتُه. سلّم عليّ وكان من أقرب أصدقائي، فتردّدت: هل أخبره أم أفارقه؟ ثم ذكرت أنه عاقل وأنه كاتم للسر، وأنه محبّ لي راغب في نصحي، فلما سألني: ما لك؟ ما شأنك؟ خبّرته واستكتمته وسألته رأيه. ففكّر وقال: إنك كمن يبيع غداءه ويشتري ورقة يانصيب، فإمّا أن يربح فيتغدى من ربحه السّنة كلها غداء أفضل من هذا الغداء وإما أن يبقى جائعاً. ثم إني أعرفك؛ إنك لا تستطيع أن تسلك طريقاً لا يطمئنّ إليه قلبك ولا يرتضيه ضميرك، فهل يريح قلبَك أن تعمل مع مثل الشعباني، ولطالما كتبتَ أنت بقلمك تردّ عليه وعلى جريدته؟ إنك ستتركه بعد شهرَين على أبعد تقدير وتخرج بلا وظيفة ولا عمل، فدعها.

جزاه الله خيراً، وإن نسيت من هو. لقد فعلتُ ما أشار عليّ به ولم أعُد إلى الأفندي (الشيخ سليمان) ولا إلى الوزير، بل تناسيت الأمر كله. وما مرّت إلاّ مدّة قصيرة حتى سقطَت الوزارة التي فيها الشعباني، وتبدّل العهد كله، وجاء الوطنيون الذين كنت أكتب عندهم وأعمل معهم وأنا رئيس لجنة الطلبة معهم، وأراد الله لي الخير فاللهمّ لك الحمد. * * *

الوقفة الكبرى

-84 - الوقفة الكبرى أمامي بسيط من الأرض كان أمس (الأربعاء) صحراء ما فيها دار ولا دَيّار، وغداً (الجمعة) تصير مدينة عامرة فيها شوارعها وبيوتها وسياراتها وكلّ ما يحتاج إليه ساكنوها، وساكنوها يزيدون عن مليونين من الناس. نحن نعرف قصّة إنشاء كثير من المدن: «واسِط» التي بناها الحَجّاج، وبغداد المنصور، وقاهرة المُعِزّ ... مدن كثيرة وُلدت صغيرة كما يُولَد كل حيّ ثم نَمَت وكبرَت. ولكن هل عرفتم مدينة تُولَد في يوم واحد فإذا هي من كبريات المدن ثم تخلو بعد يوم واحد؟ بلدة قامت في صحراء حيث لا نبع ولا ماء وليس فيها حدائق ولا بساتين، ليس فيها شيء ممّا في مصر والهند والعراق من جليل الآثار، وليس فيها سوق للتجّار يبيعون فيه ويشترون ويربحون، ولا ملاعب للهو ولا مقاصف للمتعة يؤمّها قاصدوها يستمتعون ويمرحون، ولا جامعات ولا نوادٍ للمحاضرات يحضرها طلبة العلم وروّاد المعرفة والاطلاع. ليس فيها شيء من ذلك، وعظمتها أنه ليس فيها من ذلك شيء.

لو كانت الوقفة في بلاد الجمال أو المال أو الثقافة أو اللهو والتسلية لاشتغل الحُجّاج بذلك عن الوصول بقلوبهم إلى الأُنس بالخلوة بالله وإلى لذّة مناجاته؛ لذلك كانت الوقفة في أرض خالية ما فيها ما يشغل القلب أو البصر أو العقل، وكانت بثيابٍ ما فيها من معاني الثياب إلاّ أنها تستر الجسد وتحجب العورة، فلا أناقة ولا زينة ولا تفاخر ولا تفاوت. وكان القعود فيها على الأرض تحت الشمس أو في خيام ليس فيها من معاني البيوت إلاّ أنها تمنع الشمس، فلا قصور حولها البساتين الواسعة ولها الأبواب الشارعة ولأبوابها الأقواس الرائعة وعليها الصور البارعة، لا شيء من ذلك كله. قد اختُصرت الدنيا واقتُصر منها على هذا الأقلّ الذي لا بد منه ولا غِنى عنه، لتشغل من قلب الحاجّ الحدّ الأدنى للاهتمام بها، وينصرف القلب إلى ذكر الله والاستعداد للآخرة. إنكم تعيشون أيامكم كلها للدنيا، تهتمّون بها وتجمعون لها وتحرصون عليها، فاجعلوا هذه الساعات من هذا اليوم للآخرة؛ فرّغوا قلوبكم لها نصف نهار. وأنا أعلم أن الشيطان لم يكن ليدَعكم، والشيطان موكّل بالإنسان يأتيه من أمام ومن خلف ومن يمين ومن شمال، ويجري منه مجرى الدم ويوسوس له ويحوم حوله كالعدوّ يحوم حول القلعة، فإن وجد حُرّاس القلعة ساهرين يرمونه بالرصاص إذا تقدّم ووجد القلعة مُحكَمة البنيان ليس لها منفذ وقف بعيداً، فإن وجد غفلة من الحارس أو ثغرة في الجدار دخل. وقلعة الإيمان حِراستُها بيقظة القلب والدفاعُ عنها بذكر الله، وثغرات الشيطان إليها كثيرة ولكن أوسعها اثنتان: الشهوة

والغضب (¬1)؛ فإذا غلبَت على الإنسان الشهوة وتَملّكه الغضب فقد أعلن استسلامه للشيطان. فأقبِلوا في هذا اليوم على الله فإنه يوم واحد في السنة، ولعلّكم لا تقفون هذا الموقف مرّة ثانية فحاولوا ألاّ تضيعوا دقيقة منه إلاّ في طاعة ودعاء، فإن لم تَدْعوا بألسنتكم فاذكروا الله بقلوبكم، تذكّروا ذنوبكم واستغفروا منها ربكم، فإن لم تفعلوا ذلك فلا أقلّ من أن تعصموا ألسنتكم عن الغيبة والكذب فإنهما حرام في كلّ يوم، وحرمتهما في اليوم أشد. * * * إن الاختلاف يكاد يكون في هذه الدنيا من لوازم الإنسان: اختلاف في القوميات وفي الألسن وفي المذاهب والألوان، ونزاع دائم: نزاع على الأموال وعلى اللذّة وعلى الجاه وعلى السلطان. اختلاف وتنازع في كلّ مكان وفي كلّ زمان، في أقصى الشرق وأقصى الغرب، من أقدم الأزمان إلى الآن، لا تجدون مكاناً واحداً يخلو من الاختلاف وتسقط فيه حواجز الدم واللسان وتَمّحي فيه فوارق الغِنى والسلطان إلاّ هذا المكان. ولو كان مثل هذا المشهد لأمة من الأمم الحيّة التي تُقدّر أمجادها وتُحصي مفاخرها لَنُظم فيه مئة ملحمة وألف رواية وعشرة آلاف قصيدة ومقطوعة، ولباهوا به الإنس والجن. وأين مثل هذا المشهد؟ أين تجدون مليون شخص أو مليونين، يأتون من كل بلد في ¬

_ (¬1) اقرأ فصل «يوم مع الشيطان» في كتابي «صور وخواطر».

الدنيا إلى بقعة مقفرة خالية ما فيها ماء وليس فيها بناء وليس فيها شجرة خضراء، فإذا وصلوا قيل لهم: مكانكم! قفوا لا تدخلوا حتى تخلعوا ثيابكم كلها. وبالثياب يتفاوت الناس وبالثياب تتكوّن شخصياتهم، ولولا الثياب ما كانت هيبة رجل الدين وسطوة رجل الجيش في نظر العامّة، ولا امتاز غنيّ عن فقير، فإذا خلعوها اختلطَت الطبقات كلها حتى صارت طبقة واحدة هي طبقة الحُجّاج. لا نقول هنا للأمير: يا سُمُوّ الأمير، ولا للمدير: يا سعادة المدير، ولا نخاطب العظيم بخطاب التعظيم؛ فما ها هنا أمير ولا مدير، ولا غنيّ وفقير ولا كبير وصغير، ما هنا إلاّ حُجّاج. فتقول لكل من تراه غداً هنا: يا «حاجّ» ولا يغضب من قولك بل يُسَرّ به ويراه أبلغ التكريم. فأروني موقفاً آخر عرفه البشر من أقدم الزمان إلى الآن يزول معه التفاوت بينهم في الثياب وفي البيوت وفي الألقاب؟ قد يأتي إلى المَشاهد الدولية والمعارض العامّة وحفلات المباريات وكثير من المناسبات، قد يأتي أعدادٌ من البشر تعدل أو تزيد على أعداد الحُجّاج في بعض السنين. ولكنهم يأتون ومعهم دنياهم تفرّق بينهم: ثيابهم تفرّق بينهم، مساكنهم: هذا في نُزُل (موتيل) على الطريق وذاك في أفخم فندق في المدينة، وهذا يزاحم ويقف في الصف ليصل إلى ما يبتغي وذاك يسبق أو يتأخر ليخلو له الطريق. وهنا (في الحجّ) نظام عامّ، قانون شامل، كلهم يقفون في موقف محدّد في وقت محدّد ويعملون العمل المحدّد. جميعهم يقف في عَرَفات ويمرّ في مُزْدَلِفة، ويطوف ويرمي، لا ميزة

لأحد على أحد. كانت لقريش (أي الحُمْس) امتيازات جعلوها لأنفسهم، فلا يقفون خارج الحرم ولا يخرجون من مزدلفة حتى تشرق الشمس على جبل ثَبير، فجاء الإسلام فقرّر إلغاء هذه الامتيازات وإزالة هذه الفوارق، وأصدر قانونه الإلهيّ (هو أمر الله): {ثُمَّ أفيضُوا مِنْ حَيثُ أفاضَ النّاسُ}؛ لا ميزة لأحد على أحد، حتى الرسول ‘ حجّ كما يحجّ الناس (بل حجّ الناس كما حجّ) لمّا قال: «خذوا عني مناسككم»، علّمهم أحكام الحجّ وحجّ معهم أو حجّوا معه، كما علّمهم أحكام الصلاة ثم صلّى أمامهم وقال: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي». كان أعظم معلّم يعلّم تعليماً نظرياً وتعليماً عملياً. لو كان يجوز أن يحضر هذا الموقفَ غيرُ مسلم لاقترحت على الأمم المتحدة أن توفد مَن يدّعي المساواة ومحاربة العنصرية والتمييز بين الناس ليرى هذا المشهد الذي لم تُبصِر عين الشمس مثيلاً له! مشهد متفرّد ما رأى أحدٌ ولن يرى مثله. من هنا أعلن محمد ‘ حقوق الإنسان قبل أن تُعلنها الثورة الفرنسية بأكثر من ألف عام، أعلنها عملاً سبَق القول وأعلنوها قولاً ما بعده عمل! لمّا وقف في حجّة الوداع في أكبر جمع إسلامي كان على عهده ‘، فقرّر حصانة الدماء والأموال والأعراض وحرمة التعدّي عليها، وأن الناس سواء: ربّهم واحد وأبوهم واحد «كلّكم لآدم وآدم من تراب»، فلا يتكبّرْ متكبّر ولا يَسْتَعْلِ مُستعلٍ، فما خلق الله واحداً من التبر وواحداً من الطين بل الكل من التراب وإلى التراب، ثم إلى موقف الحساب، ثم إلى الثواب أو العقاب. ألغى شرف النسب والمال والجاه الموروث،

فالكريم هو الكريم بمزاياه وبأعماله، لا بأهله ولا بآله ولا بثروته ولا بماله: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم». * * * أرأيتم الضالّ في الصحراء يمشي وحيداً حائراً قد هدّه الجوع وبرّح به العطش، والشمس تتلظّى أشعّتها ناراً والرمال تتسعّر جمراً، ثم وجد الواحة الخضراء فيها الظلّ والماء، وفيها النخيل المحمّل بالتمر، وفيها الحياة وفيها النعيم؟ هذا مثال الحجّ في هذه الأيام التي فسدت فيها الأرض كلّها أو جلّها وضلّ أكثر أهلها طريق الفلاح. أرأيتم السجين في الحبس المغلَق الفاسد الهواء الكريه الرائحة، الذي يخنق من يكون فيه حتى لا يدع له نفَساً يطلع أو ينزل، ثم تُفتح له نافذة على الروض المُزهِر يهبّ منها النسيم رقيقاً ناعشاً، يحمل معه العطر والزهر؟ هذا مثال نَفَحات الحرم في هذه الأيام التي زَكَمَت فيها الأنوفَ وخَنَقَت القلوبَ روائحُ الإلحاد والفساد. إن العالَم يجوز مثل عهد الجاهلية بل شراً من عهد الجاهلية: إلحاد في الدين، وتنكّر للعدالة، وحياة كحياة وحش الغاب. وكما انبثق نور التوحيد من هنا من الحرم أول مرّة، فأزاح الكفر وأقرّ العدل ونقل الناس من الوحشية إلى الحضارة الخيّرة والمدنية الفاضلة، يعود الحرم بالحجّ فيصلح مرّة ثانية ما فسد من الأمر.

فيا أيها الواقفون في عرفات: هنيئاً لكم موقفكم إن عدتم منه مغفوراً لكم، هنيئاً لكم إذا وُفّقتم على قبول حجكم. هذا الذي كنتم تتمنّونه قد نلتموه فلا تعودوا منه صفر اليدين، إنكم في يوم تفتّحَت فيه أبواب السماء، في يوم يُقبَل فيه الدعاء، فمدّوا أيديكم واسألوا ربكم، ادعوه، تضرّعوا إليه. ولا يقُل قائل من الناس: إننا في معركة مع اليهود وأنت تريد منّا أن نكتفي بالدعاء. أنا لا أريد أن تَدْعوا دعاء الخاملين العاطلين ولا يريد ذلك الإسلام، بل أريد أن نمتثل أمر الله، أن نُعِدّ ما استطعنا من القوّة لأعدائنا وأن نبذل ما نقدر عليه من جهدنا، ثم نسأل ربنا النصر على عدوّنا، لأن النصر ليس مقترناً حتماً بكثرة العدد ولا بضخامة العُدَد، والمسلمون الأوّلون (الذين خاضوا عشرة آلاف معركة، إذا استثنينا منها بضع معارك) كانوا دائماً أقل من عدوّهم عدداً وعُدداً. لقد نصر الله المسلمين ببدر وهم أذلّة، أذلّة عند الناس لا أذلّة أمام الحقّ، فالمؤمن لا يَذِلّ أبداً. ويوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً. أمرَنا الله بأن نُعِدّ ما استطعنا من القوّة لكن هل نُعِدّها للنصر؟ لا، بل لنُرهِب بها عدوّ الله وعدوّنا، وما النصر إلاّ من عند الله. أنزل الله ملائكته في بدر، هل أنزلهم للنصر؟ لا، وإنما أنزلهم بُشرى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلاّ بُشْرى لكُمْ ولِتَطْمَئِنَّ قلوبُكم به}، {ومَا النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ اللهِ}، {وكَمْ مِن فِئَةٍ قَليلةٍ غَلبَتْ فِئةً كثيرةً بإذنِ الله}. فالمسلمون إذا نسوا أنهم أمة واحدة وفرّقتهم العصبيات

الجاهلية وفرّقتهم العقائديات وفرّقتهم الحزبيات فإن شمس عرفات تذكّرهم بوحدتهم وتعيدهم إليها، وكلّ عمل من أعمال الحجّ مذكّر بالوحدة الإسلامية؛ ألا ترون إلى الكيميائي إذ يضع في بُوتقته عناصر مختلفة ثم يديرها فتصير عنصراً واحداً؟ كذلك المسلمون عندما يدورون من حول الكعبة. المسلمون أمة واحدة لكنهم انقسموا حتى صاروا جمعية أمم، كان لهم دستور واحد هو الكتاب الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات فصار لكل دولة من دولهم دستور، كان لهم منهج واحد في الحياة يتبعونه أفراداً وأسراً وجماعات وحكومات فصارت لهم مناهج، مناهج ما صاغتها أيدينا ولا صنعتها عقولنا، ولكن ألّفنا شركات «استيراد وتصدير» فاستوردَت القوانين لمحاكمنا واستوردَت المناهج لمدارسنا واستوردَت الأزياء لنسائنا، ولكنها لم تصدّر شيئاً من فضائلنا إلاّ ما قبسه العقلاء الأذكياء منهم من مبادئ ديننا الذي دخلوا فيه أفراداً، وسيدخلون بإذن الله أفواجاً. وصار منّا، من المسلمين ممّن يقول نحن من المسلمين، من خُدع بالماركسية أو بالوجودية أو بالفسوق الذي سَمّوه الحرّية، صار منّا من يتّخذ قِبلته البيت الأحمر أو البيت الأبيض أو البيت الأصفر، مع أن قبلتنا هذا البيت بثوبه الأسود الذي كنتم بالأمس تطوفون به وستعودون الليلة أو صباح الغد لتطوفوا به؛ إنه في مكّة لا في موسكو ولا واشنطن ولا بكين! اجتمعتم هنا، جمعكم شرع الله هنا لتذكروا أنكم أمة واحدة لا تفرّق بينها ألوان جلود أبنائها ولا اختلاف ألسنتهم، ولا نقوش

راياتهم ولا حدود على الخريطة لبلادهم، ولا (أيديولوجيات) دخيلة عليهم، لا ندين بالطاعة إلاّ لربّنا ولنبيّنا ولمن تبع كتاب ربنا وحكم به وبسنّة نبيّنا وسار عليها. لقد أُخذَت الأرض من أطرافها فوُضعت هنا: هنا مصر، وهنا الشام، وهنا العراق، والهند المسلمة هنا، وماليزيا هنا، وأندونيسيا هنا، هنا العرب وهنا الترك، وهنا الفرس وهنا الأكراد وهنا البربر، وكلهم هنا سواء. أما ترونهم؟ لباسهم واحد، وهتافهم واحد، ونظامهم في المشاعر واحد، يجتمعون في المكان الواحد في الوقت الواحد ويفارقونه في وقت واحد ويعملون فيه العمل الواحد؟ مسلمون لا يعرفون غير الإسلام، مسلمون يرفضون كل ما يخالف الإسلام لا يخافون في إقامة شعائره إلاّ الله. مسلمون مهما حملنا في سبيل الإسلام من الأهوال التي تتزلزل منها رواسي الجبال. من يقدر أن ينزع إسلامنا من نفوسنا؟ لقد لبثَت فرنسا في الجزائر قرابة قرن ونصف القرن، سخّرَت عقول أبنائها وأيديهم وسلطان حُكّامها وسلاحهم، بذلت ما تعجز عن مثله الجبابرة لتُخرِج المسلمين من عروبتهم ومن دينهم، فما إن انزاح عن صدر الجزائر ثقل الاستعمار حتى تبيّن أن الإسلام مكانَه لا يزال. والبلاد التي أقاموا دونها سوراً حديدياً واستمدّوا من أبالسة الجحيم ومن مَرَدة الشياطين كلَّ خطّة لتكفيرهم بدين محمد رسول الله وحملهم على دين الملعون ماركس اليهودي رسول الشيطان، سيزول عنها سلطانهم وتعود مسلمة بإذن الله. وهؤلاء الأتراك ما زالوا مسلمين، مسلمين ما

صنع بهم نصف قرن من التكفير شيئاً. إن الخبز إنْ خيف عليه العفَنُ أو تسرّب إليه نَشَره أهل القُرى في الشمس فيذهب عفنه، لأن الشمس تقتل جراثيم الأمراض، فلا تخافوا من جراثيم الشيوعية والوجودية والإباحية والعصبيات الجاهلية ما دامت في الدنيا عرفات وشمس عرفات. مهما فرّقَت بين المسلمين الحدود في الأرض، والرايات فوق المدن، والألسنة والألوان والنِّحَل والمذاهب، فإنهم إذا داروا من حول الكعبة عادوا إخوة متحابّين، وإن وقفوا في عرفات رجعوا أمة واحدة، لا هي أمة العرب ولا أمة الفرس ولا هي أمة المشرق ولا أمة المغرب، بل أمة محمد ‘، أمة «لا إله إلاّالله محمد رسول الله». هل تستطيع أن تفرّق هنا بين مشرقي ومغربي وعربي وتركي؟ لباسهم واحد وهتافهم واحد ودينهم واحد؛ تجمعهم كلمة الإسلام فلن تفرّقهم كلمات جاءت من عند الشيطان. إن شمس عرفات التي تقتل جراثيم الأمراض ستقتل جراثيم هذه النحَل والملَل الجديدة، سينساها الناس كما نسوا قوماً كانوا أشدّ وكانوا أجرأ على الله منهم. أين القرامطة الذين وطئوا بخيولهم أرض الحرم وقتلوا الطائفين من حول الكعبة وقلعوا الحجر الأسود وذبحوا الحُجّاج ذبح النعاج؟ أين القرامطة؟ إن تسعمئة وتسعة وتسعين من القراء يسألون الآن: مَن هم القرامطة؟ بعد ذلك البطش وذلك الجبروت صار الناس يسألون: مَن هم القرامطة؟! وسيأتي يوم من الأيام يسأل فيه السائلون: من هم

الماركسيّون ومن هم الشيوعيون؟ فلا يدري أحد منهم إلاّ العلماء بالنِّحَل والمذاهب، كما يجهل أكثر الناس مَن هم القرامطة. لقد ضربَت صخرةَ الإسلام موجاتٌ إثر موجات، وكانت كلّ موجة في ساعتها مثل الجبل، فارتدّت الأمواج وابتعد البحر وبقيَت صخرة الإسلام قائمة، لأن الله هو الذي تعهّد بحفظه، وما تعهّد الله بحفظه لا يستطيع أحد أن يعتدي عليه. قام إبراهيم يؤذّن بالحج يدعو الناس إليه فلبّى منهم من لبى، ثم قام محمد عليه الصلاة والسلام يجدد دعوة إبراهيم فلباه مَن وفّقه الله إلى الإيمان، ووقفت قريش تمنع الناس أن يلبوا دعوة محمد، حالت بينها وبين الناس، أرادت أن تحبسها في هذا الوادي بين هذين الجبلين، فأين اليوم قريش لتسمع هذه الملايين تنادي تهتف كلها «لبّيك اللهم لبّيك»، يلبّون دعوة الله التي بلغتهم على لسان محمد عليه الصلاة والسلام؟ «لبّيك اللهم لبّيك». هذا هتافنا في حجّنا عند المواقيت وعند حدود دولة الحرم، ننزع ثيابنا عن أجسادنا ونخلع ما لا يرضى عنه ربّنا، ونستجيب لربّ العالمين ونقول: «لبّيك»، وعند أنصاب الحرم، الحرم دار السلام إن عمّت الأرض الحرب، الحرم دار الأمان إن شمل الدنيا الخوف، والحرم حيث كل حيّ آمن؛ الناس آمنون، والحيوان آمن، والنبات آمن. ليس هنا حرب ولا قتال، الأشجار هنا لا تُقتطع، الحيوان هنا لا يُصاد، الناس هنا آمنون لا يعتدي أحد على أحد، عند أنصاب الحرم نقول: «لبّيك اللهم لبّيك».

لكن لا تقولوها بألسنتكم وقلوبُكم غافلة عنها، تصوّروا ما أمر الله به فاعزموا على امتثال أمره وقولوا لبّيك، تصوّروا ما نهى الله عنه فاعقدوا العزم على تركه وقولوا لبّيك. يا ربي أمرتني بالصلاة، لبّيك سأصلّي كما أمرتني. أمرتني بالزكاة، لبّيك سأزكّي كما أمرتني. أمرتني بالجهاد لإعلاء كلمتك لا لمقصد آخر، لبّيك سأجاهد بنفسي أو بمالي أو بلساني أو بقلمي لإعلاء كلمتك لا لمقصد آخر. نهيتَني عن كشف عورات نسائي، امرأتي وبناتي، لبّيك لن أسمح مطلقاً بعد اليوم لامرأتي ولا لبناتي بكشف عورة مهما كانت الدوافع. نهيتني عن الزنا وعن الربا، لبّيك اللهم لبّيك سأدع ما نهيتني عنه ... بذلك وحده تكونون قد لبّيتم حقاً، وبذلك تكونون قد حججتم، وبذلك تعودون من الحجّ كأنكم وُلدتم ولادة جديدة لتعيشوا بمنهج الإسلام لا بمنهج أعداء الإسلام. قولوا لبّيك ربنا، أمرتنَا فأطعنا ونهيتنا فاجتنبنا، هذا كلام ربكم في مصاحفكم يقول لكم: جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فقولوا: لبّيك، وجاهدوا حتى تنقذوا مسرى نبيّكم، حتى تنقذوا كل بلد مسلم يحتلّه ويحكمه كُفّار. هذا صوت محمد يرنّ في أسماعكم يحثّكم على امتثال أمر ربكم فقولوا: لبّيك، يدعوكم لتنصروا الله حتى ينصركم فقولوا: لبّيك، لبّيك لا نشكو إلاّ إليك، لبّيك لا نرجو الخير إلاّ من يديك، لبّيك توكّلنا عليك، لبّيك ربّنا وتعاليت، لبّيك لك الحمد، لبّيك منك النعَم، لبّيك يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد، لا نعبد غيرك ولا نسأل سواك:

لبّيْكَ يا اللهُ والثَّقَلانِ والدّنيا تلبّي لبّيكَ ربَّ العالَمينَ وأنت يا اللهُ ربّي لبّيكَ صوتُ محمدٍ أبداً بآذاني وقلبي يا مسلمونَ وأينَ أنتم مِن هُدى الهادي مُحمّدْ؟ عودوا إلى النّهجِ القويمِ فإنّ هذا العَوْدَ أحْمَدْ عودوا يَعُدْ مَجدُ الجدودِ ويومُ بدرٍ يتجدّدْ وتَرَوْا صلاحَ الدّينَ عادَ ويومُ حطّينَ المُمَجَّدْ إنْ يختلفْ لسانُنا ... أو تختلفْ ألوانُنا أوْ تبتعدْ بلدانُنا ... فحسبُنا إسلامُنا * * * هذا يوم الدعاء: ادعوا لأنفسكم، ادعوا لأولادكم وأهليكم، ادعوا لأمتكم أن يردّها الله إلى دينها ليردّ عليها عزَّها ومجدها. ادعوا فاليوم يوم الدعاء، ولكن لا تدعوا بالنصر ثم تذهبوا فتناموا، فالله لا ينصر من ينام ولكن ينصر من ينصر الله. ادعوا بأن يغيّر الله ما نحن فيه من الانقسام والانحراف والمجاهرة بالمعاصي والهزيمة والضياع، ولكن اعزموا مع ذلك أن تغيّروا ما بأنفسكم ليغيّر الله ما بكم، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. كل واحد منكم يدعو وحده ويلبي وحده. إن الذي سمعتموه وقرأتموه من أعمال الحجّ يشبه معاملات القبول في الجامعة؛ مَن يريد أن يدخل الجامعة يُعِدّ أوراقه ويَحضر امتحان المقابلة

ويستكمل شروطه، لكن إذا جاء يوم الامتحان لن ينجح بهذا، بل ينجح بما يودِعه ورقتَه التي ستكون سراً بينه وبين اللجنة الفاحصة. والحجّ عبادة جماعية وعبادة فردية، وكذلك الإسلام كله دين للفرد ودين للجماعة، فالحضور في عَرَفة وتحديد وقت الحضور وتحديد المكان، هذا مثل شروط القبول في الجامعة، أما النجاح فيتوقّف على ربط قلوبكم بالله، كل واحد منكم يربط هذا اليوم قلبه بربّه، يخليه من شؤون دنياه، لا يفكّر بمن حوله ولا يفكر بما حوله، ولكن يقول: «لبّيك»، ويتوجه إلى الله بقلبه وحده فالعِبْرة بما في القلوب؛ ربُّنا يوم القيامة لا يسألنا ماذا عملتم فقط، بل يسألنا: لماذا عملتم؟ ربنا يوم القيامة يبتلي سرائرنا: {يومَ تُبلى السّرَائرُ}. فيا أيها الحُجّاج، فرّغوا قلوبكم من الدنيا ولبّوا. قولوا: «لبّيك» تُلَبِّ معكم بِطاح عرفات وجبال مكّة، وتلبِّ معكم أرواح المسلمين الذين ذهبوا للقاء ربهم، تلبِّ معكم ذراريكم وهي في عالَم الغيب، فيأتي منها إن شاء الله جيلٌ يمحو عنّا أوضارَ الهزيمة، يمحو عنّا آثار الانقسام، يأتي جيل من أصلابنا يكون خيراً منّا، يستردّ من أرضنا ما أضعنا ويُكمِل من بنائنا ما هدمنا أو نقصنا. إن السيارة قد تَبلى وتصدأ فتصير كالجسد الميت، ولا أمل يُرتجى من ميت. وقد تكون جديدة سالمة ولكنها تقف لأن الوقود قد نفد من خزّانها أو أن المدّخرة (البطارية) قد فرغت من كهربائها، وإذن نملأ الخزانات بالوقود ونشحن البطارية بالكهرباء

وتمشي السيارة. والمسلمون اليوم مثل السيارة المصفّحة القوية التي تمشي على الوعر وتَقْحَم الصخر، ولكن سبب وقوفها نفاد كهربائها. ومن هنا يا أيها الإخوان، من وقفة عرفات، تشحنون بطاريات قلوبكم بكهرباء الإيمان، وتعودون بها إلى بلادكم فيسري التيّار منها إلى قلوب إخوانكم. الكهرباء تضيء المصابيح وتدير المحركات، فأضيئوا بكهرباء الإيمان في قلوبكم طريق النصر لإخوانكم، وأديروا بها محرّكات عزائمهم حتى تعود إليهم حماستهم وتتحقق انطلاقتهم، ولا تخشوا يومئذ من البشر أحداً، فوالله ثم الله، لا الصهيونيون ولا الشيوعيون ولا الوثنيّون ولا مَن يُمِدّ هؤلاء وأولئك يستطيعون أن يعترضوا سبيلكم إذا أنتم انطلقتم مؤمنين معتمدين على ربّكم صادقين في جهادكم. هل تستطيع الأسلاك الشائكة من الحديد والأسوار القائمة من الحجر أن تردّ الصاروخ إذا انطلق؟ إن المسلمين إذا استيقظ في قلوبهم إيمانهم وعادت إليهم صلتهم بربّهم وثقتهم بأنفسهم سيكونون أقوى من هذا الصاروخ، وإن كانت الصواريخ تنطلق للإفساد والتدمير فهم سينطلقون -إن شاء الله- للإصلاح والتعمير. وهذا ما يخشاه عدوّكم؛ إنهم لا يخشون شيئاً إلاّ أن تنتبهوا من غفلتكم وترجعوا إلى وحدتكم وأن يستيقظ في قلوبكم إيمانكم، إنهم والله لا يخافون عَدَدكم ولا عُدَدكم ولكن يخافون قرآنكم أن تتدبّروه وأن تعملوا به. هذا الذي يخافونه، هذا سلاحكم. لا أقول اتركوا السلاح ودعوا الإعداد، لا بل استعدّوا. الله قال: {وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطعتُمْ مِن قُوّةٍ}، ومِن العلم الذي

تستلزمه هذه القوّة؛ كل هذا واجب على المسلمين، ولكن عليهم قبل هذا، وبعد هذا، أن يرجعوا إلى ربهم لأن النصر منه. إن أعداءكم يتفقون دائماً عليكم، ولو أنهم اختلفوا في كلّ شيء مااختلفوا في حرب دينكم. يخافون أن تصحوا من المخدّر الذي حقنوه في عروقكم وأن تتخلّصوا من آثاره في أجسادكم، لذلك فرّقوكم فِرَقاً من القوميات والعصبيات والعقائديات ومزّقوكم مِزَقاً بالحزبيات وبالنظريات الغريبة عنكم، ضربوا بعضكم ببعض لا ليكون النصر لبعضكم على بعض بل لتضعفوا جميعاً بانقسامكم فيكون لهم النصر عليكم كلكم. فأبطِلوا سحرهم وردّوا إليهم سهامَهم، وخيّبوا في اتفاقكم رجاءهم، اجتمعوا اليوم بقلوبكم كما تجتمعون في هذا الموقف بأجسادكم، بأن لا تدَعوهم يقسمون جَمْعكم ويجعلون من أمتكم، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هيئةَ أمم بِحُجّة أن منكم عرباً وتركاً وفُرساً وهنوداً وأن منكم بيضاً وسُمراً وسوداً. فالإسلام لا ينكر الواقع ولا يقول للعربي انسَ عروبتك ولا للتركي دع تركيّتك، ولكن يقول لكل منهم: كُن مسلماً أولاً ثم كُن عربياً أو تركياً أو ما شئت، على أن تعلم أن أخُوّة الإيمان فوق أخُوّة الجنس واللون واللسان. لا تدَعوهم يفرّقونكم إلى يمينيّين ويساريّين، فالله ما جعل لنا إلاّ قِبْلة واحدة نتّجه إليها. فيا أيها الإخوان، يا أيها الحُجّاج في عرفات: اذكروا أخُوّة الإيمان وأنها أقوى من عوامل التفرقة. وهذا الدليل حولكم، هذا الموقف الذي ليس له نظير {وفي أنْفُسِكم أفَلا تُبصِرون؟}.

هذه الخلائق التي يزيد عددها على المليون أو ربما زادت على المليونين، كيف زالت من بينها كل الفوارق ووقفت في هذا المكان الواحد بهذا اللباس الواحد، تهتف بالهتاف الواحد تنتسب إلى الدين الواحد وتعبد الربّ الواحد؟ أفبعد هذا تحتاج الدعوة إلى دليل؟ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أنا مقيم في مكّة من أكثر من عشرين سنة، وأنا أُدعى كل أيام الحَجّ إلى الحديث عن الحَجّ؛ حدّثت عن حِكَمه وأحكامه، وعن مشاهده ومعاهده، وعن ذكرياته وإيحاءاته، ألقي كل سنة عشرين إلى ثلاثين حديثاً، اجتمع لديّ منها ما يملأ كتاباً كبيراً في الحَجّ ما أُلّف مثله، ولكنها تحتاج إلى تنسيق وترتيب. أسأل الله أن يرزقني القوّة على إعدادها. وهذه الحلقة عن «وقفة عرفة» نموذج من فصول هذا الكتاب.

من ذكريات القلم

-85 - من ذكريات القلم أنا موظف، وموظف من ثلاث وخمسين سنة (صرت موظفاً في الحكومة سنة 1931). وصلت إلى آخر مدى في طريق الوظيفة ثم أُحِلْت على التقاعد (المعاش)، ولكني ما أحسست يوماً أني موظف كأكثر الموظفين، ولا أَلِفْتُ الخلائق والعادات التي يتخلّقون بها، ولا شعرت يوماً بأني أقلّ من رئيسي في العمل، بل من رئيس رئيسي، بل من الوزير الذي هو مرجعه ومرجعي. ولعلّ في هذا الكلام شيئاً من الغرور أو الادّعاء، أو لعلّه كان من حماسة الشباب واندفاعهم، ولكنه هو الواقع. لم أكُن أستشعر الضعف أمام الرؤساء، ولكن إذا جاء القانون أطعت القانون كما يجب عليه أن يطيعه من هو فوقي، فإن خالف القانونَ هاجمتُه ولم أُطِعه. وقد قدّمت لكم ذِكْر ما كان بيني وأنا معلم الابتدائي وبين المستشار الذي كان أكبر من الوزير، وكيف وقفت في وجهه ولم أتنازل عن الحقّ الذي كنت أشعر أنه معي، وكان لصِدامي معه أصداء في دمشق. وهذه الأصداء لم تقتصر على

الأحاديث في المجالس ولكن كُتبت عنها مقالات في الصحف، بعضها معي وكثير منها كان عليّ. وكنّا في عهد توثّب ونشاط، فما يحدث حادث ولا تُقال كلمة على منبر أو تُنشر في صحيفة إلاّ تبادرت الأقلام إلى التعليق عليها. وكان ممّن ردّ عليّ اثنان: أحدهما كان في منصب كبير في المعارف يضرّ به وينفع، والآخر كان شيخاً من مشايخنا الذين كنت أُجِلّهم لعلمهم وإحاطتهم باللغة، وقد أثنيت عليه فيما مضى من هذه الذكريات بأنني استفدت منه وتخرجت عليه، ولكنني لم أكُن أرتضي سيرته مع الحكام، ولطالما سخّرت قلمي الذي مدحته به لعلمه، سخّرته للهجوم عليه في سلوكه. وممّا كتبت هذه المقالة في «الرسالة» بعنوان «الوظيفة والموظفون». ولكل كاتب من الكتّاب طريقة يُعرَف بها وتُعرَف به، ولكن يظهر على كتابته أثر ما يشغل ذهنه أو يطالعه حين الكتابة. وكنت أيام كتبت هذه المقالة عاكفاً على قراءة رسائل أئمة البيان من الأدباء الأوّلين من لَدُن الجاحظ إلى عمرو بن مَسعدة إلى عبدالقاهر الجرجاني، لذلك ترون أثر هذه المطالعات في أسلوب هذه المقالة. ولن أذكر كل ما قلت فيها ولكن أنقل فقرات منها، ومَن أراد أن يراها وجدها في مجلّة «الرسالة» في العدد (111) الصادر يوم الإثنين في العشرين من جمادى الأولى سنة 1354هـ (¬1). قلت له فيها: ¬

_ (¬1) المقالة منشورة في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

اعلم -أعزّك الله- أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق ولا قَيداً في الرِّجْل، وليست مقايضة آخذ فيها الراتب باليمين لأعطي الضمير بالشمال. ولو أنها كانت كذلك لعزفت عنها ونفضت يدَيّ منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كَرّة أخرى أو أقضي وأسرتي جوعاً على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير، وعلى أن أكفر بالفضيلة وأؤمن بالمصلحة. (إلى أن قلت في آخر المقال): ومَن أنبأك -أعزّك الله- أن الموظف لا يحقّ له أن يفكّر إلاّ بعقل رؤسائه ولا يرى إلاّ بعين أمرائه؛ فلا يحقّق من الآراء ما أبطلوا ولا يقبل ما ردّوا ولا يُؤْثر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوه حسناً ولا ما صغّروه كبيراً ولا ما عظّموه حقيراً؟ أوَلو كان رؤساؤه مخطئين؟ أوَلو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟ ومَن ذا حظر عليه ما أُبيحَ للناس، ومنعه ما مُنحوا من حرّية التفكير وحرّية الرأي وحرّية القول؟ ولماذا يشتهي من الطعام ما يعافه رئيسه ويستحسن من أبيات الشعر وأصوات الغناء ما يستهجنه ويستثقله ولا يكون عليه في ذلك من حَرَج، ثم لا يتخذ له من الآراء غيرَ رأيه ومن المذاهب غير مذهبه؟ ولماذا لا ينشر هذا الرأي ويؤيّد هذا المذهب، ما دام لا يأتي محرّماً في الشرع ولا ممنوعاً في القانون؟ والوظيفة -يا سيدي- عَقدٌ بين الدولة والموظف على أن يعمل عملاً بعينه على جُعْل (راتب) بذاته. أفهل يعمل الأجيرُ في الدكّان والعاملُ في المصنع والنادلُ في الفندق والخادمُ في

البيت، وكل مأجور من الناس في عمل جلّ أو قلّ علا أو سفل، فإذا أكمل عمله وجوّده استحقّ الأجر وانطلق حراً في وقته يقضيه على ما أحبّ، حراً في ماله ينفقه على ما شاء، حراً في رأيه ينحو به النحو الذي أراد ويسوقه السوق الذي اختار، ثم لا يكون الموظف حراً أبداً ولا يملك من أمر نفسه شيئاً؟! وماذا عليّ وأنا مدرّس -إذا أنا أعددت درسي وألقيته، وقرأت وظائف تلاميذي وصحّحتها، وفعلت كل ما يوجِب عليّ القانون أن أفعل وزدت على الواجبِ النوافلَ- ماذا عليّ أن أؤلف وأكتب، وأن أنقد الأخلاق والكتب والعادات، وأن أسهم في الجهاد الإصلاحي، وأن أحمل القسط الذي أطيقه من أثقال الأمة؟ ومن ذا يحمله إذا لم أحمله أنا وأمثالي من الموظفين والمتعلمين؟ وكيف تتقدم الأمة وتسير في طريقها إلى غايتها إذا لم تجد من أبنائها من يحمل أثقالها؟ أفهل يريد سيدي -أعزّه الله- أن أمحو مَلَكَة الكتابة من رأسي وأطمس نور البصيرة من قلبي، وأسدل على عيني حجاباً حتى لا أرى فأُسَرّ فأشكر أو أبتئس فأنقد، وأهجر الكتب حتى لا أقرأ فيفتح عليّ الكتابُ طريقاً إلى مقالة، وأعتزل الناس حتى لا أسمع حديثاً فأكتب هذا الحديث أو قصة فأدون هذه القصة، وأدلّ على مكان العبرة منها وموطن العظة فيها؟ أفهل يريد سيدي أن أذهب إلى غار في الجبل فأحبس نفسي فيه كيلا أكتب فأزعج حضرته؟ وهل توجب الوظيفة على صاحبها أن يكون عبداً لرؤسائه، مسخَّراً لأغراضهم، ساعياً في

مصالحهم، ولو كان الطريق إلى إرضائهم طريقاً ملتوياً معوَجّاً لا يسلكه رجل يعرف ما هي الفضيلة ويدري ما هو الشرف؟ وهل تُوجب الوظيفة على الموظف أن يكون مبتوراً من جسم الأمة فلا يشعر بوجودها ولا يَأْلم لألمها ولا يحسّ أنه منها ولا يشاركها في شيء من عواطفها، في حين أن المفروض في الموظف أنه من أرقى أبناء الأمة فكراً وأوسعهم اطّلاعاً، وأشدّهم شعوراً بالواجب العام؟ (إلى أن قلت): كلاّ؛ فالموظف من الأمة وإلى الأمة، وليس في البلد شعب وموظفون، ولكن فيه شعباً واحداً يشعر بشعور واحد، ويصدر عن مبدأ واحد ويسعى إلى غاية واحدة. ولأنْ تعرف أنت هذه الحقيقة فتؤمن بها أَوْلى من أن أنزل أنا على رأيك وأخضع لإرادتك فيما يؤذي الحقيقة وينافيها. كلاّ! لقد انقضى ذلك العهد الذي كان فيه الموظف مسؤولاً أمام رئيسه، وأصبحنا اليوم وكلنا مسؤول أمام الأمة والتاريخ، ومسؤول قبل ذلك وبعده أمام الله. وليس هذا الراتب منحة منك حتى تمنّ به عليّ، ولكن راتبك أنت منحة من الأمة التي أنا من أبنائها تمنّ هي به عليك. * * * وكانت دمشق في تلك الأيام تعيش كأنها فوق بركان يتفجّر تارة ويخمد تارة، تكمن فيها النار كما تكمن في بطن البركان، ترقب مخرجاً لها تخرج منه. وكانت في تلك الأيام (1935 - 1936) حوادث ضخام في النضال وللاستقلال لست أعرض هنا لتفاصيلها، لأنني -كما

قلت- لا أؤرّخ لعهد ولكن أكتب ذكريات. وكان من زعماء الشعب في دمشق فخري البارودي، وهو رجل محبوب خفيف الروح صاحب نكتة، من الوجهاء والأغنياء، يخطب بلغة وسط بين العامّية والفصحى مملوءة بالنكات التي تُضحك الناس. أبوه من وجهاء البلد، يسكن داراً من أفخم الدور في حيّ من أرقى الأحياء (في حيّ القنوات)، وكنت أحضر حفلاته وأخطب فيها، وكان بيننا تعاون لأنه من زعماء الكتلة الوطنية وأنا كنت يوماً قائد الطلاّب الذين يعملون بإمرتها. ولكني كنت أنكر عليه أنه يتبع أحياناً غير سبيل أهل الاستقامة، لا في المال فهو أمين ما عرفت عنه خيانة مالية، بل في التشاغل باقتناص اللذّات. وكانت أحداث وقعت في الشام يومئذ اختطفوا فيها فخري البارودي وبعض الزعماء ونفوهم. لم نكُن نعرف يومئذ ما يُسمّى بزوّار السحَر، وكانت البلاد تُحكَم بالقانون حتى في أيام الانتداب، فلا يُحبَس أحد إلاّ بحكم المحكمة ولا يوقف إلاّ مدّة أربع وعشرين ساعة ثم يُحال إلى النيابة العامّة. ولكن الزمام كان يفلت أحياناً من أيدي الفرنسيين (والفرنسيون يغلب عليهم الاندفاع) فيمسكون ببعض الزعماء وينفونهم مرّة إلى جزيرة أَرْواد (¬1) ومرّة إلى جهات أخرى. ورأيت حوادث يومئذ: أحلف (¬2) لو أن ما جرى في دمشق في هذه الأيام جرى في ¬

_ (¬1) جزيرة صغيرة مقابل الساحل السوري قريبة من طرسوس، كانت منفى في أيام الفرنسيين (مجاهد). (¬2) من مقالة «حوادث دمشق» التي نُشرَت سنة 1936، وهي في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

فرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا، أو في أيّ بلد من بلاد الله العامرة، لكُتب فيه عشرات من الكتب والروايات ومئات من القصائد والمقالات، ولخُلّدت حوادثه تخليداً وصُوّرت مشاهده تصويراً، وصارت حديثاً يَسري في الأجيال الآتية فينفخ فيها روح البطولة والتضحية ويبثّ فيها العزّة والكرامة. وبمثل هذا تتربى الشعوب وتقوى وتسمو هذا السموّ الذي نراه في بعض البلاد التي نعدّها راقية ونقتدي بها. ولكن هذه الحوادث قد جرت في دمشق، وأدباء دمشق بين موظف يظنّ أن حياته معلَّقة بهذا الراتب وأن عليه أن يثبت دائماً أنه بعيد عن الروح الوطنية، مُوالٍ للحكومة مقيم على ولائها يحافظ على رضاها، ومثل هذا الرجل لا يؤمَل منه خير ... وبين شاعر يحسب أن الشعر مقصور على الأزهار والأطيار والحب والغرام، وأنه ليس من الشعر ولا الأدب أن يصف الشاعر مآسي الوطن والأمة ولا أن يشدو بمفاخره. (إلى أن قلت): ألم يحرّك هؤلاء الأدباءَ أنّ دمشق تلبث خمسين يوماً مُضربة، مغلقة حوانيتها مقفرة أسواقها، كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب الفقير على الخبز وطوى ليله جائعاً من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بالشكوى ولم يفكّر رجل أو امرأة أو طفل بالتذمّر والضجر، بل كانوا جميعاً من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير ومن الرجل إلى المرأة ومن الشيوخ إلى الأطفال، كانوا جميعاً راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية اعتزازاً وفخراً. ولم يُسمَع أن

دُكّاناً من هذه الدكاكين قد مُسّت أو تعدّى عليها أحد، ولم يُسمَع أن لصاً قد مدّ يده إلى مال، حتى اللصوص قد شملهم الإضراب فانقطعوا عن صناعتهم، برغم أن أغنى الأسواق وأعظمها في دمشق قد بقيَت أياماً وليالي مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير! فهل قرأ أحد أو علم أحد، أن بلداً في أوربّا أو أميركا أو المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً ولا يمدّون أيديهم إلى المال المعروض حُرْمةً للواجب الوطني ومراقبة لله واحتساباً لثوابه؟ وقد بقي الأولاد في المعسكر العام (في الجامع الأموي) أياماً طويلة يراقبون حالة البلد وينظرون مَن يفتح محلّه، فإذا فتح أغلقوه. وقد اتفق (رأيت ذلك بعيني) أن بائع حلويات مشهوراً قد فتح محلّه، فجاء بعض الأولاد بصدور البَقْلاوة والكنافة من مخزنه إلى المسجد وتشاوروا: ماذا يفعلون بها؟ فقال أحدهم: نأكلها عقاباً له. فصاحوا به: اخرس، إننا لسنا بلصوص! ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلاّ جائع. أفلم يحرّكْكُم هذا يا أيها الأدباء؟ وهل قرأتم أن صبيان باريس وبرلين ولندن فعلوا مثله؟ وقد عمدَت القوى في آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن بالقوّة فكان أصحابها يدَعونها مفتوحة ولا يقتربون منها، حتى تكون القوى هي التي تغلقها من تلقاء نفسها! وقد حدّثني بعضهم أنه اشترى ثلاثين قفلاً، كلّما كسروا قفلاً جاء فوضع مكانه آخر. ولقد حدّثني مَن أثق به أن أهل محلاّت الفجور قد أضربت. ولست أعرفها ولست بحمد الله من روّادها. حدّثوني أن صاحباتها

قد أضربن مع من أضرب فلم يمارسن ما كنّ يعملنه وتاب كثير منهنّ! والتبرعات؟ ألم يكن الناس يدفعونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثيرون من الناس أن يأخذوا إعانة ويقولوا: أعطوها لغيرنا ممّن هو أحوج إليها، نحن نجد طعاماً هذا اليوم. لقد وقع هذا ورأيته مرّات وسمعت به، فأيّ وطنية أعظم من هذه الوطنية وأيّ اتحاد أوثق من هذا الاتحاد؟ ألم يفعل الناس الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد؟ ألم يقاوموا بالحجارة أروع وأبشع ما وصلَت إليه الحضارة من ضروب التقتيل والتدمير والإهلاك؟ ألم يدوسوا على جثة القتيل ثم يمشوا قدماً إلى الأمام؟ ألم يضعوا أرواحهم في أكُفّهم ويبيعوها في سبيل الله؟ وأطفال دمشق، مَن رأى كالأطفال؟ من فَعَل فِعْل الأطفال؟ من ذا الذي لم يسمع بأعمال الأطفال ويرَ مظاهرات الأطفال؟ لقد رأينا طفلاً يسيل الدم من رأسه، رأيتُه أنا وقد وضع يسراه على رأسه يمنع بها الدم وأخذ الحجر بيمينه يضرب به جند المستعمرين، وعمره أقلّ من عشر سنين! لقد حدّثني أحد الأصدقاء أنه كان ماراً في سوق مدحت باشا، وهو من الأسواق التجارية الكبيرة في دمشق، فسأل الأطفال وكانوا مرابطين فيه يحرسونه: هل تسمحون لي يا أولادي أن أمرّ؟ قالوا: إذا كنت تستطيع أن تمشي بين العسكر مرفوع الرأس وتحملق فيهم فمر، وإذا كنت تخفض رأسك وتنحني وتخاف فارجع. * * *

لقد كتبت مقالة تناقلَتها اثنتان وعشرون جريدة من جرائد تلك الأيام (وأكثرها كان عندي) عنوانها: «أطفال دمشق»، نُشرت في مجلّة الرسالة في تلك السنة (أي سنة 1935) (¬1) قلت فيها: كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرّع حزنها على إبراهيم (إبراهيم هنانو، الزعيم الوطني الحلبيّ الذي كان أول من ثار على الفرنسيين في بداية انتدابهم على الشام)، وكانت في صمت رهيب فلم تحرّك ساكناً حتى سمعَت صوتاً هزّ دمشق وزلزلها يقول: اختطَفوا فخري البارودي. فنفد الصبر المختزَن وانفجر الغضب المكتوم، لا لأنه فخري البارودي بل لأن اختطافه كان كالقشّة التي زعموا أنها قصمت ظهر البعير والقطرة التي فاضت منها الكأس، والقطرة قطرة ولكن الكأس كانت ملأى. وأقبل أبناء دمشق بأيديهم وأقبلَت هذه الجيوش بحديدها ونارها، وكانت المعارك التي يصطرع فيها الحقّ والقوّة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشدّ ما تكون عليه وإذا ... إذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يقدّر ماذا كان إلاّ هؤلاء الشاميون الذين رأوا ذلك بأعينهم، وكنت أنا ممّن رأى ذلك بعينه، وهؤلاء الفرنسيون الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروِ مثلَها تاريخ. خمسون من الأطفال لا تتجاوز سنّ أكبرهم التاسعة، أطفال مدرسة حضانة ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين ¬

_ (¬1) وهي منشورة في كتاب «دمشق» (مجاهد).

الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة قد فرّ من مدرسته وحقيبتُه ما تزال معلّقة بعنقه وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبيّ اللحام وأجير الخبّاز، قد اتحدوا جميعاً وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة، وهي تطلق النار وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي عزف عليها الفارابي في مجلس سيف الدولة فأضحك وأبكى، يطلقون هذه الأنشودة البلدية المعروفة: وِصْغارنا تِحْمِلْ خَناجِرْ وِكْبارنا عَ الحَرْب واصِلْ يا بِالوطَنْ يا بِالكَفَنْ فوقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص، حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها. هل تريدون أن أقسم لكم أن هذا المشهد كان واقعاً وأنني كنت ممّن رآه؟ رأيت الأطفال قد تسلقوا الدبّابة وهي تطلق النار من مدافعها، فلما رأى الناس ذلك اشتعل الدم في عروقهم وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت المعروفة بالشام: «يا سباعَ البرِّ حومِي ...» وهم يُرعِدون بها فتهتزّ من جَهْجَتها (¬1) الغوطة ويرتجف قاسيون، وأقبلوا كالسيل الدفّاع. ولكنهم رأوا عجباً، رأوا الدبابة قد كفّت عن الضرب، ثم انفتح برجها وخرج ¬

_ (¬1) يقال: جَهْجَه الأبطال وتَجَهْجَوا؛ أي صاحوا في الحرب (مجاهد).

منه شابّ فرنسي يبسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدّم لهم قطعة من الشكلاطة ثم يعود إلى مخبئه. إنسانية قد توجد حتى في الدبّابات! ورأيت في هؤلاء الصِّبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنّه قد أكمل عامه السابع، فدعوتُه فأقبل حتى أخذ بيدي وجعل يرفع رأسه إليّ يحاول أن يتثبّت من وجهي، فقلت: لماذا عملتم هذا يا بابا؟ فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي). قلت: ومن قال لك ذلك؟ قال: أمي، وقالت لي: هاللي يموت بالغصاص (أي بالرصاص) يغوح (أي يروح) عالجنة. قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي هل ترضى؟ قال: لا، خلي يغوحوا (يروحوا) ما بدنا إياهم (يريد: فليذهب هؤلاء أيضاً، لا نريدهم). فسكتّ فقال: أستاذ ليش الإسلام ما لهم عسكغ (أي عسكر)؟ فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأنّ شيئاً جاشت به نفسي ثم صعد إلى رأسي ثم وجدته في قصبة أنفي وآماق عيني، ودقّ قلبي دقاً شديداً فتجلّدت ومسحت عيني وحككت أنفي وقلت له: أنتم يا بابا عسكر الإسلام. قال: نحن صغار. قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منّا، نحن لمّا كنّا صغاراً كنّا نخشى البُعْبُع (¬1) ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا لهم. * * * ¬

_ (¬1) البُعْبع كلمة تخوّف بها الجاهلاتُ من الأمهات الصغارَ من الأولاد.

وطال الإضراب، وزادت الحالة شدّة وزاد الناس بلاء حتى جاء يوم العيد عيد الأضحى، فكتبت مقالة نُشرت يوم عيد الأضحى سنة 1936، مقالة لم يقرأها من كل عشرة آلاف من قرّاء «الشرق الأوسط» واحد ولا يدرون بها، وما كنت -لولا هذا- لأعيد عليهم ما هو منشور ولا أبرمهم بحديث مُعاد. قلت فيها (¬1): أعَلى أبواب عيد الأضحى عيد الدين، ويوم 8 آذار عيد الدنيا (¬2) يُيتّم الأطفال وتُرمّل النساء، وتُنتهك حرمة المساجد ويُراق دم المصلّين الأبرياء على صحن الأموي؟ أفي بيت الله تُزهَق النفوس وفي أيام العيد تُقام المآتم؟ وبعد إعلان المفاوضة (أي مع الفرنسيين) يُطلَق الرصاص؟ إن هذا لَكثير. إن دمشق التي صبرَت يوشك أن يخونها الصبر. لقد مرّ على الإضراب خمسون يوماً، وربما امتدّ حتى وصل إلى الستّين، وقد جرّبتم الوسائل كلها: بذلتم الجهد وأعطيتم الوعد ولجأتم إلى الوعيد لتصدعوا صفوف هذا الشعب وتفلّوا إضرابه، فهل فُتح في دمشق كلها من أقصاها إلى أقصاها حانوت لحّام أو فحام؟ بل هل ¬

_ (¬1) وهي مقالة «جهاد دمشق» المنشورة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد). (¬2) ملاحظة: يوم 8 آذار هو عيد الاستقلال السوري الذي أُعلِن أيام الملك فيصل بن الحسين، أعلنه المؤتمر السوري قبل أن يدخل الفرنسيون دمشق. وكنّا نحتفي به ولطالما كتبت عنه مقالات، فتبدّلَت الآن ذكرى هذا اليوم وصُرفت إلى غير ما كنّا نحتفي به يومئذ وصار له معنى غير المعنى الأول.

فُتح المتجر الكبير والمصرف الشهير؟ هل رأيتم في هذا الشعب الفقير من يشكو البطالة أو يتألّم من الجوع؟ قد عزلتم الحرّاس وسحبتم الخفراء، وأطلقتم الجياع على مخازن الأموال وصناديق الذهب، فهل رأيتم يداً تمتدّ إلى مال؟ ألم يُضرِب اللصوص عن السرقة كما أضرب التجّار عن البيع والناس عن الشراء؟ هل رأيتم في هذا الشعب من يأكل اللحم والحلوى وجارُه لا يجد الخبز؟ ألم يواسِ الغنيُّ الفقيرَ؟ ألم يتساوَ الناس في الصبر والتقشّف؟ ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العُزْل للجيش اللجب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمون الجيش صدمة الندّ للندّ، ثم لا تنجلي المعركة إلاّ عن حقّ يظفر ومجد يُؤثَر، أو شهيد منّا يفوز بالجنة وقتيل منكم يُعجّل به إلى النار، أو أسير يُنقَل إلى القلعة ليُعذَّب؟ وكان ممّا قلت فيها: ألم يجاهد الطفل الصغير والمرأة العجوز والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون (والخطاب كله للفرنسيين) بالأبرياء، ألم تضِق المقابر بالشهداء، فهل تكلّم تاريخكم في آذانكم؟ هل عرفتم لهذا الشعب حقّه؟ هل قدّرتم له تضحيته، هل رفعتم قبّعاتكم حينما مرّت بكم مواكب شهدائه وخشعت قلوبكم حينما رأيتم سيل دمائه؟ هل نسيتم ما كنتم تدّعونه كذباً من أن أجدادكم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان وغسلوا بدمائهم صفحة الاستبداد والاستعباد، فجئتم في قرن العشرين (¬1) تهدمون ما بنى أجدادكم وترجعون بالعالَم إلى الوراء ¬

_ (¬1) أنا أرى أن نقول «قرن العشرين» بدلاً من قولهم «القرن العشرون».

قروناً ثلاثة؟ أم قد نسيتم ما كتبه روسو وفولتير ومونتسكيو وما قال ميرابو وسييس ولافاييت، وما جهرَت به فرنسا من أنها نصيرة الشعوب وأم الحرّية ومُعينة المظلوم؟ أفي قرن العشرين الذي قالوا إنه قرن النور والحضارة فلم نرَ من نوره إلاّ بريق البارود ولهيب النار، ولم نُبصِر من حضارته إلاّ البنادق والدبابات والحرائق التي شملَت ثلث دمشق، أقدم وأجمل مدن الدنيا؟ ليس الشعب السوري عدواً للتاريخ الفرنسي؛ إن فيه من يُعجَب بأبطاله الذين رفعوا منار الحرّية، ومن يحب الأدب الفرنسي ويحفظ ما فيه من الشعر الوطني والخطب القومية، ولكنه لا يحبّ من ينازعه حقّه في الحياة والحرّية، لا يحبّ من يسلبه أرضه ويضع المسدس على صدغه. فهل هو مَلُوم في هذا؟ هل في الدنيا أمة تحبّ من يسطو على حرّيتها؟ هل في الأرض عاقل يحبّ من يغلبه على داره وينتزع منه أمواله ويتحكّم في نفسه وأهله؟ هل تحبّون من ينازعكم أرضكم وبلادكم؟ فعلامَ إذن لا تُعطُون من الحقّ مثل ما تأخذون لأنفسكم وتُعطُون الناس أجمعين؟ ألأننا لا نستطيع أن نخاطبكم بلغة المدفع؟ ألأننا لا نملك جيش فرنسا وأسطول إنكلترا؟ ألأن حقّنا لم يؤيَّد بالقوّة؟ فأين إذن مبادئ ثورتكم التي علّمتمونا إيّاها في المدارس؟ وأين حقوق الإنسان التي زعمتم أنكم أعلنتموها؟ إن الضعف ليس عاراً ولكن الجبن هو العار، ونحن ضعاف ولكننا لم نجبن أبداً ولا نعرف ما هو الجبن. نحن مغلوبون على أمرنا ولكنّا لم نذلّ أبداً ولا ندري ما هو الذلّ، إننا نعرف كيف نموت كِراماً إذا نحن

عجزنا أن نعيش كراماً، إننا اليوم لكما قال مليككم فرانسوا الأول في رسالته إلى السلطان العثماني، أقوى ملوك أوربّا يومئذ، التي كتبها يستنصره فيها: "قد خسرنا كل شيء إلاّ الشرف". ومن يملك الشرف فقد ملك كل شيء. * * *

في وداع عام فات ... واستقبال عام آت

-86 - في وداع عام فات ... واستقبال عام آتٍ رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء: يموت في هذه الليلة عام ويُولَد عام؛ يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويُقبِل القادم فاتحاً ذراعَيه ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءاً من حياتنا، ولا يُعطينا بدلاً منها شيئاً؟ وهل الحياة إلاّ أعوام فوق أعوام، وهل النفوس إلاّ الذكريات والآلام؟ وجلست بين المولد والمأتم، أفكّر وأتذكّر وأحلم. لقد تعوّدت أن أجلس هذه الجلسة كلّما انصرم عام، أصفّي حسابي مع الحياة؛ أنظر ماذا أخذَت وماذا أعطت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ بدأ الزمان، ولست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي إلى حيث لا يدري أحد إلاّ الله. كنت منذ سنة 1928 أكتب دأَباً مقالة كلّما وُلد عام جديد، أرثي فيها العام الذي ولّى وأستقبل الذي قدم. كان الذهن كالمصباح المتوقّد، فجفّ فيه الزيت وخَبَت الشعلة وقارب الانطفاء. كان طريق الأمل أمامي ممتداً فسيحاً، لا تعترضه العوارض ولا تحدّه الحدود،

فضاق الطريق وقامت فيه العقبات وتوعّرَت فيه الأرض، حتى بتُّ أرقب أن تأتي الساعة التي أراه فيها مسدوداً فلا أمشي بعدها أبداً. استمررت طول هذه السنين أكتب في مطلع كلّ سنة، أسمو في بعض ما أكتب فآتي بالمعجِب المطرِب، وأهبط في بعضه فأقول كلاماً يمسّ آذان سامعه ولا يصل إلى قلبه. أقرّ بهذا بلساني قبل أن يَصِمَني به غيري. ومَنْذا (¬1) يجوّد دائماً؟ حتى النسر الذي يحلق في الجِواء (¬2) ويضرب بجناحَيه في أعالي الفضاء، يسفّ أحياناً حتى ليكاد يلمس بهما الأرض. ولقد فتّشت فيما تحت يديّ الآن ممّا كتبت في مطالع الأعوام فلم أجد إلاّ القليل، أكثره قد ضاع فيما ضاع ممّا كتبت ونشرتُ، وبقيَت قطعة عنوانها «نشيد الوداع»، ليست عندي الآن وأظنّ أنها في كتابي «هتاف المجد» (¬3)، فقلتُ: أعرض على السادة قرّاء «الشرق الأوسط» ما تحت يدي ليكون دليلاً عليها ونموذجاً منها، ولأنه فصل من فصول هذه الذكريات. كان ممّا وجدت منها مقالة كتبتها في بغداد في مطلع عام 1937، وكنت أعمل فيها مدرّساً للأدب العربي في الثانوية ¬

_ (¬1) تُكتب متصلة هكذا وتُكتب منفصلة. (¬2) جمع جوّ، أي الأجواء. (¬3) المقالة في كتاب «هتاف المجد»، وقد عاد الشيخ إلى ذكرها ونَشَر القسمَ الأكبر منها في الحلقة 223 من هذه الذكريات، فمن شاء قرأها في الجزء الثامن (مجاهد).

المركزية، وأحاضر أحياناً في دار المعلّمين العليا وأدرّس في دار العلوم في الأعظمية (وهي كلّية الشريعة الآن)، وهي في دار قَوراء واسعة جميلة ذات أشجار ملحَقة بمسجد أبي حنيفة، وأنام فيها وحدي. فأرِقتُ ليلة رأس السنة وطار النوم من عينَيّ، وجلست أفكّر فيما مضى من عمري، فخطرَت لي خواطر جمعتها في مقالة كان عنوانها «بيني وبين نفسي»، نُشرت في الرسالة في مستهلّ ذلك العام، قلت فيها: نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم، هذه النخلة التي تقوم حِيال شبّاكي، وقبّة الأعظمية التي تبدو من ورائها، ودجلة التي تجري صامتة مَهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشعاعه. وإذا على الطريق شبح يسير منهوكاً. على الطريق الذي لا يمتدّ في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء ولا يخترق البساتين، ولكنه يلفّ السهل والوعر والجبل والبحر والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها. على الطريق الطويل الطويل، الذي يلوح كخطّ أبيض يغيب أوله في ظلام الأزل ويختفي آخره في ضباب الأبد. رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً يصيح بالدنيا النائمة: تيقّظي، إن العام يرحل الآن. ففتحَت النخلة عينيها ونظرَت، فلما رأته قالت: قد رأيت عشرات مثله تأتي وتذهب، فلم تبدّل شيئاً. الفأس لا تزال باقية، والإنسان لا يزال ينتظر تمري ليسلبني هذا التمر، ثم إذا قنط منّي

كافأني بلذع النار وجعلني وَقوداً لها. فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضَت النخلة عينيها فنامت ولم تكترث. ونظرَت القبّة، فلما أبصرَته قالت: قد رأيت مئات مثله تجيء وتروح ولم تبدّل شيئاً، فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني، تريد أن أهرم فتأخذ أحجاري إليها وتأكلني. كل شيء على حاله لم يتبدّل إلاّ الإنسان: كان الخليفة يمشي تحتي ويخطر بين أساطيني في حُلَل المجد وأردية الجلال، إن أمر أطاعت الدنيا، وإن نادى لبّى الجميع، وإن مال مالت الأرض، وكان الناس يطوفون به أجلّة أمجاداً عبّاداً أذلّة لله وملوكاً أعزّة على الناس، فأصبحت وحيدة منعزلة لا أرى إلاّ هذه الفئات من العامّة المساكين الذين تعرّوا من كلّ جاه إلاّ جاه العبادة، وحسبكم به من جاه، ومجد إلاّ مجد الآخرة وهو أعظم الأمجاد، فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضَت عينيها وعادت تحلم ولم تكترث. وتنبّهَت دجلة ونظرَت، فلما رأته قالت: قد رأيت مثله ألوفاً تمرّ في هذا الطريق فلم تعمل في الكون شيئاً، ولم يتغير إلاّ الإنسان. كانت تقوم على شاطئيّ القصور الفخمة، تتوّج هامَها العظمةُ ويحلّ أرجاءها الجلال، ويمثل في أبهائها المجد ويقف على بابها التاريخ، يصدر عنها ويكتب حديثها، وتنبثق منها أشعة الحضارة والفنّ، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتُشرِق منها أشعّة الخير والدين، وتومض في شرفاتها وأروِقتها العمائم التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم. فما الذي

بقي من ذلك اليوم؟ بقيَت القصور ولكن ذهبَت الخلافة وباد المجد، بَيد أن ذلك لن يدوم، إن طريق الزمن لا يزال مسلوكاً. ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري، ولم تكترث. وأنصت القمر وأطلّ ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت ملايين مثله، وقد مللت مرّ السنين وكرّ العصور، فما لي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث، وبقيت وحدي. بقيت وحيداً فنظرت في نفسي. لقد صحبت تسعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان، فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟ ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية؟ كلّما مرّ عام تعلّقتِ به فسرتِ معه حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت. ألا تعلمين إلى أين المسير؟ والمقالة طويلة، تجدونها في كتابي «صور وخواطر». * * * وفي مستهلّ عام 1938 كنت مدرّساً في الكلّية الشرعية في بيروت التي تُدعى الآن «أزهر لبنان»، فكتبت مقالة طويلة فيها فلسفة وفيها فكر وفيها شعور، وفيها كلام جميل فارغ من الشعور ومن الفكر. وصفت فيها كيف دقّت الساعة آخر دقاتها في عام 1937 وانتهت بانتهائها الدروس في ذلك اليوم، فابتدر الطلابُ الأبوابَ وبقيت وحدي أصغي إلى خرير نهر الزمان من وراء جدار الصمت.

وكانت الكلّية الشرعية (كما سيأتي في هذه الذكريات إن شاء الله) في عمارتين في آخر «البَسْطة»، قرب مدرسة المَقاصد. وكنت أنام وحدي ليس فيهما غيري، فطال سهري تلك الليلة، وضاق صدري ولم أعُد أستطيع البقاء، فخرجت فركبت الترام إلى ساحة البرج. ساحة البرج الآن -كما سمعت- خراب يَباب، موحشة في النهار مظلمة في الليل، قد صارت عماراتها أنقاضاً تعشّش فيها البوم والغربان، تعشّش حقيقة لا رمزاً كما يقول الشعراء، لا يعيش فيها إنسان. وقد كانت يومئذ لُبّ البلد، يؤمّها طلاّب المال والهائمون بالجمال، والذين يحبّون أن يتسلّوا، ما لهم أعمال. اجتمعَت يومئذ المُتَع فيها ولكنْ نَأَت التقوى عنها. كانت تقوم وراء بيوتها، على بُعد أمتار معدودة من وسطها بيوت البغايا شامخات كالقصور، سابحات بالنور، على أبوابهنّ لوحات كبار بأسمائهن كما تُعلَّق اللوحات على أبواب المحامين والأطباء والتجّار! كفرت بأنعُم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف. وما أقول هذا شامتاً، فهي بلدي. أأشمت ببلدي؟ ولكن أقوله ليتوب الغارق بالمعاصي ويؤوب، وليعتبر من لا يزال على الشطّ لم يدنُ من اللجّ ولم يدركه بعدُ الغرق. وأشهد لقد دخلت عشرين بلداً من بلدان أوربّا، كنت أرى منها ما يراه الماشي في الطريق، لا أدخل الزوايا ولا أكتشف الخبايا، فما رأيت في واحدة منها مثل الذي كنت أراه وأنا أمشي في بيروت ممّا لا يرضاه الله ولا تُقِرّه أطهار الناس.

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ونسأله أن يجعل ما قاست درساً نافعاً لها، درساً كافياً لا تحتاج إلى غيره، تحسن الاستفادة منه والانتفاع به، وأن يكشف عنها الغمّة وأن يعيد إليها الأمن والسلام والنعمة. أعود إلى المقالة: مشيت وحدي في ساحة البرج نصف الليل فلم أجد إلاّ أعقاب السابلة، ولم أجد إلاّ السكارى وأنصاف السكارى، فضجرت وضاق صدري وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست فراغاً مخيفاً، فتركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء ويرقص على الألحان التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة فتغمره بجوّ الفتون، وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، لا يتأملون معاني الوجود وفلسفة الوجود وحقيقة الزمان، بل يبتغون المُتَع الرخيصة واللّذائذ الواطية في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر. ويمّمت شطر البحر، أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية، لعلّي حين فقدت الأنس بالناس أجد الأنس بالطبيعة. نفضت يدي من البشر ولجأت إليها لأجد عندها أُنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتمّحى هذه الأبعاد والمسافات التي تفصل بيني وبين أهلي، وتبدو لعيني حافلة بالألوان، ألوان الطبيعة التي لا يستطيع أبرع مصوّر أن يجمعها في لوحة. ومَن لَعَمْري يصوّر ألوان الغروب أو ألوان الزهر في الروض، أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ والتصوير والأدب لغتان تعبّران عن الحقيقة الواحدة؛ إن

الطبيعة أبرع في الألوان ولكن الفنّ البشري أبرع في الأصوات، والطبيعة ليست موسيقية فنّانة ولكن عندها من الألوان ما لا نهاية له. هذا الذي قدّره الله عليها وكتبه لها. هل في الطبيعة من الأصوات إلاّ هدير الموج وخرير النهر وحفيف الأشجار وتغريد البلابل وسجع الحمام وقصف الرعد؟ هذه موسيقاها، ومِن هنا كانت الموسيقى البشرية أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين الأدب والتصوير تقليد. وقعدت على شاطئ البحر ساعتين، وإذا بالمطر يتساقط على وجهي ويدي. فنظرت فإذا السحب قد نسجَت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط متلاحقاً ثم يستحيل بَرَداً طيّاشاً، ثم تهبّ الريح وتُجَنّ الطبيعة جنونها. فلبثت مكاني لا أبالي بها، لأنني تصورت سعة هذا الكون العظيم الذي خلقه ربنا العظيم فرأيت البحر نقطة في عين زُحَل أو المشتري، ورأيت زُحَل أو المشتري نقطة في عين نجم من هذه النجوم التي لا يزيد مرآها عن نقطة مضيئة في قبّة الفلك، فتركتها وانصرفت إلى نفسي أفكر. إن العام يتَصَرّم وليس حولي صديق أطمئنّ إليه وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. لقد انتظرت أن تشعر الطبيعة بي، وأين -لَعَمْري- مكان الشعور من الطبيعة؟ أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتيسة دي نواي في الطبيعة مخلوقاً حياً ذا شعور، فعانقت الصباح وجالسَت المساء، ولكن ماذا رأى الصباح

والمساء في الكونتيسة دي نواي؟ هل يفرّق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدّمها بفمها إلى زوجها الحبيب ليشمّها ويقبل الفم، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها؟ وأنت أيها الجبل ... كم رأيت من الفواجع التي تفتّت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنتَ؟ هل تألمتَ؟ أشعَرْتَ يوم عصفَت الأثَرة برؤوس نفر من القُوّاد من ثلاثين سنة فأطفؤوا بأفواههم شعلة السلام وملؤوا العالم ظلاماً، ونزعوا الرؤوس من أكتاف أصحابها ثم نهضوا يبنون من جماجمهم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالجثث وغُسلت بالدموع وتجلببَت بالآلام والأوجاع والثكل واليُتم، ولمّا سهرَت الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورهم كما ضاعت أسماؤهم، وعكف الأطفال يهتفون «بابا»، ينادون مَن ليس يُجيب، كان القُوّاد العظماء يحتفلون بالظفر! أشعرت بشيء من ذلك يا أيها الجبل؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتّشون عن الخبز، الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسّدوا رِجلك (رجل الجبل) ونظروا إليك صامتين ثم ماتوا جائعين، كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القوّاد الظافرين (¬1)؟ وكم رأيت يا لبنان من متع الحب، وكم أوى إليك العاشقون فاستظلوا بظلك وتعانقوا بِحجْرك، وشربوا خمر العيون وسكروا بنجوى الحبّ! أهاج ذلك عاطفتَك يا لبنان؟ أَحرّك قلبك كل ذلك ¬

_ (¬1) كان ذلك الوصف للحرب العامّة الأولى لأن المقالة كُتبَت قبل الحرب الثانية.

أيها الجبل التيّاه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟ فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟ وأنت أيها البحر الرقيق السيّال، هل أنت أرهف شعوراً وأرقّ عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء وأنت تلتهم الأحياء وتخنق البشر وتفتح فاك لابتلاعهم؟ أأنت ذو الشعور؟ أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المُحرق أم في العاصفة العاتية المدمّرة؟ لقد أيِسْتُ من الطبيعة كما أيِسْتُ من البشر، فلمن ألجأ؟ لمن ألجأ، ويحك يا نفس، وهذا العام يوشك أن يموت؟ فعجزَت النفس ولم تُجِب، وانطلق العقل يتفلسف فقال: إن في الطبيعة لَحِسّاً وتمييزاً. ضع ذرّة واحدة من الفحم وخمساً من الأيدروجين يأخذ الفحم أربعاً ويدع الواحدة، ومهما ضاعفْتَ العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلاً على أنّ الجماد يميز؟ وضَع الذهب بين عشرة معادن وألقِ عليها الزئبق، فإن الزئبق يعانق الذهب ويدع كل ما عداه. أفليس في هذا دليل على أنّ في الجماد عاطفة وشعوراً؟ وانظر لنفسك: إنك لا تحسّ حرارة الجوّ ولا ضغط الهواء إلاّ إذا اشتدّ وزاد، ولكن ميزان الحرارة (التيرمومتر) ومقياس الضغط (البارومتر) يحسّان بهما، أفليس هذا دليلاً على أنّ الجماد أرهف حساً من الإنسان؟ ولكني لم أنتبه لهذا الذي قال العقل. ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلاّ هذا العالم المادّي، ولكن ماذا وراء المادّة من عوالِم؟ إن الروح أول محطّة في

طريق هذه العوالِم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تَبِنْ له معالمها. إنني أعرف أشياء كثيرة تملأ المكان، ولكن ما هو المكان؟ وحوادث كثيرة على مدى الزمان، ولكن ما هو الزمان؟ فإذا كنت لا أعرف روحي التي أعيش بها، لا أدري ما هي، ولا أدري ما الزمان الذي هو رأس مالي ولا المكان، فما أدبنا وما كتاباتنا، وما سعيُنا وما عملنا؟ ألسنا مثل القافلة التي جُنّ أهلوها فانطلقوا يركضون، لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلاّ إذا هدّهم التعب فسقطوا نائمين كالقتلى؟ كذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة نتسابق كالمجانين، ولكن لا ندري علامَ نتسابق. نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلاّ أن نفكّر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير؟ فما الذي استفدتُه من عمري؟ طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حدّة بصري وملأت بها ساعات عمري، وصرمت الليالي الطوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتباً من أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرّة واحدة لينظر فيها (¬1). وكنت أرجو أن أكون خطيباً يهزّ المنابر وكاتباً يمشي بآثاره البريد، وكنت أحسب ذلك غاية المُنى ¬

_ (¬1) بدأت أقرأ سنة 1335 ونحن اليوم في سنة 1405، وأنا أقرأ أكثر ساعات ليلي ونهاري، فلو قدّرت لكل يوم مئة صفحة (وأنا في الحقيقة أقرأ أضعافها) لكان مجموع ما قرأت مليونين ونصفاً من الصفحات!

وأقصى المطالب، فلما نلتُه أو نلت بعضه زهدت فيه وذهبَت منّي حلاوته، ولم أعُد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنّى. وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كلّ مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وأن تتوارد عليك كتب الإعجاب وتُقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبّون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ سراب، قَبْض الريح. أغلق يدك على الريح ثم افتحها لا تلقَ فيها شيئاً. لا والله، ما أقول هذا كلامَ أديب يتخيل ولكن، وأحلف لكم لتصدّقوا: ما أقول إلاّ الحقيقة التي أشعر بها. أنا من خمسين سنة (¬1) أعلو هذه المنابر وأحتلّ صدور المجلاّت والصحف، وأنا أكلّم الناس في الإذاعة من يوم أُنشئت الإذاعة، ويسمعونني ويرونني في الرائي من يوم جاءنا الرائي. ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا وكثير من بلاد أوربّا خُطَباً زلزلت القلوب، ومحاضرات شغلت الناس، وكتبت مقالات كانت أحاديث مجالسهم. ولطالما مرّت أيام كان اسمي فيها على كلّ لسان في بلدي، وفي كلّ بلد عشت فيه أو وصلَت إليه مقالاتي. وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقّيت خُطَب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني، لي وعليّ، مقالات ورسائل. ودرس أدبي ناقدون كبار، ودُرّس ما كتبت وما قالوا عني في المدارس، وتُرجم كثير منه إلى أوسع لغتين انتشاراً في الدنيا: الإنكليزية ¬

_ (¬1) من سنة 1345هـ.

والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية، إي والله. فما الذي بقي في يدي من ذلك كله؟ لا شيء. صدّقوني إن قلت لكم: لا شيء، وإني إن لم يُكتَب لي بعض الثواب من الله على بعض هذا أخرج صفر اليدين. إنني أقف في مطلع العام لأحاسب الحياة على ما أعطتني وعلى ما أخذَت مني، فأجد أنها أخذَت منّي عمري الذي هو رأس مالي، فإن لم أخرج من هذا العمر بعمل صالح ومغفرة من الله أكُن قد خسرت كل شيء. إن كلّ ما في الدنيا يذهب إن ذهبتُ، لا يبقى لي إلاّ ما قدّمت لآخرتي. بسمالله الرحمن الرحيم: {والعَصْرِ، إنّ الإنسانَ لفي خُسْرٍ، إلاّ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ وتَواصَوْا بالحقِّ وتَواصَوْا بالصّبْرِ}. اللهمّ إني أمدّ يدي إليك في مطلع هذا العام، أسألك أن تغفر لي ما مضى وأن توفّقني فيما يأتي، وأن تريني عزّ المسلمين واتحادهم بعد أن رأيت تفرّقهم وانقسامهم، وأن تختم لي بالحسنى. ورحم الله من القُرّاء من توجّه بقلبه مخلصاً إلى الله وقال: آمين. * * *

السنة التي مات فيها شيخ الشام

-87 - السنة التي مات فيها شيخ الشام مرّ على دمشق في أوائل هذا القرن من جليل الحوادث وفادح الخطوب ما لو مرّ على الشامخات الرواسي لَجَعَلها دكاً، أو وقع على الجلاميد الصمّ لصيرّها هباء، فأعدّت له الإيمان الذي لا يزلزله رُزْء والثباتَ الذي لا تُزيله مصيبة، وصبرت عليه صبر العظيم على العظيم، حتى تعوّدَت مسّ الضرّ وأَلِفَت قوارع الدهر، وصارَت إن أصابتها سِهامٌ تكسّرَت النِّصالُ على النصال. وغدا أبناؤها -لهول ما رأوا من البلاء وما راضوا نفوسهم عليه من الصبر- لايألمون لمصيبة ولا يجزعون لنائبة، ويهتفون بالزمان كلّما تعب من مَساءتهم: إنْ كانَ عندكَ يا زمانُ مصيبةٌ ... ممّا تسوءُ بهِ الكرامَ فهاتِها نَكبَت دمشقَ الحربُ، أعني الحرب العامّة الأولى، فقلّت الأقوات حتى أكل الناس العُشب، وباد الرجال: مَن لم يَمُت منهم برصاص الحلفاء الإنكليز والفرنسيين ومن لم يَمُت من الجوع مات على مشانق جمال باشا، حتى لم يبقَ في دمشق إلاّ شيوخ رُكّع، ونساء جُوّع، وأطفال رُضّع. فشيّعَت دمشق من مات

وحدبت على من بقي، ما خارت ولا جزعت. وصبرت دمشق. ثم كانت ميسلون، فاعتدى الغاصب الدخيل على رب البيت واستباح الحِمى، وأتى على الديار فجعلها حصيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس. وعادت دمشق من ميسلون فإذا كل شيء قد انهار، وإذا الدار خواء كأنما لم يُشَدْ فيها مُلك ولم تَقُم فيها دولة ولم يكن لها استقلال. فدفنَت دمشقُ بيدها أبناءَها وأقسمت على قبورهم القسَم الأحمر، وما بكت ولا شكت. وصبرَت دمشق. ثم كانت الثورة، فهبّت دمشق تعلن في أبنائها بأنْ قد حان موعد الامتحان الأول فأروني ماذا حفظتم من الدرس، وكان الامتحان في دقّ الباب: وللحُرّية الحمراءِ بابٌ ... بكلِّ يدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ فدقّه الأبطال من أبناء دمشق وغيرها من مدن الشام دقاً وصلت أصداؤه إلى جوانب «السّين» في باريس، فثار الناس فزعين يقولون: ماذا؟ قيل: بردى يشتعل! قالوا: أطفئوه بالنار! فكانت المعركة بين الماء والنار، بين الدم والحديد، فردّ الشعبُ الأعزل جيشَ فرنسا القوي المسلّح، فوقف الجيش سنتين دون نهر تورا لا يجتازه وما عرضه بأكثر من ستة أمتار. ثم انتهى الامتحان، فدفنَت الشام أبناءها، وقامت دمشق المفجوعة إلى أنقاض دمشق المحرَقة المهدّمة فجدّدَت القسم. وكانت ميسلون وحدها فصارتا اثنتين: ميسلون والغوطة. وصبرت دمشق. ثم كان يوم 20 كانون 1931 فأعلنَت دمشق أنْ قد جاء

الامتحان الثاني. وكان الامتحان في فتح الصندوق (¬1) فقالت القوّة: لا، وقال الحقّ: نعم، فكانت المعركة بين القوّة والحق، فانتصرَت «نعم»، وكُسر الصندوق، ودفنَت دمشقُ أبناءها وجدّدت القسَم. وصرن ثلاثاً، ميسلون والغوطة والمرجة. وصبرَت دمشق. صبرَت ولم تجزع ولم تضطرب ولم تُقلِقها هذه الحادثات ولم تُبكِها، ولكن كلمة واحدة سرَت أمس في دمشق فتقلقلَت لها دمشقُ واضطربَت، وخفّت منها الأحلام ونأى عنها الصبر، فانفجرَت تبكي في نكبة اليوم النكباتِ الماضيةَ كلَّها. تلك هي الكلمة الرهيبة: مات الشيخ بدر الدين (¬2). * * * كان الشيخ بدر الدين سرّ قوّة دمشق، كان لها مثلَ الراية في المعركة. الراية مصدر قوّة الجيش يستظلّ أبطاله بها ويحمونها ويموتون دونها، وهي في ذاتها ضعيفة لا قوّة لها ولا دفع لديها. شيخ قارب التسعين لا يستطيع أن يبارز عدواً في ساحة قتال، ولكن يستمدّ منه المبارزون القوّة في النضال. وإليكم هذا المثال: ¬

_ (¬1) صندوق الانتخابات المزيَّف، وقد سبق حديثي عنه في هذه الذكريات. (¬2) هو الشيخ بدر الدين الحَسَني الذي كان يُدعى محدّث الشام الأكبر. وهذا القسم من الحلقة، من أولها إلى هنا، جزء من مقالة نُشرت في «الرسالة» سنة 1354 (مجاهد).

لمّا احتلّ الفرنسيون جامع تنكز وجعلوه مدرسة عسكرية، ذهب الشيخ ووراءه تلامذته، والأمّة من وراء تلاميذه. ذهب بشيخوخته وخطوه البطيء حتى دخل الباب، فلم يستطع الجندي الحارس أن يمنعه مع أن سلاحه بيده، بل خبّر رؤساءه. فلما جاء منهم من جاء لم يجدوا غازياً مقتحماً ليردّوه ولا محارباً مسلّحاً لينازلوه، بل وجدوا شيخاً كبيراً مشرق الوجه نوراني الجبين مضيء الشيبة، خفيض الصوت قليل الكلام، فلما سألوه: ماذا يريد؟ قال للترجمان: يابَهْ (وكانت كلمته هذه يخاطب بها الصغير والكبير) قُل له: هذا مسجد، والمساجد للصلاة. وقد جئنا نصلّي فيه، فكم يكفيكم من الأيام لتُخلُوه لنا؟ وأُخليَ وعاد مسجداً كما كان. كانت له هذه المنزلة لمّا كان العلماء هم قادة الأمة تسير وراءهم وتأتمر بأمرهم، كلّما نزلَت بها نازلة أسرعَت إليهم لتسألهم رأيهم، لأنها تعلم أنهم لا يرون لها إلاّ ما يوافق الشرع ويُرضي الله. كانت للعلماء هذه المنزلة لمّا كانوا يريدون الله والدار الآخرة، ما كانت الدنيا أكبرَ همهم ولا منتهى علمهم. ماتت في نفوسهم شهوة الجاه في الدنيا فأعطاهم الله الجاه كله في الدنيا، وأرادوا رضا الله ولو بما يسخط الناس فرضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس، وابتعدوا عن أبواب الحُكّام وزهدوا فيما بأيديهم، فسعى إلى أبوابهم الحُكّام وعرضوا عليهم كل ما في أيديهم. لم يكن يرى أحدُهم في الطاغية الجبّار الذي يرتجف الناس خوفاً منه ومن بطشه، لم يكن أحدهم يرى فيه إلاّ بشراً مثله، سيقوم غداً معه يوم الحساب بين يدَي ربّ الأرباب، فلا يقول له إلاّ كلمة الحقّ يصدع بها، ولكن في أدب. فإذا رآه

الجبّار العاتي وسمع منه رأى فيه سلطان الشرع فصغر أمامه. اذكروا موقف عزّ الدين بن عبد السلام مع الملك الأشرف ثم الملك الصالح، اذكروا موقف ابن تيمية مع ملك التتار، اذكروا موقف المنذر بن سعيد مع الناصر الأموي، باني الزهراء وأول من تَسمّى بأمير المؤمنين في الأندلس، الذي كان أعظم ملوك أوربّا في عصره. اذكروا موقف بكار بن قتيبة قاضي مصر مع ابن طولون. اذكروا موقف النووي مع الظاهر بيبرس. اذكروا موقف المفتي زَمْبيلي علي أفندي مع السلطان سليم المخيف الجبّار. اذكروا موقف سفيان الثوري مع المهدي، اذكروا موقف الشيخ سعيد الحلبي مع إبراهيم باشا ... تلك كانت مواقف العلماء (¬1)، لذلك كان الحُكّام الجبّارون يصغرون أمامهم. * * * ولم أبالغ ولم أقل عجباً لمّا قلت إن دمشق صبرت على هذه النكبات كلها وجزعت لمّا سمعت بأن الشيخ بدر الدين قد مات؛ كنّا إذا قلنا «الشيخ بدر الدين» فقط فكأنما نقول العلم والصلاح والسيادة والمكانة التي لا تعلوها في عصرنا مكانة. كنّا نضرب به المثل، فإذا سمعنا ثناء على عالِم جاوز الحدّ نقول: "شو صار الشيخ بدر الدين؟ " لذلك فاجأنا نبأ موته وهزّنا هزّة شديدة. وطار الخبر في بلاد الشام، فما مضت على موته ساعات ¬

_ (¬1) وأكثرها في كتابي «رجال من التاريخ». ... قلت: ولا تنسوا أن تقرؤوا مقالة «صور من تاريخنا العلمي»، وهي في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

حتى كان جلّة علماء حمص وحماة وبيروت، ومَن أسرع من علماء حلب قد وصلوا دمشق، وامتلأت بهم داره الكبيرة الواسعة، بل امتلأ بهم الجامع الأموي نفسه. امتلأ بهم وبالناس الذين أقبلوا عليه لمّا سمعوا الخبر. اجتمع العلماء وتداولوا في اختيار مَن ينعاه للناس، ثم شرّفوني بأن اختاروني أنا لهذا الموقف. لا أقول هذا ادّعاء، وكيف وقد عرفه الناس جميعاً؟ وأنا حين أذكره أقرّر حقيقة واقعة لا أسوق قضية فخر، وأحمد الله على هذا. وكان رأي أكثرهم أن تكون خطبتي في المقبرة، وأصررت على أن تكون في الجامع لأن الناس مجتمعون فيه والخطاب بين الجدران أجمع للصوت من الخطبة في المقبرة، والناس في المقبرة متفرّقون والصوت فيها يضيع. ولم نكُن عرفنا يومئذ هذه المكبّرات، إنما كنّا نخطب بحناجرنا وحدها. ولمّا علوت المنبر لأتكلم وجدت الحرم كله والصحن كله ممتلئَين بالناس، حتى إنك لو رششتهم بالماء لما وقعت نقطة منه إلاّ على إنسان. وكنت أُسمِع -بحمد الله- المسجدَ كلّه بصوتي بلا مكبّر. ولقد خطبت فيه من قبل كما مرّ بكم في هذه الذكريات عشرات من المرّات بعد صلاة الجمعة، ولكني لم أجد قط حشداً مثل هذا الحشد ولا آذاناً مصغية كالذي وجدتُه هذه المرّة. وكانت خطبة مرتجَلة ما أذكر الذي قلته فيها، ولكن أذكر أثرها في نفوس الناس يبدو على وجوههم ويُطِلّ من عيونهم. وإني لأكتب هذه الأسطر بعد خمسين سنة والمشهد ماثل في ذهني كأنه أمامي أبصره بعيني.

وخرجَت الجنازة، وكان طريقها من باب الجامع الجنوبي إلى شارع مدحت باشا الذي يمتدّ مستقيماً من باب الجابية إلى الباب الشرقي. وإذا كان شارع الشانزليزيه في باريس أو الشارع الخامس في نيويورك مشهوراً فإن أشهر شارع في التاريخ هو هذا الشارع، ألا يكفي أن اسمه ورد في التوراة؟ لا أعرف أقدم منه ولا أعظم إلاّ شارع الجمرات في منى، الذي مرّ منه إبراهيم لمّا أُمِرَ في المنام بذبح ولده إسماعيل (إسماعيل لا إسحاق) (¬1) فذهب لينفّذ الأمر فمرّ من هذا الشارع فعرض له إبليس ثلاث مرّات. إن المكان الذي وقف فيه إبليس في المرّات الثلاث يوسوس لإبراهيم لا يزال معروفاً من تلك الأيام إلى الآن، هذه الأمكنة الثلاثة هي مواضع الجمرات التي نرميها في الحجّ. أعود إلى ذكر الجنازة. لا، لم تكن جنازة بل طُرُقاً ممتلئة كلها بالناس، ولم تكن موكباً يمشي بل حشداً يقف، أوله في مقبرة الباب الصغير وآخره في الجامع الأموي. لم تعرف دمشق جنازة مثلها إلاّ الذي ذكروه عن جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية، والجنازة التي عرفَتها بغداد (كما وصف لنا المؤرّخون) للإمام أحمد بن حنبل. الجنازة هي مقياس حبّ الناس للإنسان (¬2)، لا أن يحفّوا به في حياته حين يُرجى خيره ويُخشى ضره. إنه لا ¬

_ (¬1) خلافاً لما ذهب إليه بعض المفسّرين ومنهم القرطبي العظيم، والذي ذهبوا إليه من أثر الإسرائيليات كادّعاء أن آزر ليس أبا إبراهيم. (¬2) كما يقول ابن الجوزي في «صيد الخاطر» الذي حقّقه أخي ناجي وقدّمت أنا له مقدّمة طويلة وعلّقت عليه.

يمشي في الجنازة إلاّ مَن يدفعه الوفاء ومن يرجو لنفسه وللميت الثواب. وكانت مجالس التعزية في الشام يومئذ تُعقَد في المساجد؛ لم يكن فيها من البِدَع إلاّ الشيء القليل. يجتمع الناس بعد صلاة العشاء فتُوزَّع عليهم الربعة (أي أجزاء القرآن كلّ جزء مجلّد على حِدَة) فيقرأ كلّ منهم وحده، حتى إذا انتهت القراءة سألوا الله أن يهب ثوابها للميت ودعوا له، وشربوا ماء مُحَلّى بالسكر وانصرفوا. وقد اختلف العلماء في وصول ثواب القراءة للميت، ولكن ابن القيم جاء بنحو أربعين دليلاً على وصولها، والمسألة خلافية والله أعلم بالصواب. ولقد طلبت من الحاضرين عشية وفاته في مجلس التعزية في المسجد الأموي، طلبت من كل مَن لديه خبر عن الشيخ أن يبعث به إليّ لأُخرِج كتاباً عنه، فما اجتمعَت الأخبار ولا صدر الكتاب (¬1). * * * كان العلماء -كما قلت- هم القادة. وأنا من يوم وعيت وأدركت ما حولي، قُبَيل الحرب العامة الأولى، أسمع أن الشيخ بدر الدين هو كبير العلماء. كانوا إذا اختلفوا احتكموا إليه، فإن حكم بشيء اجتمعوا عليه. وكان شأنه العزلة؛ دنياه كلها محصورة بين داره التي تبعد عن باب الأموي الشرقي مئة متر ودار الحديث ¬

_ (¬1) صدر عنه من قريب كتابان لم يُدرِك مؤلّفاهما الشيخ فدَوّنا ما سمعاه كما سمعاه.

الأشرفية التي تبعد عن باب الأموي الغربي مئة متر. حديثه كله في العلم، جواباً لمسألة أو حلاًّ لمعضلة، أو دلالة على مرجع أو تعريفاً بعالِم أو بكتاب، لا يحبّ اللغو من القول ولا يأذن بأن يكون في مجلسه، أمّا الغيبة فما لها عنده مكان. ومَن حَسِب أن ذلك سهل فليجرّب يوماً واحداً ألاّ ينطق بغيبة وألاّ يسمعها. كانت له في قلوب الشاميين منزلة ما وصل إلى مثلها ممّن نعرف أحد؛ لذلك فاجأَنا نبأ موته. لا لأننا نتصور أنه خالد لا يموت، بل لأننا نعلم أننا لن نجد بعده مثله، رجلاً يُقِرّ برياسته العلماء ويتبع أمره الشعب، ويتهيب المسَّ به طغاةُ الحكّام من باشوات الأتراك إلى جنرالات الفرنسيين. مَن زاره منهم علم سَلَفاً أن عليه أن يصعد درَج المدرسة وأن يخلع نعليه عند باب الغرفة، وأن يقعد معه على الأرض، وأن يستمع ما يقول الشيخ، وأن يحرص على ألاّ ينطق أمامه بما لا يرتضيه. كان هو سرّ قوّة دمشق، تلجأ إليه كلّما دهمتها الخطوب فتفيء منه إلى جنّة وارفة الظلال، وتفزع إليه كلّما حاق بها اليأس فتجد عنده الأمل الباسم الذي يشقّ طريقاً للحياة وسط شعاب الموت، والثقة بالله التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها طائراً بجناحَين من الشجاعة والثبات. وكانت كلمات الشيخ، على قلّة ما يتكلم إلاّ في درسه الذي يفيض فيه فيَضان النبع الذي لا ينقطع ولا يجفّ مَعينه، كانت كلماته قليلة، ولكن لها فعل السحر في أعصاب الشاميين الذين يسمعونها فيُقدِمون لا يهابون شيئاً. ولقد عرفتم أن روح الثورة

السورية إنما انبثقت من رحلة الشيخ مع تلميذَيه الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب صاحبَي النهضة المعروفة. لقد كتبت عن الشيخ بدر الدين مقالات كثيرة، منها هذه المقالة التي نشرتُ هنا صدرَها في أول هذه الحلقة (¬1)، وقد نُشرَت في مجلّة «الرسالة» في العدد الذي صدر يوم الإثنين السابع من ربيع الثاني سنة 1354، والتي أشار إليها الأستاذ خير الدين الزركلي في «الأعلام» وجعلها من مصادر ترجمة الشيخ. كتبت عنه كثيراً ولا أريد أن أعود إلى الكلام عنه، ولكن أحب أن أبيّن أن العرب من قديم كانوا يؤرّخون بالحوادث الجسام، ولا يزالون إلى الآن على هذا، ومن جسيم الحوادث وفاة الشيخ بدر الدين لأنه كان مرجع العلماء وكان يجمعهم، وكان إليه منتهى الرأي، فإن قال فكلمته هي كلمة الفصل، فلما مات لم نجد بعده مثله. كان الشاميون حين يرونه في دار الحديث يحسّون أنهم يملكون به جيشاً من الجيوش، فليس عجيباً أن هذا الشيخ ابن التسعين قد: سدَّ الطريقَ على الزما ... نِ وقامَ في وجهِ الخطوبْ رحمه الله ورحم كل عالِم عامل. * * * ¬

_ (¬1) وهي غير المقالة المنشورة في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

المدرسة الأمينية بقي الباب وذهب المحراب

-88 - المدرسة الأمينية بقي الباب وذهب المحراب قدْ يهونُ العمرُ إلاّ ساعةً ... وتهونُ الأرضُ إلاّ موضِعا هذا ما قاله شوقي على لسان المجنون في جبل التَّوْباذ. هل عرفتم جبل التوباذ؟ وماذا يضرّكم ألاّ تعرفوه إن قرأتم هذه الأبيات فهبّت عليكم نسمة من صَباها أو نفحة من ريّاها؟ (¬1) إن لكل منكم «تَوْباذاً» هو موطن حبّه ومهوى قلبه، وقد يكون توباذه جبلاً، أو بحيرة كبحيرة لامارتين، أو أرضاً بكراً كأرض بول وفيرجيني، أو بيتاً أو مدرسة ... ما المطلوب المكان بل المَكين، ¬

_ (¬1) قال ياقوت: تَوْباذ جبل بنجد. وأنشد لبعضهم: وأجْهَشْتُ للتَّوْباذِ حين رأيتُه ... وسبّحَ للرحمنِ حينَ رآني وقلتُ له: أين الذينَ عهدتَهم ... بربّك في خَفضٍ وعَيْشِ لَيانِ؟ فقال: مَضَوا واستودعوني بلادَهم ... ومَنْذا الذي يَغترُّ بالحَدَثانِ؟ وقال العلامة ابن بليهد في كتابه «صحيح الأخبار عمّا في بلاد العرب من الآثار»: "توباذ جبل من جبال نجد ولكني لا أعلم موقعه". قلت: فإنْ هو -المؤرخ والأديب النجدي- لم يعلم، فمَن سيعلم؟ (مجاهد).

وليس المقصود الدار بل الديّار: وما حبُّ الدّيارِ شَغَفْنَ قلبي ... ولكنْ حبُّ مَنْ سكَنَ الدّيَارا لكل واحد «توباذ» كما أن لكلٍّ «ليلى»: «ليلى مِنَ النّاسِ أو ليلى مِنَ الخَشَبِ»، جُنّ بها كما جُنّ قيس: وكلُّ النّاسِ مجنونٌ ولكنْ ... على قَدْرِ الهوى اختلفَ الجُنونُ * * * قلت هذا لأنني أتكلم اليوم عن مكان في دمشق، ما فيها بعد المسجد وبعد منزل أبي وأمي بقعة أكثر منها اتصالاً بحياتي وأشدّ ارتباطاً بذكرياتي، هي المدرسة الأمينية. إذا رجعتم إلى مجلّة «الزهراء» في مصر سنة 1347هـ وجدتم كلمة لي فيها تعريف بتاريخ هذه المدرسة، وأنها تكاد تقارب في عمرها عمر الأزهر، وأنها أقدم (أو مِن أقدم) مدارس الشافعية في دمشق. ومَن جال في حارات دمشق القديمة أو قرأ ما كتب عن مدارسها (ككتاب «الدارس» (¬1)) أو مشى في طرق القاهرة يعجب من كثرة المدارس القديمة المَوقوفة، وزاد عجبه أن أكثرها أنشئ في عهد المماليك ... المماليك الذين صاروا ملوكاً. هذه المدرسة في سوق الحرير. وكان لأهل كلّ صناعة في ¬

_ (¬1) لعله «الدارس في أخبار المدارس» لابن حِجّي، وهو عن مدارس دمشق (مجاهد).

دمشق وفي أكثر المدن الشرقية سوق يجتمعون فيها، وكانت هذه الأسواق مسقوفة تقي سقوفُها ساكنيها والماشين فيها حرّ الشمس وماء المطر. وبين هذه المدرسة وباب الأموي الجنوبي نحو من ستين متراً فقط. الذي يصعد الأبراج في المدن، كبرج القاهرة وبرج إيفيل في باريس أو المطعم الدوّار في آخن (إكس لاشابيل)، ويضع عينه على المنظار المقرِّب ويوجّهه إلى بقعة من المدينة يراها أمامه واضحة ويبصر صغيرها كبيراً وبعيدها قريباً، ولكن الواقف إلى جنبه لا يرى فيها الذي يراه هو، فكيف أستطيع أن أجعلكم ترون في هذه المدرسة التي لم تعرفوها ولم يسمع أكثركم باسمها، مثل ما أرى أنا فيها؟ عرفتم -ممّا قرأتم من هذه الذكريات- أن الحرب الأولى لمّا انتهت سنة 1918 كنت في آخر المدرسة الابتدائية. وكانت المدارس عندنا في الشام أصنافاً ثلاثة: مدارس أميرية، ومدارس أهلية، ومدارس نصرانية أجنبية. وعرفتم أن أبي نقلني من المدرسة الأميرية الرسمية إلى مدرسة كان صاحبها الذي يديرها أحد مشايخ التعليم في الشام، هو الرجل الذي لبث يعلّم نحواً من سبعين سنة، الشيخ عيد السفرجلاني. وكان ابن خالتي الشيخ شريف الخطيب صاحب المدرسة الأمينية ومديرها، فخطر لي يوماً أن أنتقل إلى مدرسته، فسألت أبي فقال: جرّب. وكأنه يعلم أني لن أصبر عليه، لأنه كان نسيبه وكان يعمل معه مديراً للقسم الابتدائي في المدرسة التجارية الكبيرة التي كان

أبي مديرَها العامّ بقسميها الابتدائي والثانوي، وقد أُغلقت كما عرفتم بانتهاء الحرب الأولى. دخلت مع التلاميذ كأني واحد منهم، ورآني من بعيد فما رحّب بي ولا تجهّم لي. وكانت المدرسة قد تبدّل بناؤها القديم: سرقها الجيران من كل جانب كما سرقوا مئات المدارس في مصر والشام والعراق فجعلوها بيوتاً، وكثيراً ما ترى الآن في دمشق داراً مملوكة وعلى بابها لوحة من الرخام منحوت فيها أن باني هذه المدرسة هو الأمير فلان الفلاني وأنه وَقَف عليها كذا وكذا. فأقام الشيخ شريف دعاوى على هؤلاء الجيران واستردّ المدرسة منهم، وأعاد بناء ما تَخرّب منها بناء حديثاً عادياً لا كالبناء الأصلي. واختلطت بالتلاميذ وجعلت أكلّمهم، ففزعوا وقالوا: الآن يسمعك حضرة المدير. وأشاروا إشارة خفيّة، فرفعت رأسي فإذا حضرة المدير يُطِلّ من شبّاك صغير في الغرفة العلوية فيرى التلاميذ، وإذا له بين التلاميذ جواسيس يسمّيهم «الخفية»، ومن التلاميذ عرفاء ورؤساء ومراقبون مختفون في الطرق يراقبون التلاميذ، ويرفعون أسماءهم وأخبارهم إلى حضرة ... المدير. وكان يمشي في ذلك على طريقة الأستاذ عبد الحكيم الطرابلسي، وهو أديب لبق صار -بعدُ- مستشاراً للسفارة السعودية في دمشق أو شيئاً كالمستشار لا أعرف تماماً. وكانت هذه الطريقة التي تُعتبَر أصلاً في تربية الأولاد، طريقة الشدّة والعنف، مألوفة معروفة. وكان المعلّمون يضربون التلاميذ ضرباً أشدّ من ضرب مَن يُقام عليه الحدّ الشرعي، وكان الفلَق (كلمة عربية قاموسية لِما

يُسمّى الفلقة أو الفلكة)، كانت هذه الطريقة هي أساس التأديب، فما ظنّك بأمة تنشأ كما ينشأ عبيد العصا؟ وبعض المعلّمين يضربون ضرب مجرم معتدٍ أو طالبِ ثأرٍ يتشفّى بالانتقام. ولمّا كنّا نَدرس الطبّ الشرعي في كلّية الحقوق التي حملت شهادتها سنة 1933 رأيت أن علماء النفس يعتبرون بعض هذا الضرب من المعلّمين من الساديّة المنسوبة إلى الماركيز دي ساد؛ أي أنه يؤدّي إلى لذّة جنسية عند الذي يتولّى الضرب! ولمّا رجعت إلى الدار في المساء أخبرت أبي أني سأعود إلى مدرسة الشيخ عيد، فتبسّم كأنه يقول لي: لقد كنت أتوقّع هذا. وحسبت يومئذ أني لن أعود إلى المدرسة الأمينية أبداً. ولكنّ الله أراد غير هذا، فعدت ولكن بعد حين، سنة 1345 (1927). وهي السنة التي أُنشئ فيها نظام البكالوريا في سوريا، أو نُقل إليها النظام الفرنسي بذاته بلا تبديل. في تلك السنة أقاموا دورة للمعلّمين الذين لا يحملون شهادة، فذهبت إليها مرّة مع ابن خالتي الشيخ طه الخطيب، وكان معلّماً عند أخيه في المدرسة الأمينية. فلما رجعنا دخلت معه المدرسة فقعدت عند المدير الشيخ شريف، قعدت ضيفاً هذه المرّة لا تلميذاً، وسقاني الشاي الأخضر. وكان للشاي الأخضر مختصّون في الشام يُتقِنون صنعه يُسمّون «ملوك الشاي»، وكان الشيخ شريف واحداً منهم. رأيته يُعِدّ يومئذ للحفلة السنوية التي يعرض فيها محاورات، أي شبه مشاهد تمثيلية بدائية، وخُطَباً وقصائد يلقيها التلاميذ. وطلب إليّ أن أحضر التجرِبة (البروفا) فحضرت، فلم يُعجِبني شيء ممّا

رأيت وما سمعت. ولمّا طلب إليّ رأيي تردّدتُ لأنه خالي من الرضاع وهو بسنّ أمي ولا جرأة لي عليه، لكنه أصرّ على معرفة رأيي فقلت له إنه لم يُعجِبني شيء ممّا رأيت أو سمعت. قال: هل تستطيع أن تُعِدّ أنت هذه الحفلة؟ قلت: نعم. وكان قد بقي لموعدها أسبوعان، فترك لي أمر الإعداد كله. وكان لي صديق كبير السنّ هو المحامي أحمد حلمي العلاف، ذهب إلى رحمة الله كما ذهب الشيخ شريف وأكثر من سيمرّ ذكرهم في هذه الحلقة. وكان هذا الصديق واحداً من أهل الكفايات والمواهب، ولكن الفقر والعزلة يغطّيان على المواهب والكفايات. وكان ضابطاً مُسَرَّحاً من الجيش العثماني، درس الحقوق وصار محامياً، واستأجر غرفة في بناية العابد، أضخم وأفخم بناء حجري في دمشق، بناها أحمد عزت باشا العابد وكانت مقرّ المحامين، ولكنه لم يكن يجد عملاً. كان يُتقِن العربية والتركية إتقان أديب متمكّن ويُلِمّ بالفرنسية وينظم بعض الشعر، فاستعنت به، وأخذت مسرحية لأبي خليل القباني عنوانها «ناكر الجميل». وبدأنا ننشئ مسرحاً (على قدر الإمكان)، وأنا أعدّل في نصّ الرواية وأعلّم التلاميذ الإلقاء، ويظهر أني كنت بارعاً فيه أُعطي اللهجات حقّها، أتحمّس في موضع الحماسة وألين في موضع اللين وأستفهم في مكان الاستفهام وأُظهِر العجب في موضع التعجّب، أي أنني كنت أحسن الإلقاء والتمثيل، مع أنني لم أرَ في عمري إلاّ رواية واحدة ليوسف وهبي في دمشق ورواية هزلية (كوميدية) لأمين عطا الله الذي كان يقلّد نجيب الريحاني، وهو لبناني الأصل مثله.

وكان الأستاذ العلاف يقوم بعمل المخرج، فاشترينا من سوق الأروام (في آخر سوق الحميدية) ثياباً تصلح لأدوار المسرحية، من دكاكين كانت تجمع هذه الثياب التاريخية وغيرها. وكان يتولّى عمل «الماكياج» فيلصق اللّحى والشوارب، ونصنع من الورق المقوّى تيجاناً ومن الخرز عقوداً؛ أي أننا عملنا مسرحاً بدائياً جعلنا نُجري فيه التجارِب (البروفات). ومُثِّلت الرواية فدُهش منها الناس، وكانت فاتحة سلسلة من الروايات كنت أكتب أنا نصوصها. أُعِدّ الفكرة في ذهني ثم أدخل فأمليها إملاء على التلاميذ، ثم نختبرهم ونوزّع الأدوار عليهم. عملت سبع مسرحيات منها مسرحية عن أبي عبدالله الصغير وسقوط دولة غرناطة، ومسرحية عن ثورة محمد بن أميّة في الأندلس على الإسبان بعد زوال الحكم الإسلامي عنها. وكانت عندي نسخ مفردة من هذه المسرحيات أحضرتها معي، فطلبت إلى إدارة الرائي (التلفزيون) في جدّة من سنوات طويلة أن تنظر فيها لعلّ فيها ما يمكن الاستفادة منه، فأعطوها إلى موظف كان هنا اسمه فلان العوري (نسيت اسمه) فأخذها وأضاعها، ولم يقدّم اعتذاراً ولم يشعر بأنه ارتكب إثماً. وكذلك يموت الضمير في بعض الصدور حتى لا يدري المجرم أنه أجرم! ولم نكُن نستجيز أن نأتي بنساء ولا أن نُلبِس أحد التلاميذ لباس النساء ليقوم بدور امرأة (كما كان يُعمَل من قبل) لأن ذلك يقضي على مستقبل هذا التلميذ الذي يُختار عادة من ذوي الوضاءة والجمال ممّن يشبه البنات، فإذا انتهت الرواية لم يعُد يناديه رفاقه باسمه الحقيقي بل اسمه النسائي في المسرحية، وذلك شيء لا

يجوز. وكنّا نستعيض عن ذلك بالمواقف الحماسية التي تُضرِم النار في قلوب المشاهدين وتُشعِل أعصابهم وتدفعهم -لو شئنا- لاقتحام المعارك، وبشيء آخر هو المواقف الهزلية (الكوميدية) التي تُطلِق الضحكات من قلوب المحزونين. وكنت بحمد الله أُوفَّق في ذلك كثيراً، وكنّا نجد من التلاميذ من يصلح لهذه الأدوار كما نجد فيهم من يصلح للأدوار الجدّية والإلقاء الحماسي. فممّن برع في إلقاء القصائد الحماسية تلميذ صار -من بعد- أستاذاً للرياضة، نجح في تقليدي حتى صاروا يلقّبونه بالطنطاوي الصغير لأنه يُلقي مثل إلقائي، اسمه محمد البزم على اسم الشاعر الكبير المعروف. وممّن برع في الأدوار الحماسية تلميذ صار من كبار الضباط، وكان يمثّل مصرَ في اجتماع شتورة المعروف الذي عقدَته جامعة الدول العربية بعد الانفصال، وصار له شأن، هو أكرم الديري، ولم أرَه منذ كان تلميذاً صغيراً في المدرسة الأمينية في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وممّن انضمّ إلى تلاميذ الأمينية مدّة قصيرة أحمد عسّه، الصحافي المعروف الذي كان أيام الشيشكلي من أعوانه المقرّبين، وهو مؤلّف كتاب «معجزة فوق الرمال». ولست أحصي التلاميذ الذين مرّوا عليّ في المدرسة الأمينية على مدى ثلاثين سنة. * * * وكنت آتي الشيخ شريف بمدرّسين من إخواننا يعلّمون في مدرسته الأمينية، منهم أنور العطّار الشاعر الكبير رحمه الله، ومنهم وجيه السمّان، رفيقنا أيضاً في المدرسة، المهندس البارع

خريج مدرسة الهندسة المركزية (إيكول سنترال) في باريس، وهو الأديب عضو المجمع العربي في دمشق الذي صار وزير الصناعة في القاهرة أيام الوحدة. وصلاح الدين المَحايري، وهو من أعمق من عرفت تفكيراً وأوسعهم اطّلاعاً، ولست أدري الآن ما فعل الله به فلم أرَه من تلك الأيام. ونسيب عناية الصيدلي، وأنيس الشّربجي الذي صار المفتّش المركزي في سوريا، وكان كاتباً إسلامياً، وكان عضواً في جمعية التمدن الإسلامي. ورفيقنا خالد الرفاعي رحمه الله أيضاً، ولقد كان أحد أركان الحركة الكشفية في الشام. لذلك كان التعليم في المدرسة الأمينية في الذروة. كان الشيخ شريف يستعين بأمثال هؤلاء وكان يدأب جاهداً مع التلاميذ، من مطلع الشمس إلى ما بعد العشاء، يطبّق المنهج الرسمي لوزارة المعارف كاملاً ويدرّسهم فوقه التجويد والفقه، ويحفّظهم بعض المتون ويدرّس مصطلَح الحديث، ويحفّظهم في كلّ سنة أربعين حديثاً صحيحاً مشروحة. ويوم امتحان الفرائض يأتي بأعظم علماء الشام فيها، كالشيخ جميل الشطي والشيخ حسن الشطي، فيقف التلميذ الذي لا يجاوز عمره الثانية عشرة أمامهم ويُلقُون عليه أعقد المُناسَخات في الفرائض: مات الأب وترك فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم مات الولد وترك فلاناً، ثم مات ... هذه المناسخات، فيقسمها أمامهم يصنع لها شباكاً ويأتي بالنتيجة الصحيحة. وكان من مزايا الأمينية أنه يختار لكل درس أكبر المتخصّصين فيه، فكان يعلّم الخطَّ شيخُ الخطّاطين الشيخ حسين البَغَجاتي،

ويدرّسهم الرياضة أنبغ رياضي، الذي كان مدرّباً لمدرسة الشرطة واسمه أديب، وكان معروفاً في أيامه، فكان التلاميذ يُتقنون حركات الجمناز على الثابت وعلى المتوازيَين. وكان يدرّسهم اللغةَ الفرنسيةَ رجل ما أدري إذا كان فرنسي الأصل أو يونانياً يُحسِن الفرنسية وينطق بها مثل أهلها، اسمه موريس، عاش في الشام عمراً طويلاً وأسلم وأتقن العربية. وكان عندنا شيخ قارئ موسيقي من أذكى المكفوفين سيأتي ذكره، اسمه الشيخ عارف القلطقجي، وكان يداعبه فأنشأ قصيدة مرّة في هجائه يقول فيها: يقولونَ: مَنْ أشقى الورى؟ فأجبتُهم: ... منَ الجنِّ إبليسٌ، منَ الإنسِ موريسُ رحمه الله أيضاً. * * * وللشيخ شريف أنظمة عجيبة، منها أنّ ساعة المدرسة ليست زوالية ولا غروبية ولا تمشي على التوقيت الصيفي ولا الشتوي، بل تتبع الزوال الحقيقي لدمشق. أي أنه إذا أذّن الظهر رُبطت على الثانية عشرة ظهراً. ومن أنظمته الغريبة أنه إذا جاء الصيف أجبر المدرّسين والتلاميذ أن يخلعوا أحذيتهم عند الباب، بحُجّة أن هذه المدرسة في الأصل مسجد وأن ذلك أنظف، وأنه يتيح للتلاميذ أن يقعدوا على أرضها فيستريحوا ويأمنوا توسيخ ثيابهم. وكان يضع على الباب الداخلي في الصيف آية {اخْلَعْ نَعْليك} ويطبّق هذا النظام على الجميع، فمن شاء اتخذ حذاء آخر نظيفاً يلبسه إذا دخل المدرسة. * * *

ولمّا ذهبت إلى مصر للدراسة في دار العلوم سنة 1928 (1347هـ)، تركت فكري كلّه في المدرسة الأمينية. وكانت دمشق عندي هي بيتي والمدرسة الأمينية، لم تُلهِني مصر وما وجدت فيها عن متابعة الاهتمام بقضايا المدرسة ومشكلاتها. أفنيت في هذه المدرسة شبابي وكهولتي واستفرغت فيها جلّ نشاطي واندفاعي بين تلاميذ ما تابع منهم -فيما بعد- طريقَ العلم والدراسة إلاّ قليل. نثرت بِذاري بوادٍ غير ذي زرع وأعملت محراثي في أرض قَفر لا تحفظ بذراً ولا تُنبِت زهراً ولا ثمراً. ولو أني بدأت كما بدأ غيري ممّن جاء بعدي، وأُتيحَ له أن يذهب إلى فرنسا ويرجع منها متأبطاً شهادة من فرنسا أو مصاحباً قرينة من بنات فرنسا، لكنت مثلهم! والحمد لله على أنني لم أكُن مثلهم، لكنني لمّا اضطُررت إلى قبول الوظيفة أسرعت فأخذت أول ما قرب إليّ. كانوا راضين بأن يُعطوني الوظيفة التي أطلبها ليُسكِتوني ويتّقوا لساني وقلمي. كانت الوظيفة مثل بناء ذي طبقات على سفح الجبل، إن دخلت إليه من الباب القانوني: باب الشارع الأسفل وصلت إلى الطبقة الأولى من البناء، وإذا صعدت الجبل وجئت من الباب الخلفي، من باب الوساطات، دخلت إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ثم صعدت منها. استنفدت في هذه المدرسة أكثر قوّتي وأَرَقْتُ فيها أكبر طاقتي، وكان ذلك كله عبثاً، كان جهداً ضائعاً. لقد استحدثت فيها (كما قلت لكم من قبل، ولا أعيد عليكم) فنوناً في الإلقاء، كنت إذا علّمت الطلاّبَ إلقاء قصيدة لَحّنتها لهم كما يلحّن

الموسيقي الصوت الذي يغنّيه المطرب، مواقف يقف عليها ومواطن يبتدئ منها وجُمَل يكرّرها، وكلمات يمدّ الصوت فيها وأخرى يشدّه فيها شداً أو يرخيه أو يعلو به أو ينخفض، أو أجعل بعد الحرف الساكن هاء (كهاء السكت في التجويد) تخرج من القلب، وأشياء لا يمكن أن يُعبَّر عنها بكلمات الوصف ولا تُعرَف إلاّ بالسمع. أما هذه الروايات فقد انتقلت بها من الأمينية إلى غيرها من المدارس التي كنت أعلّم فيها مثل التجارية والكاملية. طُلبتْ مني في المدرسة التجارية (التي فُتحت في موضع المدرسة التجارية الأولى التي كان والدي مديرها، لكنها كانت ثانوية فصارت ابتدائية)، فوضعت لهم رواية عنتر، وهي أجود الروايات التي عملتها. وكانت المدرسة في دار جميل مَرْدَم بك الكبرى ذات الصحن الواسع التي مرّ ذكرها، فاجتمع من المشاهدين ليلة العرض أكثر من ألفَي مشاهد صُفّت لهم الكراسي في الصحن الواسع، وتفنّنتُ في الحِيَل المسرحية فصوّرت معركة ذي قار كأنّها معركة حقيقية؛ جعلت الطلاّب وهم يمثّلون الجيش العربي يمرّون من طرف المسرح إلى طرف وهم يهتفون هتافات عربية ويحملون الرايات، يذهبون ويرجعون من وراء المسرح (ممّا يُسمّى الكواليس) والمشاهد يظنّ بأنه موكب واحد (من باب خداع النظر). حتى إذا مروا جميعاً أخلينا المسرح قليلاً، ثم أشار واحد إلى أن الفُرس قادمون من الجهة الثانية، فجعلنا الطلاّب بلباس الفرس يدورون كما دار الأولون حتى ليحسب الرائي أنهم مئات ومئات. ثم أخلينا الساحة ووَقَفنا فيها مَن يشير بيده ويتحدّث بلسانه

عن المعركة التي تجري بعيداً فننقلها إلى المشاهدين بالوصف. وعملت شيئاً آخر مخالفاً للأعراف المسرحية ولكن كان له أثر. ذلك أن الوفود التي كانت تَفِدُ تخرج من داخل المسرح، من ورائه من الباب الداخلي، فجعلت وفداً من الوفود يأتي من باب المدرسة، يحمل أعلامه ويهتف هتافاته ويُنشِد أناشيده ويمرّ ويدقّ طبوله ويخترق صفوف المشاهدين إلى المسرح. أما هذه الروايات أي (المسرحيات) فقد تبعت فيها رائداً سبقني هو الدكتور أسعد الحكيم، من أقدم أعضاء المجمع العربي ومدير مستشفى الأمراض العقلية والعصبية، هو أديب (ذهب إلى رحمة الله) كانت رواياته من نحو خمس وستّين سنة (ورواياتي هذه التي أتكلم عنها كانت من نحو خمسين سنة أو أكثر)، فأنشأ في مدرسة الشيخ كامل القصاب عدداً من المسرحيات أشهرها مسرحية «دمنة الهندي»، وكانت حديث الناس، ونشأ عنها نقاش طويل في صفحات مجلّة كان يُصدِرها العلماء في الشام تُسمّى مجلّة «الحقائق»: ناقشوا قضية التمثيل هل يجوز أم لا؟ والذي أثار النقاش أن أحد الممثلين أنشد أنشودة فيها هذا البيت: «إنّما التمثيلُ فرضٌ جاءَ في القرآنِ». هذا الذي أنكروه عليه أولاً، هو منكَر طبعاً. وكانت هذه المرحلة بعد مرحلة أبي خليل القباني. والذي جاء به الدكتور الحكيم وجئت به أنا ليس تمثيلاً مسرحياً كاملاً، ولكنه تمثيل مدرسي بمقدار ما يمكن لإدارة المدرسة ولتلاميذها أن يقوموا به. وقد حمل أعباءَ المسرح بعدها في الشام اثنان: الأستاذ

الرسّام المشهور أستاذنا عبد الوهاب أبو السعود، مثّل روايات جَمّة مترجَمة، وكان ينافسه العطري. وممّا مُثّل يومئذ رواية كانت لها ضجّة كبيرة عنوانها «لولا المحامي». * * * واظبنا على المدرسة الأمينية نجتمع فيها بعد صلاة الجمعة أكثر من ثلاثين سنة تبدّلَت فيها الدنيا وتغيرَت الأرض ومن عليها، والشيخ شريف كما هو ما تَبدّل ولا تَغير؛ ماتت أساليب في التربية واستُحدثَت أساليب، وهو ثابت على أسلوبه الذي أَلِفَ. انفضّ التلاميذ من حوله حتى اقتصروا على أربعين، ثم على عشرين، ثم على نفر معدودين، ثم لم يبقَ عنده تلميذ واحد، ولكنْ بقي الشيخ شريف يأتي كل يوم من الصباح ويبقى -على عادته- إلى ما بعد صلاة العشاء، وربما كان يقرع الجرس في موعد الدروس وموعد الفرص، والمدرسة خالية ما فيها أحد! وللشيخ شريف في شدّته نوادر عجيبة أسوق واحدة منها: جاءه مرّة والد أحد التلاميذ يطلبه لضرورة، فأبى الشيخ أن يُخرِجه حتى ينتهي الدرس. فاحتجّ الأب وسخط ورفع صوته وقال: لقد أخرجت ولدي من المدرسة فما شأنك به؟ وكان الوالد تلميذاً قديماً للشيخ، وكان تاجراً له دكّان عند باب المدرسة، فلم يمنع الشيخَ شريف كِبَرُ سنّ هذا الوالد ولا أنه صار تاجراً موسراً ولا أنه صار أباً لأولاد، لم يمنعه ذلك أن يأمر بإلقائه على الأرض وأن يضع رجليه في الفلق، وأن يضربه أمام التلاميذ! كان اجتماعنا في المدرسة بعد الصلاة ضرورة لا أستطيع

الاستغناء عنها ما كنت في دمشق، وإذا لم أكُن فيها حنَنت لهذا الاجتماع واشتقت إليه. وكان من رُوّاده الدائمين الشيخ عبد القادر العاني، وأنور العطّار، وسعيد الأفغاني، وأحمد حلمي العلاّف، وحسني كنعان، والشيخ صبحي الإمام. وهنالك غيرهم ممّن يزور المجلس لماماً، ولكلّ من هؤلاء قصّة فيها صفحات من هذه الذكريات، فأين هم الآن؟ لقد ذهبوا إلى حيث يذهب كل حيّ، ما بقي إلاّ أنا وسعيد، ونحن ذاهبان على أثرهم نسأل الله حسن الخاتمة. ولمّا جئت دمشق آخر مرّة سنة 1398 (¬1) ذهبت إلى الأمينية ووقفت أمام الباب أتذكّر أيامي فيها وأصحابي ورفاقي، وأستعرض ماضيّ، أرى «فِلْماً» طويلاً يمرّ من أمامي تتعاقب أحداثه، ثم دخلت. فهل تدرون ماذا وجدت؟ لقد وجدت المدرسة قد صارت سوقاً، فيه الدكاكين مصفوفة والبضائع معروضة، ووجدت الشارين والشاريات. أمّا المدرسة فقد ماتت، ماتت كما مات كلّ مَن كان فيها ومَن كان يرتاد مجلسها. وكلّ حيّ إلى ممات، ونسأل الله حسن الخاتمة. * * * ¬

_ (¬1) ولست أدري هل يُفتَح لي الطريق إلى بلدي لأراه مرّة أخرى أم يبقى مغلَقاً دوني حتى أموت وفي نفسي حسرة لا يمحوها إلاّ أن يعوّضني الله مغفرة منه ورحمة وثواباً.

أنا والقلم

-89 - أنا والقلم سألني أحد الإخوان الذين يقرؤون هذه الذكريات، فقال: لقد قرأتُ في الحلقة (22) وما قبلها أنك تلقّيت العربية عن الأساتذة الجندي والمبارك وسلام، وقبلهم قرأت النحو والصرف على المشايخ صالح التونسي وأبي الخير الميداني وأبي الخير القوّاس، فعمّن أخذت الإنشاء؟ وكيف تعلّمت الكتابة؟ فورد عليّ ما لم أُعِدّ له جواباً، لأنه ما خطر هذا السؤال يوماً على بالي ولا قدّرت أنني سأُسأله، وقعدت أفكّر فقلت: صحيح والله، كيف تعلّمت الكتابة؟ ما أخذتها عن أستاذ. وليست الكتابة علماً يُتلقّى عن الأساتذة كما يتلقى الطالب النحو والصرف والفقه والأصول، وما كان في أساتذتنا من يُعَدّ من أرباب الأقلام أو يُحسَب مع الكتّاب. وكلّ هؤلاء الذين سَمّاهم الأخ السائل والذين استمددت منهم معرفتي بالعربية ما كان فيهم من يُحسِن الكتابة، حتى الأستاذ الجندي فإنه على كثرة مصنّفاته كان عالِماً لا كاتباً، وليس العالِم كالكاتب؛ الكاتب هو الذي يُخرِج لك مكنون نفسه حتى تراه ظاهراً لعينك،

ويصف لك المشهد الغائب عنك حتى تُبصِره أمامك، ويملك الفكرة فيتصرّف بها تصرّف المالك حتى يُدخِلها ذهن الشاكّ أو المُنكِر أو المعارض كما يُدخِلها ذهن الموافق أو الخليّ. هو الذي يملك عيناً كعين المصوّرة (الكاميرا) تسجّل كلّ جميل في الكون أو قبيح وكلّ محبوب في النفس أو مكروه تسجيلاً يخلّده ويُبقيه، كما يسجّل وقائع الناس وطِباعهم وخلائقهم. ثم إن الكتابة كالطبّ صارت إخصاء (أي اختصاصاً) فلم يَعُد الطبيب يداوي الأمراض كلها في الأعضاء كلها، بل لم نعُد نجد طبيباً داخلياً (باطنياً) عاماً، بل صار لكل عضو إخصائي (أي اختصاصيّ) ولكل مرض إخصائي. وكذلك الكتابة؛ فكتابة صحفية، وكتابة أقصوصة أو قصّة أو رواية، وكتابة مسرحية، والكاتب المسرحي إما كاتب مآسٍ وفواجع (تراجيديات) أو كاتب يرسم البسمات على الشفاه ويستخرج الضحكات من الأعماق. ثم إن ذلك كله إمّا أن يكون بالأسلوب الواقعي الذي يمشي على الأرض ويصوّر أحوال أهلها، أو الذي يعلو في جِواء الخيال أو يقيّد شوارد الأحلام، أحلام اليقظة أو المنام، وإمّا أن يعرض الصورة كاملة أو يجعل لها رمزاً (سمبول) يدلّ عليها ويشير إليها. وأصناف أخرى لا أريد، بل لا أقدر أن أستقريها وأتقصّاها، وليس في أساتذتي ولا في مشايخي من كان في شيء من هذا. حتى دروس الإنشاء في المدرسة لم أستفِد يوماً منها ولا نبغت يوماً فيها، وما نلت فيها الدرجة الكاملة في الامتحان قط.

لماذا؟ لأنهم كانوا يكلّفوننا الكتابة في موضوعات غريبة عنّا بعيدة عن أذواقنا ومشاعرنا، ويطلب منّا الأستاذ أن نفكّر برأسه هو وأن نُبصِر بعينه، وأن نُغمِض عيوننا نحن ونعطّل تفكيرنا. وكان بعضهم يحدّد لنا حداً لا نجاوزه من عدد الأسطر أو الصفحات. فمَن رأى فكراً أو شعوراً يوزَن أو يُكال أو يُقاس؟ ولقد كنت أعجب دائماً من الأستاذ الزيات، كيف تأتي افتتاحية للرسالة في حيّز معيّن لا يزيد عليه ولا يكاد ينقص منه مهما يكن الموضوع. ومن أمثلة ما كان يُطلَب منّا أن نكتبه أن أستاذنا الجندي (عليه رحمة الله) كلّفنا يوماً أن نكتب في ««وصف روضة». فنبشت ذهني ونثرت ما في مخزون ذاكرتي، فما وجدت فيها صورة «روضة» إلاّ «قهوة الروضة» في حمص. فما الذي أصفه؟ وكنت أعرف في بساتين دمشق بستاناً لأخوالي من آل الخطيب، إذا ولجت بابه الخشبي رأيت أمامك «مَزْبَلة» (¬1) وإلى جنبها ساقية عَكِرة، يتجمّع ماؤها في بِرْكة أقلّ ما يُقال فيها إنها ليست نظيفة، وعند مدخل البستان أشجار ضِخام من الجوز تحوم حولها الغربان (¬2). فلما رأى الموضوع أخرج القلم الأحمر، وملأ الصفحة بمثل دماء الجروح من كثرة الخطوط الحُمر. قلت: فما الذي ¬

_ (¬1) ولا يُزعِجْك اسم المزبلة، فإنها تُباع بالذهب لأنها سماد طبيعي يخمّرونه ليسمّدوا به الأرض فتُخرِج الحَبّ والثمر، وهي بنت عمّ «الدّمْنة» التي امتلأت بذكرها روائع الأشعار. (¬2) يريد أنه كتب موضوعاً يصف فيه تلك المزبلة (مجاهد).

أنكرتَه يا سيدي؟ قال: ساقية عكرة، وغربان؟! هلاّ ذكرت ماءً كذَوْب اللُجَين تلمع فيه حصى كاللآلئ؟ وهلاّ جعلت على الغصون العنادل والبلابل؟ قلت: يا سيدي، لقد وصفتُ ما أبصرتُ. وأنا لم أشاهد في عمري ماء كأنه ذوب اللجَين ولا حصى «يرُوعُ حاليةَ العذارى فتلمَسُ جانبَ العَقدِ النظيم»، وما عرفت العندليب ولا البلبل. أفأصفُ ما لم أرَ ولم أعرف؟ ولكن الأستاذ لم يُعجِبه ما قلتُ ولا ما كتبت! * * * وكان الذين يكتبون عندنا قلائل، وما يصل إلينا من مصر من الكتب والمجلاّت قليلاً أيضاً، ولا أمدّ إليه يداً لأن الأستاذ كان يحذّرنا منه لئلاّ تفسد به مَلَكاتنا ويسري اللحن إلينا؛ لذلك اقتصرَت قراءاتي إلى آخر الدراسة الثانوية على كتب الأدب القديم، فقرأت «الأغاني» كلّه (وإن لم أفهمه كلّه) و «العقد الفريد» و «البيان والتبيين» وما كان في مكتبتنا من أمثال هذه الكتب وما كان فيها من دواوين الشعراء، ولم أعرف من الأدب الجديد إلاّ ما كتب المنفلوطي في «النظرات» و «العبرات» وما تُرجم له فصاغه بقلمه من القصص والروايات، ومجلّة «الرابطة الأدبية» التي تكلّمت عنها في الحلقة (22) من هذه الذكريات. والمنفلوطي سَلِس العبارة ضحل المعنى، ليس لأفكاره عمق ولكن على ألفاظه طلاوة، كثير الترادف، خَطابي الأسلوب، ومقالته «تأبين فولتير» التي صاغ فيها ما تُرجم له عن فيكتور هوغو

هي في رأيي النموذج الكامل للأسلوب الخطابي الذي كان الغالب على نثر هوغو. ومن قرأ كتبه (أي هوغو) «قبل المنفى» و «أثناء المنفى» وخطبه في مجلس النوّاب ومرافعاته في المحاكم، لا سيما دفاعه عن ولده، رأى دليل هذا الذي أقوله. ولو أتقن هوغو العربية وكتب بها تأبينه فولتير لما جاء بأعظم ولا أكرم ممّا كتب المنفلوطي. هذا رأيي أنا. وما أحدٌ ممّن كان من لِداتنا ومن أبناء عصرنا إلاّ تأثّر يوماً بالمنفلوطي و «نظراته». أما «العبرات» فأكثر قصصها بدائية مصطنَعة. وليست البراعة أن يموت الولد من المرض فتموت الأم من الحزن ويموت الأب من الندم ويموت أهل الحارة من البكاء ... بل البراعة أن يسخن الطفل قليلاً ولا تدري أمه وهي وحدها في الدار ما تصنع له، فتسهر معه: تضمّه إلى صدرها وتحاول أن تدفع عنه المرض بعاطفتها. إن وصف حال الطفل والأم أصعب من أن نجعل من هذا المرض وباء يقتل أهل البيت والجيران، ويدَع الناس كأنهم في هيروشيما يوم ارتكب فيها ناس من البشر الجريمة التي لم يرتكب مثلَها نيرون ولا هولاكو، ولا إبليس نفسه. وما كنّا نعرف من الكتّاب إلاّ العقّاد والرافعي والمازني وطه حسين والزيات وحسين هيكل وأمثالهم، عرفنا بعض كتبهم التي وصلَت إلينا (كالمطالعات والديوان وحصاد الهشيم)، أمّا كتّاب الشام فقد عرفنا منهم محمد كرد علي في خطط الشام وغرائب الغرب، وشكيب أرسلان، ومحبّ الدين الخطيب، وأعضاء الرابطة الأدبية وأمثالهم.

فهل أستطيع أن أقول إنني قلّدت في الكتابة واحداً منهم ومشيت على أثره وتبعته في أسلوبه؟ هذه كتاباتهم وهذه كتابتي، فما منهم من أشبهَت كتابتي كتابتَه حتى أكون قد قلّدتُه. وكان أهلي علماء ما كان فيهم كاتب إلاّ خالي محبّ الدين، فهل قلّدتُه؟ إن أسلوبه غير أسلوبي، فمن أين إذن جئت بهذا الأسلوب؟ ما عندي عن ذلك إلاّ نصف العلم، ونصف العلم «لا أدري»! أنا في العادة أخجل فأهضم نفسي حقّها بهذا الخجل، ومن حقّي أن أقول: إن الأسلوب الذي أكتب به والأسلوب الذي كنت أخطب به كلاهما جديد، قلّدني فيه كثيرون وما قلّدت فيه أحداً، وكذلك الأسلوب الذي كان ينظم به أخي أنور العطّار رحمه الله. أنا لا أنكر أني تأثّرت حيناً بالمنفلوطي وحيناً بالرافعي وحيناً بالمازني، لا سيما في قصّة «سانين» (وهي قصّة سيئة لكاتب روسي ترجمها من قديم عن الإنكليزية ونشرَتها سلسلة روايات «مسامرات الشعب» من أكثر من نصف قرن)، وحيناً بجبران، ولكن هذا كلّه كان عارضاً لم يستمرّ طويلاً. وكنت معجباً أشدّ الإعجاب بالرافعي، ولكن تبدّل نظري إليه وحكمي عليه، وخير ما كتب «تحت راية القرآن» و «وحي القلم»، أمّا ما يسمّيه فلسفة الحب والجمال في مثل «رسائل الأحزان» و «السحاب الأحمر» و «أوراق الورد» فأشهد أنه شيء لا يُطاق، يتعب فيه القارئ مثل تعب الكاتب ثم لا يخرج منه بطائل. وكنت معجَباً بالزيات، ولا أزال معجَباً به، وإن كان يحسّ القارئ بأنه يَتعب بتخيّر ألفاظه ورصف جُمَله. أما زكي مبارك

فأحسب أنه صاحب أجمل أسلوب، تقرؤه بلذّة ولا تكاد تجد فيه فائدة! ولقد قرأت كتابه «ليلى المريضة في العراق» خمس مرّات، وما فهمت ما ليلى هذه؛ أهي حقيقة أم رمز؟ وهل يصف واقعاً أو يسرد خيالاً؟ ماذا يريد أن يقول، ما عرفت ولا وجدت من عرف. ولكنه -على ذلك- كلام جميل جميل. وممّن عرفت مَن يكتب المقالة الواحدة في يوم كامل أو في أيام عِدّة، كالرافعي (كما قال عن نفسه في مقالته «دعابة إبليس»)، والزيات كما عرفته لمّا كنت معه. ومنهم من يكتبها في جلسة واحدة، لا يمسح القلم ولا يُعيد النظر في جملة، كالمازني وزكي مبارك في أكثر أحواله. وكان الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيّد» يكتب المقالة التي تهزّ البلد أو ترجّ أركان الحكومة وهو يحدّث زُوّاره ويكلّم مَن حوله، و «لكلّ امرئ من دهرِهِ ما تعوّدا». * * * لمّا كنت أدرّس الأدب والإنشاء كنت أجد التلاميذ يبدؤون كل موضوع من فوق، من "أشرقَت الغزالة على الدنيا بأشعّتها الذهبية" ... فكنت أقول لهم: ابدؤوا من تحت، من الأرض؛ اكتبوا عمّا ترونه وتُحسّونه، أنا أفضّل الأدب الواقعي على الخيالات والأوهام. فيمتثلون ولكن لا يقتنعون، فكانوا كثيراً ما يسألونني: كيف ندخل في الموضوع؟ كيف تدخلون؟ من الباب! الذي تريد أن تقوله قُله بلا مقدّمات. كان أبعد ما يطمح إليه الناشئ أن ينشر ما يكتب. ولم يكن ذلك سهلاً، فقد كانت الجرائد (عندنا في الشام مثلاً) أربعاً، كلّ

واحدة بأربع صفحات صفحة منها للمقالات. فكان المجال ضيّقاً ولكن كان الجائلون فيه قليلين، وفي كتابي «من حديث النفس» فصل عنوانه «أول مقالة نشرتها»، وأنا أكتب هذه الحلقة والكتاب بعيد عني لذلك ألخّص لكم الفصل بكلمة. كان ذلك على ما أذكر سنة 1345، وقد كتبت مقالات كثيرة ثم شققتها ولم أسعَ إلى نشرها. وكيف أنشرها وأنا بطبعي متردّد معتزل؟ بل أنا خجول من الدخول، فإذا صرت بالداخل تبدّل الخجل جرأة. فشجّعت نفسي وحملت المقالة إلى دار «المقتبس»، والمقتبس هي المجلّة التي أنشأها أستاذنا محمد كرد علي في مصر ثم حوّلها جريدة يومية وأقام أخاه أحمد (أبابسام) عليها، وكانت في السنجقدار. فصعدت السلّم وأنا متردّد متهيّب أتشجّع فأُقدِم ثم أفكّر فأُحجِم، أصعد درجة وأقف وأهم بالهبوط ثم أعاود الصعود، حتى صرت فوق، وإذا أنا أمام الأستاذ أحمد كرد علي. فنظر إليّ فرأى فتى في الثامنة عشرة، فرحّب بي ودعاني إلى القعود فقعدت، ونظر إليّ متسائلاً فقلت: عندي مقالة أريد نشرها. ولم يكن أحدٌ من الشباب ينشر مقالات في الصحف، إنما كان ينشر فيها كتّاب معدودون لا يزيدون. فعجب ومدّ يده إليّ فقمت فدفعت بها إليه، وقعدت وقلبي تُسمَع دقّاته، لقد كنت كالمتّهَم الواقف أمام القاضي لا يدري أيُحكَم عليه بالسجن أم يُحكَم له بالبراءة. وقرأها متمهّلاً وهو يسارقني النظر وأنا قاعد على مثل الحديد المُحمى، ثم قال: عظيم، أنت كتبتَها؟ وكان في سؤاله رنّة الشكّ، كأنه يحسب أني سرقتها أو أنها

كُتبَت لي. قلت: نعم. قال: لا أريد إتعابك، ولكن ما دمت قد جئت فهل تحبّ أن تعطينا نصف ساعة تساعدنا فيها أم أنك على موعد؟ قلت: بل أساعد. قال: شكراً تفضّل. ودفع إليّ مجموعة من البرقيات لرويتر وهافاس (وكانتا هما الشركتين اللتين تتولّيان نشر الأخبار) وقال: أرجو أن تقرأها وتصوغ منها مقالة قصيرة تلخّصها وتجمعها فيها. وكان يريد امتحاني، قلت: حاضر. وما مرّت ربع ساعة حتى ناولتُه المقالة المطلوبة، وكان قلمي يومئذ أسرع من ذهني، وكان ذهني في ثورة متوقّدة في مضائه وسرعته. فدهش وقال: شكراً، غداً تقرأ مقالك منشوراً. وخرجت وأنا لا أكاد أبصر طريقي من الفرح، أريد أن يعرف الناس كلهم أن مقالي سيُنشر غداً وتحته اسمي! كنت أشعر أنني أمشي على الأرض ولكن لا أمسّها بقدمي، كأني راكب «حوّامة» في يوم لم تكن قد عُرفَت فيه الحوّامات. ولم تذُق عيوني تلك الليلة طعم المنام؛ كنت أرقب الصبح حتى أرى الجريدة ومقالتي فيها. وذكرت كل ما كنت أحفظ من الشعر في الشكوى من طول الليل، وكنت أحفظ الكثير. وكانت الجرائد تصدر بعد الظهر، فجعلت أدور حول دار الجريدة، حتى إذا صدرَت أخذتها وخفقان قلبي يكاد يطغى على أصوات الشارع، ووقفت إلى جانب الجدار وقلّبتها بلهفة، فإذا المقالة فيها وقد قدّم لها مقدّمة ألبسني فيها ثوباً أكبر مني (¬1). * * * ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إلى هذه المقالة في الحلقة الرابعة والثلاثين من هذه الذكريات (مجاهد).

يا أسفي على أيام الصبا ولذّات الصبا! لقد نشرت بعدها أكثر من ألف، بل أكثر من ألفَي مقالة، ولكن ما أحسست يوماً بمثل تلك الفرحة. وأنا أكتب المقالة الآن كأني أؤدّي واجباً ما من أدائه بُدّ، وأبعث بها، أو أُملِيها بالهاتف فيسجّلها الأخ طاهر أبوبكر وأحياناً الأخ وهيب غراب، ثم ينسخها ثم يتفضّل بقراءتها عليّ، وأطمئنّ إلى خلوّها من الأخطاء، فإذا دخلَت المطبعة لحقَتها الأخطاء من حيث لا أدري. إنه لا يؤذيني شيء كما تؤذيني أخطاء الطبع، وأشدّها ما كان فيه تبديل كلمة بكلمة. لقد كتبت في الحلقة الماضية «العشرينيات» وقلت لهم مؤكداً: «العشرينيات» بصيغة النسبة لا «العشرينات»، فلما قرأتها مطبوعة إذا هي «العشرينات»! لقد قاسيت من هذه الأخطاء ما يُعَدّ من «الأشغال الشاقّة» التي يُحكَم بها مع السجن على المجرمين! تأتي المقالة منشورة وأقرؤها لأطمئنّ عليها، ثم أعود فأقرؤها لأستمتع بها، ثم لا أستطيع أن أعود إليها أبداً. وإني لأكتب الحلقة من هذه الذكريات ولا أكاد أذكر ما قلت فيما كان قبلها، لذلك تأتي بعض الحوادث مكرّرة مُعادة. * * * اقترح عليّ أحد المحبّين أن أنشر «المجموعة الكاملة» لكلّ ما كتبت، فقلت: هيهات! لقد كتبت في جرائد ومجلاّت ما عندي منها نسخة واحدة، كتبت سنة 1935 في جريدة «الجزيرة» عند الأستاذ تيسير ظبيان رحمه الله (لمّا كانت تصدر في الشام)

مقالات ما عندي منها شيء، وكتبت في «المكشوف» عند فؤاد حبيش مقالات ما عندي منها شيء، وفي «الثقافة» عند الأستاذ أحمد أمين، وفي مجلاّت وجرائد نسيت حتى أسماءها. وقد طُبع لي إلى الآن ما يقارب الأربعين كتاباً، وأحسب أن الذي ضاع يملأ أربعين كتاباً آخر (¬1). أمّا أحاديثي في الإذاعة والرائي فإنها لو جُمعت لجاءت في خمسين كتاباً، ولكني لا أملك صوراً عنها وأكثرها ما كتبتها أصلاً. وأسأل الله أن يكتب لي بعض الثواب عليها. * * * ¬

_ (¬1) بعد وفاة جدي رحمه الله صدرَت -بتوفيق من الله- ثلاثة كتب ضمّت مقالات سبق نشرها (أو سبق نشرُ أكثرها) في صحف ومجلات لكنها لم تصدر في كتب من قبل، وهي «فصول اجتماعية» و «سيد رجال التاريخ محمد صلى الله عليه وسلم» وجزءٌ ثانٍ من كتاب «مقالات في كلمات». وقد أعددت من قريب كتاباً جديداً سمّيته «نور وهداية»، وكدت أنتهي من ثلاثة كتب أخرى أرجو ألاّ يتأخر صدورها، وهي «مباحث إسلامية» و «فصول في الدعوة والإصلاح» و «فصول في الثقافة والأدب»، وربما استطعت أيضاً إصدار جزء ثان من «فصول اجتماعية». أما أحاديث الإذاعة والرائي فلم أستطع أن أُخرج إلى اليوم غير كتاب واحد منها، هو الجزء الثاني من «الفتاوى». وقد وضعت خطة للعمل في أحاديث رمضان (على مائدة الإفطار) التي أرجو أن تصدر في عدة أجزاء، إلا أنها لن تخرج على الناس قريباً لأن العمل بها صعب عسير يحتاج إلى وقت وجهد غير قليل (مجاهد).

ذكريات بغداد (1)

-90 - ذكريات بغداد (1) وذهبت إلى بغداد، وسأحدّثكم كيف ذهبت إلى بغداد. ذهبت إليها مدرّساً، وكان ذلك في عهد الشباب، كما جئت مكّة الآن مدرّساً بعدما ولّى الشباب، فرأيت في بغداد زملاء كراماً وطُلاّباً أنجاباً، مثل الذين رأيتهم هنا من كرام الزملاء ومن نُجباء الطلاّب. ولا تزال ذكرى من عرفت في بغداد واضحة لعيني، وإن كان يفصل بيني وبينهم فاصل ما بين سنة 1936 و1983. وأنا أكتب الآن عن ذكريات بغداد بعد نحو خمسين سنة، فهل أعيش حتى أكتب عن ذكريات مكّة بعد خمس سنين؟ إن العمر بيد الله، ولا أسأل الله المزيد منه إلاّ إن كانت معه الصحّة والعمل الصالح، وكان بعده الغفران. ذهبت إلى بغداد، ولم أكُن أعرف عنها إلاّ ماضيها؛ لا أدري ما بغداد اليوم وما الرُّصَافة وما الكَرْخ وما الكَرّادة، ولا أدري مَن في بغداد من ناس: ما صفاتهم؟ ما خلائقهم؟ ماذا يعلمون وماذا يجهلون؟ ماذا يحبّون وماذا يكرهون؟ ولا أدري ما الكوفة اليوم: ماذا فعل بها الزمان؟ وما البصرة وما الموصل؟

كنت أعرف من بغداد ماضيها. وبغداد الماضي جنّة مسحورة من جِنان الأحلام وليلة مجسّمة من ألف ليلة وليلة: عيون المَها بين الرُّصافة والجسر، وفُتون الهوى في الكوخ وفي القصر، وفي الطرق إغراء وسحر وفي الساحات إنشاد وشعر. وبغداد مدرسة الدين: في كلّ بيت حلقة حديث ومجلس علم، ومجمع هداية ومكان ذِكر. وبغداد سوق الدنيا: إليها تُحمَل ثمرات الأرض ومنها تُحمَل الثمرات إلى الأرض. تلك بغداد الماضي. لم تكن الصلات الثقافية بينها وبين دمشق كالتي ترون اليوم؛ إنما تكون الصلات بين بلدَين مختلفَين وقُطرَين متباينَين، لا بين عضوين ملتصقَين وأخوَين متّفقَين. وبغداد الماضي بنت دمشق وأم القاهرة، وبغداد ودمشق والقاهرة بنات المدينة المنورة، وبغداد ودمشق مدينتان من قُطر واحد، ليستا مثل لندن وباريس بل هما مثل نيويورك وواشنطن. إن فرّقَت بين البلدان الأديانُ فالدين فيهما واحد، أو فصلَت بين الأمكنة الألسنةُ فاللسان فيهما واحد، أو باعدَت الأهدافُ فالهدف واحد، والماضي واحد وفي المستقبل أمل واحد، والحاكم في البلدين واحد، والعلم واحد. وحدة في كلّ شيء، بغداد بلد الشامي والشام موطن ابن بغداد. هذا ما كنت أعرف عن بغداد وعن العراق. فإن سألتَني -بعد هذا- ما فعل الله بالعراق بعدما فُصل بين العضوَين وبوعد بين الشقيقَين، وتمّ ما أُريدَ لنا لا ما أردناه لأنفسنا، فصار الواحد اثنين وصار القُطر حكومتين، إن سألتَني عن العراق الحديث لم تكن تجد عندي يومئذ من خبره إلاّ قليلاً لا يشفي غليلاً.

فلما عشت في بغداد صارت بغداد مهوى القلب، وصارت بغداد مثوى الحبّ، وصارت بغداد أحبّ البلدان إليّ بعد دمشق، وصار دجلة أحلى الأنهار عندي بعد بردى، وصارت «الأبوذية» أطرب الأنغام في أذني بعد «العَتابا»، وصار السمك المَسْكوف ألذّ الأطعمة عندي بعد القوزي. وصرت أعرف بغداد: مسالكها ومنازلها، وخيرها وشرّها، وطبائع أهليها وخلائق ساكنيها، مثلما أعرف دمشق وأعرف القاهرة وأعرف بيروت، ومثلما عرفت أشرف البلدان وأحبها إلى قلب كلّ مسلم منزل الوحي ومدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، المدينة التي وُلد فيها والمدينة التي هاجر إليها. وصار لي من أهل بغداد إخوان أحبهم ويحبونني وأشتاقهم ويشتاقونني. فما الذي فعل ذلك كله؟ ما الذي وصل بيني وبين بغداد بعد التقاطع؟ ماالذي صيّرني عراقياً مثلما أنا مصري الأصل دمشقي المولد؟ لقد فعل ذلك كلّه أني دُعيت إلى العراق مدرّساً. أرأيتم ما تصنع الصلات الثقافية؟ أرأيتم سحرها؟ إنه والله سحر. أرسلوا مدرّساً سورياً إلى العراق وهاتوا مدرّساً عراقياً إلى دمشق وانثروا المدرّسين المصريين في بلاد العرب جميعاً، تروا أن كلّ واحد منهم صار سفيراً لبلده في البلد الشقيق، سفيراً سفارته سماوية وأثرها خالد. وهاكم مني مثالاً: هل تدرون أني كتبت عن العراق ما يملأ كتاباً كبيراً غير الكتاب الذي طُبع باسم بغداد، وأني أستطيع أن أحدّثكم عن العراق حديثاً جديداً كل يوم

يمتدّ شهراً، وأني مجّدت العراق أكثر من أبنائه ووصفت أيامه؟ وكذلك فعل أخي في السفر والحضر رفيق العمر أنور العطّار، رحمة الله عليه، الذي نظم في العراق ديواناً كاملاً. وهاكم مثالاً أكمل: الصديق الدكتور زكي مبارك رحمه الله، الذي ألّف كتباً عن العراق. بذرة صغيرة أنبتَت دوحة عظيمة؛ مدرّس أديب يُرسَل من بلد إلى بلد فيؤلّف بين البلدَين ويؤاخي بين أهليهما، ويكسب الأدب بعد ذلك روائع طالما عجزَت عن الإتيان بمثلها الأقلام. فألزِموا أدباء بغداد أن يزوروا دمشق، وأدباء دمشق أن يزوروا بغداد، وأدباء مصر أن يزوروا البلاد العربية كلها، وأدباء كل قطر من أقطار الإسلام أن يزوروا الأقطار الأخرى، لكن لا تكلّفوهم مالاً فالأدباء مفلسون، بل قدّموا لهم وسائل السفر وأنزلوهم ضيوفاً، رغّبوهم وأطلقوا بالعطايا ألسنتهم تأخذوا منهم أكثر ممّا أعطيتموهم؛ تأخذوا أدباً يبقى على حين يذهب المال، أدباً طالما بنى ووحّد وأقام دولاً وهوى بدول. وهل في الدنيا شيء بعد الدين أعظم من الأدب؟ إنه كلام ولكنه كلام يجرّ فعالاً. إنه كلام ولكنه يقيمكم إن كنتم قاعدين ويُقعِدكم إن كنتم قائمين، ويدفع بكم إلى الموت ويأخذ بأيديكم إلى الحياة ... وكذلك يتصرّف الأدباء بالناس. سيّروا البعثات المدرسية بين هذه البلاد دواماً، لا تملّوا حتى لا يبقى في كلّ بلد تلميذ لم يرَ البلاد الأخرى، ولتُخصّص كل إذاعة موعداً دائماً للكلام عن البلدان الأخرى، وكذلك فلتصنع صحف كل

بلد: صِفُوا للمسلمين بلادهم ومنازلها وطبيعتها وعمرانها والآثار الباقيات فيها، والخلائق والأزياء والعادات، وغنّوا لنا في الشام ألحان العراق وأسمعوا العراقيين ألحان أهل الشام. * * * "لقد هاج ذكرَ بغداد في نفسي ذكرى الأيام التي عشتها فيها، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها. لقد رجعت إلى تلك الليالي حتى كأني -لكثرة ما تشوّقت إليها وأوغلت في ادّكارها- أعيش فيها. أيّ سحر فيك يابغداد جذب قلبي إليك، فلم أنسَك لمّا كنت في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاقك؟ بغداد ... يا بغداد، عليك مني سلام الود والحبّ والوفاء، على باب المعظَّم، على الصُّلَيْخ، على الكرّادة، على الكَرْخ، سلام الفؤاد المشوق الولهان. على ليالينا بين الرصافة والجسر. ما كان أحلى تلك الليالي! لقد كنت أشكو فيك ألم الغربة وأحنّ إلى الوطن، فصرت في وطني أحنّ إلى تلك الغربة ولياليها. وما ظلمني موطني وما أنكرني، وما كنت لأذمّه صادقاً فكيف أذمّه بما ليس فيه، ولكنها هي الدعة مللتها واجتويتها: إني أشكو ألم الراحة، فأعطوني به راحة الألم. ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ أنني ذو قلب! على الرستمية ... ألا تزال الرستمية جنّة من جِنان الأرض

حافلة بالعاشقين، أم طاف بها طائف من هذه الحرب (¬1) فجفّت خمائلها وهجرها قاصدوها؟ على الصالحية ... بروحي صالحية دمشق، وصالحية بغداد، وصالحية مصر. على قهوة المطار، على ظبائها، وعلى جآذرها ألف سلام. على الجسر، يا جسر بغداد كم جمعت وفرقتَ؟ ماذا رأيت وماذا سمعتَ؟ كم وصلت بين قلوب وقطعتَ؟ أنت الصلة بين ماض لنا كان أعزّ من النجم وأسمى وآتٍ سيكون أسمى من النجم وأعزّ. يا جسر بغداد، يا مربع الحب والأدب والمجد، يا من كنت سُرّة الأرض وكنت لي مسَرّة القلب، عليك مني ألف سلام. يا ربوعاً تركت فيها قطعاً من حياتي وخلّفت فيها بقايا من فؤادي، ماذا صنعتِ بفؤادي وحياتي يا ربوع. ويا دارنا في الأعظمية: من حلّ فيك بعدُ يا دار؟ هل صوّح لبُعدِنا زهرُك أم ضحكَت من بعدنا الأزهار؟ وهل حُفظت آثارنا أم طُمست من بعدنا الآثار؟ لقد كنتِ أنت مستقرّي ومثواي وكان إليك مفرّي من دنياي، وكنتِ شاهدة أفراحي كلها وأتراحي، وكنتِ مستودَع أسراري وأخباري، كتمتها عن الناس إلاّ عنك. فهل كتمَت سرّي هذه الجدران؟ وما لي فيها من أسرار أخشى منها يوم العرض على الرحمن، لكنها نقائصي وعيوبي، فهل سترَت ما رأت من نقائصي التي أخفيتها عن الأصدقاء والإخوان؟ ¬

_ (¬1) كتبت هذه القطعة أيام الحرب العالمية الثانية.

ما هذه الدنيا يا ناس؟ هذه الدار التي كنت أفرّ إليها من ضيق الحياة وزحمة المجتمع فأغلق بابها عليّ، وأخلو فيها إلى نفسي فأحسّ أنها جزء مني وأنها لي وحدي، صارت غريبة عني؟ تُنكِرني وتجهلني كأني لست منها وليست مني! وصارت لغيري، فإذا ما جئت أطرق بابها رُدِدْت عنها أو قُبلتُ فيها ضيفاً غريباً لا أرى إلاّ ما يراه الضيف ولا ألبث إلاّ ما يلبث الضيف! لا يا سكانها، ما أنا بالضيف الغريب، إنها كانت داري، إن لي فيها حقاً، لي فيها ذكريات، فيها من حياتي، من أنفاسي، من روحي" (¬1). * * * إني لأنظر الآن من خلال السنين، أقف على درب (¬2) القرون أراها وهي تمرّ بي قرناً بعد قرن، وأشاهد مواكب الأيام وهي تجوز بي موكباً إثر موكب، كفِلْم في سينما تعرض فصولُه قصّةَ بغداد. لو كنت أستطيع أن أعرض الفِلم كلّه لأحسستم أنكم تعيشون معي في قلب التاريخ وتحلّون معي «أشخاصاً» في هذه القصّة العبقرية التأليف والإخراج. ولكن الفِلم طويل، فاكتفوا بهذه اللمحات الخاطفة من هذا الفِلم العظيم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس من مقالة «من ذكريات بغداد»، وقد نُشرت سنة 1946، وهي في كتاب «بغداد» (مجاهد). (¬2) الدرب في الأصل الممرّ الضيّق. (¬3) من أول الفقرة الآتية إلى نهاية الحلقة من مقالة «فلم بغداد» التي نُشرت سنة 1956، وهي في أول كتاب «بغداد» (مجاهد).

نحن في مطلع الفِلْم قبل نحو 1450 سنة، وبغداد قرية صغيرة، عندها سوق للغنم والجِمال ومن حولها السواد فيه النخيل، ومن وراء السواد هذه الصحراء التي تتلظّى فيها الرمال وتتوقّد الشمس، ويبدو من كل جهة فيها وجه الموت يتربص لكل قادم عليها من غير أهلها. أمّا أهلوها فقد أنِسوا بالموت حتى رأوا فيه الحياة، يعيشون عيش الآساد في آجامها، يُدْلون بمثل ظفر الأسد ونابه ويطوون صدورهم على مثل جرأته ووثابه، لذلك كانوا يحتربون ويقتتلون إذا لم يجدوا من يحاربون ويقتلون، لا شريعة لهم إلاّ شريعة القوّة ولا حُكم إلاّ حُكم السيف. وفي جوار هذه القرية الخاملة كانت تقوم «المدائن»، قرارة كسرى شاهنشاه (¬1) فيها عرشه وإيوانه، العجمُ يسجدون بين يديه ويكفّرون له (أي ينحنون)، والعرب يُكبِرون مكانه ويخافون سلطانه ويسمّون عاملاً من عُمّاله (هو مدير ناحية الحيرة، النعمان ابن المنذر)، يُسمّونه ملك العرب. ويدور الفِلم ويبدأ فيه فصل جديد. انظروا، لقد ماج هذا البحر من القبائل التي كانت تسكن الصحراء وتحرّك واضطرب، ثم جرى فيه تيّار قوي يجرف في طريقه كل شيء. لقد اتحد القوم المتفرقون، ونبذوا راياتهم وهي شتّى ليحملوا راية واحدة جديدة هي راية القرآن، يقودهم تحتها المثنى بن حارثة نحو بغداد. وها هم أولاء يتقدّمون، ويتقدّمون، ¬

_ (¬1) شاهنشاه أي ملك الملوك، وهي كلمة نهى الشرع عنها، وإنما ذكرتها لأنبّه إلى منعها.

ويتقدّمون. لقد كان العجب العاجب؛ هؤلاء البدو الجاهلون ملكوا مُلك كسرى، فلا كسرى بعد اليوم، وشادوا في مكانه مُلكاً أنفع منه وأبقى. ويدور الفِلم، وتظهر صورة ثانية لبغداد. نحن في سنة 145 للهجرة، وقد اندثرَت القرية وذهب بها ريب الزمان وعادت الأرض مراتع وبساتين، وكان صباح يوم صائف من أيام الخريف، فوقف في هذه الساحة رَكْب من الناس ونزل رجال يذرعون الأرض، يقيسون طولها والعرض. فسألت من هؤلاء؟ وماذا يصنعون؟ قالوا: ألا تعرف من هؤلاء؟ يا عجباً! هذا هو الرجل الذي عاش ثُلثَي حياته عالِماً مغموراً لا يدري به أحد، وعاش ثلثها الثالث وهو الحاكم المطلَق في نصف المعمور من الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق. هذا هو الرجل الفولاذي الصلب الذي بنى دولة عاشت راياتها وشاراتها واستمرّ ذكرها على المنابر أكثر من ثمانمئة سنة، هذا أبو جعفر المنصور جاء يقيم ها هنا مدينة! ولم يغتصب الرجل الحديدي ذراعاً واحداً من الأرض، وما كان الغصب يوماً من صفات الخلفاء المسلمين حقاً، بل اشترى الأرض من أصحابها بأكثر من أثمانها وأقام مدينته عليها. ومر على هذا المشهد سنتان، ودار الفِلْم دورة جديدة وإذا المدينة عامرة.

أترونها على الشطّ الغربي لدجلة؟ إنها مدوّرة على هندسة مبتكَرة ما في المدن التي أعرفها شبيه لها إلاّ دهلي الجديدة (نيودلهي) اليوم. لقد احتُفل بافتتاحها سنة 149هـ وبلغت نفقات بنائها 18 مليون دينار من الذهب. أتعرفون كم تعدل من نقود هذه الأيام؟ لقد ذكر المؤرّخون أن الدينار كان يُشترى به يومئذ تسعة عشر خروفاً، وألف ومئتا رطل من التمر، وكانت أجرة العامل على مدى ستة أشهر ديناراً واحداً. فانظروا كم يساوي مبلغ ثمانية عشر مليون دينار من نقود هذه الأيام التي يساوي فيها الخروف فيما أعلم أكثر من خمسين ديناراً. وجعلها مدوّرة لئلاّ يكون بعض أنحائها أقرب إليه من بعض، وجعل فيها مجلسه، وأقام عليه إيواناً عليه قبّة خضراء علوّها ثمانون ذراعاً، وجعل من المجلس إلى الأرض الفضاء نفقاً (سرداباً) طوله فرسخان. وبقيَت هذه القبّة وهي (كما يقول الخطيب البغدادي) تاج بغداد وعلَم البلد تُرى من أطرافها جميعاً، حتى هوت في ليلة عاصفة من سنة 329هـ، أي بعد مئة وثمانين سنة. ودار الفِلم، وظهرت صورة ثالثة لبغداد. لقد بلغَت من عمرها عشر سنين فقط، ولكنها شبّت كما يشبّ الجنّي في القصّة، واستطاعت أن تقفز من فوق دجلة إلى الضفة الأخرى. فهل سمعتم ببنت عشر سنين تقفز نهراً عرضه خمسمئة ذراع؟ لقد أقام المهدي الرُّصافة فصارت بغداد بلدَين: الكرخ

من هنا (من جهة الشام) وفيها مدينة أبي جعفر المدوّرة والقبّة الخضراء، والرصافة من هناك. وتكاملت بغداد، واتصل الشاطئان، وامتدّت الدور وتناثرت القصور، وسكرت بغداد بخمرة المجد والجاه والعلم والفنّ والغناء والسرور، وجاء العصر الذهبي، عصر هارون الرشيد الذي قال للسحابة لمّا رآها: "أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجك"، والذي كانت كلمته تمضي في الأرض حتى تصل إلى أبواب الصين وشواطئ الأطلنطي لا يردّها شيء، والذي ملك ما لم يَملك قبله مَلِك قطّ. وقام ليلة يصبّ الماء على يد العالِم أبي معاوية الضرير بعد أن عشّاه معه على مائدته، فقال للعالِم الضرير: أتدري من يصبّ الماء على يديك؟ قال: لا. قال الخليفة العظيم هارون الرشيد: أنا. فهل ترونه اضطرب العالِم أو اهتزّ؟ لا والله، وبقي يغسل يديه وهو يقول: إنما كرّمت العلم يا أمير المؤمنين. هكذا كان ملوكنا وهكذا كان العلماء. لقد صارت بغداد أمَّ المدن وحاضرة الحواضر، وبلغَت ما لم تبلغه روما في سلطانها ولا القسطنطينية ولا المدائن ذات الإيوان. لقد غدت سيدة العالم والبلادُ لها خَوَل، ما يظهر في بلدة طريف ولا ظريف من ثمرات الأيدي ولا من نتاج الطبيعة ولا من حصاد الأدمغة إلاّ حُمل إلى بغداد، وما ينبغ نابغ في مشرق من الأرض ولا مغرب إلاّ أمَّ بغداد؛ فالقوافل أبداً تتّجه إلى بغداد بكل ثمين وجميل، تحمله إليها لتلقيه بين يديها كما تحمل ماءها

الأنهارُ من كل مكان لتصبّه في البحر. لقد تمّت ولكن: إذا تمّ أمرٌ بَدا نقصُهُ ... ترقّبْ زَوالاً إذا قِيلَ: تَمْ لقد أصابتها عين الحسود، لقد حلّت النكبة ببغداد ونزلَت ساحتها الحرب بوجهها الكالح ومنجلها الذي يحصد الأخضر واليابس. إنها الحرب الداخلية؛ الحرب بين الأخوين: بين الأمين والمأمون. ولكن الغادة الشابّة القوية لا تموت من المَرْضة العارضة مهما اشتدّت، ولقد برئَت بغداد وعادت إلى أبهى ممّا كانت عليه وأزهى. ومضى الفِلم، وبدت صورة لبغداد وهي على كرسيّ الولادة في المستشفى. لقد وَلَدَت بغداد، وكان الطبيب المولِّد هو الخليفة الذي كان آية في قوّة جسمه ورجولته وآية في جهله وعامّيته، والذي أدخل جراثيم المرض الفتّاك في جسد هذه الدولة القوية، المعتصم الذي جاء بغلمان الأتراك فجعلهم سادة الدولة، فجرّ علينا مصائب ثمانية قرون. * * *

ذكريات بغداد (2)

-91 - ذكريات بغداد (2) لا تقرؤوا هذه الحلقة حتى تضعوا التي قبلها تحت أبصاركم، فإن القصّة فيهما واحدة، وأنا أصل هنا ما قطعتُه هناك، وهي قصة حياة بغداد. والذي يؤرّخ حياة الأفراد من الناس يؤرّخ حياة المدن والأنهار والقلاع والأسوار. إن أبرع اثنين أعرفهما في هذا العصر في التراجم والكتابة عن العظماء هما إميل لودفيغ الألماني وأندره موروا، والأول من تأليفه كتاب عن النيل ما قرأته ولكن قرأت عنه (¬1). ¬

_ (¬1) اسمه «النيل: حياة نهر»، ترجمه عادل زعيتر (شقيق أكرم زعيتر) منذ أكثر من نصف قرن، وترجم أيضاً كتاب لودفينغ الآخر «البحر المتوسط». وقد أعادت طباعةَ كتاب النيل الهيئةُ المصرية العامة للكتاب قبل خمس سنوات (سنة 2000) في أكثر من ثمانمئة صفحة، ومما قاله المترجم في تقديمه للترجمة: "كتاب «النيل» وكتاب «البحر المتوسط» ترجم فيهما لودفينغ للنهر وللبحر كما ترجم للعظماء (له كتب عن نابليون وغيره من الأعلام) فأكسبهما من الحياة ما يُخيَّل إلى القارئ معه أن الجماد من بني الإنسان" (مجاهد).

وأنا لست مثلهما ولا من طبقتهما، ولكني كنت من أكثر من ثلث قرن أذيع من إذاعة دمشق أحاديث عنوانها «أعلام الإسلام»، ضاع أكثرها فجمعت ما بقي منها فأودعته كتابي «رجال من التاريخ»، وهو كتاب مطبوع متداوَل. سلكت فيه طريقاً ما تبعت فيه أحداً، هو أني أقرأ عمّن أحبّ أن أتكلم عنه كل ما أصل إليه من أخباره، ثم أحقّق هذه الأخبار، ثم آخذ منها مشهداً أو قصّة أدخل منها على ترجمة الرجل، فيكون ما كتبتُه شيئاً وسطاً بين القصة والتاريخ. * * * وإذا كان كُتَّاب المسلسَلات يقطعونها في موضع الإثارة ليضمنوا اهتمام المشاهد بها وعودته إليها، فقد قطعت الفِلْم في آخر الحلقة الماضية وبغدادُ في المستشفى (¬1) على كرسي الولادة. وكان الطبيب المولِّد المعتصم. وإذا قلت إنه لم يكن في علمه وفي فكره كأخيه المأمون فما ذممتُه وما بخستُه حقّه، وكيف وهو بطل «عمورية»؟ وكيف وهو الذي هتفت به أسيرة مسلمة، نادت: وامعتصماه، فأجابها: أجبتَها معلناً بالسيفِ مُنْصَلِتاً ... ولو أجبتَ بغيرِ السّيفِ لم تُجِبِ صدق أبو تَمّام، فالجواب بالكلام بدل الحسام هو خرَس عن الجواب. إننا نتكلم الآن ونتكلم، نكتب أبلغ المقالات ونُلقي أعظم الخطب ونطلق التصريحات ملتهبة، ولكن نار الحرب لدينا مطفأة. أفهذا جواب؟ ¬

_ (¬1) لفظ المستشفى مذكَّر والناس يؤنّثونه بلا وجه.

الجواب ما كتبه هارون الرشيد حين مزّق رسالة إمبراطور الروم وكتب على قطعة منها: "الجواب ما ترى لا ما تسمع". هذه هي خلائق المسلمين وسلائق العرب، فمتى نعود نحن المسلمين إلى خلائقنا؟ لقد بلغَت الدولة في عهد المعتصم ذروة قوّتها، ولكنه جعلها -بما صنع- تهبط بعد الصعود. الذين جاء بهم وأعطاهم المناصب والرواتب ووكل إليهم أمر الدولة، هووا بالدولة حتى صار الخلفاء من ذُرّية المعتصم ألعوبة في أيديهم الدّنسة: لما اعتَقَدتُم أُناساً لا حُلومَ لها ... ضِعتُم وضيّعتمُ مَن كان يَعتقدُ ولو جعلتُم على الأحرارِ نِعمتَكمْ ... حَمَتكمُ السّادةُ المذكورةُ النُّجُدُ * * * تركنا (¬1) بغداد على كرسي الولادة فولدَت بنتاً، ولكنها جاءت جِنّية بنت جِنّية، أعجوبة ولدت أعجوبة. وهل أعجب من مولودة تخرج من يدي القابلة وهي ترقص وتغنّي وتتكلّم بسبع لغات؟ ولكن لم تكد تنتهي أفراح الولادة حتى كانت أيام المأتم. لقد ماتت الوليدة طفلة، ماتت وهي في مثل عمر الياسمين، ولكنها تركت في تاريخ الأمجاد عبقاً أطيب من أريج الياسمين، تلك هي «سُرّ مَن رأى» (سامرّاء) التي لم تعِش إلاّ ثمانياً وأربعين ¬

_ (¬1) من هنا إلى نهاية هذا المقطع تتمةُ المقالة السابقة، «فلم بغداد»، من حيث انقطعت في نهاية الحلقة السابقة (مجاهد).

سنة، والتي بلغ سُكّانها مليونين على حين كان في بغداد أيضاً نحو مليونَين. وسأحدّثكم حديثها، ولكني أستحلفكم من الآن إن زرتم بغداد أن تجوزوا بسامرّاء، فليس في آثار المجد الإسلامي ما هو أروع منها ولا في قصص الآثار العربية ما هو أحلى وأشجى من قصّتها، اللهمّ إلاّ تاج محلّ (تاج محل في أغرا، وأغرا عند دهلي). ومضى الفِلم، وبدت صورة بغداد وقد بلغت قمّة مجدها وجلالها وحازت ما لم تَحُزه قبلها مدينة من مدن الأرض. وهذا يوم واحد من أيام بغداد العظيمة. ولست مستطيعاً أن أصوّر لكم كلّ ما كان في ذلك اليوم، فهل رأيتم في السينما مشاهد تتويج الملكة في إنكلترا مثلاً؟ إني أؤكّد لكم القول إن حفلات التتويج تكون حادثاً صغيراً إذا قيست بحفلات استقبال وفد قيصر القسطنطينية في بغداد أيام المقتدر. لقد وقف مئة وستون ألف جندي بأكمل عدّة وأفخر ثياب من خارج المدينة إلى باب قصر التاج، جنود من كلّ البلاد وكلّ الأجناس، وأقيمت الأقواس والأعلام وسُلْسِلَت المصابيح، ومُدّت النمارق والسجّادات والبُسُط العجيبة على طول الطريق، فبلغ عددها اثنين وعشرين ألف قطعة سجّاد. وخرج أهل بغداد جميعاً (وقد زادوا يومئذ عن ثلاثة ملايين) إلى الطرقات التي سيجتاز بها موكب الوفد، فبلغَت أجرة مجلس الرجل الواحد في الدكّان أو على السطح عشرين درهماً، أي أكثر من دينار! ولبس قصر التاج حُلّة لا يمكن لقلم كاتب أن يصفها،

وحسبكم أن تعلموا أن عدد ما عُلّق فيها من ستور الديباج المذهَّبة المطرّزة المصوّرة بأبدع ما أخرجَته أيدي النُّقّاش والمصوّرين والمطرّزين في أرجاء الأرض كان ثمانية وثلاثين ألف ستار. ولا تحسبوا قصر التاج كما تعرفون من القصور. لا، ولا تظنّوه كالحمراء في غرناطة ولا فرساي في باريس. كان فيه ثلاثة وعشرون قصراً كل واحد منها أكبر (كما وصفوا) من قصر عابدين في مصر. وكان في إسطبل الخيل ألف فرس، خمسمئة على اليمين عليها السُّرُج المُحلاّة بالذهب والفضّة، وخمسمئة على اليسار بجلال الديباج والبراقع الطوال، وكل فرس أمام بيته بِيَد سائس بأجمل بزّة وثياب. ومرّوا بالوفد على حَيْر الوحوش المستأنَسة (أي حديقة الحيوان) وكان فيه مئة من السباع، خمسون عن يمين وخمسون عن يسار، وفيه دار الفِيَلة. ثم مروا بالوفد على قصر الفردوس، وكان فيه بهو طوله ثلاثمئة ذراع قد صُفَّت فيه أنواع الأسلحة التي لم يرَ الراؤون مثلها. ثم دخلوا بالوفد دار نصر الحاجب، فلما رأى وفد الروم عظمة المكان وأُبّهة نصر حسبوه الخليفة فركعوا وسلّموا، فقيل لهم: لا، هذا هو الحاجب. ثم أدخلوهم على الوزير ابن الفرات، وكان في مجلس في حديقة في القصر بين دجلة والبستان قد عُلّقت فيه الستور ومُدَّت الفُرُش، وكان (¬1) شيء عجيب، فحسبوه الخليفة فركعوا وسلّموا، فقيل لهم: هذا هو الوزير. ¬

_ (¬1) كان هنا تامّة بمعنى وُجِد.

ثم وصلوا إلى الخليفة، واستقبلهم في دار الشجرة. وهي شجرة من الفضّة وزنها خمسمئة ألف مثقال (نصف مليون)، وبعضها من الذهب والجوهر، لها غصون وأوراق تميس مَيَسان أغصان الشجر، وعليها أطيار من الفضّة تصفّر وتتحرك بحركات قد رُتّبت لها. وكان عدد خدم القصر المنبَثّين في الممرّات والدهاليز وعلى السطوح بألبسة عجيبة وزينة بالغة سبعة آلاف خادم، وكان الحُجّاب أكثر من خمسمئة، وكان يوماً من أيام التاريخ. ومضى الفِلْم، وبدت صورة بغداد وقد اتّشَحَت بالسواد ولبسَت ثياب الحداد. لقد ماتت بغداد بني العباس وذهب شبابها وامّحَت محاسنها، وخربتها أيدي الوحوش البشرية من جند هولاكو جاءت بهم خيانة الوزير ابن العلقمي، فذلّ الأعزّة من أهلها وانتُهك المصون من أعراضها، وذُبح علماؤها وكبراؤها وأمراؤها، وأُعمِلَ السيف في أهلها أربعين يوماً فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف (مليون)، وأُلقيت كتبها في دجلة فاسودّت منها مياهها حيال الضفتين أياماً، وذهب نتاج العقول وحصاد العبقريات وثمرات الأيدي الصَّنَاع، وكانت مصيبة المصائب على الإسلام وأهله، وغدت بغداد خرائب وأطلالاً: لِسائلِ الدّمعِ عَن بَغدادَ أخبارُ ... فما وقوفُكَ والأحبابُ قد ساروا يا زائرينَ إلى الزَّوْراءِ لا تَفِدوا ... فما بِذاكَ الحِمى والدّارِ دَيّارُ تاجُ الخِلافةِ والرَّبعُ الذي شَرُفَتْ ... بهِ المَعالمُ قد عَفّاهُ إقفارُ

بل فِدُوا (¬1) إليها وأعرضوا عمّا قال الشاعر. فِدُوا إليها وأقبلوا عليها، فقد قامت الدار وعاد الديّار. ما ماتت بغداد؛ إن بغداد لا تموت. السنديانة الضخمة قد تُقطَع وتُنشَر بالمنشار ولكن جذورها في الأرض، فلا تلبث أن يخرج من جذعها اليابس فرع طريّ يصير غصناً لدناً، ثم يغدو جذعاً قوياً كالجذع الذي انقطع تقوم عليه دوحة باسقة كالتي كانت من قبل. * * * إنني لا أزال في الكلام على بغداد الماضي، ما تكلمت عن بغداد الحاضر. ولكن هل بغداد التي ذهبتُ إليها وجئت الآن أكتب عنها هي بغداد الحاضر؟ لقد مرّ على ذهابي إلى بغداد نحوٌ من نصف قرن. إن بغداد التي عرفتها صارت أيضاً من التاريخ، ولكن تلك من التاريخ البعيد وهذه من التاريخ القريب. إن مدننا ومجتمعاتنا تعدو عدواً في طريق هذه الحضارة المادّية، فما يكون اليوم جديداً يكون غداً قديماً. إن بغداد التي عرفتها ما كان فيها إلاّ شارع واحد تمشي فيه السيارات والعربات صفاً متصلاً، لا تستطيع أن تقف فيه لأنه ضيّق وإذا وقفَت فيه سدّته، ولا تستطيع أن تخرج منه لأنها إن خرجت منه لم تقدر أن ترجع إليه. شارع واحد هو شارع الرشيد، وعلى طرَفَيه عمارات ¬

_ (¬1) فِدوا: فعل أمر من وَفَد.

أعلاها من ثلاث طبقات، يحدّه من هنا النهر ومن هناك أزقّة ضيّقة لا تتّسع لأصغر سيارة لتمشي فيها هي «الدربونات». بغداد التي عرفتها كانت تنام على الشطّين، رأسها في باب المعظّم ورِجْلاها في الباب الشرقي، أو بالعكس، فما أبالي أين الرأس وأين القدمان ما دام الفراش ممدوداً ومداه محدوداً. وما بعد باب المعظم شيء يُذكر في البنيان. كان طريق الأعظمية خالياً ما فيه إلاّ البلاط الملكي. ولا تحسبوه مثل قصر يلدز أو «ضولْمَه باغْجِه» (¬1) ولا مثل فرساي. ما هو إلاّ بناء دون بناء بعض بيوت الموسرين. ثم أقامت الأوقاف (على ما أذكر) أمامه دُوَيرات (فيلات صغيرة) جعلوها ذات ألوان، أو أذنوا للناس بإقامتها على أن يسكنوها مدّة معلومة ثم تؤول إلى إدارة الأوقاف، لأن تلك الأرض كانت وقفاً. وليس بعد البلاط ولا قبله منازل ولا بنيان حتى نصل إلى دور الأعظمية، فينادي سائق الحافلة (الباص): "رأس الأحواش"، أي أوائل البيوت ... بيوت الأعظمية، لينزل من شاء من الركّاب. أما الحافلات (الباصات) فهي صناديق كبيرة من الحديد فيها كراسي ضيّقة متراصّة، وقد خُبِّرت أن الحافلات التي تحمل الناس الآن في بغداد هي التي يحملهم مثلها في لندن لا تختلف عنها، وأن منها ما هو بطبقتين، وعلمت أن عند أمانة العاصمة متحفاً أو معرضاً يعرضون فيه تطور سيارات النقل العامّ من تلك الصناديق التي أعرفها (والتي كنت أزاحم الناس لأتخذ لي كرسياً ¬

_ (¬1) باغجه أي حديقة، وأظن أن ضولمه هي ورق العنب.

فيها) إلى ما انتهت إليه اليوم. وقالوا إن بغداد اليوم أكبر مساحة وأكثر امتداداً من بغداد الرشيد والمأمون. قالوا: إن طولها زاد على خمسين كيلاً، وقالوا: إن الجسر صار مثل الجسور التي تقوم على دعائم راسيات في الأرض، وقد كان الجسر على عهدي ببغداد يقوم على عوّامات، فإذا فاض النهر وزاد الماء صار الجسر كالتلّ يُصعَد إليه صعوداً، وإذا قلّ الماء صار كالوادي نهبط إليه نازلين! فهل الذي قالوه حقيقة أم هو من الدُّعابات؟ وقالوا إن بغداد ذات الشارع الواحد صار فيها عشرات وعشرات من الشوارع التي تمشي فيها السيارات وتقوم على جانبَيها ضِخام العمارات، فهل الذي قالوه حقيقة أم هو من الدعايات؟ إنني لأشتهي أن أرى بغداد بعد طول الغياب، ولكن ما الذي أجده اليوم من بغداد التي عرفتها؟ مَن الذي سألقاه ممّن كنت ألقى يومئذ فأسعد بلقياه؟ هل أجد الشيخ رضا الشبيبي الذي بسط عليّ جناحَيه فدفع عني الأذى يوم تحالف عليّ إخوة كرام إثر ما كان بيني وبين المفتّش؟ هل أجد العالِم الأديب الذي كان يعمل معه الأستاذ طه الراوي؟ هل أجد العالِم الكبير الشيخ المعمَّر الشيخ إبراهيم الرّاوي؟ ألا يزال في جامع سيد سلطان علي، يستقبل كل من دخل عليه ويُلزِمه أن يأكل من طعامه ولو لم يكن الوقت وقت طعام؟ هل أزور الأخ الذي كان لي أكثر من الأخ الشقيق، الأخ الأكبر وإن كان لا يزيد عني في العمر إلا خمس سنين، الذي كان سبب سفري إلى العراق، والذي كان مكتبه في وزارة المعارف

مَغداي أو مَراحي كل يوم؟ الذي كنت آوي إليه كلّما ضربَتني أمواج الحياة فأجد الجبل المنيع الذي لا تصل هذه الأمواج لمن يأوي إليه؟ الذي عرفته في دمشق وفي لبنان وفي العراق، فما عرفت فيه إلاّ الأخ الوفي والصديق الصفي، الشاعر الراوي الكاتب البليغ الذي يكفيه أنه ساجل إمام البلاغة الزيات في قصّته «وضّاح اليمن»، فما كان أسلوبه دون أسلوب الزيات ولا بيانه أقلّ من بيانه؟ رحمه الله وجزاه عني خيراً. أما عرفتموه؟ هو الشيخ بهجة الأثري الذي سلّمني مكانه في الثانوية المركزية لمّا تبوأ كرسي كبير مفتّشي اللغة العربية في العراق، فكان لي خير سلف ولكن هل كنت له خير خلف؟ رحمه الله فما أنسى -والله- فضله عليّ. هل أجد زملائي الذين جاؤوا العراق معي: أنور العطّار وعبد المنعم خلاّف وأحمد مَظهر العَظْمة وصالح عَقيل وكامل عيّاد وحيدر الرّكابي؟ هل أجد من جاء بعدي لمّا فارقت العراق إلى بيروت الأستاذ الدكتور زكي مبارك؟ إن من هؤلاء من بقي كما بقيت، مدّ الله في عمره وأحسن خاتمتي، ولكن أكثرهم لحق بركب الماضين (¬1). هل أجد الشيوخ الأجلّة الذين جمعني بهم التدريس في دار العلوم الشرعية الملحَقة بجامع الإمام الأعظم الذي سُمّيت باسمه ونُسبت إليه مدينة الأعظمية: العالِم الغني الزاهد الشيخ أمجد الزهاوي، والعالِم الحقوقي صاحب خزانة الكتب الكبيرة الحاجّ حمدي الأعظمي، والمفتي الصالح الشيخ قاسم القيسي، ¬

_ (¬1) ما بقي منهم إلاّ خلاّف وعياد وأنا.

ومدير الدار الأستاذ الكبير الشيخ المعمَّر فهمي المدرّس؟ لقد كنت وحدي الشابّ بينهم، وكانوا كلّهم أكبر مني سناً، وأكثر علماً وفضلاً وأعلى منزلة. أين مني تلك الأيام، وماذا أجد إن ذهبت من بقاياها، من أريجها، من عطرها، من أنقاضها، من آثارها؟ وتلاميذي الذين لا أحصيهم عدداً، وإن ظللت أذكرهم أبداً، وأتعلّل بذكراهم على طول المدى وبعد الزمان. لقد كان منهم عبد السلام عارف رحمه الله، لقد صار رئيس الجمهورية، وكلّما قابل أحداً من أهل الشام سأله عني وعن أنور العطّار. ولكن لم ألقَه بعدها. أنا أتهيب أن أطرق باب الرفيق إن لم يتّصل حبلي تماماً بحبله ولم ترتفع الكلفة بيني وبينه، فكيف برئيس الجمهورية؟ حتى إن مَن صار وزيراً من تلاميذي لم أعُد أراه، إذ هو في شغل عن زيارتي وأنا في عزوف عن زيارته. وقليل من الطلاّب الذين لبثوا -على طول العهد- محافظين على الودّ، منهم ... بل دعوني أسُق لكم خبره قبل أن أقول لكم من هو: كان طالباً في الشهادة الثانوية سنة 1936، فلما نالها دخل الكلّية العسكرية، فتخرّج فيها وتدرّج صاعداً في الرتَب العسكرية حتى صار عقيداً (كولونيل)، فحدثت أحداث في العراق اضطرّته إلى ترك العسكرية، فماذا صنع؟ هل قعد في بيته يبكي ما فقد، يندب ماضيه يائساً من مستقبله؟ إن أصحاب الهِمَم العالية إذا هبطوا الجبل من جانب قاموا يحاولون صعوده من الجانب الآخر، لأنهم لا يطيقون البقاء في الحضيض بل يبتغون

المعالي أبداً. فدخل كلّية الحقوق، فدرس فيها ونال شهادتها وصار محامياً ونجح في المحاماة، فحدثت أحداث اضطرّته إلى ترك بغداد كلّها. فهل يئس؟ إنه مؤمن أشهد بإيمانه من يوم كان طالباً يقعد بين يديّ، والمؤمن لا ييأس من رَوح الله، وإذا ضاقت به بلاد العرب فإن «في الأرضِ مَنْأىً للكريمِ عَنِ الأذى»، فسافر إلى النمسا وتعلّم لسانها، ودخل كلّية الطبّ وتخرّج طبيباً من سنتين وقد جاوز عمره الستّين. ولم ينقطع طولَ هذا المدى من مراسلتي والاتصال بي، يرسل إليّ من الأدوية ما يفيد أمثالي في شيخوخته، وإن لم يكن شيء يردّ إلى أمثالي شبابَهم الذي ولّى. لقد رأيتُه في الحجّ في الموسم الماضي، زارني في داري في مكّة. هل عرفتموه؟ هو العقيد المحامي الطبيب جهاد عبد الوهاب. ومنهم من هو اليوم من الدبلوماسيين العراقيين المرموقين ومن الأدباء والباحثين المعروفين، لزمني مدّة لزوم الولد أباه ثم راسلني مدّة أخرى، ثم قطعَت الأيام ما بيني وبينه فلم أعُد أسمع عنه شيئاً، هو نجدة فتحي صفوة. ولهما -بحمد الله- أمثال من الذين شرّفني الله يوماً فكنت مدرّساً لهم ثم مضوا صُعُداً فجاوزوني وصاروا أعلى مني منزلة، صار منهم (من تلاميذي) وزراء وقُضاة كبار وأساتذة جامعات، منهم جماعة هنا في جامعة الملك عبد العزيز وجامعة أم القرى وجامعة الملك سعود وجامعة الإمام محمد بن سعود، من السوريين ومن السعوديين، هم أعلم الأساتذة وأفضلهم، صاروا جميعاً أعلم مني وأفضل. * * *

التعليم في المدرسة الابتدائية

-92 - التعليم في المدرسة الابتدائية ما أوقعني أحد؛ أنا أوقعت نفسي في الورطة. لماذا بدأت الحديث عن بغداد وأنا لم أخرج بعدُ من دمشق؟ لماذا قطعت التذكرة وحجزت مكاني على الطائرة وأنا لم أُعِدّ متاعي ولم أهيّئ حقائبي، بل أنا لم أستخرج جواز سفري؟ هل فعلت ذلك من حبي لبغداد فأسرعت بالكلام عنها قبل أن يصل بي الموضوع إليها؟ أم أنني لضيقي ممّا كنت أقاسي وأنا معلّم في المدارس الابتدائية، وأنا في البلد الذي كان يحكمه الفرنسيون، أحببت الإسراع بالفرار؟ مهما يكن الأمر فلا بد لي من رجعة إلى الوراء، أرجع سنة أو أكثر لأن هذه السنة (1936) ومثلها السنة التي قبلها (1935) كانتا حافلتين بالأحداث. أحداث حياتي أنا وتنقّلي بين المدارس، ومَن لقيت وماذا لقيت وماذا رأيتُ، وحياتي الأدبية: ماذا كتبت وماذا خطبت، وحياة بلدي في النضال للاستقلال والجهاد لحرّية البلاد. ولم يبقَ لي في مجال القول سعة للتفصيل فسأتحدّث بإيجاز. * * *

لقد عرفتم أن الذين كانوا يعملون معي (أو كنت أنا أعلّم معهم في المدارس الابتدائية) هم من جِلّة مشايخنا ومن كبار زملائنا. علماء كبار وأدباء معروفون، حسبكم أن منهم شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار وشيخنا الشيخ حامد التقي، وأن منهم الطبيب الشيخ رفيق السباعي وأن منهم الشيخ سعيد البرهاني. أمثال هؤلاء كانوا معلّمين في الابتدائية، وكان من المعلّمين سعيد الأفغاني وسليم الزركلي وأنور العطّار وجميل سلطان وأمجد الطرابلسي، هؤلاء الذين صاروا أدباء البلد وشعراءها. ما كنت ولا كان كثير من إخواني نَعُدّ أنفسنا معلّمين فقط، وما كنّا نرانا مسؤولين أمام وزارة المعارف وحدها، نطبّق مناهجها ونطيع أوامرها؛ بل كنّا نُعِدّ الجواب للسؤال يوم العرض على الله: السؤال عن تربية الأولاد على ما يُرضيه، على الشريعة التي بُعث بها خاتم رسله، عن تخريج أمة جديدة تؤمن بالله إيماناً خالياً من الشرك كله، الظاهر منه والخفي. تخاف الله ولا تخاف في الحقّ أحداً إلاّ الله، تستهين بعذاب الدنيا مهما اشتدّ للخلاص من عذاب الله في الآخرة وهو أشدّ. كنّا نلقّنهم العقيدة سالمة من الشوائب، ونعوّدهم العبادات بعيدة عن الرياء، والسلوك الذي يحبّبهم إلى الناس ولا يكرّههم إلى الله. فإن جاء أمرٌ فيه تركُ واجبٍ أو فعلُ حرام فلا مبالاةَ حينئذ بحبّ الناس ولا خوفَ من كرههم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. كنّا نعيد عليهم كل يوم أن هذه البلاد لنا، وأن الفرنسيين واغلون علينا عادون على حقّنا، ومن يعاونهم منّا أعدى منهم علينا

وإن كان في الظاهر منّا. لا نلقي عليهم في ذلك كله محاضرات فلسفية ولا خُطَباً بليغة أدبية، بل نكلّمهم باللسان الذي يفهمونه. لا نجمعهم لذلك بل نتبع سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله: كلمة هنا وكلمة هناك، وكلّ كلمة في موضعها وكل كلمة عند مناسبتها، يحفظها من يحفظها وينساها من ينساها ولكن لا يضيع أثرها أبداً. من سمعها حملها إلى أهله فبلّغهم وبلّغ أصحابه إياها، ورُبّ مبلَّغ أوعى من سامع، أو يحفظها في ذاكرته حتى يكبر فيدرك معناها، كما تحفظ الصحراء بذور الكلأ حتى يأتي المطر فتخضرّ منه الصحراء. وما خرجوا جميعاً متعبّدين صالحين ولا وطنيين مخلصين، ولا صاروا أئمة في الخير جمعوا أسبابه واستكملوا مزاياه، بل اقتربوا منه وأحبّوه. وما كنت أنا ولاكان إخواني من المدرّسين من الصالحين الكُمَّل، ما نحن إلاّ ناس عرفوا طريق الحقّ فجئنا ندلّ عليه، نسلكه تارات وتغلبنا نفوسنا تارة فندَعه إلى طريق اللهو، اللهو غير المحرّم، فما كتب الله علينا (والحمد له والمنّة) أن سلكنا طريق اللهو الحرام وإن مالت نفوسنا إليه. وما كان في دمشق تلك الأيام مثل الذي يجده الشبّان الآن ولا نصفه ولا ربعه ولا عُشره، ما كانت عندنا إلاّ سينما حقيرة صامتة لأن السينما لم تكن في الدنيا كلها قد نطقت، كانت السينما التي عندنا تهتزّ صورها ويتمايل الأشخاص فيها، وما كان يدخلها إلاّ مَن سَفِهَ نفسه وهانت عليه. وما كان في الدنيا إذاعات ولا كان فيها هذا الرائي (التلفزيون). * * *

لقد عرفتم أني علّمت في المدارس الأولية في القرى، وستعرفون أني علّمت في المدارس المتوسطة والثانوية وعلّمت في جامعات كثيرة وفي أقسام الدراسات العليا في هذه الجامعات، وأشرفت على إعداد رسالات الماجستير والدكتوراة، وعلّمت بنين وبنات، ومشايخ في كلّيات الشريعة وفي المساجد. فهل تريدون أن أخبركم بالذي رجعت به بعد هذه الجولة الواسعة التي شملت الشام والعراق والسعودية ولبنان ومصر حيناً، وامتدّت خمساً وخمسين سنة (لأنني بدأت أعلّم سنة 1354هـ؛ بدأت التعليم قبل أن أكمل أنا تعلّمي). أقول لكم الحقّ: لقد وجدت أنه ليس شيء أبرك ولا أنفع للناس ولا أجمع للثواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية. معلّم الابتدائي هو الأساس. والبناء الذي حدّثونا عنه في أميركا وقالوا إن فيه مئة طبقة (مئة دَوْر) بعضها فوق بعض لا يقوم ولا يُنتفَع به إن لم يحمله أساس متين غائص في الأرض، والأساس لا يُرى ولكن البناء لا يقوم إلاّ عليه. هذا الأساس هو التعليم الابتدائي، لا يراه الناس على حقيقته ولا يقدّرونه قدره. ولو كان بيدي شيء من الأمر أو كان لرأيي قليل من الوزن لاقترحت أن يُشترَط في معلّم الابتدائي الشهادة الجامعية، وفوقها دورة في التربية وتعليم الصغار، وأن يُعطى مثل راتب أستاذ الشهادة الثانوية. نطالبه بالكثير بعد أن نعطيه الكثير. إن ضَعف معلّم الابتدائي لا تُصلحه قوّة مدرّس الثانوي ولا أستاذ الجامعة.

هل أضرب مثلاً واقعاً أم أخاف أن أؤذي به أحداً؟ على أن الذي يؤذيه الحقّ أَولى به هو أن يرجع إليه، لا أن نترك نحن كلمة الحقّ حفاظاً عليه. على أنني لا أسمّي أحداً ولا أعيّن بلداً. كان لي حفيد تكرّموا عليه فأدخلوه مدرسة مشهورة، لكنْ اتفق أن بدّلوا معلّميها وجاؤوا بغيرهم فكان معلّمه شاباً مبتدئاً لم يحذق صنعته، ولم تصقل الأيام خشونته ولم تُهذّب حواشيه، فمضت السنة ولم يتعلّم (أي الحفيد) تهجئة الكلمات. وحسبت ذلك ضعفاً منه، فجاءت نتيجة الامتحان فإذا هو يُعطى درجة جيّد جداً. وارتقى إلى الصف الثاني فالثالث فالرابع وهو لم يتجاوز الحدّ الذي وقف عنده على عهد المعلّم الأول! وحفيد آخر في مدرسة أخرى ابتُلي بمعلم قاسي القلب فارغ الرأس، يستر فراغ رأسه وضعفه في مهنته بشدّته وقسوته، فهو يُدخِل القلم بين أصابع الولد مخالفاً بينها ثم يضربه عليه ضرب مجرم مكانه السجن، لا معلّم محلّه منبر التدريس. إنني أقول الآن: يا أسفي على أيامي الأولى في التعليم الابتدائي التي ضقت بها لمّا كنت أعيشها، ثم عرفت قدر عملي فيها لمّا فارقتها. كان أسلوب التعليم على أيام الفرنسيين أن يتسلّم المعلم فصلاً كاملاً بكلّ دروسه، وكنت آخذ إحدى شعبتَي السنة الثالثة، والشعبة الثانية يتولاّها الصديق الأديب الشاعر سليم الزركلي مدّ الله في عمره. فنشأ من هؤلاء التلاميذ الصغار مَن نبغ وبقي حبلي متصلاً بحبله وشَمْلي مجموعاً إلى شمله إلى الآن، لأن أعمق الآثار في حياة التلميذ أثرُ معلّم الابتدائي.

معلم الابتدائي يصادف قلوباً خالية يمكن أن تُملأ بالخير أو بالشرّ، بالإيمان أو بالكفر، بالفضيلة أو بالرذيلة. وأنا أرجو أن أكون قد نثرت في قلوب تلاميذي بذور الفضيلة والخير والإيمان. إن ممّن علّمت في الابتدائي أناساً بلغوا أعلى المراتب، صار منهم -كما قلت من قبل- الوزراء وصار منهم في الوزارات وكلاء، وصاروا أساتذة جامعات، وصار منهم من هو أجلّ مني قدراً وأسْيَر في الناس ذِكراً، ولا يزالون إذا لقوني يذكرونني بالخير. ولولا المنغّصات في التعليم الابتدائي، ولولا رعونة بعض المديرين وسخافة عقولهم واهتمامهم بالصغائر، ولولا انتفاخ بعض المفتّشين، ولولا أن من الأنظمة والقوانين ما وضعه ناس غرباء عن التعليم لكان التعليم الابتدائي نعمة من النعم. لكنني لم ألقَ من المديرين أحداً من هذا الصنف الذي وصفت. كان مديرنا في أول مدرسة درّست فيها هو الرجل الطيّب النبيل الأستاذ باكير الأورفلي، وقد عرفتموه. وعلّمت في مدرسة الملك الظاهر، وهي من أقدم المدارس الرسمية الابتدائية في دمشق، وكانت في المدرسة الأثرية التي فيها قبر الملك الظاهر والتي أقام فيها الشيخ طاهر الجزائري نواة المكتبة العظيمة «الظاهرية»، وكان مديرها الأستاذ شريف آقْبيق (ولعلّ معنى «آقبيق» في اللغة التركية: صاحب الشوارب البيض). وأسرة آقبيق أسرة صغيرة معروفة في الشام منها صديقنا القاضي الكبير النزيه رحمة الله عليه، والنائب في المجلس النيابي الأستاذ محمد

آقبيق. كان مدير هذه المدرسة شريف آقبيق الذي كان مدير القسم الابتدائي في المدرسة السلطانية الثانية لمّا كنت تلميذاً فيها سنة 1918، ثم رأيته هنا (في مدرسة الملك الظاهر) فما رأيت منه إلاّ كلّ إكرام. لم أَشْكُ منه شيئاً، وهو لا يزال حياً مدّ الله في عمره وقوّاه على شيخوخته. وكان من مديرينا الأستاذ توفيق ميخائيل، مدير مدرسة طارق بن زياد في المهاجرين. هذه المدرسة التي كنت فيها تلميذاً عنده ثم جئتها معلّماً، لبث مديراً فيها أكثر من ربع قرن. وكان كبار السنّ من نصارى الشام يسايرون المسلمين، بل كان يأمر التلاميذ بإقامة الصلاة، لا إيماناً منه طبعاً بصحّة دينهم بل تَمْشِية لحياته بينهم. أمّا المفتّشون فلم يكن على أيامنا في دمشق إلاّ مفتّش واحد هو أستاذنا سنة 1919 العالِم الجليل والمربّي الكبير الذي يشارك في كثير من العلوم، صاحب الأخلاق العالية الذي يفرض على كل من يراه أن يحترمه وأن يحبّه، هو الأستاذ مصطفى تمر. فكنت أنا وإخواني نجد أنفسَنا تلاميذ بين يديه فلا نجرؤ عليه (¬1). ولمّا توسّعَت دائرة المفتّشين جاؤونا بمفتّش شابّ من حلب، رأيناه أقرب إلى الرعونة وإلى الخفّة وأرانا من حماقته ما جعَلنا نُريه النجوم عندما يصعد مؤذّن المسجد المقابل للمدرسة ليؤذّن لصلاة الظهر! ففرّ هارباً ولم يعقّب ولم يرجع، وبلغني أنه صار صاحب مصنع للجوارب. * * * ¬

_ (¬1) ولم يمشِ في جنازته إلاّ عشرون شخصاً. فيا ضيعة الوفاء! ورحمة الله عليه فهي خير له.

هذا مع العلم أننا نعيش في الدنيا لا نعيش في الجنّة، وأن الدنيا ما صَفَتْ لأحد حتى تصفوَ لنا: خُلِقتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها ... صفواً منَ الأقذار والأكْدارِ ومكلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِها ... متطلّبٌ في الماءِ جَذْوةَ نارِ فمعلّم الابتدائي كان يجد من المشاقّ ومن المتاعب ما يكرّه إليه مهنته. كنّا ندرّس في الأسبوع ستاً وثلاثين ساعة، ما عندنا راحة يوم ولا نصف يوم، حتى ولا يوم الخميس. ندرّس من الصباح إلى المساء، نبقى في المدرسة لا نخرج منها، نرقع خروق عقول الصغار من عقولنا، فلا نصل إلى سنّ التقاعد حتى يُمسي كثير منّا بلا عقل! نعاشر أطفالاً تفكيرهم محدود فننزل إليهم فنحدّ من أفكارنا، فنفكّر كالأطفال ونحن كبار. الأب الذي له خمسة أولاد إن قعد معهم من الصباح إلى المساء أحسّ أن الجنون يقترب منه، فكيف بمن يقعد كل يوم مع عشرات وعشرات من الأولاد؟ الأب يضرب أولاده والمعلّم ممنوع من الضرب، والذين يضعون المناهج للأولاد ويؤلّفون لهم الكتب هم في وادٍ والأولاد في وادٍ؛ كان علينا في درس النحو في السنة الثالثة الابتدائية أن نُعنى بهذه التعريفات. وأقول كلمة على الهامش مع أنها في الصميم ينبغي الانتباه إليها، أقول: إن هذه التعريفات التي نملأ بها كتب النحو لا حاجة إليها ولا خير فيها. ولطالما تعبت لمّا كنت تلميذاً وتعبت لما صرت معلّماً في الجواب على هذا السؤال: كيف تصوغ المضارع من الماضي؟

كيف أصوغ؟ أنا أعرف كيف أصوغه فلماذا أشرحه لكم؟ وتوضيح الواضحات من أشكَل المشكلات. كان العرب الأوّلون، وهم أهل اللسان الذين أُخِذَ عنهم، لا يدرون شيئاً من هذه التعريفات. حتى إن أحمد بن فارس روى عن أعرابي لمّا سألوه: أتجرّ فلسطين؟ لم يفهم معنى الجرّ عندهم وأخذه على معناه اللغوي فقال: إني إذن لقوي! ولمّا سألوا آخر: أتهمز إسرائيل؟ فَهِم الهمز على أنه الغمز واللمز واللكز، ولم يعرف معناه المصطلَح عليه فقال: ما كنت رجل سوء! وأنا لا أريد أن ندَع هذه المصطلحات كلّها بل أن ندع هذه التعريفات. قلت هذا لأسرد عليكم حادثة ممّا وقع لي: "كنت أعلّم التلاميذ (¬1) ما جاء في الكتاب في تعريف الاسم (وأنه الكلمة التي تدلّ على معنى مستقلّ في الفهم وليس الزمن جزءاً منه) شرحت ذلك وأعدتُه وكرّرتُه فلم يفهموا عني، وكيف يفهمونه وهو أعلى ممّا تصل إليه أفكارهم وأفهامهم؟ وبعد أن تكلمت ربع ساعة قلت: من فهم؟ فرفع ولدٌ إصبعه، فحمدت الله على أن واحداً منهم قد فهم وقلت: قُم يا بُنَيّ بارك الله فيك فأخبرني ما هو الاسم؟ فقال: يا أستاذ هذا دعس على رجلي. فصحت به: ويحك، إني أسألك عن تعريف الاسم فلماذا تضع رجلك في التعريف؟ ألم أقُل لكم إن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟ فقال: ولماذا يدوس هو على رجلي؟ فصحت بالآخر: لِمَ دست ¬

_ (¬1) هذه الفقرة من مقالة «قصة معلم»، وقد نشرها جدي في تلك السنة (1935)، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

على رجله يا ولد؟ فقال: والله كذّاب، ما دُست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني. فغضبت وصرخت: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟ فقال: ليس الآن ولكنه عضّني أمس. وتطوع العفاريت الصغار بالشهادة للمدّعي وللمدّعى عليه، وزُلزِل الفصل، فضربت المنصّة بالعصا وأسكتّهم جميعاً وهدّدت من يتكلّم منهم بأقسى العقوبات. ولست أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه! فسكتوا وعادوا إلى الدرس". هذه صورة ممّا كنت ألقى. وإنها لمن الصور النادرة، لأنني كنت أضبط الصفّ فيكون هادئاً ساكناً، لا عن خوف خالص مني بل عن خوف مَشوب بالمحبّة، وكنّا نضرب أحياناً. لمّا نُقلت إلى مدرسة الميدان فأمضيت فيها مدّة قصيرة وجدت في السنة الثانية ولداً صغيراً اضطُررت إلى ضربه فبكى قليلاً، ثم أرضيتُه فسكت. ومرّت الأيام، فإذا هذا الولد الذي ضربتُه صغيراً ولم يُكتَب له أن يُكمِل دراسته النظامية أحد العشرة الذين قابلتهم في حياتي من أذكى الأذكياء، اشتغل بأعمال شتّى، ثم لمّا ولي أخونا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليه، ابن شيخنا، وزارة الأشغال العامّة أدخله موظفاً صغيراً فيها، فاستطاع بقوّة شخصيته وبكرمه وبتوزيعه ربع راتبه على مَن حوله ممّن هو أصغر منه أن يحتلّ منزلة أعلى من منزلته الرسمية. ومضت الأيام وجئت أطبع كتاباً من كتبي الأولى في مطبعة دار السلام فوجدته مديرها، وهي مطبعة صغيرة، ولكنه يفرض احترامه على العاملين معه. ثم مرّت الأيام فذهب إلى قطر معلّماً

في المدارس الابتدائية، فلما انتهت مدّة التعاقد، وكان حاكم قطر الشيخ العالِم الكبير الشيخ علي آل ثاني أراد أن يمنح المعلّمين عطيّة منه، فأبت على هذا الذي أتكلم عنه عزّة نفسه أن يأخذ عطيّة من أحد. فقال الشيخ: ماذا تريد أن تعمل لعلّي أساعدك في عملك؟ قال: إني نويت أن أنقطع إلى طبع الكتب، فإن كان عندك كتاب تحبّ طبعه طبعتُه لك. فاختار العالِم المعروف الذي كان له أثر في إنشاء وزارة المعارف السعودية الشيخ ابن مانع (بمعونة الشيخ قاسم درويش فَخْرو) كتاباً من كتب الحنابلة فطبعه له، واشترى مقداراً من النسخ المطبوعة فكان ذلك رأس مال صغيراً لهذا الشابّ. وتوالى طبع الكتب للشيخ علي بن ثاني حتى نشر أكثر كتب المذهب الحنبلي، وكان يوزّعها مجاناً لأن الشيخ يجعلها وقفاً لله عزّ وجلّ. ثم صار نائباً في المجلس النيابي وأقبل على النظر في الكتب وعلى مجالسة العلماء وعلى اقتباس كل نافع يسمع به أو يقرؤه، وكان -كما قلت- من أذكى الأذكياء الذين عرفتهم في حياتي فصار عالِماً يُرجَع إليه ويُعتمَد عليه، ورزقه الله منزلة وصارت له مكتبة كبيرة فيها من نوادر المخطوطات وطبع من الكتب خزانة كاملة. هذا هو التلميذ الذي ضربتُه صغيراً ثم صار صديقي وأخي وولدي كبيراً، وهو العالِم الفاضل الأستاذ زهير الشاويش صاحب «المكتب الإسلامي» للنشر والتوزيع. * * *

ليلة على سفح قاسيون

-93 - ليلة على سفح قاسيون هذه الحلقة ليس فيها خبر يؤثَر ولا حادثة تُذكَر، ولكن فيها صورة قد تمتع وتسرّ، وجدتها مكتوبة عندي ولم أُدخِلها في كتاب من كتبي. الذي ينظر إلى جبل قاسيون وهو يتمدّد شمالي دمشق يراه بدأ من الشرق من عند مستشفى ابن النفيس ثم صعد علوّاً إلى حيّ الأكراد (حيّ ركن الدين)، ثم الصالحية التي كان أول من وضع أساسها وأقام البناء فيها ابن قدامة والد صاحب «المغني»، ثم حيّ المهاجرين الذي أقامه الوالي ناظم باشا ومدّ فيه خطّ الترام لمّا جاءنا بالكهرباء فضوّأ بها دمشق، من تاريخ مولدي، رحمه الله. إذا صعدت المهاجرين اليوم رأيت الشوارع المتقاطعة والمتوازية والعمارات الكبيرة المتجاورة والمتقابلة تغطّي وجهَ الجبل من شرقيه إلى غربيه. ولكن هذا المشهد لم يكن في الحقبة التي أتكلّم عنها، أي فيما تسمّونه الثلاثينيات (¬1)؛ لم يكن تحت ¬

_ (¬1) بالتاريخ الميلادي. والأَولى أن نقول عشر الثلاثين، ولكني رأيتهم يقول «الثلاثينات» فقلت: إن لم يكن بُدّ فلتكن الثلاثينيات والأربعينيات على النسبة إلى الثلاثين والأربعين، ومشت في الناس.

الشارع الكبير الذي يمشي فيه الترام إلاّ البساتين، وكانت تقوم على السفح أربعة صفوف فقط من البيوت، وينتهي خطّ الترام عند بيت الوالي الذي صار حيناً من الدهر قصر رئاسة الجمهورية، ولم يكن بعده إلاّ قصر آل العابد، وأمامهما على الجبل حقول الصبّار (التين الشوكي)، إذا سرت في هذا الشارع بعد أن ينقطع خطّ الترام وصلت إلى ساحة الجريد. تعرفون ما لعبة الجَريد؟ كان الفرسان يتبارون في هذه الساحة، يمسك الواحد منهم جريداً في يده أو خيزرانة قصيرة، ثم يعدو بفرسه ويلحقه فارس آخر معه مثل هذه الجريدة (أو الخيزرانة)، فإذا مسّه بها غلبه. وكان لهذه اللعبة أصول متَّبَعة. كان في هذه الساحة قهوة لحسن آغا المهايني. ولم يكن آل المهايني أصحاب مقاه يديرونها، بل كانوا من أمجاد الناس في الشام؛ كانوا من وجوه حيّ الميدان. وكان حسن آغا هذا من وجوه آل المهايني، ولكنه شاخ وتعب فأشار عليه الأطبّاء بأن ينتقل إلى محلّ نزه هادئ، فلم يجد في دمشق أجمل من هذه البقعة إلاّ مصطبة الهبل، التي أقيم عليها مستشفى المواساة بهمة العالِم الجليل الدكتور حسني سبح، أستاذ الأساتذة ورئيس مجمع اللغة العربية في دمشق. وغالب الظنّ أنه كان هنا «دير مُرّان» المشهور الذي وردت عنه الأخبار وقيلت فيه الأشعار. هذه القهوة أقامها على تلّة عالية وغرس فيها من أنواع الشجر المثمر والنبات المورد المزهر ما جعلها من عجائب الحدائق، وكانت أشبه بالحدائق المعلّقة في بابل التي عدّوها إحدى عجائب الدنيا القديمة. هذه القهوة كانت أشبه بنادٍ خاصّ منها بقهوة عامّة،

وكان ينام في داره في زاوية منها ويستقبل فيها ضيوفه ومن يحب أن يجلس فيها من غير ضيوفه. كنّا نجيء هذه القهوة كلّ عشيّة من مساكننا في أرجاء دمشق، أنا من مسجد القصب بين حيّ العمارة وباب توما، والأستاذ سعيد الأفغاني من مسكنه الذي دار به حارات دمشق كلها، فلم يدع حياً لم يسكن فيه مدّة. والأستاذ عبد الغني الباجقني، وهو مدرّس قديم، عالِم فصيح اللهجة سليم اللغة بصير بالعربية وبالعلوم الإسلامية، فقيه مالكي متمكّن، حتى إنني لمّا كنت يوماً رئيس مجلس الأوقاف رشّحته لمنصب إفتاء المالكية لمّا تُوفّي الشيخ الطيّب، وقد عاد إلى بلده في لوبية (ليبيا) وتُوفّي فيها. والأستاذ حسني كنعان، وهو أستاذنا سنة 1918، موسيقي أديب صاحب نكتة، وفي قلبه طيب يكاد يقرب من حدّ الغفلة، لا يعرف الشرّ، كتب المئات من المقالات ولم تُطبَع في كتاب. وأنور العطّار، رفيق حياتي، الشاعر المعروف. وكنّا كلّما جاء دمشق ضيف دعوناه إلى هذه القهوة. لقد جاءها الزيات وعبد الوهاب عزام وعبد الوهاب خلاف وإسعاف النشاشيبي وشكيب أرسلان ومحمد الراوي الشاعر وأحمد أمين، وكثير من ضيوف دمشق. وممّا وقع فيها أن الأستاذ بهجة الأثري جاء مرّة ومعه ولده الصغير، وأحسب أن اسمه زاهر، وكان بيّاعو الصبّار (البَرْشومي) يقعدون في أطراف الساحة، فنزل فاشترى واحدة منها وأخذها بشوكها، ولم يتنبه إليه البائع، فعض منها! فتصوّروا طفلاً صغيراً عضّ حبة من الصبار! وامتلأ فمه بالشوك، واشتغلنا به الجلسة كلها وأضعنا ما كنّا نرجو من متعة.

رحم الله كلّ من ذكرت وعفا عنهم، وأدخلهم برحمته الجنّة، وألحقَنا بهم على الإيمان. أما ابن الأستاذ الأثري رحمه الله زاهر هذا فأرجو أن يكون باقياً، وأن يكون صحيح الجسم وأن يكون مستريحاً معافى. * * * أما هذه المقالة التي وجدتها بين أوراقي ولم أنشرها في شيء من كتبي فإن فيها وصفاً لإحدى ليالينا على هذا السفح: يا ليلةَ السّفْحِ هَلاّ عُدتِ ثانيةً ... سقى زمانَك هطّالٌ مِن الدّيَمِ لم أقضِ منكِ لَباناتٍ ظفِرت بها ... فهلْ ليَ اليومَ إلاّ زَفْرةُ الندَم كانت ليلة فيها غناء وفيها طرب، ولكن لم يكن فيها -إن شاء الله- إثم لأننا لم نرتكب حراماً. ومن أين يأتي الحرام والمغنّي رجل ونحن رجال، وما غنّى في فاحش من القول ولا ببذيء من الكلام، ولا كان معه آلات، وما منَعنا غناؤه من واجب ولا دفعنا إلى حرام؟ فلقد أدّينا قبله حقّ الله بالصلاة جماعة، وحقّ أجسادنا بالأكل والشرب معاً، وما كان بجوارنا من يؤذيه غناؤنا من نائم نمنعه المنام أو مشغول نعطله عن العمل. كنّا في سفح الجبل بيننا وبين البيوت ميل، وكانت ليلة احتفال بشفاء الطفل إبراهيم الروّاف (الطفل يومئذ ولعلّه صار الآن كهلاً)، وهو ابن الشيخ ياسين الرواف رحمه الله. ليلة ما كان أجملها وأقصرها! وكذلك تكون ليالي الأُنس

فاتنات قصيرات الأعمار. ليلة لم تمحُ الليالي من نفسي ذكراها ولم أستطع أن أنساها؛ لقد ألّفَت هذه الحلقةُ تلك الليلة بين العلم والأدب والشعر والفنّ والنكتة والغناء، وجمعَت بين العراق والشام ودمشق وبيروت، فكان في المجلس كرام أهل كلّ بلد وكبار أهل كل فنّ. وشارك الكون الناسَ في فرحة الشفاء فتزيّن بحُلّة الأصيل المنسوجة بخيوط الذهب، وماست أشجار الغوطة من بعيد دلالاً وهمست الأوراق بدعاء المساء. وكان مشهد لا يُفيد فيه الوصف، لأن مثله لا يُرى إلاّ في دمشق أو في جنان الخلد، ودمشق جنّة المستعجل. وتحدّث الأستاذ الشيخ بهجة البيطار، وتطارح الأستاذان بهجة الأثري والتنوخي الأشعار، ثم تسلّم المجلسَ الأستاذُ سعدي ياسين، خطيب بيروت، فلم يبقَ لأحد مجال لمقال، وطفقَ يُلقي النكتة إثر النكتة والنادرة تلوَ النادرة، ونحن نُمسك بخواصرنا ونضرب من الضحك بأرجلنا ونمسح دموعنا، وهو لا يكفّ ولا يقف. ففكّرت كم يضيع بيننا من الآداب التي لو دوّناها كما دوّن المتقدمون لكانت لنا منها ثروة هائلة، وحسبك أن ما رواه صاحبنا تلك الليلة وارتجله يملأ كتاباً. حتى إذا انطفأ مصباح الكون وغابت الشمس ووجب حقّ الله علينا قمنا إلى الصلاة، فأذّن مؤذّن منّا، فلم نفرغ من الصلاة حتى أذّن مؤذّن آخر أنْ حيّ على الطعام. ولمّا فرغنا وامتلأت بطوننا حسبت المجلس سينفضّ وأن القوم قد طعموا فلا بد أن ينتشروا، فإذا المجلس يبدأ، وإذا الشيخ سعدي (رحمه الله ورحم كلّ من ذكرت، فقد مضوا جميعا للقاء ربهم)، إذا هو يقدّم المقدّمات

ويتحدّث عن الغناء والطرب، فما ظننت إلاّ أنه سيغني. ولقد سمعتُه حين أذّن فسمعت صوتاً حلواً ورنّة عذبة، ولكني وجدته يشير إلى شابّ ما فتح منذ الليلة فمه، ولا تكلّم بكلمة، فظننتُه يمزح! غير أنه بالغ في إطراء الشابّ، وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمئنّ إلى حكمه وارتضى فهمه. وما لبث الشابّ أن غنّى وبدأ بـ «يا ليل» بصوت ناعم حلو فأطربني صوته وأعجبَتني نغمته، ولم أَعِبْ عليه إلاّ خُفوته ونعومته، فطربتُ. وأنا رجل طَروب، فقال لي القوم: انتظر، إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، وإذا له صوت قوي ضخم ولكنه واطئ كقرار محمد عبد الوهاب، وإن كانت له قوّة صوت صالح عبد الحيّ أو الشيخ صبحي الإمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً والصوت لا يزال على قوّته ورجولته، فبالغت في الإعجاب فقالوا: انتظر، إن بعد هذا لشيئاً. فسكتّ أنتظر، وما أظنّ أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشابّ (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا له صوت صبيّ برقّته وحدّته وصفائه، وتركَنا في هذا الأفق العالي وهبط بصوته، بآهة من آهاته، إلى القرار. ثم تهاوت آهته واختفَت، حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننّا إلاّ أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة والذِّكَر الكامنة لا يعلمها إلاّ الله. وكانت لحظة صمت أدركت فيها ما تفعل الموسيقى بألباب السامعين. ثم تنبّه القوم فزُلزِل المكان بالتصفيق والهتاف.

ثم عاد ينادي هذا الليل الأصمّ: «يا ليل يا ليل»، والليل يُصغي ويطرب ولكنه لا ينطق فيجيب. كم ذا يهتفون باسمك وأنت صامت! يا ليل: يا ملجأ البائسين، يا سمير العاشقين، ياحبيب المتعبّد الناسك، يا عدوّ المريض المتألّم الحزين. يا ليل يا ليل، كم يُخفي ظلامك من مشاهد البؤس ومظاهر النعيم! يا ليل: كم تضمّ أحشاؤك من آلام وآمال، كم تشهد من أفراح وأتراح، كم يتمنّى لقاءك السعيد الجذلان وكم يرقب فجرك ضائقٌ حَزنان! كم بين جوانحك من ساهر يراقب النجم، يرقب حبيباً لن يعود أبداً، أو يناجي ميتاً لا يسمع، أو يحنو على مريض لا يشفى، أو يشكو والحياة لا تسمع شَكاته! يا ليل، يا رمز السرمدية، يا حليف المسرّات، يا قرين الآلام. امتلأَت نفسي شجناً، وأحيَت هذه الليالي ذكريات الليالي الخاليات، وملك نفسي شعور أعهده منها كلّما سمعت الصَّبا. يالسحر الصَّبا (أي مقام الصَّبا)! ومضى الشابّ يقلّب الأنغام فيتلاعب بالقلوب والمشاعر، ثم كرّ كرّة فجاء بنغمة متقطّعة مرقِّصة وأتى بـ «دور» يُترع النفوس فرحاً، واضطُرّ القوم كلهم أن يردّدوا كلمات منه بصوت منخفض يخالطه صوته الرقيق العالي فيكون منه اتّساق (آرموني) موسيقي عجيب. وعاد المرح إلى المجلس، فعلمت أن موسيقانا ليست كلها بكاء وألماً ولكن فيها المرقّص المُطرِب. وكان الشيخ سعدي لا يدّخر سكتة بين نغمتين إلاّ أحكم المرمى وقذف بنكتة من نكته التي لا ينفد معينها، وزلزل المجلس بأهله من الضحك، حتى لقد حسبتُ الدنيا تضحك معنا. ثم

حطّ الغناء على أنشودتنا الشعبية الخالدة «الميجَنا»، تلك التي تصوّر بمعانيها النفس الشامية وتمثّل بصورها طبيعة بلادنا وجمال ديارنا، وهي رمز عبقريتنا الشعبية ومجال الابتكار ومحكّ القريحة، فهي تُرتجَل أبداً ارتجالاً، وتُعقد لها المجالس ويقوم الشاعران يتقارضان المديح والهجاء، وأهلُ المجلس يردّدون اللازمة «الميجنا»، أنشودتنا الأزلية التي لا يعلم أحدٌ مَن نظم أول مقطع منها ولا متى يُنظَم آخر مقطع. ثم أخذنا في الأغاني البلدية: «هيهات يا بو الزُّلوف»: مِنْ هُونْ لأرضِ الدّيرْ والسّرِّ اللّي بينّا: إيشْ وَصّلو للغير؟ وِانْ كانْ ما في وَرَق، لاكْتُبْ عَ جْناحِ الطّيرْ وِانْ كانْ ما في حِبِرْ، بِدْمُوعْ عينَيّا تلك الأغاني التي وُلدَت في أودية الشام ولبنان المختبئة في سرّ الغيب، لا يعلم بها إلاّ أهلوها والله العالِم بكلّ شيء، وذراه التي لا يسكنها إلاّ أهلوها والنسور. فيا أيها المصطافون: بالله عليكم لا تقفوا عند صوفر وبْحَمْدون وبْلودان، بل تغلغلوا إذا أردتم أن تشاهدوا الجمال، جمال الفطرة، واهبطوا أودية وارتقوا ذُرى، واركبوا الدوابّ وسيروا على الأقدام. ولكن لا أيها المصطافون، انسوا ما قلت لكم ودَعوا الجبل على فطرته، اتركوه ليعيش على جهله الفاضل وفقره السعيد، لا تحملوا إليه الحضارة التي أفسدَت بلودان وصوفر وبحمدون.

هذه الحضارة. وويل لنا من هذه الحضارة! لقد سلبَتنا كلّ شيء فهل تسلبنا موسيقانا؟ إنا لا نجد ساعة الضيق إلاّ أغانينا وأنغامنا، نصبّ فيها آلامنا ونستوحيها آمالنا ونمسح بها دموعنا. أفتريدون ألاّ يبقى لنا وَزَر نلجأ إليه ساعة الضيق؟ أعني من الدنيا. أما الملجأ الحقّ والوزَر الآمن ففي رجوع القلب إلى الله، الذي لا يُلجَأ إلى سواه. وضرب الشابّ في كلّ فنّ من الغناء، ثم غنّى في أبيات أبيصخر الهُذَلي: عجِبتُ لسعْيِ الدّهرِ بيني وبينَها ... فلما انقضى ما بينَنا سكَنَ الدهرُ فيا حُبَّها: زدني جَوىً كُلَّ ليلَةٍ ... ويا سَلْوةَ الأيامِ موعدُكِ الحشرُ ويا هجرَ ليلى قدْ بلَغتَ بيَ المدى ... وزدتَ على ما ليسَ يبلُغُه الهجرُ أما والذي أبكى وأضحَكَ والذي ... أمات وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ لقدْ تركَتني أحسُدُ الوحشَ أن أرى ... أليفَين منها لا يروعُهما النَّفْرُ فنقلني إلى مجالس الخلفاء التي صوّرها أبو الفرج، ونال مني الطرب فعرفت أن لقد كان حقاً ما ذكره الأصفهاني، وأنّ المرء قد يمزّق ثوبه من الطرب أو يحرق لحيته بالسراج! * * *

هذا ما وجدتُه مكتوباً عندي من القديم، أفأنشره أصف فيه جمال تلك البقاع وما وهبها الله من السحر الذي جعلها به جنّة في الدنيا، والقنابل الآن تحرق دورها وتقتل أشجارها، والنار تسري فيها؟ نار الحرب الأهلية بيننا: يقتّلُ بعضُنا بعضاً ويمشي ... أواخرُنا على هامِ الأَوالي ما الذي حلّ بنا حتى صرنا إن ذكرنا جنّات بلادنا وما كان فيها من النعيم عرضَت لنا دونها صورة الموت، صورة الدمار؟ أفنصنع بأنفسنا ما عجز أعداؤنا عن صنيعه بنا؟ ماذا يقول الناس عنّا عندما يقرؤون بعد مئة سنة هذه الصفحة من تاريخنا؟ متى نعود إلى رشدنا؟ متى نصحو من غفلتنا؟ متى نتنبّه إلى العدوّ الذي يبثّ سُمّه فينا ويمدّ يده القذرة ليفرّق جمعنا ويصرفنا عن غايتنا؟ أيجوز أن نوجّه مدافعنا إلى صدورنا، وعدوُّنا الغاصب لأرضنا المعتدي علينا ينظر إلينا ويضحك من أفعالنا؟ لقد ترددت والله أن أعرض هذه الصفحة التي وجدتها، والتي أصف فيها مجلس طرب وغناء، وما في الأخبار التي نسمعها كلّ يوم من الإذاعات والتي نقرؤها في الصحف ما يسرّ؛ ما فيها إلاّ ما يُبكي ويؤلم. فمتى ننتبّه؟ نسأل الله أن يعيدنا إلى رشدنا، وأن ينبّهنا من غفلتنا، وأن يعرّفنا عدوّنا حتى نوجّه إليه وحده قوّتنا. إن اللسان ليعجز وإن القلم ليكلّ عن وصف ما نحن فيه اليوم، والمشتكى إلى الله. * * *

في الطريق إلى بغداد

-94 - في الطريق إلى بغداد عرفتم أنني صحوت على الدنيا في بداية المدرسة الابتدائية حين انطلق شيطان الحرب يثير أبالسة الجحيم ليُفسِدوا الأرض ومَن عليها، فحملوا حمم جهنّم فوضعوها في أيدي أبناء آدم ليقتل بعضهم بعضاً، فدمّروا المدن وقتلوا الناس، وفعلوا ما تعجز عنه الشياطين. ثم خفق ملَك السلام خفقة بجناحَيه فولّت الأبالسة تختبئ في أودية الجحيم، وتيقّظ الناس مثلما يستيقظ الإنسان من الحلم المرعب. ونظروا، فإذا البساتين أكوام من الحطب، وإذا المصانع تلال من التراب، وإذا المدن العامرة مقابر موحشة؛ فهبّوا يدفنون مَن مات، ويبنون ما اندثر، ويغرسون الأشجار. فلما أخذت الأرض زخرفها وازّينَت، وجاء أهلوها ليقطفوا الثمر ويجمعوا الزهر، وشبّ الأطفال واكتهل الرجال، أفْلتَ الشيطان مرّة ثانية من سجنه وقال للشباب: هلمّوا إلى الموت، وللأطفال والأمهات: ذوقوا اليُتْم والثكل، وقال لصرح الحضارة: انهدم، وقال للحقّ: انهزم. وكان اسم الشيطان هذه المرّة هتلر.

لذلك أمضيت زهرة شبابي بين حربَين. على أنها في الواقع ثلاث؛ ذلك أني كنت في حرب مع نفسي التي حملتُها على الحقّ ورُضتها على اتّباع الصراط المستقيم، فوجدت الحقّ لا يعيش في هذه الحياة إلاّ خاضعاً للقوّة، ووجدت طرق الحياة كلها عوجاء ملتوية، فمن لم يَدُر معها مات في مكانه. وكنت في حرب مع الحياة لأن لها «علوماً» غير هذه العلوم التي تعلّمناها في المدارس وحسبناها كلّ شيء، فمن علومها علم النفاق، وعلم الكذب، وعلم الرياء ... فمن جهل علومها لم تنفعه فيها علوم الكتب ولو أحاط بها وكان قطبها وإمامها. فكنت أكلّم الناس بلسان لا يفهمه أكثرهم، كنت أقول كلمة الحقّ مهما كانت نتائجها. كنت أقول للحمار «حمار» لا أقول إنه غزال بأُذنَين طويلتين. أهجم على الرئيس القوي في سلطانه حين يتزلّف الناس إليه ويُحنون الرؤوس بين يديه، فإذا زال عنه السلطان وانفضّ مِن حوله إخوان آخر الزمان، كنت أنا الذي يذكر ما عرف عنه من خير، وكنت أنا الذي يدافع عنه وإن لم يكن نالني منه خير (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من أول هذه الحلقة إلى هنا مقتبَس من مقدمة كتاب «في بلاد العرب» (بتغيير طفيف)، وهو من الكتب القديمة التي نشرها علي الطنطاوي في وقت مبكر (سنة 1939) ولم يُعِد نشره قط. وهذا الكتاب مفقود، غير أنني وُفّقت في العثور -بين أوراق جدي رحمه الله- على قسم منه يضمّ نحو سبعين صفحة من أوله، وعلى الصفحة الأولى منها اسمه الكامل: «في بلاد العرب: الشام والحجاز والعراق»، ومن=

أستاذنا شفيق جبري، شاعر الشام، كان رئيس ديوان المعارف، وكانت وظيفته تعدل وكيل الوزارة. كان أمر الوزارة كلّه إليه، وكان مع ذلك مدير كلّية الآداب؛ فهو رئيسي مرتين: رئيسي في الوظيفة لأني معلّم، وفي الكلّية لأني طالب. وقد عرفتم (ممّا سبق من هذه الذكريات) أنّي أقمت الدنيا عليه لمّا أراد أن يجعل الأدب أُلهيّة ودعا إلى ذلك في كتابه، فخطبت أردّ عليه وكتبتُ، وكتبتُ ونشرت رسالة طُبعت ووُزّعت على الناس، وقلّبته من قلمي على مثل جمر الغَضى. ويعلم إخوانه أني سوّدت أيامه وبيّضت بالأرق لياليه. ثم مالَ الميزان ودار الزمان، وجاؤونا بدكتور من حلب اسمه «ك. أ.» فسلّموه وزارة المعارف وجعلوه الحاكم المطلَق فيها ونحّوا الأستاذ الشاعر شفيق جبري. وكان هذا الدكتور ذكياً بالغ الذكاء قوياً شديد القوّة، يكتم ما بنفسه، يبتسم في وجهك وقلبه يغلي بالغضب عليك، يتربّص بخصمه هادئاً هدوء النمر أو هدوء القط (والقطّ نمر صغير) وعينه على الفريسة، فإذا واتته الفرصة وثب وثبة واحدة.

_ = مقدمته نفهم أنه يضم مجموعة من المقالات التي كتبها المؤلف في السنوات القليلة التي سبقت صدور الكتاب في أثناء تنقله بين هذه البلاد. ويحوي القسم الذي وجدته من الكتاب سبعَ مقالات كُتبت في الشام، وأكثرها مما نُشر لاحقاً في كتاب «من حديث النفس» الذي صدر بعد صدور هذا الكتاب بعشرين سنة. وأحسب أن سائر مقالات الكتاب قد ضمّتها كتبُ الشيخ الأخرى، ولعل هذا هو السبب في عدم طباعته من بعد (مجاهد).

وتحوّل إليه مَن كان يحفّ بجبري والتفّوا حوله ونسوا رئيسهم بالأمس. لمّا كان ذلك أعلنت أنا وحدي الحرب عليه وعليهم، وما معي من سلاح إلاّ هذه الأداة الصغيرة: القلم، وهذه القطعة من اللحم: اللسان. فكتبت مقالة صريحة وضعت في أعلاها كلمة ابن هبيرة: «ما رأيت أكرم من الفرزدق: هجاني أميراً ومدحني معزولاً». واستحييت أن أقول «أكرم» فكتبتها: ما رأيت كالفرزدق. ذكرت في هذه المقالة مزايا جبري وأدبه ووطنيته، وأنه لم يقُل كلمة في شعره ونثره فيها تزلّف إلى الفرنسيين أو مسايرة لهم. وذكرت في هذه المقالة ما شاع عن هذا الدكتور الجديد «ك. أ.» من أخباره مع المعلّمات ومن تشجيعه الفاسدين المفسدين. وكانت مقالة حروفها مسنونة كحدّ السكين وكلماتها حامية حمراء كالحديد خارجاً من الكير، وكان لها أثر في الناس عجيب، وتخاطَفَ الجريدةَ (جريدة «ألف باء» التي كنت أكتب فيها) المعلّمون والمعلمات، من كان مع الدكتور ومن كان عليه، فصار عدد الجريدة يُطلَب بعد ساعات معدودات فلا يوصَل إليه ولو بُذل فيه خمس ليرات وثمنه في الأصل خمس هلالات (هللات). وكانت الماسونية فاشية في وزارة المعارف، وكانت هي باب الترقّي في الوظيفة وطريق الحظوة عند الحُكّام، ومَن لم يكن مؤمناً بها تظاهر بأنه معها أو سكت عنها. فأعلنت وحدي الحرب عليها وعلى أهلها. ولم أكُن أقول كلمتي همساً؛ ما فعلت ذلك

في حياتي قط، بل كنت أبيّن الذي أعتقده جهراً من فوق المنابر أو علناً على صفحات الجرائد. فكثر أعدائي، ولم تكن القوى متكافئة فما عندي إلاّ لسان وقلم، وماذا يصنع القلم واللسان أمام الكثرة والقوّة والمال والسلطان؟ وما كان لي مورد إلاّ هذا الراتب (وهو ستّ وثلاثون ليرة سورية في الشهر) أعيش به أنا وإخوتي. وأباني المديرون، فلم يعد واحدٌ منهم يقبل أن أكون معلّماً عنده (ولكنه لا يجاهرني خوفاً مني؛ لا تعجبوا، فلقد كان الناس -من قديم- يخشون الشعراء) اللهمّ إلاّ الأستاذ عبد الغني الباجقني، ولي في مدرسته حديث ربما عدت إليه. وكان لي مع ذلك أنصار، أُشير إليهم وسأعود للحديث عنهم: جمعية الهداية الإسلامية ومَن فيها من العلماء والتجّار، وجماعة من الوجهاء ممّن لهم في البلد منزلة مرفوعة وكلمة مسموعة، وطائفة من الشبّان بقوا معي ما فارقوني بعد أن فارقت أنا لجنة الطلبة (اتحاد الطلبة) ولم أعُد رئيسها، منهم سعيد الجزائري الذي صار ضابطاً كبيراً وكان له دور بارز لا أعرف تفصيله في القضاء على حسني الزعيم، ثم ذهب شهيداً في برلين. وأنور العش. وصبحي النبهان، التاجر الكبير المكافح الذي توالت عليه النكبات، وكلّما أصابته نكبة عاد يبدأ من جديد، احترق مخزنه في العَصرونية لمّا ضُرِبَت دمشق بالقنابل سنة 1940 وكان في صندوقه مئة ألف. تصوّروا كم تعدل اليوم؟ وذهب من سنتين صاروخ بمعرضه الفخم في بيروت فذهب معه عشرة ملايين ليرة لبنانية. ولا يزال مع ذلك مكافحاً عاملاً، والله يوفّق كلّ عامل.

وإسماعيل قولي الذي صار قاضياً كبيراً وصهراً لأستاذنا الفقيه الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين رحمهما الله. وكلّ من هؤلاء يستحقّ كلاماً مفصّلاً. * * * ضاقت بي الحال ولم أعُد أُطيق الاحتمال. في وسط هذا الضيق جاء الفرج على يد الشيخ بهجة الأثري حفظه الله، فدعاني إلى العمل في العراق. وأُقيمَت لنا (أنا ومن ذهبت معه: أنور العطّار وأحمد مظهر العظمة وصالح عقيل رحمهم الله، وكامل عيّاد وجماعة نسيت أسماءهم) أُقيمت لنا حفلات الوداع؛ حفلة أقامتها لنا أسرة التعليم، وحفلة أقامتها لي ولبعض إخواننا هؤلاء جمعية الهداية الإسلامية، وحفلة أقامتها جمعية التمدّن الإسلامي لرئيسها أحمد مظهر العظمة، وحفلة المدرسة التجارية التي يديرها أستاذي وتلميذ أبي الشيخ محمود العقّاد. وأُلقيت في كلّ حفلة منها خُطَب وقصائد، وكانت سوقاً أدبية ومجالاً لنقد وزارة المعارف وبيان عيوبها وطرق إصلاحها، وكنت أتكلم في كلّ حفلة كلاماً صريحاً قوياً لا يزال من إخواننا من يذكره. وممّن أكرمني يومئذ من إخواننا الشيخ عبد القادر العاني رحمه الله، الذي كان يعدّني مثل ولده، وما له من ولد، والذي وجدت من حُبّه لي وعطفه عليّ واهتمامه بأمري ما لا يجده ولد من والده. وإخواني الشيخ ياسين عرفة والشيخ كامل القصّار، وشيخهما وشيخي (وإن لم أقرأ عليه) الشيخ محمود ياسين،

والشيخ محمود الحفّار، والرجل النبيل نقيب الأشراف السيد سعيد حمزة، وكثيرون إن لم أذكر الآن أسماءهم فما نسيت أفضالهم. وتوجّهنا إلى بغداد. ولم يكن بين دمشق وبغداد خطّ طائرات مدنية ولا عُرِف يومئذ السفر بالطيارة إلاّ للعسكريين وفي حالات نادرة. ولم يكن بين دمشق وبغداد طريق على الأرض ممهَّد معبَّد، بل كان بينهما خطّ للسير اكتشفَته شركة «نيرن» التي كانت تسيّر سيارات فخمة ومريحة ولكنها غالية والأجرة فيها باهظة، فأُلّفت شركات وطنية سورية وعراقية تسيّر سيارات ليست كسيارات نيرن ولكنها توصلنا. وكنّا نمضي على الطريق أربعاً وعشرين ساعة، نخرج من دمشق إلى الضّمَير (¬1)، إلى أبي الشامات، ثم نسلك بادية الشام إلى الرّمادي (وهي الأنبار قديماً) فندخل سواد العراق. وما بين أبي الشامات والرمادي في البادية كلها إلاّ مركز للجوازات وللشرطة في الرُّطبة. وكانت السيارات تضلّ الطريق أحياناً، لا سيما في الليل، فتزيد ساعات السفر ومتاعب الركاب. * * * ¬

_ (¬1) قال المتنبي: لئنْ تركْنَ ضُمَيراً عن ميامِنِنا ... لَيَحدُثنَّ لمَنْ ودّعتُهمْ ألمُ

لما جاوزنا أبا الشامات (¬1) وأصحرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي فلم أجد إلا الصحراء الصامتة الرهيبة الموحِشة، ووجدت دمشق (التي أحببتها ولقيت فيها من يحبني، وألِفتها وتركت في كل بقعة منها قطعةً من حياتي وطائفةً من ذكرياتي) قد اختفت وراء الأفق وتضاءل «قاسِيونها» وصَغُرَ حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في حاشية السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق، فخفق قلبي خفقاناً شديداً: كأن القلبَ ليلةَ قيل يُغدَى ... بليلى العامريّةِ أو يُراحُ قَطاةٌ غرّها شَرَكٌ فباتَتْ ... تُعالِجُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ وخالطني حزن عميق وشعور مبهم أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً، شعورُ مَن يجد الموت ويبصره بعينه! ولِمَ لا؟ وهل الحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألف وترى الناس الذين تحب، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها أو نغمة تسمعها أو بقعة تحتلها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر ممّا يحيط به وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدُم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟ أوَليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده، وطعامه ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر هذه الحلقة منقولٌ بتصرف يسير من مقالة «من دمشق إلى بغداد» التي نشرها علي الطنطاوي سنة 1936، وهي في كتاب «بغداد» (مجاهد).

وشرابه، وجيئته وذهابه، وحياةٌ باطنة في أفكاره وذكرياته، وآماله وآلامه، وميوله وعواطفه؟ أوَليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى؛ فإذا انقطع المرء عن عادته وابتعد عن أهله وصحابته لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها إذا هي بُتَّت من أرضها وقُطعت من أصلها وفُصلت عن جذرها؟ وأحسب أن الله -جلّ وعزّ- ما قرن الموت بالإخراج من الديار وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله التاركين أوطانَهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضربٌ من ضروب الموت ولونٌ من ألوانه، فإن «تعددت الألوانُ فالموت واحدُ»! وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق وحُبّبت إليّ أضعافَ ما كنت أحبها، ومرت أمامي صور إخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي أُقيمت تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحقّ عليه التكريم، وأُفيضَ عليّ فيها من النعوت ما ليس فيّ ولا أستحقّ الأقلّ منه. وذكرت من دمشق كل حبيب إليّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبَيْتُ فلم أذهب ولم أتغرّب. وكانت الصحراء قد امتدّت من حولنا وأحدقت بنا وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، ورجعَت هذه السيارات الفخمة

التي كانت تملأ الشارع بطوله وعرضه وكانت تُعَدّ وهي في دمشق شيئاً عظيماً، رجعَت أهوَن على الصحراء من حبّة رمل، وضاعت في أرجائها فلم تَعُدْ تُعَدُّ شيئاً. وكان قد بلغ مني الحزن وحزَّتْ في نفسي لوعة الفراق، فأغمضت عينَيّ ورجعت إلى نفسي. * * * وكانت بيدي صورة لنخيل بغداد دُفعت إليّ قبل خروجي من دمشق، فكتبت على ظهرها كلمات ما أدري أهي شعر أم نثر، وما كان يومئذ (سنة 1936) هذا الشعر الحديث. ثم أتممت ما كتبت في بغداد وأرسلت الصورة إلى صديقي الأستاذ أحمد عبيد الشاعر، صاحب المكتبة العربية، ونسيتها. فلما زرت دمشق آخر مرّة من خمس سنين (سنة 1398هـ) قبل أن يُحال بيني وبينها، دفع إليّ هذه الصورة، ففرحت بها وشكرتُه. وعلى ظهر هذه الصورة كتبت: أنا ناءٍ عن إخوتي وبلادي ... أنا أشقى في غربتي وانفرادي أذكُرُ الشامَ في دجى بغدادِ ... فأُحِسُّ الحنينَ يَفري فؤادي ملَلتُ البقاءَ، وزادَ الجَوى ... بَرِمتُ الثَّواءَ وطولَ النَّوى فَلِمْ ذا الشقاءُ، وأينَ الهَوى؟ لماذا أتيتُ؟ تُراني جُنِنتُ؟ ... فماذا أصَبتُ وماذا أفَدتُ؟ لم أُفِدْ إلاّ البُكا والعويلْ ... لم أُصِبْ إلاّ الشقاءَ الطّويلْ أَما إِلى دارِ الهَوى مِن سَبِيلْ؟ ليسَ فيما ها هُنا شيءٌ جميلْ ... لا ضياءُ الشمسِ لا نورُ القمرْ

لا صفاءُ الليلِ لا سحرُ السّحَرْ لا اخضرارُ الرَّوْضِ لا سجعُ الحَمامْ لا أَرى في كلِّها إلاّ الظلامْ كتبت هذا الكلام في ساعة ضاق بها صدري وأظلمَت فيها نفسي، ولم أُصوّر فيها حقيقة، وإنما وصفت فيها شعوراً. وإذا كان بعض ما تنشره الصحف الآن من كلام ليس في ألفاظه جمال ولا تحتها معنى ولا لها وزن، إذ كان مثل ذلك الهذَر يدْعونه شعراً يكون كلامي هذا الذي قلته من خمسين سنة كاملة، يكون شعراً (¬1). * * * وطال مسيرنا في بادية الشام. ولست غريباً عن البوادي، فلقد عرفتها في رحلتنا تلك إلى الحجاز التي وصفت لكم جانباً منها، وما من ساعة في رحلة الحجاز إلاّ وهي أشدّ من سفرة بغداد، ولكن هذه البادية، بادية الشام، تختلف عن جزيرة العرب؛ ففي جزيرة العرب مناظر متباينة وأراضٍ مختلفة: فيها الجبل وفيها السهل، وفيها الوعر وفيها الرمل، وما في بادية الشام إلاّ شيء واحد لا يكاد يختلف أو يتغير: أرض منبسطة ترابية تمتدّ إلى الأفق كأنها بحر ليس فيه ماء. ¬

_ (¬1) هذه الأبيات موزونة كلها ولكنها من بحور متفاوتة؛ أول سطرين من البحر الخفيف، والسطور الثلاثة التالية من المتقارب، والسطر الذي بعدها من المَديد، والشطر الذي يليه من السريع، والسطور الأربعة الأخيرة من الرّمَل (مجاهد).

قرأنا وتحدّثنا لنقطع الصحراء بحديثنا وقراءتنا، فقطعَت الصحراءُ بصمتها وجلالها حديثَنا. وكنّا ننام ونفيق والصحراء هي هي، ونأكل حتى نشبع ثم نجوع فنأكل والصحراء هي هي، حتى قطعنا يوماً وليلة وكان صباح اليوم التالي. وللصباح في البادية جمال وروعة لا يكون مثلهما في المدن. وبدّدَت الشمسُ ظلمةَ الليل فتبدّدَت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن وانزاحت عني نوبة المرض. وهل العاطفة الرقيقة إلاّ مرض في الرجال؟ فصحوت ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم أُفارق بلدي. وهل بغداد التي أقصدها إلاّ داري وبلدي وفيها أهلي وإخوتي؟ إن لم تقرّر هذه الأخوّةَ الأنظمةُ والقوانينُ ولم تُسجَّل في الدساتير فلقد قرّرها الله وسجّلها في كتابه: {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ}. فإن فرّقَت بيننا شارات على الأرض وألوان على المصوَّر فقد جمع بيننا الدين (وكفى به جامعاً) واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي الطويل وأمل المستقبل الضخم وألم الحاضر العميق، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة. فأنّى نُنكر هذه الأُخوّة وشاهدها فينا ودمها في عروقنا؟ وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مئة صورة وفي ذاكرتي عنها ما لا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار؟ وبغداد كانت يوماً عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأُمّ الدنيا ومنزل المنصور والرشيد والمأمون:

فدىً لكِ يا بغدادُ كلُّ قبيلةٍ ... منَ الأرضِ (إلاّ) (¬1) خطّتي ودِياريا فقدْ طُفتُ في شرقِ البلادِ وغَربِها ... وسيّرتُ رَحْلي بينَها ورِكابيا فلَمْ أرَ فيها مثلَ بغدادَ منزلاً ... ولمْ أرَ فيها مثلَ دجلةَ واديا ولا مثلَ أهليها أرقَّ شَمائلاً ... وأعذبَ ألفاظاً وأحلى معانيا وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة في سيارة متينة، ونملّ من طولها ونحن نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلَّج، ونتعب ونحن مضطجعون على المقاعد الوثيرة ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا عشر ساعات لنستريح ونستردّ الروح. فأفكّر ... أفكّر في أجدادنا: أيّ ناس كانوا؟ وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لُجّة الرمل الملتهب، يلتحفون أشعّة الشمس المحرقة، يتبلّغون من الطعام بتمرة ويكتفون من الماء بجرعة، حتى إذا وصلوا لم يضطجعوا فيستريحوا بل قابلوا جيوشاً أوفر عدداً وعُدداً، وحاربوها وانتصروا عليها وفتحوا بلادها، فتحوها للنور وللحقّ وللعدل ولرحمة الله، ما فتحوها ليَغنموا أموالها ويستفيدوا من خيراتها. فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا! ولمّا كان ضُحى الغد بدا لنا نخيلُ العراق وأشرفْنا منه على مثل اللّيل؛ فعرفت لماذا سَمّى العربُ السوادَ سواداً (سواد العراق). وجعلت أتشوّق إلى بغداد وأعرض في ذاكرتي صورا ¬

_ (¬1) الذي قاله الشاعر هو: حَتّى خطّتِي.

منها، وأنتظر أن أرى بعينَيّ ما كنت قرأته عنها في الكتب. قال الخطيب في «تاريخ بغداد»: "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها وتميّز خواصّها وعوامها، وعظيم أقطارها وسعة أطرافها، وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالّها وأسواقها، وطِيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها وصحّة ربيعها وخريفها، وزيادة سكانها". وبعد، فها أنا ذا على جسر بغداد في نشوة من خمرة الذكرى. أذكر ما لا سبيل إلى تلخيصه وأحسّ ما لا طاقة لي على وصفه. وقد قال أبو الوليد، قال لي شعبة: أرأيت جسر بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم ترَ الدنيا. أمّا أنا فرأيت جسر بغداد ورأيت الدنيا. لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل أو الزمالك في مصر، ولا هو أجلّ وأضخم من الجسور التي عرفتها في البلاد التي رأيتها، ولكن لجسر بغداد سراً آخر يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ. هذا الذي جازه القُوّاد الفاتحون والفقهاء والمحدّثون والشعراء والماجنون. هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل بن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طاهر ويزيد ابن مزيد. وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوّة الجيش. وجرى من فوقه نهر التاريخ كما يجري من تحته نهر دجلة، وتداعت على جوانبه القرون. هذا الذي كان سُرّة الأرض: هذا جسر بغداد. * * *

التدريس في بغداد

-95 - التدريس في بغداد كنّا أنا وأنور العطّار نتحدّث ساعات عن أيامنا في بغداد؛ أبدأ أنا الكلام فيكمّل هو، ويتكلّم هو فأُتمّ أنا. عشنا حياة واحدة، كنّا دائماً معاً، فمن رآني رآه ومن رآه رآني، وكانوا يقولون: «علي وأنور» و «أنور وعلي»، وربما خلطوا فقالوا: علي العطّار وأنور الطنطاوي. هذا ما قلتُه في المقدمة التي كتبتها سنة 1948 لديوانه «ظلال الأيام». فأين اليوم أنور ليذكّرني بأخبار بغداد التي قعدت لأكتبها وليس أمامي مذكّرات أرجع إليها ولا رفيق كان معي يذكّرني بها؟ هنا افتقدت أنور: «وفي الليلةِ الظَّلْماء يُفتقَدُ البَدرُ». فأين أنور وأين مظهر، وأين إخواننا الذين كانوا معنا؟ وأين الأستاذ الأثري؟ لقد خبّروني أنه ذهب إلى رحمة الله فبثثت في هذه الذكريات بعض حبّي له وحزني عليه، فلما جاءت الحلقة الماضية مطبوعة وجدت فيها عند ذكر اسمه كلمة «حفظه الله» مكان «رحمه الله» التي كتبتها. وأنا لا أقبل من أحد -مهما كان السبب- أن يمدّ يده إلى ما كتبت فيزيد فيه أو ينقص منه أو يبدّل

فيه، ولكني غفرت لمن كتب هذا من فرحتي بحياته. غفرت له هذه المرّة فقط، وأرجو أن تتحقّق هذه الفرحة وأن أتلقّى نبأ حياته مدّ الله له فيها مع الصحّة والسعادة، وإن تكن الأخرى -لا سمح الله- فغفر الله له وجزاه عنّا خيراً (¬1). * * * أول ما يهمّ القادم إلى بلد أن يجد منزلاً ينزل فيه، فوجدنا فندقاً اسمه «فندق دجلة». وما كان في بغداد ما هو أفضل منه إلاّ فندقان أجنبيان، أحدهما اسمه فندق «دجلة» لكن بالإنكليزي «هوتيل تيغرس» (وهذا اسم دجلة في لسانهم) والثاني «هوتيل مود». وكان في بغداد جسران: الجسر العتيق وجسر مود، وهو جنرال إنكليزي كان له في بغداد تمثال. ويقوم فندقنا الذي نزلنا فيه على طرف الجسر الشرقي، أي من جهة الرصافة، فكنت أراه من شرفة الفندق ضيّقاً ممتداً لا ¬

_ (¬1) تعقيب من تحرير الجريدة: كان أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي، صاحب هذه الذكريات، تحدّث عن الأستاذ بهجة الأثري حديث التقدير في حلقة سابقة، ثم عاد إلى الحديث عنه مرّة أخرى في الحلقة الماضية. وقد وردَنا بين الحلقتين رسالة من الأستاذ أكرم زعيتر يقول فيها إن العلاّمة بهجة الأثري "لا يزال حياً يخدم لغته وآدابها، وقد حضر أخيراً اجتماع المجامع اللغوية في القاهرة وألقى فيه إحدى روائعه الشعرية". ولما لم يكن الوقت الباقي على النشر يسمح بالاتصال بفضيلة الأستاذ الطنطاوي فقد غيّرنا العبارة إلى ما نعتقد أنه يوافق عليه. قلت: قد وافقت وسُررت.

يتّسع إلاّ لسيارة واحدة، إن دخلته السيارات من هنا مُنع دخولها من هناك وإن دخلت من هناك مُنع دخولها من هنا. وكان يخفق دائماً خفقان قلب المُحِبّ إذا رأى المحبوب، فإن مشى عليه رجل ثقيل اضطرب غضباً، وإن سارت عليه الحِسان الفواتن اهتزّ طرباً، وإن عدَت عليه السيارات رقص بهجة وعجباً أو غيظاً وغضباً، لا يهدأ ولا يستقرّ. وما يهمّ المسافر بعد الفنادق هو وسائل النقل. وقد قلت لكم إنه لم يكن في بغداد إلاّ شارع واحد هو شارع الرشيد، وأحسب أن طوله بين الكيلين والثلاثة الأكيال، ربما كان قريباً من ذلك فلم أقِسه ولم أتحقّق من طوله. وكانت فيه عربات الخيل تسير النهار كله لا تقف، ولا تستطيع أن تقف، ولا تتعب خيولها لأنها لا تمشي مشياً ولكن تزحف زحفاً، وربما وصل الماشي في بعض ساعات النهار إلى آخر الشارع وعاد وهي لا تزال في نصف الطريق! ومع هذه العربات باصاتٌ كأنها صناديق العنب يزدحم فيها الناس كالسردين في العُلَب، يجلسون على مقاعد من الخشب والسقفُ دانٍ قريب، من وقف خبط رأسه ومن كان طويلاً اضطُرّ أن يقعد منحنياً لئلاّ يمسّ رأسه السقف. بتّ تلك الليلة كالذي يبيت على فراش الشوك، لا أستقرّ ولا أستغرق في المنام، لأني قادم على حياة جديدة في بلد جديد. أنام ساعتين ثم أقوم فأنظر في الساعة لأرى كم بقي دون الصباح، حتى إذا دخل وقت الفجر قمت فتوضّأت وصلّيت، وقعدت في الشرفة أرى بواكير أشعة الشمس وهي تغتسل في ماء دجلة، والزوارق بأجنحتها البيض تمخر عبابه، وبيوت الشط

الثاني، بيوت الكرخ، تسبح ظلالها في مائه. وأفطرت وتوجهنا جميعاً إلى المدرسة الثانوية المركزية. * * * كانت الثانوية المركزية على دجلة بين مجلس النوّاب ورياسة مجلس الوزراء، وكان أول ما أدهشني أني وجدت فيها نحواً من أربعين مدرّساً من كل بلد ومن كل أمّة. تجمّعَ «فيها» كلُّ لِسْنٍ وأمّةٍ ... فما يفهمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ كان فيهم العراقي والسوري والفلسطيني، فيهم العربي وغير العربي، فيهم الإنكليزي والفرنسي والألماني، فيهم الشيخ وفيهم الخوري ... وأدهشني أن أكثرهم من الشبّان أو ممّن كانوا في أوائل الكهولة، وعهدي بالأساتذة عندنا من الشيوخ أو الكهول، وأول شابّ جاءنا في الشام فدرّسَنا (أول عهده بالتدريس وآخر عهدنا بالدراسة) هو جميل صليبا، وبعده هاشم الفصيح. وكان من أعجب أساتذة الثانوية المركزية الدكتور يوسف مَسكوني، وهو من تلاميذ أنستاس الكرملي؛ له اختصاصات متعدّدة في علوم متعدّدة تتداخل في ذهنه، فربما سُئِل عن مسألة في اللغة فأجاب من الفلسفة، أو مسألة من الأدب فأجاب من الجغرافيا! وكان معنا مدرّس فلسطيني يدرّس اللغة الإنكليزية، ولكنه خفيف الروح صاحب نكتة، له غرائب منها أنه يركب الحافلة المزدحمة فيُخلي الناس المقعد كله له، فيقعد وحده مكان اثنين

والناس مزدحمون على المقاعد أو هم وقوف، يمنعهم أن يقعدوا معه. ذلك أنه يجعل جسده كله يختلج فجأة وتصطكّ أسنانه، ويُخرِج من حلقه أصواتاً مبهَمة عجيبة وتهتزّ أطرافه، ويجيء ذلك كله في لحظة واحدة، يعود بعدها ساكناً كما كان قبلها ساكناً، فيحسبه الناس مجنوناً أو مصروعاً فيبتعدون عنه، وبذلك يخلو له المكان! وكان عندنا مدرّس إنكليزي أذكر أن اسمه ماكدونالد، وإذا كان في الإنكليز برودة كما يُقال فهذا أبرد الإنكليز؛ ما عرفت ولا سمعت بأبرد منه. لا يكلّم أحداً ولا يسلّم على أحد ولا يردّ السلام على أحد. وكانت تأتي بين الدروس أحياناً ساعات ليس للمدرّس فيها عمل، فينتظر الساعة التي بعدها ليلقي درسه. فاتفق أن هذا المدرّس الفلسطيني اجتمع في ساعة فراغ بماكدونالد، ولم يكن في غرفة المدرّسين من المدرّسين الأربعين غيرهما، فقال له صاحبنا: «غود مورنينغ»، فما ردّ. فسكت قليلاً ثم كلّمه، فما أجاب. فأخذ صاحبنا جريدة فجعل يقرؤها أو يتظاهر بقراءتها، ثم جاء بحركته تلك، ففزع الإنكليزي وابتعد عنه وقعد يسترق النظر إليه، فرآه قد عاد ساكناً كما كان، فتعجّب منه. ثم جاء بها المرّة الثانية فلم يعُد الإنكليزي يستطيع البقاء، وخرج من الغرفة فذهب إلى المدير. وكان المدير رجلاً عربياً بغدادياً طيّباً سليم الفطرة لا يعرف من الإنكليزية شيئاً، وكانت غرفته مستطيلة يصعد إليها بدرجات قصار ولها شرفة واسعة تطلّ على ساحة المدرسة. فلما دخل

عليه يكلّمه بالإنكليزية ما فهم عنه، فلما أطال المقال وجعل يشير بيديه استدعى المدير الفرّاش وقال له: اذهب فأتِني بمدرّس إنكليزي ليفهم ما يقوله هذا. فذهب فلم يجد إلاّ صاحبنا المدرّس الفلسطيني، فجاء به، فلما رآه الإنكليزي داخلاً من الباب أراد الهروب فلم يجد مهرباً إلاّ من الشبّاك، فوثب منه إلى باحة المدرسة! وعجب المدير وسأل: ما شأنه؟ فقال له المدرّس الفلسطيني (واسمه الأستاذ علي العوري): إنه مجنون. فأيقن المدير بجنونه فكتب يطلب نقله، وتدخّلَت السفارة البريطانية في بغداد، وكانت مشكلة. وشهدنا في تلك السنة بعد وصولنا بنحو شهر واحد انقلاب الجنرال بكر صدقي على ياسين باشا الهاشمي، وكان أول انقلاب عسكري في بلاد العرب في هذا القرن. وكانت لياسين الهاشمي منزلة في نفوسنا منذ الصغر؛ ذلك أننا كنّا نحو سنة 1919 تلاميذ في المدرسة السلطانية الثانية في دمشق، وكانت أيام مهرجانات متّصلة ومظاهرات وأناشيد، فإذا نحن نُدعى يوماً إلى مظاهرة ليست كالمظاهرات، مظاهرة مشى فيها نصف أهل دمشق وكان يقود كلَّ جماعة رجلٌ ينادي: من تريدون؟ فكنّا نردّ بصوت واحد: نريد ياسين باشا. ولم أعرف يومئذ مَن هو ياسين باشا وما قصّته، ولكني سِرت مع السائرين وهتفت مع الهاتفين. وفهمت بعد ذلك أن ياسين باشا الهاشمي وقف في وجه الإنكليز، فاختطفوه في ليلة ما فيها قمر وأخذوه إلى حيث لا يدري أحد. فاستقرّ في نفسي أنه عظيم، ولما كبرت وعقلت لم أجد دافعاً للتحقّق من هذه العظمة ولم أتبيّن بالبحث

والدرس: هل يستحقّ هذا التعظيم أم لا؟ فلما كان الانقلاب عليه في بغداد أحسست في نفسي (من غير محاكمة ولا نظر) بكراهية هذا الانقلاب. وجدت الطلاب في ذلك اليوم يتداولون صباحاً قبل الدخول إلى الصف (أي الفصل) منشورات مطبوعة قالوا إن طيارات الجيش ألقتها في الغداة، فقرأت واحداً منها، وإذا فيه أن على الملك أن يُقيل الوزارة (وزارة ياسين الهاشمي) وأن يكلّف حكمة سليمان بتأليفها. ودخلنا الصف، وحاول الطلاب أن يتحدّثوا في أمر المنشورات فمنعتُهم. وأذكر أني تمثّلت بقول الشاعر الذي لا أعرف من هو (¬1): ولست بسائلٍ ما عشت يوماً ... أسارَ المَلْكُ أمْ ركِبَ الأميرُ وأخذت في درسي كأن لم يكن شيء. وكانت المدرسة -كما قلت- بجوار مجلس الوزراء، فما مضى من الدرس (أي الحصّة) إلاّ قليل حتى أحسسنا رجّة هزّت الأرض، فاضطرب التلاميذ وهمّوا بالانتفاض، ولكني ثبتّهم وعدت إلى درسي. ¬

_ (¬1) لعل البيت من أبيات للخليل بن أحمد الفراهيدي يقول فيها: أنِستُ بوَحدَتي ولَزِمتُ بَيتي ... فَطابَ الأُنسُ لي وَنَما السُّرورُ وأدّبَني الزّمانُ فلا أُبالي ... هُجِرتُ فلا أُزارُ ولا أَزورُ ولستُ بِسائلٍ ما دُمتُ حَيّاً ... أَسارَ الجَيشُ أم رَكِبَ الأَميرُ (مجاهد).

فكانت الرجّة الثانية، وأعقبتها الثالثة والرابعة، فتطاير التلاميذ من الباب ومن النوافذ ولم يبقَ في الصف أحد. وكانت تلك هي القنابل الأربع التي أُلقِيَت على مجلس الوزراء. خَلَت المدرسة ولم يبقَ فيها إلاّ أفراد قلائل. ولم أدرِ أين أذهب فوقفتُ، وكان معي أنور العطّار ومدرّس ألماني لا أفهم عنه ولا يفهم عني، وتبيّن أن الجيش قد توجّه إلى بَعْقوبة أو إلى غيرها (فلست أذكر الآن لبُعد العهد، ولأنني كنت أرى الحادث من ظاهره لم أتعمّق في معرفة بواطنه وأسبابه). كان الجيش بعيداً بحجّة التدريبات (المناورات) السنوية، ولم يبقَ في بغداد إلاّ الشرطة، فتوجّه الجيش على بغداد مهاجماً، وأُشيعَ أن هذا الانقلاب بالاتفاق مع الملك غازي للتخلّص من ياسين باشا، لأنه كان يعامله معاملة فتى صغير لا المعاملة التي تنبغي لملك كبير. ولم يفتّ ذلك في عضد ياسين باشا وقرّر الدفاع عن بغداد كما سمعنا، وبعث جعفر باشا العسكري (وكان محبوباً في الجيش) ليردّه بالحسنى، فواجه مقدّمة الجيش وحاول إقناعهم. وكان مزّاحاً يميل إلى الدعابة، فما أفلحت دعابته وقالوا له: انتبه يا باشا، فإن معنا أمراً بقتل كلّ مَن يعترضنا. فشتمهم شتمة مداعبة ومباسطة، فانتهى الأمر بأن قُتل وسار الجيش. عندئذ يئس ياسين باشا وفرّ، وبدأت وزارة حكمة سليمان في ظلال الحكم العسكري الذي أقامه الجنرال بكر صدقي. وكان حكمة سليمان أخاً لمحمود شوكة باشا الذي تولّى عزل السلطان

ومهّد لحكم الاتحاديين، وكنّا نمرّ في الصّليخ فلا نجد فيها كلها إلاّ بيتين للقريبَين المتعاديَين: حكمة سليمان ورشيد عالي الكيلاني. * * * كان في الثانوية المركزية التي دُعيت للتدريس فيها وأخذت مكان الأستاذ الشيخ بهجة الأثري (ولم أعُد أدري هل أقول رحمه الله أم أقول حفظه الله، وأرجو أن يكون حياً وأن يكون بخير)، كان في المدرسة أكثر من ألف طالب. هذا العدد الكبير من الطلاب كان يحرّكهم جميعاً مراقب واحد، فلا يجد منهم مَن يخرج مِن النظام (النظام في اللغة هو خيط العقد) أو يضطرّه إلى تأنيب أو عقاب، ولو كان مثلهم يومئذ في مدرسة من مدارس الشام لاحتاجوا إلى فرقة كاملة من المراقبين؛ ذلك لأن تلاميذ بغداد عُوِّدوا الطاعة من طريق الفتوّة والتدريب شبه العسكري فصاروا يُطيعون من غير ذُلّ، وكانوا أقوياء في غير عدوان. وكان يؤلّف بيني وبينهم الحبّ والتقدير؛ ما احتجت يوماً إلى عقاب تلميذ. أمّا الطلاب فأشهد أنهم من أحسن مَن رأيت من الطلاب: حرصاً على الفهم، ورغبة في العلم، وانضباطاً وتقديراً للمعلّم. على أن يحسّوا منه بأنه قوي في مادّته عادل في معاملته طبيعي في تصرفاته، وهذه هي الصفات الثلاث للمدرّس الناجح، ثم إن سُئِل عن شيء يعرفه أجاب وإن لم يكن يعرفه قال: لا أدري، فعلّمهم بذلك أخلاق العلماء كما يعلّمهم علم العلماء. وأن يكون جريئاً شجاعاً، وأن يكون كريماً لا يحرص على المال. والشجاعةُ والكرم هما رُكنا النباهة والسيادة عند العرب، وهما

مدار قصائد المدح عند الشعراء من قديم الأزمان. فإذا أحسّوا أن المدرّس الأجنبي عن العراق بخيل همّه جمع المال والعودة به إلى بلده، أو أنه جبان خَوّاف، أو أنه جاهل أو ظالم، فويل له منهم فإنهم لا يرحمون. أرأيتم الذي يملأ مستودعاته بالبضائع النفيسة والتحف القيّمة فلا يجد لها سوقاً إلاّ سوق القرية، ثم تنفتح له الأسواق الكبرى ويُقبِل عليه الشّارون ويزدحم عليه الناس؟ كذلك كنت لمّا ذهبت إلى العراق؛ كلّ ما حصّلته من المطالعات وما كدّسته في ذهني من المعلومات وما اختزنته من أفكار ومشاعر كان مسدوداً عليه الباب، لأنه لم يكن أمامي في الشام إلاّ تلاميذ الابتدائية الذين لا يصلح هذا لهم ولا يصلحون ليُلقى عليهم. فلما جئت بغداد ووجدت طلاّباً كباراً مدركين، يحبّون أن يتعلّموا ويستطيعون أن يَعوا ويفهموا، انطلقَت نفسي وأخرجَت ما كان فيها، فجئت بأشياء لا يجوز لي أنا أن أتحدّث عنها لأن المرء لا يمدح نفسه، فاسألوا عنها من بقي من تلاميذي في تلك الأيام. كنّا نقتسم الشُّعَب في صفّ الشهادة الثانوية أنا وأنور، أنا آخذ الشّعَب الأدبية وهو يأخذ الشُّعَب العلمية. كان درسه كالجدول الرقراق الصافي: ألفاظ منتقاة وجمل مرصوصة رصّ اللآلئ في العقد، وإلقاء حلو متمهّل كله أدب في أدب، ولكنه لا يكاد يجاوز «المقرَّر» على الطلاّب. ودرسي أنا كالنهر المتدفّق الفوّار، أخلط فيه الشرح الأدبي المبتكَر الجديد في كثير من الأحيان، أخلطه بالتاريخ وبالدين

وبالاستطرادات، كالذي تسمعونه منيّ الآن في الإذاعة وتشاهدونه وتسمعونه في الرائي فيستحسنه ناس ويستقبحه ناس. لكن الفرق بين الحالين: بين تدريسي في العراق من نحو خمسين سنة وبين أحاديثي في الإذاعة وفي الرائي الآن كما قال الأول: جاءَ الزمانَ بنوهُ في شبيبتِهِ ... فسَرَّهُمْ وأتيناهُ على الكِبَرِ والزمان لا يشبّ ولا يشيب، ولكن أنا الذي كان يومئذ كالنار المتوقّدة، وإن كانت تدفئ ولا تحرق وتضيء ولا تضرّ، إن أردتَ أن تُخمِدها لم تخمد، فما بقي عندي من ذلك الآن إلاّ جمرات بين الرماد، إن تركتها انطفأت على مهل وإن نفختها استمرّت ثم صارت شراراً وتحوّل الشرار رماداً. * * * كان الناس يزوروننا مرحّبين بنا، وهم كثيرون جداً لا أعرفهم، لكنهم عرفوني وعرفوا أنور عن طريق «الرسالة» وعن طريق الصحف التي قد تصل إليهم، فكانوا يشيرون إشارات ظاهرة حيناً وخفيّة أحياناً إلى أن مقامنا في الفندق غير مقبول. ولقد سمعت منهم وسمعت من غيرهم ذكر الأوتيلات مقرونة بذكر الملاهي والخمّارات، وأقمت بعد ذلك سنوات في بغداد فما عرفت ما هذه الأوتيلات التي يشيرون إليها. كلّ ما سمعتُه يومئذ أن في أول شارع الرشيد من جهة باب المعظّم ملهى تغنّي فيه قَينة (مغنّية) كان اسمها كما أظن سليمة باشا، وأن في طرف هذا الحيّ المبغى، أي مكان البغاء، وأن أحد الشاعرَين

الكبيرَين كان إذا وَرَدَ بغداد في آخر أيامه ينزل فيه. والله أعلم، فأنا لم أتوثّق ممّا سمعت ولا أُحب أن أتّهم الناس بلا دليل، وإن كنت قد سمعت ذلك مرّات وقرأته مرّات من أُناس يُستبعَد أن يُقْدموا على الكذب. ومن قبل لمّا كنت أشتغل سنة 1929 - 1930 في جريدة «فتى العرب» عند الأستاذ معروف الأرناؤوط وكنت أقوم بما يقوم به مدير التحرير الآن، كنت أفتح أنا البريد الوارد على الجريدة فكنت أجد قصائد فاجرة نجسة لهذا الشاعر الكبير، من جنس قصائد القبّاني. وكان الأستاذ معروف يميل لنشر بعضها لو استطاع، لكنني كنت أُمزّقها عند فتح البريد ولو أغضبه ذلك مني. وكان الشاعر الكبير الآخر (¬1) ينظم أشعاراً ينكرها الدين، أفليس عجيباً أن أحدهما أنهى حياته وهو شاعر الفسوق والعصيان باسم الفن، والثاني شاعر الكفر باسم الفلسفة؟ والعجيب أن كليهما كان يوماً شيخاً بعمامة بيضاء، حتى إن الشاعر الفيلسوف ألّف رسالة يردّ فيها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمذهب الوهابي! ولقد كتبت في «الرسالة» من تلك الأيام من أكثر من أربعين سنة أقول: إنه ليس في الدنيا مذهب اسمه المذهب الوهابي وإن الشيخ ابن عبد الوهاب كان حنبلياً مجتهداً في الأمور التي لا يسعه فيها إلاّ الاجتهاد لظهور الدليل. ولمّا مات الشاعر الفيلسوف ¬

_ (¬1) هذا الآخَر هو معروف الرُّصافي، أما الأول فهو جميل صدقي الزّهاوي (مجاهد).

أبى الرجل العالِم الصالح الجليل الشيخ أمجد أن يمشي في جنازته مع أنه عمّه، ومع أن الشاعر الكبير الآخر هو الذي يقول (كما أظن ولا أُحقّق): هيَ الأخلاقُ تَنبُت كالنّباتِ ... إذا سُقِيَتْ بماءِ المَكْرُماتِ ولكن الماء انقطع عن أخلاقه فصوّح نبتُها وجفّت أغضانها، وماتت فدُفنت في الأرض جذورُها. لمّا رأينا أن إقامتنا في الفندق لا تليق بنا -كما قالوا- استأجرنا داراً واسعة في الأعظمية قريبة من المسجد وسكنّاها نحن الخمسة: أنا وأنور والدكتور كامل عيّاد، أستاذ الفلسفة المعروف، والأستاذ صالح عقيل الذي صار وزيراً في يوم من الأيام، وقد ذهب إلى رحمة الله، والأستاذ علي حيدر الرّكابي أستاذ اللغة الإنكليزية، وهو ابن رضا باشا الركابي الذي بلغ في الجيش العثماني رتبة لم يبلغها عربي غيره والذي كان الحاكم العسكري في الشام أيام الشريف فيصل بن الحسين قبل ميسلون. وجئنا، أي جاء إخواننا لا أنا، بامرأة كبيرة في السنّ فارسية تطبخ وتنظّف. ومن أعجب ما كانت تُعِدّ لنا صباحاً البيض المقليّ بالسكّر بدلاً من الملح! وقد استنكرناه أولاً ثم استمرأناه، لأن البيض ليس غريباً عن السكر. أمَا تُصنَع منهما معاً الفَرَانيّ (¬1) (أي الكاتو)؟ * * * ¬

_ (¬1) ومفردها «فُرْنِيّة» نسبة إلى الفرن.

في تلك السنة دُعيت للتدريس في دار العلوم (التي صارت الآن كما سمعت كلّية الشريعة)، وهي في دار كبيرة عربية جميلة مشرقة كأنها من الدور الشامية العريقة، فيها الأشجار والأوراد والأزهار، وهي بجوار مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة، جدارها جداره وبينهما باب، وكنت أدخل من هذا الباب فأُصلّي أكثر الصلوات في المسجد. وهو من المساجد المأنوسة، وفي كلّ المساجد أُنْس للروح ولكن بعضها يزيد أُنسه عن بعض. وفي طرف المسجد قبر الإمام أبي حنيفة، وما زرته لأنني خفت أن يكون فيه مثل ما كان في مقبرة الشيخ عبد القادر الجيلاني في مسجده في بغداد، وعند قبر الحسين في مصر، وعند القبر المنسوب ليحيى عليه السلام في الشام، في كلها بِدَع مُنكَرة أنكرها فقهاء المذاهب الأربعة، وإن لم تبلغ ما عند قبور أئمة الشيعة في الكاظمية وسامرّاء وكربلاء والنجف. أمضيت في دار العلوم أياماً، كنت آتيها بعد انتهاء عملي في الثانوية، واستأذنت أن أبيت فيها فأُذِن لي، فكنت أنام فيها وحدي ما معي إلاّ رجل اسمه حاجي نجم، كان كبير الفرّاشين أو المراقبين، ولي معه قصّة سيأتي ذكرها. وفي دار العلوم اجتمعت بجلّة من مشايخ بغداد: الشيخ أمجد الزهاوي والحاجّ حمدي الأعظمي والمفتي الشيخ قاسم القَيسي ومدير المدرسة الأستاذ فهمي المدرّس، وكلهم كبار السنّ وأنا الشابّ بينهم، وما أكثر ما أمضينا سهرات ممتعات نافعات في دار الحاجّ حمدي الأعظمي في الأعظمية في مكتبته الكبيرة القيّمة، وفي دار الشيخ قاسم المطلّة على دجلة مقابل الكاظمية.

وكنت أُصلّي الجمعة في هذا المسجد. والغريب أن الخطبة فيه (وفي أكثر مساجد بغداد) كانت ملحَّنة! وكان الخطيب الشيخ عبد القادر، ولا أعرف لقبه، رجلاً صالحاً حسن الصوت مجوّد القراءة، فلما ذهب للحجّ وكّل مكانه الحاجّ حمدي الأعظمي، وهو أعلم منه وأجلّ ولكنه لم يُؤتَ صوتاً حسناً، فخطب كما نخطب نحن في البلاد الإسلامية، فأنكر الناس ذلك وقالوا: كيف تكون خطبة الجمعة كالمحاضرات؟! يحسبون أن التنغيم والتلحين في الخطبة من شروطها. في تلك السنة في يوم الأربعاء والخميس الثالث والرابع من صفَر سنة 1356هـ زاد دجلة زيادة هائلة لم تكن منتظَرة، وغدت بغداد عُرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، واستُنفِر الناس وسيقوا جميعاً للعمل على إقامة السدود. ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين، وكان شيء عظيم سيأتي حديثه في الحلقة المقبلة إن شاء الله. * * *

الليلة التي ثار فيها «دجلة»

-96 - الليلة التي ثار فيها «دجلة» هل سمعتم بشيخ يسرق؟ أنا أُخبركم: «الشيخ» علي الطنطاوي يسرق من «الشابّ» علي الطنطاوي! وَعدت أن أُحدّثكم حديث الليلة (ليلة الخميس الرابع من صفر سنة 1356) التي سهرَت فيها بغداد جَزِعة تترقّب الخطر، تخاف أن يُغرِقها الماء؛ ذلك أن دجلة كانت تجري في الوادي حالمة سَكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلاّ آثار هذه القُبَل المعطّرة المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتيها الصافيتين كل صباح ومساء، تختطفها منها في غفلة من الكون، فلا يبصرها إلاّ الشفَق الذي يُطلّ من نافذة الأفق، يرميها بنظرة الحاسد، فيحمرّ وجه دجلة من الخجل (أو ممّا ينعكس على صفحتها من لون الشفق الأحمر!)، وتُغضي من الحياء ثم تسرع في جريها. وكانت تتلقّى بين ذراعَيها العاشقين المدلّهين من الأزواج (الأزواج الشرعيين) كلّما دجا الليل، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب

عليهم وتحفظ أسرارهم وتمنحهم الخلوة الآمنة، وتغمر نفوسهم بالجمال والشعر حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد. وكانت تُغضي عن هذا النخيل العاشق وقد تعانق كل زوجين منه وتلامسا بالشفاه واستسلما إلى الغيبة الآمنة، وعن هذه القصور التي تفيّأت ظلاله سكرى بحُمرة الجمال، وقد ضمّت أحشاءها على حياة لذّة وادِعة ملؤها الحبّ. كانت دجلة وأخوها الفرات جمال العراق ونعمته وحياته. * * * هذا الذي سرقه الشيخ من الشابّ، هذا الذي قدّمت به مقالتي عن ثورة دجلة التي كتبتها من نحو خمسين سنة (¬1)، سرقتها لأنني لا أستطيع أن أكتب بمثل هذا القلم (أو لا أُحبّ اليوم أن أكتب بمثل هذا القلم). ولكل سنّ زيّها وسماتها، ولكل سِنّ أسلوبها وطريقتها. كنت أذهب كلّ مساء إلى جسر مود أنا وأنور، وربما صحبنا بعض إخواننا، ننحدر إليه من الرصافة حتى نبلغ ضفّة الكرخ فنصعد إليها، وكنت أشعر وأنا أنزل وأصعد الجسر كأنني في وادٍ من أودية بلادي الحبيبة، حتى نصل إلى الصالحية فنسلك شوارعها إلى المطار. ¬

_ (¬1) مقالة «ثورة دجلة» المنشورة سنة 1937، وهي في كتاب «بغداد». وأكثر ما يأتي في هذه الحلقة إلى آخرها جزء من تلك المقالة بتغيير قليل وزيادات (مجاهد).

لما بنى المنصور بغداد جعل لها ثلاثة جسور، ثم زِيد جسران، ثم تخرّبت وبقيَت على جسرين اثنين. وكذلك كانت لمّا جئتها. كانت الجسور قائمة على سفن طافية على وجه الماء، لم تكن هذه الدعائم الراسخة في الأرض ولم تكن هذه الجسور الثابتة العريضة. وكنت أقرأ ذلك في كتب الأدب فلا أفهمه، ففي كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي التنوخي في قصّة إبراهيم بن المهدي (لما اختفى وتوارى من المأمون خوفاً من أن تنزل به العقوبة) لحقه جندي كان يعرفه من الأيام القليلة التي ادّعى فيها الخلافة، فدفعه فوقع في بعض سفن الجسر. ما كنت أعرف ما سفن الجسر حتى رأيتها. ذهبنا في ذلك المساء، مساء الخميس الرابع من صفر سنة 1356 كما كنّا نذهب كلّ يوم، فإذا الأرض قد بُدّلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه قد أمسى هضبة نتسلّقها؛ صار أعلى من الشارع وقد كان تحته! وإذا الناس يُقبِلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الرّوعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي الصغار. وإذا هو قد نسي سنه ووقاره وأضاع حِلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويقرع الأرض بقدمَيه ويضرب بقبضتيه القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة التي أُقيمت لتثبيت الجسر العائم، والتي تزن

القناطير وتعدل بثقلها الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف اللاعب الكرة بقدمه في الملعب. وإذا هو مرعب حقاً، يُدخِل الروع على أجلد الرجال. وكانت الوجوه كالحة قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد، والماء يرتفع ثم يرتفع، لم يبقَ بينه وبين الشاطئ إلاّ ذراع واحدة. لقد بلغ ارتفاع المياه -كما قالوا- خمسة وثلاثين متراً وعشرين معشاراً (سنتمتراً). إنه لا يزال يرتفع، لقد حاذى الشاطئ ... إن بغداد في خطر. وطارت كلمة الخطر على الألسنة ففزع الشعب واهتمّت الحكومة، ووُضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ واستبقوا إلى العمل، يقيمون السدود ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب ... إنه يقتل أمة منها بضربة واحدة. إن النمر (ذلك اسم دجلة في الإنكليزية والفرنسية) يقفز في حبسه ويثب. لقد جُنّ، إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض، يريد أن يمشي إلى هذه الجنّات الظليلة التي طالما أمدّها بالحياة وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها هذه المرّة الموت. وبدأ الصراع بين هذا النمر والإنسان، وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها مَن يبيع أو يشتري أو يلهو أو يلعب، بل ليس فيها من يَطعم أو يشرب، ليس لها إلاّ غاية واحدة هي النجاة من الغرق.

وكنت قد بلغت منزلي في الأعظمية، فصعدت السطح فانحسرَت أمامي صفحة النهر وهو يلتوي ويلفّ من حول الأعظمية كالأفعى، يطيف بها كالقضاء النازل، وقد استرخى عند المنحنى وتمدّد على الحقول والدور التي هجرها أهلوها وفرّوا منها، فصار عرضه أكثر من ألفَي متر ... وصار بحراً خِضَمّاً، ولكنه يركض دفّاعاً يحمل في يديه الموت والغرق والخراب. وكانت حُمرة الشفق تخالط الماء فيلتهب ويبدو كأنه أتون مستعر، أو كأنه جهنّم الحمراء، نعوذ بالله من جهنّم. وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شابّ (كما جاء في الإحصاء بعد ذلك) يشتغلون لينقذوا بغداد من الخطر المحقّق، ومن ورائهم أربعمئة ألف قلب تحوطهم بالرعاية والحبّ. واستمرّ الصراع، وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة، غير أن المرء يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، وهنا أم حائرة مولهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي، لا تدري: أهو من الأحياء أم افترسه هذا النمر الجبّار؟ وهنا بنت تفتّش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسرة قد هيّأت متاعها ووقفَت على باب الدار تنتظر الساعة الرهيبة التي يطغى فيها الماء فيدكّ دارها وما فيها ويدعها فقيرة مسكينة مسكنها الشارع، وشباب عصفَت النخوة برؤوسهم فهم يتسابقون إلى الخطر. والتلاميذ قد دفعتهم الحميّة فأقبلوا يبتدرون الموت، والجنود يعملون في كلّ مكان بهِمَم الأسود.

كانت الأصوات تملأ الجو: هتاف الشباب، وصراخ الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد ... والنهر فوق ذلك كلّه يهدر هديره المستمرّ المرعب فيكون له في هذا الليل دويّ مخيف، والحركة متصلة والشوارع ممتلئة بالناس. ولكن السلامة توالت، ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع البَثْق (أي الخرق) الذي كانوا يخشونه. وكان قد تصرّم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس وتفرّقوا إلاّ قليلاً منهم قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم. وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة، ورأيت في الحلم المياه تنساب من كل جهة تغنّي أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تُلقي بها إلى بعيد، وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعّد في الجوّ ثم تنزل كالبلاء المصبوب، ثم انصدع صدع عظيم وهويتُ في قعر الهاوية. ورأيت حولي في الحلم مئات من الحشرات والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً ورأيت برقاً ومطراً، ثم عادت السيول تجري تدحرج آلافاً من الصخور ... ففتحت عينَيّ، فإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحيّ والقيامة قد قامت، وصفّارات الحرس وأبواق الجند تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كلّ مكان، والرجال يصيحون طالبين النجدة. وتبينت وسط الضجّة الكلمةَ الرهيبة: كُسر النهر، النهر انكسر ... وتدفّق سيل العرم! إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة، وسلك

على السهول الممرعة والصحارى المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني فجاء يستريح على هذه الحقول التي زخرفها الربيع وأزهر فيها النبات، وفتّح الورد والقرنفل والفُلّ وأترع نسيمَها العطر، ليحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس في هذه الحياة الرخيّة السعيدة بذورَ اليُتْم والفقر والنكد. ولكن الذنب علينا. لو أنّا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه لهجع فيه إلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبَرَكة واليُمْن إلى أراضينا وبلادنا. * * * تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخضمّ من الناس، أُدافع لأصل إلى الشاطئ لعلّي أعمل عملاً. ولم أكُن أدري ماذا أعمل، ولست أُحسن السباحة ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي، ولكني لم أفكّر في شيء من ذلك لأن الإنسان لا يفكّر في ساعة الخطر، وإنما يعمل. فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص، وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللبّ كاشراً عن أنيابه، يزمجر ويزأر ويبرق ويرعد. إن الماء يندفع بمثل قوّة الديناميت ثم ينزل على الحقول فيمضي مكتسحاً في طريقه كلّ شيء: رأيت الأشجار الضخمة يقتلعها الماء ويقذف بها كأنما هي عيدان الكبريت، رأيت البيوت ينسفها كأنما هي علب من الورق، رأيته يتدفّق من كلّ جهة وقد ابتلع صوتُه المدوّي كلَّ ضجّة. وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا توصف.

وأقدم الناس يسابقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيّدوا هذا النمر الهائج، بحميّة منقطعة النظير وحماسة نادرة المثال. وأقدمت أخوض هذه اللجّة من الناس لأصل إلى هذه اللجّة الطامية من الماء، أمشي في ظُلمتَين: ظُلمة هذا الحشد المزدحم وظلمة الليل البهيم. أتعرض لرهبتَين: رهبة الليل وسواده، والسيل وامتداده. أُصغي إلى لحنَين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر. ولم أعُد أخشى شيئاً ... إنها ساعة الخطر. بُورِكتِ يا ساعة الخطر؛ في ساعة الخطر يعود الناس إخواناً متحابّين، قد خرجوا من أطماعهم وماتت في نفوسهم العداوة والبغضاء، وعاشوا لحظة ما فيها إلاّ التضحية والإخلاص والوئام. تقدّمت إلى الأمام، ولكن لم أصل إلى شيء لأن الناس كانوا يستبقون العمل يُهرَعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة والموت وليمة. وكانوا يصرخون صراخ الحميّة ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة. ومرّت على ذلك ساعة كاملة، والصدع يتّسع والماء يزداد اندفاعاً، فكلّت الأيدي النشطة وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وكاد اليأس يخامر الناس. هنالك انتبهتُ فإذا أنا أسمع النشيد الذي كنت أصبو إليه وأرتقبه، ليس نشيد الوطن والمروءة والشجاعة ولكنه أجلّ وأقوى، النشيد الذي له قوّة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور. النشيد الذي لا يقوم له شيء، النشيد

الذي كان أجدادنا يهتفون به كلّما حاقت بهم شدّة فيدكّون به كل حصن ويكتسحون كل عدو، ويَخلصون من كل خطر. النشيد الذي يُحيل الجَبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلاً. ذلك هو نشيد «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله». هذا الذي ينبغي أن يهتف به المسلم في ساعة الخطر، هذا الذي لا ينفع في تلك الساعة غيرُه لأنه ذِكر الله، والله أكبر من كلّ خطر، والله أكبر من كل عدوّ، والله أكبر من كل شيء، فمَن لجأ إلى الله حماه ومن احتمى بغيره ما احتمى. * * * وبدأ الصراع كرّة ثانية. وأقبلوا على العمل بهمم لا تنثني وبقلوب لا تلين وسواعد لا تكلّ، وصبّ هذا النشيد في عروقهم روح الظفر، فظفروا. وعندما كانت الشمس تطبع أولى قُبُلاتها على جبين الكون كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها وحماها من الغرق. يمشي فيه الجند والطلاب بصفوف منتظمة قرأتُ فيها أروع «شعر» الحياة، كما تَلَوْت في هذا الجماهير المنثورة في كلّ مكان أبلغ «نثرها». وكان الإشراق يكسو الوجوه وغناء النصر يرقص على الألسنة، فوقفت أُحيّي هذه المواكب الماجدة حتى غابت عني في طريقها إلى قلب بغداد. كانت ليلة من ليالي الرعب لا أنساها، وكان صباحاً من

أصباح النصر سأذكره دائماً. وأثمر الجهد والكدّ والاجتماع والتضحية، وكذلك تأتي ثمرات ذلك كلّه في كلّ زمان ومكان ... بل كان هذا النصر ثمرة الرجوع إلى الله والاتكال عليه واللجوء إليه. * * *

رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين

-97 - رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين (¬1) سمعت وأنا في بغداد مثلاً قديماً لعله أُطلق أيامَ فَقْد الأمن واضطراب أمر الناس، هو: «اكتم ذهبك وذهابك ومذهبك». عملت بهذا المثل. لم أكتم ذهبي لأنني ما كنت أملك ذهباً لأكتمه. أما ذهابي فقد أمنت الطرق واطمأن الناس فلم تَعُد بي ولا بغيري حاجةٌ إلى أن نستَتِر بالسفر. أما المذهب فقد اتّبعت طريقاً هو أن لا أسأل طالباً من طلابي: أسنّي أنت أم شيعي؟ وما كانت لي حاجة أن أعرف، ولو عرفت ما كان لمعرفتي أثر في معاملة الطلاب لأنني كنت أعاملهم جميعاً على السواء. ¬

_ (¬1) هذه الحلقة من الذكريات لم تُنشَر من قبل قط، فقد أحجمَت الجريدة عن نشرها فلم تظهر ضمن الحلقات الأسبوعية التي كانت تنشرها حينئذ، وردّتها إلى جدي فكتب عليها بخطه «للحفظ لتُنشَر يوماً»، ففكرت وأنا أقرأ هذه العبارة: هل استبعدها من «الذكريات» حين نُشرت في كتاب متعمّداً أم نسيها وسها عنها؟ ثم غلّبت الاحتمال الثاني لأنه لو لم يُرِد نشرها لما كتبها أصلاً، ولم أجد مانعاً يمنع من نشرها فضممتها إلى هذه الطبعة من الذكريات في موضعها الذي كُتبت لتكون فيه (مجاهد).

وجاء يوم عاشوراء قبل الليلة التي حدثتكم عنها (¬1). وليوم عاشوراء شأن في العراق؛ إنه يوم حزن، يصير البلد كله مأتماً كأنما قُتِل الحسين رضي الله عنه بالأمس، وكأن عمّال بني أمية (أو مَن شارك منهم في وِزر قتله) لا يزالون يحكمون العراق. نسي الناس أنها قد تغيرت الدنيا، ودالت دول ووُلدت دول، وبُدِّلت الأرضُ غيرَ الأرض ولكن ما بُدِّلت هذه الأعمال. ونحن المسلمين نحب كلنا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام، ومن لا يحبه أكثرَ من نفسه لا يكمُل إسلامه، ونحب من كان يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن كان يحبه سبطاه الحسن والحسين. فنحن نترضى عنهما ونصلي عليهما بعد صلاتنا على جدّهما، ونلعن من قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتبرأ منه وممن أمره بذلك وممن أعانه عليه، ولكن لا نصنع ما لا يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام ولا نخالف عن أمره، ولا نتبع غير سبيله. وما رأينا بعضَ الناس يصنعونه في العراق يوم عاشوراء مما لا يرضاه الرسول الذي يجب علينا اتباعه. * * * أراد أنور أن يجول جولة في منطقة «الحلّة» يوم عاشوراء، ففعلنا، ورأينا آثار بابل والسدّة الهندية وجسر المثيب الذي كنتم تسمعون ناظم الغزالي يبكي أحبته الذين ثَيّبوه فيه فعذّبوه ومَرْمَروه، وسيأتي حديث ذلك. وأخذنا معنا من شاء من الطلاب، فكانوا ثلاثة، منهم طالب ¬

_ (¬1) الليلة التي ثار فيها دجلة، وخبرها في الحلقة السابقة (مجاهد).

عملاق إن وقفت إلى جانبه وصل رأسي ما فوق خصره بقليل، حتى إني كنت أسأله عن الضغط الجوي في الأفق العالي الذي يصل رأسه إليه! ولكنه كان -مع هذا الطول والعرض والارتفاع- طيب القلب رضيّ الخُلُق ساذجاً يصدّق كل ما يُلقى إليه، اسمه عبد الله عادي. وصدق من سماه؛ فهو عاديّ الخَلْق كأنه من بقايا قوم عاد الذين كانوا بالأحقاف (بالربع الخالي) الذي لم يكن على أيامهم خالياً بل كان حالياً بالنبات عامراً بالبنيان. وطالبان آخران، سني وشيعي. واستشهاد الحسين مأساة لا أجد وصفاً لها أصدق من قولي إنها «فظيعة». ومرة أخرى أقول للتأكيد إنها فظيعة، ولكن الشعراء والأدباء على مدى هذه القرون الطويلة سخّروا قرائحهم وألسنتهم وأقلامهم للعمل على زيادة فظاعتها وعلى توضيح صورتها وعلى تعميق أثرها: جعلوا منها موضوعاً أدبياً لا ينضب معينه، فأغنوا بذلك الأدب ولكنهم أضاعوا الحقيقة. هل أضرب لكم مثلاً كيف يضيع الأدب الحقيقة؟ في تلك الأيام التي أتكلم عنها كنا أنا وأنور نمشي إلى كل مكان، تارة وحدنا وتارة مع بعض الطلاب. ذهبنا إلى الجُعَيفر في جهة الكَرْخ وإلى الكَرّادة وإلى المطار، وذهبنا مرة نشاهد مباراة مع جند الإنكليز في سن الذبّان عند الحَبّانية، وكنا نذهب إلى الرُّستُميّة حيث كان يدرّس أخونا الأستاذ مظهر العظمة رحمه الله. فذهبنا يوماً من الأعظمية إلى بغداد مشياً على الأقدام، ولكنا تركنا الطريق وسرنا بحذاء الشطّ بين البساتين حتى دخلنا

منطقة البلاط (بلاط الملك غازي) ونحن لا نشعر. فماذا جرى لنا؟ ماذا جرى لمّا أنذرَنا الجندي فما انتبهنا إلا وهو مقبل علينا، بندقيته موجَّهة إلينا وسِنانها في رأسها في صدورنا؟ ما تفصيل ما جرى؟ صدقوني إن قلت لكم إنني لا أدري! هل نسيت؟ لا، ولكنني كنت أروي القصة فأزيد فيها، أملّحها وأفَلْفِلها وأزيّنها بالصور الأدبية، فيأخذ أنور ما رويت فيزيد عليه ويفلفله ويملّحه، ثم أعود أنا إلى ما قال فأصوغه صياغة أخرى، حتى إنني لم أعد أعرف ماذا جرى لنا بالضبط. الذي أعرفه هو الطبعة الأخيرة من هذه الحادثة التي تحولت من حادثة واقعة إلى قصة أدبية (¬1). وكذلك جرى في قصة استشهاد الحسين رضي الله عنه. هذه حادثة عادية لناس عاديين، تبادلنا روايتها أنا وأنور رحمه الله في مدة قصيرة، فضاعت الحقيقة حتى ما عدت أعرفها وأنا صاحبها! فكيف بالحادث العظيم، حادث مقتل الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تعاورته الألسنة والأقلام والأخْيِلَة والقرائح على مدى أربعة عشر قرناً؟ كلٌّ يجرب فيه مَلَكته ويُدخِل فيه خياله، حتى لم تبقَ صورة من الصور التي تُهيج الأسى وتثير الشجَن وتستمطر الدمع إلا حُشِدت فوُضِعت هنا، ولا أخرى فيها الظلم وفيها القسوة وفيها الوحشية وفيها النذالة إلا جُمِعت فوُضِعت هناك! حتى لو أن الذين كانوا هنا هم نيرون وجنكيز (أو من هم شر ¬

_ (¬1) انظر تفصيل هذه القصة في الحلقة الآتية (مجاهد).

منهما، بيغن وشامير) لو أن تلك الأوصاف كانت لهم ولو أنهم قاسوا ما يقوله رُواة حادث كربلاء لأخذتك الشفقة بهم والرثاء لهم. فكيف وهم يصفون بتلك الأوصاف ابن بنت رسول الله ‘، الحسين بن فاطمة الزهراء، وأهل بيته الأكرمين؟ من هنا كان ما نراه ونسمع به كلما جاء يوم عاشوراء، ولولاه لما كان. فلقد مات علي، وهو أفضل من ولده، ومات قبلهما رسول الله ‘، وهو أفضل منهما، فما صنع المسلمون ما يصنع هؤلاء يوم عاشوراء. * * * جلنا في الحلة التي عرفنا اسمها في الصغر من حين حفظنا القصيدة العظيمة لصفي الدين: سلي الرماح العوالي عن معالينا. ومشينا في طرقها ومسالكها حتى وصلنا رحبة واسعة في صدرها بابٌ مفتوح سمعنا منه شعراً يُنشَد بلحن حزين، فاقتربنا فرأينا ناساً قد التفّوا حول هذا المُنشِد وحفّوا به دوائر وسط دوائر، وصدورهم مكشوفة قد ستروا ما تحت السرة وأظهروا ما كان فوقها. فقال أنور بعد أن سمع الشعر: ندخل؟ فسألت مَن معنا من الطلاب لأنهم أعرف ببلادهم فقالوا: لا تدخلوا. فملت إلى رأيهم، ولكن أنور رحمة الله على روحه عمل مثل جهيزة التي «قطعت قول كل خطيب»، فدخل، ولم نستطع إلا أن نتبعه. دخلنا فاخترقنا الصفوف، وكان مَن فيها قاعدين ساكتين،

قد كفّ المنشد عن النشيد فجلسوا يستريحون كما بدا لنا، حتى بلغنا صدر المسجد أو المجلس (فلم أكن أدري أي شيء هو) فوجدنا شيخاً بعمامة خضراء (أي أنه سيد منسوب) قاعداً على كرسيّ وإلى جنبه كراسيّ فارغة، دَعَونا فقعدنا عليها. فما لبث القوم أن عادوا إلى الوقوف وعاد الشاعر إلى الإنشاد، وكلما أنشد أبياتاً وقف وقفة، فرفعوا أيديهم بحركة واحدة ثم هبطوا بها على صدورهم بلطمة واحدة تهزّ جدران المكان من وقعها، ثم يعاود هو الإنشاد ويعاودون هم اللطم، حتى احمرّت الصدور وغمرهم العرق، وامتلأت القلوب مما يسمعون أسىً على الحسين وحباً به ونقمة على بني أمية وعلى أهل الشام الذين حمّل هذا الشعرُ وِزرَ ما حدث عليهم ونسبه إليهم. هنا تفيض البلاغة في صدر أحد الطلاب الذين جاؤوا معي ويغمره الشعور بمكارم الأخلاق، وتعتريه نوبة مفاجئة من نوبات الوفاء لي والتغني بمناقبي، فيقدمني للسيد ذي العمامة الخضراء فيقول له: أعرفك بأستاذي الجليل الكاتب الشامي الكبير، مؤلف الكتب العظيمة ومنها كتاب «أبو بكر الصديق» وكتاب «عمر بن الخطاب» و ... ولم أسمع بقية الكلام لأني رحت أتشهّد ليكون آخر كلامي من الدنيا «أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله». لم أعد أسمع ما يقول لأني شعرت أن قلبي هبط إلى أسفل البطن كما يهبط المصعد الذي انقطعت سلاسله فجأة في العمارة! وأيقنت بالموت، وتلفّتُّ حولي لعلي أجد مهرباً، فإذا المكان

محاط بجدران مغلقة ليس فيها إلا الباب الذي دخلنا منه، ما للمكان نافذة ولا طاقة، وبيني وبين الباب العشرات من عراة الصدور الذين يضربون صدورهم ضربات لو نزلت على رأس ثور من ثيران المصارعة في إسبانيا لخرّ صريعاً للفم ولليدين! فكيف تكون حالي معهم لو عرفوا أني من أهل الشام وأني مؤلف كتاب أبي بكر وكتاب عمر؟ ومن أين أثبت لهم أني بريء من دم الحسين، لم يشارك في جريمة قتله أحد من أجدادي لأنهم كانوا في طنطا في مصر، أو لعلهم كانوا في المغرب أو في الهند أو في سيام (تايلاند)؟ حسبي أنهم لم يكونوا في الشام، ولو كانوا فيها فإنهم بُرَآء من دم الحسين، ولو حضَرتُه لفديته بروحي غيرَ متردد، وكذلك يفعل كل مسلم. ولكن هل كانوا يدَعون لي فرصة للدفاع عن نفسي؟ ولو حاولت الدفاع فمن منهم يصدّقني؟ هنالك سُقط في يدي ويئست من النجاة، وصار ما أدعو الله به سراً أن يجعل ميتتي سهلة فأموت بلا عذاب، أما النجاة فقصر عنها أملي. هذا وأنا أُلامُ على جرأتي وتهوري، ما كان الجبن يوماً من عيوبي. أما أنور الذي أدخلنا هذا المدخل فقد اختلست نظرة إليه فوجدت لون وجهه كلون قشرة الليمون البلدي، أصفر ما فيه نقطة من دم. فنظرت إلى وجه السيد ذي العمامة الخضراء لعلّي أستشفّ منه ما ينويه، فما دلّ وجهه على شيء، فتركت الأمر لله. وطال الموقف وأنا على هذه الحال من الترقب والفزع، حتى مرت سبعون ساعة كاملة متواصلة ولم يتبدل شيء، وكل دقيقة منها بساعة. حتى إذا انتهى الإنشاد وسكت المنشد رأيت

القوم كأنهم يستعدون للرحيل، فهم يُخرجون ثيابهم فيَدخلون فيها، لم أعلم أين كانوا يخفونها. فعرفت أنها انتهت النوبة وأن هؤلاء يذهبون ليأتي غيرهم، فأمنت قليلاً، ونظرت في ساعتي فإذا المدة التي أحسست أنها سبعون ساعة لم تكن أكثر من عشرين دقيقة، ولكن زمن الألم والخوف يطول! فودّعت السيد وأسرعت إلى الباب، فلما صرنا في الطريق حمدت الله على أني رجعت إلى الدنيا بعدما كدت أرى الموت. وبقينا في الحلة يومين، وعرفت هذا السيد من قرب فوجدته ظريفاً لطيفاً أديباً لبيباً بعيداً عن العصبية (أو لعلها هي التَّقِيّة)، فذكّرته بما كان فقال: احمد الله على السلامة وعلى أنهم لم يسمعوا ما قال الطالب. قلت: ألم تكن لتحميني منهم؟ فضحك وقال: ومن يحميني أنا إن حميتك؟ لا والله، ما كنت لأحميك بل أدعك لترى مصيرك! * * * لم أتعرض مدة بقائي في بغداد إلى نزاع السنة والشيعة، لأني كنت أحاول التوفيق لا التفريق والوئام لا الخصام، حتى إذا جئت البصرة وكان الطلاب فيها يسألونني فأجيب بما أعرف من قول أهل السنة، لما كان ذلك ساء مشايخَ الشيعة في البصرة فبعثوا إليّ: إذا شئت المناظرة فناظِرنا نحن العلماء، لا الطلاب الذين لا يعلمون. وكنت من صغري أحب المناظرة وقد أوتيت جدَلاً، فقلت: نعم. وتواعدنا على اللقاء، فبلغ ذلك المتصرّف فخاف الفتنة

فمنعنا، ثم أذن لنا على أن تكون المناظرة بإشرافه، نأتي نحن بخمسين رجلاً وهم بخمسين، وتؤلَّف هيئة للتحكيم نحن ننتخب عضواً منها وهم عضواً، والثالث يختاره المتصرف. وجاء يومُ المناظرة، ودخلت وأنا واثق من نفسي، أو مغترّ بها معتمد عليها. وبدؤوا هم الكلام، وكان ينبغي أن نختار بالقرعة البادئ منا. وجعلوا يسألونني، والمسؤول في المناظرة كمن يتلقى الهجمات في المعركة، والسائل هو المهاجم. وهو متمرسون بالمناظرات متمرّنون عليها مُمسكون بأطراف الخلاف. لما رأيت ذلك وعلمت أني سأنهزم صَغُرت عليّ نفسي وتبخر منها غرورها وعادت إلى حجمها، فتوجهتُ بقلبي إلى الله منكسراً متوقعاً الهزيمة، وقلت: يا رب، أنا هنا أدافع عن سنة نبيك وعن مذهب أهل الحق، فلا تؤاخذني بما كان مني وانصرني، فإنك تنصر الحق الذي أذبّ عنه. ومَن توجه إلى الله بالانكسار رزقه الله عزة الانتصار، ومَن اعتمد على نفسه وَكَله الله إليها. وكنت أدعو مضطراً واثقاً من الإجابة، فما هي إلا لحظات حتى انفسح لي طريق إلى أخذ المبادرة لي بالكلام. وكان الكلام على بيعة أبي بكر، فقلت لهم: كيف بايع علي أبا بكر وأنتم -شيعة علي- تنكرون خلافته؟ هل بايع مختاراً أو مكرَهاً؟ إن قلتم إنه مكرَه سلبتموه أحد شرطَي الخلافة وهو القوة، إذ لا يصلح لها إلا المؤمن القوي. ثم إنكم خالفتم بذلك الواقع لأن علياً رضي الله عنه كان أعزّ من أن يُكرهه أحد على ما لا يريد، بدليل

أنه تأخر عن البيعة عدة أشهر فما عرض له أحد، وأن سعد بن عُبادة لم يبايع فلم يجبره أحد على البيعة. فإذا كان قد بايع باختياره لم يبايع مُكرَهاً فإنني أسألكم: هل بايع وهو يعلم أنه يبايع صالحاً للخلافة أهلاً لها وأنه بذلك يُرضي الله، أم بايع ابتغاء الدنيا؟ لقد كان علي رضي الله عنه أتقى لله من أن يبايع مَن لا يرى صلاحه للخلافة. فحاولوا تبديل الموضوع وصرف الكلام عن وجهته، فقلت: لا، هذا هرب من الجواب وأنا ألزمكم به. واشتدّ الخلاف فطلبت من لجنة التحكيم أن تقول كلمتها، فقالت لهم اللجنة: إنكم هربتم من الجواب، وإن لم تجيبوا لزمتكم الحجة. وانتهت المناظرة. وخرجت وأنا أنفض عني غبار الموت. ولعله أشد من الموت بأيدي اللاطمين في الحلة، لأن ذاك موت فردي لي وهذه هزيمة لمبدأ أقمت نفسي بحماقتي محامياً عنه، ودخلت المعركة معتمداً عليها لا على الله. وحفظت بعدها الدرس، فلم أدخل معركة إلا بعد أن أمحو من نفسي غرورَها وأعتمد في النصر على خالقها ومسيّرها. وكذلك يكون النصر في المعارك كلها: معارك الكلام ومعارك الحسام. * * *

دروس الأدب في بغداد (1)

-98 - دروس الأدب في بغداد (1) ذُمَّ المنازلَ بعدَ مَنزلةِ اللّوى ... والعيشَ بعدَ أولئكَ الأيّامِ أيامي التي مضت ولن تعود، أحنّ إليها ولا أدري لماذا الحنين إليها؟ أنا الآن أوسع -بحمد الله- دنيا، وأكبر اسماً، وأكثر مالاً، لا أشكو من مرض، وما بي حاجة إلى أحد، قد كفاني الله بفضله عمّن سواه. ولكنه الإنسان يزهد فيما وجد ويشتهي ما فقد؛ فأنا أحنّ إليها لأني فقدتها، أيامي في مصر سنة 1928، أيامي في بغداد سنة 1936، أيامي في بيروت سنة 1937 ... وقبل ذلك أيامي في دمشق، بلدي الحبيب الذي أتمنّى أن أقضي في ربوعه ما بقي لي من العمر (وهو قليل) بين أهلي فيه وبين أصحابي. ولكن أين أهلي وأين أصحابي؟ ما بقي منهم إلاّ أقلّ من القليل، فلو ذهبت الآن إلى الشام لغدوت فيها غريباً: هذا جزاءُ امرئٍ أقرانُهُ دَرَجوا ... مِن قبلِهِ فتمنّى فُسحةَ الأجلِ بل أين دمشق؟ أين البلد الذي شهدتُه صبياً وشهد صباي؟ لقد تبدّل فيه كلّ شيء. لا الدارُ دارٌ وَلا السكّانُ سكّانُ

يقول الشريف الرضي: وقائلةٍ في الرّكْبِ: ما أنت مُشتهٍ؟ ... غداةَ جزَعنا الرمْلَ، قلتُ: أعودُ وهيهات! فلا الماضي يرجع ولا الشباب يعود، ولا مَن جعل الله أمرَ الناس في يديه يتركني أكحّل العين برؤية بلدي قبل الممات. * * * كنت أجلس في دار العلوم في الأعظمية كلّ مساء بإذن من المدير، في هذا الصحن المشرق تظلّلنا الأشجار قد أثقلتها ثمارُها، وتحفّ بنا الأزهار قد ملأت صدورَنا عطورُها، ومن فوقنا زقزقة العصافير كأنها موسيقى بارعة ما وضعت أنغامَها عبقرية إنسان. وكان الفرّاش يُعِدّ الشاي، وكان الباب مفتوحاً، فليس تخلو عشيّة من أساتذة كرام يزوروننا أو طائفة من الطلاّب يجيئون إلينا أو جماعة من الجيران. نبقى بين أحاديث تدور: أحاديث في العلم وفي الأدب، ومناظرات تتخلّلها مراجعات في الكتب (وفي المدرسة مكتبة كبيرة فيها كتب قيّمة) حتى نسمع داعي الله للصلاة، فندخل المسجد من باب بينه وبين المدرسة فنصلّي. ما رأيت في هذا المجلس منغّصاً إلاّ مرّة واحدة؛ كنت فيها وحدي فدخل عليّ رجل ثقيل لا أعرفه وقال: كم تأخذ راتباً؟ قلت: لماذا تسأل؟ قال: أنتم الغرباء تأخذون أموالنا و «تُقَشْمرونا». أفليس من حقّي أن أسأل وأنا من أهل البلد ومن أصحاب المال؟

قلت: نعم، إنك من أهل البلد وأنا غريب من أهل الشام. ونحن نأخذ من مال العراق، ولكن نأخذه بعملنا لا نأخذه صدقة. ثم إن أصحاب البلد أنابوا عنهم ممثّلاً لهم هو وزير المعارف، فهو الذي أمضى العقد معي وهو الذي يسألني، لا يسألني كلّ من سكن العراق، ولست مضطراً أن أُجيب كلّ مَن مشى في طرق العراق. والآن تفضل اخرج! وكنّا أحياناً نسمع هذه المقالة أو تبلغنا: هي أننا جئنا نأخذ مال العراق، وسنعود نسبّ العراق ونحقره أو ننساه فلا نذكره. فهل رأيتموني شتمت العراق أو نسيته؟ ها أنَذا بعد نحو خمسين سنة أتعلّل بذكرى العراق وأثني على العراق، ما شتمتُه ولا نسيتُه ولا نسيه مِن إخواننا وأصحابنا الذين كانوا معنا أحد، لا أنور ولا مظهر ولا زكي مبارك رحمهم الله، ولا عبد المنعم خلاّف مدّ الله في عمره. أسأل من عرفه من قرّاء هذه المقالة أن يخبرني: كيف حاله؟ وأن يُبلِغه تحيّاتي وأن يحمل إليه حُبّي، فلقد كان رفيقي في مصر في دار العلوم سنة 1928، وفي المؤتمر الإسلامي في القدس سنة 1954، وفي القاهرة وفي دمشق، كما كان من إخواننا من مصر في تلك الأيام الأستاذ محمود شاكر والأستاذ عبد السلام هارون. * * * كنت أُدرّس الأدب لا على أنه واجب مدرسي بل على أنه إمتاعٌ نفسيّ. كنت أُشعِر الطلاب لذّته وجماله، وإن لم أُقصّر في إكمال المنهج وإعداد أسباب النجاح في الامتحان.

وكنت مع طلاّب أُولي ذكاء وفطنة وأدب وتقدير للمدرّس، ففتح الله عليّ بأشياء أُلهمتها وما سُبِقت إليها. منها أنّ كتب تاريخ الأدب التي كانت تُدرَّس يومئذ في المدارس، في مصر وفي غيرها، كانت تنسب لابن المعتز الموشَّح المشهور: أيُّها السّاقي إليكَ المُشتكَى ... قَدْ دَعَوْناكَ وإنْ لم تَسْمَعِ ونديمٍ هِمتُ في غرّتِهِ ... وبشُربِ الرّاحِ من راحتِهِ كلّما استيقظ من سَكْرتِهِ جَذبَ الزّقَّ إليهِ واتّكا ... وسقاني أربَعاً في أربَعِ فأمليت على الطلاب شكّي في نسب هذا الموشح إلى ابن المعتز، ودلّلت على ذلك بأدلّة منها: أنه لا يشبه أسلوب ابن المعتز، الثاني: أنه لو كان له لقلّده شعراء من أهل عصره، ولكثُرَت الموشّحات ولم يجئ فلتة لا نظير لها. وأدلّة أخرى أمليتها عليهم. ثم مرّت الأيام فتبيّن للباحثين أن الموشح ليس لابن المعتز (¬1). لقد درست معهم الأدب على اعتبار أنه فن من الفنون، بعد أن بيّنت لهم فرق ما بين العلم والفنّ، وأن العلم غايته الحقيقة ووسيلته الفكر وأداته المنطق، وأن الفنّ غايته الجمال ووسيلته الشعور وأداته الذوق، وأن الأدب لون من ألوان الفنّ أو أسلوب من أساليب التعبير عنه. بيتهوفن -مثلاً- ذهب يعزّي صديقاً له بولده الذي مات فعجز لسانه عن الكلام، فعبّر بأصابعه على أوتار ¬

_ (¬1) الذي عليه الرأي اليوم أن هذا الموشح من عمل ابن زُهر الحفيد، وهو أبو بكر محمد ابن زُهْر الإشبيلي المتوفى سنة 595 (مجاهد).

البيان (البيانو)، فكانت مقطوعة الحزن المعروفة. فالشعر والصورة والنغمة كلها تعبير واحد عن الشعور الواحد، ولكن اختلف اللسان؛ فالشاعر يعبّر بالألفاظ والأوزان، والمصوِّر بالخطوط والألوان، والموسيقي بالأصوات والألحان. وعلّمتُهم أنك حين تكتب أو تَنْظم تأتي بشيء جميل، فأنت قد أوجدت وأبدعتَ، فيأتي آخر فيقوّم ما جئت به ويزنه بميزانه، ويحدّد سعره في سوق الأدب. فأنت حين تكتب أو تَنْظم «أديب»، وهذا الذي يقوّم ويَزِن ««ناقد»، فالأدب إبداع والنقد وزن وتقويم. وأنّ للنقد مقياساً، والمقياس إما أن يكون مقياساً ثابتاً معترَفاً به متّفَقاً عليه، كقواعد النحو وأُسس اللغة، فيكون النقد في هذه الحال علماً أو أدنى إلى العلم. وإن كان مقياساً شخصياً عُمدَتُه إدراك الجمال كان النقد فناً أو أقرب إلى الفنّ. فإن قلت لك: إن هذه المقطوعة التي نظمتَها أو هذه المقالة التي كتبتها فيها خطأ في اللغة أو في علومها، واستندت في ذلك إلى دليل، لم يكن لك ولا لغيرك أن يردّ قولي إلاّ إن اعتمدتَ دليلاً أقوى من دليلي. أمّا إن قلت لك: إن هذه المقطوعة جميلة أو ينقصها الجمال، كان لك أو لغيرك أن يقول: لا. لأن الجمال لا يوزن بالرطل ولا يُقاس بالذراع. * * * كان علينا أن ندرس شعراء العصر العباسي، هؤلاء الذين سمّاهم الأولون «شعراء الشام» أو «شعراء المدرسة الشامية»:

أبوتَمّام والبحتري وأصحابهما، فكنت أشرح لهم هذه الأبيات شرحاً أظنّ أنه كان جديداً، وكنت أراهم يُصغون إليّ ويتلذّذون به. هاكم مثالاً من شرحي لهم قصيدة أبي تمام التي وصف فيها حريق عمورية: لقد تركتَ -أميرَ المؤمنينَ- بها ... للنّارِ يوماً ذليلَ الصّخرِ والخَشَبِ غادرتَ فيها بَهيمَ الليلِ وهْوَ ضُحىً ... يَشُلُّهُ وسْطَها صُبحٌ منَ اللهَبِ حتى كأنّ جَلابيبَ الدُّجى رَغِبَتْ ... عن لونِها، أو كأنَّ الشمسَ لمْ تَغِبِ ضَوءٌ من النّارِ والظَّلْماءُ عاكفةٌ ... وظُلمةٌ مِن دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أفَلَتْ ... والشمسُ واجبةٌ من ذا ولم تَجِبِ أمعنوا النظر في هذا الوصف: إنه مجموعة صور متعاقبة، كلّما استقرّ ذهن السامع على واحدة منها نقله إلى أخرى. فالصورة الأولى أن النار جعلت الصخر والخشب ذليلاً، والثانية أن الخليفة غادر فيها الليل الأسود وهو ضُحى، لكن إياك أن تظنّ أن الليل قد انتهى وأن الصبح قد طلع، لأن الليل ما طلع عليه الصبح الحقيقي ولكنه صبح من لهب النار. ثم نقله إلى صورة أخرى، قال: لا، لا، وإنما خلع الليلُ ثيابَه السود ورغب عنها وكرهها، هذه الصورة الجديدة. ثم قال: بل إن الشمس لم تغِب. فإذا كانت

الشمس لم تغِب فالنهار باقٍ والضوء موجود! ثم رجع يقول: إنه ضوء من النار لا من الشمس، والظلماء باقية. ظلام الليل باقٍ ولكن هذا الضوء الذي حسبته نهاراً هو ضوء النار! ثم رجع فقال: لا، الظلمة ظلمة الدخان ولهب النار ضُحىً شاحبُ اللون. فماذا جرى لذهن السامع؟ لم يعُد يدري: أهو ليل أم نهار؟ فقال له: الشمس طالعة. إذن فهو نهار. قال: لا، طالعة من ذا، من النار، والشمس الحقيقية قد أفَلَت وغابت. قلنا: طيب، إذن الشمس غائبة واجبة. قال: لا، الشمس واجبة من ذا، أي من الدخان، والشمس الحقيقية لم تغب. إن مثل أبي تَمّام هنا مثل ساحر السيرك الذي يُخرِج من أُذنه مناديل لا تنتهي، أو يُخرِج من طرف فمه أعداداً من بيض الدجاج! حِيَل وألاعيب لا يفهم منها السامع أين كان هذا الحريق، وما مداه، وما الذي احترق؟ إن هذا الوصف ينطبق على حريق في الخيام في البادية، وعلى حريق في مصفاة النفط (البترول)، وعلى حريق في حارة من حارات البلد ... وشرحت لهم هنا أنواع الوصف الواقعي منه والخيالي، وذكرت بعض الوُصّاف من الشعراء. * * * وكان عندنا قصائد فيها وصف للطبيعة، فعلّمت الطلاب أن وصف الطبيعة عند الشعراء على مراتب ثلاث. أدناها: أن يراها الشاعر متحفاً، فهو يصف ما يراه فيه ويزين وصفه بالتشابيه والاستعارات والزخارف والمحسِّنات، وأدبنا قد

بلغ في هذا الغاية. لقد استحسنوا من الشاعر الفرنسي أن يشبّه البدر يبدو من فوق برج الكنيسة في القرية كأنه نقطة فوق حرف الياء (i)، وهذا كحصى الشاطئ بالنسبة لما عند شعرائنا من لآلئ الأعماق. والمرتبة الوُسطى: أن يرى الطبيعة مرآة تتجلّى فيها حالة نفسه وعوارض مزاجه، فإن كان مسروراً رأى الدنيا متلألئة تلبس ثوباً من الضياء، كمن ينظر من زجاجة صفراء بلون الذهب أو حمراء مثل الشفق، وإن كان حزيناً رآها مظلمة كابية كمن يرى الدنيا بنظارة سوداء. وهذا قليل في أدبنا كثير في أدب غيرنا. هذا لامارتين وصف البحيرة وهو مع مَن يُحبّ، ثم وصفها بعد موتها في قصيدته المشهورة التي ترجمها إلياس فياض شعراً فقال: أهكذا تنقضي دَوماً أمانينا؟ ... نطوي الحياةَ وليلُ الموتِ يَطوينا تَمضي بنا سفُنُ الأيامِ ماخرةً ... بحرَ الوجودِ ولا نُلقي مراسينا يا دهرُ قِفْ فحرامٌ أن تطيرَ بنا ... منْ قبلِ أنْ ... نتملّى من أمانينا وإذا كان امرؤ القيس أول من وقف واستوقف، استوقف الركب على أطلال دار المحبوب، فإن لامارتين استوقف الزمان لمن كان في نعمة وأمان، واستعجله على من كان في عذاب وهوان. ثم جاء بشارة الخوري بما لم يأتِ بمثله لامارتين، فقال في شعره الذي يُتغنّى به: وجعلنا الزمنا ... قطرةً في كأسِنا والزّمانُ ماضٍ في طريقه، لا يقف ولا يستعجل، ولا يكون

قطرة في كأس ولا خاضعاً لأهواء الناس. وأعلاها: أن يُفيض الشاعر الحياة على الطبيعة؛ فتحسّ وتشعر كما يحسّ الأحياء ويشعرون، وتفرح وتتألّم، وتفكّر وتَعتبر. وفي ذلك لمحات كثيرة جاءت في الشعر العربي، منها مقال البحتري في وصف البِرْكة (بركة المتوكّل): ما بالُ دجلةَ كالغَيْرى تنافسُها ... في الحسنِ طَوراً، وأطواراً تباهيها؟ فجعلها تغار وتُباهي كما يصنع الأحياء من الناس. وأكملُ مثال على هذا أعرفه في الأدب العربي قصيدة «الجبل» لابن خفاجة الأندلسي: الجبل الشيخ الوقور الذي كوّر عمامته وكبّرها وقعد على ظهر الفلاة يفكّر في عواقب الأمور، ويقول إنه كان ملجأ للعابد الأوّاب وللجاني الهارب ومَن أضاعوا العمر في غفلة، تشغلهم متعة المنظر عن غاية السفر وألوان الممرّ عن أمان المستقرّ، ثم يمضي هؤلاء وأولئك ويبقى الجبل وحده يفكّر في أحوالهم ويسأل عن مآلهم. قال: وأرعنَ طمّاحِ الذُّؤابةِ باذخٍ ... يُطاوِلُ أَعْنانَ السّماءِ بغاربِ وَقورٍ على ظهرِ الفلاةِ كأنه ... طَوالَ الليالي مُفكّرٌ في العَواقبِ يلوثُ عليه الغيمُ سُودَ عمائمٍ ... لها من وَميضِ البرقِ حُمرُ ذَوائبِ وقالَ: ألا كم كنتُ ملجأَ قاتلٍ ... وموطِنَ أوّابٍ تَبتّلَ تائبِ! وكم مرَّ بي من مُدْلجٍ ومُؤَوّبٍ ... وقالَ بظلّي مِن مَطيٍّ وراكبِ فما كانَ إلاّ أن طوَتْهم يدُ الرّدى ... وطارَت بهم ريحُ النّوى والنّوائبِ فحتّى متى أبقى ويَظعَنُ صاحبٌ ... أُودّعُ منهُ راحِلاً غيرَ آيِبِ

كنت أنا وأنور نمشي كل يوم، أحياناً نكون وحدنا وأحياناً يكون معنا من يرغب في مرافقتنا، نمشي على الأقدام نجول في بغداد، أو نركب العربة (العربانة) إلى أرباضها وضواحيها. ذهبنا نمشي مرّة على أقدامنا من الأعظمية حيث كنّا نسكن إلى بغداد، تركنا الجادة ومشينا على الشطّ بين المزارع والحقول، فإن انسدّ الطريق أمامنا بسياج بين مزرعتين أو جدار قصير يفصل بين حقلين ابتعدنا عنه ثم عدنا إليه. وكنّا نتحدّث ونتذكّر. وذكرياتنا غالباً واحدة لأننا عشنا معاً عمراً، مَن أراد أن يطّلع على طرف منه فليقرأ مقدّمتي لديوانه «ظلال الأيام». فدخلنا حِمى البلاط، بلاط الملك غازي، وكان ممنوعاً دخوله. ولكنّا لم نحسّ أننا دخلناه، فما راعنا إلاّ الجندي الخفير يعترضنا وبندقيته مسدَّدة إلينا وسِنانها في صدورنا. فماذا كان بعد ذلك؟ لا أدري. أقول لكم الحقّ: إنني لا أدري! لا، ما نسيت ولا أطار الفزع لبّي حتى ما أذكر ما حدث لي، بل لأننا جعلنا من هذه الواقعة قصّة أدبية، أو نكتة، أسردها أنا من خيالي لا من ذاكرتي فأُزيّنها وأزيد فيها، فيأخذ هو الوصف الذي انتهيت إليه فيصنع فيه مثل الذي صنعته أنا. ولا نزال نُبدئ فيها ونُعيد وهي تكبر وتزيد، حتى لم أعُد أعرف حقيقة الذي كان. ولكن أسرد عليكم إن شئتم الطبعة الأخيرة من هذه القصّة (¬1). ¬

_ (¬1) القصة في مقالة «من ذكريات بغداد» في كتاب «بغداد»، ص82 من طبعة دار المنارة الجديدة (مجاهد).

ولعلّ هذا ممّا يؤيد رأي أناتول فرانس في التاريخ؛ فإذا كنت أنا لا أعرف الذي وقع لي فكيف أعرف حقيقة ما كان فيما مضى من الزمان؟! ولي كتاب اسمه «قصص من التاريخ»، آخذ فيه أسطُراً معدودة أو حادثة محدودة، فأُعمِل فيها خيالي وأُجيل فيها قلمي حتى أجعل منها قصة. بدأت بهذا العمل من سنة 1930، من حين كنت أشتغل في جريدة «فتى العرب»، والقصص الأولى منشورة في كتاب لي نفد من دهر طويل كان اسمه «الهيثميات». من هذه القصص ما ذكره المؤرّخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسام المسلمين وتقاعسهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد فعملت ما تقدر عليه: قصّت ضفائرها وبعثت بها إلى سبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأموي في دمشق، ليكون منها قيدٌ لفرس من خيول المجاهدين. ويقول المؤرّخون إنه خطب خطبة عظيمة ألهبَت الدماء في العروق وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة وأيقظت الهِمَم، فلما كتبت القصة على طريقتي ألّفت أنا خطبة قلت إنها التي ألقاها على الناس. وحسب الناس أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبة سبط ابن الجوزي! وكتبت مرّة قصصاً متخيَّلة عن أعرابي صَحِبَنا في رحلة الحجاز، منها «أعرابي في حمّام» و «أعرابي في سينما» و «الأعرابي والشعر»، وكلها في كتابي «صور وخواطر» (¬1)، قلت في الأخيرة ¬

_ (¬1) مرّ خبرها في الحلقة الثالثة والسبعين من هذه الذكريات (مجاهد).

منها إن قبيلة على حدود اليمن اسمها «السّوالم» لا تزال تنطق الفصحى لم يدخل ألسنتها اللحن ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً منّي (¬1)، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي فوضعه في بحث له عن الفصحى وعن اللحن ونشر خلاصة منه في مجلّة مجمع اللغة العربية! * * * وذهبنا مرّة نزور زميلاً في المدرسة، زميلنا الأستاذ الملائكة، وأظنّ أن اسمه الأستاذ صادق الملائكة، وكان معنا أستاذ آخر هو صادق الأعرجي، فأنا أخلط بينهما. وكانت الدار في الكرّادة نسلك إليها من الباب الشرقي، ولم يكن قد وصل البناء إليها. فاستأجرنا عربة ساومْنا صاحبَها لأنه طلب أجراً كبيراً، ثم اتفقنا، وقد أخرج على الطريق دَخينة (سيجارة) وضعها في فيه، ولم يجد كبريتاً فأشعلناها له. وكنت أنا وأنور وحدنا، فلما وصلنا وناولناه الأجرة حلف لا يأخذها، فعجبنا فقال: الآن صرنا أصدقاء لأنكم أشعلتم لي السيجارة، وعيب أن آخذ أجرة من صديق. وأصررنا وأصرّ، وأبى أشدّ الإباء وأدار عربته ومضى. وبقيت إلى الآن متعجباً منه ومعجَباً به، وبهذا النبل العربي تلقاه حتى في سائق عربة أجرة. وأظنّ أن الأستاذ الملائكة زميلَنا هو أبو الشاعرة نازك، أظنّ ولا أُحقّق. وقد نشرَت أول العهد بها في ¬

_ (¬1) وقد ذكروا أن جبلاً في اليمن نسيت اسمه بقي أهله قروناً محافظين على سلامة لسانهم بعد فشوّ اللحن والعامّية في بلاد العرب.

«الرسالة» شعراً نفيساً أثار إعجابنا وتقديرنا، شعراً حقيقياً لا هذا الشعر الذي سمّوه حُراً أو شعر الحداثة. فهل يبقى الحدَث حدثاً أم يشبّ ويعقل ويغدو رجلاً، فإن لم يستقم أخذوه إلى «إصلاحية الأحداث»؟! سَمّوه حُرّاً، ومن الحرية ما هو فوضى؛ فإن رأيت الجند يمشون صفاً واحداً مرتّباً منظوماً نظم اللآلئ في العقد، ينتقلون كأرجل جواد المتنبّي: «رِجلاهُ في الرّكضِ رِجْلٌ واليدانِ يدُ»، فخرج واحد منهم عن الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مشيته وبسرعة غير سرعته، وربما توجّه وجهة غير وجهته، فإن وضعوا أقدامهم رفع قدمه وإن رفعوها وضعها، وإن أسرعوا أبطأ وإن أبطؤوا أسرع ... أو مثل جوقة من المغنّين يغنّون جميعاً لحناً واحداً على إيقاع واحد، فخرج واحد منهم بلحن آخر وبنغمة أخرى، أو كمن يعزف مقطوعة من مقام البيات أو الرّست (الرصد) فنشز فإذا هو ينتقل فجأة إلى النهاوَنْد أو الصَّبا ... أليس هذا هو ما يسمونه بشعر التفعيلة: شعر تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها: تنتقل الأذن من إيقاع إلى إيقاع كالذي ذكرتُه هنا، وهو النشاز. وإن الشعر الحقّ هو الذي يثير الشجون ويحرّك العواطف، مع اتّساقه في الأذن ومحافظته على الإيقاع. والغريب أنهم يتنازعون فخر البداءة بهذا الشعر الحديث أو الحرّ، وعهدنا بالناس أنهم يتنازعون المَكرُمات كلٌّ يدّعيها، لا الجرائم ولا المَعرّات. على أن الحقيقة أن أول ما عرفنا من هذا النوع مرثِيّة الأستاذ

إسعاف النشاشيبي لشوقي وهي منشورة إبان وفاته، وهي التي سَمّاها «ذات البحور والقوافي». جاء بها كذلك لأنه لم يستطع أن يجعلها قصيدة موحّدة الوزن والقافية، هو (رحمه الله تعالى) قال لي ذلك في إدارة «الرسالة» بمصر بحضور الأستاذ الزيات. إن علينا أن نقول الحقّ ولو على أنفسنا، والحقّ أن معاني الشعر الغربي (الفرنسي أو الإنكليزي) أوسع مدىً وأكثر عمقاً، وأن ميزة شعرنا في النَّظْم، في الموسيقى الشعرية. تلك هي الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها. من يقارن أوزاننا وعروضنا بأوزان الشعر الفرنسي يدرك الفرق. ما عندنا مثل الفِلْم الملوّن وما عندهم «أبيض وأسود»! نحن نميّز بين السبب والوتد، السبب مثل السوداء في «النوتة»، صوت بمقدار ضربة واحدة (أو بمقدار حركة واحدة باصطلاح أهل التجويد)، والبيضاء حركتان، أي أنها مثل المدّ الطبيعي. والفرق بين عَروضنا وعَروضهم كالفرق بين موسيقانا وموسيقاهم؛ ماعندهم بين «دو» و «رِه» إلاّ درجة واحدة، أي نصف صوت، إشارة الدييز ترفع «دو» نصف درجة أو إشارة البيمول تهبط بـ «ره» نصف درجة، أمّا موسيقانا ففيها ربع الصوت. فإذا أضعنا هذه الميزة، ميزة البحر والقافية، أقررنا لهم بالسبق. * * *

دروس الأدب في بغداد (2)

-99 - دروس الأدب في بغداد (2) إن كانت معك صفحات معدودة فبلغت آخر صفحة وما انتهى الكلام، فهو يُبتَر بتراً. هذا ما حدث للحلقة السابقة من هذه الذكريات؛ كنت أمليها من الهاتف لتُسجَّل في الشريط، فوصل الشريط إلى آخره وما وصل الكلام إلى نقطة الختام. ولمّا كنت أكتب مقالاتي كانت تقع في الطبع أخطاء النظر، فصرت الآن في أخطاء السمع؛ فكلمة منغّصاً جاءت منظفاً، ونشز صارت نجد، وفيما الموصولة قُطعَت أوصالها فصارت في ما، وبيت بشارة الخوري «وجعلنا الزمنا قطرة في كأسنا» جاء «وجعلنا الزمان» فسقط البيت ... سقط فانكسر، أي أنه صار شعراً حُرّاً. ولو أخطأت المطبعة فجعلت الحاء ميماً وصيّرته شعراً مُرّاً لكان هذا الخطأ هو عين الصواب، فإني أتجرّع مرارة هذا الشعر كلّما قرأته منشوراً في الصحف والمجلاّت. حاولت في تلك الأيام التي كنت أدرّس فيها تاريخ الأدب أن أتخطى هذه الحدود الواهية التي أقاموها بين العصور، حين قسّموا العصور الأدبية إلى العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي.

أي أنهم جعلوا الأدب تابعاً للسياسة، وما هو بتابع لها وليس بينه وبينها صلة ثابتة، فلا يرقى برقيّها دائماً ولا يهبط بهبوطها، كما أنه لا يرتقي بهبوطها ولا يهبط بارتقائها. هذا الذي كنت أتبعه أقرب إلى المذاهب الأدبية (أو «المدارس الأدبية» كما يقول غيرنا)، وأول من أحسبه نبّه لهذا طه حسين. ولطه حسين مزايا، وله طامات وسقطات مُهلِكات. فإن درّستُ قصيدة جرير في رثاء زوجته عرضت لمن رثى زوجته من الشعراء، وإن درّست مرثيّة ابن الزيات لولده درّست مراثي الذين رثوا أولادهم، وإن درّست قصيدة بشار في وصف الجيش: وجيشٍ كجُنحِ الليلِ يزحَفُ بالحصى وبالشوكِ والخَطّيِّ حُمْراً ثعالبُهْ درّست بعض ما قال الشعراء في وصف الجيش (وإن كانت قصيدة بشّار هذه أمتنها أسلوباً وأصحّها نسجاً). متى كان زحف هذا الجيش؟ قُبَيل طلوع الشمس، ولكن هذا تعبير أمثالي من العامّة، أما الشاعر فيقول شيئاً آخر، يقول: كان قبل خروج الشمس من خدرها؛ يجعلها بذلك من ربّات الخدور، فنتصورها صبيّة مَصونة ذات حسن وجمال. هل يمكن أن نتصورها قبيحة شَوهاء؟ ولكن هذا تعبير الشاعر العادي، أما بشّار العبقري فيقول شيئاً أدقّ وأرقّ وأسمى من ذلك، يقول: «غدونا له والشمسُ في خدرِ أمّها»، أي أنها لم تستقلّ لصغرها في خدر هو لها وحدها. ولكن هذه الصغيرة ليست جامدة الحسّ ولا ميتة النفس، فهي

تطالعنا، تحاول أن ترانا من حيث لا تراها أمها. ويوقّت بتوقيت آخر: بالندى، بالطلّ الذي يسيل إذا طلع عليه النهار ثم يتبخّر إن مسّه الحرّ: غدَوْنا لهُ والشمسُ في خِدرِ أمّها ... تطالعُنا، والطَّلُّ لم يَجرِ ذائبُهْ وكانت المعركة؛ ثار الغبار حتّى سدّ الأربعة الأقطار وجاء بالليل وسط النهار، فأظلم الكون حتّى لا ترى فيه إلاّ لمع السيوف ترتفع وتنزل. فبِمَ يذكّرك هذا المنظر؟ ألا يذكّرك بليل تراكب غمامه وتكاثف ظلامه، وتهاوت شُهبه حتّى لتراها تشقّ سواد الفضاء كأنها خيوط من الضياء: كأنّ مُثارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسِنا ... وأسيافَنا ليلٌ تهاوَى كواكبُه هذا ما شبّهه به بشار وهو أكمه! والأكمه الذي وُلد أعمى، فكيف رأى ووصف ما لا يراه المبصرون ولا يقدرون على وصفه؟ إنها العبقرية. لقد علّمت الطلاّب يومئذ التمييز بين العبقري وبين النابغة: بشّار عبقري ومروان بن أبي حفصة نابغة، ومن قبله كان امرؤ القيس عبقرياً وزهير نابغة، ومن بعده أبو تمام عبقري والبحتري نابغة، المتنبّي عبقري وأبو فراس نابغة، شوقي عبقري وحافظ إبراهيم نابغة. العبقري يشقّ طريقاً جديداً، والنابغة يسلك الطريق المعروف ولكنه يجيء سابقاً في أول الركب. وقد يكون الطريق الجديد الذي كشفه العبقري وعراً أو ملتوياً، لذلك كان من صفات العبقري أنه يسبق حتّى ما يتعلّق أحد بغباره، وقد يتعثّر ويتأخّر،

يعلو وينخفض. والنابغة يسير بسرعة واحدة غالباً، لا يسبق سبقاً بائناً ولا يتخلّف تخلّفاً شائناً. ولقد طال الخلاف على أبي تمام والبحتري أيهما المقدّم، فكان الحكم العادل ما قاله البحتري نفسه، قال: جيّده خير من جيّدي، ورديئي خير من رديئه. أي أن البحتري لا يسمو سموّ أبيتمام ولا يسقط سقوطه. وهاكم المتنبّي عبقري الشعراء، أكبر الشعراء اسماً وأظهرهم في عصره والعصور التي بعده أثراً، أروع أمثلة البلاغة والبراعة في القول من شعر المتنبّي، وأرذل أمثلة التداخل والمُعاظَلة (¬1) والفساد من شعر المتنبّي. له المطالع العظيمة وله هذا المطلع الشنيع: أُحادٌ أم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيْلَتُنا المَنوطةُ بالتّنادي أعِد كلمة «لُيَيْلَتُنا» عشر مرّات بسرعة، فإن لم تخطئ فيها فلك مني مكافأة! * * * كنت إذا درّست قصيدة بشار في الجيش قرنتها بقصيدة المتنبّي، مثلاً: أتَوكَ يَجُرُّون الحديدَ كأنّما ... سَرَوا بجيادٍ ما لهنّ قوائمُ ¬

_ (¬1) يقال: عاظَل الشاعرُ في شعره إذا جعل بعض أبياته مفتقراً في بيان معناه إلى بعض (مجاهد).

كيف تمشي جياد بلا قوائم؟ لا يفهم الشعر تماماً إلاّ من ألمّ بشيء من تاريخ العصر الذي قيل فيه. فالروم (البيزنطيون) كانوا يتّخذون دروعاً سابغة لخيولهم تصل إلى الأرض فلا تبدو معها قوائمها، و «ثيابُهُمُ مِن مِثلِها والعَمائِمُ». في ذلك الجيش الضخم الذي يسدّ ما بين الشرق والغرب: خَميسٌ بشرقِ الأرضِ والغَربِ زحفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوزاءِ منهُ زمازمُ لماذا سمّاها زمازم؟ الزمازم الأصوات المبهَمة المتداخلة التي لا يكاد السامع يفهم لها معنى. ذلك لأن هذا الجيش: تجمّعَ فيهِ كلُّ لِسنٍ وأمّةٍ ... فما يُفهِمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ وكانت تلك الصورة الحقيقية للجيش البيزنطي الذي يضمّ جنوداً من شتّى الأمم التي كانت خاضعة لحكم البيزنطيين. وهذا يجرّني إلى تذكير الطلاّب بوصف العرض العسكري يوم العيد، العرض الذي جاء به البحتري فأرانا عنه فِلْماً كاملاً فيه الصورة وفيه الصوت، فِلْم ناطق لا يزال صداه مسموعاً بعد أكثر من ألف سنة، ألا تسمعون صهيل الخيل وهتاف الفرسان؟ ألا ترون لمع الأسنّة وبريق الحراب؟ فالخيلُ تصهَلُ والفوارسُ تدّعي ... والبيضُ تلمعُ والأسنّة تُزهِرُ والأرض كأنها من ثقل ما تحمل ومن جلاله قد خشعت ومادت، والجوّ ممّا ثار من الغبار قد صار عكراً مكفهرّاً، تضيء الشمس من خلاله تارة ويحجبها الغبار عن الدنيا تارة:

والأرضُ خاشعةٌ تَميدُ بثِقْلِها ... والجوُّ مُعتَكرُ الجوانبِ أغبرُ والشمسُ ماتعةٌ توقَّدُ بالضّحى ... طوراً ويُطفئُها العَجاجُ الأكدرُ لكن انظروا: لقد وقعت أعجوبة، والأصوات القوية المتداخلة التي كانت تُصِمّ الآذان قد سكتَت، والغبار الذي كان يملأ أقطار الفضاء قد انزاح، والشمس قد ظهرت والدنيا قد أشرقت. فماذا كان؟ لقد ظهر الخليفة، فتطلعَت إليه الأنظار وأشارت إليه الأصابع: أين هو؟ أين هو؟ هذا هو! وماذا في ذلك؟ الناس ينظرون إلى كل مشهور وإلى كلّ غريب، إنه حبّ الاستطلاع. قال البحتري: لا، ما نظروا لهذا بل: ذكَروا بطلعتِكَ النبيَّ فهلّلوا ... لمّا طلَعْتَ منَ الصفوفِ وكبّروا إلى أين كان يمضي الخليفة؟ يمضي إلى المصلّى ليصلّي صلاة العيد. ماذا تظنونه كان يلبس؟ الديباج؟ الثياب المنسوجة بخيوط الذهب؟ هذه كلها في السوق فمن كان معه المال اشتراها، ولكنه لبس ما لا يُشترى بمال ولا يوجد مثله بحال؛ لبس نور الهدى (¬1): حتى انتهيتَ إلى المُصَلّى لابساً ... نورَ الهُدى يبدو عليكَ ويَظهَرُ ¬

_ (¬1) امتهن العوامّ بجهلهم هذا اللفظ الكريم حتّى أطلقوه على قَينة (أي مغنّية) بلغني أنها نصرانية ممّن دعاهم الله «الضالّين»، فأين منها الهدى؟

فهل ترون الخليفة، المتوكّل، زُهِي وتكبّر وشمخ بأنفه؟ لا، بل مشى مِشية الخشوع والتواضع. التواضع لمن؟ للناس؟ لقد كان الخليفة يومئذ أعزّ رجل على ظهر الأرض وكان يحكم من البلدان ما لا يحكم مثله ملك ولا سلطان، لكنه كان متواضعاً لله: ومشَيت مِشيةَ خاضعٍ متواضعٍ ... للهِ، لا يُزهَى ولا يَتَكَبّرُ ثم جاء البحتري ببيت عجيب، وإن كان قد سرق معناه من أستاذه أبي تمام قال: فلَوَ انّ مشتاقاً تكلّف فوقَ ما ... في وُسعِهِ لسعى إليكَ المِنبرُ * * * وهذه قصيدة ابن هانئ الأندلسي في وصف جيش جوهر، قائد المُعِزِّ الفاطمي الذي خرج به من القيروان إلى مصر ففتحها، وقال في فتحها قصيدته: تقولُ بنو العبّاسِ: هل فُتِحت مصرُ؟ فقُلْ لبني العبّاسِ: قد قُضيَ الأمرُ وابن هانئ كان يُسمّى متنبي المغرب، وكان شاعراً. ولقد ظلمه الذي شبّه شعره برحى تطحن قروناً، أي أن لها جعجعة وليس لها طحن. لا، بل إن له -على كفره وسوء معتقَده- من نوادر المعاني وروائع الصور ما يقعد به في صفّ كبار الشعراء. يقول: إنه سمع عن عظمة هذا الجيش وعن عَدَده وعُدَده، والخبر غالباً أكبر من العيان، فلما رآه رأى فوق ما سمع، حتّى

لقد شبّهه بيوم الحشر؛ جيش سدّ الأفق بمثل عرض الأفق. وكانوا متوجّهين إلى مصر، أي إلى جهة الشرق، فحجب غبارُ الجيش الشمسَ عنهم من هنا وبقيت طالعة من هناك، فقال: رأيت بعيني فوقَ ما كنتُ أسمَعُ ... وقَد راعَني يومٌ مِنَ الحشرِ أروَعُ غداةَ كأنّ الأُفْقَ سُدَّ بمثلِهِ ... فعادَ غُروبُ الشّمسِ من حيثُ تطلُعُ فلم أدرِ إذْ سلّمتُ كيفَ أشيّعُ ... ولم أدرِ إذْ شَيّعتُ كيفَ أودّعُ وكيفَ أخوضُ الجيش والجيشُ لُجّةٌ ... وإني بمَنْ قادَ الجيوشَ لَمولَعُ وأينَ؟ وما لي بينَ ذا الجمعِ مسلَكٌ ... ولا لجوادي في البَسيطةِ موضعُ إلى أن قال: تسيرُ الجبالُ الجامداتُ لسَيْرِهِ ... وتسجُدُ مِنْ أدنى الحَفيفِ وتركعُ لا تظنوا أن تشبيه أسلحة الجيش بالجبال من المبالَغات، فلقد كان المسلمون في تلك الأيام يستعملون في الحرب أسلحة كثيرة، منها الكِباش: عربات لها رأس مستطيل من الحديد يدفعونها لتثقب الأسوار، والعرّادات التي كانت مثل المدافع، تقذف النار التي كانوا يسمّونها «النار اليونانية». وكانت لهم أبراج محميّة ذات طبقات متعدّدة تمشي على دواليب، تسير مع الجيش. هذه التي شبّهها الشاعر بالجبال.

ثم وصف ظاهرة ممّا يصنع الجيش موجودة دائماً ولكن لم ينتبه إليها الكثير من الشعراء، هي أن الجيش إذا نزل منزلاً نصب خيامه وأقام بنيانه فيتحول منزله إلى مدينة كاملة. والصورة القريبة لهذا ما ترونه في عرفات وفي منى أيام الحجّ. عرفات بسيط من الأرض ما فيه شيء من البناء، فإذا كان يوم عرفة تحوّل فصار مدينة كاملة بطرقها وبنيانها وناسها. وقال: إذا حلّ في أرضٍ بناها مدائناً ... وإن سار عن أرضٍ ثوَتْ وهْي بلقعُ ثم وصف الجيش في الليل وهم يرفعون المشاعل التي لا يُحصى عددها، وهي صورة حقيقية واقعية: فلما تداركْتُ السُّرادِقَ في الدُّجى ... عَشَوْتُ إليهِ والمَشاعلُ تُرفَعُ وهَمْهَمَ رَعدٌ آخِرَ الليلِ قاصفٌ ... ولاحَ مَعَ الفجرِ البَوارقُ تلمُعُ وفزع الوحش قبل أن يفزع الناس من هذا الجيش، فتساءلوا فيما بينهم: ماذا حلّ بنا؟ وأوحَت إلينا الوحشُ: ما اللهُ صانعٌ ... بنا وبِكُم؟ من هولِ ما نَتَسمّعُ ولم تَعلمِ الطّيرُ الحَوائمُ فوقَنا ... إلى أينَ تَستذري ولا أينَ تَفزعُ إلى أن تَبَدّى سَيفُ دَولةِ هاشمٍ ... على وجهِهِ نورٌ مِنَ اللهِ يَسطَعُ

وقد لاحظتم أن الصورة الأخيرة مسروقة من قصيدة البحتري في المتوكّل التي مرّت قبل قليل، ولم يبلغ فيها مبلغَ البحتري ولا سما سُمُوّه. ولكن لابن هانئ قصيدة مفردة لا أعرف لها مثيلاً في شعرنا هي قصيدته في وصف الأسطول، وكان يومئذ أقوى أسطول في البحر الأبيض المتوسط الذي كان يُسمّى تارة بحر الروم وتارة بحر العرب. مَن قرأ هذا الوصف علم بأن هذا الأسطول كان -لضخامته وكبر سفنه وقوة سلاحه- كأنه من أساطيل الدول الكبرى في هذا العصر. يقول: مَوَاخِرُ في طامي العُبابِ كأنّها ... لِعَزْمِكَ بأسٌ أو لكفِّكَ جُودُ أنافَتْ بها أعلامُها وسَمَا لها ... بناءٌ على غَيرِ العَراءِ مَشِيدُ عمارة ضخمة ولكنها ليست مبنيّة على أرض راسية، وإنما هي مَشِيدة على وجه الماء: مِنَ الرّاسياتِ الشُّمِّ لولا انتقالُها ... فمنها قِنَانٌ شُمَّخٌ ورُيودُ أي أن هذه السفن كأنها الجبال الراسية، وكأن فيها الصخور العالية الكبيرة، لكنها تنتقل وتمشي: مِنَ الطيرِ إلاّ أنّهنّ جَوارحٌ ... فليسَ لها إلاّ النفوسُ مَصيدُ مِنَ القادحاتِ النارَ تُضْرَمُ لِلطُّلى ... فليسَ لها يومَ اللقاءِ خُمودُ إذا زفرَت غَيظاً ترامَتْ بمارجٍ ... كما شُبَّ من نارِ الجَحيم وَقودُ يصف سلاحاً فيها يشبه المدافع وليس بالمدافع، يطلق النيران على الأعداء:

فأفواهُهنّ الحاميات صواعقٌ ... وأنفاسُهُنّ الزّافِراتُ حَديدُ * * * أنا لا أريد أن أعرض الآن كلّ ما كنت أدرّسه يومئذ، ولكن أعطيت مثالاً عليه. كنّا إذا أخذنا قصيدة في الوداع ذكرت لهم كلّ ما أحفظ أو أعرف من أبيات الوداع، وإذا مرّت قطعة في سلوّ الحبّ ونسيانه أمليت عليهم ما أعرفه من قصائد ومقطوعات في هذا الموضوع؛ كنت في تلك الأيام أعيش بالأدب وأعيش للأدب، حتّى إن ذلك ظهر في ما كنت أكتبه وأنشره في «الرسالة» أو في غيرها. ولو أني كتبت ما كنت ألقيته على الطلاّب لجاء منه شيء ليس له نظير. ولكن ما نفع «لو»؟ إن «لو» من عمل الشيطان. * * *

إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

المحتويات الحلقة (68) شهادة للبيع والانتقال معلّماً إلى «زاكية» ... 5 الحلقة (69) الجولان وجبل الشيخ ... 17 الحلقة (70) رحلة الحجاز (1) الخروج من دمشق ... 27 الحلقة (71) رحلة الحجاز (2) في متاهات الصحراء ... 39 الحلقة (72) رحلة الحجاز (3) الوصول إلى القُرَيّات ... 49 الحلقة (73) رحلة الحجاز (4) في الطريق إلى تبوك ... 59 الحلقة (74) رحلة الحجاز (5) في تبوك ... 77 الحلقة (75) الخطّ الحديدي الحجازي ... 89 الحلقة (76) ذكريات عن رمضان (1) ... 101 الحلقة (77) ذكريات عن رمضان (2) ... 115 الحلقة (78) رحلة الحجاز (6) جدّة قبل نصف قرن ... 129 الحلقة (79) رحلة الحجاز (7) لقاء الملك عبد العزيز ... 141 الحلقة (80) رحلة الحجاز (8) في مكة ... 153 الحلقة (81) ذكريات عن القوّة والرياضة ... 165 الحلقة (82) رحلة الحجاز (9) ساعة الوداع ... 179 الحلقة (83) في التعليم: مواقف ومساومات ... 191 الحلقة (84) الوقفة الكبرى ... 207 الحلقة (85) من ذكريات القلم ... 225

الحلقة (86) في وداع عام فات واستقبال عام آتٍ ... 241 الحلقة (87) السنة التي مات فيها شيخ الشام ... 255 الحلقة (88) المدرسة الأمينية ... 265 الحلقة (89) أنا والقلم ... 281 الحلقة (90) ذكريات بغداد (1) ... 293 الحلقة (91) ذكريات بغداد (2) ... 305 الحلقة (92) التعليم في المدرسة الابتدائية ... 317 الحلقة (93) ليلة على سفح قاسيون ... 329 الحلقة (94) في الطريق إلى بغداد ... 339 الحلقة (95) التدريس في بغداد ... 353 الحلقة (96) الليلة التي ثار فيها «دجلة» ... 369 الحلقة (97) رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين ... 379 الحلقة (98) دروس الأدب في بغداد (1) ... 389 الحلقة (99) دروس الأدب في بغداد (2) ... 403

الجزء الرابع

ذكريات علي الطنطاوي الجزء الرابع طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

رمضان في بغداد

-100 - رمضان في بغداد (¬1) زارنا في بغداد صديق قديم عرفته وأنا صغير جداً قُبيل الحرب العالمية الأولى فأحببتُه، ثم رأيت أثره الخيّر في كل مكان من دمشق فأكبرتُه، ثم لم أعُد أراه فعلمت أني قد افتقدته وأضعتُه. كان إذا جاء ضُربَت لقدومه المدافع واحتفى به الناس، وبدّلوا من أجله برامج حياتهم ومواعيد طعامهم ومنامهم، ولكنه كان -على ذلك- يؤنس نفوسهم ويريح أرواحهم، وكان اسمه رمضان. ولكنه جاءنا هذه المرّة مستخفياً. قابلته في الأعظمية فرأيته في المسجد وفي الدار وفي السوق، ولكنني لمّا نزلت إلى المدرسة شعرت كأنه ضلّ عني، فصرت ألمحه ولا أتبيّنه، فتّشت عنه بين الشباب فرأيته مثل الشمس في اليوم الغائم، تظهر تارةً ثم يحجبها السحاب. كانت بغداد في تلك الأيام (1936) مثل الشام ومصر وغيرها من البلاد، فيها شعب متديّن ومع التديّن جهل وابتداع. فيها علماء يحفظون كلّ ما قرؤوا من الكتب، ولكنهم لا يقدرون أن يؤلّفوا ¬

_ (¬1) نُشرت هذه الحلقة في جريدة «الشرق الأوسط» في رمضان.

مثل تلك الكتب، إن سألتَهم عن شيء منها وجدتَ عندهم مثل النبع المتدفِّق، وإن كان سؤالك عمّا لم يجدوه في الكتب جفّ النبع وعجز اللسان، كأنهم يفكّرون بالذاكرة لا يكادون يستعملون الأذهان، ثم إنه قد انقطع ما بينهم وبين الشباب، فلا يفهمون عنهم ولا يصلون إلى القدرة على إفهامهم. ولم تكن قد وصلَت إلى بغداد الروح الجديدة التي نفخها الله في الشباب على يد الشيخ حسن البنّا. وإذا كان الله يبعث لهذه الأمّة كل مئة سنة من يجدّد لها دينها، أي مَن ينفض عنه ما لحق به من غبار البدع والمُحْدَثات، ويغسله ممّا حاول الأعداء أن يُلصِقوه به من الكيد والافتراء، ويرقِّق القلوب المؤمنة التي قست لمّا طال عليها الأمد، فإن الشيخ حسن البنا هو مجدّد هذا القرن. وما لي به من صلة إلاّ الحبّ في الله، ورفقة الصبا عند خالي مُحِبّ الدين الخطيب في أواخر العشرينيات، في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف في باب الخلق. عرفته من تلك الأيام، وأنا في دار العلوم داخلاً إليها وهو خارج منها (¬1). ولم يأتِ الشيخ حسن بشيء من العدم، فلا يَخلق شيئاً من غير شيء إلاّ الله الذي يقول له: «كُنْ» فيكون. ولكن ما جاء به كجذع الشجرة، تتفرّع الأغصان عنه وتستمدّ منه، ويستمدّ هو من الجذور؛ لولاها لما كان، لكنها مخفيّة لا تُرى وهو البادي للعيان. وممّن مهّد له الطريق وأمدّه بأسباب الوصول جماعات سبقوا ¬

_ (¬1) ذلك لأنه دخلها قبل النظام الجديد الذي اشترط لدخولها الشهادة الثانوية، ذكر ذلك في مذكّراته رحمه الله.

إلى الدعوة إلى الله في هذا العصر بألسنتهم وبأقلامهم وبصحفهم، أمثّل لهم ولا أستقريهم، منهم: محب الدين الخطيب، ومحمد رشيد رضا، وقبلهما الشيخ محمد عبده، ومنهم المشايخ الذين أخذ عنهم حسن البنا العلم أو «الطريق»، ولكن الله ادّخر له هذه المَكرُمة ليفوز بها وليكون ثوابها في صحيفة حسناته، وأمدّه الله بقوّة الإيمان وحُسن الخلق ونفاذ الفكر وطلاقة اللسان حتّى كان ظهورها على يديه. عرفت الشيخ حسن البنا وهو شاب مغمور لا يمتاز من أقرانه الشباب، وعرفته وقد أوفى على الغاية وبلغ الذروة وصار أقوى رجل في مصر؛ صار إمام الشباب وعَلَم البلد، فما تبدّل عليّ ولا بدّلت أسلوبي معه. كنت أكلّمه خالياً كما كنت أكلّمه لمّا عرفته أول مرّة في المطبعة السلفية، فإذا كنّا أمام الناس كلّمته كما ينبغي أن يُكلَّم مثله (¬1). ولئن أبطأ وصول الدعوة إلى طلاّب العراق فإن لذلك أسباباً: منها وجود العدد الكبير من اليهود بين الطلاّب: أمامي الآن ستّ قوائم رسمية بأسماء طلاّب الشهادة الثانوية الذين كنت أدرّسهم في تلك الأيام، ثلاث منها للشُّعَب الأدبية وثلاث للشعب العلمية، في كل شعبة نحو ثمانية وثلاثين طالباً. لو كنتم تسمحون لي لسردت أسماءهم لتعرفوا نسبة الطلاّب اليهود في ¬

_ (¬1) تجدون في مقالة «طرق الدعوة إلى الإسلام» في كتاب «فصول إسلامية» حديثاً وافياً عن الشيخ حسن البنا وعن دعوته (مجاهد).

الشعب العلمية إلى مجموع الطلاّب. كان في كل شعبة علمية نحو خمسة وعشرين طالباً يهودياً من الثمانية والثلاثين طالباً الذين تشتمل عليهم الشعبة! تعرفونهم بأسمائهم: إيلياهو شوع، إيلياهو روبين، سليم ساسون، مينون مير عزرا، يهودا منشي، شمعون نسيم هارون، ناجي إسحق، يوسف أفراييم، داود حسقيل، موشي عزرا ... وأمثال هذه الأسماء المنكرة. وما كنّا نحن المدرّسين ولا كان الناس في بغداد يفرقون -من كرم نفوسهم وطيب شمائلهم- بين يهودي ومسلم. ما كان يضيع عليهم شيء من حقّهم، بل كانوا يأخذون عشرة أضعافه ثم يسرقون حقّ غيرهم، فلما قامت على أرض فلسطين هذه الدولة الآثمة الظالمة لتسلب العرب أرضهم وتسرق أموالهم وتتعدّى على حرّيتهم وكرامتهم، لا بقوتها وبأسها، فما كان اليهود أبداً أُولي بأس وقوّة ولا كانوا أولي نُبل وشهامة، بل بقوّة مَن يقوم وراءها يحميها ويقويها على باطلها ويمدّها بما يزيد عدوانها. لمّا قامت هذه الدولة نسوا تلك المعاملة التي كنّا نعاملهم بها والتي لم يجدوا مثلها من أمة من الأمم، وانضمّوا إلى دولة إسرائيل. أنكروا فضلنا كما جحد أجدادهم فضل أجدادنا! وهذه هي أخلاق اليهود في كلّ زمان ومكان، اليهود كلّهم لا الصهيونيون فقط، لا فرق بين يهودي وصهيوني، تتبدّل الثياب ولا يتبدل مَن فيها. وكانت نسبة اليهود في بغداد إلى مجموع سكّانها أعلى نسبة، أو من أعلى النسب في العالَم، حتّى إن المرء لا يكاد يستطيع أن يشتري سلعة يوم السبت! كانت الوظائف المالية في أيديهم، وكان في بغداد عند الجسر العتيق خان قديم أظنّ أن

اسمه خان الباشا، فيه -كما فهمت- كِبار تُجّار الجملة والصرّافون وأهل العملة وكثير منهم، كثير جداً من اليهود. فضّل الله ناساً من أجدادهم على العالَمين في أيامهم، وأعطاهم النبوّة وأعطاهم المُلك وجعلهم أصحاب الدين، فبدّلوا الدين وقتلوا النبيّين، وافتروا على الله الكذب، وارتكبوا كل نقيصة يمكن أن يرتكبها إنسان. ومن نقائصهم أنهم ذهبوا إلى إسرائيل فكانوا قوّة لها علينا. مَن كان يفتح إذاعة إسرائيل ويستمع منها الموشّحات والأغاني، لا سيما القديمة منها كأدوار عبده الحامولي ومحمد عثمان وداود حسني (اليهودي)، علموا أن هذا كله من عمل اليهود الذين هاجروا من العراق. والذي يقوم على شُعبة الموسيقى في إذاعة إسرائيل واحد منهم، متمكِّن من فنّه راوية حافظ لقديم الألحان، إن لم أُسَمّهِ فإن اسمه يُذاع كلّ يوم. والمقامات العراقية ينبوع غزير من ينابيع الموسيقى العربية اليوم، وهي تزيد على العشرين مقاماً، وقد أضاف إليها مقاماتٍ جديدة صديقُنا القبانجي الذي حاز قصب السبق في الموسيقى الشرقية في مؤتمرها الذي عُقد في مصر سنة 1923 على ما أذكر. وللمقامات قواعد وأصول، تبدأ بمقدّمة قصيرة يتبيّن منها ملامح النغمة، ولا أعرف اسمها فما أنا من علماء الموسيقى، لكني أعرفها، وأعرف أن المقامات منها المقيَّدة التي يكون لها طريق مرسوم في التنقل بين النغمات لا يُعدَل عنه، ومطلَقة يتصرف فيها المغني. وهم لا يقولون: "غنّى المقامَ الفلاني" بل يقولون: "قرأ المقام". * * *

عفوكم، لقد خرجت عن الطريق. وقد كنت أتكلّم عن الشباب لم أكَد أجد بينهم أثراً لرمضان (¬1)، ومن أين يأتيهم التأثر به والعلماء مُنزَوُون لا يعرفون مشكلات الشباب ليداووها. وهل يمكن وصف الدواء قبل تشخيص الداء؟ وما نراه اليوم في بعض شباب العراق من عودة إلى الدين فقد نشأ بعد الأيام التي أتحدّث عنها، وكان -والشهادة لله- بعمل الصديق الداعية الشيخ محمد محمود الصواف، بعد ذلك الحين بأكثر من عشر سنين، وسيأتي خبره إن شاء الله. وكنت أحبّ أن أمشي على رجلي في كل بلد أدخلها. فكنت أخرج من الثانوية المركزية إلى آخر شارع الرشيد، عند الباب الشرقي، وما بعد الباب الشرقي إلاّ شارع على امتداده لم يكن قد عُبِّدَ يومئذ ولا سُكن اسمه شارع أبي نواس. فكنّا نؤمّه بعض العشايا، فنجلس مجلساً ما في المجالس أجمل منه منظراً، ونأكل طعاماً ما في المآكل أشهى منه طعماً. المجلس عند دجلة عند الأصيل، والطعام السمك المَسْقوف (المزقوف). يُخرِج لك الصيّاد السمكة من الماء وهي حيّة تضطرب، فينظّفها ويضعها على الجمر المتوقد بحيث تكون سقفاً له، ثم يأتيك بصينية عليها أنواع من الخضر ممّا أعرف كالبقدونس والكرّاث وما لا أعرف، ويأتيك بالخبز قد خُبز الآن. ولكلّ بلد أكلة شعبية، وهذه أكلة بغداد التي يقول المصريون عن مثلها: إنك تستطيبها حتّى تأكل ¬

_ (¬1) اقرأ مقالة «صورة سوداء من بغداد» التي نشرها علي الطنطاوي سنة 1937، وهي في كتاب «بغداد» (مجاهد).

أصابعك بعدها! ولو صحّ هذا الكلام ما بقي إصبع في كفّ إنسان. ولم يكن في شارع الرشيد على طوله بناء يعلو أكثر من ثلاث طبقات، لأن الأرض كما قالوا رخوة لا تحتمل البناء العالي. وكنّا نقف أمام دجلة فنرى الماء عند الفيضان -لولا هذه السدود من التراب القائمة على جانبَي النهر- يكاد يصل إلى صدورنا. وأول بناء عالٍ شُيّد على أيامنا تلك، بناء لتاجر أذكر أن اسمه حسّو. أقامه كما قالوا على قاعدة واسعة من الأبرق (الإسمنت المسلّح). وكنت أحياناً أمشي وسط الأسواق، أخرج من الثانوية المركزية فأمرّ على سوق السراي، حيث تُباع الكتب وحيث أكثر المكتبات، ثم تتبدّل البضائع فيكون لكلّ تجارة سوق خاصّة بها. ومنها سوق كنت أقف فيه فأحسّ أني في حديقة زهر متعدّد الألوان، فيه أقمشة حريرية ملوّنة. وقريب منه سوق البلّور والتحف والأنوارُ الساطعة القوية تبرق من خلال بلّوره وتحفه، فيكون لذلك منظر بهيج. والأسواق كلّها مسقوفة، لا يحسّ مَن فيها حرّ الشمس ولا يجد بلل المطر، حتّى أنتهي إلى سوق الفضّة حيث أجد عُمّالاً بلِحى طويلة جداً، أصحاب هذه اللِّحى يسمّيهم الناس «الصبة». ولعلّ أصل الكلمة «الصابئة»، فهم ليسوا مسلمين ولا عرباً، ولكنهم ينفردون بمهنة لا يعرفها في الدنيا غيرهم، يتوارثونها بينهم لا يعلّمونها إلاّ أبناءهم، هي الكتابة والنقش على الفضّة.

تُعطيهم ما شئت من صورة أو كلام تختاره، فتأتي من الغد فتأخذ ذلك على حلية من الفضّة أو على آنية. والكتابة لا تمّحي أبداً، على دقّة في الصناعة وجمال في الشكل. جزت هذه الطرق كلها فلم أكَد أجد إلاّ ملامح ضئيلة من رمضان لا تكاد تبين. كنت أرى رمضان في مسجد الإمام الأعظم، ولرمضان في هذا المسجد أثرٌ ما محته من نفسي هذه السنون. وكنت (ولا أزال) أحبّ سماع التلاوة بالنغمة العراقية، وأجدها أقرب إلى الخشوع وإلى الرجولة والقوّة في الأداء وأبعد عن الميوعة والتكسر. ولكنّ عيب كثير ممّن سمعت من أولئك القرّاء أنهم لا يُتقِنون أحكام التجويد. والتجويد هو مخارج الحروف والمدود وأحكام النون والميم، والأداءُ أي الترقيق والتفخيم وإعطاء الحروف حقّها. فهم يطوّلون المدود حتّى تجاوز حدها ويُظهِرون النون التي يكون حقّها الإخفاء (ومن القرّاء المشهورين من يُظهِر النون في مواضع إخفائها كالشيخ عبد الباسط). ومن المفارقات، بل من المقارفات، أنه عُلِّق في المدرسة إعلان بوجوب المحافظة على الصيام ومراعاة حرمة شهر رمضان ومنع المجاهرة بالإفطار، مع التهديد بالعقاب الشديد. فأخذت أنور ومظهر رحمهما الله (أنور العطار وأحمد مظهر العظمة) وذهبنا إلى وزارة المعارف فسألنا عن غرفة من أمضى ذلك الإعلان، فدخلنا عليه فرحّب بنا وأحسن استقبالنا قبل أن يعرف مقصدنا من زيارتنا، وقال: "تريدون قهوة ولاّ شاي"؟ قلنا: لقد جئنا لنشكر لك أنك قمت بما يُرضي الله، وطلبت المحافظة على الصيام ومراعاة حرمة شهر رمضان. فخجل وأطرق برأسه،

وتركناه ودخلنا على المدير العامّ (أي وكيل الوزارة) وهو الرجل الصالح الأستاذ خليل إسماعيل فحدّثناه بما كان. ما كان في بغداد من مظاهر الدعوة الإسلامية إلاّ حفلة سنوية في ذكرى المولد تُقيمها جمعية الشبّان المسلمين، ودروس في المساجد لا يكاد يحضرها أحدٌ من الشباب. ولم يكن يعمل دائباً في مجال الدعوة إلاّ الأستاذ الطائي، وكانت له مجلّة كلّما عطلوها أخرجها باسم آخر، ولقد كتبت عنده مقالات كثيرة، وكنت أزوره فنتشاكى ونتباكى ونأسف على ما وصلت إليه الحال. * * * ولمّا رجعت في الصيف إلى دمشق دعوت إلى داري (وكانت في الخَيْضَرية (الخضيرية) وكانت فيها غرفة كبيرة فيها مجلس عربي) دعوت العاملين في مجال الدعوة إلى الإسلام من أصحاب الصوفية إلى أرباب السلفية، لم أغادر منهم أحداً، ومن فقهاء المذاهب الأربعة إلى الوُعّاظ والخطباء، ومن رجال جمعية الهداية الإسلامية ورجال جمعية التمدّن وباقي الجمعيات، فحدّثتهم عمّا رأيته في العراق وحذّرتهم مثل ذلك المآل. وقلت لهم بعد كلام طويل: أنا لا أريد أن يبدّل أحدٌ منكم طريقتَه ولا أن يغيّر مشربه، ولكنْ أريد شيئاً واحداً؛ هو أن هذا الباب المغلَق إن دفعَته يد واحدة لم ينفتح، فإن اجتمعَت عليه الأيدي الكثيرة فتحته. والذي أريده هو أن نتعاون لا أن يعمل كلٌّ وحده. واقتراحي هو أن تُنتخب لجنة فيها ثلاثة منكم يراقبون الأحداث، فإن رأوا ما يمسّ الإسلام كان عملهم أن يبلغوكم به فقط. هذا هو

وحده عملهم، فمن اقتنع منكم بوجوب العمل عمل على طريقته وأسلوبه: الخطيب يذكر ذلك في خطبته يوم الجمعة، والمدرّس يعرض له في حلقته، والمعلّم يذكره لتلاميذه في مدرسته، وكل واحد ينبِّه إليه أصحابه، ومن كان ذا قلم أو كانت له صلة بأرباب الأقلام وأصحاب الصحف عمل على الكتابة فيها أو دفع إلى ذلك أصحابها، ومن استطاع أن يراجع الوزير الذي يقدر على إزالة هذا المنكَر ذهب إليه (وحده أو مع وفد يختاره) فشرح له الأمر وطلب منه إنكار المنكر. وانتُخبت اللجنة وكان فيها ثلاثة، وكلهم بحمد الله أحياء، أحسن الله ختامهم، وهم الأستاذ محمد كمال الخطيب والأستاذ الشيخ ياسين عرفة وعلي الطنطاوي. * * * أما الروح القومية فكانت قوية عارمة، على أن انقلاب بكر صدقي أضعفها قليلاً وصار للأكراد فيها كلمة. وسيأتي ذكر ذلك مفصلاً عند الحديث عن نقلي إلى ثانوية كركوك. * * *

إيوان كسرى و «سر من رأى»

-101 - إيوان كسرى و «سُرّ مَن رأى» كنت يومئذ شاباً، لا زوجة لي ولا ولد، ولا أَرَب لي في لهو أرتاد أماكنه ولا شغل من أشغال الدنيا أسعى وراءه، فكان وقتي كله للمطالعة وللتدريس. كنت مع الطلاّب دائماً، في غرفة الدرس وفي الفرصة بين الدرسين، وفي الطريق إلى البيت بعد الدروس. يلحقونني، يحفّون بي يسألونني، أدلّهم على كتب فيقرؤونها ثم يأتون إليّ ليناقشوني فيما قرؤوا فيها. ولم تكن سنّي تزيد كثيراً على أسنانهم، فلقد كنت على عتبة الثلاثين وكان أكثرهم فوق العشرين، فما بيني وبينهم إلاّ بضع سنين. ويكون معنا غالباً أنور رحمه الله، وهو سَنيني (أي في مثل سِنّي). وسألتهم مرّة: أين إيوان كسرى؟ قالوا: قريب. ولم أدرِ أنهم في هذا على طريقة البدو في بوادي الشام؛ إذا قالوا قريب أو قالوا على رمية حجر يكون المكان على مسيرة يوم أو أكثر ساعات اليوم! قلت: وكيف لنا بالذهاب؟ قالوا: نحن نذهب معك، نركب من الباب الشرقي. وهم يلفظون القاف جيماً معطّشة (وبعض العرب يلفظونها كافاً فارسية، وأهل الشام ومصر

يجعلونها همزة). أي أنهم قالوا: من الباب الشرجي! ولمّا وصلنا بغداد أنا وأنور استوقفنا عربة، فقلت لصاحبها: خذنا إلى محلّ نَزِه، فقال: تروحون باب شرجي؟ فحسبته يسخر منّا ويشتمنا لأنه ذكر باب الشرج، وكادت تكون بيننا معركة لولا أنه كان ذكياً فأدرك وقال: أعني الباب الشرقي. خرجنا من الباب الشرقي، ولم يكن عنده يومئذ بنيان كثير إلاّ في حيّ البتاويين حيث تقوم بعض البيوت الأنيقة، ثم مشينا بين صفّين من النخيل إلى الهنيدي، وكان فيه المعسكر البريطاني الذي صار -بعد- معسكر الرشيد. وعبرنا نهر ديالي، أحد روافد دجلة، وهو يمرّ في حدائق الرستمية التي لم أرَ مثلها إلاّ قليلاً، في سعتها وفي جمالها وفي ترتيبها وفي روعة حدائقها وجمال أشجارها، كأنها القناطر الخيرية في مصر. وكان فيها دار المعلّمين الريفية التي كان يدرّس فيها رفيقنا أحمد مظهر العظمة رحمه الله، والأستاذ العالِم الزراعيّ الأثري وصفي زكريا رحمه الله، وهو صاحب الكتاب العظيم «جولة أثرية في شمال سورية»، وقد كان عندي فضاع مني، وفتّشت عن نسخة أخرى له فلم أجدها، ويا ليت بعض الناشرين يعود إليه فيطبعه. وفي دار المعلّمين الريفية وقعت حادثة من حوادث التضحيات والمروءات لم تدوَّن، وما أكثر مروءاتنا وتضحياتنا التي لم ندوّنها فنسيناها. إن دجلة ارتفع ماؤها في إحدى السنين وأوشكَت بغداد على الغرق، فاجتمع الأساتذة والطلاّب في دار المعلّمين الريفية، واستعدّوا لكسر نهر ديالي ليفيض عليهم

فينقذوا بذلك بغداد، ولو هلكوا في سبيلها. * * * مشينا بعد ديالي طويلاً في برّية ما فيها شيء حتّى طلعت علينا قرية سلمان باك، أي سلمان الطاهر، القائمة على قبر سلمان الفارسي رضي الله عنه، تلوح على حاشية الأفق تَضِح (¬1) وتغيب، ثم تبينّاها واضحة ورأينا قبّة مسجدها، ورأينا بجانبها بناء ضخماً كأنه جبل. فقلت: ما هذا؟ قال مَن معي: هذه قبّة سلمان الفارسي، وهذا إيوان كسرى. ولما وصلنا إلى الإيوان لم نجد إلاّ طاقاً عالياً متهدّماً وجداراً شامخاً متصدّعاً أحسب أن علوّه عمارة من سبع طبقات، وهو مائل ميلاً خفيفاً جداً بحيث يستطيع الإنسان أن يتسلّقه إذا مد يده إلى آجرّةٍ فيه (وهو مبني بالآجر كسائر أبنية العراق) فتثبّت من قوّتها فأمسك بها، ونقل قدمه من آجرّة إلى أخرى أعلى منها. وصعدت وكدت أقطع ثلاثة أرباع الجدار، وأنا ابن الجبال نشأت بين صخور قاسيون وعلى سفوحه، وإذا بأحد الطلاّب يصيح بي من الأرض: ياأستاذ، ياأستاذ! يريد أن ألتفت حتّى يصوّرني. فلما تلفّتُّ ونظرت تحتي ورأيت الناس بحجم طيور الحمام دار رأسي ولم أعُد أعي على نفسي، وكدت أسقط. ولكن الله أودع في الإنسان ذخيرة كامنة من القوّة يستخدمها عند الشدائد، فنزلت وأنا لا أشعر كيف نزلت فما وعيت إلاّ وأنا على الأرض. ¬

_ (¬1) وَضَحَ يَضِحُ مثل وَعَدَ يَعِدُ.

وقبل ذلك بقليل كان صديقنا الجليل الأستاذ عبد الرزاق السنهوري (الذي عملت معه أنا والأستاذ نهاد القاسم في بعض اللجان القانونية رحمه الله ورحم القاسم) كان قد صعد كما صعدت حتّى صار على سطح الطاق، فلم يعُد يستطيع النزول ولم تصل السلالم إليه، واهتمّت الحكومة به فجاؤوا بطيارة أدلوا منها سلّماً من الحبال، وجعلَت تحوم فوقه وتدنو منه ليتمسّك بالحبل فلا يستطيع، ومرّت ساعة طويلة، والناس مزدحمون على الأرض ينظرون، حتّى أمسك بالحبل فسحبوه إلى الطيارة. ثم وكلوا مَن يمنع الناس من صعود الجدار. هذا الذي قلته هو الهيكل العظمي لزيارتنا للإيوان، فمن أراده مكسواً باللحم والشحم، لابساً ثيابه متحلياً بحليته، وجد ذلك في مقالتي في «الرسالة» في العدد الصادر يوم 12 ذي القعدة 1355هـ (¬1). * * * ولم تكن في العراق في تلك الأيام (1936 - 1937) جامعة، إنما كان فيها مدرسة المعلّمين العالية، وكانت يومئذ في طور التأسيس لم يتمّ إنشاؤها ولم تكتمل فروعها. وهذا النوع من المدارس موجود في فرنسا، فمنه المدرسة المركزية للهندسة (إيكول سنترال) ومدرسة «البوليتكنيك» للفنون الهندسية العسكرية، وكانت شهادة إحداها أعلى رتبة من الإجازة ¬

_ (¬1) وهي مقالة «على إيوان كسرى» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

(الليسانس)، أو هكذا كانت على عهدي بها. درّست في دار المعلّمين هذه مع عملي في الثانوية المركزية ودار العلوم الشرعية، وكان من أساتذتها الصديق الدكتور كامل عيّاد، وهو والدكتور منير العجلاني والدكتور جميل صليبا وقبلهما الدكتور نجيب الأرمنازي من أوائل الذين حملوا شهادة الدكتوراة في سوريا، أي قبل أكثر من خمسين سنة. ولست أكتب الآن للحديث عن دار المعلّمين، ولكن عن سفرة قصيرة المدى على الأرض عميقة الأثر في النفس، وجدت بين أوراقي مقالة عنها. لا أنقل لكم المقالة فهي في مجلّة «الرسالة» عدد يوم الإثنين الثامن صفر 1356، فمن كان عنده مجموعة من «الرسالة» استطاع أن يقرأها (¬1). ولكن آخذ فقرات منها فأضعها خلال كتابتي الآن عنها. والحقيقة واحدة فيما نشرتُه في المقالة وما أكتبه الآن، كالبنت في ثياب التفضّل (أي ثياب الدار) هي البنت نفسها في ثياب استقبال الضيوف. ألا تلبس لضيوفها أجمل أثوابها وتأخذ أفضل زينتها؟ بلى، وإن كانت لا تبدّل جسدها ولا طولها ولا لون عينيها ولا شكل أنفها وشفتيها. كذلك الكاتب، يُلبِس الحقيقة من غلائل الخيال ومن أردية البيان ما يجمّلها به ويحسّنها، ولكن لا يبدّلها. فإن ازداد التزويق ووصل «الماكياج» إلى الحدّ الذي يكاد يُخفي حقيقتها (فلا يبدو منها إلاّ قناع التجمّل التي قنّعوها به، ولا تكاد تُعرَف إلاّ بقامتها ومشيتها وحركاتها، يستدلّ بها الناظر عليها ولا يتأكد منها ويُكمِل بتخيّله ¬

_ (¬1) وهي مقالة «سُرّ مَن رأى» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

وتذكّره الذي يراه منها ببصره) كان شيئاً يشبه -ولو من بعيد- الأدب الرمزي. * * * لما اجترح المعتصم هذه السيّئة التي جرّت أذيالها الوسخة المسمومة قروناً على تاريخنا، واستقدم غلمان الأتراك واتخذهم درعه وحصنه وجعل عليهم اعتماده، ودلّلهم حتّى عاثوا في بغداد فساداً وآذوا الناس، ذهب أهل بغداد إلى المعتصم يشكونهم، فلما لم يسمع منهم هدّدوه بالحرب، فقال: وكيف تحاربونني؟! كأنه يريد أن يقول إن الجيش معه والسلاح في يديه والمال تحت أمره. قالوا: نحاربك بسِهام الأسحار. قال: وما سهام الأسحار؟ قالوا: ندعو الله عليك. قال: هذه والله حرب ما لي بها طاقة. ووعدهم خيراً، وذهب فبنى «سُرّ مَن رأى» ونقل جنوده وحاشيته إليها. فيا أيها المظلومون في أرجاء الأرض، يا من قَوي عليهم عدوّهم وعدوّ دينهم ونالهم بالأذى وسامهم الخسف، وطغى فيهم وبغى حتّى ظنّ أن الله غافل عمّا يعمل. أقول لهؤلاء: ما لكم نسيتم هذا السلاح؟ ولماذا لا تحاربون بسهام الأسحار، بعد أن تبذلوا جهدكم في العودة إلى دينكم والقيام بما أوجبه الله عليكم من جهاد عدوّه وعدوّكم؟ * * * أنا مولع بالوقوف على الآثار لأني أحسّ أمامها كأني عشت عمري وعمر غيري، أتصوّر كأني مع مَن مضى، أتخيلهم كيف

كانوا يعيشون حين أرى ما خلّفوا وراءهم من الآثار، أعيش تاريخهم كأنني عُدت إليه، فإن التاريخ زمان ومكان وناس، أمّا الزمان الذي مضى فلا يعود، وأما الناس الذين ماتوا فلا يرجعون، ولم يبقَ إلاّ المكان؛ فأمكنة الآثار هي أوعية التاريخ. لقد رأيت الأهرام وأعمدة بَعْلَبَكّ وتَدْمُر وبابل، وأكثر الآثار الإسلامية. ورأيت مسجد قوّة الإسلام ومنارة قطب الدين في دهلي، وزرت قصر شارلمان في آخن (أكس لا شابيل)، وعرفت الآثار العمرانية الباقية في مصر والشام وغيرهما، في الأموي وقبّة الصخرة ومسجد عمرو، وفي المدارس والقلاع والأسوار في كثير من البلدان. لكن ما رأيت مثل «سُرّ مَن رأى». إن المدن تخرب بالحروب وبالزلازل وبالأحداث الطبيعية والبشرية، تخرب شيئاً بعد شيء بعد أن تكون قد عاشت حتّى أدركَتها الشيخوخة ونال منها البِلى. ولكن سُرّ مَن رأى ماتت فجأة؛ ماتت وهي شابّة لمّا تكمل الخمسين، وخمسون سنة في عمر المدن خمس ساعات من عمر الإنسان. ما أعرف مدينة ماتت مثلها فجأة إلاّ بومبي (في إيطاليا) لمّا ثار بها بركان فيزوف، فغطّاها بلحاف من الحمم برد فتجمّد فدُفنَت فيه حيّة، فصار قبراً لها. لقد لبثَت تحته حتّى كُشف عنها الغطاء بعد قرون وقرون، فعادت كما كانت ولكن بلا روح: الذي كان قاعداً في داره مع امرأته ظهر كما كان حين نزلَت عليه حمم البركان، والذي كان يشتغل في دكّانه، والماشي في طريقه، والعاري يغتسل في حَمّامه! وكذلك يُبعَث الناس يوم القيامة على ما ماتوا عليه.

فاللهمّ أمِتْنا على الإيمان. ربّ تَوَفّني مسلماً وألحقني بالصالحين، وإن لم أكن منهم. والذي نقّب عن «سُرّ مَن رأى» وكشفها للناس هو هرسفلد الألماني الذي حفر فيها سنة 1911 طول السنة وبعض 1912 بإشارة من أستاذه سار. أفليس من أعجب العجب أن آثارنا لم يبحث عنها ولم يكتشفها لنا إلاّ غرباء عنّا؟ إن في جوار دمشق قريتين هما مَعْلولا وجَبَعْدين؛ هاتان القريتان وحدهما دون أهل الأرض جميعاً تتكلمان اللغة السريانية، واللغة السريانية لهجة من اللغة الآرامية. فما فكّر أحد منّا في درس هذه اللغة ومعرفتها حتّى جاء مستشرق شابّ من آخر الدنيا، من ألمانيا، اسمه رايخ ليدرسها! أما إن هذه الآثار لو كانت لغيرنا لحًرثت هذه البقاع حرثاً، ثم أُخرجت كنوزها فملأت نفوسَ أهلها عِزّة بماضيهم، ثم كانت لهم أجنحةً يطيرون بها في معارج العلاء في مستقبلهم. إن تحت هذه الأرض عِلْماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس فوقها مَن يحفل العلم والمجد والجلال. * * * سرنا إلى «سُرّ مَن رأى» في قافلة من كبار طلاّب دار المعلّمين العالية في بغداد، ومعهم الدكتور كامل عياد وأنا، فجزنا بالأعظمية وعبرنا النهر إلى الكاظمية، ثم استقبلنا الفضاء. رأينا على طريقنا جسراً قائماً وحده في الفلاة ذا قناطر ثلاث، عليه كتابة ظاهرة تدلّ على أنه بُني في أواخر العهد العباسي على نهر دُجَيل

ليسقي مدينة حَربي. فتلفّتنا حولنا فإذا النهر قد جفّ، والمدينة قد مُحيت، والعهد العباسي قد انقضى. وإذا بلاد الله تتقدّم ونحن أحياناً نتأخر ونرجع إلى الوراء. سرنا بعدها قليلاً فطلعت علينا «المَلْويّة» على حاشية الأفق، وهي منارة جامع المتوكّل، عالية تبدو من بعيد كالصرح الهائل. وهي علَم البلد، كما أن قبّة الصخرة علَم القدس وبرج إيفل علامة باريس وتمثال الحرية علامة أمريكا. ثم بلغنا النهر فعبرناه ودخلنا قرية كبيرة هي سامرّاء، نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة. ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلّمو المدرسة الذين أولونا من أياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم ما أذكره لهم بالشكر بعد هذا الزمن المديد، فلولاهم ما رأينا شيئاً ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع. هذا ما كان في تلك الأيام، ولعلهم وضعوا الآن عند الآثار أدلاّء وطبعوا مطبوعات تُرشِد السائحين، لأنه عالَم، لأنه شيء عظيم. سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً بمقياس السيارات (بالكيلومتراج) وما قطعنا إلاّ نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا؛ هذا كله نصف البلد وعلى الضفّة الأخرى مثله! وأنا لم أستطع أن أتصوّر كيف كانت هذه البرّية الواسعة التي يضلّ فيها البصر مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وأن بين أولها وآخرها كما بين أول بغداد اليوم وآخرها، بل كالمسافة بين طرفَي القاهرة أو أمثالها من المدن الكبرى.

كان أول ما رأينا المسجد الجامع. وهو كبير جداً، لو وُضعت قرية سامراء الحاضرة (كما رأيناها يومئذ) فيه لوسعها وفضل عنها. لم يبقَ منه إلاّ السور، وهو مبنيّ من اللبِن تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وهي تُعرف عند الناس بالملويّة، أي المدوَّرة (من لوى يلوي). سلّمها من ظاهرها ليس فيه درجات، ولكنه طريق حلزوني ملتو، عريض في أوله ثم يضيق في أعلاه، مؤلف من سبع طبقات. صعدت أنا أربعاً منها ثم دار رأسي فلم أعُد أستطيع الصعود، وبلغ إخواننا ومعهم الدكتور عياد ذروتها، وأخذوا صورة لهم من الأرض وهم واقفون في أعلاها. وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول كل ضلع من أضلاعها أربعون متراً. وارتفاع المنارة قريب من خمسة وثمانين متراً، أي أنها تكاد بعلوّها تحاذي منارات المسجد الحرام! وقد بُنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، لا أنها ملويّة مثلها بل أن دَرَجها من ظاهرها. وبينهما نحو خمس وأربعين سنة فقط. ثم تُركت هذه الصفة في المآذن واتُّخذ لها سلّم من جوفها، ثم تفنّنوا فيه، ففي مسجد تنكز في دمشق منارة لها سلّمان لا يلتقيان، يصعد الصاعد من أحدهما فلا يرى النازل من الآخر. تركنا المسجد وسرنا في جهة واحدة لئلاّ نضل وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل 1150 سنة دوراً عامرة وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتّى بلغنا أنقاضاً حول

سور كبير أخبرَنا معلّم المدرسة أنها أنقاض قصر أم عيسى بنت الواثق (والواثق هو الخليفة العباسي الذي جاء بعد المتوكّل). وعلا بنا على تلّ عال وقال: انظروا. فنظرت فلم أرَ إلاّ برية واسعة لا شيء فيها، فقال: أمعن النظر ودقّق في الأرض. ففعلت فرأيت تلالاً صغيرة منتظمة على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، يمتدّ إلى ما لا يُدرِك بصري آخره. فقلت وأنا مشدوه: ما هذا؟ قال: ميدان تجري فيه الخيل أكثر من خمسة آلاف متر، فلا تغيب عن عينَي الخليفة وهو يرقبها من هنا، من مرقبه العالي. ومضينا نمرّ على الأطلال حتّى بلغنا آثار سور كأنه -من سعته وامتداده- سور مدينة. قال دليلنا: هذا قصر الخليفة. ولم يكن قصراً واحداً ولكنها قصور عددت منها أكثر من عشرة. فسرنا خلالها في طريق مبلَّط، لا تزال آثار بلاطه ظاهرة وقد مرّ عليها نحو اثني عشر قرناً، فجعلت أتخيل كم مشى على هذا الطريق من خلفاء وأمراء وكم شهد من جلال وجمال، حتّى بلغنا القصر الصيفي للمتوكّل. أيّ نظام للتهوية في عصر ما كان فيه كهرباء ولا مراوح ولا مكيفات؟ كنّا فوق الأرض نكاد نهلك من حرارة الشمس، فلما نزلنا رُدّت الروح إلينا، فوجدنا برد الظل وسريان النسيم، بل لقد أحسسنا بالبرد. وفيه البِرْكة، بِركة المتوكل التي كنت أدرّس الطلاب قصيدة البحتري فيها فآخذ ما قال على أنه من مبالغات الشعراء وإلاّ فما عسى أن تبلغ هذه البركة حتّى تظلّ دجلة

«كالغَيرى» منها، تنافسها وتباهيها، وحتى تبدو في الليل كأن سماءً رُكِّبت فيها؟ لقد قِسْتُ قطرها قياساً تقريبياً بخُطاي من أوله إلى آخره فإذا القطر نحو مئتَي متر، كما قاسه البحتري من قبل، ولكن البحتري لم يَقِسْه بالمتر فما كانت قد عُرفت الأمتار، ولم يقِسْه بالذراع فالذراع مقياس ميت وكلّ ما في عالَم الشعر حيّ، لقد قاسها بالسَّمَك! لا يبلغُ السّمَكُ المَحصورُ غايتَها ... لِبُعْدِ ما بينَ قاصيها ودانيها هذا وهي جافّة، فكيف تكون لو عادت وامتلأت بالماء تنصبّ فيها وفوده «كالخَيلِ خارِجةً مِن حَبلِ مُجرِيها»؟ وقامت حول الماء بيوت «الآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانِيها»؟ (¬1) إذن لرأيت أكثر ممّا قال البحتري. ثم وقفنا في الإيوان الكبير، وهو مبنيّ على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وإن كان أصغر. وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يُدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عُقِد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كُتب ¬

_ (¬1) من قصيدة للبحتري فيها: يا مَن رأى البِرْكَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها ... والآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانيها ما بالُ دجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها ... في الحُسنِ طَوْراً وأَطواراً تُباهيها؟ تَنْحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعْجَلَةً ... كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها كأنّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً ... مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها (مجاهد).

فيه من تاريخ السؤدد والنصر. إنا نتخيل هذا القصر كيف كان يعجّ بالحياة ويفيض بالحبّ، حتّى إننا كنّا نسمع الأصوات ونُبصِر الألوان ونشمّ عبق العطر! ونحسّ كأننا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء. كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقَت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة! إن في هذا القصر من الذكريات التي تحتويها هذه الجدران الخرساء وهذا اللبِن البارد ما لو حدّثَت به لجاءت بالعجب العُجاب. إن سؤال الديار وأخبار الأطلال أقدمُ فنون الشعر العربي، وهو أصدق هذه الفنون. * * * وخرجنا من القصر ونحن نحسّ كأننا قد خرجنا من أنفسنا، وانتقلنا من العالَم الشعري الساحر إلى عالم الحقيقة الوعر البارد. ومررنا على جُبّ واسع للماء خبّرنا مَن معنا أن بعض الجاهلين من الأدلاّء والتراجمة يدّعون بأنه سجن ويختلقون عنه الأكاذيب. وهؤلاء الأدلّة والتراجمة بلاء أزرق، يُفسِدون تاريخنا ويشوّهون ماضينا؛ في جامع بني أميّة منارة يسمّيها الناس مئذنة عيسى، سمعت مرّة أحد هؤلاء التراجمة يقول بالفرنسية لبعض السياح: "هذه المنارة هي التي بناها الوليد بن هارون الرشيد ليسوع، ولذلك سُمّيت منارة عيسى"، وهؤلاء السياح يكتبون في دفاترهم ما يقول فينشرونه على أنه كتاب علمي عن الشرق وأهله! ولقد قرأت مرّة لكاتبة فرنسية زارت دمشق وكتبت كتاباً عنها قالت فيه: "ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة قبر النبي في مكّة،

ثم يرجعون ليناموا في بيوتهم"! وما قبر النبي في مكّة، ولا مكّة في دمشق، ولا يخرج أهل دمشق ولا يدخلون، ولكن الحماقة ألوان والجنون فنون. * * * يا أيها القرّاء، إن آثارنا كثيرة تملأ الأرض، ولكن ليس فيها مثل «سُرّ مَن رأى»، لأنها لم تعِش إلاّ مدة قصيرة، ثم رحل ساكنوها عنها فبقيَت كما كانت. فيا أيها القراء، قولوا لمن يزور العراق: لا تنسَ أن ترى آثار «سُرّ مَن رأى»، فإنه إن فاتك مرآها لم تجد في الآثار مثلها. * * *

«قصة» انتهت بنقلي إلى البصرة

-102 - «قصّة» انتهت بنقلي إلى البصرة علّمونا ونحن صغار أن الولد المهذب هو الذي لا يرفع بصره عن الأرض إذا كان مع الكبار، وإذا قعد أمامهم ضمّ أعضاءه بعضها إلى بعض وأحنى رأسه ولم يتكلم حتّى يُسأل، وإن سُئل خفض بالجواب صوته، وكلّما نطق بجملة أعقبها بقوله «سيدي»، وإن قابل كبيراً قبّل يده ورفعها إلى جبينه. ثم تعلّمنا في المدرسة أن المسلم يكون أبداً عزيز النفس مرفوع الرأس جريئاً، إن تكلّم أسمع. أي أنهم وجّهونا وجهتين متعارضتين، فكان عليّ أن أمشي إلى الوراء وأنا أتقدم إلى الأمام، وأن أصعد نازلاً وأنزل صاعداً. وكنّا في ذلك صورة من عصرنا؛ فلقد كان -كما قلت مرّات- عصر انتقال من حال إلى حال، مرّ بمثله العرب لمّا حملوا الإسلام ففتحوا به البلدان، ومرّ به الرومان لما أخضعوا أمة اليونان، ولا تزال الأمم تمرّ بمثله في كلّ زمان ومكان. كنّا في عزلة عن أوربّا، عزلة مادّية وفكرية، لم نُشِد حضارة

مثل حضارة أجدادنا ولم نقتبس ممّا شاد غيرنا. كان بيننا وبينهم باب، ولكنه لم يكن محكَم الإغلاق بل كان فيه فرجة يدخل علينا منها بعض الجديد، فكان ممّن سبقونا قليلاً مَن نال نصيباً (كان يُعَدّ يومئذ كبيراً) من جديد أوربّا. كان منهم من درس في إسطنبول ومن درس في فرنسا وإنكلترا، ولكن هذا النفر القليل لم يكن له أثر ظاهر في حياتنا. فلما كانت الرجّة الكبرى 1914 حرّكت هذا الباب بيننا وبينهم، فلما انتهت الحرب سنة 1918 فُتح الباب على مصراعَيه. من هنا ظهر في مجتمعنا الازدواج: في أساليب الحياة وفي طريق التفكير وفي كثير من المظاهر. وكنّا نحن الذين تلقّوا منه الصدمة الأولى، لأنني وأمثالي كنّا في سنة 1918 في أواخر المدرسة الابتدائية؛ فمن هنا ما ترون من الازدواج أحياناً في تفكيري وفي سلوكي: ما بين محافظة على القديم وتمسّك به ودفاع عنه، وأخذ بالجديد وحماسة له. وما بين اشتغال بالعلوم الأزهرية من الفقه والحديث والتجويد وأخواتها وإقبال عليها وملازمة لعلمائها، ومن حرص على الأدب وعناية به، وتتبّع لقديمه وجديده وأساليب أهله ومذاهب نُقّاده. حتّى نتج عن ذلك أنهم لمّا أنشؤوا في مصر والشام أيام الوحدة لجاناً ومؤسسات للأدب، نثره وشعره، أقصوني عنها وقالوا: هذا شيخ فقيه. ولما ألّفوا المجالس الفقهية أبعدوني عنها، وقالوا: هذا رجل أديب! وما أقول هذا أسفاً على ما ضاع عليّ منها، لا والله. ولو

دعوني إليها لهربت منها، ذلك لأن طبعي يأبى عليّ العمل الجماعي، إلاّ أن أُدعى إلى خطبة أخطبها أو محاضرة ألقيها أو رأي أُبديه ثم أمضي في سبيلي، وما انتسبت في حياتي إلى حزب ولا جمعية ولا هيئة، وكل ما عملته عملته وحدي صادراً عن إيماني وقناعتي، فإن وافق خُطّة قوم كنت معهم في هذا العمل وحده الذي وافق خُطّتي، فإن انقضى العمل المشترَك مضيت في طريقي ومضى كلّ واحد منهم في طريقه. كالذي يريد أن يسافر من مكّة إلى الشام فيرافق من يريد السفر إلى القاهرة، يمشي معه في الطريق المشترَك من مكّة إلى جدة، ثم يتابع كلّ منهما طريقه إلى غايته. وممّا ركّب الله في طبعي أنني طري باللطف أَبيّ على العنف، فمن جاءني من باب اللين والمسايرة والرفق غلبني، ومن جاءني من طريق التحدي والمكاسرة نازلته فكسرني أو كسرته. ولما كنت أدرّس في الثانوية المركزية أول عهدي ببغداد دخل عليّ الصف (الفصل) يوماً شابّ في مثل سِنّي أو يكبرني قليلاً. وكان من عادتي في دروسي أن أدع الباب مفتوحاً، فمن شاء أن يدخل دخل ومن أراد من طلاّبي أن يخرج خرج، لا أمنعه ولا أجبره على أن يستمع إليّ بالعصا. ولو فتح الطالب كتاب الكيمياء في درس الأدب، بل لو قرأ قصّة من القصص لما قلت له شيئاً، ما كنت أمنع إلاّ شيئاً واحداً هو أن يُحدِث الطالب صوتاً يعكّر عليّ صفاء درسي، فإن لم يكن منه صوت فَعَل ما أراد، ممّا لا يحرّمه شرع ولا قانون ولا عُرف.

حسبت هذا الشابّ أحد الذين يدخلون ليستمعوا، ولم يكن ذا سِنّ ولا هيبة ولا شيءَ فيه يدلّ عليه، فقعد في آخر الصف ومضيت في درسي، ورأيته قد أخرج دفتراً صغيراً فجعل يكتب فيه فقلت: حريص على الفوائد يدوّنها لئلاّ ينساها. فلما انتهى الدرس وخرجنا لحقني الطلاّب على عادتهم يمشون معي، ومشى هو معهم. فلما انتهينا إلى غرفة الأساتذة رجعوا ودخلت فدخل هو معي، وافتتح القول بالثناء على درسي الذي سمعه وعلى مقالاتي التي قال إنه كان يقرؤها في «الرسالة». وأنا لا أجد في مثل هذه الحال ما أقوله، لأن من سألني عمّا أعرفه أجبتُه، ومَن حيّاني حيّيته، ومن شتمني شتمته، أما الذي لا ينطق إلاّ بمدحي فماذا أقول له؟ اللهمّ إلاّ كلمات الشكر أعيدها وأكرّرها، ولا أتمنّى إلاّ أن يخلّصني الله من هذا الموقف الذي أراه (إلى الآن) أشَقّ المواقف عليّ. فلما ظنّ أنه خدّرني بمدحه وأنه تمكّن مني، وأنه عقل لساني بالحياء عن جوابه قال: أعرّفك بنفسي، أنا الدكتور فلان من مصر، المفتّش الاختصاصي للّغة العربية. وأحسست أنه مدّ باللقب صوته ونصب عنده قامته، ودانى ما بين حاجبَيه ووقف وقفة القائد الذي يريد أن يُلقي أوامره فتُطاع. وأنا مهما حاولت أن أروّض نفسي على طاعة المفتّشين والرؤساء لا أستطيع، وأجدني مدفوعاً دفعاً لا يُقاوَم إلى المنازلة وإلى مجابهة مَن يأمرني وينهاني مستعلياً، بما يكره، إلاّ اثنين من المفتّشين والرؤساء؛ الأول: مَن كنت أرى له الفضل عليّ بعلم أو سنّ أو تجرِبة، كالمفتّش مصطفى تمر الذي كان أبا التعليم في

سوريا رحمة الله عليه، والذي كان أستاذنا وأستاذ مَن هم قبلنا، وكنّا ونحن معلّمون أمامه تلاميذ، نسمع منه كل يوم جديداً من العلم لا نعرفه أو خلاصة تجرِبة في الحياة لم نمرّ بمثلها. والثاني: مَن يجيء باللطف والأدب واللين، لا يُشعِرك بأنه فوقك وأن له عليك سلطاناً. ولم يكن هذا المفتّش الذي دخل عليّ واحداً من الصنفَين، أو كذلك بدا لي. وبدأ يُلقي عليّ ملاحظاته فاستمعت إليها ظاهرَ الضيق مستعداً للنزال وللصدام، وإذا هي ملاحظات شكلية لا يزيدني اتباعها ولا ينقص مني الإعراض عنها، أي أنها لا تضرّ ولا تنفع، وإنما هي أشياء حفظها من الكتب التي كان يدرسها في الجامعة في فرنسا ترجمها وحملها معه وجاء يصبّها على رأسي. فلما أطال لم أعد أحتمل، وقلبت له ظهر المجنّ وسخنت له القول: «ونحنُ أُناسٌ نُتْبِع الباردَ السُّخْنا» كما قال المتنبّي. وافترقنا على خلاف، وإن حاول أن يعود قبل الفراق إلى الملاطفة وإلى إصلاح الأمر بيني وبينه فما نجح في محاولته. وتناسيته وعدت إلى دروسي، وإذا أنا كلّما لقيت أخاً من إخواننا المدرّسين في بغداد، السوريين منهم والعراقيين، حدّثني عن خلاف بينه وبين هذا المفتّش. ومرّت أسابيع فإذا نحن نتلقى كتاباً صغيراً طبعَته وزارة المعارف وبعثت توزّعه علينا معشر مدرّسي العربية، فيه أوامر ونصائح وتوجيهات بعث بها هذا الرجل وأنزلها علينا من فوق، «من الباب العالي»! فغضبنا واجتمعنا عند الأستاذ محمد مهدي الجواهري الشاعر، وكان من

المدرّسين الذين نالهم أذى هذا المفتّش، اجتمعنا في جريدته التي سَمّاها «الانقلاب» وتكلّمنا في أمر هذا المفتّش، وبثّ كلّ من إخوانه ما لقي منه وعرض الخُطّة التي يراها للردّ عليه والنيل منه. فقلت للجواهري: أنا أكتب قصّة آتيك بها غداً، وأعدك أنها ستطيره من العراق (وكان السفر بالطيارة قليلاً في تلك الأيام) فهل تنشرها كما هي؟ قال: نعم، أنشرها. فكتبتها وحملتها إليه، ونُشرت كما هي في عدد 19 من ذي الحجة سنة 1355هـ. وأنا أُقِرّ الآن (بعد تسع وأربعين سنة) أني ظلمته فيها وأني أسأت إليه، وأن القصّة التي كتبتها كانت هجاءً لا نقداً وكانت للتشفّي والانتقام لا للإصلاح. وغضب وطار إلى مصر، وغضب معه كثير من إخواننا المدرّسين المصريين، وإن لم أمسّهم بشيء فيما قلت وما كان كلامي إلاّ عليه وحده، ولكنهم غضبوا معه. وبقي نفر منهم على مودّتي لم يشاركوهم غضبهم، وكان من هؤلاء أخي وصديقي عبد المنعم خلاّف، وكان منهم الأستاذ الكبير سفير مصر (أو وزيرها المفوض) عبدالرحمن عزّام، الذي اتصل الودّ بيني وبينه على ما بيننا من فارق السنّ والمنزلة والمقام، وكنت أشهد مجالسه وأستفيد منه، فهو من أعرف العرب اليوم بعرب اليوم، وهو مفكّر عميق الفكر، بيِّنٌ رفيع البيان، جاهد الطليان في طرابلس الغرب (ليبيا) (¬1) قبل الحرب، وحسبكم أن من كتبه كتاب «بطل الأبطال»، وهو أجود مختصَر أعرفه في شمائل الرسول عليه الصلاة والسلام. * * * ¬

_ (¬1) كان أسلافنا يدعونها «لوبية».

وأنا من القديم مبتلى بالأرق وطول السهر، لذلك أنام شطر نومي بعد صلاة الفجر، ولذلك أجعل حصصي ومواعيد أعمالي ما استطعت بعد الساعة العاشرة. فجئت المدرسة في موعدي ولم أعلم بما كان قبل وصولي. والذي كان أن الوزارة -إرضاء للإخوة المصريين ولأنها وجدت في قصتي التي كتبتها جملة فيها مسّ بالعراق، حين قلت إنه عرض شهادته على جامعات الشرق والغرب فأبتها ولم تقبلها إلاّ العراق- فأصدرت الوزارة قراراً بإنهاء عقدي وتسفيري. وبعثت به إلى المدرسة وأنا لا أدري، وعلم به إخواننا أنور وغيره وسمع به الطلاّب. وأراد أنور أن يجزيني بما كنت فعلته في مكتب عنبر قديماً سنة 1929 يوم قرروا طرده أسبوعاً، وقد تقدّم خبر ذلك في هذه الذكريات، فوقف مني موقفاً مثله: موقفاً بموقف ويوماً بيوم. فأثار الطلاّب وذهب إلى الأستاذ الأثري (وكان هو ملجأنا عند كلّ ضيق ومَفْزعنا عند كل مُلمّة)، فانتصر لي بإخلاصه المعروف وحماسته وعلوّ منزلته في وزارة المعارف. ثم ذهب أنور إلى الشيخ طه الراوي (وكان يعمل مع الشيخ رضا الشبيبي، رئيس مجلس الأعيان) فكلّمه في أمري، فألقى الشيخ الشبيبي والشيخ الأثري بثقلهما كله في كفّتي، فاجتمع شفاعة هؤلاء الكبار وثورة الطلاّب الذين تركوا دروسهم وأنا في بيتي لا أدري، ومشوا إلى وزارة المعارف وهي إلى جوار المدرسة فاحتلّوها يهتفون ويصيحون، يريدون بقائي وإلغاء هذا القرار. وأوشكَت أن تكون فتنة، فألقى عليهم الرجل الفاضل مدير المعارف العامّ (أي وكيل الوزارة)

الأستاذ خليل إسماعيل كلمة طمأنهم فيها، أكّد لهم أنني باقٍ وأن عقدي مستمرّ. وكان الوزير الأستاذ صادق البصّام قد استجاب لشفاعة الشيخ الشبيبي والشيخ الأثري، وانتهت الرواية. * * * لقد ذكرت الأستاذ الأثري من قبل وحسبتُني قد فُجعت به، فكتبت أستنزل له الرحمة وأبثّ القرّاء حزني عليه وأسفي لفقده، فجاءني من الأستاذ زهير الشاويش من بيروت أن الأستاذ أكرم زعيتر أكّد له أن الأثري والحمد لله حيّ يُرزَق، يكتب وينظم ويحاضر. فمدّ الله في عمره وزاده قوّة إلى قوّته، وبلّغوه سلامي (¬1). فلقد كانت غرفته في وزارة المعارف أحبَّ مكان إليّ في بغداد، وكنت -على ما أُوصَف به من جرأة وما أُلام عليه من تهوّر- أسأله كلّما دخلت عليه أن يخفض من صوته أو أن يُغلِق عليه بابه، حينما كان يتكلم عن الإنكليز ومَن يمشي معهم ويعاونهم، فيزداد كلاماً عليهم، كلاماً صريحاً واضحاً ما كنت أعرف في بغداد مَن يصدع بمثله. وكان له أصدقاء ثلاثة لا يكادون يفترقون كالفرسان الثلاثة في قصّة إسكندر دوماس (وفرسان دوماس في الحقيقة أربعة بعد أن انضمّ إليهم دارتانيان)، وهؤلاء أيضاً أربعة: الأستاذ الأثري والأستاذ حسن رضا مدير الأوقاف العامّ، والأستاذ عبد العزيز الخياط القاضي، والأستاذ هاشم الألوسي مدير المعارف. ¬

_ (¬1) راجع الحاشية في أول الحلقة الخامسة والتسعين من هذه الذكريات (مجاهد).

الأستاذ الأثري هو الذي كان يحامي عني، في هذه النازلة وفي كل نازلة ألمّت بي في العراق. وهو الذي جاء بي إلى العراق، فجزاه الله خيراً ومدّ الله في حياته. أمّا المقالة فهي الآن أمامي وقد اصفرّ ورق العدد الذي نُشرت فيه. قرأتها فوجدت أنها تُعتبَر بالميزان الأدبي قطعة نفيسة، قصّة فيها وصف وفيها تحليل نفسي وفيها سخرية تلسع لسع الزنابير، ولكن فيها بميزان الدين ظُلماً للرجل، فلقد عرفت عند سفري إلى مصر (بعد ذلك بسنين) أنه رجل فاضل وأن له مؤلفات. وأنا أعترف بعد هذا الأمد الطويل أنني ظلمته بهذه القصّة المختلَقة المؤذية، فإن كان حياً فاسألوه أن يسامحني وله الفضل عليّ، وإن كان قد توفّاه الله فأنا أسأل الله له الرحمة وأسأل الله لنفسي المغفرة. * * * انطفأ الحريق ظاهراً ولكن بقيَت النار تعجّ وسط الأنقاض؛ سكتوا عني وتركوني، ولكن المساعي الخفيّة لبثَت تُبذَل لإقصائي وإلغاء عقدي. ونجحَت أخيراً، ولكن لا بإخراجي من العراق بل بنقلي من بغداد إلى البصرة. وما كرهت النقل إليها، بل لعلّي سُررت به؛ فأنا أعرف البصرة من قبل أن أراها، فلماذا لا أراها بعد أن عرفتها؟ إن في نفسي الكثير الكثير من أخبارها، ممّا حصلته من مطالعاتي وممّا قرأته في المدرسة، منذ أُنشئت على عهد عمر العبقري. وفي

كتابي عن عمر (المطبوع سنة 1352) (¬1) خبر إنشائها، إلى أنباء أدبائها وشعرائها وأمرائها، ومباريات مربدها الذي خَلَف سوق عكاظ. قرأت عنها الكثير، وكنت في شبابي أحفظ ما أقرأ. ولا يزال معي بحمد الله أكثر من نصف هذه النعمة، نعمة الحفظ التي أنعم الله بها عليّ، ولكنني صرت أذكر المعنى وأنسى اللفظ، وأحتفظ بالخبر وأنسى المُخبر أو المَرجع. وإذا شكوت ضعف ذاكرتي الآن فإنما أشكو حين أذكر ما كانت عليه، وإلا فأنا أحمد الله، لا أنكر فضله ولا أجحد نعمته، فإنني بالنسبة لأمثالي أقوى ذاكرة ممّن أعرف منهم، وحسبي أن كلّ ما أكتبه هنا من ذكريات مضى عليه الآن نحو نصف قرن، أكتبه من ذهني لا أرجع فيه إلى مذكّرات مكتوبة وليس معي من رفاق تلك الأيام من يذكّرني بما نسيت منه. وإني كلّما رأيت فيما يكتبه إخواني وأصحابي إشارة إلى مذكّرات لهم يرجعون إليها وينقلون منها، غبطتُهم وتمنّيت أن لو كنت مثلهم، لا أحسدهم بل أُسَرّ لهم وآسى على نفسي أني لست مثلهم. * * * لمّا أزف الرحيل وتيقّنت أني مفارقٌ بغداد ذهبت أمشي وحدي، أطوف شوارعها، أقف على مواضع ذكرياتي فيها أودّعها، كما يصنع كلّ عاشق تحمله صروف الدهر على مفارقة ديار المعشوق. وكلّما وقفت على مربع عرضت في ذهني ما كان ¬

_ (¬1) راجع تعليقي في الحاشية في الحلقة الثانية والثمانين من هذه الذكريات (مجاهد).

لي فيه من صلات، وما أخذت منه من ذِكَر، وما خلّفت فيه من عواطف، كأنه كتاب أقرأ فيه فصلاً من قصّة حياتي. ولمّا وقفت على تمثال الملك فيصل (ابن الحسين) ذكرت شيئاً كنت نسيت أن أضعه في موضعه من هذه الذكريات، هو أنه لمّا مات فيصل كانت في الشام رنّة حزن لموته عبّر عنها كلٌّ بأسلوبه وكُتبت فيها مقالات. وكنت في بداية عهدي بالكتابة والنشر. وأراد ناس منّا أن يلبسوا ثوباً ما خيط على مقاس أجسادهم، وأن يأكلوا طعاماً لا يصلح لمعدهم وأمعائهم ولا يوافق أمزجتهم ... تقليداً للإفرنج، تقليد الضعيف للقوي. فسعوا لإقامة تمثال له في دمشق، البلد المسلم الذي ما عرف التماثيل، والذي لم يُنصَب فيه (إلى الآن بحمد الله) إلاّ تمثالان أُقيما في ليلة مظلمة نام فيها العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر (¬1). وكانت الجمعيات الإسلامية جديدة في دمشق (وقد مرّ بكم خبرها في هذه الذكريات)، وكانت لجمعية الهداية الإسلامية منشورات، ولم نكن نحتاج في طبع منشور أو نشر رسالة أو كتاب إلى إذن من أحد، بل نأخذ ما نكتبه رأساً إلى المطبعة فنطبعه. فكتبت منشوراً عنوانه «لا تماثيل في الإسلام» وطبعَته ووزّعَته جمعية الهداية الإسلامية، تاريخه غرّة جمادى الآخرة سنة 1352 (أي قبل اثنتين وخمسين سنة) بإمضاء «علي الطنطاوي، ليسانس في الحقوق». ممّا قلت فيه (وهو الآن بيدي): ¬

_ (¬1) ما أظنهما بقيا تمثالين فقط، فحسبنا الله ونعم الوكيل (مجاهد).

وهل يُعوِز فيصلاً الخلود حتّى تخلّدوه بهذه الأحجار الصمّ وهذه الصخور الباردة؟ أليس باقياً في القلوب وفي التاريخ؟ ألم يخلد من قبله عُمَر وصلاح الدين ولا صور لهم ولا تماثيل؟ فلا تحيدوا عن نهج سلفكم الصالح، ولا تحسبوا أن هذه البلاد العربية المسلمة ترضى أن يُبنى فيها ما بُعث محمدٌ لتهديمه، وأن يأتي في آخر الدهر من يُطفئ النور الذي أضاءه محمد عليه الصلاة والسلام في أوله. لا والله لا يكون ذلك أبداً. ثم هل ضاقت بكم مذاهب التكريم ولم تجدوا مأثرة تخلّدون بها ذكرى فيصل وتنفعون بها هذه الأمة؟ ألا تفتحون مدرسة تبثّ الصالح من مبادئه وتخلّد ذكراه؟ ألا تشيّدون باسمه مستشفى؟ ألا تنشئون باسمه ملجأ أو مصنعاً؟ أغَفِلتم عن ذلك كله ولم تجدوا إلاّ هذه الأحجار الصمّ تمحقون بها مالكم وتؤذون بها المسلمين في دينهم؟ ألا إنّ نصب التماثيل حرام في دين محمد عليه الصلاة والسلام، وإن تبدل الزمن وتغيرت الدنيا. ودينُ محمد ثابت بقرآنه وبهدي نبيّه الذي لا ينطق عن الهوى ... (إلى أن قلت): فيا أيها الملأ، أقلعوا عن هذه الفكرة. وإذا لم يكن بدٌّ من تقليد الغربيين واتّباعهم إلى «جحر الضبّ»، فليكن ذلك مع غير فيصل المسلم وفي غير دمشق حصن الإسلام، والسلام (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر أيضاً مقالة «لا نريد تماثيل» في كتاب «مقالات في كلمات: الجزء الثاني» (مجاهد).

صحبني الطلاّب وبعض الإخوان إلى المحطّة لأسافر بالقطار إلى البصرة. والوداعُ صعب على أيّ حال، ولكن يبدو أنه أشدّ صعوبة عند السفر بالقطار لأنه يبتعد برفيقك عنك شيئاً بعد شيء، كمن يموت مرّات قبل أن يدركه الموت الذي يُنهي حياته. ومن الحقّ أن أشهد أن القطارات في العراق من تلك الأيام (أي سنة 1937) كانت من أحسن القطارات. وأنا لا أجد -إن سافرت- أمتعَ من السفر في القطار لأن راكب السيارة كالمحبوس في الحاشرة (أي الزنزانة) تتيبّس عضلاته فلا يستطيع تحريكها، وإن كانت تقف أحياناً فيخرج منها فيمشي على رجلَيه، وراكب الطيارة يستطيع أن يمشي فيها من مقعده إلى الحمّام لكنه يبقى محصوراً فيها. ولقد أزعج أولادُ الركاب مرّة مضيفةَ (¬1) الطيّارة يَعْدون من حولها ويكادون يُسقطون ما تحمل من كؤوس، فغضبَت وقالت لهم: يا أولاد، إما أن تهدؤوا وتسكتوا وإما أن تخرجوا فتلعبوا «برّا». فصارت نكتة. أمّا راكب القطار، لا سيما إن كان مثل قطار العراق الذي ركبت فيه من بغداد إلى البصرة، فهو يمشي (أي الراكب) من أوله إلى آخره مجتازاً الحافلات كلها في مسلك ضيّق أمام أبواب الغرف المغلقة، لا يدخلها ولا يؤذي من فيها ويرى الدنيا من نوافذ الممرّ. وإن شاء وكان معه الثمن الغالي دخل عربة المطعم فأكل فيها؛ يأكل وهو يرى الدنيا وهي تمرّ به أو يمرّ هو بها، كلّما ¬

_ (¬1) وجود نساء مضيفات يسافرن بلا محرم ويَبِتْن حيث نعلم ولا نعلم عادة سيّئة، يحرّمها دين الإسلام وتأباها خلائق العرب.

أكل عشر لقم تبدّلَت المناظر أمامه. وإن كان بين ركّاب الدرجة الأولى فدفع أجرة المنام فرشوا له المقعد كله فجعلوه سريراً على طوله ووضعوا الوسائد والأغطية البيضاء النظيفة، فنعم بأطيب نومة وأهنئها، بعد أن يكون قد ألف ضجّة القطار، بحيث إنه إذا وقف القطار أفاق. وكذلك الإنسان تملكه العادات وتسيّره، ومن أصدق ما قال قائلٌ شطرُ بيت المتنبّي: «لكلّ امرئٍ من دهرِهِ ما تعوّدا» (وإن كان شطره الثاني أسخف ما قال القائلون) (¬1). ولقد سافرت بعد ذلك في القطار أسفاراً طوالاً كانت كلها متعة وأنساً، منها أنني سافرت من هانوفر إلى بروكسل إلى أمستردام، ومن جاكرتا إلى سورابايا من طرف جاوة إلى طرفها الثاني، وسافرت من قبل ذلك من حيفا إلى القاهرة في قطار دون قطارات العراق، وسافرت في أعجب قطار وأقدمه، القطار الذي صار المُفرَد العَلَم الذي لا نظير له في الدنيا، قطار «دمشق-بيروت» الذي كان يقطع المئة كيل (فقط) بينهما بإحدى عشرة ساعة! * * * ¬

_ (¬1) الشطر هو: «وعادةُ سَيف الدّولة الطّعنُ في العِدا» (مجاهد).

من ذكريات البصرة

-103 - من ذكريات البصرة يقولون إن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، أي أنه يبقى ويخلُد (لو كان شيءٌ يخلد في هذه الدنيا!)، ولكني طالما رأيت نقشاً قديماً على الحجر الصلد قد مُحي، أو مُحي أكثره ولم يبقَ منه إلاّ كلمات معدودة. وذكرياتي عن البصرة ليست نقشاً على حجر، بل ليست كتابة على ورق، وإنما هي صور حملَتها الذاكرة هذه السنين الطوال فأضعت على الطريق أكثرها، لذلك أسألكم أن تسامحوني إذا عرضتها جملة ولم أعرض تفاصيلها ودقائقها. * * * وصلت المدرسة فوجدت باباً كبيراً عليه حارس نبيه، فلم يفتح لي حتّى عرف من أنا وماذا أريد. ولكني عرفت لمّا دخلت المدرسة أن ساحتها ليس لها جدار من الخلف، أي أنها كقبر جحا التركي في قونية الذي زعم مَن رآه أن عليه الأقفال الثقال ولكن ليس له جدران، فمن شاء دار من حوله فدخل، كما دار الألمان في الحرب الثانية حول خط ماجينو الذي قالوا إنه مستحيل

الاختراق، فجاؤوا من بلجيكا فدخلوا فرنسا من الشمال. وكنت أعرف «الفصل» الذي كُلّفت بالتدريس فيه، فلم أدخل على المدير كما هو مطلوب من مثلي، بل دخلت الصفّ (أي الفصل) رأساً. وكنت من الحَرّ قد نزعت ردائي (جاكيتي) وحملته، وشَمّرت كُمّي عن طرَف ساعدي، كأنني طالب كبير. ولا ينبغي للمدرّس أن يصنع مثل هذا، لا سيما في دروسه الأولى قبل أن يعرفه الطلاّب ويثقوا من علمه وفضله، ويثق هو من أدبهم معه واحترامهم له، ولكني أذكر ما كان. ولقد وقعت لي هنا حادثة، سألوني مرّة في مقابلة صحفية عن أطرف ما وقع لي في حياتي في التعليم فتحدّثت بها. هي بإيجاز أنني دخلت وسط المحاضرة (وكان هذا خطأ مني)، فسمعت المدرّس يودّع الطلاّب ويوصيهم بخَلَفه (الذي هو أنا) ويسمّيه لهم ويُثني عليه ويمدحه، فأعجبني ذلك منه وتقدّمت خطوتين، فصاح بي: يا زمال (¬1)، فين داخل؟ تأتي في وسط المحاضرة وتدخل على هذه الحال من قلّة الأدب! (وأشهد الآن أن الحقّ كان معه). قال: وأظن أنك لم تحضّر درسك، هل تستطيع أن تلخّص ما قلته أمس عن البحتري؟ هيا تكلّم عن البحتري يا زمال! وأخذت أتكلّم عن البحتري بلغة سليمة ولهجة موزونة وإحاطة بالموضوع، أستشهد في كلّ موضوع بما قاله هو وما قال ¬

_ (¬1) أي يا حمار، ولعلّها محرَّفة عن الزاملة

الناس فيه، وأشرح ما أجيء به من الشواهد. وشُدِه (¬1) وتركني أتكلّم عشر دقائق أو ربع ساعة، كانت عيناه فيها مفتوحتين وشفتاه متباعدتين وحاجباه مرتفعَين، هيئةَ المدهوش الذي فاجأه ما لم يكن يتوقع. حتّى إذا وقفتُ وقفة تنبّه فيها ممّا كان فيه، وقال: مَن أنت وما اسمك؟ قلت: علي الطنطاوي. وأنا أدع للقرّاء أن يتصوروا أثر ذلك في نفسه بعد الذي قاله عني والذي سمعه مني. وخرج الطلاّب يتحدثون بذلك، وشاع في البلد، فكانت نكتة تُروى كما كان ذلك دعاية لي. * * * وسرتُ مع طلاّب البصرة سيرتي مع طلاّب بغداد؛ كنت أمْحَضهم النصح وأُخلص معهم العمل وأريد لهم الفائدة، وكنت -لوفرة ما كان لديّ يومئذ من معارف- أحرص على أن أنقل إليهم معارفي كلها، فعاد إليّ دائي القديم الذي لا يزال ملازمي إلى اليوم، في خطبي ودروسي وأحاديثي في الإذاعة وفي الرائي، وهو الاستطراد. تُذكّرني المسألة بأختها أو بابنة عمّها، فأكره أن أستأثر بها وألاّ أشارك السامعين فيها، فينقطع مني الخيط الذي يربط حبّات الموضوع. وأحياناً أستطرد فينتهي الاستطراد وأنسى الموضوع الأصلي، وهذا جدّ معي الآن بعدما كبرت، ولم يكن ¬

_ (¬1) شُدِه من الأفعال التي تأتي مبنيّة للمجهول، مثلها مثل اضطُرّ وجُنّ واستُهتر. وعندي رسالة اسمها «إتحاف الفاضل فيما بُني لغير الفاعل» جمع فيها طائفة منها. فإن ذُكر الفاعل قلنا اضطَرّ بفتح الطاء: {ثمّ نَضْطَرُّهم إلى عذابِ الجَحيمِ}.

في الأيام التي أتكلّم عنها في هذه الحلقة. وأنا لا أحبّ نزول الفنادق وأفضّل عليها غرفة واحدة يكون معي مفتاحها لا يدخلها غيري، على أن تكون مَرافقها معها (المطبخ والمرحاض والمغسلة). ولقد نزلت أفخم الفنادق في مصر (أعني القاهرة، لأني لم أزُر الإسكندرية ولم أزُر بلدنا طنطا، مع أني أقمت في مصر سنوات متفرّقات) وفي مدن أوربّا وفي بومباي وفي دهلي وسنغافورة وجاكرتا، وما اطمأننت ولا سكنت إلى واحد منها ولا ذهب من نفسي كرهها. لذلك فتّشت من يوم وصلت البصرة عن دار أستأجرها. وكان أحد زملائنا في بغداد قد دلّني على قريب له يعمل فيها معلّماً في الابتدائية أعزب، وكتب إليه فاستقبلني في المحطّة، وكان دليلي ومساعدي (فأنا من صغري لا أحبّ دخول الأسواق ولا أكاد أشتري بنفسي شيئاً). فوجد لي داراً عربية، وأسكنتُه معي على أن يُعِدّ لي الطعام ويمشي معي إن احتجت، ولا أرزؤه شيئاً بل تكون النفقة كلّها عليّ. ثم إن من أسوأ عاداتي (أو لعلّها من أحسنها، لا أعرف الحقيقة) أني أبقى أكثر ساعات الليل والنهار في بيتي، لا أحبّ أن أزور أحداً إلاّ إذا اضطُررت إلى زيارته أو كان ممّن أعرفه وآلفه، ولا أقعد في مقهى ولا أؤمّ نادياً ولا ملهى. أمّا الدعوة إلى الطعام فأنا أفرّ منها، لأني أعلم أنه يُقدَّم في الدعوات طعام هو أطيب في العادة من طعامي في بيتي ولكني أُسلَب في الدعوات حرّيتي في اختيار الطعام، وحرّيتي في اختيار وقت الأكل، وحرّيتي في اختيار الآكلين.

وكان رفيقي الذي ساكنته يستأذنني ويذهب فيسهر وأبقى وحدي، كما كان يذهب إخواننا الذين كنت أسكن معهم في بغداد وأبقى وحدي. ولم يكن في الدار رادّ (راديو) أستمع إليه، ولم تكن هذه الروادّ الصغيرة التي تعمل بالمدّخرة (بالبطارية) بل كان الرادّ على الكهرباء، وكان كبير الحجم ضخماً غالي الثمن. وأنا لم أضع في الدار إلاّ سريراً من الحديد وكرسيَين من الخشب ومنضدة رخيصة أكتب عليها وآكل عليها. فأصابني أرق شديد، كنت أحاول أن أُكرِه نفسي على النوم فتأباه عليّ، أو تريد هي النوم فيأبى عليها، فأكبس رأسي على الوسادة، ثم أيأس فأقوم فأقرأ حتّى أملّ من القراءة. وما كان معي إلاّ كتب معدودة، وكان في صدر الحارة التي سكنّا فيها قهوة فيها رادّ أو حاكٍ (فونوغراف) لا يزال يصدح بالأغاني إلى مَوْهن من الليل (الموهن نصف الليل) بصوت يغطّي دائرةً قطرُها مئة متر، فيعطّل كل مشغول ويوقظ كلّ نائم ويُزعج كل مريض، وصاحب القهوة لِيَطرَب هو ومن عنده يُكرب هؤلاء جميعاً ومثلهم معهم. وكنت أرى الأصوات وأنا مغمض العينين وأحسّ بها! نعم والله؛ فصوت رفيع ثاقب مثل سنان الرمح، وصوت حادّ مثل شفرة السيف، وصوت ضخم مثل صخرة الجبل، وصوت أجشّ مثل عربة دواليبُها من الحديد تمشي على أرض مبلّطة بالحجارة ... أراها بالعين فلا أنام حتّى أشعر كأنّ أعصابي قد تمزقَت وتقطعَت، وأقوم لصلاة الفجر كالذي مشى عليه فيلٌ فحطّم عظامه، ثم أُصبِح فأغدو إلى المدرسة. ولمّا طال عليّ الأمر ذهبت إلى المستشفى، وكان فيه («فيه»

لا «فيها» كما يقولون، لأن المستشفى مذكر) طبيب من الشام اسمه الدكتور حسن السعدي، فأعطاني بعض المهدّئات. وعندي إلى الآن بضعة أقراص من هذه المهدّئات، وهي الكاردينال (من عيار غرام كامل)، لو أخذها المعمل الذي صنعها فحلّلها لعلم ماذا صنعت خمسون سنة مرّت بتركيبها الكيميائي. ثم ما زالوا يُنقِصون مقدارها حتّى صار القرص بعُشر غرام (100 ملّيغرام) ثم أُلغيت واستُحدثت أدوية جديدة. ولم أستفِد منه ولم أنم. فأخذوني إلى طبيب إنكليزي أحسب أنه داواني بالوهم، فأعطاني قرصاً واحداً، أي حبّة بيضاء. ولا أدري كيف أدخل في نفسي القناعة أن مَن أخذها نام بعد خمس دقائق ولم يُفِق إلاّ بعد سبع ساعات، وأوصاني ألاّ آخذها إلاّ عند الحاجة الشديدة. فوضعتها إلى جانب فراشي وانتظرت وقت الحاجة الشديدة لآخذها، فنمت وهي إلى جانبي. وبقيَت معي حتّى تركت البصرة! فكانت لي كدَخينة (أي سيجارة) بسمارك. * * * رأيت البصرة لمّا جئتها مدناً ثلاثاً صغاراً، بينها كما يقول علماء المعاني من البلاغيّين: شبه كمال الاتصال أو شبه كمال الانفصال؛ فلا هي مدن مستقلّة ولا هي أحياء مدينة واحدة. وهي: ماركيل والعشار والبصرة. أمّا «ماركيل» الذي سُمّي باسمه حيّ المحطّة فهو مَعقل ابن يسار رضي الله عنه، مسخ اسمَه الإنكليزُ بلسانهم المعْوَجّ فصار معقل ماركيل! وأمّا العشار فلا أعرف من أين جاءت هذه التسمية. وكنت

أسمع أن البصرة القديمة التي قرأنا أخبارها وروينا تاريخها هي الزُّبَير، ولست أذكر الآن كم تبعد الزّبير عن البصرة: عشرين أم خمسة وعشرين كيلاً؟ وكنت أمشي مثل هذه المسافة ذهاباً وإياباً بسهولة، فأخذت بضعة طلاّب وذهبنا إليها مشياً على الأقدام. ولست أذكر منها إلاّ قبر الزبَير رضي الله عنه. وأكثر أهل الزبَير من نجد، وهم سلفيون حملوا إليها هذه السلفية التي دعا فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مجدِّد الإسلام في القرن الثاني عشر بلا نزاع) إلى العودة إلى التوحيد الخالص. ومَن عرفت منهم كان يتردّد في إقامته وفي عمله بين الزبَير والعشار (في البصرة). ولقد أخذني أخي الداعية إلى الله الشيخ محمد محمود الصواف في زيارتي الثانية للبصرة سنة 1954 إلى جماعة من أفاضلهم، منهم الحاجّ عبد الله أبا الخيل وهو والد معالي الوزير السابق الشيخ عبدالرحمن، ولست أعلم ما صلته بمعالي وزير المالية الآن. وقد كان عندنا في المدرسة اثنان هما أصلح وأتقى من عرفت من الطلاّب في البصرة في تلك الأيام، هما سعود العقيل وأخوه، وأظنّ أن اسم أخيه محمد، وهما من الزّبَير. ولست أعرف ما خبرهما بعد تلك السنة، وأسأل الله أن يوفّقهما ويوفّق كلّ من نشأ أو ينشأ مثلهما في طاعة الله. ووجدت في الزبَير أثراً للأستاذ تقي الدين الهلالي (مدّ الله في عمره) وبقايا من تلاميذه. ولمّا عدنا بلغ منّا التعب والعطش، حتّى إني لمّا دخلت البصرة لم أعُد أستطيع الصبر، فطلبنا ماءً فلم نجد لأن رجوعنا كان في الليل والطريق كان خالياً وليس فيه سوق ولا دكاكين،

فقلت لمن معي من الطلاّب: اقرعوا أحد هذه الأبواب ليسقونا. قالوا: يا أستاذ كيف نقرع باباً لا نعرف صاحبه والدنيا ليل والناس نيام؟ قلت: يا جماعة، نحن في أول الليل. لقد أذّن العشاء من قليل، والمضطرّ معذور ونحن إنما نطلب شربة ماء. فتهيّبوا ذلك. قلت: أنا أفعل. واخترت داراً يبدو على أهلها اليسار، فقرعت الباب فخرج رجل مشرق الوجه باسم الثغر، فقلت: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام، أهلاً وسهلاً تفضّلوا. ولم نكن ننتظر أكثر من ذلك لنتفضّل، فتفضّلنا ودخلنا وقلت له: إبريق ماء أولاً ثم الكلام. قال: تكرمون. وأسقانا على ظَمأٍ زُلالاً ... ألذَّ من المُدامَةِ للنديمِ وما ذقت بحمد الله المدامة ولا أعرفها، ولكني شربت عنده ألذّ شربة دخلت جوفي، فما أكملنا الشرب حتّى جاءنا بالشاي. وقلت: ألا تعرف أولاً من نحن؟ ألا تسألنا عن قصّتنا؟ قال: من عادة العرب اليوم أنهم لا يسألون الضيف عن اسمه، فإن شاء هو خبّرهم. فقلت: هل سمعت بالطفَيليّين؟ قال: نعم. وتبيّن لنا أنه رجل أديب مطّلع، فحدّثناه حديثنا فضحك وقال: انتم إذن بحاجة إلى طعام؟ قلت: لا، بل نحن بحاجة إلى ورق أبيض وقلم. فتعجّب وقال: ولِمَ؟ قلت: لنكتب وصايانا قبل أن نموت من الجوع، ولتعرف عنواني لتوصل ما معي -إن متّ- إلى أهلي. قال ضاحكاً: وهل معك مال كثير؟ قلت: لو كان معي مال لما تطفّلت عليك! وأمضينا سهرة ممتعة وصرنا أصحاباً.

وأرجو ألاّ تنسبوني إلى الجحود وإلى قلّة الوفاء إن قلت لكم إني نسيت اسمه. وما أنسانيهُ إلاّ الشيطان، وبُعد العهد، وكِبَر السنّ. ولكني لا أزال أذكر كرمه وفضله. * * * أنا ما زرت البندقية (فينيسيا) ولكن قرأت عنها وسمعت قصيدة «المهندس» فيها (¬1) التي غنّاها محمد عبد الوهاب. طرق البندقية ماء وسياراتها الزوارق، وكذلك البصرة. وقريب منها أمستردام، وقد ذهبت إليها مرتين. وكلمة «دام» التي تنتهي بها أسماء مدن هولندا أو أكثرها معناها السدّ، لأن هولندا هي الأراضي المنخفضة، فهم يقيمون السدود ويسرقون الأرض من البحر. كما أن كلمة «بادن» التي تُختَم بها أسماء كثير من مدن ألمانيا معناها حَمّام، أي نبع معدني حارّ. بين العشار والبصرة شارع إلى جنبه ممرّ مائي، فمن شاء ركب السيارة في البَرّ ومن شاء ركب الزورق في الماء. وبساتين النخيل في مدينة أبي الخصيب التي لا يُحصى عددها، لكل منها نهر صغير، أي مجرى ماء، يأتي من شطّ العرب. لا يجري ماؤها كالأنهار، بل يتحرك بالمدّ والجزر كمياه البحار. وكنت أعجب عندما أقرأ في الكتب أنه كان في البصرة عشرون ألف نهر وأقول: ¬

_ (¬1) قصيدة «الجندول» للشاعر علي محمود طه، أما لقب «المهندس» فقد جاءه لأنه تخرج في مدرسة الهندسة التطبيقية. وقد كانت هذه القصيدة سبب شهرته (مجاهد).

ما هذه الأنهار؟ وأين تجري؟ فعرفت لمّا رأيت هذه الأقنية ماذا كانت تلك الأنهار. وأقول -بالمناسبة- إنه كان في العراق قديماً نظام للريّ ما كان له نظير، حتّى إن لجنة من الخبراء أيام الإنكليز درست هذا النظام وكتبت عنه تقريراً نُشِر في ذلك الوقت، وبلغ عجب اللجنة بهذا النظام والإعجاب به الغاية. ولقد ازدادت الأنهار في الماضي حتّى صارت نوعاً من الترف، وحتى قال داود بن علي في خطبته المشهورة: إننا ما خرجنا لنحفر نهراً ولا لنبني قصراً (¬1). «أبو الخصيب» هي الأُبُلّة، وهي أقدم من البصرة لأنها كانت قبل الفتح الإسلامي قاعدة عسكرية فارسية، والبصرة بُنيت بعدها على عهد عمر رضي الله عنه. وأبو الخصيب فيها أكثر من مئة نوع من التمر، أي مثل عدد أنواع العنب في الشام، ومنه شيء رأيناه كما قال ابن الرومي: «كأنه مَقامع البلّور»، شفّاف مُلئ عسلاً مصفّى تبدو نواته ظاهرة من خلاله، وهذا الذي أقوله حقيقة لا مجاز. وأكثر هذه الأقنية والأنهار تمشي فيه الزوارق الصغار، أما ¬

_ (¬1) خطبة داود بن علي بن عبد الله بن العباس التي خطبها بمكة في أول موسم حج بعد تغلّب العباسيين، قال في أولها: "شكراً شكراً، إنّا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً ولا لنبني فيكم قصراً، أَظَنّ عدوُّالله أن لن نقدر عليه حتى عثر في فضل زمامه؟ فالآن حيث أخذ القوسَ باريها ورجع المُلكُ في نصابه في أهل بيت النبوة والرحمة"، إلخ. وهي في «العقد الفريد» و «الكامل» للمبرّد وسواهما من مصادر الأدب (مجاهد).

القناة الكبرى بين العشار والبصرة ففيها زوارق دقيقة طويلة مكسوّة مقاعدها بالقماش الأبيض النظيف، تتمايل على ماء القناة مثل العروس يوم جلوتها، ليس بين ما يركبه الناس من مراكب شيء أمتع منها. ومن غرائب الإنكليز (وليس هذا غريباً عند ذوي الأمزجة الشعرية) أنّ أحد زملائنا المدرّسين منهم لمّا جاءت عطلة نصف السنة استأجر زورقاً من بغداد، زورقاً نظيفاً أنيقاً مريحاً، وقعد فيه وتركه يسير مع الماء من بغداد إلى البصرة، فأمضى أيام العطلة مضطجعاً يتأمّل الضفتين، يقرأ في كتابه أو في كتاب الطبيعة التي طبعها الله ويفكّر، حتّى بلغ البصرة عند بلوغ العطلة نهايتها! ولعلّ لياقوت الحُجّة حين قرّر أن متنزّهات الدنيا أربعة، هي: غوطة دمشق، والأبُلّة التي حَفر نهرها -كما قالوا- زياد أيام ولايته العراق، وشعب بَوّان. وقد نسيت الرابع (¬1). والغوطة أجملها لو كان فيها ماء، لكن أنهرها قد انقطع أكثرها لمّا سحبوا ماءها إلى بيوت دمشق، كما كانت الحال في مَرّ الظهران (أي وادي فاطمة). ولكن نابت عنها الآبار عليها المضخّات الكِبار، تُخرِج الماء ينابيع فوّارة وتُجريه سواقي غزيرة. وماء البصرة كله من شطّ العرب، فهو المنظر العجب؛ بحرٌ ماؤه حلو وشواطئه جِنان تجري فيه البواخر الكبار. لكن ربان الباخرة يرفع يده عن قيادتها ويدع أمرها لناس من أهل البلد ¬

_ (¬1) هو صُغد سمرقند. وانظر ما سبق من إشارة إلى هذه المتنزّهات في الحلقة التاسعة والخمسين من هذه الذكريات (مجاهد).

يعلمون كيف يسيّرونها، لأنهم يعرفون الممرّات العميقة التي تستطيع أن تجري فيها. ولقد خبّروني -لمّا كنت هناك- أن واحداً منهم استنكف عن أن يدع قيادة باخرته لمَن يراه دونه، وقادها بنفسه فوحلت الباخرة ووقفت وعجزت عن المسير. * * * بُني المَصران (الكوفة والبصرة) في وقت معاً، ونشأ في كلّ منهما علم كثير وأدب كثير، وكان النحو بصرياً وكوفياً. والشيء العجيب أن الكوفة قد تضاءلت وتضاءل نحوها حتّى كاد يُنسى، والبصرة قد اتّسعت وكبرَت وغلب نحوُها، فصار هو الذي يُدرَس وحده في المدارس! * * *

في «الكلية الشرعية» في بيروت

-104 - في «الكلّية الشرعية» في بيروت من أفضل مَن عرفت من الناس قوّةَ إيمان وإخلاصاً في الدعوة إلى الله ودأباً عليها، رجل كان من أساتذتي في السلوك لا في العلم؛ حاولت أن أقلّده وأن أكون مثله فما استطعت. رضيّ الخلق، بعيد عن الكبر، قد أمات في نفسه حظّ نفسه وجرّدها للعمل لما يُرضي الله عنها لا لما يسرّها هي ويُرضيها، هو الشيخ صلاح الدين الزعيم. ولقد سبق ذكر أبيه المجاهد الشيخ رضا الزعيم، وسيأتي ذكر أخيه الأصغر حسني الزعيم صاحب الانقلاب في الشام. وإذا كان الذي غرس هذه الشجرة الملعونة السامّة في حياتنا (شجرة الانقلابات) بكر صدقي الذي حدثتُكم حديثه، فإنّ الذي سقاها وغذّاها وكبّرها ونمّاها هو حسني الزعيم. كان الشيخ صلاح يعمل مراقباً للطلاّب في الكلّية الشرعية التي أُنشئت حديثاً في بيروت لتخرج للمسلمين قُضاة ومُفتين ووُعّاظاً ومدرّسين. فلما جئت دمشق للإجازة بعد انتهاء العام الدراسي (1936 - 1937) سألني عن أحوالي في العراق بعد أن

نُقلت إلى البصرة، فما شكرت ولا شكوتُ ولا كنت حامداً ولا ذامّاً، فعرض عليّ أن أكون مدرّساً في الكلّية، وقال إنه مفوض بذلك من سماحة المفتي الشيخ توفيق خالد. فما تردّدت أن قبلتُ؛ لا كُرهاً بالعراق، فقد أحببتها وما زلت أحبّها وأذكر بالخير أيامها، وأستحلي سماع مقاماتها والإصغاء للهجة أهلها الذين لم ألقَ منهم إلاّ النبل والكرم. ولكن لمّا رأيت أنه ما يزال في بغداد من يكيد لي ويتربص بي الدوائر، وأنهم استطاعوا نقلي إلى البصرة بغير طلب مني (وإن لم يَسُؤْني هذا النقل)، فلربّما استطاعوا إذا انتهت مُدّة عقدي ألاّ يُجدِّدوه لي. فقلت في نفس مقالة الزبّاء: «بيدي لا بيد عمرو». لذلك قبلت ما عُرض عليّ. * * * كان الذي يعمل في بيروت كالعامل في الشام، لأن السفر بينهما كان يومئذ كالسفر من مكّة إلى جدّة؛ متى خطر على بالي خرجت فركبت السيارة من أمام الدار في دمشق فلم أنزل إلاّ أمام الدار التي أقصدها في بيروت. كانت السيارات في «المَرجة» في دمشق تنادي النهار كله وطرفَي الليل: بيروت، بيروت ... وكان أكثرها من سيارات فورد الصغيرة تحمل أربعة ركّاب: واحداً إلى جنب السائق وثلاثة في الصدر، والأجرة ليرة. والليرة في البلدين واحدة، ما كان للبنان ليرات غير ليرات الشام.

ولا تبعد بيروت عن دمشق أكثر من بُعد جدة عن مكّة، ولكننا ما كنّا نصل قبل ساعتين، فإن أسرعنا كثيراً نقصنا منهما قليلاً. ذلك لأن طريق جدة سهل تسير فيه على أرض منبسطة في طرق واسعة، وذلك طريق ضيّق، يصعد جبلاً ويهبط وادياً، ولا يزال يلفّ ويدور حتّى يدور رأس الراكب ويحسّ من لفّاته أن حبلاً التفّ على عنقه فكاد يُغشى عليه. كان عند مَيْسلون أكثر من أربعين منعطَفاً، وعند الصعود من شتُورة إلى جدَيْدة مثلها، وسبب ذلك (أقول الحقّ فلا تضحكوا) أن الذي رسم ذلك الطريق حمار! نعم، الحمار الحقيقي لا مَن هو على المجاز مثل الحمار: كان الدليل يركب حماره ويدَعه يمشي على هواه. والحمار (كما تعلمون، أو لا تعلمون) مهندس بالفطرة، فهو يختار من المصاعد أسهلها فيسلكها، وإذا رأيته يمشي في الجبل على حَرْفه حتّى لتظنّه سيسقط في الوادي فلا تحسب أنه يفعل ذلك جهلاً، بل يفعله مفاخرة لإثبات القدرة على التوازن! والحمار مظلوم، فمن سبّ منّا آخر قال له: يا حمار، فيغضب، مع أن الحمار أحقّ بالغضب إن قيل له: يا إنسان! نعم، إن جنس الإنسان أفضل والله كرّم بني آدم وقدّرهم، ولكن مِن بني آدم مَن ينزل بنفسه عن مكان استحقاق التقدير فيصير أضلّ سبيلاً من الحمير. وهل يجترح الحمار من السيئات ما يجترح مثلَه الإنسان؟ من رأى منكم حماراً يجحد ربه، أو يغش زميله، أو يخون قومه،

أو يرتكب الفواحش، أو ينظم فيها الأشعار (¬1)؟ ثم إن من يموت على الكفر يكون يوم القيامة دون الحمار. * * * من سافر اليوم من دمشق إلى بيروت لم يجد هذه المنعطفات، فقد أُزيلَت وسُوّي الطريق، ولكن جاء ما هو شرٌ منها: منعطف قد يعطف طريق المسافر إلى القبر! ما كنّا نحتاج في السفر إلى إذن ولا رخصة ولا نقف على الطريق لتفتيش متاع وختم أوراق، فصار هذا كله. ويا ليت هذا الذي صار يعود إلى ما كان عليه فهو أهون ممّا انتهينا إليه: أهون من أن نقف وقفة لا نمشي بعدها أبداً، أو أن تختم حياة الواحد منّا بدلاً من أن تختم أوراقه. كان السفر من دمشق إلى بيروت سنة 1937 لولا هذه «الأكواع»، أي المنعطفات، كان لولاها نزهة ومتعة: أوله وادٍ أنيق دقيق، عرفتُ الدنيا فما عرفت أجمل منه، هو وادي الرَّبْوة إلى الشاذِرْوان. عرض الوادي كعرض الطريق وبردى وسكة القطار، لا يزيد عليها. وآخره وادٍ من أعظم الأودية وأوسعها وأجملها، هو وادي صُوفَرْ-حَمّانة الذي لا يدرك بصرُك قراره، وقد نُثرت القرى على جانبَيه كما نُثرت على العروس الدنانير، ترى أضواءها في الليل كأنها النجوم في سماء صافية الأديم. ¬

_ (¬1) فيُعَدّ بذلك من كبار الشعراء ويصير له أتباع مقلّدون، وتُكتَب فيه مباحث ودراسات كما كتب هو «قصّته مع الشعر».

تخرج من دمشق فتمشي إلى جنب بردى وأبنائه بين الرياض والبساتين، حتّى تعلو جانباً من لبنان الشرقي، وتهبط منه فتبلغ سهل البقاع. السهل الذي صيّرناه بعد الأمن والدعة والجمال دارَ خوف ومسرحَ قتال. حتّى إذا تجاوزت شتورا بدأت تصعد حتّى تمشي وسط السحاب أو تعلو فوقه (وهذا منظر حقيقي لا تعبير خياليّ) إلى ظَهْر البَيْدَر، ثم تنعطف يميناً فتدخل الجنّة التي أحالها البشر اليوم ناراً، فإذا عن يمينك الطريق الفرعي إلى حَمّانا ففَالوغة، ثم ينزل إلى بيروت من هناك. وأمامك الشارع الأصلي الذي يجوز بصوفر وبْحَمْدون وعَاليه، وتلك المرابع التي كانت للحبّ فصارت للحرب، وكانت للشعر فغدت للذعر (¬1). ولو لم يُصِبْ لبنانَ هذا الزلزالُ الذي لا تزال تتعاقب خضّاته وتتوالى هزّاته وتمتلئ الصحف بأخبار فواجعه: من رصاص يئزّ ومدافع تدوّي ونيران تندلع، وأرواح خلال ذلك تُزهَق، لو لم يكن من ذلك شيء لبقي بلداً آمناً مطمئنّاً يأتيه رزقه رَغَداً من كل مكان. وجئت سنة 1984 لأصف بيروت سنة 1937، ليقرأ الشباب في ذلك تاريخاً لما كان لا وصفاً لما هو كائن. لا أتكلم عن بيروت الماضي السحيق التي كان فيها إحدى حكومات الفينيقيين، لأن كل بلد كانت لها عندهم حكومة، وإن كانت الكبرى صيدا. لبثَت على ذلك أكثر من أربعمئة سنة، ثم انتقلَت ¬

_ (¬1) كانت الحرب الأهلية في لبنان على أشدّها يوم نُشرت هذه المقالات أول مرة في جريدة «الشرق الأوسط» (مجاهد).

إلى صور فامتدّ سلطانها إلى أكثر سواحل البحر الأبيض المتوسط وأقامت مستعمرة لها في قرطاجَنّة، ناطحَتْ روما لما كانت روما في عزّ مجدها وظهر منها أحد أبطال التاريخ القديم «هاني بعل» (هانيبال) الذي صنع ما لم يصنعه أحد قبله ولم يصنعه بعده إلاّ نابليون تقليداً له، هو أنه صعد بجيشه الثقيل جبال الألب ثم انقضّ على روما من فوق. * * * كان لُبّ بيروت لمّا جئتها في ساحة البرج: في أعلاها بِرْكة جميلة كبيرة بعدها حدائق في وسط الشارع، وفي أسفلها السراي الصغير، تمرّ منها خطوط الترام كلها. وكان في بيروت ثلاثة خطوط للترام مُدَّت سنة 1906، تمشي فيها من أولها إلى آخرها ثم تجتمع كلها مارّة من ساحة البرج. الخطّ الأول يصل إلى «الدّورة» عند نهر بيروت، والخطّ الثاني، وهو أطولها، يمتدّ من «فرن الشبّاك» (الذي يستقبل القادم من الشام) إلى المنارة في رأس بيروت، والخطّ الثالث هو الذي يجتاز البَسطة أدناها وأعلاها (ويسمّونها البسطة التَّحْتا والبسطة الفَوْقا) إلى الحرج. فإذا بلغتَ أسفل ساحة البرج وسرت إلى اليسار وجدت المسجد الكبير المسمّى بالمسجد العمريّ، الذي كان كنيسة فصار مسجداً: كنيسةٌ صارَتْ إلى مسجِدِ ... هديةُ السيّدِ للسيّدِ يعني شوقي بالسيد الأول المسيح، وبالسيد الثاني سيّد ولد آدم محمد، عليهما من الله الصلاة والسلام. وأمام المسجد شارع

يمتدّ إلى البحر وفي آخره على اليمين مسجد جديد، يقابله فندق الأهرام الذي ينزله «الشوام»، صاحبه الحاجّ أحمد المغربي الذي يعرفه كلّ شامي كان يزور بيروت: ينام عنده ويأكل من طبخه، وهو أحسن رجل يجيد الطبخ الشامي هناك. كنّا نحس في فندقه كأننا في بيوتنا، وإن نسينا ذكّرنا قرعُ القَباقيب على بلاطه وخَبط الأباريق في حَمّاماته! وكنّا نجد فيه جوّ المسجد، فإذا دخل وقت الصلاة أذّن مؤذّن فيه ومُدَّت البُسُط وأقيمَت الصلاة جماعة. وكان بينه وبين الشارع سلّم فيه مئة درجة، ولم يكن فيه مصعد. وما كنّا قد عرفنا المصاعد في دمشق إلى ذلك اليوم وإن كان في بيروت قليل منها، وأول مصعد رُكّب في دمشق هو الذي في عمارة كَسْم وقَبّاني وراء المجلس النيابي. والغريب أن المشايخ الكبار كانوا يصعدون إليه لا يجدون من ذلك بداً. وكنت إن جئت بيروت بأهلي (ولم أكن سنة 1937 قد تزوّجتُ؛ ما كان معي ما أتزوّج به وأنا على أبواب الثلاثين من العمر!) كنت أُنزِلهم في شبه دار على سطح الفندق: غرفتان هَرِمتان قديمتان أمامهما السطح كله، يلعب فيه مَن معنا من الصغار وتتكشّف فيه النساء فلا يراهن أحد، لأن مِن حولنا سوراً يحيط بنا فيحجبنا إلاّ من جهة نطلّ منها إذا أردنا، ولأن له باباً كنّا نغلقه علينا. ومن العجائب أني جئت بيروت مرّة فوجدت السطح مؤجَّراً، فأخذنا غرفتين في «فندق ريجنس»، وهو أغلى أجرة وأعلى مرتبة. فما استرحت فيهما، فجئت ففاوضت مستأجر

السطح ليبادلني بهما عليه. وقبل متعجّباً مني، وجعل ينظر إليّ كما ينظر ابن المدينة إلى الفلاّح الذي فكر أن يبيعه ميدان العتبة الخضراء! إذ كيف أدع غرفتين في فندق كان يُعَدّ من الفنادق الكبار لآخذ غرفتين عتيقتين على سطح عمارة قديمة؟ ما علم أنني آخذ حرّيتي التي افتقدتها في الفندق وكنت أجدها على السطح. كان فندق الأهرام وقهوة الحاجّ داود ملتقى الشاميين في بيروت؛ إن ضاع منك واحد منهم وجدتَه في أحدهما. وكانت القهوة على أعمدة من الصخر في طرف البحر، فكان يحسّ مَن فيها كأنه في مركب قديم، تضربه الأمواج فتتكسّر عليه. ولم يكن في الفندق خمر ولا شيء ممّا حرّم الله، ولم يكن من ذلك شيء في قهوة الحاجّ داود. وكان يقابل القهوةَ أخرى مثلها اسمها قهوة البحرين، ثم ينكشف البحر للماشي في الشارع حتّى يصل إلى الفندق الكبير الوحيد في تلك الأيام، فندق سان جورج، وبعده ملاهٍ نمرّ عليها في النهار وهي مغلَقة الأبواب ولا نعرف ماذا يكون فيها في الليل. هذه هي الزيتونة المشهورة. * * * بتنا في الفندق، ولمّا أصبحنا صحبني الشيخ صلاح إلى الكلّية، فركبنا الخط الأول إلى آخره لمقابلة المفتي الشيخ توفيق خالد رحمه الله، وكان هو رئيس الكلّية وكان الرئيس الأعلى (رسمياً) للمسلمين. وكان القاضي هو الشيخ مصطفى الغلاييني صاحب الكتب المشهورة في النحو والصرف، وكان أمين الفتوى أستاذنا القديم الشيخ عبد الرحمن سلام.

أمّا مدير الكلّية فهو الرجل الفاضل الذي طوّق عنقي بمكارمه وأثقل ظهري بأياديه عليّ، والذي كان لي أخاً كبيراً وكان يوليني من العطف والحبّ أكثر ممّا يولي امرؤ أخاه. ولقد كنت أتمنّى أن أجدد العهد برؤيته، ولكن أبلغني الأستاذ القباني مدير الأوقاف، وقد زارني في مكّة، أنه تُوفّي من قريب. رحمة الله عليه وجزاه الله عني خيراً (¬1). وكان ممّن أذكر من الأساتذة الشيخ محمد العربي العزوزي، الذي صار أمين الفتوى بعد الشيخ سلام، وله كتاب عمّن عرف من الرجال في بيروت ذكرني فيه فأثنى عليّ ثناء لا أستطيع أن أنقله، ووصفني بصفات ونسب إليّ مزايا لا أستحقّ معشارها، لذلك أُعرِض خجلاً عن نقل ما قاله، وأسأل الله له الرحمة والغفران (¬2). لمّا وصلت الكلّية وجدتها في بناءَين في آخر البسطة على يسار الصاعد من البلد، أولاهما للتدريس والثانية للطلاّب: ¬

_ (¬1) سها الشيخ فلم يذكر اسم هذا المدير هنا، وقد عاد فذكر اسمه في أول الحلقة الآتية (مجاهد). (¬2) اسم كتابه «إتحاف ذوي العناية»، ومما قاله فيه (صفحة 51): "ومنهم زميلي في التعليم في الكلية الشرعية في بيروت الأديب الماهر والكاتب العظيم ذو القلم السيّال والعلم الغزير والذكاء المفرط واللسان اللَّسِن، الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي. عاشرته ما يقرب من السنتين فحمدت عشرته، وذاكرته فوجدته منهلاً عذباً لوارده، ما فاوضته في علم إلا وجدته ذا اطلاع واسع. ولقد كان يزورني في بيتي ويسمر معي ويتحفني بطُرَفه وأدبه وغرائب نوادره. ما رأيت من جمع بين الأدب والشريعة مثله" (مجاهد).

لطعامهم ولمنامهم. وبينهما ساحة يمارسون فيها الرياضة ويلعبون فيها. وكنت قد تعاقدت معهم على أن يضمنوا لي المنام والدواء، فأعطوني غرفة في عمارة التدريس فوضعت فيها سريراً ومنضدة وصارت بيتي. كانوا يُلزِمون الطلاّب بالعمامة البيضاء والجبّة السوداء، فكانوا يجدون حرجاً من الخروج بها في شوارع بيروت. وكان منهم طالب صغير ألبسوه الجبّة والعمامة وجعلوه شيخاً قبل سنّ البلوغ؛ كان أصغر التلاميذ سناً وجسماً ولكنه كان من أشدّهم ذكاء ونباهة، فصار اليوم من أكبرهم اسماً وفعلاً. فمِن فِعله إنشاء مجلة «الآداب» التي عاشت عمراً وتخرج فيها جماعة من الشباب، هو الأستاذ سهيل إدريس. وقد زار المملكة وأجرت جريدة «الجزيرة» مقابلة معه نُشرت في اليوم الأول من جمادى الثانية سنة 1401، وصف فيها كيف بدأ حياته في هذه الكلّية الشرعية وقال بأنه دخلها تلبية لرغبة أبيه الذي رأى اهتمامه بحفظ الأحاديث والقرآن فحكم (كما يقول): "بأني مرصود لحياة دينية قادمة، وألحقني بالمدرسة. وكانت تهتمّ بتدريس التشريع الإسلامي والمواد الدينية الأخرى. وقد بقيتُ فيها خمس سنوات، ودرّسني فيها كاتب كبير يعيش الآن ومنذ فترة طويلة في المملكة، وهو الشيخ علي الطنطاوي. وفي الواقع فإن الشيخ الطنطاوي هو الذي بثّ فيّ حميّة الأدب، وكان له أسلوب تشويقيّ جميل، وكان كاتباً معروفاً. وقد تأثّرت به وبكتابته وانصرفت إلى المطالعة وبدأت أميل إلى الأمور الأدبية" ... إلى آخر المقال.

لقد تبيّنت من تجرِبة إلزام الطلاّب الصغار بالعمامة والجبّة قبل الأوان أن ذلك بعيد عن الصواب، وأنّ الأولى أن نبدأ من الداخل، من القلب: فنملأه بالإيمان، ومن الرأس: فنملأه بالعلم. والدليل أن طلاّب الكلّية لم يبقَ فيهم ثابتاً على العمامة إلاّ حسن خالد وشفيق يَموت. أمّا حسن خالد فهو سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية اليوم (¬1)، وشفيق يموت رئيس المحكمة الشرعية العليا. وكان الشيخ شفيق وهو طالب يُحسن تلاوة القرآن وله صوت يشبه صوت أشهر قارئ يومئذ في مصر، الشيخ محمد رفعت، فكان المفتي يحبّه لذلك ويقرّبه لهذا. أما الشيخ حسن فكان له من الدين وإخلاصه لله، ومن العلم والاستزادة أبداً منه ومن الثبات على الحقّ، ما يجعله أهلاً للمنصب الذي وصل إليه. إني أذكر من الطلاّب الآن، أذكر منهم (مع حفظ الألقاب): حسن خالد، وشفيق يموت، وسهيل إدريس، ومُحيي الدين خالد، ورمضان لاوند، وبهيج عثمان، وحسن صعب. ومن الطلاّب السوريين في الكلّية: عبد اللطيف حمزة، وعدنان الدوجي الصواف، وطالب من حماة من أسرة كزكز، وطالب اسمه محمد ولي. وأفضل من تخرّج فيها الشيخ حسن خالد، ¬

_ (¬1) أي يوم كتابة هذه الحلقة في أواسط سنة 1984، ثم قُتِل غيلةً في بيروت بعد ذلك بخمس سنين، في السادس عشر من أيار (مايو) سنة 1989. وقد أكثر جدي من الترحّم عليه بعد استشهاده، وكان يحبّه ويثق بدينه ويثني عليه، وحين ذكره في الحلقة السابعة والسبعين (في ذكريات رمضان في بيروت) وصفه بالعالم المجاهد، رحم الله الاثنين (مجاهد).

ولقد كانت سيرته في الكلّية حسنة وهو طالب، وكذلك حسنت سيرته وهو مفتي الجمهورية. وكان الطلاّب يحفظون بيتاً، لا أدري عمّن تلقّوه (¬1): فلا تَكتُبْ بخطِّكَ غيرَ شيءٍ ... يَسرُّكَ في القيامةِ أن تراهُ وأظنّ اليوم أن كثيراً منهم لن يسرّهم يوم القيامة أكثرُ ما كتبوه بعدما صاروا عند الناس كُتّاباً وأدباء. * * * كنت أقضي ثلثَي الأسبوع في بيروت وثلثه في دمشق، فكنت زبوناً دائماً لسيارات الأجرة. وقد وجدت عند سماسرتها من أساليب الكذب ما يملأ -لو كتبته- صفحات كثيرات؛ منها أنهم يُقعِدون في السيارة اثنين منهم أو ثلاثة ويقولون لك: لا ينقصنا إلاّ راكب واحد لنمشي، فادخل. فإذا دخلت خرج أحد هؤلاء انسلالاً، فتقول له: إلى أين يا أخانا؟ فيقول: أشرب ماء أو أشتري أو ... وما أكثر ما يأتي بعد أو! ثم يتبين أنه ليس بين الركّاب إلاّ أنت وحدك. وكنت أصحب الطلاّب، مَن شاء منهم المشي، فنصعد الجبال ونَرِدُ العيون ونزور الآثار مشياً على الأقدام. وكان أقرب الأمكنة التي نمشي إليها الناعمة والدّامور من الجنوب، ومن الشمال إلى أنطلياس. ¬

_ (¬1) البيت لأمين الجندي، وقبله: وما مِن كاتبٍ إلاّ سيَفنى ... ويُبقي الدهرُ ما كتبَت يداهُ (مجاهد).

وقلت مرّة لمن معي: ألا يمكن أن نصل إلى أعماق هذا الوادي؟ وكان اسمه وادي شحرور. قالوا: بلى، فهل أنت مستعدّ؟ قلت: نعم، فلنهبط. وهبطنا، وأمضينا نحواً من ساعتين ونحن ننزل، لا نمشي على طريق مزفّت ولا نسلك مسلكاً سهلاً، بل نعتسف اعتسافاً، حتّى إذا حسبنا أننا بلغنا القاع بدت لنا دونه قيعان، حتّى انتهينا إلى قرارة الوادي، إلى مكان ما فيه إلاّ نبع ماء وثلاثة أبيات أو أربعة، ودُكّان كدكاكين القرى فيه من كل شيء شيءٌ قليل. فشربنا من النبع وطلبنا ما نأكله، فلم نجد عنده إلاّ خبزاً وبيضاً مسلوقاً وبعض الفاكهة، فطلب ثمن الرغيف ما يعدل ثمن عشرين رغيفاً في بيروت وثمن البيضة ما نشتري به الدجاجة! وساومناه وجادلناه فأبى إلاّ ما أراد، فانتحينا ناحية وجمعنا كل ما في جيوبنا وأكياسنا فلم يبلغ ما طلبه. وكنّا في مثل حال المضطرّ. قالوا: ماذا نصنع؟ نكاد نهلك من الجوع. فقلت لهم: إن لمثلنا أن يأكل الميتة أو أن يغصب ما يُقيم حياته غصباً، فأفهموه أننا رضينا، فإذا أكلنا فعلنا ما يُرضي ربنا ويريح ضميرنا. فأعطانا وأكلنا. فلما شبعنا قلنا: ندفع لك ما معنا. وكان يزيد ثلاثة أضعاف ثمن ما أكلنا، فأبى. فقلنا له: لقد أكلنا الطعام، فإمّا أن تأخذ، وإمّا أن تذهب فتأتينا بالشرطة، وإما أن تقاتلنا. فصاح فجمع علينا خمسة من أصحابه من هذه البيوت التي تقوم حول النبع، فنظروا فإذا نحن أكثر منهم عدداً، ويبدو أننا أقوى جسداً. وأدرك أن لا طاقة له بحربنا، وليس هناك حكومة يشكون إليها، فاكتفى بما جرى على لسانه من سبّنا وسبّ آبائنا ومن ولدنا. وكان

سفيهاً طويل اللسان عالي الصوت، ولكنا كنّا (والحقّ يقال) أشدّ سفهاً وأطول لساناً وأعلى صوتاً فغلبناه. وكيف لا، وأنا أحفظ نصف ما قال الشعراء في فنّ الهجاء؟! * * * كانت بيروت في تلك الأيام سابقة البلاد العربية بعد مصر في مجال الفكر والأدب، فيها الصحف والمجلاّت وفيها المدارس الكثيرة والجامعات، الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية، وهما تتباعدان في المسار ولكنهما تتّحدّان في الغاية، هذه تُدخل جهنم من الباب الجنوبي وهذه من الباب الشمالي، وما بعد البابين إلاّ النار. وكان عملهما للتبشير وللاستعمار كما جاء في كتاب الدكتور فروخ والدكتور الخالدي. وكلمة التبشير والاستعمار تعنيان التنصير والتكفير والاستخراب والدمار، وهما من ألفاظ الأضداد، كما يُسمّى الملدوغ «السليم» والأعمى «البصير». وكان بين الكلّية الشرعية وبين مدرسة المقاصد شيء من المنافسة، فجاء مرّة وفد من مصر على رأسه أحد كبار رجال التعليم (أظنه العشماوي باشا) فزار المقاصد فاحتفوا به وصفّوا الطلاّب لاستقباله ودقّوا له الموسيقى ونصبوا له الموائد، ثم جاء يزورنا، فألقيت كلمة هدمت عليهم بها ما بنوا؛ قلت فيها: لا تؤاخذنا إن لم نطبّل لقدومك ولم نزمّر ولم نرفع الرايات، فما عندنا هنا إلاّ العِلم، فإن أردتَه خالصاً فمرحباً بك في دار العلم، في دارك، وإن شئت طبلاً وزمراً فإنك واجده هناك. * * *

بيروت سنة 1937 وعملية الزائدة في دمشق

-105 - بيروت سنة 1937 وعملية الزائدة في دمشق تعليقان: الأول: ما نُشر في «الشرق الأوسط» بإمضاء محمد فاتح توفيق من الدار البيضاء، وقد سبقه تعليق مثله. البلد مغربي، والحديث عراقي، والكاتب الفاضل (كما يبدو من كلامه) كان طالباً لمّا كنت مدرّساً في العراق. وقد سرّني التعليق وشكرته عليه، وأرجو أن يُكثِر الله من أمثاله. وأنا إن لم أذكره وقد ذكرني فلأني ما درّسته، أو لأنه أفضل مني، أو لأن الطلاّب يرون وجهاً واحداً وعينين هما وجه المدرّس وعيناه، والمدرّس يرى سبعين عيناً تنصبّ نظراتها كلها عليه تصوّر حركاته وسكناته، وسبعين أذناً تسجّل كلماته وسكتاته، من هنا كانوا يحفظون ويُضيع ويذكرون وينسى. والثاني: رسالة إمضاؤها «أخ في الله» يقول فيها: إن الذي ذكرت أنه زار مدرسة المقاصد والكلّية الشرعية هو العشماوي كما قلت، ولكنه كان برتبة بيك لم يكن قد صار باشا، وكان وكيل وزارة المعارف. وقد جاء في البريد الأدبي لعدد 13 شعبان

1356 من مجلّة «الرسالة» أنه حضر درساً في الأدب العربي في الكلّية لعلي الطنطاوي ودرساً للأستاذ الشيخ محمد الداعوق، فكان إعجابه بهما شديداً، وأعلن أن وزارة المعارف في مصر على استعداد لقبول اثنين من طلاّب الكلّية في دار العلوم العليا في مصر بلا امتحان. والثالث: أن جماعة من إخواني هتفوا بي يسألونني (بالهاتف): مَن هو مدير الكلّية الذي أثنيت عليه ذلك الثناء؟ ولماذا لم تُسمِّه، فهل نسيت اسمه؟ قلت: أنا أنسى اسم محمد عمر منيمنة؟ إن أنسَ الأسماء كلها لا أنسَ أسماء نُقشت على شغاف قلبي، في موضع تقديري وحبي لقوم كانوا هم عوني على ولوج دربي وأسوتي في كربي، وكانوا إخوتي وكانوا صحبي. لا أستطيع الآن أن أحصيهم ولكن أمثّل لهم؛ كثيرون منهم في الشام سأعاود عنهم الكلام، ومنهم الأثري في العراق والصوّاف بعده بسنين طوال، ومنهم الزيّات في مصر، ومنهم السفير السيد عبد الحميد الخطيب وولده الأستاذ فؤاد في باكستان، ومنهم عبد الوهاب عزام سفير مصر فيها وجواد المرابط وزير سوريا المفوض، ومنهم الشيخ يوسف الفوزان في الهند وعبد الله عبد العزيز البسام فيها، والشيخ أبوبكر طه السقّاف في سنغافورة، ومنهم هنا الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ والشيخ عمر توفيق والشيخ عبد الوهاب عبد الواسع، وكثير من أمثالهم. * * *

كانت حدود بيروت عند المنارة، نركب إليها خطّ الترام رقم (2) فينتهي بأعلى الشارع، ثم نجد طريقين منحدرَين إلى البحر، فإذا بلغنا المنارة وهبطنا قليلاً بدا لنا الحمّام العسكري، وإلى جنبه مسابح أخرى على سِيف البحر، ثم الصخرة التي يسمّونها باسمها الفرنسي «الروشة» وما بعدها شارع ولا بنيان. وكان موضع شارع الحمراء قفرة ما فيها إلاّ الرمل الأبيض وشجر الصبّار (البرشومي). وأنا لم أرَ شارع الحمراء إلاّ مرّة واحدة في آخر زيارة لي سنة 1970، مررت به مروراً وأنا في السيارة. كانت بيروت دار الأمان وكان الجبل من ورائها جنّة من الجِنان، وإن كان شوقي قد قرر أنه الطريق إلى الجنة وليس هو إياها، لأن الجنة هي دمشق: خَلّفتُ لبنانَ جنّاتِ النعيمِ وما ... نُبّئتُ أن طريق الخُلدِ لبنانُ إذا خرجت من بيروت وجدت حيثما توجّهت أودية مسحورة، وجبالاً تلبس الثياب الخضراء من الأشجار، وقُرى مفتَّحة الأبواب لمن يفتح كيسه لتأدية الحساب. اسلك طريق الشام إلى الوادي الوادع، الذي لم تكن ترتاده يومئذ أقدام المصطافين فكان أقرب إلى صفاء الحياة الشرقية، تمرّ على عجلتون وتلك القرى إلى فاريا حيث نبع العسل ونبع اللبن يلتقيان فيها، فتشرب لبناً بالعسل، وبعده جسر من صخرة واحدة، عريض الجنبات عالي الظهر، ما دخلَت في بنائه يد إنسان بل برأه الخالق الرحمن.

تدخل الوادي من قَبيل جونيه. ومن بيروت إلى جونيه تمرّ بأنطلياس بلد البرتقال والليمون والموز، تمشي في ظلال أشجار دانية الثمار ولكن لا ترى في هذا كله منارة مسجد، حتّى تبلغ جسر نهر الكلب. ونحن نقول في دمشق إننا أبناء بردى، فماذا لعمري يقولون؟! كان هذا النهر يُسمّى قديماً «ليكوس». وإلى يمينك وإلى يسارك وأنت تقبل على الجسر جدار من صخر الجبل فيه سجلّ تاريخي، فكلّما مرّت على البلاد أمة أو حكمتها دولة نقشت عليه ذكراها؛ فمن الفراعنة إلى ملوك ما بين الرافدَين، إلى اليونان والرومان والبيزنطيين، ثم الفرنسيين والإنكليز. ويقرب عدد هذه اللوحات (بمقدار علمي) من عشرين لوحة، آخرها التي وضعها الرئيس بشارة الخوري في أول سنة 1947، أي بعد تاريخ هذه الحلقة من الذكريات بعشر سنين. بعضها بحروف مسمارية، وأخرى باللغة البابلية القديمة، والبابلية الجديدة، وثالثة باليونانية ورابعة باللاتينية، وبين ذلك لوحات عربية. ومن هناك بعد عدة أكيال تدخل مغارة «جعَيْتا»، وهي ثلاث مغارات من عجائب ما في الطبيعة يحتاج وصفها إلى حلقة كاملة. ثم تصل إلى خليج جونيه الذي كان من أجمل الخلجان الآمنة المطمئنة. أمّا من أراد صخب الحياة وضجيجها ورؤية الحضارة بجمالها وقبحها فعليه بطريق عاليه، ينعطف إلى اليسار إلى بحمدون وصوفر، أو يمضي إلى اليمين إلى سوق الغرب ثم إلى

عبيّه. ومن شاء ارتياد المصايف التي هي أقرب إلى راحة الأسرة المسلمة قصد مصايف طرابلس الشام، وأشهرها سير، ومن أراد تابع سيره إلى الأرْز عن طريق بشرّي، بلد جبران خليل جبران، الذي أعطى العرب أدباً كثيراً جميلاً دفعَت ثمنه من عبقرية لسانها العربي الأصيل ومن خلقها الشريف النبيل. خذوا مثالاً قصّته «الأجنحة المتكسرة»، إنها توضع في رفّ بول وفرجيني، وأتالا، ورافائيل، وروميو وجولييت، على اختلاف الأساليب. بل إنها من أشدّ القصص العاطفية إثارة للمشاعر، ولكنها تهدم الروابط الزوجية وتنال من شرف الأسرة، وهي التي ردّ عليها المنفلوطي في نظرة من نظراته. وإن كان في لبنان (والحق يقال) من بؤر الفساد مثل ما فيها أو أضعاف ما فيها من المدارس والكلّيات، وحسبكم أنه كان وراء الصف المطلّ على ساحة البرج من العمارات عمارات أخرى على شوارع فرعية واسعة، على كل عمارة لوحات فيها أسماء أنثيات. غلطت مرّة فدخلت في تلك الشوارع مع أهلي وبناتي (بعد أن تزوجت ورُزقت البنات) فسألتني إحداهن: ما هذه اللوحات؟ فتنبّهت وارتبكت، ثم قلت لها: إنها أسماء خياطات وبيّاعات ... واستدرت راجعاً! ولقد دخلت -من بعد- أكثرَ من عشرين مدينة من مدن أوربّا، فما كنت أرى في الشوارع ما كنت أراه وأنا أمشي في شوارع بيروت؛ أماكن البغاء في وسط البلد! أما ما وراء الجدران فلا شأن لمثلي به ولا وصول لي إليه، لا في أوربّا ولا في لبنان.

وما في الدنيا بلد يخلو ولا بلد خلا تماماً من الفواحش، ولكن في الخفاء، لا يُكشَف عنه الغطاء ولا يخلع أهلُه قناعَ الحياء. وهذا قديم في بيروت، ومن رجع إلى عدد «الرسالة» الذي صدر يوم السادس من شعبان سنة 1356هـ (11 أكتوبر سنة 1937) قرأ فيها مقالة لي عن رحلتنا إلى صوفر لاستقبال أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، لمّا عاد إلى الشام بعد نفيه الطويل في أوربّا. عاد لمّا كانت المعاهدة، وسيأتي حديثها. إنه يجد في آخر المقالة هذه الفقرة: ولمّا دخلنا الفندق (أي في صوفر): عمامتان عاليتان على رأس البهجتين، بهجة العراق وبهجة الشام (أي الأثري والبيطار) وعقال نجدي على هامة سيد من سادة نجد هو الشيخ ياسين الروّاف، ونحن اثنان مُطَرْبَشان (أي اللّذان يلبسان الطربوش) الأستاذ عز الدين التنوخي وأنا. لمّا دخلنا تعلّقَت بنا الأنظار ودارت حولنا الأبصار، وخفّ بنا شباب يسلّمون علينا فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا. فما راعنا إلاّ أنهم ضحكوا وضحك الحاضرون، فقلت لأحدهم: قُل لي، لماذا تضحك؟ هل تجد في هيئتي ما يضحك؟ فازداد الخبيث ضحكاً. فهممت به، فوثب الحاضرون وقالوا: ياللعجب، أتضرب فتاة؟ وإذا الذين حسبناهم شباناً فتيات بسراويل (بنطلونات) وحلل (بذلات)! فسرنا ونحن مستحيون نحاول ألاّ نعيدها كرّة أخرى. ولمّا خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء

النسوة فحيّتنا، فقلت لها: مساء الخير مدموزيل. قالت: مدموزيل إيه يا وقح؟ فقلت في نفسي: إنها متزوجة وقد ساءها أني دعوتها بالمدموزيل (الآنسة)، وأسرعت فتداركت الخطأ وقلت: بردون مدام. قالت: مدام في عينك يا قليل الأدب، بأي حقّ تمزح معي؟ أنا فلان المحامي! فقلت: عفواً بردون. وولّيت هارباً، وذهبت إلى صاحب الفندق فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة، فدهش مني ووجم لحظة، ثم قدّر أني أمزح فانطلق ضاحكاً. قلت: إنني لا أمزح ولكني أقول الجدّ ... وقصصت عليه القصّة. قال: وماذا نعمل؟ قلت: لوحات صغيرة مثلاً من النحاس أو من الفضّة، توضع على الصدر يكتب عليها «رجل» أو «امرأة»، تُعلَّق تحت الثدي الأيسر في مكان القلب. أو تُتخَذ حلية من الذهب أو الفضّة عليها صورة ديك مثلاً أو دجاجة، أو شاة أو خروف، أو شيء من علامات التذكير والتأنيث ... وراقه اقتراحي وقبله على أنه نكتة، ولم يفكّر بالعمل به لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسَين (¬1). * * * تلك بيروت الأمس، أما بيروت اليوم وأمّا الجبل ... فأنا أسأل الله له الفرج؛ فلقد ورد أن بني إسرائيل لمّا رأوا انحراف ناس منهم وضلالهم وعظوهم ونصحوهم، ثم تركوهم وأقرّوهم ¬

_ (¬1) هذا جزء من المقالة، ومن أحبّ قراءتها كاملة فهي في آخر كتاب «مع الناس»، مقالة «إلى لبنان» (مجاهد).

وآكلوهم وشارَبوهم، فلما جاء العذاب عمّهم جميعاً. وما أشمت بما حلّ ببيروت وبلبنان. أيمكن أن أشمت ببلدي وبإخوتي؟ ولكنه قانون الله. إنه شديد العقاب، ولكنه واسع المغفرة. فتَح باب التوبة فما يغلقه حتّى تقوم القيامة، القيامة العامّة، أو القيامة الفردية حين يحضر الواحدَ الموتُ. فإن أردتم كشف هذه الغُمّة عنكم فاطلبوه (اطلبوا الكشف) من ربكم، لا من أميركا ولا من روسيا. إنهم بشر مثلكم لا يقدرون على نفع ولا ضرر إلاّ بإذن الله. وهذا كلام حقّ ولكنهم لا يقبلونه؛ إنهم يستثقلونه ويصدّون عنه، فماذا نصنع إذا كان كلامنا لا يُسمَع؟ * * * أمضيت أكثر العام (عام 1937) في بيروت في أهنأ عيش، أدرّس لطلاّب أذكياء يحبّون الأدب ويُقبِلون عليه. وكنت ساكناً معهم أُمضي أكثر وقتي في صحبتهم، وإن خرجت خرجت غالباً معهم، وكنت سعيداً بصحبة الأساتذة الزملاء، وكنّا نُمضي عشيّات عند الشيخ العزوزي العربي في داره نأكل «الكسكسي»، وهو من أشهى الأطعمة التي عرفها الناس، ونشرب بعده الشاي الأخضر، راح المسلمين. كنّا نختلف ولكن لا نتعادى، ونتناقش حتّى تعلو الأصوات وتتقارع الحُجَج، فمَن سمعنا ظنّ أنه ما بعد هذا إلاّ سل السكاكين، ثم نخرج متصافين متحابّين.

وكنت من قديم أحمل حصاة في حوض الكُلْية اليمنى، تثور بي حيناً بعد حين كما تثور البراكين، فأحسّ منها ما تحسّ المرأة عند الطلق من الآلام. وما جرّبت الحمل والولادة وما ذقت آلامها، ولكن عرفتها من السمع وشبّهت ما أجد بها على الوصف. وهل يُشترَط في المشبَّه به أن يكون محسوساً ملموساً؟ من رأى رؤوس الشياطين التي شبّه الله بها طلع الجحيم؟ جاءتني النوبة ليلاً، فاستيقظ الشيخ صلاح جزاه الله خيراً وأيقظ بعض الطلاّب، فجاؤوني بطبيب قريب، فأمرهم أن يملؤوا لي قربة بالماء الحارّ. فلما وضعتها على جنبي ازداد الألم، وعلمت من الغد أني كنت كمن يصبّ البنزين ليطفئ به النار وأن المطلوب كيس فيه الثلج لا الماء الحارّ، لأن الالتهاب في الزائدة لا في الكُلْية كما ظنّ الطبيب. ولا أظلمه، فأنا بمشاركتي في التشخيص شاركتُه الذنب؛ فيا إخوتي المرضى، صفوا للطبيب ما يوجعكم ودعوا له وحده تحديد الداء ووصف الدواء. وكان من شروط العقد بيني وبين الكلّية أن عليهم إسكاني وإطعامي ومداواتي. وكان الدكتور محمد خالد، ابن المفتي الشيخ توفيق خالد رئيس الكلّية، من أكبر جرّاحي بيروت، وكان صاحب مستشفى في البسطة، فصحبني أحد الطلاّب إليه. وكنت أصرخ من الوجع، ففحص عن مرضي وأعطاني مسكّناً قوياً وقال لي: لا بد من عملية جراحية عاجلة. وقال للممرضة: اذهبي وأعدّي له الغرفة حالاً. قلت وقد خفت من العملية: وهل يُشَقّ بطني؟ قال: وهل

تريد عملية بلا شقّ بطن؟ فشعرت من ألمي أنه يسخر مني، أو توهّمت ذلك من كلامه. وأحسست أنه يكلمني باستخفاف، فلم يُنسِني ما أنا فيه أن أغضب لكرامتي التي تخيّلت أنها مُسَّت. فقلت للممرضة لأصرفها: أحضري لي كأساً من الماء ... وصرفت الطالب بحُجّة اخترعتها، وهبطت السلّم هارباً. وكنت بالمنامة (البيجامة) فسقطت النعل من رجلي فوصلت الشارع حافياً، ورأيت سيارة أجرة فقلت لسائقها: أوصلني إلى شارع المعرض. وكانت تقف فيه سيارات الشام، وهممت بالركوب فإذا أنا بالشيخ صلاح. وكان رحمه الله قد سمع النبأ فلحق بي، فحاول أن يقنعني بأن أعود إلى المستشفى فالدكتور بارع والعملية على حساب الكلّية، فأبيت. فقال: انتظر حتّى أذهب معك. قلت: لا. وأصررت على الذهاب إلى الشام، فما كان منه -جزاه الله خيراً ورحمه- إلاّ أن ركب إلى جنبي وأسندني إليه، لأني كنت أوشك بتأثير الحقنة المسكّنة أن أنام، حتّى أوصلني إلى بيتي في الشام. * * * كان في دمشق ثلاثة مستشفيات: مستشفى كلية الطبّ (وكان اسمه يومئذ المعهد الطبي، ويدعوه الناس مستشفى الغرباء)، والمستشفى الفرنسي والمستشفى الإنكليزي، وكلاهما تبشيري (أي تنصيري تكفيري). وكان عندنا من أساتذة المعهد الطبي جرّاحون كبار أبرزهم نظمي القباني، ابن الأستاذ مصطفى القباني رئيس المحاسبة

في وزارة المعارف، ومرشد خاطر، وهو نصراني عالِم أديب. فلم أجد القباني فذهبت إليه، فتلقّاني ببشاشة الرجل المهذّب وكلمني كلام الأديب للأديب، وأشعرني بالثقة به والاطمئنان إليه. والطبيب يداوي بشخصه وأسلوبه قبل أن يداوي بعلمه وطِبّه. وأعطاني حقنة في الجلد أظنّ أن اسمها كان «بروبيدون» وقال إنها تسكّن ولا تشفي. واسترحتُ، ولكنني اضطُررت بعد حين إلى إجراء العملية الجراحية بيد الدكتور شارل في المستشفى الفرنسي في القصّاع؛ إذ كنت أسكن في آخر الحيّ الإسلامي، مسجد القصب، الذي يجاور هذا الحيّ المسيحي، القصّاع. وأخذت أوسع غرفة مشرقة، واشترطت عليهم أن يزورني من شاء متى يشاء، وكان في هذه الغرفة مدخل شبه خاصّ يفضي إلى الشارع. وكانت الممرضة بنتاً لطيفة حلوة، ما كان لي من حلاوتها وجمالها إلاّ ما كان يغنّي به محمد عبد الوهاب عن القمر قديماً: «حظّنا منّه النظرْ، والنظرْ راحْ يِرْضي مينْ؟». أرضاني أنا، لا لأن نفسي تقتنع به بل لأنها لا تستطيع الوصول إلى أكثر منه. ولولا نشأتي الإسلامية القوية ولولا حفظ الله لي (وله الحمد عليه) لكان لي معها أكثر من النظر ومن الحديث، فقد كانت جميلة لطيفة وكنت شاباً قوياً، وإن لم أكن جميلاً فلست قبيحاً، وأحسب أني لو فتحت لها الطريق لالتقينا على ما لا يرضي الله. فيا ليت القائمين على المستشفيات يضعون في أقسام الرجال ممرّضين بدلاً من الممرّضات.

وكان يدير المستشفى راهبات. رئيسة القسم الذي كنت فيه راهبة اسمها سورماري، أي الأخت مريم، وكانت شديدة عنيفة ولا سيما على الممرّضة التي اسمها تيريز، ولعلّها في أعماقها تتأثّر لقبحها من جمال هذه الممرّضة ولغلظتها من لطفها. ويبدو أنها قد عضّت أصابع الندم على أنها قَبِلَتني في قسمها، بل لقد ندم القائمون على المستشفى على قبولي؛ ذلك لأن غرفتي صارت مثابة للزائرين، وأكثرهم من المشايخ. حوّلوا المستشفى إلى مجمع علمي أو إلى مسجد؛ فكانت المناقشات تدور النهار كله وزُلَفاً من الليل، وإذا دخل وقت الصلاة مدّوا مناديلهم وصلّوا جماعة يؤمّهم واحدٌ منهم. وكان شيخنا المبارك (رحمه الله ورحم الجميع) له صوت لو جمعتَ عشرة أصوات من أقواها وأشدّها وحزمتها وجعلتها صوتاً واحداً لكانت دون صوت الشيخ. كان يتحدث مرّة، فأسرعت سورماري محتجّة تحتجّ بعبارات ثلثها عربي ونصفها فرنسي، والباقي صار من الانفعال خليطاً عجيباً لا يُفهَم له معنى. وكان يعرف كلمات من الفرنسية ففهم قصدها وقال: نعم، نعم، المستشفى يحتاج إلى الهدوء. فكان اعتذاره إليها مبعثاً جديداً لسخطها لجهارة صوته. وكان الحقّ في هذه معها، ولكن ما لا حقّ لها فيه، والذي دلّ على نقص في عقلها وعقل العاملات معها وأنه ليس في رؤوسهن دماغ كالذي في رؤوس الناس، بل هو فارغ، أحسب أنك إن نقرت جانبه بإصبعك رنّ رنين الإناء الخالي: كنت ليلةً متألماً فقرعت الجرس أستدعي ممرضة الليل، وكانت غليظة سمجة بشعة تزيد ببشاعتها مرض المريض، وكانت فوق ذلك

غبيّة نادرة في الغباء. فأعطتني ما أمر به الطبيب من المسكّنات فما أفاد، فجاءت بشيء في يدها وقالت: خذ هذا فقبِّله باحترام وضَعْه على موطن الألم. قلت: ما هذا؟ قالت: إنه الصليب. فنظرت إليه فإذا عليه صورة إنسان، فتغابيت وتجاهلت وقلت: من هذا؟ قالت: هذا يسوع ابن الربّ (تعالى الله عما يقولون)! قلت: ابن ربّ يُصلَب! ومن صلبه؟ قالت: اليهود، ألم تسمع بذلك؟ قلت: لا، مع أنني أقرأ الجرائد كلّ يوم، فما نُشر خبره فيها. قالت: إن هذا شيء قديم، حتّى إن جدة أبي سمعته من الكبار ولم تعرف متى كان. قلت: وكيف صلبوه؟ وهل تعرفين المعري؟ قالت: ما أعرفه ولكن أعرف أين بيته. قلت: بيت من؟ قالت: بيت الأمعري، لأنه كان على طريقي. قلت: ويحك، المعرّي لا الأمعري! المعرّي يقول: ليتَ شِعري وليتَني كنت أدري ... ساعةَ الصلبِ: أينَ كانَ أبوهُ؟ قالت: كان مسافراً في الهند ومات على الطريق. قلت: ومن الذي كان في الهند؟ قالت: أبوه. قلت: أبو من؟ قالت: أبو الأمعري! فقلت لها: اذهبي من وجهي ولا تعودي إليّ، لقد زدتِني بغبائك مرضاً على مرضي. قالت: أنا غبيّة، أنا كنت أذكى تلميذة في المدرسة. قلت: أيّ مدرسة هذه التي كنتِ أنتِ أذكى تلميذاتها؟ قالت: مدرسة الراهبات. * * * كم تقدّم الطبّ الجراحي من تلك الأيام إلى الآن؛ كانت العملية عملية قطع الزائدة، فأبقوني ممدداً على ظهري نحواً من

أربعين يوماً، وما سُمح لي بأن أنقلب على جنبي إلاّ بعد زمن طويل! ما كان قد عُرف البنسلين، وكان التخدير خنقاً متعمَّداً، لا أزال أذكره إلى الآن. وضعوا على أنفي كمامة فيها كلوروفورم أو أثير أو أمثال ذلك ممّا كان يخدّر به في تلك الأيام، وضغطوها وأنا أحس بالاختناق. وكنت أسمعهم يقولون "خلص تخدّر"، فأشير بكفي أنْ لا، قالوا: هل يدمن المسكرات حتّى لا يؤثّر فيه البنج؟! ما علموا أني بحمد الله لم أقترب منها ولم أدخل أماكنها، فضلاً عن أن أشربها. وكان الصحو من البنج أصعب عليّ منه، فأنا إن نمت على ظهري دخت. فلما بدأت أصحو وجدتُني مثبّتاً في السرير مربوط اليدين والرجلَين، كأني معتقَل في سجن ظالم لا يخشى الله وليس له قلب، وما له من الإنسانية إلاّ أنه يمشي على اثنتين وليس له ذَنَب. ومن شدة ضيقي شددت الرباط فقطعته، وكنت امرأً رياضياً قوياً متين الجسد مشدود العضلات. أمضيت هذه المدّة كلها من أجل عملية الزائدة، وقد شُقّ بطني شقاً طوله ثمانية عشر معشاراً (18 سانتي). ومنعوا عني الماء، فكنت أمدّ يدي إلى كيس الثلج الموضوع على بطني فأستخرج قطعة صغيرة أمسحها حتّى أنظفها، ثم أضعها في فمي فأشرب منها ماء بارداً، لأني لم أكن مقتنعاً بقولهم إن الشرب يضرّني. وقد صدقت الأيام قولي، فلما قامت الحرب العالمية بعد ذلك بسنتين وجعل الجنود يقطعون الزائدة لئلاّ تلتهب أثناء القتال فتؤلمهم، قرأت أن جماعة منهم كانوا مجتمعين في المستشفى

بعد العملية فعطش واحد منهم، فقام فشرب ونادى: من يريد أن يشرب؟ فشربوا جميعاً. فلما رأى الأطبّاء أن ذلك لم يضرّهم سمحوا بشرب الماء. * * * وكان في بهو المرضى (العنبر العامّ) مريض شيخ مسلم فقير، ولم يكن عالماً ولكنه كان ذكياً. فلما قَرُب خروجه وجاؤوه بقائمة الحساب وجد أن المرض الذي جاء فيها أشد من المرض الذي زال. وكان يستطيع أن يقوم ويقعد، وكان في المستشفى تمثال زعموا أنه صورة القديس الذي يحمي المستشفى، وكانوا يضعون حوله باقات الورد. فكان يقوم فيأتي بها ليلاً حيث لا يراه أحد فيضعها إلى جنب سريره، فإذا اجتمع الطبيب والراهبة والممرضة في الصباح قال لهم على مسمع من المرضى: إن القديس جاءني وبشّرني بالشفاء ووضع هذا الورد إلى جنب سريري. فأعجبهم ذلك منه أولاً لأنهم حسبوا فيه شهادة لهم وتأييداً لضلالهم، فلما كرّرها أحبوا التخلص منه وإخراجه، فطلع عليهم بحُجّة جديدة فقال إن القديس جاءه البارحة وقال له: أخبر أتباعي المخلصين أنني آمرهم بألا يأخذوا منك شيئاً. وكانوا يعرفون الحقيقة ولكنهم إن جهروا بها كذّبوا أنفسهم، فسكتوا عنه وأخرجوه من غير أن يرزؤوه شيئاً. هذا طرف من خبري في المستشفى. * * *

وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة

-106 - وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة غداً هو يوم الجمعة الثالث والعشرون من جمادى الأولى. إنه عندكم يوم كالأيام تشرق شمسه ثم تغرب وتتعاقب ساعاته ثم تنقضي، قد ترون فيه ما يسرّ أو ما يسوء، ثم لا يدوم سرور ولا يبقى ألم. أمّا أنا فإنني أرى في هذا اليوم ما لا أراه في غيره، ففي مثله حدث أمر لم يهتمّ به أحد ولم يكن له في حياة أحد أثر، ولكنه كان بداية حياتي أنا؛ ففي يوم مثله، يوم الجمعة 23 جمادى الأولى سنة 1327هـ ولدَتني أمي. كلّما مرّ هذا اليوم قال لي بعده أهلي وقال الفتيان والفتيات من ذُرّيتي: هلاّ ذكّرتَنا به لنحتفي معك، أو لنحتفل فيه بك؟ أوَلم أخبرهم به عشرين مرّة وهم ينسونه؟ أما قلت لهم: إن الدولة العثمانية نقشَته على الليرة الذهبية الرشادية (1327)؟ ذلك هو تاريخ بيعة السلطان محمد رشاد وهو تاريخ مولدي. خبّروني: ما الذي تصنعون إن ذكّرتكم به؟ تعملون لي قرصاً ضخماً من الفرانيّ (أي الكاتو) وتجمعون عليه الأهل والأقارب وتغرسون فيه الشموع ثم تقولون لي: أطفئها. أنفخ عليها فأطفئها،

وكيف أطفئ بنفخة واحدة سبعاً وسبعين شمعة؟ ولماذا أتعجّل إطفاءها وسيطفئها مَن وكله الله بها حين يجيء الأجل، فأموت كما مات آلاف وآلاف وملايين وملايين من قبل: ماتوا فما ماتتِ الدّنيا لموتِهمُ ... ولا تعطّلَتِ الأعيادُ والجُمَعُ ماتوا ولبث الناس أحياء يصبحون ويُمسون. يألمون لموتي أياماً وشهوراً ثم ينسون، إن لم ينسوا في شهر نسوا في سنة: إلى الحَولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ومَن يَبْكِ حَولاً كاملاً فقدِ اعتذَرْ أما نسيت أنا موت أبي ونسيت موت أمي، وكدت (ولن أنسى) قتل بنتي؟ * * * لقد وقفت هذا الموقف مرّات لست أذكرها لأحصيها، وكتبت مقالات حفظت الأقلّ ممّا نُشرَ منها وطويت باقيها فأضعتها (¬1). فماذا ربحت ممّا نشرت وماذا خسرت بما فقدت؟ كنت في كلّ سنة أصبّ على الورق من عواطفي التي اعتصرَتها الأيام، أصبّ منها هذا الرحيق فأكتب به مقالات أُودِعها الصحف، وأودع فيها آمالي التي تفيض بها نفسي وآمل أن أحقّقها. كنت ¬

_ (¬1) انظر هذه المقالات في كتاب «من حديث النفس»: «على أبواب الثلاثين» و «على عتبة الأربعين» و «بعد الخمسين» (مجاهد).

أفتح صِمام الأمان (¬1) لآلامي المحبوسة في صدري، لأنفّس عنه حتّى لا تفجّره الآلام. كنت أكتب للأدب، أشتري رضا القُرّاء وإعجابهم، كنت أبالغ أحياناً وأزخرف الحقيقة وأجمّلها، أمّا اليوم فسأكتب شيئاً آخر. لا أقول إني فقدت الحسّ حتّى لا أفرّق بين المدح والذمّ ولا بين الخيبة والنجاح، فأنا كغيري من الناس أحبّ أن أُمدَح وأن أنجح وأن أكون الذي تتوجّه إليه الأنظار وتشير إليه الأيدي، ولكن الأيام علّمتني أن هذا كله مؤقَّت: تمثال من الثلج كالذي يصنعه الأولاد في البلاد الباردة. تمثال جميل ولكنه يعيش ريثما تطلع عليه الشمس وتحمى، فإذا هو يسيل ماءً يختلط بتراب الأرض فيصير وحلاً. لقد فتحت بالأمس كتاباً فوجدت فيه وردة جافّة، ما أمسكت بها حتّى تفتّتَت وصارت كالهباء. كانت يوماً وردة نضرة حيّة فوّاحة العطر فصنع هذا بها الزمانُ، لست أدري الآن ما ذكراها ولا لماذا وضعتها في هذا المكان. إنها كمومياء مصرية لفتاة يراها الباحث عن الآثار، ولا يدري من هي ولا يعرف ماذا كانت؟ ماذا كانت حياتها؟ بماذا كانت تفكّر وكيف كانت تشعر؟ هل كانت سعيدة أم غطّى عليها الشقاء فعاشت بلا أمل ولا رجاء؟ لم يبقَ من هذا كله إلاّ هذه البقايا الجامدة من جثّة هامدة. لو فتحت القبر على أجمل الجميلات التي يخرّ أبطال الرجال على الرّكَب من هيبة جمالها، ويبذلون كرائم الأموال ¬

_ (¬1) صِمام على وزن كِتاب.

مهراً لوصالها، ويجعلون أرواحهم تحت أقدامها، لو فتحت عليها بعد عشرة أيام من موتها فماذا ترى؟ هذه هي الدنيا وهذي لذائذها. عشت سبعاً وسبعين سنة، ذُقت الحلو وشربت المرّ، ورأيت النفع وقاسيت الضرّ، وعرفت الشهرة والمجد وعرفت أيضاً الخمول والنكران، وأنا أقول هذا بعد تجارِب هذا العمر الطويل، فهل زهدت في الدنيا وتجرّدت للعمل للآخرة وسعيت لها سعيها؟ أقول: لا. أقولها وأنا غارق في عَرَق الخجل من الله، وأنا منغمس في غمرة الألم، أقولها لأنها هي الحقيقة. هل تريدون أن أكذب عليكم؟ إنها لتمرّ بي أوقات أذكر فيها الحقيقة الكبرى التي كتبت عنها مقالة في مجلة «الرسالة» أو «الثقافة» (لم أعد أذكر) من أكثر من أربعين سنة إثر قراءة كتاب أندريه موروا عن الوزير الإنكليزي اليهودي دزرائيلي (¬1). سأحدثكم حديث موتي غرقاً في بيروت سنة 1954 وأني رجعت إلى الدنيا بعدما وضعت رجلي على عتبة الموت (¬2)، ¬

_ (¬1) «الحقيقة الكبرى»، نشرها في «الثقافة» سنة 1947، وهي في كتاب «فصول إسلامية»، وقال في آخرها: "لقد خرجت من قراءة هذا الكتاب وأنا أزهدُ ما يكون إنسانٌ بالشهرة والمجد، وأفهمُ ما يكون لغاية الحياة وحقيقتها، وأنها إن لم تكن مزرعة للآخرة لم تكن شيئاً، وأن مسرّاتها أوهام ومُتَعها سراب وكل ما فيها إلى زوال، إلا ما كان لله فهو الباقي". فمَن أحب فليقرأها هناك (مجاهد). (¬2) انظر مقالة «في لجّ البحر»، وهي في آخر كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

وسيكون إن شاء الله حديثاً مفصّلاً بمقدار ما بقي في ذهني من تفاصيله، ولكن أقول الآن: إني لمّا رأيتني غائصاً في الماء أحاول أن أتنفّس فلا أجد الهواء، وأن أثبّت قدمي على أرض راسية فلا تصل إلى شيء ثابت، وأمدّ يدي فلا تعلقان بشيء، وكنت في مكان منفرد ما حولي أحد ... سأذكر لكم ما الذي كنت أشعر به في تلك اللحظات: لقد رأيت فيها أنّ كلّ ما في الدنيا قبض الريح. ابسط يدك وامددها في مهبّ الريح ثم اقبضها وشدّ أصابعك عليها، ثم انظر ما الذي أمسكَت يدُك؟ لقد نسيت كثيراً ممّا قرأت، ولكن كلمات وقعت عليها مصادفة أو سمعتها من مدرّس أو صديق بقيَت عالقة في ذهني، في مكان عال لا يبلغه ليسحبه معه سيل النسيان، ومن هذه الكلمات التي وجّهَت حياتي كلمة لابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» الذي حقّقه أخي ناجي، وكتبت له مقدّمة طويلة وعلّقت عليه تعليقات كثيرة. كان رمضان الذي مضى في قلب الصيف وقد أمضيتُه في مكّة في أشدّ الحرّ. وأيام الصيف أطول الأيام، فاذكروا كم يقاسي الصائم من العطش والجوع. إنه يرى في كأس الماء البارد نعمة لا تعدلها أموال المصارف، فإذا أذّن المغرب وشرب فما الذي يبقى له من آلام الصيام؟ وإذا غلبَته نفسه فأفطر فأصاب اللذّة بشرب الماء، ما الذي يبقى له من هذه اللذّة عند المساء؟ إن اللذائذ المحرمة تذهب ويبقى عقابها، وآلام الطاعة تذهب ويبقى ثوابها. هذه هي كلمة ابن الجوزي. * * *

سبع وسبعون سنة ما أطولها، ولكن ما أطولها حين تنظر إليها من أولها وما أقصرها الآن من آخرها. إنها كالعطلة الصيفية للطالب: تكون ثلاثة أشهر حين تبدأ، ولكن في آخر يوم منها لا تكون ثلاثة أشهر بل يوماً واحداً. كالمرتّب للموظف: عشرة آلاف حين يقبضه ولكن عند آخر مئة ريال تبقى منه يكون راتبه مئة ريال فقط. فأنا ما عشت سبعاً وسبعين، بل خسرت من عمري سبعاً وسبعين. والعبرة بالنتيجة، فماذا تكون نتيجة هذا الامتحان حين تُنشَر الصحف وتُعلَن النتائج؟ هل أتلقّى صحيفتي بيميني أم بشمالي أم من وراء ظهري؟ الأمر بيد واحد، هو يقرّر ما يراه وهو ينفّذ ما قرّره، لا يستطيع أحد أن ينقض قراره. ليس بعده استئناف ولا تمييز وما لحُكمه نقض. إنه عادل: إذا عاملني بعدله وأعطاني ما أستحقّ فيا خسارتي ويا نتيجة ظلمي نفسي! ولكنه رحيم رحمن، إن أولاني رحمته نجوت. إن طبق عليّ قانون: {لها ما كَسبَتْ وعليها ما اكْتَسبَتْ} فيا ضيعة علي الطنطاوي! ولكن ينجّيني قانون: {ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أوْ أخطأنا}. إني والله أخشى ذنبي ولكن لا أيأس من رحمة ربي، وآمل أن تنفعني إن متّ صلاة المؤمنين عليّ ودعاء من يحبني. فمن كان قرأ لي شيئاً أو استمع مني شيئاً فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولَدعوةٌ واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خير من كل ما حصّلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه، ومن

لذائذ الدنيا كلها. وما لذائذ الدنيا؟ لقد قلت من قديم: إن الفقير يمرّ بقصر الغني أو تمرّ به سيارته فيحسب أنه إن كان له مثلها فقد حيزت له الدنيا وجمع السعادة من أطرافها. ولكن هل يشعر بهذه السعادة مالكُ القصر والسيارة؟ إنها تصير له شيئاً عادياً يفقد الاستمتاع به ولكن يألم لفقده. والعادة -كما جاء في كتب علم النفس- تُضعِف الحس ولكن تزيد الفاعلية. أفليس هذا دليلاً على ما قلته من أن اللذائذ المادّية كلّها سراب؟ لا تدرك جمال السراب إلاّ من بعيد، فإذا صرت عنده تسرّب جمال منظر الماء ورأيت أنك لا تزال في الصحراء. * * * سبع وسبعون سنة أمضيت أكثرها في العلم والأدب: دراسة في المدرسة وقراءة على المشايخ ومطالعة في الكتب ومساجلة مع الإخوان. لو أحصيت معدَّل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم، لأنني منذ الصِّغَر شبه معتزل بعيد عن المجتمع. فلو جعلت لكل ساعة عشرين صفحة، أقرأ من الكتب الدسِمة نصفها ومن الكتب السهلة نصفها، لكان لي في كل يوم مئتا صفحة. أتنازل عن نصفها احتياطاً وهرباً من المبالغة وخوفاً من الكذب (وإن كنت لم أكذب ولم أقُل إلاّ حقاً)، فهذه مئة صفحة في اليوم. فاحسبوا كم صفحة قرأت من يوم تعلّمت النظر في الكتب وامتدّت يدي إليها. سبعون سنة، في كلّ سنة اثنا عشر شهراً، في كل شهر ثلاثون يوماً، في كل يوم مئة صفحة. فإن هالكم الرقم فاحسموا منه نصفه، فكم يبقى؟ كنت (ولا أزال)

أقرأ في كل علم: في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي التاريخ، وفي الأدب: الأدب العربي والأدب الفرنسي، وفي العلوم على تنوّعها وتعدّدها. ولا أزال والحمد لله أستوعب خلاصة وافية لِما قرأت. ما كنت أنسى شيئاً فصرت الآن أنسى أفراد المسائل: أنسى الأرقام وأنسى الأسماء، ولكنني أحفظ المسألة. لقد تمكّنت في نفسي الأصول وإن غابت منها الفروع، فتحوّل الحفظ إلى مَلَكة. قرأت من دواوين الشعراء عشرات وعشرات، ومن كتب الأدب أكثرَها، ومن القصص الفرنسية والمترجَمة عن الإنكليزية والروسية ولغات الأرض كلها مئات. نعم مئات، لا يزال أكثرها عندي. وكتبت ما لم يكتب أكثرَ منه ممّن أعرف إلاّ قليل، كالأمير شكيب أرسلان والأستاذ العقّاد وأمثالهما، وإن كان أمثالهما قِلّة من أصحاب القلم الفيّاض. والذي نُشر ممّا كتبت يزيد على ثلاثة عشر ألف صفحة، وما ضاع مني مثله أو أكثر منه. منها مقالات كان لها في حينها ضجّة كضجّة مدفع رمضان، يوقظ النائم ويسرّ الصائم ويغيظ المفطر الآثم، يسمع صوتَه كلّ من في البلد، ثم تهدأ الضجّة ويُنسى الأثر ويمضي كما يمضي كلّ شيء في الدنيا. وخطبت خُطَباً هزّت الشعب وزعزعت كراسي الحكام وبدّلت خطّ مسيرة الناس، ثم عاد كل شيء إلى ما كان. خطبت

في مدن الشام كلها وفي مصر وفي العراق وفي لبنان وفي القدس وفي عمّان وفي الهند وفي الباكستان وفي أندونيسيا، وفي المراكز الإسلامية في أوربّا. وأنا من أقدم مَن تكلّم في الإذاعة، حدّثت منها من يوم أُنشئت محطّة الشرق الأدنى في يافا بعد إنشاء محطّة مصر بسنة واحدة، من أكثر من خمسين سنة، ولا أزال أتكلّم فيها إلى الآن. وفي الرائي (التلفزيون) من حين عرفنا الرائي، وكنت أول من دخل الأستوديو في جدّة، فتكلمت فيه قبل أن يدخله أحدٌ من المحدّثين والمغنّين والممثّلين، كنت أنا أول داخل إليه ومتكلّم فيه. علّمت في جميع مراحل التعليم، من المدارس الأولية في القرى، إلى الابتدائية، إلى الثانوية، إلى الجامعة، إلى أقسام الدراسات العليا فيها. واشتغلت بالقضاء من أدنى درجاته إلى أعلاها، حتّى لقد أُحِلْت إلى المعاش وأنا مستشار في محكمة النقض (التمييز) في دمشق وفي القاهرة أيام الوحدة. ووضعت أنا مشروعات قوانين لا يزال العمل بها في الشام: قانون الأحوال الشخصية وقانون الإفتاء، ومناهج التعليم في مدارس وزارة الأوقاف. وكنت أول من عمل على إنشاء الجمعيات الإسلامية في الشام، ولم أدخل واحدة منها عضواً رسمياً فيها. وكنت أجمع كل العاملين في الحقل الإسلامي، واسألوا الشيخ الصواف يخبركم، ولو كان الشيخ أمجد الزهاوي رحمه الله حياً لاستشهدتُه؛ كنت أجمعهم جميعاً من أقصى الطرف الصوفي إلى أقصى الطرف

السلفي، لا لأني كنت معهم جميعاً بل لأني كنت أعاون كلّ من يعمل للإسلام، أمشي معه ما دام طريقي على طريقه، فإن اختلف الطريقان لم أبدّل من أجله طريقي. وكانوا يستجيبون لي لأنني لا أنازع شيخاً على مشيخته ولا رئيساً على رياسته، ولو عُرضَت عليّ (وقد عُرضت فعلاً) لأبيتها، لذلك كانوا يستجيبون لي ولا يستوحشون مني. إن من الكُتّاب من يخالط أصحاب الرياسة وأرباب السياسة ومالكي الجرائد، ويصادق أهل النفوذ والسلطان فينوّهون به في كل مكان، وإن كانت جائزة أو منفعة ذكروه فقدّموه لها. وأنا أعمل وحدي بعيداً عنهم: فإذا تكونُ كَريهةٌ أُدْعى لَها ... وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعَى جُنْدُبُ * * * ما الذي أشتهيه الآن؟ لا أحتاج مالاً؛ إن ما رزقني الله منه يكفيني، وصحّتي إن بقيَت لي فإنها حسبي. ولا أطلب شهرة، فعندي منها الكثير؛ كنت معروفاً في دمشق من أكثر من خمس وأربعين سنة، وأنا معروف في بلاد كثيرة، أمّا في المملكة فيعرفني من وجهي وصوتي أكثر مَن أصادفهم من الرجال والنساء. هذه نعمة من الله أحدّث بها، وما قلتها لهذا بل لأسأل: ما نفعي منها؟ إني لا أراجع دائرة حكومية ولا أشتري شيئاً، وكنت أكتب إلى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله مع شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار من أربع وخمسين سنة، ويتفضّل هذا الرجل العظيم عليه رحمة الله فيصلني جوابه وأنا شابّ لا يُؤبَه له. وكتبت بعده إلى

أولاده من الملوك، رحم الله من توفّاه منهم وأبقى سالماً موفّقاً وأطال عمر الباقين منهم. ولكن سلوني: كم مرّة خلال نصف قرن كتبت أطلب شيئاً لنفسي؟ ثلاث مرّات أو أربعاً، وليس الطلب لي شخصياً ولكن لبعض من يلوذ بي. والمرّة الوحيدة التي أخذت فيها عطيّة أحدّث بها الآن فقد جاءت مناسبة الحديث عنها. كنت أشتغل وأتكسّب من سنة 1924 (1343هـ) فلما جاءت سنة 1954 كانت حصيلة عمل ثلاثين سنة ثلاثة آلاف ليرة سورية فقط (تعدل بسعر اليوم (¬1) ألفاً وثلاثمئة ريال)، وكان مع أخي عبد الغني مثلها. وهو أول دكتور في الرياضيات في سوريا، وكان أستاذاً في العلوم في الجامعة. فاشترينا قطعة من الجبل فوق البيوت مساحتها دونم، أي ألف متر مربع، وحرص إخواني على أن نبني فيها. وجاءني مَن أقرضني مبالغ للبناء، وقد تولّوه هم وأنا بعيد لا أشرف ولا أشارك في رأي ولا نظر، حتّى قام البناء، ولكن ركبني دَين مقداره ستة عشر ألف ليرة سورية. وكنت أعرف الأستاذ عبد الله بَلْخير، قابلته أول مرّة عند شيخنا الشيخ بهجة، وكان يومئذ شاباً، وأحسبه كان طالباً في الجامعة في بيروت. فأُعجِبت بعقله ولسانه وذكائه وبيانه، وخرجت من عند الشيخ وصحبني، ومشينا من دار شيخنا في آخر الميدان جنوبيّ دمشق إلى دارنا في لحف جبل قاسيون شماليها، أي من طرف البلد إلى طرفها. ثم قامت مودّة بيني وبينه. فلما كنت في كراتشي سنة 1954 وزارها الملك سعود ¬

_ (¬1) يوم صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب.

رحمة الله عليه كان الأستاذ بلخير معه، ولقيته مرّات وسألني عن حالي، فحمدت الله على نعمه وذكرت له خلال الحديث ما يؤرقني من الدَّين، وانتهى اللقاء وافترقنا. فلما كان من الغد قال: لقد حدّثت جلالة الملك فأمر بقضاء دينك. إني رغم طول المدّة لم أنسَ ما شعرت به من ذهول المفاجأة؛ لم أكَد أصدق أذني، حسبت أني أقرأ في كتاب من كتب الأدب خبر شاعر مع خليفة مدحه فقال: "اقضوا دينه"! هل يمكن أن تتحقق الأحلام على أيسر سبيل؟ هل يمكن أن أرى بالعين ما لا يستطيع أن يلحق به -لبُعده- الخيال؟ فقال لي ضاحكاً: إيه، ما لك؟ أين ذهبت؟ فانتبهت، فقال لي: إني أقول لك: إذا أخذتَها روبيّات خسرت، فانتظر حتّى أوصلها إليك بالإسترليني. ألف وستمئة جنيه إسترليني كانت عندي في تلك الأيام أكثر من مليون وستمئة ألف الآن. وقال: ليس من اللازم أن تخبر بها من معك. ولكن كيف أكتم هذه الفرحة؟ إن صدري لا يتسع لها وحدي، إنها أكبر منه، فذهبت إلى رفيقَي السفر الشيخ أمجد والصواف وقلت لهما. وقلت ذلك للوزير السعودي الشيخ عبدالحميد الخطيب، وكتبت أبشّر أهلي في الشام بأن الدين قد قُضي. وانتظرت أن تصل إليّ، ولكن الملك رحمه الله والشيخ بلخير سافرا ولم آخذها. لماذا أطمعوني وما أطعموني؟ لماذا منّوني وما أعطوني؟ وصار التفكير فيها شغلي في نهاري ورؤياي في منامي. وذهبنا إلى كلكُتّا ثم إلى بومباي، ولقيت فيها الرجل الكريم النبيل

الشيخ محمد علي زينل مؤسّس مدارس الفلاح، فحدّثته حديثها. وطفقت أكتب الرسائل إلى الشيخ عبد الله بلخير حتّى نظمت مرّة أبياتاً حسبت أني فتحت بها القسطنطينية. ما كنت أدري أني أهدي التمر إلى هجر وأنني أقدّم سيارة إلى أصحاب مصنع سيارات مرسيدس، وأن عبد الله بلخير شاعر لا كاتب مثلي يحاول أن ينظم أبياتاً فلا يفلح فيها! ولم أدع أحداً لم أخبره بخبر هذه العطيّة وشكري الملك عليها والوسيط بيني وبينه إليها! وطالت الأيام ومرّت ثقيلة حتّى مللت وأيقنت أن كلّ ما كان كلام في كلام. وجئنا للحجّ أنا وسعيد رمضان وكامل الشريف، ولقيت الشيخ عبد الله بلخير، فمن غضبي منه ومن يأسي من نيل ما وُعدت به لم أقُل له شيئاً. فلما وقفنا للوداع قال: آسف آسف، لقد نسيت أن لك عندي أمانة، لم أعرف في أيّ بلد أنت لأرسلها إليك. وأخرج صكاً (شيكاً) بمبلغ 1600 جنيه إسترليني. قلت هذا الآن لأشكر لأخي الشيخ عبد الله بلخير الذي لم أرَه من تلك الأيام، ولأدعو بالرحمة والمغفرة للملك سعود، ومن قبله الملك عبد العزيز، ومن بعده الملك فيصل والملك خالد، وأدعو للملك فهد، فكلهم أحسن إليّ أحسن الله إليهم جميعاً وجزاهم عني خيراً، وأعزّ الله بالملك دينه ووفّقه إلى ما يُرضيه عنه، وإلى ما يؤيّد شرعه ويُعِزّ عباده المسلمين له المؤمنين به. * * *

وبعد، فما الذي أشتهيه الآن؟ أشتهي أن أستطيع الذهاب إلى الشام متى شئت لا يُحال بيني وبينها، وأن تُنقَل مكتبتي من بيتي في الشام إلى داري هنا، وأن يستقرّ أحفادي وأصهاري في هذا البلد الكريم، وأن يديم الله عليّ صحّتي وأن يمتّعني بسمعي وبصري. وهذا كله للقليل الباقي من العمر، أما ما أتمنّاه لآخرتي فهو المغفرة وحسن الختام، وأن أرى المسلمين قبل أن أموت قد عادوا إلى دينهم فعاد لهم عزّهم ومجدهم. ربّ توَفّني مسلماً وألحقني بالصالحين. اللهمّ ما لي إلاّ القليل من العمل الصالح، ولكني أشهد أنه لا إله إلاّ أنت. أنت الخالق الموجد وأنت المالك المتصرّف، وأنت الإله المعبود وحده بحقّ، ما أشركت معك في شيء من العبادة أحداً، وكل شيء إلاّ أنت مخلوق لك، أنت أوجدتَه وأنت تملكه وأنت تتصرّف فيه وحدك. اللهمّ ثبّتني على الإيمان وأمِتني عليه، وعاملني برحمتك بما وعدت به عبادك المؤمنين. * * *

أخي المبتعث إلى باريس

-107 - أخي المبتعَث إلى باريس الحادث الأكبر في حياتي أنا وفي حياة بلدي هو حرب 1914 التي هتكت الستار بيننا وبين حياة أوربّا، فدخلت علينا بخيراتها وبشرورها وعلومها وفسوقها، فبدّلت بذلك طرائق معيشتنا وأساليب تفكيرنا، وكانت كأنها صخرة كبيرة أُلقيت في البحيرة الساكنة، فلم تحدث على سطحها دوائر ولكن قلبتها قلباً فجعلت أسافلها أعاليها. في ذهني صورة باهتة من حياتنا في الشام قبل الحرب وصور كثيرة واضحة لما آلت إليه بعدها. ولقد كتبت في هذا كثيراً وعرضت له في محاضراتي وأحاديثي كثيراً، ولكن أجمع ما قلت فيه المحاضرة التي ألقيتها في الرياض في ذي القعدة سنة 1329هـ (¬1)، في الدورة الأولى للندوة العالمية للشباب الإسلامي التي يُشرف عليها الرجل العالِم الصالح سليل العلماء الصالحين ¬

_ (¬1) وهي منشورة في آخر كتاب «فصول إسلامية» واسمها «موقفنا من الحضارة الغربية»، وقد نشرتها دار المنارة في رسالة صغيرة أيضاً (مجاهد).

الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ. ولقد بيّنت فيها ما أكّدَته لي الأيام وأثبتَته لي التجارِب، من أن جُلّ الفساد الذي دخل في مجتمعنا فأضاع أخلاقنا وأبعدنا عن ديننا، وأكبر العلم الذي فتح عقولنا وجدّد أفكارنا، إنما جاءنا كله من الغرب، من أوربّا وأميركا، من ذهاب أبنائنا إليه ومن ورود أهله علينا. وكم من شابّ نشأ في أسرة مؤمنة حريصة على دينها متمسكة بفضائلها، أرسلناه إلى تلك البلاد ليعود منها بالعلم، فعاد بشهادة بلا علم أو عاد بعلم بلا دين، أو ترك الدين والعلم هناك ورجع متأبطاً ذراع حليلة بيضاء شقراء، ولكن وراء بياض جلدها وشقرة شعرها قلباً أسود مملوءاً كفراً، يسري في قلوب أولاده منها. ولقد عشت زماناً كنّا نقارع فيه الفرنسيين المستعمِرين في الشوارع نهاراً، ثم يأوي نفر منّا إلى بيوتهم فيجدون المستعمِرات الفرنسيات متحكمات في دورهم، ومربّيات لأولادهم، لا يملكون لهنّ قِراعاً ولا يثيرون عليهن حرباً. وهل يعلن أحدٌ الحربَ على زوجته وأم أولاده؟ وما ضعضع دولة العباسيين وزعزع أساس ملكها إلاّ الجواري الجميلات الفاتنات من بنات أعدائهم، صرن اللباس لهم في مضاجعهم والحبيبات المالكات أفئدتهم، وصرنَ أمهات أبنائهم، ثم صار الأمر لهؤلاء الأبناء فغدون الحاكمات من وراء ستار. كنت أعرف هذا ولكن لا أشعر به تماماً لأنه بعيد عني، والناس لا يدركون حقيقة الخطر إلاّ إن شبّت النار في الدار

ونشبت الفأس في الرأس، عند ذلك يُحسّون بها. وقد أحسست أنا بالخطر حين أعلنَت وزارة المعارف في الشام سنة 1937 عن عزمها ابتعاث طالبَين اثنين للدراسة في فرنسا، أحدهما للرياضيات والآخر للعلوم. ولم تكن البعثات كل عام ولا كل خمسة أعوام، بل كانت قليلة نادرة، فكان الطلاّب يحرصون عليها ويتسابقون إليها. وكان أخي عبد الغني نابغاً من صغره في الرياضيات، يدهش منه كل من علّمَه من الأساتذة ويفاخر به، كما كان متقدّماً في العلوم، فدخل المسابقة. وكنت أحبّ أن ينجح فيها ولكن ما فكّرت -إنْ نجح- في أمر سفره وحده، وإنما قلت: إن دخولها إن لم ينفع لم يضرّ. ودخلها كثير من الطلاّب، وكانت مسابقة صعبة شاقّة، ولكن الله منّ علينا فكان أخي هو الأول في مسابقة الرياضيات وهو الأول في مسابقة العلوم. وذلك بفضل الله علينا؛ فلقد كان أبونا فقيهاً في الطبقة الأولى من فقهاء الشام، كما كان من أقدر مدرّسي الحساب، وهي خلّة في أسرتنا موروثة عن جدنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من مصر، فلقد كان عالِماً من كبار علماء الدين وكان من كبار علماء الفلك. أمّا امتشاق القلم وركوب صهوة المنابر، ومصاولة الأقران في حلبات الأدب والبيان، فما أعرف في أسرتنا من انصرف إلى شيء منه قبلي. فمن أين جاءني؟ لست أدري. لقد تقاسمنا أنا وإخوتي الاتجاهَين؛ فكان الغالب علينا أنا وأخي ناجي، القاضي في الشام والمستشار الآن في وزارة الحجّ

والأوقاف هنا من عشرين سنة، الغالب علينا الاشتغال بالفقه والعربية، إلاّ أن أخي ناجي يَنْظم الشعر، ويسهل عليه حتّى لكأنه يرتجله ارتجالاً. وله قصائد منشورة من خمسين سنة لم يجمعها، وكان (وأحسب أنه لا يزال) يحفظ من الشعر ما يندر أن يحفظ أحدٌ مثلَه في هذه الأيام. وأخواي الصغيران عبد الغني وسعيد غلب عليهما الاشتغال بالرياضيات (القديمة والحديثة) والعلوم، وإن كان لهما نصيب كبير من علوم الدين والعربية. * * * كنّا نرى أوربّا ناراً تحرق ونوراً يهدي، فكان المشايخ من أهلي وأساتذتي يرون نارها: يخشون حَرّها ويخافون ضُرّها، وكان الشباب يرجون نورها ويريدون خيرها. كنّا نتناقش في أمر هذه الحضارة الجديدة وهي بعيدة عنّا، وإن كانت بوادرها قد وصلت إلينا. فلمّا نجح أخي في المسابقة رأيت الخطر قد وصل إلى بيتي، بل إلى بيتنا، فلم يكن بيتي وحدي بل كان بيتي وبيت إخوتي. وكنت -بحكم أني الأكبر وأني استلمت مجداف الزورق بعد موت أبي عليه رحمة الله- أحسّ أنهم أولادي، وإن لم يكن بيني وبين أكثرهم في السنّ ما يسوّغ لي أبوّتهم. فكيف ألقي بولدي في هُوّةٍ مظلمة لست أدري أيخرج سالماً منها أم يهلك فيها؟ كانت محاربة هذه الحضارة والوقوف دون تغلغلها في حياتنا شبه مستحيلة، لأنها دخلت علينا على غير استئذان منّا، وصرنا أقرب في بيوتنا وفي أسواقنا وفي أزيائنا وفي طرائق معيشتنا، بل وفي تفكيرنا، صرنا أقرب إلى الأجانب منّا إلى ما كان عليه

أجدادنا قبل مئة سنة. فما دمنا لا نستطيع وقف هذا السيل فلنحفر له مجرى يسيل فيه، لئلاّ يسيح في الأرض فيُغرق البلاد ويُهلك العباد. إذا كنّا لا نقدر أن نعتصم من هذا الوباء في أقفاص زجاجية خالية من جراثيم المرض، فلنأخذ اللقاح الواقي منه ثم لنقتحم عليه الحياة ولنسلك مسالكها. إن لم يكن بد من الدراسة في أوربّا فأَولى أن يذهب إليها شباب مسلمون ناشئون في طاعة الله متزوّدون من التقوى بزاد، من أن يذهب شُبّان لا يبالون بحلال أو حرام ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً. ولكن الذهاب لا يخلو من خطر، فلماذا أعرّض أخي لهذا الخطر؟ ولماذا أجعله هو محلّ هذه التجرِبة وهي تجرِبة موت أو حياة، إن لم يكن فيها الموت الذي تخرج فيه الروح ففيها موت شرّ منه، هو موت الإيمان والخلق والعفاف! وكنت حديث عهد بدراسة الأدب الفرنسي، وكنت أحفظ المقطع الرائع في رواية «السيد» لكورناي حين تردّد بين واجبه في الانتقام لشرف أبيه ولو ضاعت منه حبيبته (شيمين) وبين الإبقاء على شيمين ولو هدر شرف أبيه! وما أصعب أن يتردد الإنسان بين أمرين لا يرجح أحدهما إلاّ ريثما يعود مرجوحاً. إنه كالذي كانوا قديماً يربطونه بين فرسَين قويَين يذهب هذا يميناً وهذا شمالاً فيتمزّق جسمه مزقاً. في ذهاب أخي ضمان مستقبله وكفالة عمله، ولكنه شابّ غرير ما عرف من شرور الحياة ومكايدها شيئاً؛ كانت دنياه

بيته ومدرسته والطريق بينهما، وكان في نحو التاسعة عشرة من عمره. فكيف أبعث به إلى بلد لا نزال نسمع عنه من أخبار الفساد والإباحية وسهولة الوصول إلى الفاحشة ما يُشيب رأس طفل رضيع؟ وأنا لم أكن ممّن يرتاد القهوات، ولكنها فُتحت في تلك الأيام قهوة في طرف غوطة دمشق عند بوابة الصالحية كانت تُدعى قهوة فاروق، وهي أشبه بمتنزه، خالية من كل محرم، تقام فيها صلوات الجماعة إذا دخل وقتها، يقعد فيها من أساتذتنا: سليم الجندي وجودة الهاشمي ومحمد البزم، ومن إخواننا: سعيد الأفغاني وأنور العطار وحلمي اللحام ومحمد الجيرودي. وجاؤوا يهنئونني بنجاح أخي في المسابقة فقلت: ولكني لا أستطيع أن أحمل تبعة إرساله، أخاف أن يلومني هو يوماً أو أن يلومني الناس، وهذا كله أهون من أن يعاقبني الله في الآخرة إن أنا عرّضته لفتنة في دينه أو خلقه. فأخذني جودة بك الهاشمي (وكانت له في نفوسنا ونفوس من كان قبلنا ومن جاء بعدنا من الطلاّب هيبة هي أقرب إلى الرهبة، لم نكن نجد مثلها لغيره، ولبث حيناً من الدهر مديراً لمدرستنا، مكتب عنبر) أخذني إلى منضدة قريبة خالية، وألقى بثقله كله عليّ ليقنعني بالموافقة ويخوّفني الندم إن أنا أضعت على أخي هذه الفرصة التي لا يتهيّأ مثلها كل يوم، وقال: اسأله هو. وكنت قد سألته فترك الأمر إليّ، فزادني حملاً إلى حملي. فقلت للأستاذ: أستخير الله وأعود من الغد. وأمضينا ليلة نفكّر، أنا وهو وأخي ناجي ومن كان معنا من أصحابنا، فاجتمعوا على

أن الخير في سفره، فوافقت وأنا خائف. ولست أنسى ليلة السفر. وقد أرادوا أن يخفّفوا عنه ويسلّوه، وكانت لمحمد عبد الوهاب أغنية جديدة هي «ليلة الوداع طال السهر، وقال لي قلبي: إيه الخبر؟ قلت: الحبايب هجروني». وطفقوا يغنّونها، وقعدت أنا أتصور الوداع فتقطّع قلبي سلَفاً، لا لرهبة ساعة الوداع وحدها بل لما كنت أتوقعه بعد هذا الوداع. وحان موعد عودتي إلى بيروت، وكنت -كما قلت لكم- أسافر إلى دمشق عشيّة الثلاثاء من كل أسبوع وأعود صباح السبت، فسافر أخواي ناجي وعبد الغني معي. وقطعنا له تذكرة على الباخرة «مارييت باشا»، وكانت يومئذ من البواخر الكبيرة التي تسافر من بيروت إلى مرسيليا مجتازة الإسكندرية، تقطع في هذه السفرة ستّ ليال. خبّرني بعدها أنه لم ينم فيها ساعتين متصلتين، إذ كان البحر هائجاً، وكانت الباخرة تعلو حتّى تكون كأنها على رأس جبل صغير ثم تهبط فجأة، فيحس ركابها بقلوبهم لدى حناجرهم وبأن مِعَدهم قد قفزت إلى بلاعيمهم، فتنقلب فيندفع ما فيها. ستّ ليال بلا نوم هنيء ولا طعام مريء ولا راحة ولا استقرار. فليذكر هذا الذين يقطعون هذه المسافة اليوم في ساعتين وهم مضطجعون على كراسيهم في طياراتهم، يضعون فنجان الشاي فلا يهتزّ ولا تنقط منه نقطة، يأكلون ويشربون وينامون وهم مستريحون. * * *

لم أذهب معه إلى المرفأ، لأني لا أطيق مواقف الوداع وأهرب منها ما استطعت. وبقيت في الكلّية أنتظر على مثل جمر الغضى ... وجمره (وقد عرفته) مثل الفحم الحجري. حتى رجع أخي ناجي فخبّرني أن السفينة قد مضت به. لم أنَمْ تلك الليلة، كنت أحاول أن أتخيل ما يصنع: كيف نزل إلى السفينة؟ وأين مكانه فيها؟ وماذا كان يشعر به؟ ولم أكن ركبت البحر لأسترجع ذكريات عرفتها، فكنت أستضيء بضوء الخيال وأمشي في طرق مظلمة وفي ليلة ما فيها قمر. وأمضيت ليالي كانت أشدّ عليّ وأنا على الأرض الثابتة في البلد الآمن من لياليه في الباخرة التي كانت ترقّصها الأمواج ويلعب بها البحر. وكان قد سبقه إليها أخونا وابن أستاذنا محمد المبارك رحمة الله عليه، وهو أكبر منه، بيني وبين أخي ناجي، فكتب إليّ رحمه الله يطمئنني عليه ويصف لي حاله (وبقيَت رسالته عندي أمداً طويلاً ثم فقدتها) يخبرني أن أخي قدم إلى باريس وهو ما يزال في دمشق، ما عرف من باريس إلا الجامعة والمدينة الجامعية، حتى المسجد ما عرف طريق الوصول إليه حتّى دلّه المبارك عليه. وقال لي على عادته في مزاحه: لقد حاولت إغواءه وأخذه إلى حيث يذهب الشباب فأبى واشتدّ في الإباء! ولم يكن المبارك يغوي أو يؤم دور الغواية، ولكنها مزحة من مزحاته. لقد نفعَت أخي عزلتُه وأفاده بُعدُه عن ملاهي باريس، التي تجذب الطلاّبَ بمصابيحها الساطعة على أبوابها كما تجذب النارُ الفراشَ فيتهاوى فيها. ولَمصيرُ الطلاّب في أضواء الملاهي أسوأ

من مصير الفراش في لهب النار؛ تلك تحترق فتصير رماداً وهؤلاء تأكل النار أرواحهم المؤمنة فيعودون أشباحاً بلا أرواح. لقد درس فأعطى الدراسة حقها، ووجد في السوربون أساتذة علماء فأخذ منهم أحسن ما عندهم. وكان المنهج يومئذ أن من حصّل ثلاث شهادات (دبلومات) أو أربعاً نال الإجازة (أي الليسانس) واستعدّ للدكتوراة، ولم يكن في فرنسا يومئذ ماجستير. ولا تظنوا نيل هذه الشهادات سهلاً: لا تحسَبِ المجدَ تمراً أنت آكلُهُ ... لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا واقرؤوا -إن شئتم- ما كتب الدكتور طه حسين في مذكّراته عن شهادة الليسانس في فرنسا وما يقوم دونها من الصعاب. إن من الناس من يخدعهم أن المبتعَث يعود إلى دينه أول أيام بعثته، فإن لم يكن يصلّي في بلده صلّى هناك وإن لم يكن متمسكاً بالعبادة تمسّك بها. ولكن هذا ليس دليلاً على السلامة، فالمرض عندما تدخل جرثومته جسد الإنسان لا يظهر أثرها ولا تعمل عملها إلاّ بعد أن تنتهي مدة التفريخ. والمرء ما كان له مورد فإنه ينفق من مورده، من مرتّبه إن كان موظفاً ومن دخله إن كان عاملاً ومن ربحه إن كان تاجراً، فإن انقطع مورده رجع إلى ما كان قد ادّخره ليوم الضيق. وكذلك يصنع المبتعَث، يتنبّه إيمانه في نفسه حتّى يستنفد كل آثار هذا الإيمان ويخلو قلبه لتلقّي سموم حياته الجديدة.

لقد اعتكف أخي في غرفته في المدينة الجامعية، يغدو إلى السوربون يسمع الدرس ثم يعود إلى غرفته، يفكّر وحيداً ما معه إلاّ الله، ولقد تفجّرت في نفسه ينابيع إمدادات إلهية أودع جانباً منها رسائله إليّ، رسائل احتفظت بها وجمعتها ثم أعدتها إليه، فأضاعها أو أخفاها. فما أسفت على ضياع شيء ما أسفت على ضياعها، ولو وجدتها ونشرتها كما هي لكان منها كتاب يترك في نفس قارئه مثلما تترك قراءة الصفحات البارعات من كتاب الغزالي. فيها من الصفاء الروحي، من التأمّل، من الإيمان، من رؤية الحياة على حقيقتها ... ماذا أقول؟ تصوّروا شاباً لم يصل إلى العشرين يعيش في باريس بلد المُغريات والمُغويات، وفي نفسه ما في نفس كل شابّ من الغريزة والميل إلى اللذّات، واللذّاتُ حوله متاحة مباحة وهو يمسك نفسه عنها، يمنعه دينه عنها، فهو يعتصم به كما يعتصم الموشك على الغرق بالخشبة الباقية من السفينة الغارقة، كيف يشدّ يده عليها يخاف أن يغفل عنها، أو أن تفلت منه فيخسرها فيخسر حياته معها. لقد كتب أستاذنا الرافعي رحمة الله عليه قصّة عنوانها «في اللهب ولا تحترق»، وقد بيّن أخونا الأستاذ العريان (رحمه الله أيضاً) أنهم خدعوه، فلا يمكن أن يكون إنسانٌ في اللهب ولا يحترق. فلا تصدّقْ ذلك فتاةٌ فتدخل مداخل الفتنة وترجو أن تنجو. وللجاحظ كلمة عن القَيْنات (أي المغنّيات) في زمانه يشرح فيها أن نجاة القَينة من السقوط في الموبقات تكاد تُعَدّ من المستحيلات. وأرسلت إليه رسالة، ما بعثت بها إليه في البريد ولكن

نشرتها في «الرسالة». مضى على نشرها الآن نحو خمسين سنة ولكنها لا تزال تنفع كل طالب يريد أن يذهب للدراسة في باريس أو لندن أو أميركا، من شاء أن يقرأها كاملة فإنه يجدها في مجلة الرسالة في عدد الثالث من شوال سنة 1356هـ (¬1)، أنقل هنا فقرات منها ليستفيد منها بعض الشباب. ممّا قلت فيها: يا أخي إنك تمشي إلى بلد مسحور (والعوذ بالله)، الذاهب إليه لا يؤوب، إلاّ أن يؤوب مخلوقاً جديداً وإنساناً آخر غير الذي ذهب؛ يتبدّل دماغه الذي في رأسه وقلبه الذي في صدره ولسانه الذي في فيه، وقد يتبدّل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك. إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا، إلاّ من عصم ربك. يذهبون أبناءَنا وإخوانَنا وأحباءنا، ويعودون عُداةً لنا دعاة لعدوّنا، جنداً لحربنا وعوناً لمستعمري بلادنا. لا أعني الاستعمار العسكري، فهو هيّن ليّن، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا. وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعِلم الزائف، والقلوب بالفنّ الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما يتبع ذلك من الأرتستات والسينمات وتلك الطامّات من المخدّرات والخمر وهاتيك الشرور. فانتبه لنفسك واستعِن بالله، فإنك ستُقْدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف ولا يحفل العرض، بل ليس في لغاتهم كلها كلمة ¬

_ (¬1) وهي في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).

بمعنى العرض كما نفهم نحن معناه. سترى النساء في الطرقات والسُّوح والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة، قد أذلّتهن مدنية الغرب وأفسدتهن وهبطت بهن إلى الحضيض، فلا يأكلن خبزهن إلاّ مغموساً بدم الشرف. وأنت لا تعرف من النساء إلاّ أهلك: مخدَّرات مَصونات كالدرّ المكنون، شأن نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرّمة محجوبة مُخدَّرة، مَلِكة في بيتها، ليست من تلك الحِطّة والمذلّة في شيء. فإياك أن تفتنك امرأة منهم عن عفّتك ودينك، أو يذهب بلبك جمالٌ لها مزوّر أو ظاهر خدّاع. هي والله الحيّة: ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكن في أنيابها السم ... إياك والسم. إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل وجعل له من نفسه عدواً لحكمة أرادها، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصّن بحصن الدين وجرّد سلاح العقل تَنْجُ من الأذى كله. واعلم أن الله جعل مع الفضيلة مكافأة: صحّة الجسم وطيب الذكر وراحة البال، ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد وسوء القالة وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنّة أو جهنّم. فإن عرضَت لك امرأة بزينتها وزخرفها فراقب الله وحكّم العقل، واذكر الأسرة والجدود. لا تنظر إلى ظاهرها البرّاق بل انظر إلى نفسها المظلمة القذرة، أتشرب من إناء ولغت فيه الكلاب؟ يا أخي، إن في باريس كل شيء: فيها الفسوق كله ولكن فيها العلم، فإن أنت عكفت على سماع المحاضرات وزيارة المكتبات وجدت من لذّة العقل ما ترى معه لذّة الجسم صفراً

على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون) ووجدت من نفعها ما يعلّقك بها حتّى لا تفكّر في غيرها، فعليك بها. استقِ من هذا المورد الذي لا تجد مثله كلّ يوم، راجع وابحث واكتب وانشر، وعِشْ في هذه السماء العالية، ودَعْ مَن شاء يرتعْ في الأرض ويعِش على الجِيَف المعطرة. غير أنك واجدٌ في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام، وفي غضون هذه المحاضرات التي يُلقونها، عدواناً كثيراً على الحقّ وتبديلاً للواقع، فانتبه له، واقرأ ما تقرأ وأصغِ لما تسمع وعقلك في رأسك وإيمانك في صدرك. لا تأخذ كل ما يقولونه قضية مسلَّمة وحقيقة مقرّرة، فإن الحقّ هو الذي لا يكون باطلاً، ليس الحقّ ما كان قائله أوربّا. فانظر أبداً إلى ما قيل ودع مَن قال. ثم إنك سترى مدينة كبيرة وشوارع وميادين ومصانع وعمارات، فلا يَهُولَنّك ما ترى ولا تحقر حياله نفسَك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من روّاد باريس. واعلم أنها إن تكن عظيمة وإن يكن أهلها متمدّنين فما أنت من مجاهل الأرض ولا أمّتك بسَفَلة الناس، وإنما أنت ابن المجد والحضارة، ابن الأساتذة الذين علّموا هؤلاء وجعلوهم ناساً، ابن الأمة التي لو حُذف اسمها من التاريخ لرجع تاريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شيء فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخ تاريخه سواهم. فمَن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال، أبناء أربعة قرون، ولكن أمتك أخت الدهر، لمّا وُلد الدهر كانت شابة وستكون شابّة حين يموت الدهر.

يا أخي، إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل الذي يدوّن الحسنة لنتعلمها والسيئة لنجتنبها. ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريس من أبناء العرب فلم يروا إلاّ المحاسن والمزايا، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب فلم يبصروا إلاّ المخازي والعيوب، ولكن كُن صادقاً أميناً. وبعد يا أخي، فاعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الإيمان، فاعرف قدرها واحمد الله عليها، وكُن مع الله ترَ الله معك، وراقب الله دائماً واذكر أنه مُطّلع عليك يَعصِمْك من الناس ويُعِذْك من الشيطان ويوفّقْك إلى الخير. وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر، احزم أمتعتك وعد إلى بلدك وخلِّ «السوربون» تنعَ من بناها، وانفض يدك من العلم إذا كان العلم لا يجيء إلاّ بذهاب الدين والأخلاق. أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله. * * * هذه كلمة نشرتُها من نصف قرن إلاّ سنتين، يوم لم تكن أوربّا بلغت من دنس الأخلاق ورجس الفواحش ما هي عليه اليوم، يوم كان لكلمات الأخلاق والحشمة والحياء والمروءة بقية من معانيها ودلالاتها، لم تفقد معانيها كلها كما حصل اليوم. وقد

خفت على أخي، فما لبعض الآباء يُلقون بأولادهم في هذا النهر الملوّث وهم لا يحسنون السباحة؟ ما لهم يبعثون بشابّ أمضى عمره كله في بلد الدين والحجاب، ما رأى يوماً أطراف جسد امرأة غريبة عنه ولا خلا بها، شابّ بين جنبَيه من الرغبة جمرة تتلظّى، لو أبصر فتاة من بُعد عشرة أمتار لَهَفَا قلبه إليها وتمنّى الدنوّ منها، ودفع ربع عمره ليبصر ما تحت ثوبها، يرمون به إلى بلاد بعض النساء فيها سلعة رخيصة على جوانب الشوارع، وربما تعرّضن له إن لم يتعرّض هو لهن! إلى بلاد المنكرات فيها مُعلَنة والأعراض مستباحة، فإما أن يُميله الهوى ويقوده الشيطان فيقع في الحرام، وإما أن يضمّ جوانحه على مثل لذع النار. فاتقوا الله أيها الآباء، اتقوا الله في الشباب يا من تبعثون بهم إلى تلكم الديار. وإن اضطرّتكم الضرورة إلى ابتعاثهم فزوّجوا الشابّ ثم أرسلوه، تَكْفِه زوجته بالحلال عن الحرام وتَقُمْ عليه حارساً لا يفارقه يمسكه أن يقع في جهنم. أما أخي فقد وفّقه الله وعاد، وكان أولَ مَن حمل شهادة الدكتوراة في الرياضيات في سوريا كلها. وكان عدد الذين يحملون شهادة الدكتوراة في الشام وفي لبنان أقل من ثلاثين (وهو اليوم أستاذ في جامعة أم القرى، جاءها بعد أن أحيل في الشام على التقاعد) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تُوفي رحمه الله في جدة ودُفن فيها قبل شهرين من كتابتي لهذه الحاشية، في أول جمادى الآخرة من عام 1426 (مجاهد).

بغداد تغضب لأختها دمشق

-108 - بغداد تغضب لأختها دمشق الذي يجري الآن في فلسطين كبِّروه ثلاثين مرّة، والذي جرى في مصر سنة 1919 كرِّروه ثلاثين مرّة، تروا أمامكم صورة لما كان في سوريا وفي دمشق خاصّة من سنة 1936 إلى إعلان الحرب العالمية الثانية. كان الشعب في غليان، وكانت شوارع دمشق وسُوحها ساحات حرب، وكان الشبّان وكان الناس كالجيش في حال الاستنفار: لا يسألونَ أخاهمْ حينَ يندُبهمْ ... في النّائباتِ على ما قالَ بُرهانا كان الناس يجتمعون في الجامع الأموي (مركز القيادة الشعبية)، ففيه تُلقى الخطب ومنه تخرج المظاهرات، فتصطدم بالشرطة والدرَك ثم بالجنود والدبّابات، وكان أول هدف لهم إذا خرجوا من الجامع مخفر سوق الحميدية، وطالما احتلّوه ودمّروا ما فيه. والهدف الثاني الترام الذي تملكه شركة بلجيكية وتحميه الحكومة المنتدبة الفرنسية، وطالما رأيت عرباته يَصُبّ عليها المتظاهرون النفط ويشعلون فيها النار حتّى لا يبقى منها إلاّ

الهيكل الحديدي. وقد تركت ما كنت فيه من قيادة الطلاّب من سنة 1929 إلى سنة 1931 وصرت موظفاً كما عرفتم. ولكن من تركتهم لم يتركوني، والوظيفة ما كانت يوماً غُلاًّ في عنقي ولا قيداً من يدي، فإذا دُعيت إلى امتطاء منبر أو امتشاق قلم أسرعت فأجبت. ولي مواقف كانت في حينها حديث البلد وشغل الناس، مات من عرفها ونسيها من لم يمُت من عارفيها، أو شغلَته عن ذكرها هموم الحياة وأحداث الدهر، فمَن كان يعمل للناس فما يلقى إلاّ مثل هذا من الناس، ومن كان يعمل لله فذاك الذي يجد المكافأة عند الله. تركت العمل في لجنة الشباب ولكن بقيَت معي نخبة متخيَّرة منهم، أعدّد اليوم بعض أسمائهم وربما عدت غداً إلى سرد بعض أنبائهم: منهم محمود الرفاعي الذي صار من بعدُ ضابطاً كبيراً وخاض مستنقع السياسة فأوغل فيه، وكان له دور في إسقاط الزعيم، ثم مات رحمه الله في ألمانيا في حادث. ومنهم سعيد الجزائري الذي عرفَته صحف دمشق محرّراً قديماً فيها وعرفه الأدباء مخالطاً لهم ناقداً أو مشجّعاً، وقد تُوفّي رحمه الله. ومنهم إسماعيل قولي الذي صار قاضياً كبيراً وصاهر أسرة شيخنا المفتي الطبيب أبي اليسر عابدين، ثم توفّي هو وتوفّي الشيخ رحم الله الجميع. وممّن بقي منهم صبحي النبهان، التاجر الكبير الذي تؤلّف حياته قصّة واقعية رائعة، فيها الهبوط إلى الحضيض ثم الصعود

مرّة ثانية إلى الذروة، فيها الشدّة التي لا تعرف اليأس والطموح الذي لا يدنو من الطمع، والذي كانت نهاية نكباته تدمير معرض له في بيروت قرب المرفأ خسر فيه عشرة ملايين ليرة لبنانية (¬1). ومنهم أنور العش، وهو رجل عالم عامل دائب، واجه معركة الحياة قبل أن يستكمل عدّة مواجهتها وقبل أن يتقلّد السلاح لها. وقد أصدر أنور هذا وهو طالب -بإشراف مني- مجلّة «رسالة الطالب»، وأصدر كتاباً سجّل فيه ما نشرَته الصحف سنة 1936، من بداية المجالدة والمجاهدة إلى الوصول إلى المعاهدة، وسَمّيته له «طريق الحرّية». وقد كان عندي فضاع، وسألته عنه فلم أجد عنده نسخة منه! وكذلك تُنسى مواقف نضالنا وتواريخ فعالنا، ولو أنها دُوّنت لكان منها كتاب من كتب الأمجاد عظيم. كنت كما كان الملأ من أصحابي وإخواني: منير العجلاني وصبري القباني ومدحة البيطار ومسلم البارودي وشفيق سليمان ومحمود البيروتي، كنّا جميعاً نشتغل مع «الكتلة الوطنية» التي كانت هي قائدة النضال للاستقلال. فلما كانت المعاهدة ودخل رجال منها الحكم بدّلَت الكراسيُّ بعضَ هؤلاء الرجال، فخابوا في الحكم بمقدار ما نجحوا في النضال. ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إليه في الحلقة الرابعة والتسعين من هذه الذكريات. وأحسب أنه هو الذي بنى جدّي على قصته مقالة «بين الوظيفة والتجارة» المنشورة في كتاب «فصول اجتماعية»، فمن شاء أن يقرأها مفصَّلة وجدها هناك (مجاهد).

لا، ليسوا سواء؛ منهم جماعة كانت ضمائرهم أغلى من أن ترخصها الأقذاء تعلق بها، ونفوسهم أعلى من أن تصل إليها المطامع تهبط بها. جميل مردم بك لمّا صار وزير المالية، فجئته ليُمضي لي على السند الذي أقبض به أول راتب في الوظيفة، نسي أني كنت أعمل معه وأني كنت أكلّمه كما أكلّم إخوانه الذين كانوا مثله، بل كانوا خيراً منه، بلا حاجب ولا بوّاب، فاحتجب دوني وأبقاني واقفاً على بابه. لا على باب داره، فالمرء حُرٌّ في داره يردّ عنها من يريد ويستقبل فيها من يريد، بل على باب غرفته في قصر الحكومة، التي أملك منها مثل الذي يملك ودفعت من ثمنها مثل الذي دفع، لأنها ملك للشعب كله لا لآله وذويه. حتّى فار الدم في عروقي (وما أسرع وأشدّ ما كان يفور) فرميته بمقالة قام منها ولم يستطع أن يقعد هادئاً إلاّ بعد حين. مع أنني كنت أدخل على شكري بك القوّتلي متى شئت، أفتح الباب وألِج أو أقرعه وأنتظر هنيهة ثم أدخل. أمّا هاشم الأتاسي فقد كان خيراً منهم، بقي بابه مفتوحاً للجميع وبقي أباً للجميع، لم تختلف حياته وهو رئيس عمّا كانت عليه قبل أن يكون هو الرئيس. حتّى الشرطي الذي وقفوه على باب داره قال له يوماً (وأنا أسمع) عشيّة ليلة باردة: يا ابني رُح إلى أهلك وأولادك فاسهر معهم ونَم عندهم، فإنها ليلة باردة وأنا لا أحتاج إليك، فالحامي هو الله. فلما تردّد أكّد عليه الكلام وشدّد الأمر حتّى انصرف، فما كاد يبتعد حتّى ناداه ومشى إليه خطوات، فأعطاه بعض المال ليأخذ به شيئاً معه إلى عياله. كان هاشم بك يجول كلّ عشيّة جولة في أطراف البلد

بسيارته، ليس أمامه حرس ولا وراءه جند. وكان يصلّي في مسجد المُرابِط القريب من القصر الجمهوري بالمُهاجرين. والقصر كان في دار الوالي ناظم باشا الذي أنشأ حيّ المهاجرين. فكانوا يبعثون له من القصر قبل صلاة الجمعة من يمدّ له سجادة صغيرة يحفظ له مكانه في الصف الأول، فيجيء حسن آغا المهايني (الذي ترك حيّ الميدان وسكن في طرف المقهى في ساحة آخر الخطّ، أي آخر خطّ المهاجرين)، فيترك المسجد كلّه ليصلّي على هذه السجادة ولا يقوم عنها. فلما كثر ذلك منه جاءه الشرطي يسأله أن يقعد في مكان آخر، سأله بلطف ولين، فصرخ الآغا بأعلى صوته: يا ابني هذا بيت الله وكلّنا عباد الله، فليس لأحد من العبيد أن يفضّل نفسه على غيره في بيت سيده إلاّ بإذنه. إن المسجد يا ولدي لا يُحجَز فيه مكان لأحد، مَن سبق كان هو الأحقّ بالمكان. * * * وقد تركت بيروت (كما سيأتي الخبر) وعُدت إلى بغداد في آخر سنة 1938 وأوائل السنة التي بعدها، ولكني عدت بجسمي وفكري وحدهما، أما قلبي فبقي في الشام. لم أنسَ الشام يوماً، وهل ينسى أحدٌ بلدَه إلاّ إن نسي أمه وأباه ونسي ما مضى من أيام حياته؟ وكان الفرنسيون قد أخلّوا بشروط المعاهدة وعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستبداد، وكانت تَرِدُ علينا الأخبار بأن الأذى قد زاد وأن الشكوى قد عمّت. والبعد يجسّم الأحداث وينفخ فيها، حتّى صرت (صدّقوني) لا أهنأ بطعام ولا أستريح إلى منام. أفكّر

حيناً أن أدع عملي وأسرع إلى الشام، أو أن أجد لبلدي المعين الذي أستصرخه والأخ القوي الذي أستنصره. ولم يكن إلى جوارنا، بل لم يكن يومئذ في بلاد العرب كلها إلاّ دولة واحدة مستقلّة حقاً، ما فيها أجنبي يحكم ولا قانون أجنبي ينفَّذ، وهي المملكة، وقريب منها في استقلالها اليمن. أمّا اليمن فبعيدة عني لم أزُرها ولا أعرفها. ولقد كنت من قريب (أي قبل أربع سنين) أجالس الملك العظيم الذي كان شيخ الجزيرة، بل كان ملجأ العرب كلهم، إليه يلجؤون وإلى حماه يسرعون، والذي إذا دُعي أجاب، الملك عبد العزيز. ولكن أين السبيل إليه والشدّة قد استحكمت في الشام حلقاتُها والوقت أضيَق من أن أضيّعه؟ وكانت في العرب دولتان مستقلّتان أخريان، استقلالاً ناقصاً غير كامل؛ ليس للأجنبي فيهما حكم ظاهر ولكن في كلّ فعل في البلدين «ضمير مستتر» يعود إليه، هما مصر والعراق. أما مصر فبعيدة، ولم يبقَ إلاّ العراق. وكان الملك غازي شاباً، لا أعرفه. وكنت -على عادتي دائماً- منزوياً معتزلاً بعيداً عن أبواب الحُكّام، بل عمّن لم تستحكم بيني وبينه الألفة وترتفع تماماً الكلفة. ولكن ظهر لي ولغيري من الناس من بوادر حماسة غازي وعروبته في الأيام الأخيرة ما وجّه الأنظار إليه وجعل الأصابع تدلّ عليه، من يوم موقفه من الأشوريين في شمالي العراق. وكانت جريدة «البلاد» هي الجريدة الأولى في بغداد وكان لي معرفة بمحررها روفائيل بطي، فذهبت إليه أحدّثه فيما يملأ ذهني ويشغل فكري، فقال:

تفضل هذا الورق وهذا القلم، فاكتب ما شئت لأبعث به رأساً إلى المطبعة فأفتح به عدد الغد من الجريدة. وأخذت القلم فكتبت: «رسالة مفتوحة إلى الملك غازي»: يا غازي، يا غازي، يا غازي! سوريا المروَّعة المظلومة، الغارقة في دماء بَنيها، العابقة برائحة البارود، الرازحة تحت أثقال المدافع، تدعوك وتهتف باسمك -يا غازي، يا ملك العراق- لتنصرها وتسعدها، فلم يعد لها اليوم مُسعِدٌ ولا نصير. يا غازي، تدعوك الأيامى الثاكلات. يا غازي، يناديك اليتامى المظلومون. يا غازي، يستنصرك الضعاف العزّل والعجائز الركّع والأطفال الرضّع. يا غازي، يهتف باسمك الشباب الذي يواجه بجسمه المصفحات وبصدره الدبّابات ويحارب الدولة الطاغية الغاشمة، لا سلاح له إلاّ إيمانه وأمله بالله، ثم بالمسلمين وبالعرب وبك أنت يا غازي. يا غازي، دعوة غريق ينادي منقذَه القوي. يا غازي، هتاف مريض يدعو طبيبَه الآسي. يا غازي، إهابة مشرف على اليأس بالسيد المأمول. يا غازي، صرخة الدين والدم واللغة والمجد والجوار. يا غازي، المدد المدد! يا غازي، لقد نادت امرأة واحدة في سالف الدهر «وامعتصماه» فاهتزّ لها هذا العرش، عرشك، عرش بغداد، وماج لها هذا الشعب، شعب بغداد، وخرجت الجيوش من بغداد فلم ترجع إلاّ وفي ركابها المجد والنصر. فَمَن الآن لهذه الأمّة التي

حملت في الشام البلاء ورأت الشدائد وشاهدت ألوان الموت، وخانها الحليف ونقض عهدَه لها القويُّ، وجرّد دبّاباته الضخمة ومدافعه وعتاده ليحارب بها النساء والأطفال والشيوخ؟ فقُم يا أيها «المعتصم» لَبِّها على «الخيول البُلْق»، فإن كُتّاب التاريخ أعدّوا صحفهم وأمسكوا بأقلامهم ليكتبوا المفخرة مرّة ثانية لجيش العراق، جيش العرب، جيش المسلمين ... (والمقالة طويلة، إلى أن قلت فيها): إن القصر الذي كان يسكنه أبوك ملكاً والذي كنت تلهو في حدائقه طفلاً، والذي كان في حيّنا وكان مجاوراً لبيت عمّي، وكنت أراك فيه طفلاً وأرى عمّك الشابّ، الأمير زيداً ... صار اليوم مقرّ عدوّ العرب، منه يصدر الأمر بتقتيل رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يسكنه اليوم مَن بغى على فيصل (ابن الحسين) وسرق منه عرشه. فأنقذ -يا ابن فيصل- البلدَ الذي أوى إليه فيصل. يا غازي، الشباب الذين سقطوا في شوارع دمشق شهداءَ البغي ماتوا وهم يهتفون باسم المنقذ المرتقب، العجائز يتلقّين أبناءهن المصرَّعين على أرض الوطن وهنّ يذكرن الله ويهتفن باسم المنقذ المرتقَب. يا غازي، كم من طفل وطفلة عدا عليهم الظالمون فتلفّتوا حولهم يفتّشون عن المنقذ المرتقب؛ رفعوا رؤوساً يسيل من جراحها الدم، وأشاروا بأصابعهم الصغيرة المخضَّبة بالدم يردّدون اسمه. فيا غازي، يا غازي: أتدَعُ هذا الشعبَ بين براثن وحوش يعبثون بكرامته وأمجاده وحياته، وكرامتُه كرامةُ العرب، وأمجادُه

أمجادُ المسلمين، وحياتُه حياةُ هذه الأمة الواحدة؟ أتتركهم يموتون وبغداد تستروِح رائحة الربيع المعطّر، وتستمع إلى جَرْس النشيد الحلو، وتنام على فُرُش النعيم؟ هذا يوم من أيام التاريخ له ما بعده؛ فلا يقولَنّ التاريخ غداً: يا ليتهم نصروا الشام وقت محنته، يا ليتهم لم يدَعوه رهن الحديد والنار، يا ليتهم لم يتخلّوا عن إخوانهم فيه! يا غازي، الشام في كرب شديد، الشام في ضيق (إلى آخر المقال فالمقال طويل) (¬1). وصدرت جريدة «البلاد» في بغداد يوم الخميس الثلاثين من آذار (مارس) سنة 1939 (التاسع من صفَر سنة 1358) وفي صدرها هذه المقالة، مطبوعة بحروف ظاهرة بعنوان كبير، فجاءت كما قال الناس، لا أقول أنا فعيب أن يُثني المرء على نفسه، ولكن الناس قالوا إنها جاءت نموذجاً لأدب الاستصراخ وأسلوب الاستنهاض وإثارة الهمم وبعث العزائم، حتّى إنها (وعفوكم إن قلت هذا) وُضعت في كتب الطلاّب وحفظوها. وكان لغازي رحمه الله ولع بالأعمال الكهربية (الإلكترونية واللاسلكية)، حتّى إنه أنشأ في قصر الزّهور في الكرخ إذاعة أقوى من الإذاعة الرسمية. نُشرت كلمتي في الصباح يوم الخميس وأذيعت من قصر الزهور مساء ذلك اليوم، فلما انتهت إذاعتها ¬

_ (¬1) تجدون المقالة بكاملها وخبرَها المفصَّل في مقالة «يوم من أيام بغداد» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

سمع الناس بعدها صوتاً ظاهراً، قدّروا أنه صوت غازي، يقول: لبيك لبيك. * * * ودُعي نفر من المدرّسين السوريين والعراقيين، وأُفهموا عن الملك غازي أنه يرغب في أن تقوم مظاهرة مؤيّدة للشعب العربي المسلم في الشام. وأنا ابن دمشق بلد المظاهرات. وما كنّا نعرف أولاً ما هي المظاهرات حتّى دخلت علينا سنة 1919 جيوش العرب، وظنّ الناس أنه قد جاء معها الفرج وطلع الفجر الصادق بعد الليل الطويل، فانطلقَت الجماهير مثل انطلاق الجنّي الذي زعموا أنه كان محبوساً في القمقم (وكلمة القمقم فصيحة معرَّبة من القديم)، فكنّا نفيق صباحاً على ضجيج المظاهرات وهتافها وننام ليلاً على صخب المظاهرات وندائها. تلك كانت مظاهرات الفرح، فلما جاء الفرنسيون الواغلون علينا بعد ميسلون وجاءت معهم آفات الاستعمار الذي سَمّوه الانتداب، صارت مظاهرات الاحتجاج والألم. عشت شطراً من حياتي من أواخر المدرسة الابتدائية سنة 1338 إلى هذه المظاهرة سنة 1358، فلم أرَ مثل هذه وما كنت أقدّر أني سأرى مثلها. خرجَت بغداد كلها إلى الشوارع، ولم يكن فيها إلاّ شارع الرشيد وشارع غازي (الذي شُقّ يومئذ حديثاً) وشوارع الصالحية في الكرخ، وكان عصبها الذي يحرّكها طلاّب المدارس.

عطّلنا الدراسة يومين، نأتي في الصباح من قبل موعد الدوام ونبقى إلى الليل نُعِدّ لهذه المظاهرة، تتسابق المدارس وتتنافس على نيل قصب السبق فيها. وراجت سوق مدرّسي العربية، يُعِدّون الخُطَب ويَنْظمون الأناشيد، حتّى إنني أنا الذي لم يكن يوماً شاعراً نظمت ثلاثة أناشيد حماسية، وأعجب من نظمي إياها أنني لحّنتها! أي أنني سرقت من مئات الألحان التي أحفظها (ولا أزال أحفظها)، مئات حقاً من التواشيح والأغاني والأدوار والقدور والأناشيد، سرقت من ألحانها أجزاء ألّفت منها لحناً جديداً. خبّروني، أليس هذا هو التلحين عند أكثر ملحّني هذه الأيام؟ وحفّظت الطلاّبَ قصائد حماسية ليلقوها على الناس، وتسابقنا إلى اختراع الهتافات وتردادها. وأنا أعرف فنّ «العرَاضات» في الشام، إذ يحملون رجلاً على الأعناق يهتف لهم فيرددون ويرتجل من المقال ما يوافق الحال. وجئنا من المدرسة الغربية حيث التقينا بجماعة المركزية عند ميدان باب المعظم، ثم مشينا باتجاه الباب الشرقي، فلما وصلنا إلى الجسر العتيق جاء طلاّب مدرسة الكرخ فانضمّوا إلينا، وكان الطريق مزدحماً بالناس حتّى ما يُدرى مَن الواقف ومَن الماشي، بحر يموج موَجاناً. لم يبقَ مدرّس لم يخطب، حتّى أنور العطار الشاعر الذي لم يكن من فرسان المنابر خطب مراراً. أما أنا فكلّما تقدّم الموكب مئة متر دُعيت لإلقاء خطبة، فلم نصل إلى جسر مود حتّى بُحّ صوتي وانقطع. ولم يحدث لي ذلك وأنا أخطب من أكثر من ستّين سنة إلاّ هذه المرّة، ما عرفته قبلها ولا عرفته بحمد الله بعدها.

وكانت مدرستنا متفوّقة بهتافها ونشيدها، حتّى جاء طلاّب مدرسة الكرخ بشيء غلبونا به: تجمّعوا دائرة يرقصون وهم يمشون ويقولون بنغمة موزونة عجيبة: فرنسا وإنكلترا بالكُنْدَرة ... سوريا ولبنان فوق الثرا يريدون بالكندرة الحذاء وبالثرا الثريّا. ويضربون بأحذيتهم مثل ضربات أهل الدبكة في الشام ولبنان، فقلّدهم الناس فصاروا يصنعون صنيعهم ويهتفون بمثل هتافهم، فكسبوا المباراة. * * * لقد كان يوماً لا يُنسى، ولكني أكتب عنه بعد ستّ وأربعين سنة، بعدما نسيت تفاصيل الأحداث وأفقدتني الأيام منها أجمل ما كان فيها. في تلك السنة نقض الفرنسيون -كما قلت- المعاهدةَ التي لم تُعطِنا شيئاً يُذكَر، ومع ذلك بخلوا بما أعطوا منها! فاضطربت الأوضاع وهُتك القناع وظهر وجه الانتداب البشع، وعمّ الخلل البلاد، ونزلت قيمة الليرة السورية مقابل الليرة الذهبية (التي كانت هي ركن الاقتصاد السوري) من 550 قرشاً سورياً (وهو السعر الذي ثبتت عليه سنين طوالاً) إلى750 قرشاً. وهذا حديث حقه أن يودع كتب التاريخ لا صحائف ذكريات شخصية. أختتم هذه الحلقة بحادثة وقعَت لي في ذلك اليوم، ولولا أن الله ستر لكانت فضيحة! ذلك أن طلاّباً جاؤوا بنعش قالوا إنه نعش سوريا التي قتلها الاستعمار، ووضعوه على سطح سيارة

كبيرة (باص) وصعّدوني لأخطب. وكنّا إذا أردنا أن نخطب في المظاهرة صعدنا ظهور السيارات. فخطبت وتحمّست وقلت: إن هذا نعش الاستعمار ... وركلته برجلي ركلة قوية. فلما كان بعد أيام جاءني إلى المدرسة رجل يمشي على عكّازين ومعه جماعة له يمسكون به فقال لي: لقد كسرتَ رجلي. فتعجبت وقلت: من أنت؟ وكيف كسرت رجلك وأنا لا أعرفك؟ فتبيّن أنهم استأجروه ليضعوه في النعش لتتمّ -كما زعموا- فصول الرواية ويكمل الإخراج، فلما ضربت برجلي جاءت الضربة على ساقَيه فكُسِرت إحداهما! فأعطيته ما قدرت عليه وأرضيته واعتذرت له. وتصورت لو أنه قام من النعش وأنا أخطب متحمّساً أظنّ النعش فارغاً، فانتصب أمامي وقال لي: لماذا تضربني؟ تصوّروا أنتم المشهد يُغنِكم تصوّرُه عن شرحي. * * *

مقتل الملك غازي ورثاؤه

-109 - مقتل الملك غازي ورثاؤه جاءتني رسالة من المنصورة في مصر يقول مرسلها «ع. م. ل»: لقد تركناك في المستشفى في دمشق، فكيف عُدت إلى بغداد وحدّثتنا عن مظاهرة بغداد؟ هذه خلاصة الرسالة. لقد عدت إلى بغداد لأن الله قدّر عليّ أن لا أحطّ الرحال إلاّ لأجدّد الارتحال، كأنني «موكَلٌ بفضاءِ اللهِ أَذْرَعُهُ» كما قال ابن زُرَيق. «يوماً بحُزوى ويوماً بالعقيق» ... وإن كنت ما أعرف ما حُزوى هذه ولا أدري أين هي من الأرض (¬1). فهل أبقى دهري كله متنقلاً مرتحلاً؟ وهل مِن سبيلٍ للشآمِ؟ ونظرةٌ ... إلى برَدى قبلَ المماتِ سبيلُ؟ وإلى قاسيون وداري فيه؟ وهل أرى الربيع في الغوطة؟ والثلج على شعفات جبال المزة؟ أم انقطع به عهدي فلا أمل ¬

_ (¬1) لا يعرف أحدٌ ما هي «حُزوى» على التحقيق؛ قال ياقوت إنها موضع بنجد في ديار تميم أو جبل من جبال الدهناء أو نخل باليمن أو رمل بالدّهناء. والبيت لأبي محمد الخازن، من أبيات أنشدها بين يدي الصاحب (مجاهد).

لي فيه؟ وهَبُوني عُدتُ، فهل أرى في الشام دار شبابي ومنازل أهلي وأصحابي؟ إن عُدت إليها فهل تعود أيامي فيها؟ هل أقف على القبرَين المتجاورَين النائمَين متعانقَين على كتف الساقية في «الدحداح» كما كان يتعانق ساكناهما في الحياة؟ إن فيهما أبي وأمي. لقد دفنت مسرّات حياتي في هذين الجدثين، أصبحتُ كنبتة قُطعت جذورها. وجدَث ثالث فيه مَن هو أعزّ عليّ منهما، ما عرفت الطريق إليه حتّى أقف عليه. وماذا يفيدني أن أقف عليه وقد حال التراب بيني وبين قطعة عزيزة من قلبي أُودِعَت هذا القبر؟ إني لأريق الدمع كل ليلة أسقي بها هذا القبر البعيد في طرف بلاد الألمان حيث لا يراني أحد، ثم أنتبه فأجد أنه لا الدمع ينفع من فيه ولا الأحزان، ما ينفعني ولا ينفعها إلاّ الرحمة من الله والغفران. فاللهمّ قد أكرمتها بالشهادة فارزقها ثواب الشهداء، وارزقنا الصبر على البلاء. * * * لمّا دهمتني آلام المرض وذهبت إلى دمشق كان قد بقي من السنة الجامعية أقلّ من شهر، فكلّفني المفتي الشيخ توفيق خالد رحمه الله (وكان هو الرئيس الأعلى للكلّية) أن اختار من الشام من يدرّس الطلاّب عني هذا الشهر، فاخترت الصديق الشيخ صالح فرفور. وتذكرون أني لمّا كنت معلّماً في الغوطة واضطُررت أن أغيب عن المدرسة لحضور امتحاناتي في كلية الحقوق وكلته لينوب عنّي فيها ووافقَت وزارة المعارف. خرجت من المستشفى فلم أعُد إلى بيروت، بل إلى بغداد!

ذلك أن السفر كلّ أسبوع من دمشق إلى بيروت ومن بيروت إلى دمشق لم يكن سهلاً ولا ميسوراً، لأن الطريق لم يكن قد سُوّي وعُدّل كما ترونه اليوم بل كان كله لفّات ودورات وطلعات ونزلات، ولم تكن السيارة مريحة مكيّفة كالتي ترونها اليوم، بل كانت في الصيف فرناً يلتهب وفي الشتاء صندوقاً مدفوناً في الثلج، وكانت كلها من سيارات فورد القديمة الصغيرة. لذلك رضيت بالعودة إلى بغداد، إلى المدرسة الغربية. وكانت في المنزلة دون المدرسة المركزية التي كنت فيها، ولكن كرامة المرء بذاته، بعلمه وخلقه، لا بمنصبه ومرتّبه. وكانت السنة مليئة بالأحداث؛ فالغضبة لسوريا والمظاهرة التي حدّثتكم حديثها لم تمرّ عليها عشرة أيام حتّى فوجئ الناس بموت الملك غازي، ثم تبيّنوا أنه ما مات موتاً ولكن قُتل قتلاً، وقال الناس إن الإنكليزي قتله بيديه وهو في لندن لم يبارحها وغازي في بغداد لم يخرج منها (¬1). لا، ليست أُحْجِية (أي فزّورة) بل هي حقيقة، فيداه اللتان قتله بهما هما -كما كان يقول الناس- عبد الإله ونوري. أمّا عبد الإله فلم أعرف عنه إلاّ القليل، وأما نوري باشا ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التاريخ أن الملك غازي كان شديد الاهتمام بالقضايا الوطنية والعربية، وأنه خصّصَ إذاعة من قصره تذيع البيانات الوطنية ضد الاستعمار الإنكليزي والاستعمار الفرنسي، ولذلك سعى الإنكليز إلى التخلص منه فقُتل في حادث غامض حين اصطدمت سيارته بعمود كهربائي مساء 3 نيسان من عام 1939 (مجاهد).

السعيد فعرفت عنه وإن لم ألقَه كثيراً. كان نوري رجل الإنكليز وكان يصرّح بذلك ولا يكتمه، وكان يدلّل عليه ويحتجّ له، ويرى أن العراق في تلك الأيام لم يكن ليستطيع القيام على رجليه فضلاً عن السير وحده، وأنه لا بدّ له ممّن يمسك بيده ويعاونه على مسيره، وكان يرى الإنكليز هم الذين يصلحون لذلك. كانت لنوري مزايا، لا يمنعني أني كتبت عنه وأني هاجمته يوماً أن أذكر مزاياه (¬1). لقد مات الرجل وصار بين يدَي الله حسابه عليه، وصارت أعماله ملك المؤرّخين يحكمون في الدنيا بها عليه. يقولون إنه كان جريئاً، يشهد بذلك أصدقاؤه وأعداؤه. ولقد رأيته بعيني يوم قَتْل غازي، الناس كالبحر يموج غضباً وأصواتهم كالرعد تملأ ما بين الضفّتين تطالب برأسه، وقد وصلَت سيارته إلى رأس الجسر من جهة الكرخ وغدَت بين الحشود تحيط بها من كلّ جانب، إن وصلوا إليه قطّعوه تقطيعاً، فلم يكن منه (وأنا أراه من قريب) إلاّ أن أطلق بوق السيارة بزئير قوي ثم اقتحم بها الناس، فخافوا على أرواحهم فأوسعوا له فنَجَا. ولولا هذا ما كان لينجو منهم. فلست أدري: أأسَمّي هذا الذي رأيته بعيني جرأة وإقدام بطل، أم صنيع يائس، أم فعل مجنون؟ وكان كريماً. لمّا كنت مدرّساً في العراق أول سنة قالوا إن له قصراً مقابل البلاط الملكي، على يمين الذاهب إلى الأعظمية، ¬

_ (¬1) انظر مقالة «نوري السعيد» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

أراه من بعيد وأنا أمشي في الطريق ما اقتربت منه لأصفه. قالوا إنه لمّا زوج ابنه (وأظنّ أن اسمه -إن صدَقَتني الذاكرة- صباح) دعا «الجَفَلى»، وهي الدعوة العامّة. ألم تسمعوا قول طرفة: نحنُ في المَشتاةِ ندعو الجَفَلى ... لا ترى الآدِبَ فينا يَنْتَقرْ ومُدَّت البسط ونُصبت الموائد، فأكل عنده ربع أهل بغداد (كما سمعت لا كما رأيت). وكان بغدادياً أصيلاً عارفاً بمواضعات أهل بغداد وأسلوبهم في كلامهم ومصطلحاتهم فيما بينهم، وطالما أنقذه ذلك من مآزق. ولكني مع ذلك لا أبرّئه ولا أبرّئ عبد الإله، وهو ابن عمّ غازي، من دم غازي. قالوا عن سبب موت غازي: «صدمة سيارة»، ورتّبوا الأمر وأعدّوا المسرح وأخرجوا الرواية، ودعوا الناس إلى مشاهدتها. وقد ذهبت مع من ذهب، وإن كنت في العادة أهرب من كل مكان تزدحم فيه الأقدام، فرأيت سيارة محطّماً مقدّمُها قد هُشّمت واجهتها، وعموداً من الحديد طويلاً ثقيلاً كان غائصاً في الأرض مترَين أو نحوهما، لم أعُد أذكر، قد اقتلعته السيارة من أساسه وقلعت معه كتلة ضخمة من الإسمنت كانت تمسك الأساس، وسقط العمود على السيارة التي كان يسوقها غازي. وأخذ الناس يتساءلون: كيف قُلع العمود؟ وهل تستطيع سيارة ركوب عادية أن تقتلع مثل هذا العمود؟ وإذا قلعَته فكيف يسقط هذا السقوط؟ ولماذا لم يحطّم إلاّ واجهة السيارة وموضع السائق منها؟ وكان دليل السرعة واقفاً على 120 والمكان لا يبعد

عن القصر بأكثر من أربعمئة متر أو نصف كيل، فهل يمكن أن تصل سرعة السيارة إلى مئة وعشرين وهي لم تمشِ إلاّ هذه المسافة القصيرة؟ وأجمع الرأي على أنها رواية تأليفها ضعيف وإخراجها سيّئ، وأن المشهد كله قد رُتّب ترتيباً. وقد خبّرني مفتي بغداد الشيخ قاسم القيسي، وهو الذي تولّى غسل غازي قبل دفنه، أن الضربة كانت في قَذَاله، أي في أسفل جمجمته من الخلف. فكيف أصابه العمود بالقذال؟ وبدأ الهمس ثم ارتفع الصوت، ثم صار له دويّ خافت، وصدرَت نشرات تتّهم عبد الإله ونوري بقتل الملك. وأنا أدوّن هنا ما رأيت وما سمعت، وأنشر الآن ما لم أنشره من قبل. فمن ذلك مشهد تألّمت له وتكلّمت فيه، ولكن بمقدار ما استطعت الكلام، وكان كلامي هذا من أسباب نقلي من بغداد إلى كركوك. ذلك أنه بعد أيام من قتل الملك جمعوا الطلاّبَ (وكان في مدرستنا نحو من ألف طالب) والأساتذةَ جميعاً في باحة المدرسة، وجاؤوا بخشبة لها سطح مائل فأقاموها وسط الباحة، وجاء ضابط كبير معه جنود وطالب صغير من طلاّب المدرسة، فقرأ الضابط حُكماً من المحكمة العسكرية (أو قراراً من القيادة، لم أعُد أذكر) بأن الطالب قد ثبت أنه اشترك في طبع هذه المنشورات التي تنشر -كما قالوا- الشائعات وتُفسِد المجتمع وتضعف الأمن، وأنه كذا وكذا ... وهي أسباب يسهل على من شاء أن يعدّدها. وأنه قد حُكم عليه بخمس جلدات.

خمس جلدات ليست شيئاً يُذكَر، ولكن الشيء الذي يُذكَر ويُنكَر ولا يُنسى (بدليل أني ما نسيته وقد مرّ عليه نحو نصف قرن) هو الطريقة التي نُفّذ بها الجَلد. طريقة أغمضت عينَيّ فلم أستطع مشاهدتها، بل لم أستطع أن أمسك لساني عن نقدها، وإن لم يسمع ما قلته إلاّ من كان حولي. لقد أوقفوا الطالب أمام هذه الخشبة، وجهه إليها، وقيدوا يديه بسيور من الجلد مثبّتة فيها، وحلّوا زناره وأنزلوا بنطاله وما تحت البنطال، حتّى كشفوا إليتيه أمام الحاضرين جميعاً، ووضعوا عليهما خرقة قالوا إنها معقمة مبلّلة بمحلول برمنغنات، ثم جلدوه فوقها. ولم يكن الجَلْد مؤلماً، ولكن المؤلم كشف عورته وفضيحته، حتّى إنه انقطع عن المدرسة فلم أرَه من بعدُ فيها، فكان في هذه الجلدات الخمس القضاء عليه وقتله نفسياً. * * * أمّا ما كان في ذلك اليوم فإني أقرأ وصفه الذي كتبتُه أنا في «الرسالة» (عدد الرابع من ربيع الأول سنة 1358)، فوالله لولا أني رأيته بعيني وأني عشت فيه، وأني كتبته ونشرته، لشككت بصدقه، بل لحكمت بكذبه. شيء عجيب لا يكاد يُصدَّق. إنها قد تُفجَع أسرة بعزيز لها مات فيكسو أفرادها كلهم لباس الحزن وتبكي عيونهم جميعاً من هول المصاب، أما أن تفقد مدينة كبيرة مثل بغداد رجلاً، فيبكيه رجالها ونساؤها جميعاً، ويستخفّ الحزن فيهم

كهولاً يقطر من أردانهم الوقار وشباباً صلداً يقحمون ضَرَم النار ويركبون الأخطار، ويُغشى على طلاّب يرفعون من قوّتهم الأثقال ويستهينون بالأهوال، وطالبات لهنّ مع طُهر الجمال مثل عزائم الرجال، وعجائز رأين من الأهوال والمصائب الثقال ما لا ينال منهن بعده تحوّل الأحوال ... فهذا هو العجب، وهذا ما كان. حسبت ما رأيت -بادي الرأي- تصنّعاً وظننته تمثيلاً، فاشمأزّت نفسي منه، ثم لمّا توالت المشاهد وتعاقبَت، وأبصرت طرق البلد وأزقّتها (أي درابينها كما يقولون) تتلاحق فيها المواكب كلها يحمل صورة الملك الشابّ القتيل، ابن الستّ والعشرين سنة، ويبكي، ويتقدّم كلَّ موكب عريفٌ منهم يقول شعراً عامّياً، لكنه يسمو بصدقه أحياناً حتّى ليعلو على كلّ شعر بليغ. وليتني حفظت هذه الأشعار ... منها موكب كان يقول عريفه ويردّد الناس بعده: الله أكبرْ يا عربْ ... غازي انفقدْ من دارَه واهتزّت اركان السّما ... من صدمةِ السّيارهْ والبنات، يا لمواكب البنات: حُطّ القناعُ فلمْ تُستَرْ مخدَّرةٌ ... ومُزّقت أوجُهٌ تمزيقَ أبرادِ وسفرت وجوه ما حسرت عنها يوماً جدرانُ بيوتأهليها، ولُطمت خدود ما طمعَت بلمسها شفاه عاشقيها، وبرزت للناس مخدَّرات ما أبصرَتها إلاّ عيون أرحامهاوذويها. ولاتعجبوا، فهذه عادة الجاهلية رجع بها الحزن إلى مجتمع إسلامي أبطل الإسلامُ فيه عادات الجاهلية. ألا تذكرون ما قال الشاعر العبسي:

أو لعلي أفسدت بروايتي البيتين فإنني أحفظهما من أيام الصغر (¬1). هذا الحزن الجماعي الصادق والفرح الجماعي الصادق لا يكاد يعرفه الناس في غير هذا الشعب العاطفي، الشعب العربي الذي يعيش بقلوب أفراده، على حين خلت صدور أكثر الشعوب من القلوب! لقد أخذوني إلى الإذاعة لألقي كلمة عن غازي ما أعددتها ولا فكّرت فيها، فوَقَفتُ (¬2) السيارةَ ربع ساعة فقط، فقعدت في طرف مقهى في الكرخ وأخذت ورقة من البقّال المجاور للمقهى ¬

_ (¬1) الشعر للرّبيع بن زياد العبسي. والبيتان على ما ذُكرا هنا، إلا أن في عجز البيت الثاني اضطراباً بين المصادر؛ فهو في الأغاني: «قد قُمْنَ قبل تَبَلُّج الأَسْحار»، وفي الأمثال للمُفضَّل الضَبّي: «يضربْنَ أوْجُهَهنّ بالأَسْحار»، وفي الحماسة البصرية: «بالصُّبْحِ قبل تَبَلّج الأسْحار»، وفي التذكرة الحمدونية: «يَلْطُمْنَ أوجُهَهنّ بالأسْحار»، وفي نهاية الأرَب للنّويري: «يلطُمْنَ حُرَّ الوَجه بالأسحار». وبعدهما: قد كُنّ يَخبأن الوجوه تستّراً ... فاليوم حين بَدَوْنَ للنُّظّار والأبيات في رثاء مالك بن زهير بن رَواحة العبسي، في خبر طويل تجدونه في كتب الأدب (مجاهد). (¬2) وقف الثلاثي يتعدّى بنفسه، ومنه كلمة الوقف والأوقاف. أما أوقف فلم تُسمَع عن العرب.

وسطرت كلمات، ما كان لعقلي فيها عمل بل عملها كلها قلبي. فلما وصلت إلى الإذاعة نسيت الورقة التي كتبتها وقرأت ماكان مسطّراً في عيون من كانوا حولي. ولم تكن قد عُرفت هذه الأشرطة المسجّلة لأسمع ما قلت، ولكن خبّرني الناس أنني كنت أتكلم وأنا أبكي والناس يسمعون وهم يبكون. ثم حاولت أن أدوّن ما قلت، ولكن هيهات! لقد أودعت مجلّة «الرسالة» (عدد 27 صفر 1358) صورة ميّتة عنها، تمثالاً لها يحكيها ويشبهها ولكنه من الشمع! الذي يقرؤها في «الرسالة» يقرأ معاني الكلمة التي قلتها وألفاظاً ربما كانت شبيهة بألفاظها، ولكن الذي سمع مني سمع هذه الألفاظ وهذه المعاني بشكل آخر وسمعها ثلاث مرّات: مرّة في صوتي الذي كان فيه معنى الحزن جلياً ظاهراً لا خفياً مستتراً، ولهجتي التي كانت تمثّل الحزن، لا تمثيل المسرح بل تمثيل المرآة لمن هو قائم أمامها، وظروف البلد التي كانت كلها ظروف الحزن جعلت قلوب السامعين متفتحة للازدياد من الحزن. لقد كان شيء إذا شكّ فيه من يقرأ وصفه الآن لَما كان مبالغاً في هذا الشكّ، لأن الأمر كان غريباً، ولكن واقعاً. إني لأفكّر الآن: فيمَ كان هذا كله وما الذي سبّبه؟ هل كان غازي المثل الأعلى للحاكم الصالح؟ هل كان الصورة الكاملة للإنسان المثالي؟ أنا ما لقيته ولا أدري ماذا كان في خلواته، ماذا كانت صلته بربه؟ ماذا كان حفاظه على فضائل أمته ووفاؤه لأمجاد ماضيه؟ هل كان شاباً همّه المتع الرخيصة يشغله سفساف الأمور عن معاليها أم كان صالحاً يراقب ربه ويخدم شعبه؟

كل هذا لا أدريه، ولكن الذي أدريه وأثق به أنه صنع في شهوره الأخيرة ما قرّبه من شعبه وحبّبه إليهم، ودلّ على أنه بدأ يخرج على إرادة مستعمري بلاده وعلى وكلائهم في هذه البلاد. ولكلّ مستعمر (مع الأسف) ولكلّ عدوّ لنا وكلاء منّا يعيشون بيننا، نقول هذا والأسى يملأ قلوبنا. لقد ربّاه الإنكليز، ولكنه أراد أن يكون لهم كما كان موسى عليه السلام لفرعون عليه اللعنة، فلما أحسّوا منه ذلك قتلوه. لقد طبعت سنة 1380 الدفعة الثانية من كتبي، وكان فيها كتاب سَمّيته «بغداد»، أودعته هذه المرثيّة لغازي (¬1) فمنعته حكومة العراق يومئذ من دخول العراق وصادرَت ما وصلَت إليه من نسخه. لا تسألوني لماذا. أنا لا أدري لماذا! ولو كان غازي يومئذ حياً لأرجف قوم فقالوا إني أتزلف إليه، ولو كان له وارث لقالوا إني أتقرّب من وارثه. ولكني نشرت الكتاب بعدما مات غازي وابن غازي، وخلت لأرض من كل وارث أو وليّ لغازي. فماذا تظنون أني أقصد بالثناء عليه بعد موته؟ وهل ماتت المروءات، وخلت الدنيا من الوفاء حتّى صار من يذكر ميتاً بخير يُضطرّ إلى أن يدافع عن نفسه؟ وهل فسد الناس حتّى ما يَمدح مادحٌ حاكماً من الحكّام إلاّ لجلب مصلحة ولا ينقده أو يذمّه إلاّ قصد انتقام؟ لقد عرفتم أني هجوت الشاعر الأديب شفيق جبري يوم كان أستاذي في كلية الآداب سنة 1931 وكان رئيسي وأنا موظف في وزارة المعارف، يوم كان المتزلّفون ¬

_ (¬1) انظر مقالة «يا غازي عليك رحمة الله» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

يحفّون به ويلتفّون حوله، فلما عُزل وجاؤوا بالدكتور كامل أشرفية انفضّ عنه من كان يحفّ به (وما يحفّون على الحقيقة إلاّ بالكرسي الذي كان يجلس عليه). انقطعوا عنه لما انقطع أملهم فيه، كنت أنا وحدي الذي كتبت في جريدة «ألف باء» أثني على جبري وأذكر أدبه وفضله، وأهجو أشرفية وأسرد صادقاً معايبه ومثالبه. ولما كان انقلاب بكر صدقي الذي حدّثتكم حديثه وجاء حكمت سليمان (وهو أخو محمود شوكت باشا الذي تولّى خلع السلطان) هاجمتُ حكمت سليمان في كل مكان. فلما تركت العراق ولم تعُد لي صلة به ولم يبقَ لحُكّامه طريق إلى نفعي ولا إلى ضرّي، كتبت في «ألف باء» في دمشق أدافع عن حكمت سليمان الذي لم أعرفه ولم أكلّمه، ولكني رأيته مظلوماً فرأيت من المروءة أن أقف في جانب المظلوم. ولي مواقف كثيرة مثل هذه. لكن لماذا أذكرها؟ فخراً بها؟ ربما فخرت بها، ولكن المقصد الأول أن أثبت للناس أن هذه الأمة فيها خير، فيها من يمدح صادقاً من غير طمع بفائدة وينقد صادقاً من غير تشفٍّ ولا انتقام. * * * كنت أدرّس في الغربية طلاّباً أذكياء، أحببتهم فأحبّوني ومحضتهم النصح فأكبروني، ونبغ منهم جماعة كان أظهرهم شخصية (وإن كان أصغرهم سناً وجسماً) طالب اسمه نجدة فتحي صفوت. كان أبوه مدرّس رسم، وورث عنه الحاسّة الفنّية كما يقولون. وهو -كما يدلّ اسمه- من أسرة يبدو أن أصلها تركي، وإن كان اسم نجدة قديماً، وحسبكم نجدة بن عامر البكري الذي

كان بطلاً وكان أميراً، وكانت له مزاياه، لولا أنه من الخوارج. نجدة فتحي صفوت طالب ذكي حاد الذكاء، جادّ صادق الجدّ، وكان لا يكاد يفارقني؛ يكون معي يُصغي إليّ في غرفة الدرس، ويمشي معي بين الدروس، وربما صحبني في الطريق. ولمّا تركت بغداد بقي مدة طويلة يراسلني، ولمّا انقطعت «الرسالة» عن الشام أيام الحرب الثانية جمع الأعداد التي لم تُرسَل إلى الشام فبعث إليّ فهارسها لأعرف ما نُشر لي فيها. صار أديباً وصدرت له كتب، ثم ربطه السلك الخارجي، ثم تدرج في مناصب وزارة الخارجية، ثم انقطع عني خبره. وقعت لي في هذه المدرسة حوادث صغار ولكنها عميقة الآثار، منها أني كنت يوماً أجتاز باحتها الواسعة خارجاً من محاضرة قاصداً إلقاء أخرى، وأنا أُمضي دائماً هذه الفسحة بين المحاضرات في الباحات لا أكاد ألج غرفة المدرّسين إلاّ نادراً، لأن الطلاّب يمشون معي يسألونني، وتتوالى الأسئلة والإجابات فتضيع هذه الفسحة بين المحاضرات. أقول إني كنت يوماً أجتاز الباحة، فرأيت ركناً فيه مدرّب رياضي ألماني والطلاّب يتدرّبون على مبادئ الملاكمة، فلما رآني (وكنت شاباً قوي الجسد متين التركيب، وكانت مقاييس جسمي: العنق والصدر والبطن والأطراف، لا تختلف عن المقاييس المثالية لأبطال كمال الأجسام إلاّ بسبعة في المئة فقط)، فقال لي ضاحكاً: هل تدخل معهم فرقة الملاكمة؟ قلت بلا تردّد: نعم.

من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد

-110 - من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد أَصِلُ الكلام من حيث قطعته في آخر الحلقة الماضية فأكمل قصّة تدرّبي على الملاكمة. لا، لم أصِر من أبطالها ولا بلغت مبلغ جو لويس أو محمد علي، بل أقول: إني ألممت بأصولها وقواعدها وأتقنت بضع لكمات حتّى صارت مَلَكة لي؛ أي أنني في ساعات الحرج وفي مواقف الدفاع عن النفس أستعملها عفواً بلا تفكير، وهذا ما أقصده بقولي إنها صارت مَلَكة. كما أتقنت من مسكات المصارعة اليابانية مسكة أستطيع أن أغلب بها من هو أقوى مني بثلاث مرّات، تعلمتها من رسالة صغيرة اشتريتها سنة 1347هـ وأنا أدرس في مصر، وهي أن أمسك بيدي اليمنى يسار الخصم ثم ألوي معصمه إلى الجهة الوحشية منه، أي البعيدة عن جسده، فإنه يُضطرّ لدفع الألم عنه أن يميل معها حتّى يعطيني ظهره فأتمكّن منه، وإذا هو ثبت ولم يستدِر تُكسَر يده. والشرط فيها أن تصير لك -كما قلت- مَلَكة، أي أنك تعملها بلا تفكير، لأن المرء في ساعات الخطر والغضب لا يستطيع أن يفكّر، وأن تباغت خصمك بها من غير أن ينتبه إليها.

وقد طبّقت هذه وتلك في مواقف كثيرة، لو أنني عرضتها مفصلة لملأت ثلاثاً من حلقات هذه الذكريات. وكل إنسان في الدنيا مُعرَّضٌ يوماً لمعركة أو خصومة، فردية أو جماعية، فأنا أنبّه الشباب إلى أمر هو أن الإنسان يتردّد عادة ثواني معدودة قبل أن يقرّر ماذا يفعل إذا رأى الهجوم عليه، فبمقدار ما تكون لحظات التردّد قصيرة يكون المرء أقرب إلى النصر. ولقد استفدت كثيراً من هذه السرعة في القرار. ولا تظنّوا أنني أمضيت حياتي أصاول الأبطال أو أقاتل الرجال، فأنا بعيد عن المشكلات، ولكنني قد أتعرض لها فينبغي أن يكون تحت يدي السلاح الذي ينجيني من عقابيلها. ورُبّ سائل يسأل: ما حكم الملاكمة شرعاً؟ ولماذا تعلّمتها؟ والجواب أن الظلم حرام والتعدّي حرام، وأن دفع العدوان جائز، على أن يكون بأيسر الطرق لا بأعسرها وبأهونها لا بأشدّها، وأنّ ضرب الوجه منهيّ عنه، وفي الحديث أن النبي ‘ رأى رجلاً يضرب عبده على وجهه فنهاه وقال له: «إن الله خلق آدم على صورته» (أي أن صورة هذا العبد هي الصورة التي خُلق عليها آدم، فكان التعدّي عليها إساءة إلى أولاد آدم جميعاً. ومن الناس من يروي جزءاً من الحديث ويفهمه فهماً ربما أوصل إلى الكفر، إذ يعيد ضمير «على صورته» إلى الله، ومن اعتقد أن لله صورة فقد كفر) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تفصيل هذا الإيجاز في الجزء الثاني من «فتاوى علي الطنطاوي»، ص16 (مجاهد).

وأحسب أني قد بينت بهذا الذي قلت حكم الملاكمة. فالأمور بمقاصدها، فمن تعلّمها ليظلم الناس ويعتدي عليهم كان آثماً، ومن تعلمها لغرض مشروع كانت وسيلة حكمها حكم الغاية التي قُصد بلوغها من تعلمها. أعود إلى الموضوع. دخلت في فرقة الملاكمة فتعلّمت من هذا المدرّب الألماني وقفة الاستعداد وأنواع اللكمات: المستقيمة الأمامية والمنحنية الجانبية والقصيرة الصاعدة. والقاعدة عندهم أن يستعمل المبتدئ في بداية التدريب يده اليسرى وحدها، حتّى إن من المدربين من يربط اليمنى حتّى لا يستعملها. تدرّبت أولاً على الكيس الثقيل، ثم شرعت أنازل بعض الطلاّب، أضربهم ويضربونني، فإذا دخلت الفصل عدت مدرّساً وعادوا طلاّباً. وأشهد أن طلاّب العراق يعرفون الانضباط تماماً. ولبثت على ذلك شهوراً، حتّى كان يوم أصابَتني فيه ضربة من طالب تورّمَت منها عيني وظهر أثرها عليها، فقلت للمدرب: إلى هنا وبَسْ (¬1). ولكن سرعان ما طبّقت ما تعلمتُه من دروس الملاكمة؛ ذلك أنني زجرت يوماً طالباً مسيئاً يبدو أنه من أسرة غنيّة وجيهة، فحقد عليّ أهله. وكنت في صباح يوم مطير من أيام الشتاء أمرّ أمام وزارة الخارجية ذاهباً إلى المدرسة، فاعترضني رجل طويل ممّن يُدعَون في بغداد «أبو جاسم لِرْ» أي من صنف الفتوّات كما ¬

_ (¬1) وكلمة «بس» بمعنى «فقط» فصيحة معرَّبة من القديم.

يُقال في مصر أو القَبَضايات كما يُقال في الشام. وكلمة «لِرْ» تركية هي علامة الجمع عندهم. ففتح معي باباً للشرّ وقال: لماذا شتمت فلاناً (يعني من الطلاّب؟) أما عرفت من هو؟ وهل بلغ من قدرك أن تتطاول على ابن فلان؟ فقلت له: حافظ على أدبك، وإن كان لك كلام فراجع مدير المدرسة. فقال قولاً بذيئاً وهدّدني وأمسك بصدر ردائي حتّى كاد يشقّه، ثم لوّث ثوبي بحذائه المحمّل بالوحل والطين فترك عليه أثراً ظاهراً. وكان يمشي إلى يساري، فقبضت يدي وتناولته بلكمة جانبية جاءت تحت صدغه لم يكن يتوقّعها. وتجمّع الناس وحالوا بيني وبينه، ولم أعد أستطيع المشي إلى المدرسة بهذا الثوب الملطّخ بالوحل فأخذت عربة (عَرَبانة كما يقولون) وذهبت فبدّلت ثيابي، ومررت بالأخ الكبير الذي كان مَفْزَعنا في كلّ مُلِمّة تُلِمّ بنا، الأستاذ بهجة الأثري، فخبّرته. فقال: لا تدير بال (أي لا تُدِرْ لها بالاً). ووصلت المدرسة متأخراً فوجدت شيئاً عجيباً؛ الطلاّب جميعاً يستقبلونني يحفّون بي، يقولون: "خاطر الله شنو هذا" ماذا عملت؟ كيف ضربته؟ وأسئلة كثيرة من أمثال هذه كرّت عليّ باكراً. قلت: ويحكم، خبّروني أولاً ما القصّة؟ فإذا القصّة أن هذا الذي ضربتُه معدود في حيّه من أبطال الرجال لا يقدر عليه أحد، أو هو يوهم مَن حوله بأنه لا يقدر عليه أحد. فلما يئس من أن ينتقم مني بيده ذهب إلى المخفر وشكاني،

وكانت اللكمة قد أصابت أصول أسنانه فنزل منها الدم، فهوّل الأمر على الضابط وكبّره حتّى أحالوه إلى الطبيب الشرعي. ويظهر أنه استمال الطبيب فربط وجهه بالرباط الأبيض ورجعه إلى الضابط، فبعثه الضابط مع شرطي إلى المدرسة يفتّش عن المجرم الذي اعتدى على هذا البطل ... وكنت أنا ذلك المجرم. فكانت دعاية لي بأنني قهرت مَن هو أقوى الرجال وأنني صرت بذلك من الأبطال، وذهبوا فحدّثوا بالقصّة إخوانهم وأهليهم، وزادوا في سردها على عادة الناس في المبالغات، وملّحوها وفَلْفَلوها ووضعوا لها الحواشي والذيول، فكانت النتيجة أنني صرت بطلاً. والحقيقة كما قال المثل: «مُكرَه أخاك لا بطل» (¬1)! * * * ولم تنتهِ السنة المدرسية حتّى جاء يوم خِفت فيه حقيقة؛ ذلك بأنني بعد أن أنهيت عملي في المدرسة وأكملت امتحاناتي كلّفوني بمراقبة فرقة من الطلاّب الأحرار الذين يدرسون الدراسة المسائية، وكانت هذه الفرقة تؤدّي امتحانات الشهادة الثانوية، وكان هؤلاء الطلاّب غالباً من الجنود والعُمّال وكبار السنّ. فوجدت جندياً ضخم الجثّة بادي القوّة، متراكب الأعضاء غليظ العنق ينطق كلّ ما في جسمه بقوّته وشدّته. وكان قاعداً عند الشبّاك ينظر في الخارج متلهفاً كأنه يرقب عوناً، فوضعت عيني ¬

_ (¬1) كذا حفظنا المثل، والصواب «أخوك».

عليه، فخلا مقعد في وسط الغرفة فقلت له: قم فاقعد فيه. فتردّد وهمّ بأن يقول لا فما استطاع، لأنه جندي خاضع للنظام العسكري ومُعرّض للعقوبة إن هو أعلن العصيان. ووضعت عيني عليه، وكانت عينه إلى الشبّاك، فأُلْقِيَت إليه رزمة أوراق فسبقتُه إليها فأخذتها فإذا فيها الأجوبة المطلوبة، فأبقيتها معي ولم أدفعها إليه. فضمّ شفتيه ورماني بنظرة وعيد يتطاير منها الشرر، وهزّ رأسه كأنه يقول: سترى. وكان قد بقي لموعد سفرنا عشرة أيام، فذهبت إلى المدير فرجوته أن يسمح لي بالسفر وأن يُعفيني من هذه المراقبة التي لم تكن من عملي الأصلي. فعجب وقال: لماذا؟ فقصصت عليه القصّة. فقال: وهل تخاف؟ قلت: نعم، أخاف. فضحك وقال: عجيب. قلت: لا، بل العجيب ألاّ أخاف. ألم يُقتَل السنة الماضية الأستاذ المصري الدكتور سيف؟ ألم يكَد يَلحق به الأستاذ محمود عزمي لولا أنه أخرج مسدسه وهدّد به؟ ألم يعتدوا في الكرخ على الأستاذ فاضل الجمالي وهو يومئذ مدير المعارف؟ إن الطلاّب في الشام إن غضبوا لحقوا المدرّس يسبّونه أو يهتفون به الهتاف العامّي الوسخ «بعرو» أو يرمونه بالحجارة، وربما ضربوه، أمّا القتل ... القتل؟ فلا والله، لا أعرّض نفسي للقتل حتّى تقول عني إنني شجاع. فأبى أن يأذن لي بالسفر، واعتذر بأنه لا يملك الإذن، إنما تملكه وزارة المعارف، وخرجت منزعجاً. وكنت أنام (كما عرفتم) في دار العلوم الشرعية في المدرسة

الملحَقة بجامع أبي حنيفة في الأعظمية، وكان عندنا رجل مُسِنّ اسمه حاجي نجم (الحاج نجم) كان بمثابة رئيس الفرّاشين، ولكنهم يوقّرونه لسنّه ويحترمونه، وكان عاقلاً. فرآني مهموماً فسألني: ما لك؟ قلت: لا شيء. فأصرّ عليّ أن أخبره وحلف عليّ بالله أن لا أكتمه شيئاً. فخبّرته بما كان، فاستراح وقال: المسألة هيّنة، أنا أذهب معك غداً. فتعجّبت وضحكت وقلت شبه ساخر: تذهب معي؟ أشكرك، ولكن ماذا تصنع وأنت يا حاجي رجل عجوز؟ هل تقاتل عني إن قاتلوني؟ قال: لا تستصغر أحداً يا أستاذ، وغداً إن شاء الله سترى. فاذهب الآن فتعشَّ ونَم مطمئناً. وذهب معي صباحاً، فلما نزلنا من الحافلة في طرف بغداد مشيت ومشى ورائي بجانب الطريق، فلما اقتربت من المدرسة وجدت الطالب الذي هدّدني ومعه ثلاثة من أشباهه، لو صارعوا دباً قطبياً لصرعوه أو قاتلوا ثوراً هائجاً لقتلوه. فأقبلوا عليّ من الجهات الثلاث بخُطى بطيئة كخُطى الجاموس الذي يتقدّم للنطاح. فوزنت قوّتي بقوّتهم فرأيت أني لن أقوى عليهم، ولكني لن أكون ضحيّة سهلة، وسأتناول واحداً منهم أو اثنين بلكمة قوية أو لكمتين قبل أن يصلوا إليّ. وتوقّعت الشرّ وأيقنت أنه لا بدّ من وقوعه. وإذا بهم يقفون، ثم ينظر بعضهم إلى بعض ويستديرون راجعين. فلم أفهم ماذا جرى، وإذا الحاجّ نجم، هذا الرجل العجوز، لم يزد أن مشى خطوتين إليهم وتنحنح يقول: إحم! كأنه يقول لهم: "نحن هنا".

فلما رأوه تطايروا كما يتطاير سرب من العصافير حطّ عليها الباشق. ومشى معي إلى المدرسة. قلت: أشكرك، أشكرك، ولكن خبّرني أولاً لماذا ذهبوا؟ لماذا خافوا منك؟ قال: هذا توفيق من الله. فأصررت عليه فلم يخبرني. فتقصّيت خبره بعد ذلك ممّن يعرفه، فعلمت أنه كان في شبابه مقدم حيّه وكبير «فتوّاته»، وبقي معه من أتباعه ومن إخوانه جماعة يفدونه بأرواحهم ويبذلون له دماءهم، وكل واحد منهم بخمسة من هؤلاء الشباب الذين قطعوا عليّ الطريق وجاؤوا يهدّدونني. فلما رأيت ذلك رجوته أن ينزل معي كل يوم من أيام الامتحان من الأعظمية إلى بغداد فقبِل، وبقينا على ذلك حتّى حان موعد السفر، وجزيته خير ما قدرت عليه من الجزاء، وأسأل الله الآن أن يرحمه وأن يجزل له الجزاء. * * * وممّا وقع لي تلك السنة أن الطلاّب اليهود كانوا في الأقسام العلمية تسعة أعشار الطلاّب، وكانوا ينالون أعلى الدرجات في الامتحانات حتّى في الأدب العربي الذي أدرّسه (كما أدرّس الديانة). وكان منهم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، أي أن الخمسة الأوائل كانوا من اليهود. فغاظ ذلك المدير، وكان شاباً يتفجّر حماسة وإخلاصاً ويمتلئ قلبه بغضاً لليهود وكرهاً، وقد نسيت اسمه مع الأسف

(ولعل الأخ العراقي الذي علّق فيما سبق على هذه الذكريات يرسل تعليقاً جديداً من مقامه في بغداد يبيّن فيه اسم هذا الرجل). كلّمني المدير بشأن هؤلاء اليهود فقلت له: إني ليغيظني الذي يغيظك، ولكن ماذا أعمل؟ وأنا إنما اؤتُمنت على تقدير الدرجات لما في ورقة الامتحان، فلو أن بين الطلاّب ابني أو أخي ما زدته درجة على ما يستحقّ، ولو كان بينهم قاتل أبي ما نقصته درجة. وهذا ما أمرَنا ربنا حين قال لنا: {ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى ألاّ تَعْدِلوا، اعدِلوا}. فإذا وجدت أنت سبيلاً إلى ضمان مصلحة البلد بمعاملة اليهود بما يستحقّونه، بشرط ألاّ أدع العدالة بين الطلاّب، كنت لك شاكراً. ففكّر ثم قال: ندمج مادّتَي الديانة والأدب معاً ونعطيهما درجة واحدة. قلت: ولكن بقي للامتحان أسبوعان وسيُفاجَأ اليهود بهذا القرار ويثورون علينا. قال: هم أقلّ وأذلّ من أن يثوروا، وهذا الدمج من الأمور الإدارية التي نيطَت بي وأنا المسؤول عنها. فوافقتُه مُكرَهاً. وصدر القرار ونُفِّذ، ولم يُسمَع صوت اعتراض لأن مادّة الديانة كانت دراسة سورتين من القرآن وتفسيرهما، والقرآنُ كتابُ العربية وكتاب الإسلام، فلا عجب أن يكون بين النصوص الأدبية المختارة شيء من القرآن، بل ذلك هو الأصل وذلك هو المطلوب. وجاء الامتحان، وصحّحت الأوراق وظهرت النتائج، فكان الأول والثاني والثالث والرابع والخامس أيضاً من اليهود. فذهبت

إليه قبل أن أعلن النتيجة وقلت: ماذا ترى؟ قال: إنّا لله وإنا إليه راجعون. ماذا أعمل إذا كان الطلاّب العرب المسلمون كسالى لا يعملون وكان هؤلاء الخبثاء هم العاملين الجادين؟ * * * وكان وكيل المدرسة الحاجّ محمود أحد القرّاء المشهورين في بغداد، ولم يكن في منهج الدراسة درس في التجويد، مع أن التجويد من فروع مادة اللغة العربية وينبغي أن يعرفه وأن يلمّ به كل طالب يدرس لغة العرب وأدب هذه اللغة، ضروري لضبط مخارج الحروف وحسن الأداء وسلامة النطق. وقد استُحدث علم ما عرفناه أيام الدراسة هو «علم الأصوات»، وقد رأيت إحدى حفيداتي الطالبة في جامعة الملك عبد العزيز تحمل كتاباً في هذا العلم، فاطّلعت عليه فوجدت موضوعه قريباً من علم التجويد، يزيد عليه في مسائل ويقصر عنه في مسائل. فطلبت من الحاجّ محمود أن يجعل للطلاّب ساعة اختيارية يعلّم فيها من شاء «القراءة»، ولكن لم يتّسع لذلك وقته، ووجدت نفراً من الطلاّب لهم رغبة في التعلّم فعكفت على إقرائهم في ساعات فراغهم بين الدروس في المدرسة وبعد انتهائها. وأنا لست من القرّاء، ولكني أقرأ قراءة صحيحة، لا أقصر إلاّ في مخرج حرف الراء فأنا فيه قريب من واصل بن عطاء. أمّا المدود وأحكام الميم والنون والأداء، أي الترقيق والتفخيم وما إليهما، فقد أتقنتُه وأحمد الله على ذلك، لأنني قرأت في مطلع شبابي على شيخ قرّاء الشام الشيخ محمد الحلواني الذي جمع

على طريقة «الشاطبية» وعلى الشيخ عبد الله المنجّد (وهو والد الدكتور صلاح الدين المنجد) الذي جمع على طريقة «الطيبة»، وذلك على رواية حفص عن عاصم، وهي القراءة المنتشرة في مصر والشام وأكثر بلدان المشرق. أما في المغرب فيقرؤون بقراءة نافع برواية ورش، وأهل شنقيط (موريتانيا) يقرؤون بها برواية قالون، وسمعت من أخي وابن شيخي محمد ابن الشيخ عبدالقادر المبارك رحمهما الله (وقد أقام في السودان سنين) أنهم يقرؤون في السودان بقراءة أبي عمرو (¬1) أو بقراءة حمزة، نسيت أنا. وأقول بالمناسبة إن معرفة القراءات مطلوبة لطلاّب العلم وفي المدارس، أما أن يقرأ القارئ الآية الواحدة للعامّة بالقراءات المتعدّدة فقد رأيت من كبار العلماء المتقدّمين من قال بكراهته. * * * وفي هذه السنة جاء الدكتور سامي شوكت مديراً عاماً (أي وكيلاً) لوزارة المعارف، وكان قومياً مندفعاً متحمّساً، فصبغ المدارس بالصبغة القومية. ولي في القومية كتابات كثيرة جداً وخضت فيها مناظرات ¬

_ (¬1) تنتشر في السودان رواية الدوري عن أبي عمرو، كما يقرأ أهل السودان في أنحاء مختلفة منه بقراءة نافع من روايتيه: قالون وورش. وانتشرت في أوساط الجيل الجديد الذي تعلّم في المدارس الرسمية رواية حفص عن عاصم، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى تأثير الأساتذة المصريين الذين كان لهم دور كبير في التعليم في السودان.

ومناقشات، ومن أشهر ما كتبت مقالة «العربية والإسلامية» (¬1)، وقد نُشرت في «الرسالة» من قديم وطُبعت مرّات في رسالة مستقلّة وُزّعت مجّاناً. ولما كنت في بداية عهدي بالكتابة (وقد نشرت أول كتاب لي سنة 1348هـ) كنت لا أفرق بين الإسلامية والعربية، فأقول مثلاً الفتوح الإسلامية لأنها قامت بالإسلام ولنشر الإسلام، أو أقول الفتوح العربية لأن الذين قاموا بها جنداً وقُوّاداً هم من العرب، العرب الذين لم يكن لهم بين الدول الكبار مكان حتّى أعزّهم الله بالإسلام. ثم بدأنا نسمع كلمة «القومية»، ومن أوائل من جرت كلمة القومية على سن قلمه (ممّن أعرف أنا) خالي مُحبّ الدين الخطيب المولود سنة 1303هـ، ومن كان معه من لِداته وأقرانه. ولم تكن تحمل أكبر من معنى تنبيه العرب إلى ما كاد لهم الاتحاديون الملحدون من الأتراك الذين يريدون تتريك العناصر العثمانية، ويأبى هذه الدعوةَ الإسلامُ ويأباها العرب، ويأباها جمهور الأتراك المسلمين. ثم بدأَت تحمل معاني جديدة على أقلام كُتّاب ودُعاة كثير منهم من النصارى. وكانت كلمة القومية متردّدة بين ما يقابل كلمة «ناسيوناليزم» الفرنسية كما تفهم في الشام وكلمة «راسيسم» أي ¬

_ (¬1) وهي منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح». وستجدون في كتاب «فصول في الدعوة والإصلاح» الذي أرجو أن يصدر قريباً مقالات في هذا الموضوع تستحق أن تُقرَأ هي: «موقف الإسلام من العربية» و «الدعوة القومية والإسلام» و «الدعوة إلى الوحدة» و «مَن هو العربي؟» (مجاهد).

العِرْقية، كما يغلب على شباب العراق فهمها بهذا المعنى. أمّا مصر فما وجدت لها في مصر (وقد درست فيها سنة 1928) أثراً ظاهراً، وأمّا في الشام (سوريا) فكان لها أثر ضئيل عند طائفة من الشباب. فلما جئت العراق وجدت فكرة القومية طاغية على الشباب، بثّها فيهم مدرّسون أكثرهم من غير العراق، من أبرزهم ساطع الحصري، العربي الحلبي الذي ربّاه الترك وعاش بينهم دهراً من عمره، حتّى إنه مات وما يحسن النطق بالعربية كما يحسنها العرب وتظهر العجمة على لسانه من الجمل الخمس الأولى من حديثه إذا تحدّث أو محاضرته إذا حاضر. ومنهم النصولي، ويذكر كبار السنّ الفتنة التي ثارت في العراق لمّا ألف كتابه عن الأمويين. كان الأمل والمطمح الأقصى لشباب بغداد في تلك الأيام هو تحقيق وحدة عربية كوحدة ألمانيا وإيطاليا، وكانوا يُعنَون بتاريخهما وتفاصيل أخبارهما عناية بالغة، وكانوا ينظرون إلى بلدهم العراق على أنه مثل بروسيا في الوحدة الألمانية وبيه مونت في إيطاليا. ونحن -الإسلاميين- لا نأبى الوحدة العربية، ولكن نراها محطّة على طريق الوصول إلى الغاية وليست هي الغاية. ونحن لا نحارب القومية حرباً عمياء نخلط فيه خيرها بشرّها ثم نلقي ذلك جميعاً في لهب هذه الحرب، ونحن لا نسلب العرب فضائلهم وكريم سلائقهم، فلولا مزايا العرب التي أودعها الله فيهم، أي في طبيعتهم وفي سليقتهم، ما اختار الله رسوله منهم

{واللهُ أعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتَه}، ولا جعل القبلة البيت الحرام عندهم ولا أوجب الحجّ إلى أرضهم. ولكننا لا نفتري على الله ولا نكذب على التاريخ، ولا نزعم أنه كان للعرب قبل الإسلام -كما يقولون- هذه المزايا التي يدّعونها لهم ولم تكن لهم، ولا نقول مقالتهم: إن الإسلام إنما هو مظهر من مظاهر عبقريتهم الكامنة فيهم. فما طبيعة العلاقة بين العرب والإسلام إذن؟ لقد فكّرت في ذلك طويلاً، ثم وضّحته في محاضرة لي في الكويت لمّا دعتني إليها جمعية الإصلاح، أي الأخوان الكريمان عبد العزيز وعبد الله المطوّع، وكانت تلك هي المرّة الوحيدة التي زرت فيها الكويت، في الخمسينيات (¬1). ساءلت نفسي: هل بين العربية والإسلام تطابق بحيث إن العربية والإسلامية كلمتان مترادفتان تُغني إحداهما بمدلولها عن أختها، فكلّ ما هو إسلامي عربي وكل ما هو عربي إسلامي؟ وكان الجواب: لا. فقلت: هل بينهما تناقض كالوجود والعدم والموت والحياة، بحيث إنهما لا يجتمعان ولا ينعدمان؟ وكان الجواب: لا. هل بينهما تضادّ كالبياض والسواد بحيث إنهما لا ¬

_ (¬1) زارها سنة 1956، وقد أشار إلى هذه المحاضرة في أول مقالة «عربية إسلامية» المنشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح»، قال: "دعتني من أشهُر جمعية الإصلاح في الكويت إلى إلقاء محاضرات، وكان منها محاضرة عنوانها «بين العربية والإسلامية» ... "، فمن أحب أن يقرأ هذه المقالة فليقرأها في الكتاب المذكور، وفيها -كما يبدو- خلاصة المحاضرة وأهم ما فيها من أفكار (مجاهد).

يجتمعان ولكن قد ينعدمان؟ وكان الجواب: لا. هل بينهما عموم وخصوص كما يقول أهل المنطق، بحيث إن كل عربي إسلامي وليس كل إسلامي عربياً؟ وكان الجواب: لا. فما العلاقة إذن بين العربية والإسلامية؟ الجواب: إن العلاقة هي ما يُسمّى العموم والخصوص من وجه. أي أنهما مثل دائرتين، دائرة صغيرة ودائرة كبيرة، وُضعَت الصغيرة في طرف الكبيرة فانطبق أكثر أجزائها على أجزاء الدائرة الكبيرة، ولكن بقي من الصغيرة هلال صغير لم يدخل في الكبيرة وبقي من الكبيرة هلال كبير يحيط بالصغيرة. أي أن الناس ثلاثة أصناف: عربي مسلم، ومسلم غير عربي، وعربي غير مسلم. أمّا العربي المسلم فلا إشكال في وضعه؛ لأننا إن دعونا بدعوة العربية دخل فيها وإن دعونا بالدعوة الإسلامية دخل فيها. ولكن الإشكال في العربي غير المسلم والمسلم غير العربي: أيهما هو أقرب إلينا وأيهما الذي هو جزء أصلي من أمتنا؟ * * *

رفضت الدعوة إلى القومية فنقلوني إلى كركوك

-111 - رفضت الدعوة إلى القومية فنقلوني إلى كركوك كانت سنة 1939 في بغداد سنة نهضة عجيبة؛ روح جديدة صُبّت في قلوب الشباب، إقبال على الجندية وأن ينتظمهم سلك الجيش، حتّى إنني لمّا سألت الطلاّب هذا السؤال الذي لا يملّ المدرّسون من إلقائه على توالي السنين: ماذا تحبّ أن تكون في مقبل أيامك؟ كان جواب الأكثر منهم أنهم يريدون أن يغدوا جنوداً. وأعانهم على ذلك أن وزارة المعارف بدأت بتحويل المدارس إلى شبه ثكنات والطلاّب إلى جنود، حتّى إنها وضعت نظاماً سمّته نظام «الفتوّة»، ألبسَت فيه الطلاّب لباس الجنود ودرّبتهم على ما يتدرّب عليه الجنود، حتّى يكونوا مستعدّين للنزال إذا أذّن مؤذّن القتال وحانت ساعة النضال. بدأ ذلك بتدريب مجموعات صغيرة ثم عمّ المدارس كلها، حتّى إذا كان يوم الجمعة السابع والعشرون من الشهر الأول من سنة 1939 كان التدريب على الجندية باسم الفتوّة قد عمّ مدارس

بغداد كلها، وفي هذا اليوم خرج موكب الطلاّب، الموكب العظيم الذي كان حديث الناس وكان عجباً من العجب. انتقلَت (¬1) فيه بغداد كلها فاستقرّت في شارع الرشيد (الذي لم يكن في بغداد شارع غيره) وشارع غازي الذي افتُتح يومئذ حديثاً، لترى موكب الفتوّة الذي يصل بين غازي والرشيد، فينشئ المجد الجديد على أساس المجد التليد. وقد أتى الناس من كلّ فجّ عميق ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبناؤهم أسوداً صغاراً، أشبالاً يدافعون عن الحمى ويحمون العرين، ويبصرون ببصائرهم المستقبل المجيد والآتي الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان التي تبرق بريقَ الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الأموات ويصبّ الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهزّ البنادق، تقول بلسان حالها: إننا نحقق ما نقول. أقبل الناس على شارع الرشيد قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملؤوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن وشرفات المنازل والفنادق، حتّى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار. وربع دينار في تلك الأيام يعدل أربعة دنانير في أيامنا. ولا ترى مع هذا في شرفة مقعداً ولا على رصيف مكاناً. وتعلّق ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله "ما النصر إلاّ من عند الله" (في وسط الصفحة 167) هو نص المقالة التي نُشرت في «الرسالة» في تلك السنة، وهي مقالة «يوم الفتوّة في بغداد» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

الناس بالأعمدة وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كان الكون متهلّلاً باسماً في ذلك اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة والأُنس في الأرض وفي السماء. وانتظر الناس ساعات، لا يملّون ولا يضجرون. وكنت في داري في الأعظمية، أهمّ بالنزول إلى بغداد ثم يردعني خوف الزحام وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللجّ البشري الهائل. وكنت أنظر في ركام الدفاتر التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كلّ تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والهنات، دفاتر الامتحانات، لأقوم بتصحيحها وتقدير درجاتها، فلا أمسّها ولا أدنو منها وإنما أنصرف عنها أفكّر في بلدي وأهلي. كنت بجسدي في بغداد ولكن قلبي في الشام. أأهجع آمناً في بغداد وآنس مطمئنّاً، وأهلي في الشام يمشون على النار، لا يدرون أإلى موت أو حياة؟ أأستمتع بالجمال وأنفق الأماسي الهادئة في مسارب الأعظمية أساير الشط وأتفيّأ ظلال النخيل، والشام قد ثار من تحته البركان وزُلزلَت منه الأركان، وهبّ أهله هبّة المستميت يريدون الحياة كاملة أو الشهادة في سبيل الله؟ فكّرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد. وما أدراك -ذلك اليومَ- ما بغداد؟ بلغت باب المعظم، وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها ببعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى فيه الميدان. فوقفت حائراً لا أتقدم ولا

أتأخر، ثم لمّا طال بي الوقوف شددت من عزيمتي وشمّرت عن ساعدي، وأقبلت أدفع هذا وأزيح ذاك. وكلّما دفعت عني واحداً حلّ مكانه عشرة، فخارت قواي وأيِست من النجاة، واعترفت لنفسي بأني لم أبلغ مبلغ عنترة (أعني عنتر القصّة) الذي يقبض على الرجل فيرفعه بيده فيضرب به الأخر فيقتل الاثنين. وما كنت -عَلِم الله- أحبّ أن أقتل أحداً، وما جئت لأقاتل ولكن جئت لأشارك في هذه البهجة وهذه الفرحة. وقفت فاشتدّ عليّ الضغط من كل جانب حتّى أحسست كأن أحشائي ستخرج، وضاق نَفَسي، ولكن كل ضيق إلى فرج، فلم يكن إلاّ أن فرّج الله عني فبعث رجلاً من ضباط الشرطة أعرفه، فحملني بسيارته إلى الفندق الذي أريد. وكان في شرفة الفندق إخوان لنا ينظرون فقعدت معهم. ولبثنا نرقب الموكب ونتحدث عن الفتوّة في العراق، ونستمع إلى أحاديث الإخوان وهي للأديب كنز لا ينفد. لقد رأيت في ذلك اليوم من مظاهر الفتوّة والقوّة ما جعلني أبكي من فرط التأثر؛ رأيت حارة (دربونة) مجاورة للفندق، دخلتُ فيها فوجدت طفلاً يدرج على باب منزله لم يتعلّم المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند ويوعز إيعاز القائد: يس يم (أي يسرى يمنى). رأيت أطفال المدارس الابتدائية يسيرون سير الجنود، يقودهم مدرّس بلباس ضابط يدرّبهم من الصغر على أن يكونوا أبطالاً. وكنّا قد ذهبنا قبل ذلك بشهر مع الطلاّب إلى معسكر

الإنكليز في «سن الذبان» لمباراة رياضية، فرأيتهم قد قلبوا المدينة الإنكليزية إلى حيّ من أحياء العرب وأفاضوا عليها روحهم وشبابهم وفتوّتهم، فقلت: إذا كان جيش صغير من لاعبي الكرة لا يتجاوز الخمسين ومعهم من إخوانهم مثلهم، إذا كانوا قد فعلوا هذا كله، فكيف لو جاء الجيش العربي، جيش المستقبل؟ رأيت أثر الروح العسكرية واضحاً في الطلاّب، فالطاعة من غير استخذاء والحرّية من غير تمرّد والنظام من غير جمود، تلك هي صفات الطلاّب في العراق في تلك الأيام. لبثنا ننتظر إلى الضحوة الكبرى والناس لا يزدادون إلاّ تدفّقاً، فكأنهم سيول تصبّ في هذا الخضمّ العظيم، والشارع يموج بالناس موجاً ويزخر بالخلائق، وكلهم يتطلع وينتظر وكلهم يسأل: متى يأتي الموكب؟ وعمال الشركة الأمريكية للسينما ماثلون بآلاتهم في الشرفات والزوايا ليصوّروا معالم الحياة في بغداد في ذلك اليوم المشهود. وإن البحر ليموج ويزخر، وإن أمواجه لتصخب وتضطرب، وإذا بالمعجزة قد وقعت فانشقّ كما انشقّ البحر لموسى، وإن كانت تلك معجزة لا يقع مثلها إلاّ لرسول. وانفتح الطريق فنظر الناس ونظرنا، فإذا الأعلام العربية تلوح بألوانها الأربعة التي تجمع شعار دول الإسلام: الأموية والهاشمية والعباسية، وترمز لفضائل العرب كلها: بِيضٌ صحائفُنا سودٌ وقائعُنا ... خُضْرٌ مرابعُنا حُمْرٌ مَواضينا وإذا الموكب قد لاح من بعيد كما يلوح الهلال الهادي،

ويسطع كما يسطع نجم الأمل، وإذا موسيقاه القوية تدوّي في الآذان فيكون لها أثر في النفوس أحلى من نداء الحبيبة في نفس المحبّ المَشوق. فحبس الناس الكلمات ووقفوا الأنفاس، يتطلّعون ويترقّبون، والموسيقى تعلو والفتيان يتقدّمون حتّى وصلَت طليعتهم. فما استطاع ذو شعور إمساك دموع الفرحة والرقّة والتأثر أن تسيل، وارتجّت الأرض بالتصفيق والهتاف كما ارتجّت من قبل بهذه الموسيقى القوية المحبوبة وهذا النشيد، الذي يُسمَع من خلاله صوت المستقبل البارع وتلوح في أثنائه خيالات الماضي العظيم. وكان الفتيان أطهاراً مثل الزهر اليانع لدناً كأغصان الروض، ولكنهم كانوا أقوياء كدَوْح الغاب أشدّاء كأسود العرين، وكانوا يسيرون صفوفاً متعاقبة على عرض الشارع، مرفوعة رؤوسهم منتصبة قاماتهم موزونة خُطاهم، على أكتافهم بنادقهم وعدّة قتالهم. ما أحسست بالعجز مرّة عن الوصف كما أحسست بالعجز عن وصف ما رأيت ذلك اليوم. ومَنذا الذي يقدر على وصف هذا الشيخ الكبير العجوز ذي الشيبة السائلة على صدره، وهو يلحظ حفيده الصغير يحمل البندقية ويمشي مختالاً مزهوّاً يحلم بأمجاد المستقبل ويذكر ما درس من أمجاد الماضي، فلا يطيق هذا الشيخ منع الدموع أن تسيل من عينيه وتنحدر على لحيته البيضاء؟ إني لأسمعه يحمد الله على أن صار لبلاده جيش من أبنائها، ولم يكن يرى إلاّ جيشاً واغلاً دخيلاً من غير أبناء البلد.

ومن ذا الذي يقدر على وصف هذه الأم التي أمسكت بيد طفلَيها الصغيرين وهما يتوثّبان ليلحقا بالموكب ليبصرا أخاهما الذي يمشي فيه، وطفقَت تدعو الله دعاء هامساً مخلصاً يتصعّد من خلال الزفرات أن يحفظ لها ابنها وأن يحفظ للبلد بنيه كلهم: "يا رب سلّم، ما شاء الله كان، يا ربّ سلّم" ... وتبكي؟ من ذا الذي يقدر أن يصف شارع الرشيد في ذلك اليوم؟ يا أيها الرشيد: قُم ترَ المجد الذي بنيته لا يزال قائماً، قُم ترَ الأحفاد قد نهضوا يسلكون طريق الأجداد، قم ترَنا لم نُضِع الأمانة ولم نُهلِك التراث، قُم ترَ مجد غازي يتّصل بمجدك كما اتصل الشارع بالشارع (أعني شارع الرشيد بشارع غازي فعادا مَهْيَعاً واحداً، وكان هذا الموكب قبل مقتل غازي). وعدت مرّة ثانية ففكرت في بلدي وأهلي، عدت فجأة. نحن هنا في فرحة والنارُ مشتعلة في فلسطين، والنار توشك أن تلتهب في الشام! أيّ مصيبة لم يرَها الشاميون من المستعمرين وأي خَطب لم ينزل بهم؟ أَمَا خرّب الأقوياء بلادهم ضرباً بالمدافع وقصفاً بالحديد وحرقاً باللهب، حتّى غدا ثلث دمشق خرائب وأنقاضاً من فعل المتمدّنين الذين انتدبَتهم جمعية الأمم ليمدّنونا وليعلّمونا كيف تكون الحضارة ويكون التقدم؟ أما أخذوا ذهبنا وأبدلونا به ورقاً أقفرَت به الخزائن وافتقر به ذوو الغِنى واليسار؟ أما قطّعوا البلاد حكومات وجعلوا من القرى دولات، وقسّموا الناس بَدداً ليجعلوهم طرائق قِدَداً؟ أما صبرنا على هذا كله؟ بلى، لقد صبرنا حتّى لم يبقَ في قوس الصبر منزع، واحتملنا ما لا

يُحتمل، حتّى إذا نفد الصبر وبان طوق المحتمل هببنا هبّة الحليم إذا غضب. ويا ما أشدّ غضب الحليم! أنكون نحن هنا في فرحة، وقومنا في الشام في ألم؟ وكدت أشعر بالحزن في قلبي، ثم قلت: لا، إن هذا هو الجيش الذي يجب أن يفرح به قومي. إن بطولة العراق وفتوّة العراق صفحة من سِفْر المجد العربي، كما أن قضية فلسطين وجهاد دمشق ونهضة مصر صفحات منه أخرى. إن هذه كلها قوى متّحدة تتوجّه وجهة واحدة. ثم إن الشام لا يخاف شيئاً ولا يخشى. وماذا يخاف؟ الرصاص؟ لقد بلوناه وفتحنا له صدورنا. المدافع؟ لقد أعددنا لها منازلنا التي أعدنا بناءها بعدما خرّبوها وأحرقوها. اليتم والثكل؟ لقد تعوّده أبناؤنا وتعوّدَته أمهات أبنائنا. وكان جيش الفتوّة لا يزال يسير، والأرض ترتجّ بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قوياً فقلت: ستتحقق آمال العراق بالوحدة العربية. ولمّا جاوز جيش الفتوّة شارع الرشيد واتجه إلى شارع غازي ماج البحر واضطرب وتدفّقَت وراءه الدموع، وأسرعت أنا إلى الأعظمية لأدرك صلاة الجمعة. كان هذا الموكب مظهر قوّة وكان علامة فتوّة، وكان شيئاً بهياً، ولكنهم أفسدوا جماله وشوّهوا صورته. إن في الموكب لنقصاً ظاهراً، إن فيه لعيباً أفسد رواءه وأضاع بهجته؛ لقد تلطّخ بالوحل بياضُه وتدنّس طهره. أفما كان بالإمكان أن يُقدَّم الموكب

ساعة أو يؤخّر ساعة حتّى لا تضيع صلاة الجمعة على هؤلاء الفتيان كلهم؟ هذا هو النقص البيّن. فيا ليت الوزارة لم تنسَ ربها ودينها حين ذكرت وطنها وفتوّة أبنائها، يا ليتها ساقت هؤلاء الجنود كلهم إلى المساجد ليقيموا فيها الصلاة، أو لو أقاموها في الساحات وفي الشوارع؛ فإن أجدادنا ما غلبوا عدوهم إلاّ بالصلاة والالتجاء إلى الله، وهوان الدنيا وأهلها عليهم وابتغائهم إحدى الحسنيَين: الظفر بإعلاء كلمة الله أو الشهادة في سبيل الله. أفنحسب أننا نستعيض بالحديد والنار عن الإيمان؟ هيهات والله هيهات! ما النصر بالسلاح ولا بالذخائر وحدها؛ ما النصر إلاّ من عند الله. * * * الكلام الذي سردتُه هنا نشرتُه يومئذ في «الرسالة». وكان القائمون على وزارة المعارف قد جاهروا شيئاً بعد شيء بما كانوا يُضمِرون، وخلعوا الأقنعة شيئاً بعد شيء عن وجوههم التي كانوا يسترونها بها على عهد سامي شوكت في وزارة المعارف. ثم بيّنوا حقيقتهم وهي أنهم يعملون للقومية المجردة عن الدين، وأنهم يدعون للوحدة العربية على حساب الوحدة الإسلامية، وأنهم يقرّبون العربي الكافر على المسلم غير العربي. ووقع الضغط على الإسلاميين من المدرّسين، فمنهم من ساير وجارى ولجأ إلى المعاريض، وعالج الأمر باللين من غير أن يخرج على دينه أو يبدّل سبيله، وبعضهم أبى إلاّ الإعلان عن إسلاميته والتمسّك بها

ومحاربة كل ما يخالفها. وكان أظهرُ هؤلاء الإسلاميين الذين لبثوا يعلنون إسلاميتهم ويحاربون القومية المنافية للدين، التي تريد أن تبدّل قول الله: {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} وتحل محلّها «إنما العرب إخوة»، والدين نسب، فهم يريدون أن تختلط الأنساب وأن يصير الناس أمشاجاً لا تميز منهم مؤمناً من كافر. لبث ثابتاً على إسلامه الكثير، والذين أعلنوا وجهروا وما جَمْجَموا ولا لانوا ثلاثة: أخونا الأستاذ عبد المنعم خلاّف من مصر، وهو لا يزال حياً مدّ الله في عمره وله بنت هنا في المدينة المنورة، وأخونا الأستاذ أحمد مظهر العظمة الذي ذهب إلى لقاء ربه رحمه الله وغفر له، والثالث هو كاتب هذه السطور، فكانت العاقبة أننا نُقلنا إلى الشمال. قالوا لنا: ما دمتم لا تفرّقون بين المسلم العربي والمسلم غير العربي فإن في شمال العراق أكراداً مسلمين، فاذهبوا فعلّموهم. نُقل الأستاذ عبد المنعم خلاف إلى السليمانية، فاستقال وأنهى عقده ورجع إلى مصر، ونُقل الأستاذ أحمد مظهر العظمة إلى إربل (وتسمى اليوم أربيل)، ونُقلت أنا إلى كركوك. * * * وقعَت لي حوادث لمّا جئت كركوك تتصل بموضوع القومية. ذلك أن مدير الثانوية في كركوك كان رجلاً طيّباً، وأذكر أن اسمه نجم الدين جلميران، من الموصل. فوزّع الدروس على

المدرّسين وباشروا أعمالهم، وأنا قاعد عنده في غرفة الإدارة لا يكلّفني بعمل، وكلّما سألته: لماذا لا أقوم بعملي؟ كان يستمهلني ويجيئني بشتّى المعاذير ليصرفني عن دخول الصف. ثم علمت السبب؛ عرفت أن كل المدرّسين الذين جاؤوا قبلي لتدريس اللغة العربية كان الطلاّب الأكراد يقومون عليهم فلا يسلمون من ضربهم وإيذائهم. والطلاّب هناك ذَوُو بسطة في الأجسام وذَوُو قوّة، ولم يكونوا يعرفون هذه العصبية القومية ولم نكن نعرفها نحن. كنّا لا نعرف إلاّ أخوّة الإسلام، فقام الترك الاتحاديون أولاً فقالوا: تُرك، فقمنا نحن رداً عليهم فقلنا: عرب، فقام الأكراد فقالوا: كُرد ... ودعا كل شعب من شعوب المسلمين إلى جاهليته الأولى فصارت الأمة الواحدة مجموعة أمم. عرفت السبب وعلمت أنه إنما يحول بيني وبين التدريس خوفاً عليّ ممّا يتصوّر أنه يمكن أن يقع لي، فاغتنمت غفلة منه ودخلت أكبر الفصول، واخترقت مقاعد الطلاّب حتّى صعدت منبر التدريس. نظرت في وجوههم فإذا عيونهم محمرّة وإذا الغضب يبدو على سماتهم، وإذا هم يُضمِرون نية لا يستطيعون أن يُخفوا مظاهرها. فقلت لهم: اسمعوا الذي أقوله لكم يا أبنائي. كان العرب في جاهلية فبعث الله لهم محمداً عليه الصلاة والسلام ليدعوهم إلى الله، ليدلّهم على طريق الجنّة، ليأخذ بأيديهم إلى صعود مدارج الفلاح والنجاح، وأنزل الله عليه قرآناً يقول له فيه: {إنّما المؤمنونَ إخوةٌ}. فأنا ما جئت من بغداد إليكم لأعلّمكم العربية من أجل أهل بغداد ولا خدمة لهذه البدعة التي سَمّوها قومية.

لا؛ ولكن جئت أعلّمكم العربية لأنها لغة نبيّكم محمد، ولغة الكتاب الذي أُنزِل على نبيّكم محمد، ولتجتمعوا به فتعود الأخوّة الإسلامية فتمحو هذه العادة الجاهلية. ألا تحبّون محمداً؟ قالوا: بلى، نحبه، عليه الصلاة والسلام. قلت: ألا تريدون أن تقرؤوا كتاب الله؟ قالوا: بلى، وإننا لنقرؤه. قلت: الله أمر بتدبّر القرآن، فكيف تتدبّرون القرآن إن لم تعرفوا العربية التي أنزل الله بها القرآن؟ فيا أبنائي، أنا ما جئت إليكم باختياري ولكنهم نقلوني عقوبة لي كما زعموا. لماذا نقلوني؟ لأنني أبَيتُ أن أدعو بدعوة الجاهلية، وهذه الدعوةُ التي تفرّق المسلمين وتجعل الأمة الواحدة أمماً دعوةٌ جاهلية. هذه التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام: «دعوها فإنها منتنة». فهل تريدون أن تتعلّموا العربية لتفهموا كتاب ربكم وأحاديث نبيّكم، أو أنكم تمشون مع هوى نفوسكم وتقابلون ضلالتهم بضلالة منكم مثلها أو أشدّ منها؟ أقسم لكم أن الطلاّب تأثّروا حتّى كادوا يبكون، ثم حملوني على أعناقهم وبدؤوا يهتفون لي. وكان المدير خائفاً عليّ، فلما رآني أدخل الصف ثم سمع التصفيق والهتاف ظنّ بأن الواقعة قد وقعت، فاستدعى الشرطة فحضروا وأحاطوا بغرفة الدرس وتهيّؤوا للدفاع عني والإمساك بالمعتدين، فرأوا بأنني خرجت محمولاً على الأعناق ولم أخرج مَدُوساً بالأقدام! لأنني أدعو إلى كلمة الله، وكلمة الله لا تكون أبداً إلاّ العليا.

ووقعَت لي حوادث أخرى مشابهة لهذه دلّتني على أن المسلم يبقى مسلماً، وأن هذه الدعوات وهذه المذاهب طلاء خارجي لا يلبث أن يُمحى ولا يمكن أن يثبت وأن يقاوم العقيدة. فالعقائد لا تقاوَم أبداً. * * * ولمّا نُقلت من بغداد كتبت مقالة أودّع فيها بغداد قلت فيها (¬1): الوداع يا بغداد. يا بلد المنصور والرشيد، والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نواس والعبّاس، ومخارق ومطيع وحماد. يا منزل القُوّاد والخلفاء، والمحدّثين والفقهاء، والزهّاد والأتقياء، والمغنّين والشعراء، والمُجّان والظرفاء. يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول ... يا دنيا فيها من كل شيء، يا بلداً أحببته قبل أن أراه وأحببته بعدما رأيته. لقد عشت فيك زماناً مرّ كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذّن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلاّ لذع الذكرى. وهل تخلف الأحلام -يا بلدُ- إلاّ الأسى والآلام؟ ودّعتها والسيارة تسرع بي إلى المحطّة، تسلك إليها شوارع ذات بهجة وجمال. وعاينت الوداع فأيقنت أني مفارق بغداد عمّا قليل، وأني سأتلفّت فلا أرى رياضها ولا أرباضها ولا أبصر ¬

_ (¬1) انظر مقالة «وداع بغداد» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول، وإن من الأقوال ما لا تبلى جدته ولا يمضي زمانه: أقولُ لصاحبي والعِيسُ تهوي ... بنا بينَ المُنيفةِ فالضِّمارِ تمتّعْ من شَميمِ عَرارِ نجدٍ ... فما بعدَ العَشيّةِ من عَرارِ وجعلت أذكرُ كَم ودّعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطّعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى ولا ترثي لبائس. ورأيتني لا أكاد أستقرّ في بلد حتّى تطرحني النوى في آخر، كنَبْتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمدّ فيها جذورها حتّى تُقلع وتُنقل إلى تربة أخرى. ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن قد جاءها أحدٌ من أصحابي، فعشت فيها وحيداً مستوحشاً لا أعرف منها إلاّ المسجد (وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة) فلما ألفتها وصارت بلدي وغدا لها في قلبي مكان نُفيت عنها: دخلنا كارهينَ لها فلما ... ألِفْناها خَرجنا مُكرَهينا وفكّرت في أمري: متى أُلقي رحلي ومتى أحلّ حقائبي، وهل كُتب عليّ أن أطوف أبداً في البلاد وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟ (إلى أن قلت فيها والمقالة طويلة): بغداد يا مهد الحبّ، وُلد الحب على جسرك الذي تحرسه العيون، وينمو في زوارقك ذوات الأجنحة البيض التي تخفق كخفَقان قلوب راكبيها، ويشبّ

في كرخك وتحت ظلال نخيلك. فتشوا كم تحت هذا الثرى، ثرى بغداد، من بقايا القلوب التي حطّمها بسهام العيون هذا المخلوق الجبّار الذي وُلد على الجسر شاباً، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ والرصافة، ثم لم يَمُت لأنه من أبناء الخلود. سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟ سلوا جوّ بغداد: أين النغمات العِذاب التي عطّرت نسيمه فهزّت قلوباً وهاجت عواطف، وأضحَكت وأبكت وأماتت وأحيَت؟ هل أضعت هذه الثروة التي لا تُعوّض؟ سلوا الجسر ... يا جسر بغداد، إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب حتّى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعِبَر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟ كم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلاّ بالخيبة والأسى؟ وكم عطفت على بائس منكوب وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هوّن عليه ما هو فيه وزدت الثاني بؤساً ونكداً! وكم وعيت من أسرار الحب والبغض، والفرح والحزن، والغِنى والفقر، والعزّة والذلّ، وكم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات العقول! كم اهتززت تحت أقدام خليفة كانت تُصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد ‘، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوّح بسيف محمد ‘ (إلى آخر ما قلت). وتلفّتّ ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق، وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف عنه تارة فتضيء ثم

تختفي في ظلال النخيل، كشاعر منفرد متأمل أو محب متغزّل يناجي طيف الحبيب ويسامر ليالي الوصال التي تلوح له صورها، والنهر يطلع عليها مرّة بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه أمنية بدت لحالم، ثم يحجبه عنها النخيل ويمحوه الظلام كما تمحو الحياة بواقعها الأحلام وتطمس صور الأماني. وغابت بغداد، فسلام على بغداد. * * *

كيف صرت ضابطا؟

-112 - كيف صرت ضابطاً؟ قلت لكم إن وزارة المعارف على عهد سامي شوكت في العراق جعلت المدارس ثكنات وجعلت الطلاّب جنوداً. والجنودُ لا بد أن يُضبَط أمرهم وأن تُقاد جماعتهم، فمن أين يأتون لهذا العدد الكبير من الطلاّب بعدد يكفيه من الضبّاط ومن القادة؟ لم يجدوا أمامهم إلاّ المدرّسين. فجاؤوا بنا وقالوا لنا: كونوا ضبّاطاً. فلم نكن، لأن الله وحده هو الذي يقول للشيء كُن فيكون، أمّا البشر فإن عليهم أن يُعِدّوا الأسباب وأن يهيّئوا الوسائل حتّى يبلغوا بها ما يريدون. كانت العطلة الصيفية قد اقتربت، فأعطونا نوع القماش الذي تُفصَّل منه ثياب الضبّاط وأعطونا شكل الحلّة التي يلبسونها. وكان الزيّ المألوف يومئذ للضابط أن يعقد على وسطه نطاقاً عريضاً من الجلد، وأن يربط بجلدة أدقّ منه تصعد من فوق الكتف لتنزل من الظهر، فترتبط من الجهتين بهذا النطاق. وأن نلبس حذاء طويلاً يصل إلى الركبة. وقد صنعت ذلك، فأحسست لمّا لبست هذا الثوب كأنني

الصنم الذي ورد ذكره في كتاب «كليلة ودمنة»؛ لا أستطيع فيه أن أهزّ رأسي لئلاّ تسقط السيدارة عنه، والسيدارة (كما تعرفون) لا تستر من الرأس إلاّ ربعه ولا تكاد تستقرّ فوقه، أو أنني أنا الذي لم أعرف كيف ألبسها. ولقد كان زكي مبارك رحمة الله عليه في العراق يلبس السيدارة معترضة (بالعرض)، كأنها قبعة نابليون، وهم يلبسونها مستطيلة (بالطول). وأشدّ منها هذا الحذاء. لقد بذلت جهداً في دمشق حتّى وصلت إلى حذّاء (كندرجي) يصنع أحذية الجند فأوصيته عليها، وكلّفَتني أربعين ليرة في تلك الأيام. وكان لبسها عملاً شاقاً، ولكن نزعها مصيبة. فلم أكن أستطيع (رغم أنهم علموني) أن أُخرج رجلي منها حتّى يأتي من يمسك بكتفي ويأتي آخر فيقبض على كلّ فردة منها، ثم يندفعان إلى الوراء فتخرج من رجلي وينقلب كل منهما على ظهره! ولست أدري ما الحكمة في اتخاذها ولماذا لم نكن نلبس -كما يلبس ضبّاط اليوم- حذاء عادياً؟ * * * أعود إلى ذكر كركوك. كركوك بلد صغير قائم على ظهر تلّ صناعي، والبلدة حولها سور وبيوتها قديمة متداخلة، ولكن العمران خرج من السور ونزل من فوق التلّ وانتشر في السهل. ركبت القطار من بغداد. وقطارات العراق مريحة وجيّدة، وكانت أرقى من قطارات فلسطين ومصر التي عرفتها في تلك

الأيام. وقد ركبت هذا القطار من البصرة إلى بغداد ومن بغداد إلى كركوك. والمحطّات في العراق ملك للحكومة، وفي كلّ محطّة فندق ومطعم، أسعار المبيت في الفندق والطعام في المطعم محددة ورخيصة. ومن المحطّة إلى الشوارع القليلة المنتشرة في السهل طريق مستقيم، لا أستطيع الآن أن أقدّر طوله. ومكانة كركوك إنما جاءتها من آبار النفط. ولم يكونوا يستثمرون الغاز الطبيعي فكانوا يحرقونه، فيبدو في الليل شعلة طويلة لا تطفئها الأمطار، وإن كانت تحرّكها الرياح كأنها شمعات كل شمعة منها بمقدار منارة، وكان ضوؤها يصل إلى الفندق. وكان الفندق الذي نزلت فيه كأنه بيت من البيوت القديمة، ففي الغرفة حصير فوقه بساط، وفوق البساط سجّاد، وأثاثه ضخم، فيحسّ الإنسان فيه بجوّ البيت. وإلى جنب غرفتي كانت غرفة الدكتور عبد الحليم العلمي وإخوته رفاقنا: عبد الستار العلمي وكان أصغرهم، وعبد الباسط الذي ذهب إلى رحمة الله. هذه القلعة التي هي المدينة قائمة على تلّ صناعي، وإلى جنبها قلعة مثلها في إربل (أربيل) وقلعة في الموصل مثلها. وأكبر هذه القلاع وأعظمها وأبقاها إلى اليوم هي قلعة حلب، وإلى الجنوب منها قلعة حماة، وإلى جنوبيها قلعة حمص ... سلسلة من القلاع الصناعية التي تشمل بيوت الناس تكون ضمن السور لتدفع عنها هجوم الأعداء؛ هذه السلسلة أُنشئت أيام الخوف وفي عهود الاضطراب.

سكان هذه المنطقة من الأكراد، والغالب عليهم التمسك بالإسلام واتّباع الطريقة النقشبندية، ولمشايخها منزلة بين الناس ولهم مقام كبير. عرفت جماعة منهم لهم تكايا (جمع تكيّة) هي أشبه بمدرسة وفندق مجّاني ومجتمَع لوجوه القوم، ولها أوقاف، فمَن شاء نزل فيها وأكل من طعامها ولم يرزؤوه شيئاً. وإن كان يقابل هؤلاء الشيوخ وأتباعَهم طبقةٌ جديدة من الشبّان أكثر أفرادها بعيد عن الدين، ومنهم من يميل إلى الشيوعية. وهذه هي النتيجة الطبيعية لبعدنا عن الطريق الواضح المستقيم، فالرسول عليه الصلاة والسلام تركنا على بيضاء نقيّة على شارع ظاهر المعالم، مستقيم يوصل إلى الغاية، فإذا تركناه ضعنا، واتخذنا السبل التي تفرّقنا وتبعدنا عن غايتنا. * * * ممّا وقع لنا في كركوك أنهم لما جعلونا -معشر المدرّسين- ضبّاطاً أعطونا رُتَباً عسكرية بمقدار رواتبنا، فاستحققت رتبة «مقدم». وكنّا نلبس مثل لباس الضبّاط إلاّ أننا بدلاً من النجوم على الكتف نضع شرائط. وكان النظام العسكري يقضي بأن يسلّم عليّ الجنود في الطريق والملازمون من الضبّاط والنقباء وكلّ من هم دوني في الرتبة العسكرية، التي لبست لباسها واتخذت شعاراتها وما عرفت آدابها ولا فنونها. فحدّثت إخواني المدرّسين وسألتهم: ما رأيكم أن نطلب من القيادة أن تدرّبنا كما يُدرَّب المبتدئون من الجنود، حتّى نعرف كيف نمشي وكيف نقف وكيف نسلّم، وإذا عرفنا بعد ذلك شيئاً من فنون القتال وقواعد الجندية كان ذلك عوناً لنا إذا ألهمنا الله يوماً أن نكون من المجاهدين في سبيله؟

قالوا: نِعْمَ الرأي. وانتخبوا وفداً منهم كنت فيهم، ذهبنا إلى قائد المنطقة وطلبنا إليه أن يختار لنا من يعمل على تدريبنا. فعجب من ذلك وسُرّ منه، وقدّره وشكرنا عليه، وبعث إلينا بأحد العرفاء أو الرقباء (لست أدري) ليعمل على تدريبنا. وكنّا مختلفين في الطول وفي السنّ، فمنا الشاب ومنا الكهل، ومنا السمين الذي يسير بطنه أمامه إذا مشى ومنا النحيل، فصفّنا تبعاً لأطوالنا، وبدأ يدرّبنا على الحركات العسكرية، يقول لنا: إلى اليمين دُرْ، ثم لا يدعنا نفكّر حتّى يقول إلى اليسار، ثم إلى اليمين واليمين، واليسار واليسار ... فما عدت أعرف يميني من يساري، وشعرت كأن الأرض تدور بي أو تلتفّ من حولي. حتّى صار أكثرنا إذا سمع الإيعاز بالدوران إلى اليمين دار إلى اليسار! فصبر علينا حتّى ضاق صبره عنّا فشتمنا، وقال كلمة معناها خبيث، وإن كانت مألوفة في العراق تمشي على ألسنة الناس. فذهبنا نشكوه إلى القائد. وكنت أنا المتكلّم في الوفد فقلت له: إننا نشكرك أن استجبت لطلبنا وبعثت إلينا مَن يدرّبنا، ولكنه لم يراعِ أعمارنا ومكانتنا وأننا مدرّسون لسنا طلاّباً مبتدئين، فهو يخاطبنا بألفاظ لا تليق بنا. قال: ماذا يقول لكم؟ قلنا: كلمة لا نستطيع أن ننطق بها، إنها من فاحش القول وبذيئه. قال: وما هي؟ وأصرّ على أن يعرفها، فقالها واحد منّا (وهي كلمة «قَوّاد»)، فضحك هذا القائد الكبير حتّى كاد يستلقي على قفاه وقال: "شنو فيها آغاتي"؟ وقرر لنا أنها كلمة عادية لا شيء فيها. قلنا: نعم. ولم نكن نملك أمامه إلاّ أن

نقول نعم، لأن النظام العسكري لا يسمح لنا بمناقشته أو الردّ عليه. وسلّمنا وانصرفنا. * * * كنت أعيش في كركوك حياة هادئة، كالبِرْكة الساكنة لا يحرّكها شيء؛ أنام في الفندق، وأتغدى وأتعشّى في حديقته في مطعم تابع له. وكان معي من إخواننا طائفة تحسن معاشرتهم، وكان في أربيل القريبة منّا أخونا الأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمة الله عليه. فكنت أزوره أحياناً وأجتمع إلى مَن فيها من المشايخ الذين صَحِبهم بحكم نشأته بين أمثالهم. وكنت أزور السليمانية، وفيها ابن عمّ لي هو الدكتور سامي الطنطاوي رحمة الله عليه. وقد نشأ معي وكان رفيق صباي، وكان ثالثنا الأستاذ حلمي حبّاب، الخطّاط المعروف، وكلاهما (أي سامي وحلمي) أخ لي من الرضاع. ولم أكن أجد في كركوك منغّصاً، ولكني رأيت الدنيا من حولي كأنها امرأة حامل قد دنا مخاضها، فالأوضاع فيها تُنذِر بانفجار كبير والجرائد تشير إلى ذلك. وقد تحقّق هذا فلم تمضِ إلاّ مدّة يسيرة حتّى كانت الحرب العالمية الثانية، ولم تمضِ إلاّ مدة قصيرة بعدها حتّى قام رشيد عالي الكيلاني بحركته المعروفة في العراق، وتعرفون تفاصيلها وما نشأ عنها. أما الشام فقد ذهبت إليها في العطلة الصيفية، أي قبل أن أسافر إلى كركوك، فوجدت الكتلة الوطنية التي كنت أعمل معها سنة 1931 قد تفرّق أعضاؤها، ولم يعُد ظاهراً في الميدان من

أولئك الزعماء إلاّ واحد فقط هو شكري بك القوتلي رحمة الله عليه. وشكري بك عمل لوطنه بإخلاص، أنفق أكثر ماله في سبيل النضال، ولولا أن أخاً له تُوفّي وأورثه إرثاً كبيراً لكاد يفتقر. وكان شكري بك متديناً، وإن كان تديّنه كتديّن العامّة: يصلّي ويصوم ويؤدّي الفرائض ويجتنب الكبائر، ولكنه -مثل أكثر المسلمين- لا اطّلاع له على حقائق الدين وعلى أحكامه. لمّا ذهبت إلى الشام وجدت أنه لم يبقَ في ميدان النضال غيره، فمشيت إليه في داره في جادة الرئيس تحت الجسر الأبيض، وذكّرته بأنني جندي قديم كنت أقود الطلاّب جميعاً سنة إحدى وثلاثين حين كنت أكتب في «الأيام» عند الأستاذ عارف النكدي، فذكَرني الرجل ورحّب بي وتفضّل عليّ بما هو أهل له من الثناء والتشجيع، فعرضت عليه جهودي القليلة وطلبت منه أن يكلّفني بعمل لأنه لا يجوز أن نسكت وأن نقعد عن نضالنا في سبيل استقلالنا. فقال ما معناه بأنه حينما يكون مجال للعمل فإنه يستدعيني. ولم يمرّ إلاّ قليل حتّى كانت نكسة من هذه النكسات، وأقام الفرنسيون «حكومة المديرين»، أي أنهم عزلوا الوزراء وأبعدوهم وعطّلوا الحكم النيابي، وجاؤوا بمديري الوزارات فسلّموهم أمر إدارة الحكومة. وكان رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب، وهو قريب الشيخ فؤاد الخطيب الشاعر العربي الكبير الذي تعرفونه، وأحسب أنه أخوه ولا أؤكّد ذلك الآن (¬1). وهذه الأسرة ¬

_ (¬1) وقد أكّده لي الأستاذ زهير الشاويش.

من لبنان من بلدة شحيم وليست لها قرابة بآل الخطيب، الأسرة الدمشقية الكبيرة التي منها أمي ومنها زوجتي. وكان يلي أمرَ المعارف الأستاذ عبد اللطيف الشطي، ونسيت بقية أسماء المديرين الذين حلّوا محلّ الوزراء. كانت حكومة المديرين من حيث ضبط الأعمال واختصار النفقات حكومة ممتازة، ولكنها ليست حكومة وطنية ولا شعبية، كان الوزراء فيها هم المديرون. سمعت بهذا كله وأنا في كركوك، بعيد عن بغداد وبعيد عن الشام، ولا تكاد تصل إلينا الأخبار إلاّ متأخّرة. فضاق صدري واشتغل فكري، وخفت أن تقوم الحرب فينقطع ما بيني وبين إخوتي وأهلي، وكنت قد عقدت زواجي (عقداً فقط). ففكّرت طويلاً واستشرت كثيراً، ثم عملت ما ينبغي للمسلم أن يعمله بعد التفكير وبعد أن يستشير، وهو أن يستخير الله. والاستخارة المشروعة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلّم أصحابه كيف يعملونها وماذا يَدْعون فيها كما يعلّمهم سائر أحكام الدين. وليست الاستخارة كما يظنّ الجَهَلة قعوداً عن العمل ولا جنوحاً إلى الكسل، ولا هي من باب التعلّق بمغيّبات لم تتحقّق، بل إن سرّ الاستخارة أن طاقة الإنسان محدودة وأنه يرى أول الطريق ولا يبصر آخره، وأن الأسباب لا توصل دائماً إلى النتائج، لذلك كان علينا أن نبذل جهدنا كله وأن نُحكّم عقولنا وأن نستعين بعقول غيرنا، وهذه هي الاستشارة، ثم ندع الاعتماد كله على الله، ثم نقول ما معناه: يارب هذا جهدنا وهذا مبلغ علمنا،

وأنت القادر على كل شيء والعالِم بالنتائج، فإن كان هذا الأمر الذي نفكّر فيه «خيراً لنا في ديننا ودنيانا ومعاشنا ومعادنا فيسّره لنا وهوّنه علينا، وإن كان شراً فاصرفه عنّا واصرفنا عنه، واقدر لنا الخير حيث كان ثمّ رضّنا به». أمّا الاستخارة بأن نذهب إلى إنسان آخر ونطلب منه أن ينام على نيتنا، وأن ينظر ما يراه في منامه فإن رأى ما يسرّ كان الأمر خيراً وإن رأى ما يضرّ كان الأمر شراً، فهذه ليست الاستخارة الشرعية. ربما يكون هذا الرجل قد أكل كثيراً فسبّب له الأكل عُسراً في الهضم، أو يكون مريضاً قد ارتفعت حرارته فرأى في منامه أضغاث أحلام، فما ذنبي أنا بها؟ وما العلاقة بينها وبين ما أفكّر فيه؟ أقول: إنني فكّرت واستشرت واستخرت الله، فانصرف قلبي إلى الاستقالة والعودة إلى دمشق، فاستقلت وسافرت. ولمّا دخلت انتخابات سنة 1947 (وهي الغلطة الكبرى التي ارتكبتها في عمري، وسيأتي حديثها، وأراد الله لي الخير فلم أنجح فيها) كتب أحد خصومي في الجرائد يقول لي: هل نسيت ما فعلتَه في العراق ولماذا أخرجوك منه؟ وهذا أسلوب من أساليب الحرب القلمية لا يفعله ذو خلق وذو دين، ولكنه يؤثّر في الناس ويسوّئ سُمعة من يُقال عنه هذا الكلام، فتفضّل الصديق الوفيّ والأستاذ الكبير مدّ الله في عمره الشيخ بهجة الأثري فكتب رسالة يردّ فيها على أمثال هذا الرجل، ويشهد بأنني ما عملت في العراق إلاّ خيراً ولا تركت إلاّ أثراً طيّباً. * * *

تركت العراق وعدت إلى الشام. ركبت القطار إلى حلب عن طريق تلّ كوشك، فلما وصلت حلب كان لي فيها اثنان: صديق العمر ورفيق الدراسة الشيخ مصطفى الزرقا، وحمي (حمي على وزن كلمة أبي وأخي، أي والد زوجتي) الأستاذ صلاح الدين الخطيب، وكان مستشاراً في محكمة الاستئناف. وكانت تلك أول مرّة أزور فيها حلب، فقلت لسائق السيارة: خذني إلى فندق مريح ومعروف. فأخذني إلى فندق بارون، وهو أقدم فنادق حلب وبقي أكبرها مدّة طويلة، وأحسبه أُغلِق من سنوات معدودة. ذهبت إليه وكان فيه رفيقنا في الدراسة الأستاذ وجيه السمّان الذي جمع بين العلم بالهندسة وبين الأدب، وهو خرّيج المدرسة المركزية (إيكول سنترال)، وقد صار من بعدُ المدير العامّ للكهرباء وصار أيام الوحدة وزير الصناعة وصار عميداً لكلّية الهندسة. فسألت عنه في الفندق فلم أجده. فسألت عن الشيخ مصطفى الزرقا فدلّوني على بيته، وكان وسط البلد في ساحة كبيرة مثل ساحة المرجة في دمشق، ولجهلي إلى الآن بمدينة حلب لا أعرف اسمها. فلم أجده فكتبت ورقة وقلت له فيها إنني في فندق البارون. ثم أردت أن أرى البلد وأن أُمضي الوقت فركبت خطوط الترام. وهذه أقرب وسيلة للغريب ليعرف البلد الذي نزله؛ أن يركب في سيارات النقل الجماعي أو في الترام فيقطع بها البلد، فيراها كلها ولا يضيع فيها لأنه يرجع إلى المكان الذي ركب منه.

ولمّا رجعت إلى الفندق خبّروني أن الأستاذ الزرقا سأل عني، والعجب أنهم أنكروا وجودي في الفندق، لا تعمّداً منهم ولا جنوحاً إلى الكذب ولكنه سألهم عن «الشيخ علي الطنطاوي»، قالوا: ما جاء في الفندق أحد من المشايخ. قال: لقد وصل أمس وزارني وكتب لي هذه الورقة. قالوا: ما نزل عندنا بالأمس إلاّ ضابط من العراق. وظنّوني ضابطاً، فلما رأى اسمي قال: هذا هو. ذلك أنني لم أستطع أن أخلع هذا الحذاء العجيب من قدمي إلى اليوم الثاني، فتوضّأت ومسحت عليه لأنني مسافر وقد لبسته على طهارة. ولقيت الأستاذ الزرقا. * * * ذهبت فوراً إلى دمشق، وكنت قد كتبت إلى وزارة المعارف لأستعيد عملي في التدريس فصدر قرار الأستاذ عبد اللطيف الشطي رحمه الله بتعيِيني أستاذاً معاوناً في مدرسة التجهيز، أي الثانوية الرسمية. وهي التي كانت تُدعى مكتب عنبر، فلما أنشؤوا لها هذه العمارة الضخمة الكبيرة على عهد الشيخ تاج الدين الحسني نقلوها إليها. باشرت التدريس فيها خلفاً لأستاذنا الإمام اللغوي الشيخ عبدالقادر المبارك. وكان من تلاميذي فيها جماعة نبغوا وصاروا أدباء وصار منهم قضاة، منهم الأخوان عبد القادر ونشأت سلطان، وعبد القادر سلطان هو الآن مستشار في محكمة النقض، ومنهم اثنان أخوان من أولاد شيخنا الشيخ المبارك هما عدنان وهاني. أمّا الأستاذ الدكتور مازن المبارك فهو أصغر منهما، ولمّا كنت

أزور شيخنا الشيخ عبد القادر كان طفلاً صغيراً يدعوه إلى مجلسنا ليعجبنا من أجوبته ومن ذكائه ومن طلاقة لسانه، وهو الذي خلف أباه في العربية والاشتغال بها بعد وفاته ووفاة أخيه الأكبر رفيقنا الأستاذ محمد المبارك، رحمة الله عليهم جميعاً. وقعت لي في تلك السنة حوادث، كان أظهرها وأشهرها أنه جاء يوم ذكرى المولد النبوي، وكان الناس في الشام يقيمون الاحتفالات تُلقى فيها الخطب والمواعظ بهذه المناسبة، كما يقيمونها بمناسبة يوم الهجرة ومناسبة ذكرى بدر وذكرى فتح مكّة. وهذه الاحتفالات إذا ادّعى مُدّعٍ أنها من الدين وأنها قربة إلى الله قلنا له: لا، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلّغ الشريعة كلها ولم يترك باباً ندخل منه إلى رضا الله إلاّ دلّنا عليه وفتحه لنا. ومن ادّعى أن إقامة هذا الاحتفال وهذه الخطب وهذا التذكير في يوم المولد أفضل منه في غيره قلنا له: لا، لأن الأيام لا يفضل بعضها بعضاً إلاّ بدليل شرعي. وحكم هذا الاحتفال أنه إن كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ونشر العلم، فهو مطلوب في كلّ وقت، غير أن تخصيصه بيوم معيّن -إذا ادّعي أن إقامته في هذا اليوم أفضل من إقامته في غيره- كان ذلك بدعة. والخلاصة أن الطلاّب أرادوا الاحتفال بذكرى المولد، ولم تكن في المدرسة على ضخامة بنائها وجدّتها قاعة كبيرة تتّسع للطلاّب جميعاً، فصار طلاّب كلّ سنة من السنين يُقيمون حفلة

مستقلّة. وكان يدرّس اللغةَ العربية في الصف السادس الأستاذ ياسين طربوش، وفي الصف السابع بشعبه كلها أنا، وفي الصفّ الثامن والتاسع الأستاذ الشاعر محمد البزم، وكان يدرّسها في الصفوف العاشر والحادي عشر أستاذنا سليم الجندي. بدأ طلاّب الصفوف العليا بالدعوة إلى اجتماع لمحاضرات بمناسبة المولد، وكان من زملائنا في المدرسة مدرّسون كانوا من رفاقنا في الدراسة، منهم الأستاذ نظيم الموصلي وقد تُوفّي، وكان من زملائنا الأستاذ ميشيل عفلق، ولم يكن قد دعا بدعوته. فكتب خطبة ألقاها عنه زميله وزميلنا الأستاذ نظيم الموصلي، تضمّنَت هذه الخطبة تعظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام وتمجيداً له وذكراً لشمائله، ولكنه تكلّم عنه كما يتكلم عن عظيم من عظماء غير المسلمين. ما ذكر الرسالة ولا أشار إلى النبوّة، فكأنه يتكلّم عن عظمته البشرية فقط. ونظرت إلى الأستاذَين الحاضرَين: الشيخ محمد بهجة البيطار والأستاذ عزّ الدين التنوخي، فأنكرا بنظراتهما وبإشارة خفيّة من أيديهما، ولكنهما لم يتكلّما. وكنت يومئذ ألتهب حماسة، فما كان مني إلاّ أن وضعت كفّي على طرف المسرح الذي يخطبون عليه وقفزت فصرت فوقه، وأخذت بعنق ثوب الخطيب فجذبته ورميت به من فوق المسرح، فوقع على مَن في الصف الأول: على أستاذنا جودة الهاشمي وعلى إخوانه! واستلمت أنا مكبّر الصوت (الميكروفون) وردَدت عليه وتكلمت عن الرسول عليه الصلاة والسلام باعتباره خاتم الأنبياء، وأنه بشر مثلنا ولكنْ يوحى إليه، وأن عظمته

بالوحي ... وأمثال هذا الكلام. اضطربَت الحفلة وهاج الناس، وكثر المتكلّمون وخرجوا، وكانت لها عقابيل. أما الطلاّب فقد كتبوا عرائض وقّعوها، فكان أكثرهم عدداً معي وكانوا مؤيّدين لي، وكانت قلّة قليلة جداً منهم مؤيّدة له. وكنت عنيفاً في ردودي وفي مجادلاتي فشرعت أتكلم عنه (عن عفلق) في الدروس وأمام الطلاّب، وقلت لهم الكلمة التي انتشرت حتّى كادت تسير مثلاً من الأمثال على ألسنة الناس؛ قلت لهم: هذا الذي يدّعي العربية ونصرتها والدفاع عنها، ما فيه من العربية إلاّ أن اسمه مكتوب في القاموس المحيط (باب القاف فصل العين)، ورجعوا إلى القاموس وعرفوا معنى الكلمة! واجتمعت الجمعيات الإسلامية كلها، ونشرت منشوراً واحداً طبعَته ووزّعَته تأييداً لي ونصرة لموقفي، بل اجتمع على توقيع المنشور الذي أخرجوه قومٌ لم يجتمعوا قبل ذلك على أمر. عرفتم أنني لا أعتمد في كتابة هذه الذكريات على مذكّرات مكتوبة في وقتها، بل على ما بقي في ذهني منها وعلى الأوراق الرسمية بنقلي وتعييني التي ما زلت أحتفظ بها. وممّا أحتفظ به هذا المنشور، ولو كنت أكتب هذه الحلقة وأنا قريب من الجريدة لبعثت نسخة منه فنُشرت مع هذه الحلقة، ولكني أسجّلها وأنا بعيد عن أوراقي وكتبي؛ هي في مكّة وأنا أسجّلها في جدة، والأخوان في الجريدة جزاهم الله خيراً طاهر أبو بكر وحاتم، هذا ينقلها وله الفضل من الشريط إلى الكتابة وذاك يقرؤها عليّ، ثم يُعيد النظر في تصحيحها أخونا الأستاذ عادل الصلاحي، وهو

الذي كتب الحاشية القيّمة عن القراءة التي يقرأ بها أهل السودان، فكان عليّ أن أذكر هذا ليُنسَب الفضل إلى ذويه. وكان ممّن ناصرني أشدّ المناصرة الأستاذ عبد الوهاب الأزرق، وكان يومئذ شاباً، وكان هو القائم على جمعية الشبّان المسلمين. والأستاذ الأزرق ذهب إلى رحمة الله، وقد كان قاضياً كبيراً، وكان يومئذ رئيس الجمارك العامّة، وكان يوماً رئيس القضاء العسكري. وممّن ناصرني أشدّ المناصرة جمعية الهداية الإسلامية التي يقوم بها ويقوم عليها شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني، والأستاذ نقيب الأشراف السيد سعيد الحمزاوي، والشيخ عبدالقادر العاني، رحمهم الله جميعاً. والأخوان الكريمان رفيقا العمر الشيخ ياسين عرفة والشيخ كامل القصار. وكانت عاقبة ما فعلت أنهم نقلوني -عقوبةً- إلى دير الزور ونقلوا نظيم الموصلي إلى حلب، وسيأتي إن شاء الله الحديث عن ذلك. * * *

إلى دير الزور

-113 - إلى دير الزّور من هون لأرض الدير ... ...................... والسرّ اللّي بينّا ... إيش وصّلو للغير؟ وانْ كان ما في وَرَقْ ... لاكتُبْ عَ جْنَاحِ الطيرْ وانْ كان ما في حبر ... بِدْموع عينَيّا هذا مقطع من الأغنية الشعبية التي كانت تمشي على كل لسان وتستريح إليها الآذان: «هيهات يا بو الزلوف ...». إنها من الفن الشعبي (الفلكلور)، أغنيات لا يملكها أحد ولا يحرم منها أحد. إنها كالشوارع والساحات، كالغابات والأنهار ... مَن يعرف بداية جريان الأنهار؟ من يعرف كيف نبتت في الغابات الأشجار؟ غابات الأرْز التي لم يدرك التاريخ بدايتها، الأشجار العمالقة في كليفورنيا التي سبقت إلى الوجود بني الإنسان (¬1)، هذه الثروة ¬

_ (¬1) تعيش في كليفورنيا شجرة السّيكويا العملاقة، وهي أضخم الكائنات الحية على الأرض ويزيد وزنها على ألفَي طن، ويبلغ عمر بعض هذه الأشجار آلاف السنين ويصل ارتفاعها إلى أكثر من مئة متر (مجاهد).

الفنية العامة: العتابا، والميجنة، والأبوذية، والنخلتين في العلالي اللتين صار بلحمها دوا، والعطاش الذين ينادي المنادي دائماً يدعو إلى سقياهم «اسق العطاش تكرما» ... أغانينا في الشام التي انبثقت من كل نبع يتفجّر من وراء الصخرة في لحف الجبل، ثم ينحدر متقلباً في أحضانه، ثم يسبح في بركة على سفحه، ثم يهيم مع السواقي الضائعة في الأودية المسحورة، يغسل أرجل الدوح في الغاب، سهوله وسوحه، لا يعرف أحد مبتداها ولا يمكن أن يعرف أحد منتهاها. وقد تَذيع أغانٍ حتى يُظَنّ أنها من هذا الفن الشعبي (الفلكلور) وما هي منه، كأغنية «يا مال الشام»، فشرط الفلكلور أن لا يُعرَف مؤلفه ولا ملحنه وهذه أغنية ألّفها ولحنها أبو خليل القباني. * * * وأنا ما جئت اليوم أتكلم عن هذا الدير الذي أُلِّفت فيه وفي الأحبة من ساكنيه الأغنية التي افتتحت بها المقال، ولا عن الأديِرَة التي تحدث عنها ياقوت وأورد بعض ما قيل فيها من بارع الأشعار، يوم كان الدير مهوى أفئدة الشعراء الفسّاق والفتية العشّاق، لا يؤمّونه لعبادة وتبتّل، بل يؤمّونه للهو البريء منه والمتهَم. الدير الذي أقصده هو دير الزور؛ المحافظة السادسة في سورية بعد محافظات دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية، المحافظة التي كانت أيام الفرنسيين منفى لكل مغضوب عليه من

الموظفين؛ المدينة العراقية التي وُضعت في الجمهورية السورية كما أن الموصل بلدة شامية سكنت جمهورية العراق (وما في الإسلام عراق غريب عن الشام، كلهن أخوات شقيقات في الأسرة الواحدة التي هي أسرة أهل القرآن)، يشهد بذلك أبنيتها ومسالكها، وعادات أهلها وثيابهم ولهجاتهم. اذهب إلى الموصل ثم إلى حلب، هل تحس أنك قد انتقلت من بلد إلى بلد؟ وزر الدير وأخواتها المنثورات على شط الفرات، راوة وعانة إلى البوكَمال، هل بينها من فرق؟ قلت لكم إني نُقلت عقوبةً إلى الدير إثر ما كان بيني وبين نظيم الموصلي وعفلق، والمسافة على الأرض بين دمشق ودير الزور لا تقل عن المسافة بين دمشق وبغداد، ولكن السفر إلى بغداد (كما عرفتم) كان بسيارات كبيرة أُعدت لهذه الرحلة الطويلة، وكان فيها الماء البارد وفيها بعض وسائل الراحة، أما السفر من دمشق إلى الدير فكان بسيارات كالسيارات التي تنقل الناس إلى ضواحي دمشق وإلى الأقضية القريبة منها، لا استعداد فيها ولا راحة ولا سعة في المكان. ولقد كتبت مقالات نشرتها عن هذه الرحلة فلا أُعيد ما فيها، ولو أردت إعادتها لما وصلت إليها لأنني أُملي هذه الحلقة وما عندي شيء من كتب ولا أوراق. كتبت تلك المقالات بقلم الأديب وابتغيت فيها مسايرة الفن، أما الذي أكتبه اليوم عنها فإنه وصفٌ لما وقع لا أريد منه إلا أن أذكر ما كان. وهل أستطيع ذلك؟ وأنّى لي به وأنا لا أعتمد إلا على ذاكرة لم تُبقِ منها الأيام إلا ما يبقى من الدار العامرة التي عصف بها الدهر ومشت عليها

السنون، فلم يبقَ من منازلها ودورها إلا أنقاض وأطلال! كانت السفرة إلى الدير سنة 1940، وأذكر أن موعد السفر كان بعد صلاة الفجر. تواعدنا على أن نصليها في جامع يَلبُغا في ساحة المرجة التي كانت أكبر ساحات دمشق، هذا المسجد الكبير الذي سرق العثمانيون نصفه الشمالي فجعلوه مدرسة دَرَستُ فيها سنة 1918، وجاؤوا الآن يريدون أن يسرقوا ما بقي منه سرقة مبطنة فيبنوا بناءً عالياً، يجعلون بعضه للمسجد والباقي لما لا يأتلف مع رسالة المسجد وربما أسخط من تُبنى له المساجد. وهذا مشروع قديم عارضته مرات لمّا كنت في الشام وكان لي لسان وكان صوتي مسموعاً وكان كلامي مؤثراً، ولست أدري الآن مَن يحول بينهم وبين هذا العدوان. صلينا الفجر في المسجد وذهبنا إلى السيارة (¬1) لتمشي بنا، ولكنها مواعيدنا! وأين منها مواعيد عرقوب التي ضُرب المثل بها؟ هل عندنا موعد نفي به؟ هل تُنصَب المائدة في الوليمة في الساعة المحددة لها؟ هل يبدأ الحفل في موعده؟ هل نعمل شيئاً في وقته؟ هذه سيرتنا في أمورنا الخاصة بنا والعامة بيننا، في دورنا وفي أسواقنا وفي سلمنا وحربنا، لولا هذا التسويف والتأجيل ولولا إخلاف المواعيد ما ضاعت منا فلسطين! لم تتحرك بنا السيارة إلا بعد ثلاث ساعات. دخلناها فإذا ¬

_ (¬1) هي الحافلة. وغالباً ما استعمل جدي في كتاباته مفردة «السيارة» دلالة على «الحافلة»، فحيناً يفهم القارئ من السياق أنها حافلة ليست سيارة، وأحياناً يختلط عليه الأمر فيظنها سيارة صغيرة (مجاهد).

هي ضيقة مقاعدها صغيرة، لا يستطيع المرء أن يمشي بينها، وقد ملؤوها على ضيقها بالأكياس وبالسلال والحقائب حتى لم يبقَ فيها مكان لإنسان. سارت بنا إلى دوما فمررنا على الجانب الشمالي من الغوطة، يوم كان في الدنيا غوطة، يوم لم تأكلها العمارات ولم ندفنها حية تحت أساس هذا البنيان. ثم على الكروم التي كانت تمتدّ أكيالاً (كيلومترات)، فيها العنب الدوماني الذي لا نظير له في الدنيا والذي يُصنع منه «الدبس»، وهو أخو العسل ليس له ميزاته ولكن له طعمه ولذته وفيه بعض غذائه، فذهبت الآن هذه الكروم، ما أدري أي آفة أصابتها حتى أحرقتها وأماتتها. وكنا حين نذهب إلى بغداد ننعطف يميناً إلى أبي الشامات، فذهبنا الآن قُدُماً إلى الثنايا، وفيها «ثنيّة العقاب» التي نزل منها خالد في رحلته العظيمة التي تؤلّف وحدها باباً في التاريخ العسكري في سرعة الانتقال وبراعة القيادة (¬1). ثم أخذنا طريق حمص ثم انعطفنا إلى تدمر والقريتين، وكان هذا الطريق هو الذي نسلكه إلى دير الزور. * * * كانت هذه السفرة في الشتاء وكان شتاء بارداً، وقد طال علينا السفر وتجمّدت أعضاؤنا من شدة البرد ومن ضيق المكان ¬

_ (¬1) انظر كتاب «عبقرية خالد بن الوليد العسكرية» الذي نشرته دار المنارة، وفي أوله مقدمة طويلة لعلي الطنطاوي تجدون نسخة منها أيضاً في كتاب «مقدمات الشيخ علي الطنطاوي» (مجاهد).

ومن قلة الحركة، ومللنا وضجرنا، ولكن لا سبيل إلى الخلاص، فقد كنا كالمصفَّدين بالأغلال لا نملك حرية ولا نستطيع حراكاً. وأذكر أننا وصلنا إلى شفير واد صغير ممتلئ بالسيل، يهدر هدير بردى في الوادي قديماً، تصطخب أمواجه ويعلوه الزبد ويضرب ماؤه الضفتين. ولم نكن نمشي على طريق (وما كان يومئذ إلى دير الزور ولا إلى بغداد طريق معبد)، فحرنا ماذا نعمل، واختلفت آراؤنا: أننتظر حتى ينقطع السيل أم نخوضه بسياراتنا حتى نبلغ الضفة الثانية فنكمل طريقنا؟ ثم غلب رأي المغامرين (وكنت واحداً منهم) فهجمنا بالسيارة نريد أن نقطع الوادي السائل، فما كادت السيارة تتوسطه حتى وقف محركها ولم يعد يملك سائقها لها شيئاً، وصرنا كأننا في جزيرة عائمة بالماء يضرب جوانب السيارة ويكاد يدخل إلينا، بل لقد دخل فغمر أرضها ولم يعلُ عنها، فلم يبق إلا أن ننزل فنغوص في الماء وندفعها دفعاً. وكان إلى جانبي شرطيّ من أسرة كبيرة في حي الميدان ما فتئ الطريق كله يصدّع رأسي بذكر أعماله الوطنية التي نَفَوه من أجلها إلى دير الزور ويقصُّ عليّ من أنباء بطولته وإقدامه، فلما جاء الجِدّ وكان الامتحان وأقبلنا ننزل لندفع السيارة بقي في مكانه، فقلت له: ألا تقوم معنا؟ قال: إنني مريض! وبدأ يتوجّع ويتأوّه ويستميل قلبي لأن الماء يضره، فهددته بأن يقوم وإلا ألقيناه في الماء. فتأخر ولم يتقدم وأبى أن يقوم، فقصصت قصته على الركاب وأمرتهم

أن يحملوه ويلقوه في الماء، فحملوه وهو يحرك يديه ورجليه ويحرك لسانه بسبنا وشتمنا، فألقيناه في الماء ليشتغل معنا. وهذا جزاء من يقول ولا يفعل، ويدّعي ولا يثبت، ويزعم أنه بطل ثم يتبين أنه بطّال. عملنا أكثر من ساعة ونصف ساعة حتى أخرجنا السيارة من الوادي، ولكن ابتلت ثيابنا، ولم يكن معنا ثياب أخرى نستبدلها بها، وخفت أن يؤذيني البرد وأنا في هذه الثياب المبتلة. وكان ذلك ليلاً، فلما أضاء النهار وطلعت الشمس قلت: نقعد في الشمس لعل الثياب تجف، ولكنها كانت شمساً ضعيفة وكان شعاعها بارداً في هذه الأيام من الشتاء، فبقيت بالثياب المبتلة فأعقبَتني رثية (روماتيزم) آذتني مدة طويلة. مررنا بتدمر ورأينا أعمدتها وآثارها الجليلات الباقيات. وتدمر مدينة مسحورة كأنها من مدن ألف ليلة وليلة، لو أن متتبعاً جمع تاريخها ودوّن أخبارها لكان من ذلك سِفْر عظيم من أسفار التاريخ. تدمر التي كانت فيها الزبّاء ... أو زنوبيا أو زينب، فلست أدري ما اسمها على التحقيق وليس لها قيد في سجل الأحوال المدنية حتى أستخرجه وأعرف اسمها الثلاثي! تدمر هذه التي تدهش الناظر إليها بعظم أعمدتها التي تشبه أعمدة بَعْلَبك وإن كانت أصغر منها بقليل، صارت يوماً من الأيام منفى لمن يغضب عليه الحكام. كانت قصوراً زاهرة فصارت سجوناً الداخلُ إليها مفقودٌ والخارج منها (ومن يخرج منها؟) مولود! * * *

وبلغنا دير الزور. وكانت يومئذ (أي قبل ست وأربعين سنة) بلدة صغيرة ما فيها إلاّ شارع واحدة، في هذا الشارع فندق صغير نزلت فيه فبتُّ ليالي. وأنا أكره حياة الفنادق، لم أحبها قط وكنت طول عمري أهرب منها، فسألت إخواننا أن يجدوا لي أسرة تؤجّرني غرفة أعيش فيها، فقالوا بأن المسلمين لا يؤجرون غرفة في دورهم لرجل أجنبي، ولكن في البلد حياً اسمه الجبيلة فيه قوم من النصارى ربما وجدت عندهم ما تريد. واستأجروا لي غرفة عند أسرة فيها زوج وزوجة وطفلان، قوم مهذبون ذوو أخلاق أقمت عندهم قليلاً، ولكن كرهت الحي فعرضت عليهم أن أستأجر أنا داراً أختارها وأدفع أنا أجرتها وأسكنهم معي فيها، وأدفع لهم نصف نفقات الطعام والشراب على أن يقدم لي الطعام مُعَدّاً. فقبلوا، واستأجرت داراً في جزيرة بين فرعَي الفرات يسمونها «الحويقة» (لأن الماء يحيق بها من جهتيها). وكانت داراً جميلة تدخل منها إلى بستان واسع فيه أشجار عليها الثمار، وإلى يمينك غرفتان فيهما مرافقهما يقابلهما ثلاث غرف، أي أن هذه الدار تشتمل على بيتين، فسكنت أنا في الجهة اليمنى وأسكنت الأسرة التي انتقلت معي إلى الجهة الأخرى. ولم أُصادف الزوج أبداً، أما الزوجة وأطفالها فربما كنت ألقاهم، وكنت أغدو على المدرسة صباحاً بعد أن يُعَدّ لي الطعام وتوصله الطفلة إلى باب الغرفة، فإذا رجعت وجدت غدائي مُعَدّاً على مائدة صغيرة فأكلت منه ثم دخلت إلى الغرفة الداخلية فنمت فيها، فإذا انتهت القيلولة وخرجت وجدت الطعام قد رُفِع والشاي قد حل مكانه.

بقيت أيامي كلها في دير الزور مع هذه الأسرة، لم أشكُ منها شيئاً ولم أجد منها إلا خيراً. وكان الذي يتولى أمري ويساعدني على نيل كل ما أريد هو الشيخ حسين السراج رحمة الله عليه، كان لي في دير الزور كما كان الأستاذ الشيخ بهجة الأثري في بغداد، وكما كان قبلهما الأستاذ بكر الأرفلي في سلمية. وقد لقيت في دير الزور إخوة كراماً أجلاّء وأساتذة فضلاء، منهم القاضي الشيخ عبدالقادر مُلاّ حويش الذي صار -من بعد- صديقاً كريماً، وكان يسمر عنده جماعة من أفاضل أهل البلد يقرأ عليهم تفسيراً له اشتغل بتأليفه مدة طويلة (وأحسب أنه طبعه)، فكانوا يسمعون التفسير ويتحدثون، وربما لعبوا الشطرنج، ولأهل الدير براعة في لعبه. وممن عرفت فيها محمد العايش، وهو نائب دير الزور في المجلس النيابي وصار في وقت من الأوقات نائب رئيس المجلس، وكانت له منزلة بين رجال الحكم والسياسيين كما كان مثلها لبعض أمثاله من نواب الأطراف، منهم حكمت الحراكي نائب المعرة (معرّة النعمان)، وآل الحراكي هم وجوه المعرة ومقدَّموها، ومنهم آل نظام الدين: عبد الباقي نظام الدين وتوفيق نظام الدين، وأحسب أنهم من القامشلي في شمال الجزيرة، ولعل رئيس تحرير هذه الجريدة (¬1) منهم، ومن حوران وجبل الدروز جماعة من أمثال هؤلاء. وممن عرفت في دير الزور الشيخ سعيد العرفي خطيب ¬

_ (¬1) جريدة الشرق الأوسط، وهو الأستاذ عرفان نظام الدين.

الجامع الكبير، وقد كنت لقيته في مصر لما كان هارباً من الفرنسيين ومقيماً فيها، وكان صديقاً لخالي محب الدين الخطيب وذلك سنة 1928، وقد صار يوماً رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في دمشق، وكان متكلماً خطيباً جريئاً وله كتابات. ومنهم تاجر كبير في الدير من آل الهنيدي، مسكنه في الحويقة التي اتخذتُ داراً فيها على يمين السالك من الجسر الصغير على فرعَي الفرات إلى الجسر الكبير العظيم على الفرع الآخر. * * * أما المدرسة الثانوية التي نُقلت إليها فأذكر أنها كانت قريبة من مدخل المدينة من جهة الشام، وقد مُحيت من ذهني صورتها ولم يبقَ منها إلا بقايا، كان مديرها أستاذٌ فاضل من حلب اسمه بهجت الشهبندر، وكان معنا فيها رفيق لنا في الدراسة في مكتب عنبر كان بعدي بسنة واحدة (أي أنه كان رفيقاً للأستاذ محمود مهدي الإسطنبولي الكاتب المؤلف السلفي) هو الأستاذ أحمد عبود الفتيّح، وكان بين المدرسين رجل من دمشق مهذب كريم الخلق نسيت اسمه أحسبه صار -بعد- مفتش الرسم في المدارس الرسمية في دمشق. عرض عليّ مرة أن يصوّرني، فأخذ لوحة من الخشب وأخذ أصابع الألوان وبدأ يرسم وأنا قاعد أمامه، لم يقس طول وجهي وعرضه ولم يقدّر أبعاده ولم يرسم بقلم رصاص خطوطاً تحدد ملامحه، بل أخذ أصابع الألوان وبدأ يرسم بها رأساً، فلم تكن إلا جلستان حتى جاءت الصورة بمقاييسها وألوانها مطابقة لصورة وجهي! لا أعني أنها مثل الصورة الشمسية (الفوتوغرافية) بل أعني أنها جاءت مطابقة من غير مسوّدة ولا

مقياس، وأحسب أنها لا تزال موجودة عندي في الشام ... ويقول أهل الخبرة إنها صورة فنية. لا أذكر من تلاميذي في هذه المدرسة أحداً لقِصَر مدتي فيها، فما أقمتُ في دير الزور إلا أشهراً معدودة، إلا أنني كنت مرة أسجّل في جدة حديثاً للإذاعة وكان وزير الإعلام يومئذ فيها، وكان الوزير هو الشيخ جميل الحجيلان، فقابلته فرحّب بي وأكرمني وجعل يصفني بأنني أستاذه، فأخذت ذلك على أنه تواضع منه وتكرم وشكرته عليه. قال: لا، بل كنتَ أستاذنا حقيقة. قلت: أين ومتى؟ قال: في دير الزور سنة 1940، ثم ذهب يقرأ عليّ بعض ما كنت أشرحه من قصائد ومقطوعات في درس الأدب العربي! ولست أدري متى كان معالي الشيخ جميل في دير الزور ليكون طالباً في ثانويتها، ولكن الذي أدريه أن ذكر ذلك منه وهو وزير يدل على سمو في النفس وعلى كرم في الطبع. وجاءت عطلة نصف السنة فقلت أقضيها في الشام (¬1)، فأعددت عدة السفر ووضعنا أمتعتنا في السيارة وهممنا بالمسير، ثم رأينا بأنه لم يبقَ لموعد الصلاة إلا قليل، وكان اليوم يوم الجمعة، فاقترحنا أن تقف السيارة بباب المسجد فنصلي ثم نمتطيها ونتوكل على الله. ووافق على ذلك الركاب جميعاً، فلما دخلت المسجد جاءني الشيخ حسين السراج رحمه الله فقال: إن ¬

_ (¬1) أي في دمشق، فالشام -كما علمتم- عَلَم عليها عند السوريين، وعلى وسطها القديم عند الدمشقيين (مجاهد).

القوم يطلبون أن تلقي فيهم خطبة قبل أن تسافر. وكانت باريس قد سقطت في أيدي الألمان وكانت الاضطرابات قد عادت إلى الشام، فقلت له: أنت تعلم -يا شيخ حسين- أنني كالقنبلة التي لا يمسكها أن تنطلق إلا مسمار صغير، وأخاف أن تطغى بي الحماسة فأقول ما لا يناسب المقام، فإلى أي مدى يسمح لي الموقف بالكلام؟ فضحك وقال: قل ما تشاء، فالمجال أمامك فسيح. ألقيت خطبة من تلك الخطب النارية التي كان لها الأثر الكبير في نفوس الناس، غير أنها لم تكن مكتوبة فضاعت في المئات من الخطب التي ألقيتها ثم نسيتها ونسيها الناس، وأرجو أن يبقى لي شيء من ثوابها عند الله. لا أذكر من هذه الخطبة إلا جملة واحدة قلت فيها: لا تخافوا الفرنسيين فإن أفئدتهم هواء، وبطولتهم ادعاء، إن نارهم لا تحرق ورصاصهم لا يقتل، ولو كان فيهم خير ما وطئت عاصمتَهم نعالُ الألمان. كنت أحسب الناس في الدير مثل إخوانهم في دمشق؛ يخرجون بالمظاهرات يصيحون فيها ويهتفون ... ولم أكن أعلم أنهم مثل أهل بغداد، مظاهراتهم إعصار فيه نار، وزلازل تُدَمِّر وبراكين تنفجر! خرج الناس من المسجد يريدون أن يَصِلوا إلى الفرنسيين فيحطموهم، وجاءت الشرطة والجند لتمسك بي لأن المستشار (الكولونيل العسكري) أمر بالقبض عليّ، ولكن هذه الأمواج من الناس الثائرين حالوا بيني وبينهم فقنعوا من الغنيمة بالإياب، واستمرت هذه المظاهرات تمشي مع السيارة ... هل قلت تمشي؟ لا، بل إنها تهبُّ هبَّ العواصف وتطغى طغيان

الموج العاتي، حتى بلغنا آخر البلد ومشت سياراتنا، وتركنا الناس وهم يهتفون وتصنع بهم الحماسة صنيعها. ولما وصلنا القريتين وتدمر كان قد جاء الأمر بالهاتف لكل منهما بالقبض عليّ، ولكن ركاب السيارة -لِماَ بقي في نفوسهم من أثر الحماسة وما فيها من روح الإسلام وسلائق العرب- وقفوا بيني وبينهم حتى بلغت دمشق سالماً. * * * بعد أيام من وصولي إلى الشام استدعاني وزير المعارف، وكان الأستاذ محسن البرازي رحمه الله الذي عرفته في كلية الحقوق معيداً وأنا طالب فيها، ثم انتهى به الأمر أن قُتل مع حسني الزعيم. دخلت عليه فاستقبلني مرحّباً وآنسني بالكلام، ثم قال لي: كأن هواء دير الزور لم يوافقك فهل تحب أن تستريح أياماً؟ فقلت في نفسي: أتجاهل لأعرف ما الذي يريده. فقلت: لا؛ إن هواء دير الزور وافقني جداً وصحتي بحمد الله صحة حسنة. قال: أرى أن تستريح أياماً بعد هذا السفر الطويل. قلت: لا يا سيدي، لا أحتاج إلى راحة وسأرجع في نهاية العطلة النصفية. قال وقد نزع عن وجهه القناع: بلا كلام فارغ ... ما بدهم إياك! (أي أن المستشار الفرنسي يرفض عودتي إلى الدير)، فكان ذلك خيراً أراده الله لي. قلت: كيف أبقى هنا بلا عمل؟ قال: نمنحك إجازة مرضية. قلت: ولكني لست مريضاً. فضحك وقال: سنختار لك مرضاً ترضاه. * * *

دخولي في القضاء

-114 - دخولي في القضاء المكان: دمشق، التاريخ: سنة 1941م. أنا رسمياً مريض في إجازة، ولكني في الحقيقة صحيح ما بي من مرض إلاّ هذا المرض السياسي الذي فُرض عليّ، ولطالما أمرضَت السياسةُ ناساً كثيراً، ولكن ما شفت أبداً مريضاً. ثابرت على ما كنت فيه من الكتابة في الصحف اليومية، والمشاركة في أحداث البلد، والخطابة في المجامع وفي المساجد، والكتابة في مجلّة الرسالة. وقد توطّد مكاني فيها وصرت في الطبقة الثانية من كُتّابها، بعد الزيات والعقّاد والرافعي وطه حسين والمازني، وربما قُدِّمَت مقالتي على مقالة زكي مبارك، وهو أَكْتَبُ مني وأحلى أسلوباً. لمّا رأيت ذلك انتسبت إلى نقابة المحامين، أي أنني صرت محامياً. ومهنة المحاماة ليست سائبة، ولا هي عمارة بلا بوّاب يدخل إليها من شاء، ولكنها مهنة لها شروط، فلا يكون محامياً إلاّ من حمل إجازة الحقوق وتدرّب مُدّة سنتين في مكتب محامٍ من الأساتذة. وكنت قد نلت الشهادة منذ ثماني سنوات، فاضطُررْت

إلى الانتساب إلى مكتب الأمير بهجة الشهابي والأستاذ إحسان الشريف، وكان في المكتب رفيقنا في مكتب عنبر الأستاذ محمد الجيرودي. وكان نقيب المحامين يومئذ أستاذنا العبقري سعيد المحاسني، فقدّمت أوراقي إلى النقابة ودفعت رسم الانتساب، ولكني لم أرافع إلاّ في قضايا قليلة جداً، كذب عليّ المدّعي في إحداها فبنيت دفاعي على كلامه الكاذب، فلما تبيّن كذبه امتلأت خجلاً من القاضي. وكان القاضي هو الأستاذ صبحي القوّتلي الذي تشرّفت بزمالته في محكمة النقض، وأشهد أنه من أفضل القُضاة ومن أعقلهم ومن أعدلهم. وممّا ينغّص على المحامي عملَه أن يُعِدّ دفاعاً قوياً يستند فيه إلى الأدلّة القانونية والحُجَج المنطقية فلا يجد من القاضي إلاّ الإعراض عنه، وربما قصر فهمه عن إدراك ما جاء فيه. فتيقّنت أنني لا أصلح للمحاماة ولا تصلح المحاماة لي. * * * ربما كان لمصادفة صغيرة أثر في حياة الإنسان كبير. هي مصادفة بالنسبة إلينا، ولكن هذا الكون الذي وضع الله لكل شيء فيه أسباباً وربطه بنظام مُحكَم وقدّر كل ما فيه تقديراً دقيقاً ليس فيه مصادفات. هي مصادفة بالنسبة لنا، ولكنها عند الله خطّة مرسومة ومدوّنة في اللوح المحفوظ. كنت أسكن في حيّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون،

وكنت تلك الليلة في سهرة في الشام. ونحن نطلق اسم «الشام» على البلدة القديمة فقط، فمَن كان في حيّ الميدان أو كان في المهاجرين يقول: نزلت إلى الشام. وكذلك يُطلِق المصريون اسم «مصر» على البلدة القديمة فيقول مَن في شُبْرا: أنا نازل إلى مصر. وإن كان اسم الشام ومصر أعمّ في أصل اللغة وأوسع. جئت بعد انقضاء السهرة أريد أن أركب الترام ليصعد بي إلى بيتي في الجبل، فتأخّر، فوقفت في ساحة المرجة التي كانت تلتقي فيها خطوط الترام (قبل إلغائه ونزع خطوطه). وطال وقوفي فمللتُ، وجعلت أنظر حولي فوجدت إعلاناً مهترئاً على عمود الكهرباء أمام بناية «العدلية» القديمة. فقرأتُه، فإذا هو دعوة لحَمَلَة إجازة الحقوق للدخول في القضاء. نظرت في التاريخ فرأيت أنه لم يبقَ على آخر موعد لتقديم الطلب إلاّ يومان اثنان، فتركت الترام وأخذت عربة فذهبت إلى رفيقي محمد الجيرودي، ولم يكن قد تزوّج فكان يقيم في غرفة مستأجَرة عند أسرة نصرانية. فطلبت منه الكتب والمراجع وسألته أن يدلّني على طريق الاستعداد لهذا الامتحان. وكان الامتحان صعباً جداً؛ كلّ ما درسناه في كلية الحقوق نُطالَب به في هذه المسابقة لدخول القضاء، وأول ما طُلب منّا «المجلّة» (مجلة الأحكام العدلية). وكانت المجلة هي القانون المدني الذي نحكم به، وضعَتها في أواخر القرن الماضي لجنة من كبار علماء الدولة العثمانية كان منهم السيد علاء الدين عابدين (ابن صاحب «الحاشية»)، وكانت جامعة لأبواب الفقه

ففيها أحكام البيع والإجارة والوكالة والكفالة وفيها باب في أصول المحاكمات، وكانت لها مقدّمة في مئة مادّة تتضمّن القواعد العامّة في الفقه، كقولهم: «الأصل براءة الذمّة»، «القديم يبقى على قِدَمه»، «العِبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني» (¬1). وكنّا قد درسنا «المجلّة» مقسَّمةً على سنوات الدراسة في كلّية الحقوق، وكان مدرِّسنا الأستاذ سعيد المحاسني. وفي «المجلّة» نحو ألف وثمانمئة مادّة قانونية، ولولا أنها اقتصرت على المذهب الحنفي فقط، ولو أنها أخذت من المذاهب الأربعة، أو لو أن واضعيها اعتمدوا على الدليل وعلى ما يلائم روح العصر ولم يتقيدوا بالمذهب الحنفي ولا بغيره من المذاهب الفقهية، لكانت هي القانون المدني المنشود، لِحُسْن سبكها ودقّة تعبيرها، وإيجازها وبلاغتها وشمولها وإحاطتها (وإن كان العثمانيون نسفوا -بعدُ- أكثرَها بالمادّة 64 من قانون «أصول المحاكمات المدنية»). وكان عليّ للدخول في هذه المسابقة أن أراجع «المجلّة» كلها، وعندي لها شروح كثيرة: شرح الأستاذ سعيد المحاسني، وشرح باز، وشرح الأتاسي، وهو شرح فقهي قيّم. وكان عليّ-ثانياً- أن أؤدّي الامتحان في أصول المحاكمات الحقوقية (وتُسمّى في مصر أصول المرافعات المدنية). وكان عليّ -ثالثاً- أن ¬

_ (¬1) وفي كتاب «المدخل» لأخي الشيخ مصطفى الزرقا كلام واسع ونافع عن هذه القواعد.

أدرس قانون الجزاء (قانون العقوبات) وما طرأ عليه من تعديلات، وأن أدرس بعد ذلك أصول المرافعات الجزائية (أي الجنائية)، ومجموعة أخرى كبيرة من القوانين والنظم وقرارات المفوض السامي، الذي كان يملك وحده السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. السلطات الثلاث كانت مجموعة بشخص المفوض السامي، أي أنه كان أوسع سلطاناً من رئيس جمهورية فرنسا ومن رئيس مجلسها النيابي ومن رئيس مجلس قضائها الأعلى معاً! لقد أعطاني الأخ محمد الجيرودي ما أحتاج إليه من الكتب، فحملتها وذهبت إلى داري على أن أقدّم الطلب صباح الغد، ولكن اعترضني أنّ من جملة الشروط أن يكون الطالب قد أكمل مُدّة التمرين في المحاماة، وهي سنتان، وأنا لم أكمل تلك المدّة. فحِرْت ماذا أعمل، ولكن الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابه ويسّر وسائله، وذلك أنّ وزارة العدل لمّا وجدَت المتقدّمين لهذه المسابقة قلّة ووجدَت عددهم دون العدد المطلوب سهّلَت الأمر فألغت هذا الشرط، وسمحت لكل من يحمل إجازة الحقوق بدخول المسابقة ومدّدَت مدة تقديم الطلبات عشرة أيام. كأن الله أراد لي دخولها فأزال كلّ عائق أمامي، فقدمت الطلب وقُبلت في المسابقة. وكان بيني وبينها أمد نسيت الآن مقداره، فذهبت إلى بيتي وأغلقت عليّ بابي، وانقطعت عن الناس تماماً فلم أتصل بأحد. وكنت قد تزوّجتُ (وسيأتي خبر زواجي) ووُلد لي، فحالت زوجتي بين الناس وبيني أن يشغلوني، فعكفت على هذه الكتب وهذه القوانين، وفرّغت عقلي ووقتي لها

فلم أشتغل بغيرها، حتّى إنني أحطت بموادّ «المجلّة» كلها حفظاً عن ظهر قلب (وهي -كما قلت- 1800 مادّة) وبقوانين الأصول وقرار حقوق العائلة الذي كان قانون الأحوال الشخصية في تلك الأيام، وزدت على ذلك فبحثت فيه مادّةً مادةً وبيّنت من أين استُمِدّت موادّه، فما كان منها من المذهب الحنفي عرفته لأنني تفقّهت من صغري في المذهب الحنفي، وما كان مأخوذاً من المذهب المالكي (وهو كثير) سألت عنه الشيخ الكافي والصديق الفقيه الأديب الأستاذ عبد الغني الباجقني رحمة الله عليهما، فأرشداني إلى مكان وجوده في كتب الفقه المالكي المعتمَدة. ووجدت فيها مادّة تخالف المذاهب كلها، بل تخالف الكتاب والسنّة، فجعلت من عملي الحملة عليها في كل مكان والسعي لإبطالها وإلغائها، حتّى وفّق الله إلى ذلك يوم وضعتُ أنا مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري الذي يُطبّق الآن في سوريا. تلك المادّة هي أنه لا يجوز لأحد أن يزوّج البنت التي لم تكمل التاسعة من العمر، فإن زوّجها كان هذا الزواج باطلاً لا يُعتَدّ به ولا يكون له أثر معتبَر. ألقيت بعد ذلك محاضرات وكتبت مقالات أحمل فيها على هذه المادّة، وأقول إنها تقتضي اعتبار عقد الرسول عليه الصلاة والسلام على عائشة بنت أبي بكر عقداً فاسداً، لأن الرسول ‘ عقد عليها وهي بنت سبع سنين. وجاء يوم الامتحان ولم أكمل استعدادي، فأتمّ الله نعمته عليّ فأُجّل الامتحان لأن المتقدّمين كانوا أقل من العدد المطلوب، فجدّدت استعدادي وعكفت مرّة أخرى على هذه القوانين وهذه النظُم حتّى ظننت أنني استكملتها حفظاً وفهماً.

ودخلت الامتحان، وكنت فيه -بحمد الله- من أوائل الناجحين، وعُيّنت قاضياً شرعياً في منطقة النَّبْك. كان القاضي الشرعي يومئذ في مصر يختلف وضعه عن القاضي المدني؛ لأنه متخرّج في الأزهر والقاضي المدني في كلّية الحقوق، ولأنه لا اطّلاع له على القوانين الأجنبية واللغة الأجنبية. أما الوضع عندنا في الشام فعلى غير ذلك؛ إذ كان كل من القاضي المدني والقاضي الشرعي يُشترط فيه أن يكون حاملاً إجازة الحقوق، ولا يحملها إلاّ من أكمل الدراسة الثانوية ونال شهادتها، ولا يكملها وينال شهادتها إلاّ من عرف لغة أجنبية وأتقنها، فلم يكن في الحقيقة فرق كبير في سوريا بين القاضي الشرعي والقاضي المدني. لذلك كان من المألوف عندنا أن يُنتدب القاضي الشرعي للقيام بعمل حاكم الصلح (أي القاضي الجزائي) وأن يكون عضواً في محكمة البداية (المحكمة الكبرى) أو مستشاراً في محكمة الاستئناف. نجحت في الامتحان وعُيّنت قاضياً، ولكنني لم أسارع إلى استلام العمل بل طلبت من الوزارة أن تُمهِلني شهراً. لا لألعب فيه وأستمتع ولا لأسافر وألهو، بل لأواظب في المحكمة الشرعية في دمشق حتّى أعرف المعاملات كلها: ابتداء من عقد النكاح وحصر الإرث وتنظيم الوصيّة، إلى الحكم في قضايا الإرْث والزواج والوقف ... كان وزير العدل الزعيم الوطني زكي الخطيب، وقد مرّ ذكره لمّا تكلمت عن حسن الحكيم، وقلت إنهما من أنزه مَن

عرفت بلادنا من السياسيين ومن أنظفهم. وزكي الخطيب هو ابن عم أمي، لكنني لم أستغلّ هذه القرابة بيني وبينه بل طالبت بحقّ قانوني، فأمهلني شهراً كنت أواظب فيه على المحكمة الشرعية. وكان الذي يرشدني ويدلّني أخونا الأستاذ صبحي الصباغ الذي كان بعدي في كلية الحقوق، والصديق الأستاذ الشيخ أنيس الملوحي، وقد تُوفّي رحمه الله. لم أدع معاملة ولا قضية يمكن أن تَرِد على المحكمة إلاّ بعد أن عرفت طريقة تقديمها وأصول النظر فيها؛ ذلك أنّ القاضي الذي يتسلم عمله وهو غير مطّلع على ذلك يتحكم فيه رئيس الكُتّاب ويصرّفه كما يشاء، وأنا لا أريد أن يتحكم بي من هو دوني (ولا أريد أن أشمخ بأنفي على من هو دوني). ذهبت إلى النَّبْك. والنبك في اللغة جمع نَبْكة، والنبكة هي الأرض المرتفعة. وقضاء النبك في ذروة جبل من جبال لبنان الشرقية ترتفع عن سطح البحر أكثر من ألف وخمسمئة متر، وإلى جنبها يَبْرود، وهي أعلى منها وأجمل منظراً وأكثر ينابيعَ وعيوناً، وكلاهما مَصِيف مقصود. أهل النبك يقيمون في منطقة جبلية لا زرع فيها ولا ضرع، فهم يذهبون إلى أمريكا لا سيما الجنوبية منها، لذلك تجد بينهم أغنياء وتجد بينهم فقراء. * * * كانت أول قضية قابلَتني قضية ضخمة جداً، إضبارتها تعدل في عدد صفحاتها جزأين من القاموس المحيط لا جزءاً واحداً.

وكان كبار المحامين يأتون من دمشق للنظر فيها، وكانت قضية إرث على مبلغ كبير. فتهيّبتها ولم أعرف من أين أبدأ النظر فيها، وبقيت ليالي أسهر عليها، أخشاها فلا أمدّ يدي إليها. ثم وجدت أنه لا بد من دراستها، فقرأت مئات من صفحاتها، ثم خطر لي خاطر هو أن أبدأ الدعوى من أولها، فقرأت الادّعاء فوجدت المدّعي يقول بأن القاضي حصر الإرث في فلان وفلان إلخ، فأعطاه أكثر ممّا يستحقّ. رفعت يدي عن الأوراق متعجّباً؛ إنها دعوى غير صحيحة، لأن الدعوى الصحيحة هي التي يطلب فيها المدّعي طلباً مشروعاً ليُحكَم له به على خصمه، وهذا لا يطلب شيئاً، لا يقول أعطَوني أقل ممّا أستحقّ فأكملوا لي استحقاقي، بل يقول: إن الذي أخذتُه أكثر ممّا أستحقّ فأطلب تعديل الحكم. وعجبت كيف خفيَت هذه الحقيقة الظاهرة على مَن نظر في الدعوى قبلي من القضاة، بل كيف خفيَت على كبار المحامين الذين كانوا يأتون من دمشق إلى النبك، مسافة ثمانين كيلاً، ليحضروا الجلسة ويُدلوا بما لديهم من دفوع! وشككت في نفسي، فرجعت إلى قراءتها مرّة ثانية لعلي كنت مخطئاً، فوجدت بعد الإعادة والتكرار أن الدعوى من الأصل غير صحيحة، أي أنها عِمارة من عشرة أدوار أُقيمت على غير أساس! فأويت إلى فراشي مطمئناً، ونمت مسرعاً على خلاف عادتي، لأن الغالب عليّ أن أتقلب في الفراش، تتصادم الأفكار في رأسي يضرب بعضها بعضاً فيوقظني من غفوتي، لكنني في

تلك الليلة نمت وفكري مستريح. وأصبح الصباح وغدوت على المحكمة، وجاء المحامون الكِبار، ولا أحبّ أن أسمّيهم لأن منهم من مضى إلى رحمة الله ومنهم من صار متقاعداً. والمحامون أمام القاضي الجديد كالطلاّب الكبار مع المعلّم الجديد: تكون معركة خفيّة بين الفريقَين، المحامون يريدون أن يعرفوا قوّة هذا القاضي من ضعفه، وعلمه من جهله، وحزمه من لينه، ففاجأتهم بقرار: "سُئل الطرفان عن كلامهما الأخير". وهذا القرار إنما يكون بعد استيفاء المرافعات في آخر الدعوى ليُعلن بعده ختام المحاكمة ويصدر الحكم. فتعجّبوا، واعترضوا عليّ وتعالت أصواتهم، وحسبوا أنني قاضٍ ضعيف لا يدري ما يقول. ولكني أخذتهم بالحزم، وأفهمتهم أن هذا قرار لا يجوز لهم الاعتراض عليه إلاّ بعد ختام الدعوى واستئنافها أمام محكمة أعلى. فسكتوا على مَضَض ينتظرون ماذا سيكون مني، يتوقّعون أن يسمعوا قراراً يتّخذونه نكتة بينهم، يتندّرون به على وزارة العدل التي تُقيم في القضاء مَن لا يعرف أصول القضاء، فإذا القرار: "لمّا كان الادّعاء مَنوطاً بالمصلحة، وكان المدّعي لا مصلحة له في هذا الادعاء ولا يطلب شيئاً لتحكم المحكمة له به، لذلك أقرّر ردّ الدعوى (أي رفضها) لِما ذكرت، حُكماً قابلاً للتمييز (أي لمراجعة محكمة النقض) ". انتهت المحاكمة. ونظرتُ إليهم فإذا هم مثل الذي يصحو من حلم عجيب. لقد تنبّهوا إلى أنهم كانوا يسيرون في طريق لا

يوصل! ويضحكون من أنفسهم ويهنئونني على هذا القرار. وذهبوا فحدّثوا به في الأوساط القضائية في الشام، فكان -والحمد لله- خير ابتداء لعملي في القضاء. * * * التقسيمات الإدارية في سورية تتبع ما كانت عليه الحكومة العثمانية، فتتألف من أقضية، و «القضاء» هو أصغر هذه الأجزاء الإدارية، ومن مجموع الأقضية تكون «الولاية» (أو «المحافظة» كما سُمّيَت الآن)، ومن مجموع المحافظات تكون الحكومة. فالقضاء صورة مصغَّرة للحكومة بوزاراتها كلّها، يَرئسها (¬1) قائم المقام وهو ممثّل وزارة الداخلية، يليه -تبعاً للتشريفات العثمانية- القاضي الشرعي، ثم حاكم الصلح، ثم مدير المال (ممثل وزارة المالية)، والطبيب الذي يمثِّل وزارة الصحّة، وممثّل المصرف الزراعي ووزارة الزراعة، إلى آخره. أي أن لكل وزارة من الوزارات ممثّلاً من قِبَلها يمثّلها في القضاء. وجدت الموظفين يجتمعون كل ليلة عند قائم المقام. وكان قائم المقام يومئذ في النبك رجلاً إدارياً قديماً من حيّ القيمرية في الشام، مهذّباً رقيق الحاشية يحسن معاملة الناس، ولكنه بعيد عن جوّ العلم والأدب. ووجدت الأحاديث في هذه المجالس تافهة لا منفعة منها، بل لا متعة فيها، فأعرضت عنها. وانتقيت جماعة ¬

_ (¬1) الشيخ عبد القادر المغربي، أستاذنا الذي صار يوماً رئيس المجمع العلمي، بحث في هذه المادّة (أي رأس) فتبيّن له أن الأقرب إلى الصواب أنها «رأَسَ يَرْئِس».

من الموظفين، على طريقة الشيخ سليمان الجوخَدار (الذي تقدّم الكلام عنه) وجعلنا نقرأ كتاباً ونتحدث حديثاً علمياً، نحدّد موضوعه قبل الجلسة. وانضمّ إلينا جماعة من أفاضل أهل البلد منهم شابّ (أو يومئذ كان شاباً) متخرّج في المدرسة الخسروية في حلب، بعمامة بيضاء هو الشيخ عبد الفتاح مالك الذي صار من كبار موظفي الأوقاف، وعلمت أنه غدا متولي الجامع الأموي في دمشق والمشرف عليه. وكان الشيخ عبد الفتاح هذا يلازمني ويكون معي دائماً، وكنت أطمئنّ إليه وأُسَرّ بأسئلته وبما يخوض فيه من موضوعات علمية نافعة، وكان يعينني على ما لا أستطيع النهوض به من شؤون الحياة، لأنني عشت عمري كله وأنا لا أحسن بيعاً ولا شراء ولا أعرف كيف أخالط الناس وأداخلهم. وقضاء النبك -على قلّة أهله- مترامي الأطراف بعيد الجنبات، فكان يصعب على من في السهل أن يصعد الجبل إلى النبك لحضور المحاكمات، فجعلَت وزارة العدل يوماً في الأسبوع ينزل فيه القاضي وحاكم الصلح إلى «القطيفة». وطريق حمص طوله مئة وستّون كيلاً ولكنه مقسّم من القديم إلى محطّات، في كل محطّة قلعة وخان كبير كان يقوم يومئذ مقام الفنادق في هذه الأيام، يستريح فيه المسافر ويأمن فيه على نفسه وماله. في نصف الطريق تقوم النبك على بُعد ثمانين كيلاً من الشام، وما بين الشام والنبك، في نصفه، قرية القطيفة، وبين النبك وحمص في نصف الطريق قرية حسية على بعد أربعين كيلاً من حمص؛ أي أنه كان يقوم بعد كل أربعين كيلاً خان ومحطّة ومركز للحكومة.

كان حاكم الصلح يومئذ رجلاً أعرفه من أيام المدرسة، كان سابقاً لي في الدراسة، وكان أكبر مني سناً وهو من أسرة كبيرة في الشام، ذكيّ من أذكى الأذكياء ولكنه كان يستعمل ذكاءه في الباطل، فلم يكن قاضياً عادلاً بل كان مائلاً يميل مع مصلحته ويدور حيث دارَ القرش، فكانت الشكوى منه مستمرّة، يهمس بها الناس همساً خوفاً منه ولا يقدرون على مجابهته بها، بل إنهم يَجْبُنون عن رفع شكواهم إلى الحكومة خوفاً من انتقامه، لقوّة شخصيته ومضاء عزيمته وشدّة ذكائه وكبر أسرته. وكان وزير العدل -كما قلت- زكي الخطيب، ثم تبدّلت الوزارة وصار مكانه القاضي الكبير الحلبي راغب الكيخيا (وأصل كيخيا: كتخدا). وكان عندي محاضرة في جمعية التمدّن الإسلامي حُدِّد وقتها وموضوعها قبل تبديل الوزارة، وكان موضوع المحاضرة «ماضي القضاء وحاضره». تعبت عليها جداً وراجعت كتباً كثيرة جداً حتّى استخرجت قواعد أصول المرافعات من كتب الفقه الإسلامي، وكان يمكن أن يكون منها كتاب جامع لولا أني أهملتها حتّى اختلطَت أصولها وضاع أكثرها، وما أكثر ما أضعت من أمثالها (¬1). وحضر إلقاءها الوزيران: الوزير المستقيل زكي الخطيب والوزير الجديد راغب الكيخيا، وحضرها كبار القضاة منهم حَمي (أي والد زوجتي) القاضي صلاح الدين الخطيب. أعجبَت المحاضرةُ السامعين وقام الوزيران فأثنيا عليها ¬

_ (¬1) القسم الباقي من هذه المحاضرة منشور في مقالة «القضاء في الإسلام»، وهي في كتاب «فكر ومباحث» (مجاهد).

واحداً بعد واحد، ونشأت على إثْرِها صلة بيني وبين الوزير الجديد راغب بك، حتّى إنه عمل على إذاعة هذه المحاضرة من الإذاعة مجزّأة كلّ أسبوع، فكان كل أسبوع يرسل إليّ سيارة الوزارة لتأتي بي من النبك إلى دمشق لألقي قسماً منها. ولم تكن للإذاعة عمارة خاصّة بها، بل كانت في غرفة من بناء الهاتف الآليّ. وجدت من الأمانة أن أُعلِم الوزير بما عليه الحال في القضاء (قضاء النبك)، تخليصاً لذِمّتي لا قدحاً بزميلي ولا طعناً به، وقد قلت له ذلك بعد تردّد طويل وبعد أن وزنت الأمرَين (أمر السكوت وأمر الكلام) بميزان الشرع ثم بميزان العقل، فرجح عندي وجوب الكلام. ورجعت إلى مقرّ عملي. وكان نزاعٌ بيني وبين حاكم الصلح على كاتب من كُتّاب المحكمة اسمه أحمد عبد المالك، هو يريد أن يأخذه إلى محكمته وأنا أريد أن أبقيه في محكمتي. وكان يتباهى أمام الناس بأن له سلطاناً في الحكومة فلا تَردّ له طلباً، فجئت بقرار من نائب الجمهورية بإبقائه عندي فسعى لإبطال هذا القرار، فجئت بقرار من النائب العامّ نفسه. ومرّت أيام وإذا بي أتلقّى ليلاً برقية سرّية من راغب بك الكيخيا (لا تزال موجودة عندي بأصلها الرسمي وخاتمها) وفيها: «تَقرّر كفّ يد حاكم الصلح. تولّوا أنتم أمر المحكمتين. راغب الكيخيا». ذهبت صباح اليوم التالي إلى محكمة الصلح فوجدت غرفة الحاكم مغلَقة، فقلت لرئيس الكُتّاب: افتحها. فتردّد وقال إنه

لا يستطيع حتّى يشرّف البك، فأريته البرقية، فاستخذى وفتح لي الغرفة، وقعدت على كرسي الحاكم. وكان للحاكم وسطاء معروفون في البلد، أحدهم نائب المنطقة في المجلس النيابي وآخر من المحامين، يأخذون من الناس ويدفعون إليه. فلما دخل الأول ورآني تجمّدَت رجلاه فلم يتقدّم، وسأل الناسَ: ما الحكاية؟ فاستدعيتُه وقدّمت إليه كرسياً وقلت له: تفضّل. فقعد، ودعوت له بالقهوة ثم سألت: هل لك يا أبا فلان عمل في المحكمة لأساعدك على إنجازه؟ قال: لا. قلت: هل يمكن إذن أن أعرف لماذا كان حضورك إليها؟ فلم يستطع الجواب. فقلت له بلطف: أرجو ألاّ تفعل ذلك مرّة ثانية لأنني لا أفتح الباب إلاّ لصاحب عمل، للمدّعي أو المدّعَى عليه أو للشهود في الدعوى، أو لمن له معاملة رسمية. ثم جاء المحامي الذي يعمل لحساب الحاكم فقلت له مثل ذلك. وأجّلت القضايا كلها حتّى أدرسها وعكفت عليها أنظر فيها، أميّز حقّها من باطلها، فلم تمضِ إلاّ مُدّة يسيرة حتّى أدرك القريب والبعيد أن المحكمة قد نظفَت وخلَت بحمد الله من كل ما يخالف الشرع أو القانون، وانتفت منها الشفاعات والوساطات والرشوات. لقد كسبت عداوات ناس أقوياء ولكنني أرضيت الله، والله أقوى منهم، ومن ابتغى رضا الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس. فلم تمضِ إلاّ مُدّة يسيرة حتّى رضي الناس عمّا كان وحمدوا الله عليه، وشكروني أني كنت السبب فيه.

وليس في مُتَع الدنيا متعة أكبر من أن ترى الاعوجاج والانحراف، ثم يعطيك الله القوّة على تقويم المعوجّ وعلى تعديل المنحرف. إن في ذلك رضا الله وموافقة الشرع ورجاء ثوابه، ولكن الثواب العاجل هو هذه المتعة النفسية العجيبة التي لا توصف، يجدها مَن يوفّقه الله إلى مثل ذلك. * * *

بين إقرار العدل وتطبيق نص القانون

-115 - بين إقرار العدل وتطبيق نص القانون هذه الحلقة فيها تَتِمّة الكلام عن النبك. والنبك لمّا جئتها (في أواخر سنة 1941) كانت بُلَيْدة أو قرية كبيرة، القديم منها قائم فوق الجبل والمدينة الجديدة -بشوارعها المستحدَثة ودورها الأنيقة ذات الواجهات الحجرية الجميلة والأقواس والأعمدة- في منبسط من الأرض حول هذا الجبل، وذلك كله قائم على ذروة من ذُرى لبنان الشرقية تعلو عن البحر أكثر من علوّ مصيف صوفر في لبنان. فاستأجرت أول دار على يمين الداخل على البلد من جهة الشام، ثم جاء أخي ناجي بعد ذلك بأمد طويل فصار قاضياً فيها، فاستأجر آخر دار على يسار الخارج منها إلى حمص، فكان ذلك من عجيب المصادفات. جئتها في الشتاء، وكان شتاء بارداً والبلد لعلوّه شديد البرودة، ولم نكن نتخذ في الشام هذه المدافئ، إنما كان يتخذها ذَوُو اليسار والغِنى، ولم نكن منهم، فكنّا نكتفي بـ «المنقل»، وهو وعاء من النحاس أو الحديد مختلف الأشكال والنقوش يوضع فيه الرماد، ثم يكون فوق الرماد وخلاله الجمر المتقد

فيدفئ القريب منه. فلما عُيّنت في النبك حذّرني مَن يعرفها من شدّة بردها، فاشتريت مدفأة (صوبا) من أصغر الأنواع وأرخصها فأخذتها معي. وبلغ من شدة البرد في الشتاء تلك السنة في دمشق (فضلاً عن النبك) أن الماء الذي ينزل من الحنفيات كان يتجمّد فيصير عموداً صغيراً من الجليد. وكانت المدافئ تُوقَد بالحطب، فكان من المألوف في الشام أن ربّ البيت عندما يأتي بالمؤونة للشتاء: بالرز والسمن والزيت والسكّر وما تحتاج إليه الدار، كان يأتي بأحمال الحطب، فمِن الأسر من يكتفي بحمل الجَمَل الواحد ومنهم من يأتي بالحملَين والثلاثة والأربعة؛ يُنزِلونها أمام البيت، ثم يأتي الكسّارون (وكان أكثرهم من الألبان، أي الأرناؤوط)، وكانوا ذوي لِحى بيضاء، شيوخاً ولكنهم أقوياء أتقياء، يجرّدون فؤوسهم ويتولّون تكسير الحطب، وكلما صغّروا القطع كان أجرهم أعلى وكان ثمن الحطب أغلى. ثم ارتقت الحال بعد ذلك فصار الحطب يُباع مكسّراً. ومن عجائب أحداث الزمان أنني كنت قبل ذلك بسنوات (كما عرفتم) مدرّساً في البصرة في صيف حارّ شديد الحرارة، فخرج ثلاثة من الناس معهم إفريقي أسوَد اللون، فتعطّلَت السيارة وانقطعوا في البرّية فماتوا عطشاً من شدّة الحرّ، ولمّا ذهبوا يتتبعون أثرهم وجدوا الرجل الأول منهم قد مات فدفنه أصحابه، والثاني دُفن دفناً غير كامل، ووجدوا الإفريقي الأسود المتعوِّد على لذع الحرارة وعلى مسّ الشمس قد سار شوطاً بعيداً وحده،

ثم غلبه الحرّ والعطش فمات في أرضه. تلك جماعة من الناس يموتون من شدة الحرّ، فلما جئت النبك رأيت جماعة ماتوا من شدّة البرد في الذّرى العالية المحيطة بالنبك ويبرود الممتدّة إلى بَعْلَبكّ. * * * وقعت لي حوادث كثيرة في السنة التي أقمتها في النبك، لكنني لم أدوِّنْها فأنا أذكر الآن ما بقي في ذاكرتي منها. من ذلك أن الشيخ تاج الدين الحَسَني رجع تلك السنة إلى دمشق واتفق مع الفرنسيين: الجنرال كاترو والكولونيل كوليه (وهم أصدقاؤه) على إعلان استقلال سورية. ولم يكن استقلالاً كاملاً ولكنه كان -على كلّ حال- خطوة إلى الأمام، ونصّبوه رئيساً للجمهورية. وكنّا نتندّر بذلك، لأن رئيس الجمهورية إما أن تنتخبه الهيئة التشريعية (البرلمان) أو أن ينتخبه الشعب مباشرة، أمّا رئيس للجمهورية يُعيَّن من غريب عن البلد يحكمها حكم قوّة وتسلّط فلم يُسمَع بذلك من قبل. على أن من الحقّ أن أشهد أن حكمه الذي كنّا نناوئه ونقاومه ولا نرضى به كان خيراً، أو كان أقلّ شراً، من كل حكم شهدناه بعده. أراد رئيس الجمهورية، الشيخ تاج الدين الحَسَني، أن يجول جولة في سورية، فبدأ بالنبك في طريقه إلى حمص فحماة فحلب. وأبلغَنا قائم المقام أن علينا (أي على الموظفين) أن يخرجوا إلى استقباله من الطريق العامّ (طريق حمص)، فأبَيت واعتصمت بمحكمتي، وكرهت أن أخرج، وصمدت لكل ضغط وُجِّه إليّ.

مع أنه خال زوجتي، شقيق أمها، وهو ابن شيخ مشايخنا الشيخ بدر الدين الحسني. كما أنني (كما سيأتي) كنت بعد هذا التاريخ بقليل قاضياً في دوما، وكان قد استلم رئاسة الجمهورية شكري بك القوّتلي، وكان زعيمنا أيام النضال وأنا أحبّه وأحترمه، ولكنني امتنعت أيضاً عن الخروج لاستقباله بحجّة أنني عُيّنت قاضياً ولم أُعيَّن رئيس تشريفات، وليس عليّ أن أستقبل رئيساً ولا أن أودِّعه ولا أن أقوم على خدمته! * * * استحدث الشيخ تاج شيئاً جديداً، سنّة لا تخلو من نفع، هو أنه عيّن يوماً سماه «يوم الفقير»، وسخّر أقلام الكُتّاب في الصحف وألسنة الخطباء في المساجد ليدعوا الناس إلى مساعدة الفقراء والعطف عليهم والتبرع لهم في هذا اليوم، دفعاً لما أصابهم من الضيق والضنك في أيام الحرب. أعجبَتني الفكرة. وكنت أخطب أحياناً في المسجد خطبة الجمعة، فدعوت إلى الاهتمام بالفقير في هذا اليوم. ثم ألّفت لذلك -برأي قائم المقام- لجنة وحشدنا له من الطلاّب ومن شباب الأحياء أعداداً كبيرة، فلما كان هذا اليوم اجتمعنا أولاً في شبه احتفال فألقيت فيه كلمة بدأتها بقوله تعالى: {ها أنْتُم هؤلاءِ تُدعَون لتُنفِقوا في سبيلِ اللهِ، فمنكم مَن يبخَلُ، ومَن يبخَلْ فإنّما يبخل عن نفسِهِ، والله الغنيّ وأنتم الفقراءُ، وإنْ تتولَّوا يَستبدلْ قوماً غيرَكم، ثمّ لا يكونوا أمثالكم}.

ثم أقبل الناس يتبرّعون بما يقدرون عليه، وكنت أعاود الكلام وأقول لهم: القليل والكثير يكون لأصحابه الأجر الوفير، ورُبّ درهم سبق عشرة آلاف درهم ... وأذكر لهم ما أحفظ من الآيات والأحاديث في فضل الصدقة وعظيم ثوابها. ثم عملت شيئاً جديداً، هو أننا جئنا بدوابّ وعربات صغيرة وضعنا فيها أكياساً فارغة وسلالاً كبيرة، وبعثت مَن ينادي في الناس نداء يشبه ما يكون في العرضات (العراضات) الشعبية في الشام: هاتوا قمح هاتوا شعير، ... هاتوا قليل هاتوا كثير كله مليح للفقير، ... كله عليه أجر كبير فأقبل الناس يُعطون من القمح ومن الشعير ومن الرز، بل ومن الثياب التي لا يحتاجون إليها، بل ومن الأواني البيتية ما جمع عندنا من ذلك مقداراً وافراً. ثم جئنا إلى قوائم كنّا قد أعددناها بأسماء الفقراء في البلد، فدعونا بهم وسلّمنا كُلاًّ منهم نصيبه علناً أمام الناس؛ فكان الجمع علنياً والتوزيع علنياً، وما كان من المَؤونة بعثنا به إلى بيوت المستحقّين وبعثنا معهم شهوداً يشهدون أنه وصل إليهم. ذلك لأن المسلمين ليست فيهم أزمة بخل فهم كرام يبذلون أكثر ما يقدرون عليه، ولكن فيهم أزمةَ ثقة وخوفاً من أن يضيع المال قبل بلوغه غايته التي جمع من أجلها، فبسبب ذلك ما ترون أحياناً من بعض البخل وبعض الضنّ. * * *

إن القانون حينما يكون ماشياً مع العدل ويحكم به القاضي يكون مرتاح الضمير مطمئناً إلى ما حكم به، ولكن أصعب ما يعترض القاضي أن يرى العدالة في طريق وأن يرى القانون في طريق آخر. كان الناس في الشام إذا اشتروا القمح وما يشبهه اشتروه بالمُدّ، والمُدّ مكيال معروف، فجاء القانون وألغى استعمال المكاييل القديمة وألزم الناس جميعاً بالمكاييل الأجنبية الجديدة، فالقياس بالمتر لا بالذراع، والوزن بالكيل (الكيلو) لا بالرطل، والمكيال باللتر لا بالصاع والمُدّ. وممّا وقع لي أني اشتريت قمحاً بالمُدّ وحمله البيّاع إلى بيتي، فلما غدوت على المحكمة صبيحة اليوم التالي وجدت بين المخالفات التي عُرضت عليّ في محكمة الصلح التي أتولّى الحكم فيها (إضافة إلى عملي الأصلي في المحكمة الشرعية)، وجدت بيّاعاً أُحيل عليها لمعاقبته على أنه اقتنى المُدّ وباع به. فكيف أحاكمه على أمر جائز شرعاً ومستساغ عُرفاً، وأنا أعمله؟ إذا حكمت عليه اتباعاً للقانون أكون قد خالفت ضميري وجُرْت في حكمي، وإذا حكمت عليه بما أراه الحقّ والصواب خالفت القانون. فماذا أصنع؟ وعُرض عليّ في ذلك اليوم جزّار ضبطوه يذبح في اليوم الذي مَنعت الحكومة الذبح فيه توفيراً للّحم واجتناباً للضائقة أيام الحرب. وأنا أعلم أن طاعة وليّ الأمر في مثل هذا الموقف واجبة، إذا كان ولي الأمر منّا لا من غيرنا ولم يأمرنا ولم ينهَنا فيما يخالف شرع ربنا، فإذا منعَت الحكومة

الذبح في بعض الأيام وجبَت طاعتها في هذا الأمر. ولكن الذي منع الذبح ليس منّا، ليس من المسلمين بل هو مستعمر دخيل علينا، وكلنا نشتري اللحم في يوم المنع لا نرى في ذلك بأساً، بل ربما كان اللحم الذي اشتريته بالأمس من هذه الذبيحة عينها التي حاكموا الجزّار عليها. وجدت مخلصاً من هذا فيما يشبه الحِيَل الشرعية الجائزة. الحِيَل في الشرع ممنوعة إذا كانت طريقاً لاستباحة محرّم أو للهرب من واجب، ولكن بعض الحِيَل ليست إلاّ مخرجاً من ورطة تَوَرّط المسلم فيها، وهذا النوع من الحِيَل أشبه بأن يكون جائزاً. ألم يعلّم الله نبيَّه الذي حلف أن يضرب زوجته مئة ضربة طريقة تخلص بها من ورطته إذ قال له: {خُذْ بيدِكَ ضِغْثاً فاضْرِبْ بهِ ولا تَحْنَثْ}؟ هذه في ظاهرها حيلة، ولكنها ليست حيلة لاستباحة محرّم ولا للهرب من واجب بل للخلاص من مشكلة. فلما وقف بين يديّ الذي ذبح في يوم المنع سألته: هل كان الحيوان مريضاً فاضطُررتَ إلى التعجيل بذبحه، أو هل وقع فانكسرت رجله فدفعك ذلك إلى ذبحه في هذا اليوم بالذات؟ فانتبه وكان ذكياً، فقال: نعم. وسألت الذي باع بالمُدّ وضبطه الشرطة عنده في دكانه، قلت له (ألقّنه حُجّته): هل كنت تستعمل المُدّ على أنه آنية من الأواني، وهل استبقيته عندك لهذا الغرض بعد أن مُنع استعماله؟ فقال: نعم. فهل كنت مخطئاً في هذا؟ هل على القاضي أن يتبع حرفية القانون أو أن يمشي مع مقاصد الشارع؟ ذكرت هنا قصّة الصحابة

حين أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام ألاّ يصلّوا العصر إلاّ في بني قريظة، فمنهم من فهم الأمر فهماً حرفياً فأخّر صلاة العصر حتّى وصل إلى بني قريظة، ومنهم من فهم أن الرسول ‘ لم يكن يريد تأخير الصلاة ولكن تعجيل السير، فصلّى على الطريق. فما لام الرسول ‘ واحداً من الفريقين لأن العذر قائم. وأنا منعت العقوبة عن مرتكبي أمر يعتبره القانون ذنباً، ولكنه ليس ذنباً في نظر الشرع ولا في نظر العرف، وليس فيه مضرّة لأحد، وأنا أعمل مثله. فكيف أُعاقب رجلاً على عمل أنا أعمله والشرع لم يمنعه؟ وهل أستحقّ أن أكون مع ذلك قاضياً؟ * * * وعُرضت عليّ في محكمة الصلح قضية عادية تافهة، ولكن الظروف كبّرَتها ونفخت فيها وجعلَت منها قضية مسلمين ونصارى. وقد أمرنا الله أن لا نتّخذ بطانة من دوننا لا تألونا خبالاً، وبيّن لنا أنهم يودّون عنتنا وأننا نحبّهم ونخلص لهم ولا يحبّوننا، وأن البغضاء قد تبدو من أفواههم حيناً وتخفى أحياناً، ولكن ما في قلوبهم من بغضنا والدسّ علينا والألم لما يصيبنا من الخير أكبر. ومع ذلك لم ننتبه. وقد طالما رأيت في حياتي من تسامحنا نحن وتعصّبهم ومن إخلاصنا ومن كرههم ودسّهم علينا الشيء الكثير. القضية أنه كان عندنا قانون من أيام العثمانيين، أن مَن أفطر في شهر رمضان علناً حُبس إلى نهاية الشهر. وقد رأيت

مرّة في النبك، في المحطّة المجاورة للمسجد في الحيّ الذي يُسمّى المخرج، وهو على الطريق الدولي الذي يصل بين دمشق وحمص ويمرّ من وسط النبك، رأيت رجلاً يدخّن علناً وهو قاعد في القهوة، لا يبالي شعور الناس ولا يحفل باعتراضهم، وقد كاد عمله يجرّ إلى فتنة، فأمرت بوقفه (أي بإيقافه) وحكمت عليه بالسجن إلى نهاية شهر رمضان. واتّفق أن كان هذا الرجل غير مسلم، فتحرّكَت أقلام المتزلّفين إلى المستعمرين وانطلقَت ألسنة الحاقدين والناقمين، ووصل ذلك إلى وزارة العدل فسألَتني، وكان جوابي أنّ منع الإفطار علناً في شهر رمضان ليس خاصاً بالمسلمين ولكنه عامّ لجميع السكان، لأنه من نوع الإخلال بالآداب العامّة. ومرّت الأيام، وجاء انقلاب حسني الزعيم فألغى قانون الجزاء العثماني الذي كنّا نحكم به، وجاؤونا بقانون جديد مترجَم عن القوانين الأجنبية الوضعيّة. ولي مع هذا القانون شأن طويل؛ كتبت عنه وحوكمت أمام مجلس القضاء الأعلى وحُكم عليّ بعقوبة ماليّة، وسيأتي بيان ذلك في موضعه. لمّا أُلغي قانون الجزاء وذهبَت معه هذه المادّة تجرّأ الناس على الفطر في رمضان، وظنّوا أنه لا عقوبة عليهم ولا أذى ينالهم، فاتخذَت محكمة النقض في الشام (محكمة التمييز) بهيئتها العامّة قراراً باعتبار هذا الإفطار العلني مُخِلاًّ بالآداب العامّة ومزعجاً للهيئة الاجتماعية، ومستحقاً للعقوبة. وقرار الهيئة العامّة لمحكمة التمييز ليست له قوّة القانون

ولكن له أثراً في حكم القُضاة. * * * نساء النبك متحجّبات الحجاب الكامل، لكنهن يكشفن الوجوه والأيدي على عادة الفلاّحين عامّة في ديار الشام وعادة البدو في ضواحيها وفي باديتها. فجاءتني مرّة امرأة شابّة حسناء حديثة عهد بالزواج تطلب الطلاق من زوجها. ونظرت فإذا هو شابّ جميل الصورة مكتمل الشباب لا يُشتكى منه شيء، فسألتها عن سبب طلبها الطلاق فلم تأتِ بسبب واضح، فشممت منه ريحاً مؤذية، وكان جزّاراً جاء المحكمة بثياب العمل. فأجّلت الدعوى وصرفت المرأة، واستبقيت الرجل واستدنيتُه ونصحتُه بأن يذهب إلى داره فيغتسل ويبدّل ثيابه ثم يقصد حلاّقاً يأخذ من شعره، ففعل فعاد شخصاً جديداً، فلما جاءا من الغد للنظر في الدعوى سألتها: ماذا تقولين؟ قالت: لقد أسقطت الدعوى. وليس هذا العمل من اختراعي أنا ولكنه تقليد للرجل العظيم الذي سمّاه الرسول عليه الصلاة والسلام «عبقرياً»، وهو عمر بن الخطاب في قصّة مماثلة لهذه القصّة ترونها في كتب التاريخ وفي كتابي «أخبار عمر». وكان في النبك (كما هي الحال في أكثر الضواحي والمناطق البعيدة عن العاصمة) أُسَر لها وجاهة تتنازع فيما بينها عليها، كان في النبك أسرة آل النفوري وآل طيفور، وكانت الأيام تمشي مع آل النفوري ثم تبدّلَت فمالت مع آل طيفور، ثم عادت الرياح إلى سفينة النفوريين لمّا ظهر منهم ضابط كبير في الجيش، ولعلّ أخانا

المخرج في الرائي في الرياض منذر النفوري من هذه الأسرة. عُرضت عليّ في المحكمة الشرعية قضية وصاية في إرث كبير، والوارثة قاصرة تحتاج إلى من يتولّى أمورها ويرعى شؤونها. وكانت للتركة مشكلات وقضايا معقّدة تحتاج إلى تنظيم وإلى مواجهة المحاكم، وخشيت أن أجعل الوصيّ من إحدى الأسرتين المتنازعتين فيضيع حقّ القاصرة، فولّيت رجلاً ثقة من أهل الشام هو الشيخ موسى الطويل رحمة الله عليه، وكان من كبار تُجّار الشام، وكان من طبقة كادت تنقرض وهي طبقة التجّار العلماء أو طلبة العلم، وكان من أقرب الأصدقاء لوالدي رحمه الله، بل ربما كان أدنى صديق منه. وكان من أصدقائه السيد شريف النصّ من التجار، والشيخ أحمد القشلان، وجماعة. تردّدت أولاً في تعيينه وصياً، وخفت أن أكون قد آثرت صديقاً لأبي فأحيد بذلك عن الحقّ، فاستشرت من أثق بدينه وخبرته بالناس وبالحياة فأشاروا به وبناس من أمثاله، فولّيتُه الوصاية وكلّفته بأعمال كثيرة يستخرج بها حقّ البنت ويخلّص مالها من القضايا المتشابكة، أي أنني ولّيته ولاية مشروطة، وجعلت له أجراً على هذه الولاية وأمهلته مُدّة محدودة لينجز هذه الأعمال. فانقضت المُدّة فلم يصنع مما كُلِّف به إلاّ القليل، فواجهت امتحاناً: هل أراعيه لفضله علينا بعد وفاة أبي ولصلته به وصداقته له، أم أُقيم ميزان الحقّ عليه كما أُقيمه على غيره؟ لقد أَرِقت ليالي أفكّر، وحاولت أن أستحثّ هِمّته ليصنع شيئاً وينجز ما كُلِّف بإنجازه فوجدت أنه لا يقدر على ذلك،

فطلبت إليه أن يُعيد ما كان قد أخذه من الأجرة. فوعد بذلك، وهو رجل ثقة أمين، ولكنه تأخّر عن السداد فلم يكن مني إلاّ أن بلّغتُه العزل وسلكت معه الطرق القانونية. وأشهد أن الشيخ موسى (وربما عدت للحديث عنه) من أفضل مَن عرفت من الرجال، وكان في الثورة السورية هو الذي يتولّى إمداد الثوّار بالخبز، وكان موضع ثقة الجميع يأتمنونه على أموالهم وعلى أسرارهم، ولم يقع منه في هذه الوصاية خيانة (معاذ الله) ولا تقصير متعمّد، ولكنه عَجْزٌ منه وسوء تقدير مني لمّا ظننت أنه في شيخوخته يقدر على ما كُلِّف به. وانقضت القضية بحمد الله بسلام، لم أؤذِ الرجل في شعوره وحفظت له كرامته، ولم أضيّع ذرة من حقّ القاصرة، وذلك من توفيق الله فله الحمد عليه. * * * كنّا في أيام الجامعة وحين تُستحَبّ الراحة نذهب إلى يَبْرود، ويبرود قريبة من النبك، وهي أجمل منظراً وأكثر ينابيع وعيوناً. وكان فيها متنزّه يُسمّى قرينة يؤمّه الناس، فذهبت في آخر أيامي في النبك إليه فوجدت مستأجر القهوة فيه (وكان قديماً من تلاميذي، وهو من أسرة مشايخ صالحين) وجدته يقدّم فيها الخمر، فدعوتُه ونصحته، فقال إن لديه رخصة من الحكومة، فبيّنت له أن حكومات الأرض جميعاً لا تملك أن ترخّص في أمر حرّمه الله ومنعه. فلم يسمع، فأثرت الخطباء وراجعت المسؤولين حتّى أزلت هذا المنكر وطردت المستأجر.

وإن كان الخطب قد طغى بعد ذلك وطمّ حتّى لم يبقَ متنزه في الشام، ولا نبع ماء، ولا مكان جميل يؤمّه الناس إلاّ وفيه الخمر معروضاً على الموائد يُباع ويُشترى. إن رجعنا إلى الدين فالدين يحرّم بيع الخمر وشراءها ويحرّم شربها وتقديمها، وإن رجعنا إلى مبادئ الديموقراطية فإن الديموقراطية معناها حكم الشعب («ديموس» أي الشعب و «كراسي» أي حكم)، وجمهور الشعب في الشام بل كثرته المطلقة مسلمة تتمسّك بأحكام الإسلام، فإذا جارينا شُرّاب الخمر (ولا يبلغون واحداً في الألف) وأبحنا تقديمها لِنَسُرّهم نكون قد آذينا التسعمئة والتسعة والتسعين في سبيل مسرّة الواحد. ولكن هذا ما وقع وإلى الله المشتكى. ووجدوا في أعلى الجبل صخرة لها منفذ صغير لا ينتبه إليها أحد، بل لا يكاد يصل إليها أحد، وجدوا فيها -بالمصادفة- مقداراً عظيماً جداً من عسل النحل تجمّع من آماد طويلة لا يعلم بها إلاّ الله، فاختلف عليها صاحب الأرض والمستأجر والبلدية. وكان عسلاً ما ذاق الناس مثله، وتركت النبك والقضية لم تنتهِ. وإذا كان ثمن العلبة من عسل النحل يباع الآن بمئات الريالات فكم يبلغ ثمن مثل ذلك العسل؟ * * * بقيت في النبك أقلّ من أحد عشر شهراً، ثم كانت تنقّلات في وزارة العدل بين القُضاة، فاستدعاني الوزير راغب بك

الكيخيا رحمة الله عليه وسألني: إلى أين تحبّ أن تنتقل؟ وكان قاضي دوما الذي درّبني على أمور القضاء، الصديق الشيخ أنيس الملوحي رحمه الله، قد نُقل من دوما إلى حماة، فاقترحت أن أُنقل أنا إلى دوما وأن يُنقل أخونا الشيخ مرشد عابدين (وهو شقيق شيخنا الطبيب المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين، وهما ولدا الشيخ أبي الخير عابدين مفتي الشام الذي كان أبي أميناً للفتوى عنده) إلى مكاني. وتمّت هذه التشكيلات وصدر بها المرسوم الجمهوري فانتقلت إلى دوما. ودوما تُعَدّ حياً من أحياء الشام، كان يصل بينها وبين الشام على أيامي فيها خطّ ترام طوله ثلاثة عشر كيلاً (كيلومتراً) يقطع الطريق إليها في ساعة، أما السيارات فتقطعه بأقل من ثلث هذا الوقت، ولكن الترام أكثر راحة وأجمل منظراً لأنه يخترق الغوطة كلها، يمرّ بقُراها وبساتينها، فيجتاز جوبر ثم زملكا ثم العربيل (التي تُسمّى العربين)، ثم حرستا ثم إلى دوما. ومن كل قرية من هذه القرى التي ذكرتها علماء نبغوا منها وانتسبوا إليها، فمن زملكا كان الشيخ الزملكاني، ومن العربيل ظهر علماء قديماً وحديثاً آخرهم الشيخ عبده العربيلي، وهو أحد شيْخَي القُرّاء في الشام، الشيخ الكبير هو الشيخ محمد الحلواني الذي لم أسمع قارِئاً في حياتي، لا في مصر ولا في الشام ولا في غيرها من البلاد التي مشيت إليها، أضبط منه مخارجَ حروفٍ وأحرصَ منه على الأحكام، وكان يجمع القراءات على طريقة الشاطبية، والشيخ عبده العربيلي هذا كان تلميذ الشيخ عبد الله

المنجّد (والد الأديب الصديق المؤلّف الدكتور صلاح الدين المنجد) الذي جمع على طريقة الطيبة. ومن أعجب الأمور أن الشيخ الذي أخذ عنه الشيخ عبدالله المنجّد القراءات كان مُشيراً في الجيش العثماني. مشير قارئ مجوّد يأخذ عنه العلماء! وله أمثال من قادة الجيش العثماني، ومع ذلك نذمّ العثمانيين وننسى مزايا أوائلهم لذنوب أواخرهم من الاتحاديين، بل إن منّا من تبلغ به الجرأة على الحقّ وعلى الواقع وعلى مخالفة الآداب، أن يقرن الحكم العثماني بالحكم الأجنبي فيقول: الاستعمار الفرنسي والإنكليزي والاستعمار العثماني! * * *

من ذكريات الحرب العالمية الثانية

-116 - من ذكريات الحرب العالمية الثانية كنّا نذكر الحرب الأولى التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وكيف كان الشعب يموت جوعاً ثم لا يجد أمواته قبراً، لأن الحرب لم تُبقِ من الرجال من يقدر على حفر قبر! نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب الثانية فنراها سلاماً علينا وأمناً، لم نَجُعْ فيها ولم نَعْرَ ولم تَنَلْ منّا منالاً، اللهمّ إلاّ ما نالت بأظافر بعض التجّار وأنيابهم إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً، وربما بلغوا ببعض الأثمان مئة ضعف! وما قلّت السلع ولا تبدّلت، ولكنه الطمع والجشع ورِقّة الدين وضعف الخلق. واستمرّ مرير الحرب وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلاّ على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا وتدنو أحياناً منّا: امتدّ لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنّا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك -لعمري- إلاّ الألسنة والقلوب. ثم دنت منّا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا، وما جانبت مصر ولا تولّت عنها تلك القلوب.

ثم أصبحنا ذات يوم (يوم الجمعة 20 حزيران 1941) على صوت الرادّ (الراديو) يقول: إن الحرب في «الكِسْوة» على أبواب دمشق، فنظرنا إليها فلم نجد إلاّ جبل «المانع» وما فيه أثر لحرب، فكذّبنا وأنكرنا. فقال العارفون إن المعركة وراء هذه الجبال وأكدوا ذلك، ولكنا لبثنا مكذّبين. فلم تكن إلاّ ليال حتّى بدت في الأفق القِبْلي (¬1) من دمشق ومضات المدافع، نراها من حيّنا حيّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون، وسمعنا أصواتها، فصدقنا ما قال الرادّ وأيقنّا أنْ قد بلغَتنا هذه الحرب. ولكنّا لم نُكبرها ولم يُصِبْنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها ولا وصل إلينا أُوارها. ثم دنَت منّا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع المزة وقاسيون فاهتزّت لها دمشق، ولكن أفئدة أهلها لم تهتزّ، بل راحوا يؤمّون السفح يُشرفون منه على المعركة وهي دانية منهم، أصواتها في آذانهم وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وإنهم لفي إشرافهم هذا واجتماعهم في المهاجرين عشيّة ذلك اليوم، يتحدّثون في أمر الجيش المهاجم من الفرنسيين الديغوليين الذي عرض على الجيش الفرنسي في دمشق (من أتباع الماريشال بيتان) أن تكون دمشق مدينة مكشوفة كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب فتجعل عامرها يباباً وقصورها تلالاً، فأبى المقاتلون من الفرنسيين في الشام فعرّضوا بإبائهم دمشق للأذى. وما يعنيهم أذاها، ولا تُهدَم لهم إذا هي تخرّبت دارٌ ولا يُفجَعون في زوج ولا ولد، لأنهم غرباء عنها واغلون عليها أعداء لها. ¬

_ (¬1) أي الجنوبي؛ لأن القبلة في دمشق إلى الجنوب (مجاهد).

وكانت المعركة مشتدّة هذه العشيّة وكان الناس مزدحمين ينظرون، وإذا بجهنّم قد فُتحت أبوابها، وإذا القنابل قد ضلّت طريقها فإذا هي تكاد تساقط على المهاجرين، أجمل أحياء دمشق وأبهاها! فطار الفزع بألباب الناس، وكانت مثل ساعة الهول التي يُستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة ... وإن كان هول يوم القيامة لا تُقاس به أهوال الدنيا، يوم يجد المرء ما يشغله عن أخيه وصاحبته وبنيه وأمه وأبيه. فخلّفوا دورهم مفتّحة الأبواب واستلموا منافذ الطرق التي توصلهم إلى الشام (وإذا قلنا «الشام» فإنما نعني المدينة القديمة منها)، يريدون أن يعتصموا بالأموي ويقيموا في جواره، ظناً منهم أن القنابل التي تحمل الموت والدمار لا تعرف الطريق إلى بيوت الله. فلم تكن ترى على الطرق إلاّ الناس مسرعين بوجوه شاحبة وأعضاء من الخوف مضطربة، وربما خرجَت المسلمة المخدَّرة مكشوفة الوجه من الفزع بادية المحاسن، والمدافع تنطلق والقنابل تتوالى وتتعاقب كالغيث إذا انهمر، وكان أمرٌ لا يوصف. وكنّا نسكن في دار على الشارع العامّ، وقد استعدّ نساؤنا ولبسن ثياب الخروج ولكننا لم نبارح دارنا. وكانت لي عمّة عجوز صالحة لا عمل لها إلاّ قراءة القرآن والدعاء، فقلت لها: هلمّي نخرج. قالت: إلى أين؟ قلت: إلى حيث يذهب الناس، إلى جوار الأموي. قالت: {قُلْ لنْ يُصيبَنا إلاّ ما كتَبَ اللهُ لنا}؛ إن كان مقدَّراً علينا أن نموت مِتنا هنا كما نموت هناك. ولبثَت قاعدة مكانها فقعدنا معها. * * *

ثم انسحب جيش هو جيش الفرنسيين الموالين للألمان، ودخل جيش هو جيش ديغول المناوئ للألمان، وكلهم عدو لنا وكلهم طامع فينا مستعمر لبلادنا. فأعلنوا استقلال سورية وانتهاء الحرب، ونصّبوا (كما قلت لكم في الحلقة الماضية) الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية التي أعلنوا تشكيلها. فتنفّس الناس الصعداء، لا لأنهم خُدعوا بهذا الاستقلال الموهوم، فالاستقلال يؤخَذ ولا يُعطى والاستقلال الذي يأتي منحة من الغاصب ليس إلاّ احتلالاً بلون آخر. ولكنهم تذوّقوا لذّة الأمن بعد الخوف، وعاد مَن كان لجأ إلى البلد من سكان القُرى المرزأة المروَّعة الذين أكلت الحرب دورَهم وغلاّتهم: سكان الكسوة والباردة والأشرفية وصَحْنايا وسبينة وسبينات والقَدم، وتلك القرى التي تطيف بدمشق تحفّ بها من جهة الغوطة (الغوطة التي كانت تنعم بالأنس والدعة في ظلال الأشجار، فجعل المتمدّنون المستعمرون بقاعاً كثيرة منها صحراء قاحلة لا شجرة فيها ولا دار) ودارَيّا قرية العنب الديراني الذي تباهي دمشقُ المدنَ بلونه وطعمه ونبل حبته وجلال عناقيده واتساع كرومه، وجارتها المِزّة «جيزة دمشق» وأجمل ضواحيها ... عادوا إلى دورهم ومساكنهم يحسبون أنها لا تزال لهم مساكن، ما دروا أن من هذه القرى ما لم يُبقِ المتمدّنون المتحضرون منه إلاّ أطلالاً ورسوماً. وانطلق الدمشقيون الذين واسوهم في مصيبتهم وآووهم في منازلهم يودّعونهم بالحفلات والولائم؛ فاشتعلت الأحياء

التي تحف بالأموي نوراً وابتسمت سروراً: القيمرية والكلاّسة وباب السلامة وباب البريد وسيدي عامود ... حتّى ليحسبها الرائي ترقص طرباً، وما بها -لو حقّقتَ- من طرب. وفيمَ الطرب؟ ولكنْ مواساةً للمنكوبين وتطيِيباً لقلوبهم وإظهاراً للرضا بانطفاء نار الحرب، وحمداً لله على ما لطف وسلّم. وكانت ليلة الأربعاء (25 حزيران 1941) كأنها من ليالي الأعياد، وكان أسبق الأحياء في هذا المضمار الكلاّسة، هذا الحيّ الصغير الرابض إلى جنب مسجد بني أُميّة عند مدفن البطل صلاح الدين، فظهرت على أيدي أهله مُدهِشات الشهامة والكرم، حتّى لقد آوى رجلٌ منهم واحدٌ سبعَ أسر في داره، وأولاهم من بشاشة وجهه وفضل ماله ومسكنه ما لا يمتدّ إلى أكثر منه جهد مثله. * * * نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد مطمئنّين، لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها، ينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء. فلما كانت الساعة الرابعة إلاّ ربعاً، ومآذن دمشق الثلاثمئة والسبعون تصدح بالتراحيم الأخيرة (وهي بدعة حلوة لو كان في البدع الدينية ما هو حلو، ولكن البدعة مُرّة مهما كان شكلها وكان لونها)، وكان الليل ساكناً سكون السحَر الفاتن العميق، وإذا بِرَجّة لا توصف، قلقلت البيوت فذهبَت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم، لولا أنها اقترنَت بصوت أفاق منه الناس وإن أحدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء! ثم أعقبَتها رجّتان، ثم جاءت رجّة أنْسَت الناس الثلاثَ الأُولَيات. فذهبَت المفاجأة بألباب ذوي

اللبّ منهم، وخرجوا من بيوتهم يتراكضون وما لأحدهم وجهة ولا مقصد. ثم انجلَت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها، ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند جسر تورا فيها ثلاث أسر، في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع. وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء ممّا يصحّ أن يكون لقنابل الطائرات هدفاً عسكرياً. وألقت الثانية نارها على باب السلامة، من أسفل الجزيرة، فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقّة) من تلك الدور العربية المتداخلة المبنيّة باللبِن والطين التي يسكنها الضعفاء الفقراء. والثالثة وقعت على الكلاّسة فأبادت الحيّ كله، ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار إلى الجنوب لطارت بمئذنة العروس، ولو انحرفت عشرة أمتار إلى الشمال لذهبَت بقبر صلاح الدين. ورُميت الأخيرة في الحيّ الجديد في «سيدي عامود»، الذي لم يكَد يُبنى بعد أن خرّبه الفرنسيون أيام الثورة الكبرى حتّى حمل إليه الدمارَ في الثانية مَن حمله إليه في الأولى. وما في كل ما دمّرَت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع أو المواقع العسكرية البتّة. وقع ذلك كله في أقلّ من خمسين ثانية، لم يمتدّ إلاّ ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجَت من الظلام، كما يفعل اللصوص في كل آن وكلّ مكان. أسرعتُ مع مَن أسرع إلى مطرح القنابل، وبدأت من

«سيدي عامود» فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق، في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان، فاحتفرت حفرة هائلة وتطايرت قطعها وشظاياها فأصابت أربع عمارات جديدة مترَعة بالسلع التجارية، فضعضعَتها وهزّت أركانها وأدخلَت بعضها في بعض، وأبادت كل ما كان فيها من سلعة ومتاع، وأفقرت أسراً الله أعلم بعددها، كما حطّمَت كلّ زجاج الحيّ وقتلت رجلاً وامرأتين. وذهبت بعد ذلك إلى الكَلاّسة، فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد، المجاور لقبر صلاح الدين، قد غدا تلاًّ واحداً كالقبر العظيم، كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد، وكأنه لم يكن منزل الكرام الصيد المحسنين. وكان الناس مزدحمين يعملون مَسَاحيهم ومعاولهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تنفطر لهوله القلوب، ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يُخجل أكبرَ القُصّاص ويدفعه إلى حَطْم القلم وهجر الكتابة، لأن الواقع الذي وقع يومئذ أبلغ من كل ما تخيّل الأدباء والقصّاصون. وكان النساء يولولن ويصِحن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود، ويقعن على أرجل الكشّافة والفَعَلة وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمّن افتقدن من أقربائهن، ومنهم امرأة رأيتها تُقبِل على التراب تنبشه بيديها، تبلّله بدموعها، تعدّ الدقائق والثواني، تتصور الموت جاثماً على صدر من تحبّ تحت هذا الثرى، فإذا رأت أنها لم تصل إلى شيء وهالها الأمر جُنّ جنونها، فأقبلت تلطم وجهها وتشدّ شعرها.

والرجال ... لم يكن الرجال يومئذ بأجلد من النساء. وكيف يتجلّد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض، وكلّما مرّت لحظة دنا منه الموت شهراً؟ كيف يصبر وهو يظنّ أن في يده حياة حبيبه المدفون حياً تحت الثرى، ويتصوّر كيف يعيش من بعده إذا توهّم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعافه؟ إن الذي رأيت في الكلاسة يومئذ من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم. والحفّارون خلال ذلك يُخرِجون جثّة من هنا وجثّة من هناك، فينادون عليها ليعرفها أهلوها. ولقد وجدوا جثثاً مشوَّهة لم يُعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يُدرَ من صاحبه. وهذه امرأة حديثها عجب من العجب: فقد كانت تنام بين ولدَيها، فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عِرق منها يرتجف كأنما مسّته الكهرباء، فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدّت يدها تتلمّس ولدَيها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الآخر، فتحسّست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب سقط من السقف وسط تراب منهار، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف، فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدَته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرارة سبع آبار، ثم رأت حين ألِفت عيناها الظلمة كأنما هي في مغارة لا باب لها ولا كوّة، ثم إنها من ضيقها كالقفص، فأقبلَت تضرب بيديها ورأسها والتراب يتساقط عليها حتّى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطّرْق وضوحاً في أذنيها وتسرّب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأُغمي عليها

ولم تُفِق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، أمّا ولدها الآخر وزوجها فبقيا تحت الأنقاض ... لقد ماتا. وهذا هو الأستاذ المصور أكرم يفتّش عن ولده الحبيب، وقد جحظَت عيناه من الذعر وتبدّلَت حاله وشحب لون خدّيه فصار كقشرة الليمون، وهو يستحثّ الحفّارين ويضرب بيديه التراب. هنا ابنه، ولده الحبيب يا أيها الآباء ... جاء به من المهاجرين يوم الروع ليُودِعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. وما يفيده صلاح الدين بعد موته، ولا ينفع ميتٌ حياً ولا يضرّه. ومرّت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور، ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حيّ. يا أيها القراء، أمسكوا قلوبكم لأن المشهد الذي رأيته بعيني وسأصفه لكم يمزّق القلوب: رأى الولد قد سقطت قطعة من إسمنت الجدار على يده فبقيت يده تحتها إلى قريب من الكتف، وهو يصرخ: أبي ارفعني، ارفعني يا أبي ... فلما سمع الأب صوته هُرع إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين تبكي، لكن كيف يرفعه وفوق ذراعه هذا الثقل كله؟ وأقبلوا يحاولون رفع هذه القطعة، وينقلون التراب الذي سقط معها، والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكّر بإنقاذه ولو بقطع يده! أسمعتم؟ يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده! وإنهم لفي ذلك وإذا بقطعة أخرى تهوي على رأس الصبي فتقتله حالاً. وها هنا طفل رضيع يجدونه حياً، يمتصّ من ثدي أمه الميتة، حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال.

ولمّا انصرفتُ من الكلاسة أخذ بيدي صديق لي وأنا لا أبصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحيّة وأروع مشهد فتعالَ معي إلى باب السلام، فلقد أُخرجَ منه إلى الآن سبعة وعشرون قتيلاً. فنَتَرْتُ يدي منه وقلت: حسبي ما رأيت! ومضيت وأنا لا أرى ما حولي من الدموع في عيني. وانجلَت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً، وواحد وسبعين قتيلاً ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو من خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد. ما قُتل هؤلاء في المعركة الحمراء، ولا سالت نفوسهم على ظُبى الأسنّة وشفرات السيوف. ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أتاهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في دورهم، فأخذ الرجلَ من جنب زوجته وولده أو قتلهم جميعاً، لم يتورّع عن قتل النساء ولا عن ذبح الذراري. لم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مرّ في الظلام الحالك مرور اللصّ الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الأبطال -لأنه ليس من أكفائهم- وتخيّر هذه البقعة الآمنة حول بيت الله، فصبّ عليها كلّ ما في النفوس الشريرة من خِسّة ودناءة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من أول هذه الحلقة إلى هنا منقول بتصرف يسير عن مقالة «كارثة دمشق» التي نُشرت في تلك السنة، 1941، وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).

ثم سمعنا أنه كان من بعدُ ما هو أشدّ من ذلك وأدهى، حين لبس رجال دولة الحضارة والعلم (التي جاءت اليوم تحمي الديمقراطية -كما تقول- وتدافع عن حقوق الإنسان) حين لبس رجالها جلود النمور والذئاب، بل لقد صنعوا ما لم تصنع مثله الذئاب ولا النمور. الذئاب تأكل لتعيش وتهجم على قطيع الغنم فتفتك ببضعة رؤوس منه، أمّا هؤلاء فقد قتلوا بضربة واحدة أهل مدينة كاملة، أهل هيروشيما ثم أهل ناغازاكي؛ كانت ثمرة علمهم وتفكيرهم ورقيّهم وحضارتهم هذه الجريمة التي هانت معها الجرائم. فمَن كان معجَباً بهم فليقرن تاريخهم هذا القريب بتاريخنا نحن المسلمين. خذوا مثلاً واحداً: لمّا عدا الصليبيون على القدس ذبحوا أهلها وقتّلوهم تقتيلاً، حتّى قضوا على سبعين ألفاً منهم ظلماً وعدواناً ونذالة ووحشية، فلما استردّها صلاح الدين أخرجهم سالمين آمنين: ملَكْنا فكانَ العدلُ منّا سجيّةً ... فلما ملكتُم سالَ بالدَّمِ أبطَحُ وحلّلتمو قتلَ الأُسارى وطالما ... غَدَوْنا على الأسرى نَمُنُّ ونَصْفَحُ فحسبُكمو هذا التفاوُتُ بيننا ... فكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ * * * وأنا لا أعجب أن يكون في الناس كرام ولئام وأن يكون فيهم عادلون وظالمون، هذه سنّة الله في البشر. ولكني أعجب أن يأتي منّا من ينسى بياض تاريخنا ويتوهّم النورَ في سواد تاريخ غيرنا، أن نُهمِل فضائلنا ثم نمجّد أعمالهم التي يكاد أكثرها يُعَدّ

من الرذائل. هذه قصّة غارة واحدة رأيناها من طائرة واحدة مَرّت بسمائنا، فكيف كان الألمان خلال الحرب الثانية تهجم عليهم ألف طيارة أكبر وأضخم وأقوى على الإبادة وعلى التقتيل من هذه التي مَرّت بنا، فإذا انقضت الغارة خرجوا فأصلحوا ما فسد وسدّوا من الجدار ما انخرق، وصبروا وعادوا إلى العمل وإلى القتال؟ فهل الألمان -مثلاً- أقوى منّا خلقاً وأقوى طبيعة، وأقرب إلى الرجولة وإلى مزايا الأبطال؟ لا، ولكن طول الدعة والخمول، والقرون التي مرّت بنا في عصور انحطاطنا هي التي أنستنا بعض فضائلنا. ولكن لا تخافوا ولا تيأسوا من روح الله، فإن الله موجود، يناديكم أن تعودوا إليه، فإذا عدتم إليه أعاد لكم النصر وأعاد لكم الظفر. إن العزّة التي صبّها الإسلام في عروقنا لا تزال جارية فيها مع دمائنا. يا أيها الناس، إن قطعة الذهب قد تسقط في الوحل فيصيبها الأذى ولكنها تبقى ذهباً، والصفيح ليس كالذهب، والشر ليس كالخير، والليل الأسود البهيم ليس كالضّحى المشرق المضيء. واليهودي ليس كالمسلم ولو وُضِعَت في يده أموال الدنيا، ولو جمع في مخازنه أسلحة الدنيا، ولو وقفَت وراءه أقوى دولة في الدنيا. * * *

في القضاء في دوما

-117 - في القضاء في دوما تركت النبك وقد حملت منها طاقة من أجمل ذكرياتي، وقضيت فيها أياماً من أحلى أيام حياتي، وأخذت منها دروساً نفعتني في عملي. نُقلت إلى دوما خلَفاً للشيخ أنيس الملوحي الذي درّبني على القضاء، وكان قبله فيها الشيخ عبد الفتاح الأسطواني، وقبلهما الشيخ الفقيه الحنبلي الشيخ حسن الشطي رحم الله الجميع. والموظف الذي يُنقَل إلى دوما إنما يُنقل إلى دمشق لأن دوما حيّ من أحياء دمشق، وإن كنّا نراها يومئذ بعيدة عنها ونرى ذهابنا إليها سفراً. والمسافة بين دمشق ودوما أقلّ من المسافة بين دارَي ابنتَيّ في جدة في حيّ الجامعة ودار ابنتي الثالثة في حيّ الحمراء! اتسعت المدن وتدانى البعيدان وسَهُلت المواصلات، فصرنا نرى قريباً ما كنّا نعدّه من قبل بعيداً. كنت أنام في بيتي في دمشق، أغدو على المحكمة صباحاً وأروح منها ظهراً، ولكنني أقضي على الطريق إليها مثل الذي تُمضيه الطيارة اليوم ما بين جدّة والقاهرة أو جدّة وعمان؛ ذلك أننا كنّا في أيام الحرب في شدّتها وفي عضّتها، المواصلات صعبة

ووسائلها قليلة، فكنت أنزل من داري في الجادة السادسة إلى حيث يمشي الترام في الجادة الأولى فأنتظره حتّى يجيء، وأزاحم أو أطلب أول الخطّ قبل أن يمتلئ لأجد لي مكاناً، فإذا وصلت إلى ساحة المرجة أكون قد أضعت أكثر من نصف ساعة، ثم أنتظر نحواً من نصف ساعة حتّى يصل ترام دوما، فأشقّ الزحام أو أجد بعض الإخوة الكرام فيفتحوا لي الطريق حتّى آخذ مكاني فيه، فأصل دوما بعد ساعتين كاملتين من خروجي من داري! يخترق دوما من وسطها شارعٌ طويل عريض يصل ما بين مشرقها ومغربها، تتفرع عنه شوارع قليلة وحارات ضيّقة كثيرة. وقد بنوا في غربيها قصراً للحكومة جديداً واسعاً من طبقتين، في زاويتَيه ركنان بارزان. وكانت المحكمة الشرعية في أحد الركنَين، تتألّف من بهو كبير وأمامه غرفة صغيرة، ففي البهو قوس المحاكمة الذي يقعد في وسطه القاضي، وعن يساره كاتب الضبط، وأمامه مكتبان وكرسيان للمدّعي والمدّعى عليه. ووجدت أن من كان قبلي يبقى قاعداً على القوس نهاره كله، فإذا جاء المراجعون صعدوا إليه أو وقفوا تحته فكلّمهم من فوق. والقوس إنما بُني ليقعد عليه القاضي وقت المحاكمة فقط، فإن انتهت ذهب إلى غرفته. ولم تكن لي غرفة أذهب إليها فحِرت ماذا أصنع، ورجعت إلى وزارة العدل فلم أجد عندها استعداداً لعمل شيء. فخطر لي خاطر غريب لعلّ القرّاء الآن بعد ثلاث وأربعين سنة (¬1) يَعجَبون ¬

_ (¬1) كُتب هذا الفصل سنة 1404هـ.

منه كما عَجِب الناس منه لمّا نفذته. هذا الخاطر هو أن أقتطع من الرحبة الكبيرة التي تفصل بين الغرف وتمتدّ من طرف قصر الحكومة إلى طرفه الآخر، أقتطع قطعة أقيم فيها جداراً يصل بين غرفتَي المحكمة ويحجزهما عن باقي الردهة، وأنقل قوس المحاكمة إليه، وأجعل الغرفة الكبيرة لي والصغيرة المقابلة للكاتبين. فكّرت في ذلك طويلاً: هل أُقدِم عليه (وفيه مخالفة صريحة للقانون) لِما فيه من النفع الظاهر أم أمتنع عنه وأدع كلّ شيء على حاله؟ وكنت امرءاً يحب المغامرات، فآثرت الأولى. وكان عندي آذن (فرّاش) من أهل البلد، كبير السنّ كثير المعارف والأصحاب أمين على المال وعلى الأسرار، فدعوت به وقلت له: يا أبا محمد، أريد أن تذهب إلى السوق حيث تُباع أنقاض البيوت فتشتري لي باباً قديماً ومقداراً من اللبِن يكفي لبناء جدار، وأن تأتيني ببَنّاء ماهر ونجّار حاذق في مهنته أمين في عمله. قال: أفعل، ولكن اسمح لي أن أسأل: ماذا تريد أن تصنع؟ قلت: إذا انصرف الموظفون يوم الخميس أجيء بهذا اللبن فأجعل منه جداراً من الأرض إلى السقف، يصل بين الغرفتين ويفصل المحكمة عن سائر غرف القصر وأبهائه، وينقل النجار هذا القوس كله إلى الغرفة التي تقوم في هذا الفراغ بعد إنشاء الجدار، وتأتيني بمن يطلي هذا الجدار الذي أقمته من اللبِن بمثل طلاء جدران القصر، فلا يجيء يوم السبت حتّى يكون قد جفّ أو بدأ يجفّ. فتعجّب ولكنه وعد بأن يفعل. ونفّذ ذلك، فخرج الموظفون ظهر الخميس والغرفتان منفصلتان، وعادوا صباح السبت وهما

متصلتان بينهما غرفة المحاكمة، وقد استقلّت المحكمة الشرعية وصار لها باب. وسكتُّ على ذلك مدّة ولم يسألني أحد ماذا فعلت؛ قائم المقام ظنّ أن هذا العمل قد عملته وزارة العدل، والمراجعون حسبوا أن قائم المقام هو الذي أجرى هذا التعديل، واستقام الأمر ولكن بقيَت غرفتي بلا أثاث. وكان محاسب وزارة العدل شيخاً من بقايا العهد العثماني أبقوه لخبرته وأمانته، كبير السنّ طيّب القلب بطيء الكلام كثير التفكير، اسمه زيوار بك الجابي، رحمة الله عليه. ذهبت إليه فقلت: يا زيوار بك، غرفتي في المحكمة في دوما ما فيها أثاث، فهل تحبّ أن أشتري بساطاً فأقعد على الأرض؟ فرفع حاجبَيه متعجّباً وقال: أين الأثاث؟ فقلت: هل تذهب معي فترى؟ قال: لا أستطيع، ولكن أرسلُ معك موظفاً من قِبَلي تُطْلِعُه على ما تريد. وجاء الموظف فرأى ما صنعتُ واستحسنه، وأبصر الغرفة خالية فرجع إليه فأخبره، فسألني: من أين أنفقت على بناء الجدار ونقل القوس؟ قلت: قبل أن أخبرك عن النفقات أسألك: هل استحسنت هذا العمل؟ قال: "والله طيّب. عملت طيّب". قلت: أرسل من يقدّر تكاليفه. قال: نعم. وأرسل من قدّر التكاليف بعشرة أضعاف ما أنفقتُه أنا فيها، فلما لقيته قال: نُعِدّ سنداً بالمبلغ لندفعه لك. فضحكت وقلت: ولكني صرفت عُشر هذا المبلغ الذي قدّرتموه. قال: كيف؟ فخبّرتُه بما صنعت، فعجب منه وأُعجِب به وقال: يا ليت جميع القُضاة يصنعون مثل هذا، ينجزون الأعمال ويوفّرون الأموال. قلت: ولكن يا زيوار بك، الفرش! قال: "تكرم عينك"، وكتب لي رسالة رسمية إلى تاجر

في سوق الأروام (وهو جزء من سوق الحميدية المشهور) اسمه كوكش يُعَدّ من أكبر تُجّار الأثاث، فأخذت منه مكتباً وفرشاً كاملاً للغرفة بقي يُستعمل بعدي أكثر من عشرين سنة. إني لأفكّر الآن، فأتساءل: هل ما عملته صواب؟ ولو سُئلت عن مثله هل أُفتي به وأنصح السائل بأن يعمل مثل ما عملتُ؟ أظنّ بأن الجواب: لا. لأننا لو تركنا لكل موظف أن يجتهد رأيه وأن ينفّذ ما يراه من غير أن يرجع إلى رئيس يملك حقّ البَتّ في الموضوع، لصارت الأمور فوضى ولفسدت حياة الناس. فالذي عملته كان بالمصادفة خيراً، ولكن عمل مثله وجعل ذلك قاعدة يكون منه شرّ مستطير. * * * أنا أدوّن الآن ذكريات سنة 1361هـ، وقد كان عمري أربعاً وثلاثين سنة، تنقّلت في البلاد ورأيت أصنافاً من العباد ولكني لم أخالطهم ولم أداخلهم، كنت ألقاهم من فوق أعواد المنابر أو من خلال أوراق الصحف والمجلاّت أو من فوق منبر التدريس. والذين لقيتهم إنما كان لقائي بهم عارضاً، أُلامسهم ولا أداخلهم، فلما وليت القضاء رأيت ما لم أكن أعرف من قبل، رأيت في كلّ قرية من القرى رجلاً له مطامع وله نفوذ وله سلطان، ولكن أكثر هؤلاء ليس له مع هذا النفوذ عدالة ولا إيمان، فكانوا يظلمون الناس ويستحلّون أموالهم ويعبثون بحقوقهم، ويُلبِسون «طاقية» زيد عَمْراً، هَمّهم من ذلك كله أن يدخل المال جيوبهم وأن يزيد بين الناس جاههم وأن ترتفع منازلهم. وكان أكثر ما يعتمدون

عليه الصلة بالحُكّام، أو إيهام العوامّ أن لهم صلة بالحُكّام. ولقد رأيت مَن يأتي فيسلّم عليّ كما يسلّم الناس على القاضي الجديد، ثم يستغلّ هذا السلام في ظلم الأنام وفي سلب أموالهم وفي إضاعة حقوقهم. ولقد كنت أسمع الناس هنا يَعجبون حين يرون أمثال هذه القصص في المسلسلات التي تصوّر حال الأرياف في مصر ويحسبونها مبالغة، فكنت أقول لهم إنني رأيت كثيراً من أمثالها. لذلك نشأت لديّ عُقدة نفسية: خوف من أن يستغلّني واحد من هؤلاء، فكنت أهرب منهم وأبتعد عنهم وأغلق بابي في وجوههم. كانوا يقولون قديماً: إنّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ ... وَلِيَ الأحكامَ، هذا إنْ عَدَلْ فرأيت أنّ مَن عدل كان أكثرَ الناس أصدقاء، ولكن هؤلاء الأصدقاء من الضعاف الفقراء الذين لا ترتفع أصواتهم ولا يمتدّ نفوذهم إلى أبعد من أسرهم وذويهم، ووجدت أن أصحاب النفوذ وأهل الوجاهة وزعماء الأحياء والقرى، وهم قِلّة، لا يرضون إلاّ عن القاضي الذي يماشيهم ويسايرهم، ويسهّل لهم أعمالهم ويكون معهم، ولو كان ذلك على حساب العدل والحقّ. فلما وصلت دوما ساءلت نفسي: هل أؤثر دنياي فأجامل هؤلاء وأعاملهم بالحسنى لأدفع شرهم عني، أم أقيم العدل على ساقَيه ولا أبالي بأحد في سبيله؟ فآثرت الثانية، ولم أنسَ ما كنت كتبته عن الشيخ سليمان الجوخدار الذي ولي إفتاء دمشق قبل ثمانين سنة فعادى جماعة من الوجهاء أيام العثمانيين، فما زالوا به حتّى أخرجوه من وظيفته وأبعدوه عن منصبه.

فكرت: ما الذي يمكن أن يصنعوه معي؟ أمّا المنصب فلا والله ما باليته، ولقد عشت من عمري دهراً قبل أن أصل إليه وسأعيش إن امتدّ بي الأجل بعد أن أخرج منه (¬1)، ليست حياتي متوقّفة عليه ولا مربوطة به. وليس لي مال ولا عقار أخاف أن يسلبوه مني، وليس لي جاه أحرص عليه من طريق الوظيفة، إذا كان لي شيء من الجاه فإنما جاءني بلا طلب مني، عن طريق قلمي وعن طريق لساني وعن طريق مواقفي، فلا يؤثّر فيه كوني موظفاً أو كوني بعيداً عن الوظيفة. فقررت أمراً واعتزمتُه، ما أظنّ أن أحداً سبقني إليه؛ هو أن أسدّ بابي وأشدّد حجابي في وجه المسلّمين عليّ من هؤلاء الوجهاء والزعماء من أصحاب المطامع، ففعلت ذلك فلم ألقَ واحداً منهم، وكتبت على بابي: "إن المحكمة للمعاملات لا للمجاملات، فمن جاء يسلّم عليّ فأنا أشكره وأرجو ألاّ يعود، ومن جاء لمعاملة قانونية له في المحكمة فأهلاً به وسهلاً". وعلّقت إعلاناً على باب المحكمة بالخطّ الكبير كتبت فيه: (1) لا تُقبَل المراجعات والمعاملات إلاّ من صاحب العلاقة أو وكيله القانوني. (2) لا تُقبل المراجعات من الأئمة والمختارين (المختار هو العمدة) وملاحقي الأوراق إلاّ إن كانت لهم شخصياً أو كان بأيديهم وكالة قانونية. ¬

_ (¬1) تركت القضاء (أو تركني هو) سنة 1966، وها أنذا الآن في آخر سنة 1985 وأنا أحسن حالاً وأكثر بحمد الله مالاً.

(3) لا يُستوفى في المحكمة إلاّ الخرج القانوني عن المعاملات والعقود التي تجري خارجها. (وكان هذا الخرج لا يزيد على خمس ليرات سورية، تعدل عند الصرّاف اليوم ريالين). (4) لا تجري العقود والمعاملات خارج المحكمة إلاّ بإذن من القاضي. (5) من تجَرّأ على دفع أيّ مبلغ من المال ولو كان هدية أو إكرامية لآذن (لفرّاش) أو لموظف من موظفي المحكمة، يُنظّم بشأنه الضبط اللازم ويُساق إلى النيابة فوراً. (6) تُقبل المراجعات كل يوم إلى الساعة الثانية عشرة، عدا اليومين المخصّصَين للعقود. (7) مَن تأخّرَت له معاملة عند موظف في المحكمة بلا سبب مشروع فليراجع القاضي. منعت المهنّئين جميعاً من الدخول عليّ لأني وجدت أنني لا أستطيع أن أجمع بين رضا الله بالدفاع عن الضعاف المظلومين ورضا هؤلاء الوجهاء الذين يريدون إضاعة مصالح الضعاف وهدر حقوقهم وصولاً إلى مطامعهم. وجاءني المفتي، وهو أقرب الموظفين إلى القاضي عُرفاً وقانوناً. وكان مفتي دوما في ذلك الوقت (قبل ثلاث وأربعين سنة) رجلاً شبه جاهل، وكان ممالئاً للفرنسيين غارقاً في العصبيات المحلّية، وكان يخطب في الجامع الكبير، فكرهه الناس حتّى اضطروا إدارة الأوقاف (ولم تكن قد صارت وزارة)

إلى ربط الخطبة بغيره. وأذكر أنه دخل مرّة فصعد المنبر، فلما رآه المصلون حملوا أحذيتهم وخرجوا يبتدرون المساجد يفتشون عن مسجد آخر يصلون فيه، ولم يبقَ منهم أحد. كانت في الناس يقظة وكانوا يعرفون كيف يُظهِرون الرضا عن الصالح والنقمة على الطالح، وهذا من أسباب صلاح الحال. دخل عليّ فلم أستطع أن أردّه واستقبلته متحفّظاً، وسمعت منه الكثير ولم أقُل له إلاّ القليل، وعرض عليّ «خدماته» وأنه لا يريد إلاّ راحتي وما عليّ إلاّ أن آمر بما أتمنّى فيُطاع أمري. ولمست من كلامه صحّة قالة السوء عنه ورأيت في مظهره صدق ما يقول الناس عن مخبره، فقلت في نفسي: أقطع الخيط من أول يوم. وأبعدت عن قلبي فكرة الاستفادة منه أو مجاملته، وقلت له: إن راحتي بأن تكون صلتي بك -مع احترامي إياك- في حدود الرسميات، ولا آمر بل أرجو ألاّ يكون بيننا زيارات ولا صلات إلاّ ما تقتضيه الوظيفة. فتجهّم، وقال: ولكن لماذا؟ فقلت: ليس عليّ أن أخبرك وليس لك أن تسألني لماذا؛ أنا حرّ في أن أصادق من أشاء وأبتعد عمّن أشاء، ولك مثل الذي لي من هذه الحرية. فكسبت بذلك أول عدوّ لي. وكان عدواً قوياً مُؤيَّداً من جماعة قليلة جداً من الناس ولكنها قوية، ومن جمهور الحُكّام، ومن المستعمرين الفرنسيين الذين يتزلّف إليهم ويتقرب منهم. والثاني: مأمور الأوقاف. وهو شاب يتّخذ زيّ العلماء، الجبّة والعمامة، وله بعض الاطّلاع على مبادئ المذهب الحنبلي (لأن أهل دوما حنابلة). وقد سلك الطرق الملتوية حتّى صار

مفتي الحنابلة في دمشق، وهو خطيب طلق اللسان يُحسن الكلام وإن كان أكثر كلامه خالياً من العلم، وهو نموذج لطبقة عندنا من المشايخ، إذا وقفَت أمام الجمهور تخطب في المساجد يكاد يذوب أفرادها من الخشوع لله ويتفجّرون تارة من الغضب لله، فإذا صاروا أمام الحُكّام كانوا مرآة لهم، لا يرى الحُكّام فيها إلاّ ما تهوى أنفسهم وآلة مسجّلة لا يسمعون منها إلاّ كلامهم، يكرّره هؤلاء ويعيدونه ويشرحونه ويضعون له الحواشي؛ يقولون ما يرضي الحُكّام ويعظّمهم ويُطربهم، وربما كان منهم (وقد تحقّقت من ذلك) من هو عين لهم علينا، يدلّهم على عوراتنا ويرشدهم إلى مواطن ضعفنا ويُفشي لهم أسرارنا. فإن جاءت فرصة لاح فيها شبح منفعة لأحدهم (من مال يناله أو وظيفة يأخذها) وثب عليها، لم ينظر إلاّ إليها ولم يفكّر إلاّ فيها، ونسي ما كان يعظ به ويدعو إليه. ولي مع هذا المأمور قصّة طويلة (ربما جاء ذكرها)، وما زلت به أتابعه في التقارير وفي الرسائل إلى مديرية الأوقاف حتّى وُفِّقتُ إلى إزالته ووضع رجل صالح مكانه. وكان المدير العامّ للأوقاف هو جميل بك الدهان، الرجل التقيّ الحازم. ومن الغريب أن هذا المأمور (الذي كان شاباً في تلك الأيام وصار الآن كهلاً أو شيخاً) مقيم هنا، كما يُقيم رفيق له أكبر منه سناً وأقدم في هذه الصناعة الخبيثة قدماً، قد استحوذ هذا المأمور على ثقة كبير من رجال المال والأعمال، فهو يرتع اليوم في ماله ولا يساعده في شيء من أعماله.

وكسبت عدواً ثالثاً، رجل له نفوذ عند الحكومة وله مقام عند رئيس الجمهورية، وكان عضواً في المجلس النيابي. جاءني مرّة فدخل عليّ بلا استئذان، فاحتملت ذلك منه وسكتّ عنه، وقررت ألاّ أجعل له سبيلاً إلى إعادة مثلها. فقعد منتفخاً ورفع رجلاً على رجل، وبدأ يَمُنّ على القُضاة بأنه اقترح في المجلس زيادة رواتبهم وأنه يدخل على رئيس الجمهورية متى شاء، فقلت له: اسمع يا أخانا، إن رئيس الجمهورية يملك من السلطان ما يُدخِل به مجلسَه مَن شاء ويمنع منه من شاء، أما أنا فلست إلاّ قاضياً من القُضاة مقيّداً بقوانين لا أستطيع أن أخرج عنها ومكلّفاً بأعمال لا أقدر أن أقصِّرَ فيها، وإذا فتحت بابي لمن شاء أن يتسلّى عندي أو يمنّ عليّ بكلام لا يمكن أن أقبله منه عطّلت لذلك مصالح العباد وقضايا المراجعين وخنت أمانتي، لذلك أرجو منك بصراحة ألاّ تدخل عليّ إلاّ إذا كانت لك قضية أنت المدّعي فيها أو الوكيل عن المدّعي، أو أنت المدّعى عليه أو الوكيل عنه، أو كانت لك معاملة هي من خصائص المحكمة. وفي غير هذه الأحوال تسمح لي أن أمتنع عن استقبالك. فحاول أن يهدّد بأن يشكوني إلى الرئيس فقلت له: اسمع، هذا الأسلوب لا مكان له عندي. أنا أقدم منك صلة بالرئيس (شكري بك)، أنا عملت معه يوم كنت قائد الشباب في النضال للاستقلال يوم كنت أنت وأمثالك تفتّشون عن مصالحكم، وهي ضالّتكم، فحيثما وجدتموها وقفتم عندها ولو كانت عند المستعمرين أعداء المسلمين. لذلك وفّر عليك تهديدك أو اذهب إلى فخامة الرئيس فقل له إن فلاناً (الطنطاوي) قال كذا وكذا.

وبلغني أنه ذهب إليه فردّه رداً سدّ عليه طريق الرجوع إلى مثل ما صنع. والعدوّ الرابع الذي كسبته في أيامي الأولى في دوما أحد أتباع الأمير فواز الشعلان، كان يتكلّم باسمه، يراجع الدوائر ويقابل رؤساءها، يدافع عن قضايا جماعة الأمير من عشيرة الرّوَلة. دخل عليّ في دعوى أُقيمَت عليه فكلّفت المدّعي أن يأتي بالشهود، فلم يجرؤ أحد على الشهادة عليه. وقد خبّروني بعد الجلسة أنهم يخشون الإدلاء بها خوفاً على أنفسهم، فسألتهم: هل سبق أن شهد عليه أحد فقتله أو آذاه؟ قالوا: لا. فلما كان يوم المحاكمة تصوّرت عظمة الله وعظيم جزائه لمن يجترئ عليه وكبير ثوابه لمن يدافع عن الحقّ الذي أمر به، وتوجّهت إلى هذا الرجل (ونسيت اسمه) فحذرتُه عذاب الله ونبّهت في نفسه إيمانه، وقلت له كلاماً لا أستطيع أن أعيده الآن، لأنني لم أكن أنا الذي يتكلّم به بل كان يتكلّم به يومئذ على لساني ما اعتراني من الصلة بالله والاعتماد عليه، وما زلت في هذا حتّى اغرورقَت عيناه بالدمع وقال أمام الناس (وهم لا يكادون من دهشتهم يصدّقون ما يسمعون)، قال: نعم، والله له عندي حقّ، وأنا أستغفر الله، وحقّه مضمون. فقلت له: بارك الله فيك وأعظم ثوابك ... وأثنيت عليه وبيّنت له عظم ما جاء به عند الناس وعند الله. وكذلك يغلب الحقّ إذا عرفت كيف تدلّ عليه وتنبّه إليه وتوقظ الإيمان في نفس المؤمن، حتّى مَن كان مجاهراً بالمعاصي

إذا وضعت يدك على زر الإيمان في قلبه فإنه يشتعل نوراً كما يشتعل مصباح الغرفة إذا مسست بإصبعك مفتاح الكهرباء. * * * كثُرَت عليّ ألسنة المنتقدين من الوجهاء ومن المتزعّمين، وكان جمهور الناس يدعون لي ولا يملكون عني دفاعاً ولا يملكون لي نفعاً، ولكن الله الذي أمر بأن ندافع عن المظلوم هو القادر على حمايتي {إنّ الله يُدافعُ عن الذينَ آمنوا}. فأمضيت سنين طوالاً في دوما وأنا على هذه الوتيرة، ما لقيت يوماً من أحد سوءاً، والذين تحاملوا عليّ ونظروا النظرة السوداء إليّ عادوا فأثنوا عليّ لما رأوا بأنني لا مصلحة لي عند أحد، ولا أبتغي لنفسي نفعاً ولا أدفع عنها ضراً، ووفّق الله وخرجت من دوما ولا يزال ذكري فيها بحمد الله عَطِراً طيّباً. ولا تلوموني إذا قلت ذلك عن نفسي، فإنما أقوله تشجيعاً لغيري في أن يسلك هذا المسلك مثلي. * * * وقعت لي حوادث طريفة في القضاء أعرض لبعضها: من حسنات الفرنسيين في الشام التي حكموها خمساً وعشرين سنة كاملة، لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً (¬1) أنهم أنشؤوا فيها سجلّين عظيمَين لا تزال أكثر الدول العربية خالية منهما، بل إن السِجِلّ العقاري لا تزال بعض دول أوربّا بعيدة عن تطبيقه لم تعرفه. ¬

_ (¬1) وإن تأخّر الجلاء الفعلي عن الاستقلال المعلَن.

هما: سجلّ النفوس (سجلّ الأحوال المدنية)، والثاني: السجل العقاري. أما الأحوال المدنية فقد كانت سوريا سابقة البلاد العربية إليه بفضل الله، ثم بفضل الفرنسيين. وأنا ما أحببت الفرنسيين يوماً من أيام استعمارهم لبلادنا، ولكن هذا لا يمنعني أن أذكر الفضل لذويه، والله علّمنا أن لا يجرمنّا شَنآن قوم على أن لا نعدل، أي أننا إذا أبغضنا قوماً ورأينا لهم منقبة فلنذكرها ولا يمنعنا كرهنا إياهم من ذكر مناقبهم. لكل فرد من أفراد أهل سورية (رجالاً ونساء) صفحة في سجل النفوس، فيها تاريخ مولده بالساعة والدقيقة، وتاريخ زواجه إذا تزوّج وطلاقه إذا طلّق، وأسماء زوجاته إذا تزوّج، وأعمار أولاده إذا وُلد له أولاد، فإن مات منهم ناس سجّلوا موتهم ... وهذا ما ليس له مثيل، ففي مصر لا تزال تُسجّل الأحوال المدنية في دائرة الصحّة. أمّا السجلّ العقاري فقد عمد الفرنسيون إلى رسم خرائط مفصّلة لدمشق والبلاد السورية كلها، فيها حدود كلّ بيت وكلّ غرفة من هذا البيت، طولها وعرضها وسُمْك جدرانها. وإذا كانت عمارة كبيرة سُجّلت الحقوق لأصحابها فيها، فما كان مشترَكاً كالسلالم والممرات سُجّل مشترَكاً ووُضعت له قواعد عند الاختلاف على إصلاح ما فسد منه، ومن كانت له دار مستقلّة، ووضعت لذلك خرائط مفصلة محفوظة ولها صور فإذا فقدت أُعيدَت صورتها. وكانوا بين كلّ مدة وأخرى يعلنون عفواً على المكتومين، أي عن السوريين الذين لم يسجّلوا أنفسهم في سجلاّت النفوس،

فتقام الدعاوى في المحكمة الشرعية لتثبيت النسب والدعاوى في المحكمة الصلحية لتواريخ الولادة وتصحيح الأسماء. وكان عفوٌ، فجاءتني مرّة امرأة أقام عليها ولدها المكتوم دعوى صورية لإثبات نسبه ليسجّل في سجلّ النفوس، فسألتُه عن اسمه وعن ولادته، فذكر بأن عمره ثلاثون سنة، فسألت أمه المُدّعى عليها عن اسمها وعمرها، فذكرَت اسمها وقالت إن عمرها خمسٌ وثلاثون سنة. فضحكتُ وقلت: يا امرأة، ولدك يقول إن عمره ثلاثون سنة، فهل ولدتِه وأنت بنت خمس سنوات؟ فقالت متضجّرة: والله ما أدري يا سيدي القاضي، اكتبها أربعين. قلت: يا امرأة، بنت عشر سنين لا يمكن أن تلد. قالت: ما هي السن التي أستطيع أن ألد فيها؟ قلت: خمس عشرة سنة على الأقلّ. قالت: طيّب، اكتب أن عمري خمس وأربعون سنة. وصلنا إلى ذلك بعد مفاوضات بيني وبينها كالمفاوضات على تقسيم برلين بعد الحرب الأولى وعلى المفاوضات الآن لنزع السلاح بين أميركا وروسيا، وقبلت بعد لأي ومشقّة أن يكون عمرها 45 سنة، وهي -كما يبدو- لا تقلّ في عمرها عن ستّين سنة! ولكنها خلّة تكاد تكون عامّة في النساء. ومن الرجال مَن يكره أن يخبر بعمره الحقيقي مع أنه «إنما يأسى على العمرِ النساء». حتّى إنني لقيت في دوما رئيس دائرة من الدوائر كان رفيقي في المدرسة سنة 1919، فبعد أن انصرف الناس ذُكرت الأعمار (وذلك سنة 1942) فقال بأن عمره خمس وعشرون سنة. فقلت: ولك يا أخي ما تستحي؟ أما كنّا رفاقاً في الصف الخامس الابتدائي سنة 1919؟!

لست أدري لماذا يحاول بعض الناس أن يصغّروا أنفسهم، كأنهم يخادعونها على طريقة المتنبّي الذي قال: تصفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ ... عمّا مضى منها وما يُتوقّعُ ولِمَنْ يُخادعُ في الحقائقِ نفسَهُ ... ويَسومُها طلبَ المُحالِ فتقنَعُ * * * وحادثة أخرى طريفة، هي أن امرأة قروية جاءت تدّعي الطلاق على زوجها. فأنكر، فكلّفتها أن تحدّد زمان الطلاق ومكانه وشهوده، فقالت: كان الطلاق في بيت زوجي. فسألتُه: هل كان الطلاق في بيتك؟ قالت: بل في بيت زوجي الثاني. يقولون: "وكان متكئاً فاستوى جالساً"، فتنبّهت وصارت جوارحي كلها آذاناً تسمع، وقلت لها: هل لك زوج آخر؟ فقالت (وهي آمنة مطمئنّة، تتكلم بصوت عادي كأنني سألتها: ما هذا اليوم؟ فقالت: هو يوم الأحد أو الإثنين ... لا ترى في جوابها بأساً): نعم يا سيدي لي زوجان. قلت: هذا واحد وأين الثاني؟ قالت: هنا بين الحاضرين. فقلت لزوجها المدّعى عليه: ماذا تقول؟ قال: نعم لها زوج آخر. قلت: أعوذ بالله، هل طلّقتها؟ قال: لا. قلت: من زوّجَ الآخر بها وهي على ذِمّتك؟ قال: يا سيدي إمام الضيعة (¬1). قلت: أين هو الإمام؟ فقام من بين الحاضرين شيخ قروي بلحية طويلة فقال: أنا. ¬

_ (¬1) «الضَّيْعة» هي القرية في عامية سوريا ولبنان، وأصلها في اللغة: العقار أو الأرض التي تُنتج خيراً (مجاهد).

قلت: هل زوّجت هذه زوجاً ثانياً وهي على عصمة الأول؟ فقال: نَعام (ومدّ الألف حتّى صارت كالمدّ المتصل في التجويد). قلت: ويحك، وكيف زوّجتَها؟ قال: يا سيدي، هذا عسكري في الجيش الفرنسي، وقد خطفها وذهبَت معه وأبت أن ترجع إلى زوجها، فهل تريد أن تبقى معه في الحرام؟ قلت: لا طبعاً. قال: لذلك زوّجتها. فأحلتُه إلى النيابة فوَقفوه مدّة، ثم صدر عفو شامل شمله وخرج إلى بيته. * * * ومن أغرب ما وقع لي في قضاء دوما (وكنت يومئذ أقوم مقام حاكم الصلح، وقد ذهب في إجازة): جاءني رجل فلاّح يدّعي أنّ قوماً ذبحوا أخاه. قلت: وأين الجثّة؟ قال: تفضّل يا سيدي حتّى أريك إياها. وكان الوقت بعد العصر، فاستدعيت الطبيب الشرعي لأن القانون يوجب حضوره، فكسل وتعلّل واعتذر عن المجيء، فغضبتُ وأرسلت مذكّرة إحضار فأحضرتُه جبراً (وندمت على أني فعلت، فما كان مثل هذا العمل مألوفاً). فخرجنا من دوما أنا والطبيب والكاتب والدرَك (أي شرطة القرى)، ومشينا حتّى جاوزنا بساتين الغوطة وسلكنا أطراف الجبال التي يؤدّي أيسرها إلى قرية التّل وأيمنها إلى أماكن مهجورة لا أعرف أن أحداً يمشي إليها، فليس فيها مصيف وليس فيها نبع ماء، فما زال بنا حتّى أمضينا على الطريق أكثر من ساعتين. وكان مع الدرك فرس هزيل يمشي ورأسه بين رجليه فعرض عليّ أن أركبه. وأنا -على ممارستي أنواعاً من الرياضة- لا خبرة لي

بركوب الخيل، فاعتذرت ومشيت، حتّى انتهى بنا قُبَيل الغروب إلى وادٍ مقفر ما أحسب أن الذئاب والثعالب تدنو منه. فرأينا جثّة متعفّنة، فحصها الطبيب الشرعي وقرّر أن صاحبها مقتول. فسألت المدّعي: من الذي تشكّ فيه؟ فاتهم رجلاً من أهل بلده اتهاماً صريحاً. وأراد الدرك أن يتسلّموا الأمر فقلت: دعوني أنا. فأخذته جانباً ورسمت في ذهني خُطّة هي: مَن الذي دلّ وليّ المقتول على مكان جثّته؟ لأن الجثّة ليست على طريق مسلوك ولا في مكان ظاهر، بل هي في وادٍ لا يصل إليه إلاّ مَن وضع الجثّة بيده. فشككت في أن يكون هذا المُخْبِر (وهو أخو القتيل) هو الذي قتله، وبنيت أسئلتي على هذا الأساس وجعلت أسأله السؤال عقب السؤال، لم أضربه كما كانوا يصنعون أحياناً ولم أمسّه بسوء ولم أوجّه إليه كلمة نابية، بل حصرته حصراً منطقياً ليخبرني كيف عرف أن جثّة أخيه ملقاة هنا؟ فلم تمضِ نصف ساعة (والكاتب يدوّن الأجوبة) حتّى تهاوى واعترف بأنه هو القاتل. وكان ذلك أول تحقيق جنائي مارستُه ونجحت فيه بحمد الله وتوفيقه، ثم لأنني حكّمت العقل قبل طرح الأسئلة ومناقشة الرجال. وجاءني كتاب من النيابة العامّة فيه شكر وتقدير أحسب أنه لا يزال باقياً عندي. * * *

ثورة في دوما: نار شبت ثم خمدت

-118 - ثورة في دوما: نار شَبَّتْ ثم خمدت أثارت جريدة «الشرق الأوسط» (في عدد 11/ 8/84) مسألة: هل من الأفضل في كتابة المذكّرات التركيز على الأحداث والوقائع، أم تسجيل المبادئ التي يعتنقها صاحب المذكّرات؟ وأنا أسوق السؤال بعبارة أخرى: هل المذكّرات مجرد سرد للأحداث، أم أن يبيّن الكاتب أسبابها وعللها ويحكم عليها أو لها؟ ولكي أجيب على هذا السؤال أحدّد معنى الذكريات: الإنسان يُحِسّ؛ يسمع صوتاً أو يرى لوناً. «يُحِسّ» ثم «يدرك» أن هذا الصوت صوت إنسان أو حيوان، وأن هذا اللون لون نبات أو جماد. «الإحساس» أولاً ثم «الإدراك»، ثم يأتي الفهم والمعايشة. ثم يبتعد الإنسان عن هذه الأحداث فينساها كلها أو بعضها، فما بقي منها في الذاكرة فهذه هي الذكريات. أنا قد «أذكر» الحادثة فقط وأنسى ظروفها: زمانها ومكانها وناسها، وربما كان الوضوح في ذهني للناس دون الحادثة، أو الحادثة دون أبطالها وأصحابها. فإذا أردت أن أكتب ذكرياتي

(وهذا ما أصنعه الآن) أنظر، فما أجده في ذاكرتي أنقله منها إلى الورق، أو إلى المسجّلة، أثبته بصوتي في شريطها فيطبعه أخونا طاهر أبو بكر، أحسن الله إليه وإلى الجريدة وأصحابها. وفي الذاكرة ما لا أُحصيه من الحوادث والمشاعر وأوصاف الناس وأخبارهم، ولكنها لا تحضر إلاّ من طريق تداعي الأفكار؛ فالشيء يُذكّر بمثيله أو بنقيضه، أو بما هو مقترن به، أو بما هو متفرع عنه أو مرتبط به. وبعد، فهل رأيتم حبّات العقد الجميل، مصفوفة فيه متناسقة، مؤتلفة ومختلفة، يأتي جمالها من اختلافها وائتلافها لأن «الضدّ يُظهر حُسنَه الضدُّ» ... فانقطع خيط العقد وتناثرت حبّاته، فأقبلت تبحث عنها، تجمعها، فأمسكت بأقلّها وضاع منك أكثرها، تدحرج حتّى سقط في النهر أو وقع في البئر. هذا مثال ذكرياتي في دوما وما سيأتي بعدها؛ انقطع خيط التاريخ الذي يربطها فلم أعُد أعرف المتأخر منها من المتقدّم، ولقد غاب عني الكثير منها، طواه النسيان، وما طواه النسيان قلّما ينشره الإنسان. لذلك أسرد ما يحضرني من ذكريات دوما، لا أراعي فيه ترتيب السنين لأني صرت أعجز عن أن أراعيه. أهل دوما مشتغلون بالزراعة، مُقبِلون عليها بارعون فيها، يُحبّون الأرض فيأخذون منها بمقدار ما يعطونها، فهم عاملون جادّون، قلّما يعرفون اللهو وقلّما يفرّطون في ساعات العمر. لذلك لم يَجِد القانون الذي ابتدعوه بعد ذلك بزمن طويل وسمّوه

كذباً قانون «الإصلاح الزراعي» (¬1)، لم يجد سبيلاً إلى دخول البلد، لأن الأرض مقسّمة بين أهلها من غير تقسيم رسمي، ليس فيها ملكيات كبيرة فكلّها قطع صغيرة، يملك كلَّ قطعة منها واحدٌ منهم يقوم عليها ويرعاها. ولذلك كانوا يقولون عن أهل دوما قديماً: «إنهم يعيشون فقراء ويموتون أغنياء»، أي أنهم يصرفون همّهم كلّه للأرض فلا يستمتعون استمتاع الغنيّ بماله، فإذا ماتوا عنها كانوا أغنياء بما تركوا لورثتهم منها. انظروا إلى هذا الكون تروا فيه نهاراً مضيئاً وليلاً مظلماً، وربيعاً ضاحكاً بالزهر وشتاء باكياً بالمطر، وورداً وشوكاً، وتروا في الناس إيماناً وكفراً، وفضيلة ورذيلة، ونقصاً وشيئاً يشبه الكمال ... هذا هو حال الإنسان وهذه هي صورة الدنيا. ولو شاء الله لجعل الناس أُمّة واحدة تمشي كلّها في طريق الجنّة، تسلك جادة الصواب، تأتي الخير كلّه وتدع الشرّ كلّه، وإذن يكون في الأرض ملائكة يمشون لأن الملائكة {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون}، ولكن الله لم يُسكِن الأرضَ ملائكةً بل أسكنها بشراً، ولكل مجتمع بشري عيوبه ونقائصه وله حسناته وكمالاته. فمن عيوب المجتمع في دوما أنهم كانوا مشهورين قديماً بكثرة الحلف بالطلاق، حتّى رووا أن قاضياً جاء أيام الدولة العثمانية فأراد أن يمنع هذه الخلّة القبيحة، فأخرج منادياً ينادي ¬

_ (¬1) {إذا قيلَ لهم لا تُفْسِدوا في الأرضِ قالوا إنّما نحنُ مُصلِحونَ}.

في الناس أن من حلف بالطلاق عاقبه القاضي. وليؤكّد المنادي كلامه قال لهم: "عليه هو الطلاق من امرأته إنّ هذا هو كلام القاضي، لم يتزيد به ولم يبالغ"! وقد تكون هذه القصّة متخيَّلة لا أصل لها وربما كانت مَسوقة مساق النكتة، ولكن لديّ حقيقة سمعتها بأذني: كنت في غرفتي في قصر الحكومة، وكان بين جدار القصر والشارع حديقة ضيقة فيها أشجار تظلل الطريق، فسمعت نسوة قاعدات فيها، مستندات إلى جدار القصر تحت شبّاكي يتناقشن في أمر، فإذا واحدة منهن تحلف بالطلاق أن الذي تقوله صواب! امرأة تحلف بالطلاق، سمعتها بأذني! وشهرة دوما قديماً بالحلف بالطلاق كشهرة أهل لبنان بسبّ الدين، وهي أبشع وأشنع من الحلف بالطلاق، وقد قلّ هذا وذاك فصاروا يقولون بدلاً من كلمة الطلاق «الطرباق» أو «الطرشاق» ... كلمات لا معنى لها يُجرونها على ألسنتهم بحكم عادتهم على الحلف بالطلاق، ليتخلصوا من تلك العادة، وأهل لبنان صاروا يقولون «يحرق ديكك» بدلاً من سبّ الدين. * * * وكان في دوما أوائل عهدي بالوصول إليها أمر بشع جداً، لا يأتيه إلاّ الطغام وسَفَلة الناس والفسقة السفهاء منهم، شيء اسمه «الشكار». موجود كما سمعت في الشام، عشت ولم أرَه بحمد الله ولا رأيت من رآه، ولولا أني قرأت وصفه في مذكّرات الرئيس خالد العظم لما عرفت ما هو. ولن أشرحه ولن أوضّحه، فإنني

إن فعلت أكون داعية سوء ودالاًّ على الشرّ بدلاً من أن أكون داعية خير ودالاًّ عليه. وجاء وأنا قاضي دوما رئيسٌ لمخفرها، شركسي قوي حازم يغار على الفضيلة ويدافع عنها، فصار يتعقب من يعمل هذه «الشكارات» (التي قُضي عليها الآن ولم أعد أسمع لها ذكراً). ولقد بثّ عيونه وأرصاده فعلم أن منزلاً من المنازل يقام فيه شكار، فداهمه وطوّقه بجنده، وأراد أن يقبض على من قام به فقاوموه وأطلقوا عليه وعلى جنده الرصاص، فلم يكن يقدر أن يدافع عن نفسه إلاّ بإطلاق النار، فأصاب واحداً منهم فقتله. فلما كان اليوم التالي، وكنت في محكمتي أنظر في قضية من القضايا، وأذكر أن أحد المحامين الواقفين أمامي كان الأستاذ داود التكريتي، وكان الأستاذ التكريتي والأستاذ ظافر القاسمي رحمه الله والأستاذ عاصم الإنكليزي قد أنشؤوا داراً للنشر وطبعوا كتباً مفيدة. كنّا في نظر القضية، وإذا أصوات تأتي من الشارع وجلبة وصياح وضوضاء، فنظرت فإذا جموع أولها يكاد يبلغ باب القصر وآخرها لا يبدو لنا من كثرتها. فوَقفتُ المحاكمةَ وبعثت أنظر ما الذي جرى، فقالوا: إن دوما ثائرة وإن آلافاً مؤلفة من أهلها الذين غضبوا لقتل رئيس المخفر لهذا الرجل منهم قد حملوا ما وجدوا من أسلحة، وتوجهوا ثائرين مهدّدين إلى قصر الحكومة. وكان منهم من يحمل بندقية صيد، ومنهم من يحمل مسدساً، ومنهم من يحمل سيفاً أو يلوّح بسكِّين أو عصاً، وكان

الغضب ظاهراً على وجوههم وأصواتُهم بالتهديد والوعيد تملأ الفضاء من حول القصر، ثم رأيت الدرك (أي شرطة القرى والأطراف) قد أغلقوا باب القصر وأحكموا رِتَاجه، فذهبت إلى قائم المقام (وكان صديقنا الدكتور عبد الكريم العائدي رحمه الله، وهو رجل وطنيّ شارك في الثورة السورية وله مواقف)، فقلت له: أنا أرى أن تفتح الباب لأن إغلاقه يزيد هذه النار ضراماً ويدفعهم إلى اقتحام القصر، وإذا فعلوا لا يدري إلاّ الله ماذا يكون منهم. فأبى وظهر عليه الخوف، فقلت: يا دكتور، أنت تخاف؟ وأنت الذي شارك في الثورة وخاض معامع القتال؟ قال: لا أستطيع أن أواجه هؤلاء، بل أستنجد بدمشق. ورفع سماعة الهاتف يطلب النجدة منها. قلت: إلى أن تصل النجدة يكون المحذور قد وقع، والأَولى أن تفتح الباب وتواجههم. فلما أبى قلت: أنا أفتح الباب وأخرج إليهم. فحاول أن يثنيني عن هذا وخاف عليّ فحذّرني من النتائج، وكان الموظفون قد اجتمعوا عنده، فقلت له: هؤلاء كلهم شهود على أنني خارج إليهم على مسؤوليتي أنا وليس عليك من تبعة ذلك شيء. قال: افعل ما تراه. فتحت الباب وخرجت إليهم. وكنت بالعمامة البيضاء لأنني قاضي البلد، وكان أكثر الناس يُحبّونني. فوقفت أشير إليهم بيدي أن يسكتوا وهم يصيحون ويصخبون، ولقد همّ بعض سفهائهم بإلقاء الحجارة عليّ، ففتحت لهم صدري وقلت: افعلوا ما ترون. فلما رأى ذلك عقلاؤهم ثنوهم عنّي وأسكتوهم وانتظروا ما الذي

أقوله لهم. فألقيت عليهم خطبة بيّنت فيها أن الله لا يريد الظلم وأن الدماء مَصونة، وأن كل مجرم يعاقَب في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كان هذا الذي قُتل إنما قُتل مظلوماً فأنا أضمن لكم أن يعاقَب القاتل حتّى ترضوا. وكانوا يحملون القتيل معهم، فلما رأيته قلت لهم: أهكذا يُشيّع الميت المسلم إلى مدفنه؟ أهكذا تكون الجنائز؟ أهذا هو جلال الموت؟ هل يقابَل الموت بالصياح وبالسخط على الله أم يقابَل بذكر الله والاستغفار لمن مات والصلاة عليه والاعتبار به، ثم يكون التحقيق وعقاب من يثبت أنه مجرم؟ وما زلت بهم حتّى مالوا إليّ، واستمعوا مني وجعلناها جنازة شرعية، ودعوت الموظفين ومشينا وراء النعش كما يمشي الناس في الجنائز حتّى بلغنا مكان الصلاة على الأموات، فنظّمت الناس صفوفاً وتقدمت فصلّيت عليه. وشاركوني جميعاً (أعني من كان منهم على طهارة) تكبيرات الصلاة على الميت، ثم عدت فوعظتهم حتّى لانت قلوبهم وسالت مدامعهم وندموا على ما صنعوا. ثم عدنا وكأنها لم تكن مظاهرة ولم تكن فوضى، ولم يكن في القلب غِلّ ولا غضب ولا رغبة في الانتقام. فلما بلغنا قصر الحكومة عائدين كانت القوّة التي طلبها قائم المقام قد وصلت من الشام، فاشتدّ بهم ساعده وقوِيَ بهم ظهره، وأراد أن يُظهِر عِزّة الحكومة وجبروتها فيقبض على المتسبّبين فيما كان. فأخذته جانباً وقلت له: لقد سمعتَني أعدهم أنهم إذا تركوا ما هم فيه وعادوا إلى ما يأمرهم به دينهم ويوافقه نظام حكومتهم فإنه

لن ينالهم سوء، أفتريد الآن أن تُخلِف وعدي وتُظهِرني أمامهم بمظهر من يَعِد ولا يفي؟ قال: لا بُدّ من ذلك. فقلت: آلآن بعد أن صرفتُ عنك بإذن الله السوء وخلّصتك من أزمة ما كان يعلم ما تجرّ إليه إلاّ الله؟ آلآن أظهرتَ قُوّتك وشِدّتك، ولمّا كانوا محيطين بالقصر يطوّقونه ويريدون أن يهجموا عليه ويضرموا النار فيه هربت إلى غرفتك؟ وغضبتُ وقلت له: والله لئن لم تعُد هذه القوّة من حيث جاءت لأقودنّ أنا مظاهرة أخرى أسوقها عليك وعلى مَن وراءك، وأنت تعلم أن هذه كانت صناعتي قديماً وأنني طالما قُدت طلاّب الشام في المظاهرات وفي نضال الفرنسيين، وستحمل أنت نتائج ما سيكون. وكان عاقلاً فعاد إليه عقله، وقال: ماذا تريد؟ قلت: ندخل أولاً إلى الغرفة فلا يحسن أن نتكلم في الطريق والقوم يحيطون بنا. فدخل معي إلى غرفتي واتفقنا على أن تعود القوّة التي جاءت من الشام إلى الشام، وأن يُطوى بساط الحادث على ما كان فيه. وتمّ ذلك. وكنّا في تلك الأيام نسهر -معشر القُضاة- مساء الثلاثاء عند القاضي الكبير عبد الرؤوف بك سلطان، المفتّش العامّ لوزارة العدل، ونجتمع صباح الجمعة عند شيخ قُضاة الشام مصطفى بك بَرْمَدا، الذي لم أرَ قاضياً مثله في سعة علمه وفي سداد حكمه وفي هيبته وفي علوّ منزلته. فقصصت عليه ما كان فقال لي: احمد الله أنك نجحت ولم تُصَب بسوء فاستحققتَ الشكر على ذلك، ولو أنك أُصِبت بشيء للامك الناس على أنك عرّضت نفسك لما

ليس من شأنها وما ليس واجباً عليها. قلت: صحيح، والشاعر يقول: والناسُ مَنْ يلقَ خيراً قائلونَ له ... ما يشتهي، ولأُمِّ المُخطئِ الهَبَلُ * * * ومن طرائف الحوادث أن الدكتور عبد الكريم العائدي، الذي كان قائم المقام يومئذ في دوما، أطول رجل في دمشق. فلما حوّلنا المظاهرة إلى جنازة ومشينا وراءها قرّبني منه تكرمة لي ولأن القاضي الشرعي يلي قائم المقام في الدرجة، فنظرت فإذا ذروة عمامتي تبلغ ثديه لا تصل إلى كتفه، فابتعدت عنه، فصار يمدّ يده يمسك بيدي ليقرّبني منه، فقرصت يده (وكان صديقي) قرصة مؤلمة وقلت له هامساً: ابتعد عني الله يرضى عليك، لا تفضحني بين الناس. وله في طوله أخبار عجيبة، منها أن الدكتور سعيد فتّاح الإمام، وهو طبيب أسنان قديم صديق للعائدي وزميله في طبّ الأسنان، كانت له سيارة من سيارات الشعب (فولكس فاغن) وكان يمشي بها، فرأى الدكتور العائدي واقفاً فدعاه ليوصله. فقال له ضاحكاً: كيف أدخل في هذه السيارة الصغيرة، وهل تتسع لي؟ فأجابه: آخذك على نقلتين! كان مدار فخر العرب إن فخروا، ومدحهم إن مدحوا، على قطبَين اثنين: إنّا إذا اشتدّ الزمانُ ونابَ خَطبٌ وادلهمّ ألفَيت حولَ بيوتِنا عددَ الشجاعةِ والكرمْ

وهما نتيجتان لازمتان لحياة العرب قبل الإسلام. كانوا يعيشون في صحارى مقفرة في مجموعة من الخيام، أو في قرى لا تبلغ أمُّها (أم القرى: مكّة المكرمة) مبلغ قرية من قرى هذه الأيام. فإذا نزل أحدهم بقبيلة أو أوى إلى قرية لم يجد مطعماً يأكل فيه ولا بيّاعاً يشتري منه ولا فندقاً ينزله، فإن لم يكرموه ويطعموه مات جوعاً، فكان الكرم ضرورة لا بد منها، وكان كما يُقال الآن «مسألة حياة أو موت». ولم تكن لهم حكومة ولا كان فيهم قوّة تكفل الأمن وتحقّق العدل وتأخذ على يد الظالم لتنصف منه المظلوم، فكان اعتماد الواحد منهم في حفظ حياته على شجاعة نفسه وقوّة ساعده. ولكني ما قلت الذي قلته عن موقفي من المظاهرة فخراً بنفسي ولا مدحاً لها، فلماذا قلته إذن؟ لأن الذكريات صورة لصاحبها، لا يكفي فيها أن يعرض أحداث حياته بل صورة نفسه: خلائقه وعاداته. والحياة طريق طويل مليء بالمفاجآت وبالمصائب التي لا تتوقعها ولا تحسب حسابها، فكيف يكون موقفك أمامها إن واجهتَها؟ الموقف الذي تقفه عفواً بلا تفكير، هذا الذي يُسمّى بردّ الفعل (رِفلكس). فمِن الناس مَن إذا واجه الخطر جَمُدَ فكره وجسده فلا يصنع شيئاً، ومنهم من يقابل الخطر بالهرب، ومنهم من يواجهه بالهجوم ... وأنا من النوع المهاجم. وكل إنسان يتردّد لحظات قد تطول أو تقصر قبل أن يقرّر ماذا يصنع، وكلّما كان وقت التردّد أقصر كان الرجل أجرأ وكان

أقرب إلى الظفر. وأنا أنتقل في أقلّ من لحظة من حالة الهدوء إلى حالة الغضب، أي من السكون إلى الحركة. يكون نبضي عادياً، ففي هذه اللحظة تسرع ضرباته وأكون كمحرّك السيارة الذي يشتغل ويدور من لمسة واحدة يلمسها السائق بمفتاحه. ومن السيارات ما هو أقوى وأسرع ولكن محرّكه لا يحمى ولا يتحرك إلاّ بعد مدّة أطول. الذي يُقدم في لحظة التردّد قبل أن ينتبه خصمه منها ينجح غالباً، وربما جاءته مرّة من المرّات وجد فيها أمامه مَن هو أسرع منه قراراً وأشدّ قوّة فينهزم. ولا تحسبوا هذا الهجوم جرأة وشجاعة، بل هو تعبير عن الخوف. الخوف إما أن يدفعك إلى الأمام فتهجم أو إلى الوراء فتنهزم. كلاهما مظهر له وتعبير عنه، حتّى إن وليم جيمس يبالغ فيقول بأن الذي يواجهه الخطر يهرب أو يهجم ثم يخاف؛ أي أن الخوف إذا خلا من هذه المظاهر الجسدية لا يكون خوفاً. وفي هذا ردّ على من يقول بأن الإيمان في القلب، فيزعم أن قلبه ممتلئ بالإيمان ولكنه لا يصلّي ولا يصوم ولا يقوم بعمل من الأعمال التي يستلزمها الإيمان ويقتضيها والتي هي نتيجة له. كالعاشق المتيّم تدخل عليه محبوبته فلا تزداد نبضات قلبه ولا يتغير لون وجهه ولا يتحرّك من مكانه، هل يصدق أحد أنه عاشق؟ ولكن ما لي تركت ذكرياتي وقعدت أتفلسف؟ سامحوني،

فلعل في هذه الفلسفة شيئاً من التسرية عني والمنفعة لكم. * * * كانت أكثر قضايا المحكمة الشرعية هيّنة، دعاوى نفقة تطالب بها المرأة فيدفعها الرجل بدعوى المتابعة. وأكثر دعاوى النفقة لا تريد المرأة منها النفقة بذاتها، ولكنها تعبير عن ضيقها بالحياة الزوجية وألمها منها وشكواها من معاملة الزوج، فلا تجد أمامها إلاّ واحداً من طريقَين: دعوى النفقة، أو إذا يئست فدعوى التفريق. وكنت لا أكتفي بمنطوق الدعوى وإنما أحاول البحث عن أسباب إقامتها. وفي كثير من الحالات كنت أوفَّق إلى الإصلاح بين الزوجين. وأول شروط الإصلاح أن أرفع أيدي الأهل عن الزوجين. كنت أجد الزوج يدخل ومعه جماعة من أهله ومن أقربائه (فزعة يفزعون له)، وتدخل المرأة ومعها فزعة من أهلها، هؤلاء الذين يوقدون نار الخلاف كلّما أوشكت أن تنطفئ، مع أن الله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا انفردا تصالحا. فكنت أصنع شيئاً عجيباً، أؤخّر الدعوى ساعة أو نصف ساعة وأُدخِل الزوجين إلى غرفة منفردة وأدعهما ينتظران موعد المحاكمة والنداء عليهما باسْمَيهما. فإذا انفردا بدآ بالخلاف والسباب، ثم تدرّجا إلى العتاب، ثم اقتربا من المصالحة، فلا يخرجان غالباً إلاّ وهما مصطلحان. فأنا أنصح القراء -ثمرةً لتجارِبي الطويلة في المحكمة وتجارِبي التي هي أطول منها في الحياة- ألاّ يدخل أهل الزوج

وأهل الزوجة بينهما إلاّ في حالات الخلاف الشديد، أو لدفع ظلم لا يجوز السكوت عن مثله. تستحقّ المرأة النفقةَ نقداً إذا لم يقدّم لها الزوج حاجتها من الطعام اللائق بأمثاله، واللباس الذي تلبسه زوجات أمثاله، والمسكن الذي يسكن فيه مَن هو مثله في مورده المالي ومنزلته الاجتماعية. فإذا ادّعت النفقة تحقّقنا أولاً من قبضها معجَّل مهرها، ثم من صلاح المسكن الذي أعدّه لها. فإذا كانت قد استوفت معجّل مهرها وكان المسكن هو من اللائق بأمثاله من الناس أُجبرت على المتابعة. كنّا قديماً في الشام نصنع ما كانوا يصنعونه في مصر إلى عهد قريب، أي أنهم يُكرِهون الزوجة إكراهاً عن طريق الشرطة إلى دخول المسكن الشرعي (بيت الطاعة). ثم وجدنا من أكثر من خمسين سنة أنها طريقة عقيمة لا فائدة منها. تصوّروا لو أن الزوجة دخلَت المسكن الشرعي بإكراه الشرطة، فمَن الذي يمنعها أن تخرج منه؟ إمّا أن نغلقه عليها فيكون مسكن الزوجية سجناً، والمرأة ليست مجرِمة ليُحكَم عليها بالسجن، أو أن نقيم على كلّ مسكن زوجي شرطياً يحرمها من الخروج، وكلاهما غير ممكن. فلم يبقَ إذن من ثمرة للحكم عليها بالمتابعة إلاّ حرمانها النفقة واعتبارها ناشزة (¬1). ¬

_ (¬1) لا أقول «ناشز» كما هو شائع، لأنها ليست من الصفات الخاصّة بالنساء كطالق وحائض، بل إن الرجل قد ينشز {وإنِ امرأةٌ خافَتْ من بعلِها نُشوزاً}. وهذه فائدة استفدتها من المحامي الحلبي الأستاذ عبد القادر السيسبي رحمه الله، أقرُّ بذلك اعترافاً له بالفضل.

وقد كان بعض القُضاة هنا يعتبرون المرأة ناشزة مُدّة هم يحدّدونها، وهذا لا أصل له في الشرع ولا في القانون، فالنشوز هو أن تترك المرأة دار الزوجية بعد صلاحها (صلاح الدار) وبعد قبضها معجّل مهرها، وبيدها هي وحدها أن تُنهي النشوز وأن تعود إلى دار الزوجية. يلي دعاوى النفقة في أهمّيتها وفي كثرتها دعاوى الحضانة، ثم دعاوى النسب، ثم الدعاوى المالية التي تكون أحياناً على مبالغ كبيرة جداً ويحضرها كبار المحامين من دمشق، وهي دعاوى الإرث، ودعاوى الأوقاف (قبل أن يُلغي حسني الزعيم الأوقاف الذرّية، المسماة في مصر الأهلية) ودعاوى الحَجْر وفكّ الحَجر، وأنواع أخرى كثيرة من الدعاوى التي تدخل في اختصاص المحكمة الشرعية. وربما عدت خلال هذه الأحاديث إلى الإشارة إليها وبيان طرف من أخبارها، والحديث طويل وستأتي بقيته إن شاء الله في الحلقات الآتيات. * * *

هجوم على الأطباء

-119 - هجوم على الأطبّاء من كان يشكّ في شجاعتي وأني أقحم الأهوال وأنازل الرجال، فسأُريه اليوم أني أصنع هذا كله حين ألِجُ باختياري عرين الآساد، أُعرّض نفسي لمخالبَ تُمزّق جلد التمساح وأنياب تفتّت صُمّ الجنادل، بل بما هو أشدّ ... أريد اليوم أن أهجم على الأطبّاء. وأنا من غير أن أهجم عليهم ما نجوت من سكاكينهم ومباضعهم، ولا تزال آثارها في بطني خطوطاً لم تمحُها الأيام. فكيف إذا فتحت عليهم باب القتال ودعوتهم إلى النزال؟ على أنها مباسطة لا إيذاء، وأنها مداعبة لا هجاء، والكلام فيها عامّ فكل واحد من الأطبّاء يرمي التبعة على غيره، فتضيع بينهم وتُقيَّد «جريمة ضدّ مجهول». لمّا كنّا صغاراً في الشام كان الأطبّاء عندنا معدودين، وكانوا كلهم من السِّمان، أي أنهم من «الوزن الثقيل». فاستقرّ في ذهني أن من شروط الطبيب أن يكون متراكب الشحم واللحم، فإن كان هزيلاً لم يكن طبيباً حاذقاً. وكان من الأطبّاء واحد مشهور يزيد

وزنه على مئة وأربعين كيلاً. ولم تكن السيارات يومئذ كثيرة في الشام فكان الناس يركبون العربات التي تجرّها الخيل، فكنّا نراه إذا وضع رجله على درجة العربة ليركب فيها مالت به من ثقله. ومن أطرف الحوادث أن شاباً صغيراً كان يركب دراجة، ولم يكن ماهراً بركوبها فصدم زوجة ضابط فرنسي كانت تمشي معه، لم يؤذِها ولكن أفسد ثوبها وكشط جلد ساقها. فأمسك به الضابط وسأله: ما اسمك؟ قال: إبراهيم الساطي (وهذا هو اسم الطبيب المشهور). فقال له: وأين تسكن؟ فأعطاه عنوان الدكتور الساطي. ولمّا وصلت القضية إلى حاكم الصلح (الفرنسي) بعث يدعو الدكتور إبراهيم الساطي، فحضر المحاكمة وكان يلهث وينفخ من التعب كأنه قطار الزبداني (أكبر قطارات الأرض عمراً ولا يزال يمشي، ما قعد ولا تقاعد)، وسأله متعجّباً: لماذا دُعيتُ، وما الذي وقع مني؟ فقال له القاضي: إنك صدمت السيدة المدّعية بدرّاجتك. فقال: بدرّاجتي؟! وضجّ كل من في المحكمة بالضحك ودُهشت المرأة المدّعية وزوجها. وقال الدكتور ضاحكاً: أيّ دراجة تحملني؟ فتنبّه الضابط وزوجته إلى النكتة التي وقعا فيها، وقال القاضي: إني معجب بذكاء هذا الفتى، وإذا كان حاضراً وعرّف بنفسه فإنني أسامحه وأُسقِط الدعوى عنه. فخرج من بين الناس وقدّم نفسه إليه معتذراً عمّا وقع منه، فسامحه وأسقط الدعوى عنه. وكان طبيب أسرتنا حاذقاً خبيراً بمهنته ولكنه كان نحيفاً،

اسمه الدكتور صادق اللبابيدي، وكانت عيادته في باب البريد في دمشق. فكنت كلّما ذهبت إليه أتعجّب منه ولا أصدق بأنه طبيب لأن من سمات الأطبّاء أن يكونوا من الوزن الثقيل. * * * ولما ذهبت إلى مصر للدراسة فيها سنة 1928 شكوت ألماً في مفاصلي، فأخذني شريك خالي وزوج أختي عبد الفتاح قَتْلان (رحمة الله عليه) إلى طبيب يونانيّ سمين جداً لا يعرف العربية، فاجتمعَت فيه صفات البراعة كلها وهي: الشحم واللحم وأن يكون «خواجة» أجنبياً، لأننا كنّا مع الأسف نعتقد أن كل شيء أجنبي هو أفضل وأرقى من الوطني. هذا ما يعتقده العامّة والجَهَلة من الناس والأطفالُ الصغار، وكنت واحداً منهم. فلما كشف عليّ وجسّ نبضي شكوت إليه ما بي، فأظهر الفزع والدهشة وسأل: لماذا تأخّرت إلى الآن؟ وكان الذي ينقل كلامه ترجمان لا يكاد يُحسِن العربية أيضاً، فأدخل الرعب في قلبي. وتكلّم الطبيب كلاماً كثيراً فهمت منه أن عظامي ينقصها الكلس وأنني إذا أكثرت الحركة أو حملت شيئاً ثقيلاً انقصفَت عظامي. فذهبت إلى الدار، وكنت أنزل عند خالي مُحبّ الدين الخطيب في شارع الاستئناف في باب الخلق، وخالي لم يراجع في عمره طبيباً، كانت حرارته تصل إلى الأربعين وهو منغمس في عمله لا يجد (كما كان يقول) وقتاً للمرض. فلما جئته واضطجعت على السرير وأبيت أن أتحرّك سخر مني ومن الطبيب الذي أمرني بهذا. ولكني لم أبالِ يومئذ بسخريته لِما استقرّ في

نفسي من أثر كلام الطبيب. ثم مرّت الأيام والسنون ومارست أنواعاً من الرياضة ومشيت كثيراً وصعدت ذُرى الجبال وحملت الأثقال، ولم ينكسر لي بحمد الله عظم، بل ازداد قوّة وأَيْداً. فأول ما أهجم به على الأطبّاء أن بعضهم يخوّف المريض، فإذا خاف ذهبَت مقاومته وتغلّب عليه المرض. وممّا وقع لي من هذا الباب أنني عملت سنة 1956 عمليات كثيرة في بطني سأعرض لذكرها إذا جاءت مناسبتها، وكان الشقّ لا يزال مفتوحاً ولكنني هربت من المستشفى وجئت إلى بيتي وذهبت لزياراتي المعتادة، لأن من يقيم في المستشفى لا يجد إلاّ ما يذكّره بالمرض ويُبعِد عنه الشفاء، فلما خرجت وخالطت الناس كما كنت أفعل، ودخلت في مناظرات علمية وأحاديث اجتماعية نسيت مرضي. وذهبت وأنا في هذه الحال أزور صديقاً لنا كان مسكنه في الطبقة الرابعة، ولم يكن للعمارة مصعد فصعدت الأدراج كلها على قدمي، فلما ضمّنا المجلس عرّفنا بولد له عاد حديثاً من دراسة الطبّ والاختصاص في الجراحة، فأحببت أن أناقله الحديث فلم أجد إلاّ أن أصف له ما أُحِسّ به وما يقع لي، فما فتح الله عليه بشيء إلاّ أن قال لي: إن ما وقع لك ربما يؤدي إلى سُلّ في العمود الفقري. لم أستطع أن أفهم بقية الكلام لأن الرعب الذي أدخله عليّ سدّ مسالك الفهم أمامي، وكنت قاعداً مستوي الظهر أتكلّم كما

يتكلّم الأصحاب، فما أحسست إلاّ وقد سقطت منهاراً، ولم أعُد أقدر على النزول إلى الشارع إلاّ بمساعدة الإخوان، يمسكون بكتفي ويعينونني على النزول، مع أنني صعدت على قدمي كما يصعد الناس. وعدت إلى المستشفى أُخبِر الطبيب الذي كان يقوم عليّ والذي أجرى العمليات لي (وهو جرّاح ماهر اسمه الدكتور مظهر المهايني) وكبير أطبّاء الشام الدكتور حسني سبح (رئيس مجمع اللغة العربية الآن في دمشق) والأستاذ الكبير الدكتور حمدي الخياط ... فلبثوا جميعاً أياماً حتّى استطاعوا أن يُزيلوا من نفسي أثر هذه الكلمة التي قالها الطبيب الشاب، جهلاً من غير علم ومن غير تحقيق. * * * ومن الأطبّاء الذين عرفتهم من يكشف على المريض، فإذا سأله عن مرضه لم يخبره بشيء بل طمأنه بكلام عامّ. فإذا كان المريض متعلّماً لم يقنعه هذا من الطبيب، لأنه يريد أن يُرضي غرور نفسه ورغبته في الاطلاع فيعرف شيئاً عن المرض. ومن أطبّائنا من يمشي على طريقة الإفرنج فيشرح للمريض حقيقة مرضه والأعراض التي يمكن أن تنشأ عنه، وربما كان في هذا الشرح والبيان ما لا يحتمله المريض. كما وقع لصديق لنا، أستاذ من أبرع الأساتذة، شابّ صغير السن كبير العلم، كان يدرّس في جامعة الرياض، فأصابه المرض الخبيث، فجاء طبيب غير عربي فخبّره به، فإذا بالوهم يوهن صحّته حتّى صار جلداً على عظم ولم يعُد يُعرف له لون، وما زال يذوي كما يذوي الغصن ويذوب كما تذوب الشمعة حتّى تُوفّي وذهب إلى رحمة الله.

فعلى الطبيب أن يكون نبيهاً، فمَن كان من المرضى على شيء من العلم شرح له مرضه شرحاً لا يُخيفه ولا يُبقيه في جهالة، وهذا ما يصنعه صديق لنا من الأطبّاء كان أستاذاً في كلّية الطبّ في دمشق هو الدكتور عارف الطّرَقْجي. أي أنّ على الطبيب أن يداوي بنباهته وذكائه ولطف حِسّه وصفاء نفسه ومعرفته بأصناف المرضى قبل أن يداوي بطبّه وبعقاقيره. وممّن عرفت من الأطبّاء قوم لا يستطيعون أن يَصلوا إلى معرفة المرض ولا يجرؤون على الإقرار بالجهل، فهم يكدّسون في وصفة الدواء أنواعاً من المسكّنات التي تذهب بالألم ولكنها لا تأتي بالشفاء. وهذا في رأيي أقرب إلى أن يكون خيانة من الطبيب، ذلك لأن الألم جعله الله علامة على المرض، فإذا جاء الطبيب فمحاه لم يعُد يَعرف المريضُ مكانَ مرضه ولا الطبيبُ طريقَ علاجه. فمثال هذا الطبيب الذي يعمد إلى المسكّنات وحدها كمثل لصّ دخل الدار فترك آثار أقدامه وبصمات أصابعه، فدعوت شرطياً، فبدلاً من أن يصل منها إلى معرفة اللصّ جاء بخرقة وصابون فمسحها ونظّف البيت وأزال هذه الآثار! أي أنه تحوّل من شرطي يحفظ الأمن إلى خادم ينظّف البيت، ولو اقتصر الأمر على هذا لهان، ولكنه أجرم جريمة حين محا العلامات التي تدلّ على المجرم. وممّن عرفت من الأطبّاء من يجمع عدداً من أدوية المرض، بعد أن يخبره به المريض بلسانه أو يصل هو إلى معرفته بتشخيصه؛ لا يكتفي بالعقّار الواحد بل يجمع عدداً منها خوفاً

من أن يعجز أحدها عن الشفاء فيقوم به الآخر. وأنا بمقدار علمي القليل أعرف أن لكل دواء من الأدوية أو عَقّار (¬1) من العقاقير أثراً مقصوداً وآثاراً جانبية أخرى، وأن عمله وحده قد يختلف عن عمله إذا رُكِّب مع غيره. فهؤلاء الأطبّاء الذين يجمعون عدداً من الأدوية للمرض الواحد ولا يعرفون تأثير تركيبها الكيميائي إذا اجتمعت، قد يضرّون من حيث يقدّرون أنهم ينفعون. ومنهم من يستر عجزه عن معرفة المرض بستار كثيف عريض طويل فيقول لك: إنها «حساسية» وليست مرضاً، وفي دعوى الحساسية متسَع للجميع. وممّا لا ينتبه له كثير ممّن عرفت من الأطبّاء أنهم يصفون دواء لمرض ربما كان في جسد المريض مانع من استعماله. كان عندنا في كلية التربية في مكّة من أكثر من عشر سنين أستاذ سوداني، كان -كما أظنّ- رئيساً لقسم علم النفس في الكلّية. وكان رجلاً عالِماً صالحاً ديّناً، وكان يشكو من البول السكري، فذهب إلى أحد المستشفيات فوصف له طبيب دواء وأمره باستعماله، فقال له إن هذا الدواء لا يُستعمَل في مثل حالته ونبهه إلى أن ذلك مكتوب في الورقة التي تكون عادة في علبة الدواء، ولكن الطبيب أصر على وجوب استعماله وأعطاه شيئاً منه، فما أمسى على الأستاذ المساء حتّى أدركته الوفاة. وكان هذا الطبيب مُعاقَداً معه، وقد فُصل وأظن أنه عوقب، ولكن ما الفائدة وقد مات الأستاذ؟ ¬

_ (¬1) عقّار على وزن خبّاز وجزّار.

وبعض من عرفنا من الأطبّاء يصنعون صنع المنجّم الذي سقط في الحفرة؛ ذلك أن رجلاً كان يمشي في البرية وهو يراقب النجوم، وكان أمامه حفرة فسقط فيها ولم يستطع الخروج منها وجاء يصيح ويستنجد، فجاء من أخرجه منها وقال له: قبل أن تنظر إلى النجم البعيد فوق رأسك انظر إلى الثرى القريب تحت قدميك. لما فشت الكوليرا في مصر سنة 1947 كنت تلك السنة كلها مقيماً فيها، في بعثة من وزارة العدل في الشام إلى وزارة العدل في القاهرة لإعداد بعض القوانين. ولما طال أمد المرض جاءت بعثات طبية من البلاد العربية لتساعد أطبّاء مصر (على كثرتهم وعلو كعبهم في طبّهم) في مكافحة الداء. وكنت أزور البعثة السورية في فندق الكونتيننتال في ميدان الأوبرا فأبقى معهم، وكنت أشكو صداعاً ملازماً لا يكاد يفارقني، فقلت لهم يوماً: يا إخواننا، أنتم أطبّاء كبار وأنا أشترك معكم في الحديث وأنفرد وحدي بالألم، أفلا تعرفون طريقاً لإزالة هذا الصداع وإراحتي منه؟ فاهتموا وجعلوا يسألونني ويتدارسون الأمر بينهم، ويفترضون أبعد الفروض ويذكرون أمراضاً سمعت بها وأمراضاً لم أسمع بها، كأن كل واحد منهم كان يريد أن يُظهِر علمه على حسابي أنا! وانتهى الأمر بهم أن كتبوا لي دواء اتفقوا عليه وزعموا بأنه هو الذي يشفي ما بي ويُريحني من آلامي وأوصابي. فأخذت الوصفة وذهبت أفتّش عنه فلم أجده، وانقطعت عنهم أياماً، وشعرت كأن أمعائي في حاجة إلى مسهل فأخذت أحد المسهلات

المعروفة، فذهب الصداع. فرجعت إليهم وقلت لهم: إن مثلكم مثل هذا الفلكي الذي رأى النجم ولم يرَ الحفرة القريبة. فبعض مَن عرفت من الأطبّاء يتركون الدواء القريب ويصفون الأدوية الصعبة النادرة، أو يفترضون الأمراض المعضلة والأمر أهون من ذلك وأقرب. وممّن عرفت من الأطبّاء مَن هَمّه الاستكثار من الزبائن وجمع المال، فإذا كان يومه يتسع لفحص عشرة من المرضى يضرب موعداً لعشرين. ومنهم أساتذة كبار يأتون من بلادهم إلى بلاد أخرى، فيستقبلهم المستشفى الذي دعاهم بدعاية ضخمة وإعلان طويل عن مرتبة هذا الطبيب العلمية وعن شهاداته وعن منزلته، وربما كان ذلك كله حقاً، ولكن المصيبة أنهم يفحصون المريض فحصاً عاجلاً لا يستطيعون به أن يدركوا حقيقة مرضه، وربما احتاج الأمر إلى عيادة أخرى بعد أمد فيكون الطبيب قد رجع إلى بلده. ومنهم من يتخذ من هذه الزيارة سبباً مادياً للربح فيوهم المريض أن مرضه يستدعي عملية جراحية أو إقامة طويلة في المستشفى، ولا يكون ذلك إلاّ في بلد هذا الطبيب وبإشرافه، فيصدق المريض هذا الكلام فيضيع وقته ويذهب ماله ويدع عياله ويسافر، والأمر كله لا ضرورة له ولا حاجة إليه. أي أن ممّن عرفنا من الأطبّاء من له علم ولكن ليس له ضمير. وقد بلغني أن هذا الداء قد وصل إلى لندن، وكنّا قديماً نضرب الأمثال بأخلاق الإنكليز حتّى إن حافظ عفيفي باشا ألف

كتابه المعروف «الإنكليز في بلادهم» فصوّرهم فيها كأنهم أشباه ملائكة يمشون على الأرض! ولمّا كنّا صغاراً صدر كتاب «التربية الحديثة» لإدمون ديمولان، ومن قبل ذلك أُعجِب فولتير ثم أندريه موروا بالإنكليز وكتب عنهم، ولكن يظهر أن حبّ المال يُفسِد الأفراد والشعوب، فصار الطبّ كما سمعنا الآن في تلك البلاد وسيلة لابتزاز المال وسلعة تُباع في الأسواق. ومن عيوب كثير ممّن عرفنا من الأطبّاء إخلاف المواعيد؛ فهو يَعِد المريض الساعة الثامنة صباحاً وهو يعلم أن الكشف عن مرضه يستلزم نصف ساعة أو ساعة، وأن عليه أن يَعِد المريض الذي بعده في الساعة الثامنة والنصف والمريض الثالث في الساعة التاسعة ... ولكن كثيراً من الأطبّاء يضربون موعداً واحداً لجماعة من المرضى حتّى يُجبِروهم على الانتظار، وأكثر ما يكون ذلك عند أطبّاء العيون والأسنان. وقد ذهبت مرة إلى طبيب عيون في مصر وراء باب اللوق (الذي سُمّي تارة ميدان الفلكي وتارة ميدان الأزهار)، فوجدت غرفة الانتظار ممتلئة بالناس، فيها أكثر من عشرين مريضاً يرقب كلٌّ موعدَه والطبيب لا يستدعي أحداً منهم. فلما طال الانتظار سألت من هو إلى جانبي: متى موعدك مع الطبيب؟ فقال: الآن. وسألت غيره فقال: الآن ... وإذا الطبيب قد أعطاهم جميعاً موعداً واحداً! ولمّا طال الأمر ولم يُدعَ أحدٌ من المرضى غضبت ونسيت أصول اللباقة وقواعد السلوك واقتحمت على الطبيب غرفته،

وإذا هو مع صديق له يشربان القهوة ويتحدّثان ويتقارضان النكت ويضحكان! فأراد أن يثور بي أني دخلت عليه بلا إذن، ولكن غضبي والحقّ الذي كنت أراه معي قابلها بثورة أعنف منها بعشرين مرّة، فابتلعَتها وأخفَتها وجعلَت الطبيب يتضاءل ويعتذر فلا ينفعه الاعتذار، لا لقوّتي وضعفه بل لأن الحقّ معي والباطل معه. ثم خرجت على المنتظرين فقصصت عليهم ما كان وعرّفتُهم ماذا يصنع الطبيب، فخرجوا جميعاً ولم يبقَ في غرفة الانتظار أحد. ومن الأطبّاء الذين عرفتهم مَن يفخر بكثرة المنتظرين في عيادته، يؤخّرهم عمداً ليوهم الناس أنه طبيب مقصود وأنه كثير الزبائن. * * * والحديث عن الأطبّاء يجرّ الحديث عن الممرّضات. وهو حديث طويل لا تكفي فيه فقرة عارضة في مثل هذه الحلقة، بل لا بدّ له من حلقة كاملة بل حلقات. أضرب مثلاً قريباً جداً: إحدى حفيداتي عَرضَت لها الولادة، ولم تكن ولادتها الأولى بل الثانية، فذهبوا بها إلى مستشفى أقامته الدولة للولادة، جعلَته بوسائله وتجهيزاته لا يقلّ عن المستشفيات العظيمة في البلاد التي نسمّيها متمدّنة ونُكبر أهلها ونعظّمهم في قرارة نفوسنا، مستشفيات أوربّا وأميركا، أنفقَت الدولة عليه وعلى أمثاله الأموال الطائلة وهي تستطيع ذلك، ووضعت فيه أحدث الوسائل وأغلاها وأعلاها وهي تستطيع ذلك، لم تدّخر جهداً ولم تقصر في إقامة المستشفى وتجهيزه، ولكن الدولة التي تقدر أن تصنع هذا كله لا تقدر أن

تصنع الضمائر لمن ليس له ضمير ولا أن تضع اللطف والإنسانية فيمن حرمه الله الإنسانية واللطف! وجدنا في هذا المستشفى ممرّضات لا يعرفن لغة المريضة ولا يفهمن عنها ما تقول. وأول شرط في الممرضة وفي الطبيب أن يعرف كيف يصل إلى قلب المريض. وكيف يصل إليه ويعرف آلامه ليعمل على إزالتها إذا كان لا يفهم لسانه؟ ووجدنا أن كثيرات منهن فقدن لُطف المرأة ورقّتها وفقدن المشاعر الإنسانية وسموّها، وكان مثَلهن كمثل جهاز صغير فاسد ثمنه ألف ريال وُضع في مصنع كبير كلف الملايين فأفسده ووَقَف حركتَه. ولا أريد الآن أن أذكر تفصيل ما كان، بل سأرفعه إلى أولياء الأمر في هذا البلد الذين يحرصون على إرضاء الله أولاً ثم على راحة الناس وإسعادهم، لذلك ينفقون الأموال ولذلك يقومون بالمشروعات، ولذلك يسهرون ويخطّطون ويدأبون. فهل يُعقَل أن يذهب بهذا كله ممرضةٌ لا ضمير لها، أو طبيب إنما جاء ليقضي أياماً معدودة يجمع فيها أكبر قدر من المال ثم يمضي به، لا يهمّه صحّة البلد ولا سلامة أهله، وآخَر من أهل البلد ولكنه ليس من أهل الأمانة والدين؟ هذه كلمة عارضة قلتها امتثالاً لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قال: «الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، كلام قلته الآن موجَزاً وإذا اقتضى المقام عدت إليه مفصَّلاً ومبيَّناً. وأنا أعلم أن قضية الممرّضات مشكلة من المشكلات. وقد

وقعنا فيها من قبل في الشام فجرَّبوا تجارِب كثيرة، منها أنهم اتفقوا مرة مع الراهبات. وقد قضيت شهوراً في مستشفى الحكومة في السنة التي أشرت إليها (1956) ورأيت هؤلاء الراهبات: إنهنّ متسترات لا يبدو منهن إلاّ الوجه والكفان فقط، ثيابهن نظيفة أبداً وعملهنّ غالباً مضبوط، ولكن الضرر منهن أكبر مرّات ومرات من النفع بهن لأنهن لا يَنسين دينهنّ وأنهنّ داعيات إلى النصرانية وأن عملهنّ الأول أن يُدخِلن المريضات في النصرانية، فإن لم يستطعن عملنَ على إخراجهن من الإسلام، فإن لم يقدرن على ذلك سعين بمهارة شيطانية إلى إضعاف الإيمان في نفوسهن. فلا الممرّضات المدَنيات نفعْنَنا ولا الراهبات أفدنَنا، فما العمل إذن؟ هذه مشكلة لا أستطيع أنا وحدي حلّها، ولا بد لها من مؤتمر أو مؤتمرات تفتّش عن طريق يوصل إلى الغاية المطلوبة ولا يمرّ بسالكه على جهنم، ذلك لأن صحة الأبدان لا يجوز أن تكون وسيلة لإضاعة الأديان، والمسلم يتقيد بأحكام دينه، يترك الحرام ويقوم بالواجب في جميع الأمكنة والأزمنة، في كل الحالات والمقامات. وأول ما يخطر على البال هو هذا السؤال: لماذا لا يكون في مستشفيات الرجال ويقوم على تمريض الرجال ممرّضون من الرجال؟ مَن يقدر أن يأتيني بحُجّة مقنعة واضحة بأن الرجل لا يستطيع أن يكون ممرّضاً وأنه لا بد من امرأة تكشف على عورات المرضى الأجانب وتكون معهم، وربما كانت مناوبة فباتت مع

الطبيب المناوب وحدهما بالمستشفى؟ التمريض ضروري والمهنة لا بدّ منها، لكن بشرط أن نبقى متمسّكين بأحكام ديننا فلا نُغضِب ربّنا لنشفي مرضانا، والشفاء من الله، والله لا يشفي بمعصيته بل يشفي بطاعته. وإذا زال المرض من الجسد مؤقتاً في هذه الدنيا بالمعصية فإن الحياة الحقيقية الطويلة هي الحياة الآخرة، فماذا ينفعنا شفاء المرض هنا وأن نُبتلى بمرض الحريق بنار جهنم؟ تقولون: لقد خرجت عن الموضوع ... نعم. وإن هذه لم تعُد ذكريات وإنما صارت مواعظ ... نعم، هذا صحيح. ولكن مَن قال لكم إن المواعظ مذمومة دائماً وإنه يجب الإعراض عنها وتركها دائماً، ولو توقفت عليها حياتنا وسعادتنا ورِضا ربنا؟ وبعد، فقد خرجت عن الموضوع حقيقة، ولكني سأعود إن شاء الله إليه فأسرد من الذكريات ما هو للأطبّاء، كما سردت في هذه الحلقة بعض ما هو عليهم. * * *

دفاع عن الأطباء

-120 - دفاع عن الأطبّاء كانوا يقولون قديماً: «وعداوةُ الشّعراءِ بئسَ المُقتنى»، لأن مَن يعاديهم يتعرّض لألسنتهم ولا يسلم من هجائهم، ومن الهجاء ما يهبط بالعالي ويُذِلّ العزيز ويفضح المستور. على أن عداوة الأطبّاء أشدّ من عداوة الشعراء، فالأطبّاء بيدهم أسباب الموت والحياة، وإن كانت الحياة والموت بيد الله، وقد توجد الأسباب ولا يكون المسبّب. والشعراء لا يستطيعون أن يُميتوا أحداً. ولقد كان الناس يخشون لسان الفرزدق، فجاءه مرّة رجل من غمار الناس يقول له: هل أموت إذا هجوتَني؟ قال: لا. قال: هل تموت امرأتي أمّ كذا؟ (ونسيت أم ماذا) قال لا. قال: هل يموت حماري؟ قال: لا. فأسمعه كلمة سبّ فظيعة لا أستطيع أن أرويها. على أنني ما عاديت الأطبّاء ولا أستطيع أن أعاديهم، لأنهم من ركائز الحضارة البشرية ولأنهم من رموزها الظاهرة. للحضارة رموز تُقاس بها، منها الحاكم العادل، منها القضاء الحرّ النزيه، منها التعامل بين الناس، منها الأطبّاء والمحامون وأرباب المهن ومعاملتهم واستقامتهم أو انحرافهم ... فلا تظنّوا أني عدوّ

للأطبّاء، فإن الذي يبيّن للإنسان مرضه ليعمل على الخلاص منه يكون صديقاً ولا يكون عدواً، وهذا الذي صنعته أنا مع الأطبّاء. هم يبيّنون للناس أمراضاً ليداووها، وأنا بينت لبعض الأطبّاء بعضَ أمراضهم الخلُقية والاجتماعية ليعملوا على الخلاص منها. ولي بين الأطبّاء أصدقاء، ولي من الأطبّاء أساتذة وإخوة كرام. وعندي من طرائف الحوادث مما يُسجَّل لهم مثل الذي ذكرت بعضه فسُجّل عليهم. من ذلك أنه كان عندنا في المدرسة الثانوية (مكتب عنبر) طبيب معروف اسمه الدكتور يحيى الشمّاع، كان يدرّس لنا الكيمياء، فلما انتهى عهدي بالدراسة صرت صديقاً لمن كان أستاذاً لي في المدرسة، شرّفوني بمودّتهم وفتحوا لي أبوابهم، فكنت أتردّد عليهم لا طمعاً بدنيا أنالها منهم بل وفاء لهم واعترافاً بفضلهم. زرت الدكتور الشمّاع يوماً مبكّراً، وكان جاراً لنا في المهاجرين، أصحبه إلى البلد فأستفيد منه على الطريق. وكان من عادته أن ينزل إلى البلد ماشياً، ولكنه كان في ذلك اليوم مستعجلاً فركبنا الترام من أول الخطّ حيث يقلّ الركّاب، ودخلنا مقصورة الدرجة الأولى فلم نجد فيها إلاّ أحد جيراننا، وهو رجل كهل وقور، فسلّم على الدكتور وعليّ، ثم شكا إليه ألماً يجده في بطنه وأخذ يصفه له، فقال له الدكتور: تفضل معي إلى العيادة لأكشف عليك. قال: لماذا العيادة؟ وتمدّد على مقاعد الترام وبسط رجلَيه وكشف عن بطنه وقال: ها هنا الألم. وكنّا قد بلغنا المحطّة التالية

وبدأ الناس يصعدون إلى الترام، فرأوا منظراً عجباً! فللأطبّاء على الناس أنهم يستغلون وجودهم حيثما وجدوهم ليتداوَوا من غير أن يدفعوا أجرة المداواة. وأكثر الأطبّاء يستحيي فلا يعترض، أو يكون الذي صنع ذلك صديقاً له عزيزاً عليه يحترمه فلا يقدر أن يصرّح له. وقد حدّثني الدكتور الشماع نفسه أن جماعة جاؤوه وهو راجع من صلاة الفجر، والجوّ لم يخلص من غبَش الليل وإن تعارفَت الوجوه، فشكوا إليه أن عندهم مريضاً حالته مخطرة وآلامه شديدة ولا يستطيع أن ينزل إليه ليفحصه. وكان هذا الطبيب طيّب القلب لين الجانب، فقال: هلمّوا بنا، أنا أذهب إليه. وحيّ المهاجرين في الشام مبنيّ من غير تخطيط سابق، ففيه الجادة الأولى التي يمشي بها الترام تمتد ما بين المشرق والمغرب، وفوقها الجادة الثانية موازية لها فالثالثة فالرابعة (وقد بلغن الآن أكثر من عشر جادّات) وطرق صاعدة توصل من جادة إلى جادة. وكان المريض في الجادة العاشرة ولا تستطيع السيارة أن تصل إليها. وكان الدكتور ممتلئ الجسم ثقيل الوزن كبير السنّ، ولكنه آثر -كما حدّثني- رضا الله والعمل الإنساني على راحته، فمشى معهم، فلم يكد يصل إلى البيت حتّى أوشك أن يسقط من التعب. فلما بلغ باب الدار جاء من يخبر مَن معه أن المريض شفي ولا يحتاجون إلى الطبيب. وقالوا له: اصرفه لئلاّ ندفع أجرته. فحاول الرجل أن يعتذر إلى الدكتور ليصرفه، ولكنه خجل

منه أن يعود من غير أن يستريح فدعاه إلى الدخول، فدخل وقال: أين المريض؟ فحاروا ماذا يقولون له وتردّدوا وارتبكوا، ثم قال واحد منهم: لقد شفي المريض ولم تبق حاجة لأن تُتعِب نفسك برؤيته. قال الدكتور: دعوني لكي أراه ولا أريد منكم شيئاً لأنكم جيراننا. فأخذوه إليه مُرغَمين، فلما وصل إلى فراشه وأحسّ به المريض لفّ نفسه باللحاف حتّى لم يَعُد يبدو منه شيء وصار كأنه كرة مدوّرة، فمدّ الطبيب يده ليستخرج كفّه فيرى نبضه فخبّأها منه، وما زال به وهو يبتعد عنه كأنما هي رواية هزلية أو كأنها مصارعة يحمي بها المصارع نفسه من هجمة الخصم! حتّى يئس منه فتركه ونزل. * * * وإذا كان في الأطبّاء من يريد أن يأخذ أكثر من حقه وأن يستلب المريض أمواله، وإذا كانت بعض المستشفيات الخاصّة إنما أنشئت لغرض تجاري هو جمع المال واستعجال الغِنى، تريد أن تجرّد المريض من كل ما في كيسه من مال، ولو استطاعت لجرّدَت عظامه من اللحم الذي يلتصق بها، فإن من الناس من يظلم الأطبّاء ويعتدي على حقوقهم ويسرقهم ويأخذ منهم ولا يعطيهم. لاحظوا أنني قلت «بعض المستشفيات» ولم أعمّها كلها ولم أعيّن بلدة بعينها، فهذا وصفٌ مَن كان متصفاً به من أصحاب المستشفيات فليستغفر الله وليعُد إلى الصواب، ومن كان بعيداً عن هذا الوصف فما ناله منه شيء.

ومن العادات المألوفة عند العوامّ من أهل الشام، لا سيما النساء منهم، أن الواحدة إذا اشترت شيئاً ثميناً، خاتماً أو سواراً، أخذت «على البيعة» قطعة صغيرة لا تدفع ثمنها، فإذا اشترت غرفة نوم مثلاً طلبَت على البيعة كرسياً أو وسادة زائدة. ولقد رأيت من يصنع ذلك مع الأطبّاء؛ مرض مرّة أحد أصدقائنا من التجّار الموسرين واحتاج إلى طبيب متخصّص يعوده في داره لأنه لا يستطيع أن يذهب إليه في عيادته، وكان الطبيب صديقاً لي، وكان كثير الزبائن ضيّق الوقت مزدحم الأعمال، لذلك كان أجره غالياً، والمريض -على غناه- لا يحبّ أن يدفع كثيراً، فكلّمت الطبيب حتّى أسقط عنه نصف الأجر المعتاد الذي يأخذه من غيره. وذهبنا إليه في داره، فلما انتهى من الفحص عن مرضه وأخذ الأجرة المخفّضة التي اتفقنا عليها وودّعناه نادانا قبل أن نصل إلى الباب: يا دكتور يادكتور ... فالتفت الدكتور ليرى ماذا يريد، فقال له: من فضلك هذا الولد تعبان ومتألّم فأرجو أن تفحصه «على البيعة»! ومن المرضى مَن إذا أكمل الطبيب الكشف عليه جاءه بأخيه أو بابن أخيه أو برفيق له فسأله عن مرض يشكو منه ليكتب له وصفة دوائه «على البيعة». نقابة المحامين في كلّ بلد تقرر أجرة للاستشارة الحقوقية، ومن كبار المحامين من لا يرافع في المحاكم ولكنه يدرس القضايا ويعطي مشورته فيها، ونجد مع ذلك كثيراً من أصحاب القضايا

يريد أن يأخذ المشورة بالمجّان. وأنا تأتيني رسائل كثيرة فيها أسئلة ظاهرُها سؤال فقهي أو ثقافي لأجيب عنها في أحد برنامجَيّ في الإذاعة وفي الرائي، وهي في الحقيقة خلاصة لدعوى قائمة في المحكمة، فهو يسرد لي تفاصيلها ووقائعها ليسألني عن الحكم الشرعي فيها، وما يريد معرفة الحكم وإنما يريد كسب القضية؛ أي أن هذا الجواب الذي يسعى لأخذه مني لو ذهب إلى محام متفرغ للاستشارات الحقوقية لطلب منه ثمن الجواب خمسة آلاف أو عشرة آلاف. ولا أقول هذا لأتكلم عن نفسي، بل لأبين أن السرقات كما تكون مادّية (أي سرقة أموال وأشياء) تكون معنوية. ومن الناس من يسرق من الأطبّاء من غير أن يدفع الثمن الشرعي لما يأخذه منهم، يَلقى أحدُهم الطبيبَ في مجلس من المجالس أو في طريق من الطرق فيحدّثه عن مرضه ويصفه له ويسأله عن طريق علاجه، بدلاً من أن يذهب إليه في عيادته على الطريقة التي وُجدت العيادات من أجلها. ومنهم من يطلب العلاج مجّاناً من البرامج الطبّية في الإذاعة أو في الرائي أو في الأبواب المخصّصة لأسئلة القراء في المجلاّت الطبّية والعلمية. * * * أنا لست طبيباً ولا ناقداً طِبّياً لِما يُذاع ولما يُنشر، ولا أقرّر هنا حقائق علمية أوجبها على الناس، وإنما أسرد ذكريات لما رأيت ولما سمعت.

أصابتني مرّة حكّة شديدة في موضع يصعب الوصول إليه لحكّه ولو من فوق الثياب، حتّى إنني كنت أُضطرّ إلى الوقوف في جانب الطريق لا أستطيع أن أوالي سيري ممّا أحسّ به من هذه الحكّة. ولقد شققت جيب بنطالي لأدخل يدي منه فأحك هذا الموضع. فلما طال ذلك عليّ واشتدّ بي ذهبت إلى كبير أطبّاء الأمراض الجلدية في كلية الطبّ في الشام، وهو الدكتور محمد محرّم. وكان أستاذاً لنا في مكتب عنبر مدّة من الزمان، وكان أبوه مصباح بك محرّم رئيس محكمة التمييز أيام الحكم الفيصلي في سورية في آخر الحرب العالمية الأولى. وكان الدكتور محمد أستاذاً كبيراً وعالِماً وكان وقوراً، فكيف أكشف له عن موضع يُستحيا من كشفه أمام الطبيب العادي؟ وكيف أكشفه لأستاذ له هيبته في قلبي واحترامه يملأ جوانب نفسي، ولكن: إذا لم يكن إلاّ الأسنّةُ مركَباً ... فما حيلةُ المضطرّ إلاّ ركوبُها ذهبت إليه وصنعت ما كنت أخاف منه وأتهيّبه، فطمأنني الدكتور وقال: لا تخَف، فليس هذا مرضاً ولكنه انعكاس عصبي يكون من ضيق تشعر به أو أمر تتردّد فيه أو مشكلة وقعتَ فيها، وسأكتب لك بعض المهدّئات الخفيفة التي لا تضرّ، وأظنّ أن هذا الذي تشكو منه سيذهب بإذن الله. وكتب لي الوصفة وأخذتها، ومرّ على ذلك أكثر من شهر، ثم لقيت الأستاذ فسألني عمّا كنت أجد فقلت له: الحمد لله، لقد زال تماماً. قال: إن الأمر كما قلت، فقد كفَت هذه المهدّئات الخفيفة لدفع سبب ما كنت تشعر به. فضحكت وقلت: ولكني يا

سيدي ما اشتريت الدواء ولا استعملته، وإنما اكتفيت بكلامك. من هذه الحادثة التي مرّت بي ومثيلات لها (رأيتها بنفسي أو رأيتها فيمن أعرف من الناس) تبيّن لي أمر، ما أدري هل الذي وصلت إليه حقّ يُقرّه الأطبّاء أو هو وهم أديب يتكلم في الطبّ بلا علم؟ وجدت أننا إذا تركنا الأمراض المعروفة التي تثبت بأعراض ظاهرة أو بفحص مجهري أو بتحليل كيميائي، إذا تركنا هذه الأمراض وجدنا أن كثيراً جداً من الآلام التي نحسّ بها في مفاصلنا تارة وفي رؤوسنا (في الصداع العادي بأنواعه) وفي صداع الشقيقة (أي نصف الرأس)، أكثر هذه الآلام التي نراجع الأطبّاء فيها مَنشؤه نفسي لا جسدي. فهل هذا الذي قلته صحيح؟ لا ينكر أحدٌ الصلةَ بين الحالة النفسية والأعراض الجسدية بل الأمراض أيضاً، فكما أن الغضب يزيد ضربات القلب والحزن الشديد يقلّلها واشتغال الفكر يُذهِب النوم ... فإن أمراضاً تنشأ من أمثال هذه الأسباب. ولقد قرأت من قديم أن «المريض الوهمي» في قصّة موليير يُحِسّ الآلام نفسها التي يُحِسّ بها المريض حقيقة. ولقد كنّا نسمع ونحن صغار من جداتنا الحكاية الشعبية المشهورة، أن صبيان الكتّاب أحبّوا أن يهربوا منه فاتفقوا على أمر، فجاء واحد منهم إلى الشيخ فقال له: يا شيخي وجهك أصفر. فزجره الشيخ ورفع عليه العصا. فجاء الثاني بعد قليل فقال: يا شيخي وجهك أصفر. فزجره زجراً أقلّ من الأول. ولمّا جاء الثالث والرابع بدأ يصدّق،

فلما قال له التلميذ التاسع: يا شيخي وجهك أصفر ... اصفرّ وجهه فعلاً وبدأ يُحِسّ المرض، وأغلق الكُتّاب وذهب إلى الدار! كنت في شبابي أذهب كلّ سنة إلى طبيب لا يعرفني فأقول له: أريد أن تفحصني فحصاً عاماً. فيفعل ويستعين بالصور الشعاعية بناء على طلب مني وبالتحاليل الممكنة كلها وبالفحص السريري، فإذا انتهى قال لي متعجباً: ما الذي تشكو منه؟ قلت: لا أشكو من شيء. فيقول: لماذا جئت إذن وليس فيك شيء وجسدك صحيح؟ فأقول: جئت أسمع منك هذه الكلمة. إذا قلت للرجل الصحيح: "إنك متعب تبدو عليك بوادر المرض" فإنك تقربه بهذا إلى المرض. وإذا قلت لمن هو في أوائل المرض: "إنك صحيح قوي الجسم، القوّة ظاهرة عليك والصحّة بادية على وجهك" فإنك تبعده بذلك ولو شيئاً قليلاً عن المرض. * * * وممّا هو للأطبّاء على المرضى (وقد رأيت لذلك أمثالاً كثيرة) أن المريض يذهب إلى الطبيب، فإذا فحص عن مرضه وكشف عليه وكتب له الدواء جرّب من هذا الدواء أقراصاً معدودة (إذا كان الدواء في أقراص) أو ملاعق قليلة (إذا كان الدواء شراباً)، فإذا لم يجد أنه شُفي ترك هذه الأدوية وذهب إلى طبيب آخر ليفحصه كما صنع الأول، فيكتب له الدواء فيهمله كما أهمل الدواء الأول. فإذا ذهب إلى عدد من الأطبّاء واجتمعَت عنده مجموعة من الوصفات الطبية ومن قوارير الأشربة وعلب

الأقراص التي لم يأخذ منها إلاّ أقلّها ولم يجد الشفاء، ذهب فشهّر بالأطبّاء وتكلّم عنهم ونسب إليهم الجهل. وربما شرح الطبيب للمريض كيف يستعمل الدواء فلم يفهم شرحه، أو لم يعمل به، ثم نسب الخطأ إليه. كان لي ابن عمّ من أوائل الذين تخرجوا في كلية الطبّ في دمشق. تخرج فيها طبيباً سنة 1920، وتنقّل في البلاد ثم استقرّ في دوما التي تكلّمت عنها وأنا قاض بها منذ حلقتين. وكان يأتيه بعض المرضى من البدو النازلين حولها، فجاءه مرّة ثلاثة من الشبّان بأم لهم عجوز كبيرة لا تكاد تقدر على المشي، ففحص عن مرضها وعرفه. ولم يكن في دوما يومئذ صيدلية، وكان يجوز للأطبّاء في هذه الحال أن يركّبوا هم الدواء وأن يبيعوه. فغلى الماء وركّب لهم شراباً أعدّه لهم، ووضعه في قارورة وأحكم إغلاقها، ودفعها إلى الأولاد وقال لهم: تأخذ منها كل ساعتين ملعقة، على أن تخضّوها قبل إعطاء الدواء. وأخذوا أمهم وقارورة الدواء وانصرفوا. وكانت مدّة العلاج خمسة أيام على أن يعودوا إليه بعدها ليرى ماذا انتهت إليه حال المريضة، والقاعدة عندنا في الشام أن العودة لمثل هذا السؤال لا تكلّف المريض مالاً، بل يكتفي الطبيب بما أخذ عند الفحص الأول. مضت الأيام فسمع وهو في عيادته صراخاً من الشارع: آه، آه، آه ... وتبيّن منه صوتَ العجوز التي فحصها، فخرج ينظر.

وكانت قد وصلت ودخلت إلى العيادة، فقالت له العجوز: آه آه يا دكتور، ما استفدت شيئاً، لقد أهلكوني من كثرة الخَضّ، لقد تقطّعَت أعضائي وتمزّقَت مفاصلي. فسألهم متعجباً: ماذا صنعتم بها؟ ألم تعطوها الدواء في مواعيده؟ قالوا: بلى، أعطيناها الدواء ولكنها ما كانت تقبل الخضّ وتألّمَت منه، فسمعنا رأيك وأعرضنا عن احتجاجها. قال: ويلكم، ماذا عملتم بها؟ قالوا: ألم تقل لنا ينبغي أن نخضها جيداً قبل أن نسقيها الدواء؟ ظنّوا بأن الواجب خضّ الأم لا خضّ القارورة! وكانوا شباباً أقوياء فكان يمسك أحدهم بيديها والآخر برجليها ثم يهزّونها هزاً ويشدّونها ويدفعونها قبل أن تأخذ الدواء، حتّى ذهبوا بالبقية الباقية من قوّتها ومن جَلَدها. وخبّرني مرّة أنه صنع شراباً لمريض، وسلّم إليه قارورته وقال له: تأخذ منه كل يوم ثلاثة فناجين قهوة بعد الأكل. فرجع إليه بعد أيام وخبّره أنه أخذ الفناجين ولم يستفِد شيئاً. فقال الطبيب: فناجين ماذا؟ قال: "والله يا دكتور فناجين قهوة بالهيل والزعفران، قهوة أصولية، ولكنها لم تشفِني من المرض" ... ظنّ بأنها ثلاثة فناجين من القهوة، وإنما أراد الطبيب ملء ثلاثة فناجين من الشراب! وممّا هو للأطبّاء على الناس: أن بعض المرضى من الناس يدَعون الطبيب الإخصائي في المرض ويذهبون إلى طبيب مبتدئ، فيهملون رأي الطبيب الأستاذ ويأخذون رأي الطبيب الجديد. وربما داوى المرضى مَن ليس بطبيب؛ الصيدلي مثلاً قد

يكون عنده في صيدليته عشرون ألف دواء يعرفها ويعرف أسماءها ويعرف مصانعها، وربما أحاط بعناصرها التي تركّبَت منها، ولا يجوز له مع هذا أن يصف دواء. وربما استعان الناس بطالب الطب وسَمّوه في أسرته طبيباً وبينه وبين شهادة الطب سنتان أو ثلاث سنوات ورجعوا إليه وسألوه، وربما صنع معهم ما صنع مساعد الطبيب قديماً. زعموا أن طبيباً كان له تلميذ يساعده ويصحبه ويمشي معه أينما مشى ليتعلم منه، يوم لم تكن كلّيات الطبّ قد وُجدت على شكلها الذي نعرفه الآن. فذهبا مرّة يعودان مريضاً كان قد فرض عليه الطبيب حمية منعه فيها من أكل السمك، فقال له: لماذا خالفت عن أمري وأكلت سمكة؟ فحاول المريض أن ينكر فقال له: اعترف خير لك فإنّ لدي الدليل. فاعترف بأنه أكل السمك. ولما انفرد الطبيب بمساعده سأله: من أين عرفت أنه أكل سمكاً؟ قال الطبيب: ألم ترَ حَسَك السمك مُلقى على الباب؟ وشُغل الطبيب فبعث مساعده ليرى حال المريض، فلما دخل عليه قال له: لماذا أكلت حماراً؟ قال المريض ومن أين لك أني أكلت حماراً؟ وهل يأكل الناس الحمير؟ قال: لا تُنكر، فإنني رأيت برذعة الحمار على الباب! * * * على أن ممّا يُسجّل للأطبّاء أن في كثير ممّن عرفت منهم نبلاً وخُلُقاً وإيثاراً وعملاً به، فمنهم من يساعد الفقراء فلا يَرزؤهم شيئاً، بل ربما أعطاهم من جيبه ثمن الدواء. وكثير من الأساتذة

الكبار من لا يأخذ شيئاً من إخوانه ومن أصدقائه. رأيت ذلك من كبير الأطبّاء الدكتور حسني سبح حفظه الله، ومن أستاذ الأطبّاء الدكتور حمدي الخياط رحمه الله. والدكتور حمدي الخياط أول طبيب في الشام اشتغل بالجراثيم (البكتيريا) وأنشأ مخبراً للتحليلات، سبق به البلاد المجاورة لنا، وجاء على أثره من تلاميذه من يمتلك مختبرات عظيمة حقيقة، منهم الدكتور محمد الهوّاري، ومنهم ولده الدكتور هيثم الخيّاط الذي نال الشهادة الثانوية وشهادة الطبّ والدكتوراة في الطبّ وهو أصغر أقرانه سناً في جميع البلاد. وممّن مشى على أثره الدكتور سميح الخضراء، صاحب المختبر الكبير في جدّة. ومن أنبل الأطبّاء وأكثرهم تتبّعاً لكل جديد الدكتور شفيق شحادة في دمشق. ولست أريد أن أقوم بدعاية لهؤلاء الأطبّاء، فهم في جِدّهم ونجاحهم وإخلاصهم في عملهم وكثرة زبائنهم مستغنون عنها، ولكني أردت أن أقول إن في الأطبّاء نبلاً وفيهم فضلاً، وإن عندنا في بلادنا (في المملكة هنا وفي الشام وفي مصر وفي العراق) أطبّاء كباراً نستطيع أن نستغني بعلمهم وبخبرتهم عن مراجعة الأطبّاء في البلاد الأخرى. ولقد جُلْتُ في كثير من بلاد أوربّا الغربية فكنت أجد في كل مستشفى كبير طبيباً عربياً، رئيس قسم من الأقسام يُعتمَد عليه ويُرجَع إليه. وكنّا قديماً كلّما مرض منّا مريضٌ قالوا لنا: خذوه إلى بيروت. ثم صارت «الموضة» الآن أن نأخذه إلى لندن أو إلى

أميركا. ولقد كتبت مقالة في جريدة «الأيام» في دمشق من أكثر من ربع قرن عنوانها «إن عندنا أطبّاء». نعم، إن عندنا أطبّاء وعندنا مستشفيات وعندنا تجهيزات ووسائل للشفاء، كل هذا عندنا، ولكن ليست عندنا الثقة بأنفسنا. فإذا وثقنا بأنفسنا وأطبّائنا، وراجع الأطبّاء أنفسهم فنزّهوها عن عيوبها واستكملوا فضائلها، لم نحتَجْ معهم إلى غيرهم. * * *

أشتات من الذكريات عن موسم الحج

-121 - أشتات من الذكريات عن موسم الحج «كل من تلقاه يشكو دهره»، هكذا قال الشاعر الذي نسيت اسمه. ولكن الذي تبيّن لي أيام العيد أن في الجملة خطأ مطبعياً، هو أن هذه الواو محرّفة عن الراء؛ فما قابلت أحداً من الحُجّاج إلاّ وجدته يشكر ولا يشكو، يثني على سهولة الوصول وأن الطرق سالكة وأن السيارات تنساب فيها كالماء في الجدول، فلا زحام ولا صدام ولا اختناق ولا وقوف. مشت السيارات من عرفات إلى مزدلفة كما تمشي سائر أيام السنة، فالسير منظّم والشرطة ساهرة ناظرة لا تجعل للسان مكاناً للشكوى، والماء البارد المثلّج ميسور موفور في كل مكان بالمجّان، هدية من الملك إلى حُجّاج بيت الله الحرام، وأن الحمّامات والمراحيض النظيفة في كل موضع تسدّ الحاجة وتضمن النظافة. وما كنت أريد أن أقطع سلسلة ذكرياتي لأتكلّم عن الحجّ، ولكن ما سمعته ذكّرني بضدّه (وكذلك يكون تداعي الأفكار)، ذكّرني بحِجّتنا أول سنة أقمت فيها في مكّة هذه الإقامة الأخيرة، سنة 1384هـ. ولم تكن حِجّتي الأولى في عمري، ولكنها الأولى

منذ أكرمني الله فجاورت في مكّة من إحدى وعشرين سنة. خرجنا من عرفات بعد غروب الشمس فما بلغنا مكّة إلاّ ضحى الغد، لأننا لم نستطع الوقوف في مِنى. ما قطعناه في أربع عشرة ساعة قطعه حُجّاج هذا الموسم في ثلاث ساعات أو ساعتين، وبعضهم قطعه في أقلّ من ساعة. ولكن لماذا أحدّث بهذا الآن؟ وما الذي يستفيده القُرّاء من هذا الحديث؟ أمّا الذي يستفيده القرّاء فهو إذكاء الشعور بما يعيشون فيه من نعيم لِما بلغوه من تقدّم وارتقاء. إنه لا يعرف قيمة الرخاء إلاّ من عاش في الشدّة، ولا لذّة الوجدان إلاّ من قاسى وجع القلب بالحرمان. من كان يظنّ قبل خمسين سنة لمّا جئت مكّة أول مرّة، بل من كان يتوهّم قبل عشر سنين أننا سنخرق الجبال بالأنفاق، وأننا نساير السحب في الفضاء بالطيارات الحوّامات، ونشرب الماء عذباً مطهّراً بارداً بلا ثمن؟ من عرف (كما عرفتُ) شظف الماضي، حتّى القريب منه، أدرك -كما أدركت- عظيم نعمة الله علينا بلين الحاضر ونعومته ورخائه. إنكم هنا دون بلاد الله جميعاً في نعمة من الأمان ومن السعة ومن الغنى: غِنى اليد بالمال، وغِنى القلب بالإيمان، لمن أراد هذا الغِنى لقلبه ولم تُطغِه الحياة الدنيا. إنكم هنا في نعمة لا نظير لها، فسيحوا في الأرض كلها فلن تجدوا مثلها، فاستديموها واستزيدوا منها بشكر الله عليها: شكر اللسان، وشكر العمل، وشكر القلب الراضي عن الله.

أمّا جواب سؤالي: لماذا أحدّث بهذا الآن؟ فلأن ذكر الماضي حلو في الأفواه ولو كان هذا الماضي مرّ المذاق. إنّ فقده غلّفه بغلاف برّاق، يلمع من خلال الذكريات فيستهوي لمعانُه القلوبَ الشواعر، لذلك كان من أعظم فنون الشعر العربي القديم الوقوف على الأطلال وبكاء الديار. لا يبكي الشاعر حجراً ميّتاً كما زعم أبو نواس ساخراً، بل يبكي زماناً كان حياً، يبكي قطعة من عمره كانت فبانت. لذلك قال دانته شاعر الطليان الأكبر: "إن ذكرى اللذّات الماضية تؤلمنا". ولعل مفهوم مخالفة كلامه صحيح أيضاً؛ فذكرى الآلام الماضية تسرّنا. تؤلمنا ذكرى اللذّات لأنها مقرونة بفَقْدها، وتسرنا الآلام لأنها مرتبطة بخلاصنا منها. * * * كيف أمضينا من عرفات إلى مكّة سنة 1384 أربع عشرة ساعة؟ لم نكن قد عرفنا مكّة ولا أساليب الراحة في الحجّ مع استكمال فرائضه وواجباته. كنّا غرباء ولم نستعِن بأهل البلاد، بأهل مكّة الذين هم أدرى بشعابها، فاجتمعنا معشر المدرّسين من السوريين نحن وأسرنا، فبلغ عددنا أكثر من خمسين بين رجل وامرأة وكبير وصغير، ثم استأجرنا سيارة كبيرة من سيارات المطوّفين، فكان عملنا كعمل الروم (البيزنطيين) في معركة اليرموك لمّا ارتبطوا بالسلاسل عند الواقعة، فلما كانت الهزيمة وسقط واحد من المرتبطين جرهم معه جميعاً فوقعوا فيها! اخترنا أولاً سائقاً بدا لنا أنه نشيط وأنه قوي متحمّس يفيض

فتوّة وشباباً، فلما كان الازدحام عند الإفاضة من عرفات وقفَت السيارات تسدّ الطريق صفوفاً أربعاً، تتحرّك الواحدة منها عشرة أذرع في ربع دقيقة لتقف بعد ذلك نصف ساعة تنتظر فسحة تمرّ منها. وكان يرى في الصف الذي هو على أيماننا أو الصف الذي على شمائلنا فرجة لسيارته فيخرج من صفه ليدخل فيها، فربما ضاع منه المكان الذي كان فيه ولم يصل إلى المكان الذي طلبه فوقفنا بين الصفّين! وكان إلى جنبه هراوة ضخمة ما عرفت المُراد من وضعها هنا، حتّى وجدته كُلّما كانت هَيعة أو كان نزاع، لا شأن له به ولا هو من أطرافه أو من مثيريه، ترك سيارته وأخذ هراوته واقتحم الخلاف ليقاتل فيه ينصر طائفة على طائفة، فيسير من هو أمامنا من السيارات فيخلو الطريق لنا، وصاحبنا السائق مشغول بمعركة لا ناقة له فيها ولا جَمَل ولا شاة ولا حَمَل! أي أنه كالذي يدعونه في الشام «غوّار الطّوشة». وهذا ليس اسماً للممثّل الهزلي المعروف، ولكنه لقب عندنا للذي يُدخِل نفسه في كل «طوشة»، أي في كل معركة، يغير فيجعل نفسه من أصحابها وما هو منها ولا أرب له فيها. وطال ذلك من السائق حتّى ضاقت به صدورنا فقمنا عليه. والكثرة تغلب الشجاعة، وهو إن كان قوياً وكان معه عصاه فإنه لا يقوى على خمسين، ولو كان ثلثاهم من النساء والأطفال. فطردناه وجاؤونا بسائق آخر هادئ وساكن، ليس معه عصا وما به حركة، فانتقلنا من حرارة الصيف الملتهب إلى برودة الشتاء، ومن النار المُحرِقة إلى الصقيع المجمّد. كان هذا السائق الجديد نعسان كأنه لم ينَم من ليلتين، بل احذفوا كلمة «كأن» فهو لم ينَم

من ليلتين فعلاً، لذلك كان كلّما أبطأ السير (وهو بطيء على طول الطريق) ألقى برأسه على مِقوَد سيارته فذهب في غفوة، فكنا نوقظه بالألسنة وبالصراخ وبالأيدي، فيكون تعرّضنا للهلاك بسبب نومه كما كدنا نتعرض للموت والاصطدام بسبب حماسة وطيش السائق الأول الأهوج. ومصيبة النوم على السائقين أشدّ المصائب، لا بل عليهم وعلى الركّاب. ولقد كنّا نحب أوائل عهدنا بمكّة لمّا قدمت للإقامة فيها أن تجتمع الأسر، الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، فنذهب إلى مكان لنقضي فيه ساعات بلا تكشّف ولا اختلاط. فذهبنا مرّة إلى بستان الكعكي في المَسْفَلة، وهو قطعة من غوطة دمشق انتقلت إلى هذا المكان ... كما زعم العرب قديماً أن الطائف كانت قطعة من الشام، انفصلت عن مكانها ثم طافت ما طافت حتّى استقرّت هنا، فمن ذلك سُمّيت -كما زعموا- الطائف. كان يسوق بنا سيارة دون سيارات النقل الجماعي وأكبر من السيارات العادية، فوقف بنا أمام البستان. وكان صاحب البستان (جزاه الله خيراً) يأذن لنا أن ندخل بستانه وأن نُقيل فيه ساعات، وكنّا نمنع الصغار أن يسبّبوا له أذى ويُحدِثوا في بستانه حدثاً. فلما خرجنا وجدنا السائق نائماً، فأيقظناه فلم يستيقظ، فشددناه وضربه ناس منّا وقام ناس فصبّوا في عنقه الماء المثلَّج من القوارير التي نحملها معنا فما أفاق! ولم تنجح معه حيلة، فقال لنا الصبي الذي يرافقه: لا تُتعِبوا

أنفسكم فإنه أمضى ليلتين ونصف الثالثة لم يغمض له جفن، فلو أنكم قرعتموه بالمقارع ولذعتموه بالجمر لَما أفاق. فحملنا أمتعتنا وسرنا من بستان الكعكي إلى حيث نجد سيارة في المسفلة، فكان موكباً عجباً؛ رجال يحملون أحمالاً بأيديهم وعلى أكتافهم، ونساء يسحبن أطفالاً وربما كان لبعضهنّ أطفال في بطونهنّ، ونحن نمشي نتمايل ذات اليمين وذات الشمال حتّى بلغنا مكّة! * * * أعود إلى ما كنت فيه: لقد قرأتم فيما مضى من هذه الذكريات الكلام عن مكّة لما جئتها أول مرّة سنة 1353هـ من إحدى وخمسين سنة، وكيف كان الحرم وكيف كانت الطرق وكيف كانت أماكن المشاعر. يا أيها الإخوان، إن الذي نراه اليوم كان حلماً من الأحلام فتحقّق الحلم. لو خطَطْنا خَطاً بيانياً لِما كنّا فيه وما انتهينا إليه لرأيناه صاعداً كما يصعد المرء الجبل، يعلو ثم يعلو، حتّى إذا كانت هذه السنون الأواخر وجاء هذا الموسم الذي نحن فيه بلغ هذا الخطّ ذروة الكمال، لو كان في طاقة البشر في الدنيا الكمال. فلله الحمد، ثم الشكر لمن كرّمه الله فجعل تحقيق هذه الأمنية على يديه. أنا لا أريد أن أذكر كل ما صنعوه ولا أقدر أن أذكره، ولكن الله يذكره لأصحابه يجزل لهم ويزيدهم من ثوابه، ويسخّر أقلام المؤرّخين لتدوينه وكتابته. وثواب الله خير من ثناء الناس وذِكر

المؤرّخين. أنا لا أريد هنا أن أؤرّخ لكل ما صنعوه في المشاعر لخدمة الحُجّاج، ولا أن أكتب استطلاعاً (أي ريبورتاج) أبيّن فيه بعض ذلك، ولكنه قطعة من سلسلة ذكرياتي، في هذه القطعة من الذكريات عن الحجّ حبّات إن باعد بينها الزمان فلقد قرّب بينها الموضوع. إنّ أقدم ذكرى في نفسي من الذكريات المرتبطة بالحجّ واحدة مدفونة في أعماقها فوقها أثقال إحدى وسبعين سنة، ولكن هذه الأثقال تبدو في نظري شفّافة، ذكرى واضحة من ورائها كأنها ما تزال أمامي. كان عمري سبع سنين، وما يُنقَش على صفحة ذاكرة ابن سبع سنين لا يمحوه كرّ السنين. كانت دمشق (كما قلت من قبل) كطائر له جسم وله جناحان، أمّا جسده فالأموي والقلعة، وما يحيط بهما، وأما جناحه فأحياء الصالحية والمهاجرين والأكراد، والجناح الثاني حيّ الميدان. وكنّا نعيش حياة جامدة راكدة ما فيها إلاّ مشاهد متشابهة، ولكن أعظم هذه المشاهد هو سفر المحمل. والمَحْمِل بدعة ما لها أصل في الدين، ما أدري متى وُجدت: هودج على شكل هرم مربع الأضلاع يوضع على ظهر الجمل، منقوش نقشاً مزخرَفاً فيه آيات وفيه عروق بألوان مغريات، ولا يزال محفوظاً في المتحف الوطني في الشام (¬1). ¬

_ (¬1) قرأت من أيام (ونحن في آخر سنة 1985) بحثاً عن المتاحف العربية نسي كاتبه أو لم يدرِ أن أقدمها (في غير مصر) المتحف الذي أقامه محمد كرد علي في المجمع العلمي سنة 1919.

وكان يرد مكّةَ في موسم الحجّ المحملُ الشامي والمحمل المصري، ومع كل منهما قوّة من الجند تحميه ومقدار من المال يُغرُون به الأعراب الذين يُخشى عدوانهم على موكب الحجّ. كان ذلك قبل أن يوفّق الله عبد العزيز إلى جعل طريق الحَجّ آمناً، لا يخاف المسافر فيه ولو كان وحده. ولقد كتبت في الرسالة لمّا جئنا مكّة أول مرّة من طريق البَرّ سنة 1353هـ (وقد مرّ خبر ذلك) أن الصحراء في عهد عبد العزيز آمَنُ من شارع الشانزليزيه في باريس. وأزيد الآن: آمن من الشارع الخامس في نيويورك. وهذا حق واقع لا مبالغة أديب. كانت دمشق كلها تنتقل في ذلك اليوم إلى طريق الميدان، فالباعة يعرضون بضائعهم وأصحاب الألعاب يعرضون ألعابهم والمنشدون وأهل الفنون الشعبية يُبدون فنونهم ويرفعون أصواتهم بأناشيدهم، والناس يملؤون النوافذ المطلّة على هذا الشارع ويصفّون كراسيهم على جانبَيه، كل ذلك انتظاراً لمرور الموكب الذي تسبقه جماعات الفرسان والموسيقى العسكرية، ثم يأتي البيرق، وهو عَلَم ملفوف، ثم يأتي المحمل والوالي والمشير وكبار الموظفين والأعيان في عرباتهم، إذ لم تكن السيارات قد عُرفت في دمشق. في ذهني صورة ليست كاملة ولكنها واضحة الجوانب لهذا اليوم، ولعل هذه المرّة كانت آخر مرّة يخرج فيها المحمل من دمشق، ومن شاء أن يراه فإنه موجود في المتحف الوطني فيها. كان موكب الحجّ يُمضي على الطريق أربعين يوماً في الذهاب ومثلها في الإياب، فإذا عاد الحُجّاج حملوا معهم الهدايا من

مكّة والمدينة، وأكثر ما يحملونه معهم ماء زمزم في علب صغيرة من الصفيح محكَمة الإغلاق، وبعض تمر المدينة يأكلونه تبرّكاً به، وشيء من تراب المدينة في قطع على شكل كُمّثرى ملفوف بشرائط ضيّقة من القصب، كنّا نلعقه بألسنتنا لنتبرّك به. وكل ذلك -كما يعلم الجميع- لا أصل له في الشرع. ومن الهدايا التي كان يحملها الحجاج طاسات وكؤوس وأوانٍ من النحاس المنقوش نسمّيه في الشام «المَكّاوي» نسبة إلى مكّة، مع أنه لم يُصنَع فيها وإنما صنع كما أظن في الهند أو في غيرها، فلست أدري على التحقيق. ومرت الأيام حتّى جاءت سنة 1353هـ، فرحلنا رحلة الحجاز الصحراوية التي سبق الحديث عنها. ولم ندرك فيها أيام الحجّ ولكن وصلنا بعد انقضائها. حججت أول حجة سنة 1373هـ، ولهذه الحجّة حديث طويل سيأتي إن شاء الله عقب الكلام على المؤتمر الوحيد الذي حضرته في عمري وهو مؤتمر القدس، والذي انتُخبتُ رئيساً لإحدى لجانه التي هي لجنة الدعاية، ورحلنا رحلة طويلة إلى آخر المشرق نُعرّف المسلمين بقضية فلسطين ونشرحها لهم، من غير أن نقبض مالاً، لأن عندي خشية تبلغ حد الوسواس من الدخول في قضايا تتصل بجمع المال واستلامه. وسأصف إن شاء الله كيف كانت مكّة في تلك الأيام، وكيف كان الحرم قبل توسعته هذه الأخيرة، وإن كان قد مرّ طرف من ذلك فيما سلف نشره من هذه الذكريات. * * *

ثم حججت أنا وأهلي سنة 1381هـ، وكنت قد رجوت وأنا في دمشق أخي الأستاذ الصواف أن يحجز لي ولها غرفة في فندق مصر (فندق الكعكي الآن). في هذه الحجّة مواقف كثيرة في ذكرها متعة وفيه منفعة، أسردها الآن سرد أجدادنا للمُتون ثم أعود إن شاء الله فأشرحها وأحشّي عليها كما كانوا يفعلون، أو إن شئتم فإنني آتي بها الآن موجزة كما يصنع المذيع في الأخبار ثم أعود إلى تفصيلها وبيان ما لها من الآثار. من ذلك أنه صاحَبَنا في الطيارة جماعة من المعارف وبعضهم يقرب أن يُعَدّ في الأصدقاء. فلما نزلنا انشغلوا بأنفسهم عنّا، وكان معي كتاب توصية من مساعد قضائي عندي في محكمة التمييز (النقض) من كرام أهل الشام إلى وكيل للمطوفين اسمه أبوزيد. ولم أبرز له الكتاب ولكنه سبقني فسألني عن اسمي ثم دعاني إلى مكتبه أنا وأهلي، فأكرمنا إكراماً لا مزيد عليه ورحّب بنا واستنظرَنا قليلاً حتّى يعد لنا سيارات توصلنا إلى مكّة، فلما رأى ذلك أصحابُنا الذين كانوا معنا جرّتهم المنفعة إلى الالتصاق بنا، فاقتربوا منّا بعد أن كانوا قد أعرضوا عنّا، واستغلّوا كرم الرجل حتّى إنهم سألوه عن موقع السوق، فأرسل معهم من يدلّهم وأوعز إليه أن يشتري هو لهم ويدفع ثمن مشترياتهم. فتجلّى الطمع في بعض النفوس، فاشتروا ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون إليه لأنهم اطمأنّوا إلى أن الثمن يخرج من كيس غيرهم! في هذه الحجّة مواقف كثيرة لا بدّ من العودة إلى توضيحها

وإلى تفصيلها، فمن ذلك أنني لمّا وصلت رأيت حارس الفندق نائماً (لأن وصولنا كان في السحَر)، وكانت غرفتي محجوزة أدفع أجرتها من يوم حجزها، ومع ذلك لم أستطع الوصول إليها فذهبت إلى الحرم. ومن أخبار تلك الحجّة (التي سأعود إن شاء الله إلى بيانها) أنه كان معنا في الفندق ناس من أفاضل العلماء ومن كبار القوم، منهم الشيخ محمد حسنين مخلوف أطال الله عمره وأبقى عليه صحّته، والشيخ القَلْقيلي مفتي الأردن رحمة الله عليه، فأخذاني إلى الاجتماع الذي أُنشئت فيه رابطة العالَم الإسلامي. وكان المفروض أن أُعَدّ من هيئتها التأسيسية، ولكنني لما أعرفه من نفسي من التوحّد والعمل المنفرد انسحبت منها واعتذرت عنها. وفي تلك الحجّة دُعيت في المدينة إلى أن أكون أحد أعضاء المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية، فحضرت جلسة تعرفت فيها إلى ناس كرام جداً، منهم العالم الفاضل الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه، صاحب «أضواء البيان». وقد حضرت -على خلاف عادتي- دعوة كان لها في نفسي أطيب الأثر عند الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام الحرم وخطيبه وقاضي البلد، وكأنني سمعت من أحد الحاضرين أن هذه الدار هي الدار التي كان يسكنها عثمان بن عفان رضي الله عنه، والله أعلم بصحّة ما سمعت. وقد عرفت رجلاً خبيراً بالمدينة وآثارها دلّني عليها وأخذني إليها، اسمه الشيخ الحافظ، وقد كان مدرّساً ثم علمت أنه صار قاضياً في محكمة المدينة. وممّن عرفت من المطّلعين على آثار المدينة الأستاذ عبد القدوس الأنصاري رحمه الله،

والأستاذ الدفتردار. وقد كنت قرأت كتاب «آثار المدينة المنورة» الذي ألّفه الأنصاري من القديم، من الصديق الأستاذ محمود الحمصي الذي كان مدرّساً في مدارس المدينة، وهو ابن شيخنا الشيخ صالح، جاء معه بمسوَّدة الكتاب ليطبعه في دمشق فاطّلعت عليه وشاركتُه في تصحيح أخطاء الطباعة فيه. أحداث كثيرة ربما عدت إلى بيانها إذا عرضَت مناسباتها. * * * لو وضعت أمامي الصورة الأولى التي عرفت فيها مكّة والمدينة ومواضع المشاعر فيها، لو ذكرت ما كانت عليه وأظهرت ما انتهت إليه لفركت عينَيّ متعجّباً كأنني لا أصدق ما أراه. كان الحاجّ يقطع أربعين يوماً حتّى يصل من دمشق إلى مكّة، فصار يصل بالطيارة إلى مطار جدّة في ساعتين اثنتين. وكان يحمل زاده وكلّ ما يحتاج إليه ليعيش به، فصار يجد الآن الأسواق ممتلئة بكل ما أخرجَت الأرض الطيّبة وما أنتجت الأيدي الصَّناع وما أصدرت المعامل، حتّى صار الحاجّ يشتري البضاعة من هنا ويحملها معه إلى بلده. وكان يحمل معه الماء فيشربه إذا عطش فاتراً أو حاراً، فصار يجد الماء المثلّج النقي موجوداً يُقدَّم إليه بالمجّان. أمّا الطرق وشقّها والأنفاق وفتحها في بطون الجبال، والمرور وتنظيمه، وإقامة المرافق التي تنفع الحُجّاج، وتوسعة المساجد في مكّة والمدينة وعرفات ومزدلفة ومِنى وفي غيرها،

أمّا ما بلغته هذه البلاد من الرقيّ والعمران وارتفاع البنيان فلا يكاد يُصدَّق. ولو أن كاتباً تخيّل ربعه فكتبه قبل ثلاثين سنة لعَدّوه من شطحات الخيال أو من علامات الخيال! وأهمّ من هذا كله أن ما كان يلقاه الحُجّاج من الخوف على حياتهم وعلى أموالهم قبل عهد عبد العزيز قد ذهب كله بهذا الأمن المنقطع النظير. هذا كله لا يمكن أن يُشار إليه في فقرة من مقالة في جريدة، بل تُنظَم فيه مُعلّقات وتُكتَب فيه مجلّدات، وكل ذلك لا يساوي شيئاً أمام ما يُرجى لمن قام به من ثواب الله في الدار الآخرة. فجزى الله هؤلاء الذين قاموا بهذا كله أفضل جزاء. * * *

من محكمة دوما إلى محكمة دمشق

-122 - من محكمة دوما إلى محكمة دمشق تعاقب على دوما قبلي قُضاة أعلام، منهم علماء كالشيخ سليمان الجوخدار وكان قاضياً فيها سنة 1300 هجرية، والشيخ الفقيه الفرضيّ الشيخ حسن الشطي، ومنهم الشيخ عبد الفتاح الأسطواني والشيخ أنيس الملوحي. وممّن سمعت عنه ولم ألقَه من قُضاة دوما الشيخ زاهد أفندي الألشي، وهو والد جميل بك الألشي الذي كان وزيراً مِراراً، وأحسب أنه كان يوماً رئيس الوزراء، وكان من الممالئين للمستعمرين الفرنسيين، يسير معهم حيثما سيّروه وينفّذ لهم ما أرادوه (¬1). وكان زاهد أفندي الألشي -كما سمعنا من أستاذنا محمد كرد علي- صاحب نكتة وكان من ظرفاء الشام، وكان يسكن في أول القيمرية عند أدنى النّوفرة، لا يبعد عن الجامع الأموي أكثر من مئة متر، وكان لداره طاقة يُطِلّ منها على الباب، فقُرع الباب مرّة فمدّ رأسه ليرى فوجد المفتي ونقيب الأشراف وجماعة من ¬

_ (¬1) ويتّهمه ساطع الحصري في كتابه عن يوم ميسلون صراحة، فارجعوا إلى هذا الكتاب.

المشايخ، ولم يكن مستعداً لاستقبالهم وقد جاؤوه على غير موعد فقال للولد: قُل لهم ليس هنا. فقالوا له: كيف تقول أنه ليس هنا وقد رأيناه يُطِلّ علينا؟ فتلعثم الغلام ولم يدرِ بماذا يجيب، فبرز لهم بوجهه وقال لهم: خلوا عندكم شيئاً من الذوق، جئتم على غير موعد والله يقول: {فإنْ قيلَ لكمُ ارْجِعوا فارجِعوا}، وكلمة ليس هنا معناها أن صاحب البيت يريد أن ترجعوا. فشتموه مازحين وانصرفوا. ولعلكم تنبهتم إلى أنني دعوته زاهد الأفندي، ولقب «أفندي» مرّت عليه أدوار، فكان في الأصل لقباً لابن السلطان (يقابل لقب «البرنس» عند الإفرنج)، فإذا لُقّب به الشيخ دلّ على أنه ولي القضاء أو الإفتاء، لذلك كانوا يسمّون المفتي والقاضي: قاضي أفندي ومفتي أفندي. ثم هبطَت قيمة «الأفندي» حتّى صارت تُطلَق على كل واحد من الناس. ولمّا كنّا ندرس في مصر أيام الملك فؤاد كانت الألقاب تُمنَح من الملك وكان لها نظام وقانون، فكان الأفندي إذا أخذ لقب «بك» لُصق باسمه ودُعي بصاحب العزّة، وهي مترجَمة عن الاصطلاح العثماني «عزتلو أفندي»، فإن ارتقى صار صاحب السعادة ولُقّب بالباشا. وأُحدِثت في مصر في أواخر عهد المَلَكية ألقاب صاحب المقام الرفيع، وأظنّ أن أول من لقب به النحاس باشا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) وكانت سوريا أول بلد عربي ألغى الألقاب كما كانت السابقة إلى إلغاء الامتيازات الأجنبية.

لا أستطيع أن أسرد كثيراً من الحوادث التي وقعَت لي في قضاء دوما، لبُعد العهد بها ولأنني لم أدوّن شيئاً منها، ولكن من غرائبها ما يصدّق قولَ الله عز وجل (ولا يحتاج قوله إلى تصديق): {ولوْ كانَ من عندِ غَيرِ اللهِ لَوَجدوا فيه اخْتِلافاً كثيراً}؛ فالقوانين الوضعيّة مهما كبُرَت عقول واضعيها واتسعَت مداركهم وامتدّت أنظارهم تختلف فيما بينها، فإن لم يكن بينها اختلاف فإن أوضاع الناس وأعرافهم تتبدّل دائماً، فتتخلف القوانين عن مسايرة أوضاع الناس فتحتاج إلى تعديل. وعندي على ذلك شواهد تستعصي على الحصر، من أعجبها أنه جاءني مرّة رجل في قضية إرث. وكان القانون المتّبَع عندنا أن يُبرز قيد النفوس من دائرة الأحوال المدنية قبل رفع الدعوى. فلما جاء بالقيد وجدنا فيه أنه قد توفّي من عشر سنين! فقلت له: إنك ميت في القيد الرسمي، فكيف ترفع الدعوى؟ فحسب أنها مزحة مني، واستسهل هو ومن معه الأمر وقال: ما قيمة قيد يكذّبه الواقع؟ ألست تراني حياً أمامك؟ قلت: بلى، لكن القيد يحتاج إلى تصحيح. قال: إذن صحّحوا القيد. قلت: والقانون لا يسمح بتصحيحه إلاّ بحكم من المحكمة بعد دعوى تُقام لديها، فمن يُقيم الدعوى؟ قال: أنا طبعاً. قلت: ولكنك ميت رسمياً فكيف أسمع الدعوى من ميت؟ قال: وما العمل؟ قلت: لا أدري والله! الرجل حيّ ماثل أمامي وكل من معه يعرفه ويوقن بأنه لا يزال حياً، والقيد الرسمي يقول إنه ميت. فهل أشكّ في حياته وهو

يكلّمني أم أشكّ في هذا القيد الذي يوجب القانونُ تصديقَه ولا يقبل البينة الشخصية لإثبات كذبه؟ أرأيتم؟ لقد بدا القانون عارياً ظاهرةً سوأتُه لا يستطيع أن يخفيها، ولكنه يستعصم بسلاح يمنع الناس من أن يقولوا له: إنك تمشي بلا ثياب. وكانت معضلة حقاً؛ كتبت فيها إلى وزارة العدل فلم تستطع أن تصنع شيئاً، إلاّ أنْ تقدمت باقتراح إلى مجلس النواب لتعديل هذا القانون ومعالجة أمثال هذه الحالات الطارئة. وصدق ربنا: {ولو كانَ من عندِ غيرِ اللهِ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}. * * * الشيخ حسن الشطي (الذي كان قاضياً في دوما قبلي بزمان طويل) من أفقه الحنابلة عندنا في الشام، ولعله أفقه من الشيخ جميل الشطي الذي كان مفتي الحنابلة. لم تكن المواصلات بين دمشق ودوما على عهده في قضائها ميسورة ولا كان الطريق معبّداً موسّعاً، ولم تكن السيارات معروفة فكان يركب العربة تجرّها الخيول، فيمضي على الطريق من دوما إلى دمشق ساعتين. ولقد حدّثني أنه كان مرّة منصرفاً من المحكمة في آخر وقت الدوام، فأقبل عليه جماعة من النَّوَر (الذين يُدعَون في مصر الغَجَر) وابتدرته امرأة منهم فقالت: يا سيدَنا القاضي، احكم بيننا. فقال لها: ما لك؟ قالت: هذا زوجي وهو لا ينفق عليّ. قال: أنفق

عليها يا رجل. ومشى القاضي في طريقه، فلحقَته المرأة تصيح: كم يُعطيني في اليوم؟ قال: ربع مجيدي. ومرّت أيام طويلة ونسي الشيخ القصّة كلها، فجاءه نَوَري ومعه امرأته وقال: يا سيدي اصطلحنا، ارفع النفقة عني. قال القاضي: أيّ نفقة؟ قال: النفقة التي فرضتَها عليّ، أنا والله لا أقدر عليها والمرأة في بيتي. فسأل المرأة فقالت: صحيح يا سيدَنا القاضي. قال القاضي: لقد رفعتها عنك. فانصرف الرجل وهو يشكره والمرأة وهي تدعو له. هذا والقوم نَوَر، وهم يُعَدّون من أحطّ طبقات البشر، ولكن فيهم فطرة الخير التي فطر الله النفوس عليها، لم تُفسِدها أوضاع المجتمع ولا أوضار الحضارة. فما بالنا نرى أقواماً هم في الذروة والسنام عِلماً وجاهاً وغِنى ثم لا يُؤَدّون الذي عليهم ولا يكتفون بالذي لهم، ولا يزالون يلجّون في الخصام ويغرقون في النزاع، وكلّما مالت المحكمة إلى الفصل فتحوا أبواباً للتأجيل، حتّى صارت تتصرّم السنون وتنقضي الأعمار ولا تنتهي الدعوى، وحتى كان بين أسرتنا وأسرة الصلاحي في دمشق دعوى لبثَت في المحكمة ثلاثاً وثمانين سنة! مات الذي أقامها ومات ولده، وقام بها مَن لا يدري منشأها ولا يعرف حقيقتها، ولا يسرّه الظفر فيها ولا تؤذيه خسارتها. مع أن القضاء لا يحلو في نفس ذي الحقّ ولا ينجح في ردع ذي الباطل إلاّ إذا كان سريعاً مع الصواب مصيباً مع السرعة، يجيء والخصومة حامية فيرفع ألم المظلوم ويمنع أذى الظالم. وكذلك

كان القضاء في الإسلام، فلما كان من شؤم الأيام علينا أن أخذنا الأسلوب الفرنسي (عن طريق الترك أولاً ومن الانتداب الفرنسي ثانياً) أخذ الناس يشكون من طول المحاكمات ومن بطء صدور الأحكام. كان الشيخ حسن الشطي رجلاً لطيف المعشر كريم النفس مُحِباً للأنس وللسمر ولمناقلة الحديث على الشاي الأخضر، يفتح لذلك داره ويستقبل إخوانه ويبسط لهم وجهه ويده، لكن فيه مع ذلك شِدّة فيما يراه حقاً، بل لعلّه كان أدنى إلى الظاهرية. أسوق على ذلك مثالاً، أتعجّل ذكره وإن لم يأتِ موعده في ترتيب هذه الذكريات: كان الشيخ حسن مديراً للكلّية الشرعية في دمشق، وسترون أني دعيت لأدرّس عنده الثقافة الإسلامية، فعرفته في الكلّية وفي الدار وفي المسجد معرفة أخ وصديق، بل معرفة تلميذ، فأنا بالنسبة إلى علمه وفضله في القضاء لا أجاوز أن أُعَدّ تلميذاً له. وكنت (كما سيأتي) رئيس المجلس الأعلى للكلّيات الشرعية في دمشق وحمص وحماة وحلب. وكانت الكلّية في زقاق النقيب في وسط دمشق، بين الأموي وبين السور، وكان الطلاّب ساعة الظهيرة يزدحمون على أنبوب الماء ليشربوه فاتراً غير مبرَّد. فاتفق يوماً أن قُرع الجرس ولم يستكملوا شربهم. وكان سبيل الماء البارد (من عين الفيجة) (¬1) ¬

_ (¬1) والماء في هذه السُّبُل بارد دائماً يكاد يكون مثلّجاً، وهذا شيء ما رأيته في غير الشام وما رأيته في غير ماء الفيجة.

عند باب المدرسة، فلو أن طالباً أخرج رجله الواحدة وترك رجله الثانية داخل بابها لاستطاع أن يشرب منها. تضايق الطالب من العطش ومن دخول وقت الدرس، فجاوز الباب خطوة فشرب ورجع. إلى هنا لا ترون إلاّ حادثة هيّنة عادية لا تُعتبر ذنباً ولا يرى أحدٌ فيها مخالفة. ولكن المدير الفاضل الظاهري التفكير، أستاذنا الشيخ حسن، رجع إلى نظام العقوبات في المدرسة فوجد أنه على درجات: أولها التنبيه ثم التوبيخ ثم التكدير العلني، ثم الطرد المؤقّت أياماً، ثم الطرد من المدرسة طرداً نهائياً. ومُثِّل للذنوب التي تستدعي الطرد أن يكفر التلميذ بالله، أو أن يرتكب فاحشة من الفواحش، أو أن يشتم أستاذاً، أو أن يدع المدرسة ويخرج منها بلا إذن ... فما كان من الشيخ إلاّ أن أوقع على هذا الطالب عقوبة الطرد بحُجّة أنه خرج من المدرسة بلا إذن، وعلّق القرار في لوحة الإعلانات فرآه الطلاّب جميعاً. رُفع الأمر إلى مجلس العمدة، وكنت يومئذ رئيسه لأنني كنت قاضي دمشق والرياسةُ في قانون الكلّية لقاضي البلد. فعجبنا وعجب الأعضاء كلّهم من هذا القرار، وندبوني بطلب مني أن أذهب إلى الشيخ فأسأله أن يعدّله. وكان -كما قلت- صديقي، بل هو بحكم أستاذي، فذهبت إليه فكلّمتُه، وظننت أن الأمر سهل وأنه سيقتنع مني ويعدّل هذا القرار، وإذا به يقول: القانون هو القانون، من خرج من المدرسة بلا إذن فعقوبته الطرد. فهل خرج أم لا؟ قلت: نعم، لقد خرج. قال: هل استأذن؟ قلت ضاحكاً: لا. قال: فلِمَ إذن تعارض في تطبيق العقوبة؟

قلت: يا شيخ حسن، أنت صديقي بل أنت أستاذي، وأنت تعرف أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وأنا لا أعترض على نصّ القانون بل أعترض على هذا التطبيق الذي ذهبتَ إليه معتقداً أنه حكم القانون. هذا طالب حَسَن الخلُق جيّد التحصيل، يُرجى له مستقبل زاهر ويؤمَل أن يخرج منه عالم ينفع الله به الناس، فهل يطمئنّ ضميرك إلى حرمانه العلم وطرده من المدرسة لأنه خرج إلى الباب وشرب وهو عطشان؟ لو كان ولدك فهل توقع عليه هذه العقوبة؟ قال: نعم؛ لو كان ولدي لأوقعتها عليه، لأن القانون هو القانون وأنا لست مسؤولاً عن نتائج تطبيقه. فذهبت فاستعنت عليه بصديقه الشيخ عبد القادر العاني (رحمة الله عليه) ومن يجالسه كلّ يوم من إخوانه، فما تزحزح شعرة عمّا قرره وأمضاه. قلت: يا سيدي أنا تلميذك، ولكني بحكم القانون الذي تعتمد عليه وتستند إليه أستطيع أن أُلغي قرارك هذا وأن أُبطله لأني رئيس مجلس العمدة وهو المرجع في شؤون الكلّيات الشرعية، وأن أعيد الطالب المطرود. فهل يرضيك أن أفعل؟ قال: نعم، يرضيني لأنه موافق للقانون. قلت: أمري إلى الله. واتخذت قراراً أعلنته إلى جنب قراره بأنني أبطلت هذه العقوبة وألغيتها وقرّرت إعادة الطالب إلى مدرسته. فهل ترونه تألم أو تكدّر من فعلي؟ أؤكّد لكم أنه لم يكن شيء من ذلك، وأن صلتنا وما كان بيننا من الحبّ والاحترام بقي على حاله لم يتبدّل منه شيء. * * *

كانت محكمة دوما طريقاً إلى محكمة دمشق، فكلّ من وَلِي قضاءها انتقل منها فصار قاضياً في المحكمة الكبرى في دمشق. والمحكمة الشرعية في دمشق لها تاريخ قديم عظيم؛ كانت هي المحكمة الأصلية قبل أن تدخل علينا هذه النظم الإفرنجية في تأليف المحاكم، ويمكن أن يُكتَب عنها وعن الأدوار التي مرّت بها وعن القُضاة الذين تعاقبوا عليها وعن المنازل التي شغلتها كتابٌ كبير. ولو أن أحد طلاّب الماجستير أو طلاّب الدكتوراة أعدّ في ذلك رسالة بإشراف أستاذ له اطّلاع على خطط الشام وعلى معالمها من المشتغلين بخطط الشام وآثارها، لو أنّ أحد هؤلاء الطلاّب اختار المحاكم الشرعية موضوعاً لرسالته التي يُعِدّها لنيل شهادته، وبذل في ذلك جهده وتقصّى المراجع وسأل مَن بقي من المسنّين العارفين من أهل الشام، لجاء بمؤلَّف ربما صار مصدراً للمؤرّخين. كانت المحكمة الشرعية -كما عرفتها أول مرّة- في زقاق ضيّق منسوب إليها مسمّى باسمها قريب من مدفن نور الدين زنكي. وأحسب أن المدرسة النُّورية التي دُفن فيها السلطان العظيم نور الدين هي دار هشام بن عبد الملك، سمعت ذلك من بعض أساتذتي ولم أوثّقه بمعرفة مصدره. وكان الخلفاء الأمويون من لَدُنْ معاوية يُقيمون في الدار الخضراء، وهي وراء جدار القِبْلة من جامع بني أميّة حيث يقوم سوق القَباقْبيّة (أي السوق الذي تُصنع فيه القباقيب)، ولم يبقَ من هذا الاسم الكبير، اسم «الخضراء» إلاّ مصبغة صغيرة جداً تكاد تكون في قبو تحت الأرض في حارة مظلمة تتفرّع عن القباقبية، تُدعى المصبغة الخضراء.

وأقول -بالمناسبة- إن أمنية كلّ شامي من القديم أن يفرغ ما حول الجامع الأموي من البيوت التي تزحمه وتلتصق بجدرانه، حتّى يبدو بعظمة بنيانه وينكشف لمن يؤمّه من المسلمين كما انكشف المسجد الحرام في مكة المكرمة (ولقد عرفته والبيوت والمدارس تزحمه ولا يبدو من جدرانه إلاّ ما يحيط بالأبواب) وكما انكشف المسجد النبوي في المدينة المنورة. ومن البشائر التي سمعت بها ولم أرَها أن المسجد الأموي قد انكشف الآن وأزيلَت البيوت التي كانت تستره وتحفّ به وتُخفي روعة بنائه وجمال مظهره. وكان ممّن فكر في ذلك جمال باشا خلال الحرب العالمية الأولى، أراد أن يكون أمام كل باب من أبواب الجامع الأموي الأربعة شارع مستقيم يمتد حتّى يخرج إلى ظاهر البلد، ومن أجل ذلك فتح أول شارع في دمشق، وكان يُسمّى باسمه ثم سُمّي شارع النصر. كانت المحكمة الشرعية في دار قديمة، ليست من الدور الواسعة ولا الجميلة ولكنها مبنيّة بناء مرتَجَلاً، تدخل إليها من فناء مكشوف ثم تجد هذه الغرف المبنيّة على غير نظام هندسي ومن غير ذوق ظاهر. فانتقلت منها إلى إحدى الدور الشامية الكبيرة في حيّ القَنَوات. هل قرأتم وصف قصور الخلفاء في مثل القصص التي يرويها القاضي التنوخي؟ صحن واسع يُفضي إلى صحن واسع، وفي كليهما بِركة وحول البِركة شجر وزهر وورد، والأشجار تميل بغصونها على ماء البِرَك تُقبّله بأفواهها وتلمس صفحة خدّه برشاشها؟ كانت دار المحكمة شيئاً مثل هذا، بل ربما زادت على

ما ورد وصفه في أمثال هذه الكتب. هي دار الحلبوني، لها (كما كان للكثير من الدور الشامية) برّاني وجوّاني، أما برّانيّها فهو دار فخري البارودي، الدار الواسعة المشرقة الضاحكة بالرخام وبالورد وبارع النبات، الدار التي طالما أقيمَت فيها الحفلات الوطنية وأُلقيَت فيها الخُطَب وخرجَت منها المظاهرات. والمحكمة هي القسم الجوّاني من هذه الدار. أما دار فخري البارودي فبابها من الشابكلية، وأمّا دار المحكمة ففُتح لها باب من صدرها من شارع القَنَوات الذي يجري فيه أحد أبناء بردى (أي نهر القنوات) ضيّقاً عميقاً يمرّ أمام البيوت، تدخل منه شعبة إلى كل من هذه الدور ترقص في نوافيرها وتستلقي في بِرَكها وتسقي وردها وزهرها، حتّى إذا وصل النهر إلى آخر الحيّ لم يبقَ منه شيء. تمتاز هذه الدار فوق سعتها وبهائها وجمالها وعِظَم أبهائها، تمتاز بشيء قلّ نظيره في غيرها، هو هذا الرخام وهذا المَرْمَر المنتشر في أرجائها. في صدر الإيوان مرآة عظيمة طولها يزيد على ثلاثة أمتار وعرضها أكثر من نصف ذلك، إطارها كلّه من ذلك الرخام، وإلى جانبَي الإيوان بَهْوان كبيران (قاعتان) (¬1) في وسط كل واحدة منهما بِركة صغيرة جداً (فِستقيّة) على شكل كأس مزخرَف من الرخام كله قطعة واحدة. ويقابل الإيوانَ من صدر الدار بهوٌ عظيم (قاعة كبيرة) بابها -مثل أبواب الدار كلها- ¬

_ (¬1) القاع كلمة فصيحة. أما القاعة بهذا المعنى فهي مولَّدة، ولكنها ليست غريبة تماماً عن العربية.

من الخشب النادر المُطعَّم بقطع الرخام المنقوش، ويقابل البابَ في صدر البهو مرآةٌ كبيرة تصل من الأرض إلى السقف (وعلوّ السقوف في بيوت الشام القديمة يزيد على ستّة أمتار). وللدار طبقة عُليا يُصعَد إليها من درَجَين متقابلَين كانت فيها محكمة التمييز الشرعية (أي محكمة النقض). * * * كان قُضاة المحكمة ثلاثة: القاضي الأول وكانوا يدعونه القاضي الممتاز، وقاضيان آخران يُدعَيان بالقاضيَين المعاونَين. أما القاضي الممتاز فكان عمله الإشراف على سير العمل في المحكمة وإنجاز الأمور الإدارية والمخابرات الرسمية مع المراجع العليا، أمّا الذي يتولّى القضاء فهما القاضيان المعاونان، في القاعتين المتقابلتين على طرفَي الإيوان. وكان القاضيان المعاونان هما: الشيخ عادل العَلواني الحموي الذي كان رفيقي في معهد الحقوق (كلّية الحقوق)، كنّا في سنة واحدة، والثاني هو الشيخ صبحي الصباغ الحلبي، وكان في الكلّية بعدنا بسنة واحدة. انتُدبت أياماً معدودة أول الأمر إلى محكمة دمشق ... وبقية الكلام تأتي إن شاء في الحلقات الآتية. * * *

القاضي الشهيد

-123 - القاضي الشهيد كنت أتردد -كما عرفتم- بين دمشق ودوما، عملي الرسمي في دوما وانتدابي إلى دمشق، ثم صرت قاضياً رسمياً في دمشق. وكان أمامي ثلاثة، القاضي الممتاز الشيخ عزيز الخاني والقاضيان الأَخوان الشيخ صبحي الصباغ والشيخ عادل العلواني. فتوفى الله الشيخ عزيز، وقتل مجرمون الشيخ عادل، ثم نُقل الشيخ صبحي مستشاراً في محكمة النقض، فصرت أنا القاضي الأول في المحكمة الذي كانوا يدعونه القاضي الممتاز. لا يخطرْ على بال واحد منكم أنني سُررت بأنهما فسحا لي الطريق إلى المنصب، لا والله لقد تألمت ألماً حزّ في قلبي وترك فيه آثاراً بقيَت زمناً طويلاً. وأنا حين أقعد لأكتب الحلقة من هذه الذكريات أجد حرجاً وأتمنّى منها مخرجاً، لأنني لا أعتمد إلاّ على ذاكرة أبلاها طول الزمان، فأنا أكدّ ذهني كدّ الفارس المغوار فرسَه العجوز، فتعطيه أكثر ما تقدر عليه ولكنها لا توصله إلى ما يطمح إليه. لكني هذه المرّة وجدت قطعاً قديمة فيها قصاصات من

مقالات لي (كنت أكتبها في جريدة «النصر» أولاً ثم في جريدة «الأيام»، كان عنوانها «كلّ يوم كلمة صغيرة»، جمعت طائفة منها في كتاب لي اسمه «مقالات في كلمات»، نفدَت طبعتُه من زمان بعيد وربما جدّدَتها دار المنارة التي طبعَت هذه الذكريات، وضاعت طائفة منها وبقيَت عندي طائفة لم تُنشَر في كتاب) (¬1)، ليس فيها تاريخ، بل ليس فيها اسم الجريدة التي نشرتها، ففرحت بها لأنني وجدت ما أتكئ عليه وأستند إليه. * * * هذه قطعة وجدتها كتبت فيها كلمة يوم مات الشيخ عزيز، لا أحسب أن في قرّاء الجريدة المنتشرين ما بين منكبَي الأرض من اطّلع عليها، وإن كان قد اطّلع عليها فما احتفظ بها ولا وعتها ذاكرته، لأنها نُشرت من أكثر من ثلث قرن في جريدة دمشقية لا تكاد تجاوز حدود الشام، فلا بأس عليّ إذن إن أنا أدرجتها هنا بحروفها لم أبدّل شيئاً فيها. قلت يوم مات الشيخ عزيز: أَحَقٌّ ما نَعى النّاعي؟ أحقٌّ أن الرجل الذي كان ملء الأبصار وملء الأسماع وملء القلوب قد اختفى إلى الأبد، فلن تراه بعد اليوم عين ولن تسمعه أذن، ولن ينعم بلقياه قلب؟ أحقّ أنّ الرجل الذي تسلسلَت ¬

_ (¬1) من هذه التي لم يضمّها الكتاب اخترتُ مجموعة صالحة للنشر صدرَت جزءاً ثانياً من «مقالات في كلمات»، أصدرَته دارُ المنارة عام 2000، ومن قبله أعادت طباعة الجزء الأول من الكتاب (مجاهد).

الصداقة بين بيتنا وبيته منذ مئة وخمسين سنة (فقرأ جدّي الأكبر على شيخ البيت الخاني وقرأ أهل البيت على جدي) والذي كنتُ إذا رأيتُه رأيت في طلعته صورة أبي الحبيب قد عادت حيّة بعدما واراها التراب وحالت بيني وبينها السنون، الرجل الذي خُلق من الحُبّ فكان يُحبّه كلّ قلب، وصيغ من الجمال فكان جميلاً في كل عين، والذي كانت له الهيبة وكان له الجلال ... لم يبقَ منه إلاّ صورة في الذاكرة وفكرة في النفس، وحديث حلو من أحاديث النبل والطّيب والكرَم يتداوله الناس من بعده؟ أحق أنه قد مات عزيز أفندي الخاني، ووقف ذلك القلب الذي لم يخفق إلاّ بالحبّ، وكان ينشر الحبّ حيثما سار كما تنشر العطرَ الأزهارُ والشمسُ الأنوار؟ أفي كل يوم ينطفئ مصباح، ويهوي نجم، ويموت عالم؟ أين الشيخ بدر الدين الحسني؟ أين السيد محمد بن جعفر الكتاني؟ أين الشيخ عطا الكسم؟ أين من قبلهم الشيخ جمال الدين القاسمي؟ أين الشيخ أمين سويد؟ أين الشيخ مصطفى الطنطاوي؟ أين الشيخ الجوبري والشيخ الأيوبي والعلمي؟ أين مشايخ القراء: الحلواني والمنجّد والعربيني؟ وأين العشرات ممّن فقدنا من العلماء؟ مَن خلفهم من أولادهم أو من تلاميذهم؟ مَن سدّ المكان الذي أخلوه؟ مضوا ومضت معهم كنوز من العلم، ودُفنت معهم ثروات من المعرفة ما حوتها الكتب ولا حفظتها التصانيف، لأن القوم كانوا راغبين عن الكتابة منصرفين عن التأليف. أدمغة عبقرية غذّاها

دأب السنين وإحياء الليالي وثني الركب، ثم كان مصيرها إلى التراب! وينابيع عِذاب، ولكن العِطاش انصرفوا عنها وزهدوا فيها، حتّى غاضت في الأرض كما فاضت من الأرض. مضوا وسيمضي هؤلاء الباقون، فتزودّوا منهم، ارتووا قبل أن يجفّ الينبوع فإن أمامكم بيداء قاحلة. اقتبسوا من نورهم قبل أن تنطفئ الشعلة فإن أمامكم ليلاً أَلْيَل. رحمة الله على من مضى وللأحياء طول البقاء. * * * ثم أبّنتُه في قاعة الجامعة السورية بتلك الخطبة التي حدّثتكم عنها. وقد وجدت هذه الورقة مقطوعة من جريدة، ولو سئلت عنها لما ذكرتها لأنني نسيتها فيما نسيت ممّا كتبت. ولو قدّر الله يوماً بعد موتي أن يأتي أخ كريم لا أعرفه، فيحقّق الأمل الذي لم أحلم يوماً بتحقيقه فيجمع كل ما كتبت، لجاء معه أكثر من خمسين مجلّداً. لا تظنوا أني أبالغ، فلقد عشت عمري كله أقرأ وأكتب، فاحسبوا كم قرأت كلّ يوم وكم كتبت. * * * أعود إلى حديثي. أما الشيخ عادل واغتياله: فما أقول ولا يقول أحد إننا شعب من الملائكة لا نعرف القتل ولا نعرف الفواحش، فإنها من طبيعة البشر. وكل ابن آدم خطّاء، ولو أن مجتمعاً بشرياً خلا من الجريمة لخلا أشرف وأفضل مجتمع عرفه تاريخ بني آدم، وهو مجتمع الصحابة، لكنها طبيعة البشر التي طبعهم الله عليها.

كنّا نعرف القتل انتقاماً، ونعرفه أخذاً بالثأر شفاء لما في الصدر، ونعرفه في ساعة الغضب التي تُعمي البصر وتعطّل الفكر، ولكن ما عرفنا هذا النوع من الاغتيال لأنه ليس من فعل الرجال ولا من سمات الأبطال. ولعلّ أول قتيل سياسي عرفناه هو الرجل الكبير، السياسي البارع الخطيب العالِم الدكتور عبدالرحمن شهبندر، كان مقتله كما أذكر سنة 1940 ميلادية، وقد مررت به ونسيت أن أحدّثكم حديثه كما نسيت غير ذلك من الأحداث، فإذا عادت إلى ذهني عدت إليها فحدّثت بها. ذكّرني بمقتله كلمة نُقلت إليّ عن رجل يُقيم هنا كان قد اتُّهِم مع من اتّهِم بقتل الشهبندر، زعم الناقل أنه افتخر في مجلس بأنه أحد قتلة الشهبندر. وما أحسب ذلك حقاً، وما أظنّ أن مسلماً يفتخر بقتل مسلم بعد وعيد الله عزّ وجلّ بأنه يجعله في النار خالداً فيها. والشهبندر ما كان في تقوى عمر بن عبد العزيز ولا أحمد بن حنبل، ولكنه ما خرج من الإسلام ولا ارتكب ما يُستباح به دمه الحرام. وكان قتله إثماً كبيراً، زعموا أنه كان بفتوى من جماعة صالحين ولكنهم من الجاهلين، نُقلت إليهم عنه أشياء فلم يتحقّقوا منها ولم يتثبّتوا من صحّتها، وأفتوا بقتله وما كانوا مُفتِين، وقضوا عليه وما كانوا قُضاة، فعلق إثم هذه الفتوى بأعناقهم. وسمع ذلك شباب ليست لهم عقول فنفّذوا هذا الجرم، يحسبون أنهم يُحسِنون صنعاً، مع أن دم مسلم واحد قُتل بلا حقّ أكبر عند الله من هدم ركن الكعبة. حضرت المحاكمة كلها في المدة التي فصلَت بين انشغالي بالتعليم وبين انتسابي للقضاء (وقد اشتغلت فيها بالمحاماة).

وكانوا قد ألّفوا للمحاكمة مجلساً عدلياً خاصاً، أعضاؤه من الفرنسيين ومعهم قُضاة من السوريين، وطالت المحاكمة، وكان على رأس المتهَمين فيها شابّ من آل عصّاصة، وآخر شاب بعمامة وجبّة من طلبة العلم من بيت الشيخ معتوق. وقد أدهش عصاصة القُضاة والمحامين كما أدهش الحاضرين وهم مئات (لأن المحاكمة كانت في المجلس النيابي، استعاروه ليعقدوها فيه) فكان القُضاة وكان محامو الاتّهام يحيطون بعصاصة، يحاولون إمساكه فلا ينالون منه منالاً ولا يصلون منه إلى شيء. حتّى دُعي السيد مكي الكتاني وألقى خطبة وعظ فيها عصاصة فاعترف بأنه القاتل، والسيد مكي رحمة الله عليه ليس عالِماً متمكناً، ولكنه رجل نبيل النفس سامي الخلق مخلص فيما يقول، وإذا قال دخل كلامُه قرارة نفس المخاطَب، فكان له في السامعين أبلغ التأثير. وأذكر أنه يوم تنفيذ الحكم في عصاصة ومعتوق في ساحة المرجة (إذ قتلوهما شنقاً) تردّد الشيخ معتوق وجزع، فثبّته عصاصة ولامه وجعله يستقبل الموت استقبال الرجال. وفي مثل هذا المجال تكون الرجولة ويكون الصبر ويكون الاختبار. والغريب أن اسم عصاصة كان يلفظه القاضي الفرنسي «أساسان»، ومعنى ذلك بالفرنسية «القاتل»، زعموا أنها من لفظ «الحشاشة»، اللقب الذي كان يُلقَّب به الإسماعيلية في غابر الزمان. * * * قُتل في تاريخنا وفي تواريخ الأمم جميعاً حُكّام وقُوّاد وأغنياء، كما قُتل فقراء وقُتل ناس من عامّة الشعب، ولكننا

لم نسمع أن قاضياً قُتل لأنه حكم بالحقّ على واحد لم يرضَ بحكمه، لذلك كان نبأ قتل الشيخ عادل علواني نبأً رجّ دمشق رجّاً. ولست أذكر التفاصيل ولكن أتلو عليكم ما جاء في هذه القصاصات التي وجدتها بحمد الله مصادفة، وإن لم يكن لها عنوان ولا تاريخ (¬1). القصاصة الأولى: رجعت الآن من جنازة الزميل الشيخ عادل العلواني، وقعدت لأكتب هذه الكلمة وأنا لا أزال مشدوهاً مقسّم الذهن، لا أكاد أصدّق أنه مات ولا أدري ماذا أكتب عنه. ما الذي تسعه هذه الزاوية الصغيرة من إخاء عشرين سنة (كان قتله سنة 1949)؟ ماذا أقول عن الرجل الذي عرفته رفيقاً في كلية الحقوق جنبي في المقعد إلى جنبه، ثم عرفته قاضياً في المحكمة الشرعية قاعتي مقابل قاعته، والذي رافقته أمداً يملأ حديثي عنه تأريخاً؟ إني والله لا أدري ماذا أقول فاعذروني، فإنني لا أزال في روعة الصدمة الأولى. ولقد سمعت الناعي في الهاتف يقول لي إن الشيخ عادل قُتل، فما صدّقت وحسبتها مزحة ثقيل، وما ظننت أن من الممكن أن يُقتل قاضي دمشق وسط دمشق. غدوت أسأل فإذا الخبر صحيح، فذهبت إلى داره أدبّر أمر الجنازة، فلم أرَ في الدار إلاّ امرأة حَيْري وأطفالاً تسعة أيتاماً، ¬

_ (¬1) انظر مقالتَي «القاضي الشهيد» و «لا نريد من يدافع عن القاتل» في الجزء الثاني من كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

وإذا القاضي الذي كان مستوراً بالتجمّل لم يخلّف بعده ما يكفي لإيصاله إلى القبر. ولقد يكون في هذا الذي أقول إيلام لأسرة الفقيد، ولكنني أقوله بإكبار وإعجاب، وأحني هذا الرأس (الذي ما انحنى لغير الله) أمام نعش الرجل الذي استطاع أن يكون قاضياً نزيهاً أميناً وهو يكابد الفقر عمره كلّه ويتجرّعه ويصبر عليه، حتّى عاش مستوراً ومات إن شاء الله شهيداً (¬1). وتولّى القُضاة والمحامون نعيَه وإخراجه، ومشَت الجنازة صامتة رهيبة على السنّة، لا صراخ ولا نشيد ولا أكاليل، كذلك جعلتها وأنا الذي تولى أمرها. ثم قمت أخطب ولا أعلم ماذا أقول، لأن أطفاله كانوا أمامي، فكان يشغلني التفكير في مصيرهم عن صوغ آيات البيان. كنت أفكّر فيهم فأخشى ألاّ تفي هذه الأمة للرجل الذي وفى لها وأن تدع أولاده يحتاجون من بعده لأن ضميره ودينه منعاه من أن يدّخر مالاً يجمعه من حرام، وأخاف أن تضيق خزانة الدولة بنفقات دراسة ولده الذي يدرس في الخارج ونفقات معيشة أولاده الذين بقوا في الشام، وألاّ تجود بالمال لمن جاد بالدم، وأن تتمسّك بحرفية قانون التقاعد وتُعطي أسرة الفقيد ما لا يكفيها ثمن الخبز، فيرى ذلك القُضاةُ فلا يبقى فيهم قاضٍ نزيه لئلاّ يشحد أولادُه بعد موته. إني والله لا أزال في روعة الصدمة الأولى فاعذروني اليوم. * * * ¬

_ (¬1) من الإنصاف للتاريخ أن أقرر أنه أخطأ خطيئة كبيرة حين أبرق لحسني الزعيم يؤيده في إصدار القانون المدني وإلغاء «المجلة» التي كانت القانونَ الشرعي. ولكن رحمة الله لا تضيق عنه، رحمه الله.

وأذكر (ويذكر الناس الذين كانوا معي) أننا صلّينا على الجنازة في تكية السلطان سليمان، فلما جاؤوا ليخرجوا بعدها من المسجد وقفت في الباب معترضاً، وكان يتقدمهم رئيس الوزراء وأحسبه كان الأستاذ صبري العسلي أو كان وزير العدل، وبينهم القُضاة والوجهاء، وألقيت كلمة فيهم سالت منها مدامعهم، ووصفت حال أولاده من بعده وقلت لهم: لن تخرجوا من هنا حتّى تتعهّدوا لي أمام نعشه بأنكم لن تضيّعوا أولاده بعده، وأنكم تجعلون لهم راتباً يكفيهم، ولا يفي هذا الراتب مهما كبر بما بذل أبوهم لبلده ولكم. * * * والكلمة الثانية التي وجدتها بين الأوراق ولا أعرف تاريخها هي: عجب الناس أن مضى القاضي (العادل) ولم يخلّف وراءه ما يكفي لتغسيله وتكفينه وحمله للمقبرة رحمة الله عليه. يحسبون أنه وحده القاضي الذي عاش فقيراً ومات شهيداً. لا، لا تعجبوا فإن ثلاثة أرباع القُضاة هذه حالهم وإلى مثل هذا مآلهم؛ إنهم يعيشون عيش الفقراء ويموتون موت الشهداء، ولكن العلواني (غفر الله له) مات شهيد الواجب فبكَته كل عين في الشام وذكره فيها كل إنسان، وإن حاول المجرمون أن يُسكِتوا الألسنة بالمال، وسائر القُضاة يموتون كلّ يوم شهداء الصبر الصامت ولا يدري بهم أحد، ولا تبكيهم إلاّ عيون عارفيهم وأهليهم. إنها إن بقيَت رواتب القُضاة على هذه الحال لم يبقَ في المحاكم قاضٍ يُعتمَد عليه. ومن أين نأتي بالقُضاة ونحن لا نزال

نرى الناس زاهدين في القضاء منصرفين عنه؟ وكم مسابقةً أعلنَت عنها الوزارة فلم يُقبِل عليها أحد حتّى اضطرت إلى إلغائها؟ (إلى أن قلتُ): إنكم تظنّون أننا نطالب بزيادة الرواتب طمعاً في الكسب وحُباً بالادّخار وابتغاء النعمة والرفاهية لأنفسنا وأهلينا. لا يا سادة، ولكن نطالب بها حفظاً لحقوق الناس وكرامة البلد، وليكون القُضاة مَكفيّين فلا يَمُدّوا عيونهم ولا أيديهم إلى غير ما أُحِلّ لهم، فارغين من همّ العيش لا يشغلون به بالهم عن قضاياهم، آمنين مطمئنّين فلا يزعجهم حاكم ولا يطمع في التأثير فيهم أحد، ولتدخل الحكومةُ كبارَ المحامين في القضاء حتّى يُقبِلوا عليه فيقوى بهم، كما يقوى النهر بالروافد التي ترفده وتنصبّ فيه. * * * الكلمة الثالثة: تمّ الأمر وعُرف هذا المجرم النذل الذي فقد كل ما يعتزّ به الرجال من الفضائل: فقد الدين الذي يدعو إلى الخير، والضمير الذي يوزع عن الشر، والخلق والنبل والإنسانية، وفقد معها الشجاعة، فلم يواجه خصمه مواجهة البطل ولم يُعلنه بالحرب إعلان الشريف، بل تخفّى له في الظلام كما تختفي الحشرات وضربه على غرة كما تضرب العقارب. والذي فقد الرجولةَ فاستعان بماله الذي جمعه من حرام على الفعلة الحرام، واشترى به أيدياً يضرب بها بعد أن منعه الجُبن والتخنّث أن يضرب بيده التي عرفَت السرقة ولم تعرف

البطش. وخرست بذلك ألسنة انطلقَت ترجف بالفقيد والحكومة، توهم أنها حائرة مضطربة لا تدري من أين تمسك طرف الخيط، فلم تَمضِ إلاّ ثلاثة أيام حتّى عُرِف القاتل وعُرف شركاؤه، وعُرف الشيطان الذي وسوس له وحرّضه على الشرّ؛ هذا الشيطان الذي يظهر بين الناس بمظهر الوجهاء الأفاضل! وأقرّوا جميعاً طائعين مختارين، فظهر بذلك أن الشيخ عادل قضى شهيداً من أجل الحقّ الذي أقامه والقانون الذي أطاعه، لا من أجل هوى ولا مطمع، وأنه مات نظيف اليد طاهر الذيل شريفاً، كما عاش شريفاً طاهر الذيل نظيف اليد. ولم يبقَ إلاّ أن تُتِمّ الحكومة هذا الفصل، فلا تمضي عشرة أيام حتّى يكون المجرمون منصوبين على أعواد المشانق في المرجة، كيلا ترى دمشقُ مرّة ثانية مثلَ هذه الجريمة التي ملأت كلَّ قلب في دمشق أسفاً على مَن فُقد ورحمة لمن ترك وغضباً على من أجرم، وحتى يكون راتب الفقيد كاملاً في يد أسرته. إنكم لا تستطيعون أن تعيدوا لهؤلاء الأيتام أباهم، فأعيدوا لهم على الأقلّ راتب أبيهم. * * * القصاصة الرابعة صارت المسألة بين أيدي القُضاة، فطلبوا من يدافع عنهم فأبى المحامون الدفاع عن مجرم ظاهر الإجرام، وتطوّع لذلك محام غريب الديار، قدم دمشق فآوته وأكرمَته وأعطته المال وأعطَته المجد. ولا اعتراض لنا على دفاعه فالدفاع عمل

المحامي، وهو عمل مشروع لا ممنوع، ولكنه أساء أسلوب الدفاع وتطاول على أهل البلد وكاد يمسّ القُضاة أنفسهم، فكتبت هذه الكلمة، وهي إحدى الكلمات التي وجدتها اليوم: بعضَ هذا يا سي حسن (¬1) فإن الحياء من الإيمان، ولك أن تدافع عن القاتل فإن الدفاع حقّ مطلوب، ولك أن تحرص على الأجرة فإن المال مشتهى محبوب، ولكنْ ليس لك أن تنسى الحقّ من أجل المال وتضحّي بالإنسانية في سبيل المهنة، فتصغّر هذا الجرم وهو عظيم، وتكسر بلسانك قلوب هؤلاء الأطفال بعد أن كسر موكّلك بنذالته ركنهم وذبح بسكّينه أباهم. وليس لك أن تسخر من هذا الشعب الذي فتح لك أبوابه وأعطاك من المجد والمال ما لو وجدتَه عند أهلك لما لجأت إليه، والذي لا يزال -من غفلته- يكرم كلّ غريب ليناله بالأذى هذا الغريبُ. ولو كنت من أهل البلد لعلمتَ أنها لم تصنع بأهله جريمةٌ آثمة سافلة ما صنعت هذه الجريمة، وأنها راعت قلوبَ ساكنيه وأغضبَتهم وآلمتهم، أسفاً على الفقيد وحزناً على أولاده وإكباراً لفقره، وخوفاً على العدالة أن لا يُنصَب لها في الشام ميزان بعد اليوم، ما دام كلّ نذل يُغضبه القاضي بحكمه عليه يبعث إليه بوحش يقتله. وأنها فُرشت بالشوك مضاجعُهم فما يقرّ لهم قرار حتّى يصطبحوا بمرأى المجرمين كافةً تهتزّ أرجلهم فوق أرض المرجة. وأن النساء في البيوت، إي والله والرجال في الأسواق والأولاد في المدارس، لا يزالون يسألون عن المحاكمة ماذا ¬

_ (¬1) اسمه المحامي حسن غزاوي، وهو من مصر.

جرى فيها، وعن المجرمين متى يلقون جزاءَ ما جنوا؟ ولو كنت تقرأ التاريخ لعلمت أنها جريمة لم يعرف تاريخُنا جريمةً مثلها. ولقد قُتل كثير من الخلفاء والأمراء والحُكّام، ولكن لم يُقتَل قاضٍ في الإسلام اغتيالاً قبل القاضي العلواني. فهل أدركت الآن أنها جريمة ليست كالجرائم؟ يا سيد حسن، إني لا أعرفك ولكني أظنّ ممّا سمعت عنك أن هذا كله لا يقنعك، إنه كان يقنعك لفظ واحد من الرئيس لو أنه قاله في حينه، هو أن يأمر بسجنك على هذا التعريض المكشوف بمجلس القضاء وأهله وهذه الجرأة الوقحة عليه. ولكن الرئيس كان حليماً جداً، فإياك إياك؛ فإن العرب تقول في أمثالها: اتقِ غضبة الحليم! * * * والكلمة الأخيرة من هذه الكلمات التي وجدتها في القصاصات هي: رأيت اليوم وأنا على قوس المحاكمة طفلاً أشقر جميلاً صغيراً جداً يتسلّق درَج القوس، فحسبتُه ابن إحدى المتداعيات قد أطلقته يعبث في القاعة فهممت بزجره، ولكني رأيته يتقدّم مطمئناً ثابت الخُطى، حتّى أقبل فوضع خده على ظهر كفّي وجعل يتمسح بي كالقطة الأليفة. فنظرت إليه، وإذا هو ابن أخي الشهيد الذي قُتل ظلماً الشيخ عادل العلواني، فاستَعْبَرت ورقّ قلبي وامتلأت بالدمع عيناي، وتركتُه حيث وقف، وخالفت لأول مرّة من عشرين سنة مارستُ فيها القضاء نظام الجلسات وقواعد

المحاكمة، مع أن ابنة لي في مثل سنّه جاءت مرّة (مرّة واحدة) المحكمة مع أمها فنادتني وركضت لتصعد القوس، فأبكيتها وأنزلتها وأخرجتها. ولكن هذا الطفل كان متعوّداً على ذلك أيام أبيه فلم أشأ أن أكسر قلبه، وقال لي الطفل فجأة: صعي (أي صحيح) مات بابا؟ فأحسستُ كأنْ قد وقع على وجهي سوط من نار، وانعقد لساني فلم أُجِبْ. فسكت ثم قال: وين بابا؟ طَوَّلْ (أي تأخّر). إمتى بدّو يزي (يعني يجي)؟ فلم أنطق. قال ليس (يعني ليش) كل ما سألت عنه ماما بتبكي؟ الكبار يبكوا سي؟ ولم أُجِبْ، فرجع يقول: ما عاد بابا زاب (جاب) لنا سكّر. وين بابا؟ فأعطيتُه سكاكر كانت في جيبي أعددتها لأولادي فاشتغل بها، ثم أقبل عليّ ورفع وجهه إليّ وقال مهتماً: عمّو نزّلوا الدم لبابا، سفت (شفت) الدم على الدرز (الدرج). ليس (ليش) نزّلوا له الدم (¬1) إيس سوّى لهم (أي ماذا عمل لهم)؟ ليس (ليش) ما بحبّوا بابا؟ أنا أحبّ بابا. وتعطّلَت الجلسة حقيقة وتحوّلَت إلى مناحة؛ النساء يبكين بصوت مسموع، والمحامون والكاتب والمحضر، وأنا، كلنا غلبَنا البكاء. * * * ¬

_ (¬1) تخفّى له مُغتالُه الذي استأجروه لقتله فطعنه بسكّين كان ينحر بها الإبل.

في سبيل إصلاح محكمة دمشق

-124 - في سبيل إصلاح محكمة دمشق كان عنوان أول مطبوعة صدرَت لي سنة 1347 هجرية هو «في سبيل الإصلاح». ولقد حرصت عمري كلّه أن أسلك هذه السبيل، وكنت أُوفَّق بحمد الله أحياناً وتغلبني نفسي أو تعترضني العقبات فأتنكّبها حيناً. من الناس من يبالغ في الشجاعة حتّى يجرّد سيفه ليقاتل طواحين الهواء وأعمدة الكهرباء، ومن الناس من يغلو في الجبن «حتّى إذا رأى غيرَ شيء ظنّه رَجُلاً»، {يَحسَبونَ كلَّ صَيحةٍ عليهم}، ومن يتشدّد في الطهارة حتّى تصير عنده وسواساً ... وأنا أبالغ في الشعور بالظلم والإشفاق على المظلومين؛ لو سمعت بمظلوم في المغرب وأنا في أقصى المشرق، أو قرأت قصّته التي وقعت منذ قرون، لم تمنعني شدّة البعاد ولا اختلاف الآماد من أن أغضب له، وأتمنّى أن أردّ عليه حقّه وأن أضرب على يد من ظلمه. حتّى إنني لأشاهد المسلسلة في الرائي فيها عادٍ ومعدوّ عليه، شيطان يأخذ ما ليس له بحقّ ومغفّل يُعطي ماله لمن لا يستحقّ، فأتمنّى أن أتمكّن من العادي فأردّ كيده وأعرّفه حدّه،

وهي مسلسلة خيالية كلها تمثيل في تمثيل! فتصوّروا حالي وقد لبثت سنين أرى الرشوة والظلم والفساد ولا أقدر على إزالته ولا على تقليله، كانت عيني بصيرة بالمعايب ولكن يدي كانت قصيرة عن محوها، كنت أرى السيارة تسير على غير الطريق ولكن مِقوَدها بيد غيري، كنت أعرف المرض وعندي دواؤه ولكن لا سبيل إلى إيصاله إلى المريض. فالآن طالت يدي القصيرة وتسلّمت أنا مِقوَد السيارة، وفُتح لي الباب لأحمل إلى المريض العلاج. إنها لذّة من أكبر اللَّذَاذات: أن ترى الباطل غالباً والحقّ مغلوباً وترى نفسك عاجزاً، ثم تُعطى القوّة على دحر الباطل وعلى نصرة الحقّ. لقد وجدت هذه اللذّة التي لا تعادلها اللذاذات مرتين: مرّة في النبك لمّا كنت قاضياً فيها، وقد مرّ بكم الخبر، وهذه الثانية. إنها لذة، ولكن هل في الدنيا لذائذ لا تشوبها الآلام؟ هل يصفو لأحد نعيم في الدنيا؟ كنت أنظر فأرى نفسي مسؤولاً عما أقضي فيه. والقضاء مَركب صعب، لذلك فر منه كثير من كبار السلف وأبَوه واحتملوا في سبيل إبائهم الضرب والسجن والإيذاء، فإذا كان أبو حنيفة وكان سفيان الثوري وكان أمثالهما يهربون منه ويخافون أن يعجزوا عنه، فكيف أُقدم أنا مطمئنّاً عليه؟ اقرؤوا سيرة أبي حنيفة لمّا أُكرِهَ على القضاء. بل ارجعوا إلى كتاب «قُضاة الأندلس»، فإن فيه أحاديث كثيرة عمّن أبى دخول القضاء من العلماء.

ثم أرجع فأقول لنفسي: إذا فرّ الناس جميعاً من القضاء فمن يقوم به؟ ولقد قلت في محاضرة لي قديمة (¬1) أشرت إليها في هذه الذكريات: إن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها؛ ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبطْ إلى درك البهائم ويأكل القويُّ من بني آدم الضعيفَ. وإن معنى الإنسانية وحقيقتها إنما تكون في الحياة المستقيمة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحدٌ على أحد، والتي تُصان فيها الحَيَوات والحرّيات وتُحفَظ الدماء والأعراض، ويتحقّق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كلّه إلاّ بالقضاء. والقضاء عند المسلمين أقوى الفرائض بعد الإيمان؛ إنه عبادة من العبادات، ففيه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال: {فاللهُ يحكُمُ بينهم} وقال: {إنّ ربّكَ يقضي بينهم}، وأمر به نبيّه فقال: {وأنِ احكُمْ بينهم بما أنزَلَ اللهُ ولا تتّبعْ أهواءهم}، وجعل أنبياءه قُضاة بين خلقه: {إنّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيّون}، وبه أثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له: {يا داوُد إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكُم بينَ الناسِ بالحقِّ ولا تتّبعِ الهوى}. وقلت من قديم إن القضاء أول ما تَعقد عليه أمةٌ خناصرَها إذا عَدّت أمجادها ومفاخرها. وإذا استُدلّ بفرد على خلائق شعب كان القاضي العالِم العادل أكبرَ دليل على مكارم شعبه ونبل أمته، وإذا كان بين ¬

_ (¬1) أُلقِيَت في نادي «التمدّن الإسلامي» سنة 1361هـ.

الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه وعزّته ومضائه ففاخروا -يا شبابنا- بقضائكم يكن لكم الفخار وتُعقَد على جباهكم تيجان الغار، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد بل انهضوا فصِلُوه بمجد لكم جديد (¬1). * * * هذا ما قلته من قديم، ولم أكن ألقي فيه خطابيات بل أسرد حقائق، فالقضاء لا بدّ منه ولكنه امتحان صعب، والداخل إليه داخل على خطر. فقعدت أفكر: ما حُكم تَوَلّي القضاء في الشرع؟ رجعت إلى ما يقول الفقهاء فإذا خلاصة أقوالهم أنه إذا لم يكن في البلد إلاّ واحد يقدر على تَوَلّي القضاء -علماً منه بأحكامه واستقامة في سيرته- كان دخول القضاء بالنسبة إليه فرض عين. وإن كان في البلد اثنان فأكثر كلٌّ منهم يصلح له كان دخوله فرض كفاية عليهم. وإن كان رجل يصلح للقضاء وغيره أقلّ صلاحاً منه كان دخوله القضاء مندوباً إليه، وإن كان صالحاً له وغيره أصلح كان دخوله مكروهاً، وإن كان يعلم من نفسه العجز عنه وقبل به كان آثماً ظالماً. هذا في تولي القضاء في ذاته. ولكن من يكون رئيس محكمة يكون حمله أثقل لأنه يصبح مسؤولاً عن كل العاملين معه في المحكمة؛ إن زلّ واحدٌ منهم أو ضلّ عوقب معه الرئيس إن سكت عنه. فماذا أعمل وهي تَبِعة تَضعف عن حملها شُمّ الجبال ¬

_ (¬1) هذه قطعة من أول مقالة «القضاء في الإسلام»، وهي في كتاب «فِكَر ومباحث»، فمن شاء أكمل قراءتها هناك (مجاهد).

الرواسي؟ ماذا أصنع لأُحكِم المراقبة وأمنع ما كنت أُنكِره؟ وهل أستطيع وحدي أن أحارب هذه المجموعة من الناس، ومنهم من هو متمرّس بهذا العمل له معارف وأصدقاء يؤمنون بما يقوله لهم، ويأخذون الحقيقة كما صوّرها هو لا كما هي في صورتها؟ سيُشيع عني هؤلاء قالة السوء في الناس، وما يشيع (أي الشائعات) كالدخان تقذف به المدخنة، لا يستطيع أحد أن يردّه ولا التي أطلقته أن تستردّه. وجفا النوم عيني ليالي كوامل متعاقبات، أقلّب فيها جسمي على الفراش وتتقلّب في رأسي الآراء، وأقوم متعَباً من الأرق كمن مشى عليه فيل صغير فضعضع جسده وحطّم أضلاعه! وكنت أسأل الله أن يهديني، أرجع إليه ولا يُرجَع في الشدّة إلى غيره. فهداني وله الحمد وأراني الحقّ، فسألته أن يقوّيني على تحقيقه، فجلا الله لي وجه الحقّ ورأيت أنّ مراقبة الكُتّاب والمساعدين وهم متفرّقون في هذه الغرف الكثيرة، كلٌّ في غرفة وحده لا رقيب عليه إلاّ الله، أمر يكاد يكون كالمستحيل، وفكرت في جمعهم جميعاً في مكان واحد. ولكن أين أجمعهم وكيف؟ وتذكّرت أنها لمّا كانت الوزارات كلها في قصر الحكومة في سراي المرجة كان لوزارة العدل بهو واحد يجتمع فيه موظفوها جميعاً، وأمامهم حاجز يفصلهم عن الناس، هم من ورائه والمراجعون أمامه، ولهم نوافذ صغيرة يكلّمون الناس منها يأخذون ويُعطون ما يريدون من الأوراق. فذهبت إلى زيوار بك الجابي محاسب وزارة العدل. وكان -كما قلت لكم- كبير السنّ مستقيم السيرة صافي القلب، إذا سمع

اقتراحاً نافعاً أخذ به. فقلت له: زيوار بك، أين الحواجز التي كانت تفصل موظفيكم عن المراجعين لمّا كنتم في سراي المرجة؟ قال: في المستودع، فماذا تريد منها؟ قلت: أريد أن أركّبها في القاعة الكبرى التي كان يقعد فيها الشيخ عزيز أفندي الخاني رحمة الله عليه، وأن أجمع الموظفين فيها فيسهل على المراجعين الاتصال بهم. فهل تعطيني هذه الأخشاب؟ فسُرّ وقال: خذها بارك الله فيك، فإنني لا أعرف ما أصنعه بها. قلت: وتبعث معي من يحملها إلى المحكمة ظُهر يوم الخميس بعد انصراف الموظفين، وتبعث معها نجّاراً يركّبها في القاعة على النحو الذي أتصوّره؟ قال: نعم. وكان يقوم على وزارة العدل سامي بك العظم الذي سبق ذكره، وهو من أصدقاء أبي وخالي محب الدين الخطيب. وكان رئيس ديوان الوزارة رشدي بك الحكيم، وهو أيضاً من جماعة محب الدين، من السابقين إلى محاربة التتريك وتنبيه العرب من غفلتهم. وكلاهما (على بعد ما بيني وبينهما في السنّ والمنزلة) كان صديقاً لي وكان يعطف عليّ ويحبني، وكل هؤلاء وأستاذنا محمد كرد علي (وهو أسنّ منهم) كلّهم من تلاميذ الشيخ طاهر الجزائري. فذهبت إليهما فخبّرتهما بما أريد أن أصنع فوافقا عليه، فقلت: إنني أريد أن أنقل كلّ ما في غرف الكُتّاب إلى هذه «القاعة» (¬1)، أنقل المكاتب وأنقل الخزائن والأوراق، وأخاف أن ¬

_ (¬1) القاع أرض بين جبلين مرّ عليها السيل فخلّفها نظيفة مستوية، أما «القاعة» فلم يعرفها العرب بهذا المعنى ولكن لا ينكرونها.

يأتي واحدٌ منهم فيدّعي فَقْدَ شيء ما كان في غرفته، فأرجو أن يُرسَل معي موظف تعتمد عليه الوزارة يكون هذا النقل بإشرافه وبنظره وبعلمه. قالا: نعم، سنفعل. فلما كان يوم الخميس وانصرف الموظفون بقيت في المحكمة ووصلَت الأخشاب ورُكِّبت في القاعة، وتركت أمامها مكاناً للمراجعين يقفون فيه فيكلّمون الموظفين ويعطونهم ويأخذون منهم ولا يدخلون عليهم. وكنت قد طلبت إلى الفرّاشين المجيء عدا واحداً منهم، هو فراش القاضي الممتاز الذي لم أكن أثق به ولا أطمئنّ إليه والذي كان من جملة العاملين الفاسدين في المحكمة. جاء الفرّاشان الباقيان في الموعد الذي ضربته لهما بعد صلاة الجمعة وجاء مندوب الوزارة، وكنّا قد هيأنا حَمّالين اختارهم زيوار بك، المحاسب، فجعلنا نفتح الغرف غرفة غرفة وننقل ما فيها من المكاتب والكراسي والخزائن والأوراق، بحضور مندوب الوزارة وبحضوري أنا، إلى المكان المخصّص لكل واحد منهم في القاعة الكبرى وراء الحاجز. فما كانت عشيّة الجمعة حتّى كان كل شيء قد تمّ وأمست الغرف خالية ما فيها شيء، واجتمع ديوان المحكمة كله في هذه القاعة الكبيرة جداً التي وسعَت هذا كله، وبقي ربعها للناس المراجعين يدخلون إليه ويقفون فيه. * * * فلما جاء الموظفون يوم السبت في مواعيدهم (وكنت قد سبقتهم مبكّراً إلى المحكمة) رأوا ذلك، وقامت قيامتهم وجُنّ

جنونهم وأقبلوا يَقدُمهم (¬1) رئيس الديوان محتجّين معترضين، فقلت لهم: هذا ما أقرّته الوزارة، فمن شاء منكم أن ينتقل إلى محلّه الجديد فأهلاً وسهلاً، ومن أبى فليذهب إلى الوزارة فليشكُ إليها. رأوا أنهم لا حيلة لهم ولا ينفعهم احتجاج ولا تفيدهم شكوى، فقبلوا مُكرَهين بالأمر الذي وقع. ثم جعلت لكل معاملة من المعاملات الإدارية مُدّة معلومة تُسلَّم بعدها صور قراراتها إلى أصحابها. فمعاملة الزواج وحصر الإرث تُنجَز في يومها، فتُسلّم صورها إلى أصحابها بعد أربع وعشرين ساعة على الأكثر، ومعاملات الوصايا جعلت لها مدة مناسبة، وأعلنت للناس أنّ مَن تأخّرَت له معاملة عن هذا الأمد الذي حدّدتُه فليراجعني. وكان من المسموح به قانوناً أن تُعقَد عقود الزواج في المنازل بطلب من أصحابها، وكانت الأجرة المقررة للكاتب (أو المأذون) لإجراء العقد هي خمس ليرات سورية فقط والسيارة تنقله إلى دار المتعاقدين وتعيده منها. وأعلنت للناس أن من دفع أكثر من ذلك يكون قد خالف القانون ويُعتبر عمله رشوة يُعاقَب فاعله عقوبة الراشي، وكنت أبعث من قِبَلي ناساً يحضرون العقد ويتشمّمون الأخبار ويعرفون كم دُفع للكاتب. وكان أكثر الناس يُجزِلون العطاء لمن يعقد العقد في هذه ¬

_ (¬1) يقال قَدِمَ يَقْدَمُ (على وزن عَلِمَ) إن جاء، وقَدَمَ يَقْدُم (على وزن أَكَلَ) إذا تقدّم القومَ ومشى أمامهم.

المناسبات، حتّى إن أحد قُضاة قصر العدل طلب كاتباً بموافقة مني ليعقد عقد ابنته فدفع له مئة ليرة! وبلغني الخبر فدعوت الكاتب وأنذرته بأن يأخذ خمساً منها وأن يردّ له الباقي، وهددت من يعود إلى مثل ذلك برفع أمره إلى وزارة العدل، فصار الكُتّاب إذا أُكرِهوا على أخذ شيء يزيد عن الحدّ المقرَّر جاؤوني به في اليوم الثاني خوفاً من العقوبة. وجعلت لأصحاب المعاملات أرقاماً كالتي تكون في المصارف (البنوك)، فمن قدّم معاملته أولاً أعطيه رقم واحد، يأخذ الرقم بيده مطبوعاً على ورق مقوّى عليه ختم المحكمة ويُربط مثيله بالمعاملة، وأنذرت الديوان بأن تسير المعاملات وفق هذه الأرقام، فإذا كان رقم أربعة -مثلاً- لواحد من عامّة الناس ورقم خمسة لوكيل وزارة العدل أو لقاضٍ من كبار القُضاة فقدّمه الكاتب (الديوان) على الرقم الذي قبله أوقعت عليه الجزاء القانوني. وكنت أنزل في النهار فأدخل بين الناس، أدع العمامة في غرفتي فأعود بثياب كالتي يلبسها جمهور الناس فلا ينتبه أحدٌ إليّ ولا يتعرف عليّ، وأرى، فإن لمست مخالفة عملت على عقوبة المخالف. فانتظم أمر المحكمة، وسيق الناسُ جميعاً بعصا واحدة لا تفرّق بين الغنيّ والفقير ولا الكبير والصغير، بل لا يستطيع الموظف إذا جاء صديقه أو قريبه أو جاء أخوه أن يراعيه على حساب الناس. ثم رأيت أن هذا كله علاج مؤقّت لا يكاد يأتي منه الإصلاح المنشود، فعملت على إبدال مَن في الديوان واحداً بعد واحد.

وأعانني الله أولاً بإخلاصي، وبأنني لا أبتغي من ذلك جرّ منفعة لنفسي ولا درء مضرّة عنها، والله يعلم ذلك مني. بل إن منفعتي الدنيوية كانت في إرضاء الناس والاستكثار من الأصدقاء وإسكات الألسنة المعترضة، لو أنني أردت مصلحة نفسي. وأعانني الله فجعل مَن في الوزارة يثقون بي ويستمعون مني، لا لأنني قاضٍ، فالقُضاة كثيرون والمنازل بين الموظفين مراعاة ومعتبَرة، لكن لصلات شخصية كالتي كانت بين أبي وخالي وبين الرجلين القائمَين على وزارة العدل، وهما سامي العظم ورشدي الحكيم، ومساعده الموظف القديم الرجل الطيب زيوار الجابي، رحم الله الثلاثة. ولأن كل من كان ينشد الحقّ ويبتغي الإصلاح في الوزارة وخارج الوزارة وعلم بما صنعت كان مؤيّداً لي ومعاوناً على ما أريد. ما مرّ وقت طويل حتّى تبدّل موظفو الديوان جميعاً، ذهب من كان منهم على أيام عزيز أفندي رحمة الله عليه وحلّ محلهم غيرهم، منهم من سَهُل عليّ أمر نقله ومنهم من تبيّن أن له جذوراً ممتدّة في الأرض يصعب اقتلاعها. والغريب أن أطول هذه الجذور وأكثرها امتداداً وتشعّباً كان لرئيس الديوان الذي كان إليه أمر المحكمة كله، ولأصغر عامل فيها وهو الآذن (الفرّاش) الذي كان على باب القاضي الممتاز! كان هذا الفراش (واسمه أبو محجوب) يرفع ويضع ويقدّم ويؤخّر، ويستطيع أن يصنع في المحكمة ما لا يقدر على صنعه مساعد من المساعدين، حتّى إنه كان يستعمل غرفة القاضي

الممتاز للبيع والشراء، فوراء أرائكها المصنّفات (الملفّات الفارغة) يبيعها بضعف ثمنها في السوق والطوابع يبيعها بأكثر من قيمتها، ويعلّق ثيابه في المكان المخصّص لتعليق جبّة القاضي، أي أن هذا الفراش الصغير كان حاكماً بأمره في المحكمة! ولقد وجدت في اقتلاعه مشقّة أكثر من المشقّة التي وجدتها في نقل الموظفين جميعاً. * * * وضح الآن سبيل الإصلاح لأن العاملين في المحكمة تبدّلوا، جاء جماعة يستمعون كلمة الحقّ ويطيعونها ويمشون عليها. ووقعتُ في أزمة أكبر حين منعت مختاري الأحياء (المختار هو العمدة باصطلاح مصر والسعودية) من دخول المحكمة إلاّ إذا كانت لهم قضية شخصية أو كانوا وكلاء بوكالة رسمية من أصحاب القضية، ومنعت معقّبي الأوراق. وعندنا في الشام مهنة كأنها معترَف بها وهي مهنة المعقّب، لهم مكاتب وعندهم عُمّال يسخّرونهم ويسيّرونهم إلى المحاكم. وأنا أعلم أن في هذا تسهيلاً على الناس لأن من الناس من لا يتّسع وقته ولا جهده لمتابعة المعاملات بنفسه في الدوائر، ولكن هؤلاء يأتي منهم شرّ أكبر؛ فهم يأخذون من الناس أكثر ممّا يستحقون، وربما اتفق الواحد منهم مع الموظف المنحرف على صاحب المعاملة أو مع خصمه الذي يشكوه ... وكل شيء في الدنيا يغلب ضرره على نفعه يُصار إلى منعه، فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما

أكبر من نفعهما، ولذلك حُرِّما. وهؤلاء المختارون والمعقّبون ليسوا فئة قليلة ولا كانوا ضعاف الحيلة، وإن لهم لأصدقاء ومعارف وأعواناً، فجمعوا جموعهم واستعانوا بأصدقائهم ومعارفهم وحزّبوا عليّ الأحزاب، حتّى إنهم رفعوا شكوى إلى رئيس الجمهورية! فأحالها على وزير العدل ووصلت إليّ لإعطاء الجواب، ثم لم يطالبني أحدٌ بجواب ولم أرسل أنا هذا الجواب وبقيَت عندي إلى الآن، وهي أمامي وعليها أختام الأئمة والمختارين (أي العُمَد) في أحياء دمشق كلها. وغاية ما في الأمر أن الوزارة سألَتني سؤالاً غير رسمي عن حقيقة هذه الشكوى، فشرحت لهم ما عندي وبيّنت حُجّتي، فسكتوا وسكتّ. ما أدري هل سكتوا اقتناعاً بها أم لغير ذلك. الله أعلم. * * * كان في المحكمة قُضاة ثلاثة، فلما بقيتُ فيها وحدي عملت على نقل أخي الشيخ مرشد عابدين إليها. والشيخ مرشد هو أخو شيخنا الطبيب الفقيه المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين، وأبوهما مفتي الشام الشيخ أبو الخير عابدين، الذي كان عمّه صاحب الحاشية المشهورة. وقد خلَفني الشيخ مرشد في النبك ثم في دوما، ثم جاء معي إلى دمشق، فاتفقنا على أن نقوم وحدنا (أنا والشيخ مرشد) بالأعمال الإدارية (أي الديوانية) وبالقضاء؛ فأخذت أنا قاعة الشيخ صبحي الصبّاغ وأخذ هو قاعة الشيخ عادل

العلواني، واقتسمنا الأعمال الإدارية بعد أن اتفقنا على منهج العمل وعلى خُطّة السير. كانت الغاية واحدة، ولكن كلاًّ منّا يختار الطريق الموصل إليها بما يوافق سرعة خطوه وطبيعة نفسه؛ أنا كنت أقرب إلى الصراحة والشدّة، بل إلى العنف أحياناً، وهو أقرب إلى اللين وإلى اللطف. أضرب لكم مثالاً: جاءنا على عهد الشيشكلي رحمه الله ضابط كبير يريد أن يتزوّج امرأة من دمشق، فلما نظرت في أوراقه تبيّن لي أنه درزي، فحاولت أن أصرفه بما أقدر عليه من اللطف واللين وهو يُصِرّ، ثم رفع صوته وقال: نحن نفدي الوطن بأرواحنا وندافع عنه بحياتنا، فهل نحن مسلمون أم لا؟ فلم يبقَ مجال للمجاملة فقلت له: إذا لم تُمْحَ هذه الكلمة من أوراقك ولم يُكتَب مكانها كلمة «مسلم» فلا أستطيع أن أعتبرك مسلماً وأن أُزوّجك بها. قذفتها في وجهه قذفة واحدة. إلى متى أصبر؟ فلم يكن منه إلاّ أن ستر غضبه بالضحك، وقديماً قالوا: «شرّ البلية ما يُضحِك». قال: ولكن القاضي الشيخ مرشد يقول غير ذلك. فتنبّهت إلى أنها إحدى هِناته وأنه يريد أن يهرب من هذا المأزق فرماني أنا فيه، فقلت أردّ كُرَتَه إليه كما يكون في الملعب. وقلت للرجل: إن الذي قال بأن الدروز غير مسلمين هو جدّ الشيخ مرشد، وهو ابن عابدين في كتابه الذي يُرجَع في الفتوى إليه وهو الحاشية المعروفة. فاذهب إلى الشيخ مرشد وقل له أن يمحو هذه الكلمة من كتاب جدّه أو أن يدبّر هو الأمر.

قال: صحيح؟ قلت: نعم، وانتظر قليلاً. وذهبت وجئته بالحاشية وبالكلمة المدوَّنة فيها عن الدروز وأمثالهم من الفرق، فذهب إليه. وأرجو ألاّ يغضبَ من هذا الكلام أحدٌ من الناس، فأنا لا أحكم على كل من انتسب إلى الدروز وعلى كل من وُلد في أسرة درزية، فالله لا يحاسبنا بأنسابنا ولكن يحاسبنا بما نعتقده بقلوبنا وما نعمله بجوارحنا، فمَن كان يعتقد العقائد المدوَّنة في كتب الفرق المعروفة المنسوبة إلى الدروز وأمثالهم يكون غير مسلم، ومن كان متّبعاً الإسلام معتقداً عقائده ومؤدّياً فرائضه مجتنباً محرّماته، ولكن أباه أو جدّه كان درزياً أو أنه وُلد من أسرة درزية فلا شيء عليه، وهو أخ لنا له ما لنا وعليه ما علينا. ولقد كان ابن أبي جهل من المسلمين الطيّبين وأبوه أبو جهل فرعون هذه الأمة. فلا ينفع الشقيَّ العاصي الكافر صلاحُ أبيه أو جدّه ولا يضرّ الصالحَ التقيّ المؤمن كُفرُ أبيه أو جدّه. وأنا هنا لتسجيل ذكرياتي ولبيان حكم الله، والذكرياتُ المدارُ فيها على الصدق، فمَن أمسك عليّ كذبة متعمَّدة فلينبّهني إليها، فإن لم أعتذر منها وأرجع عنها كان الحقّ له عليّ. أمّا حُكم الله فهو حُجّة على الكبير والصغير؛ كتابُ الله وسنّة رسوله والثابتُ المُجمَع عليه من شريعته حُجّةٌ على الناس كلهم، وما في الناس كلهم أحد يكون حُجّة على الشرع. * * *

بعض ما صنعت في محكمة دمشق

-125 - بعض ما صنعت في محكمة دمشق كنت قبل أن ألي القضاء وبعد أن أنهيت عهد الطلب وأيام الدراسة، كنت عاكفاً على كتب الأدب والتاريخ، قلّما أنظر في كتاب فقه أو أصول إلاّ إن احتجت إلى مراجعة مسألة أو تحقيقها. ولكني كنت على ذلك أقرأ في اليوم عشرين أو ثلاثين صفحة من مثل كتاب «الخراج» لأبي يوسف أو كتاب «الأم» للشافعي أو «المبسوط» للسَّرَخْسي، لا لاستيعاب ما فيه ولكن إعجاباً بأسلوبه واستئناساً ببلاغة عبارته وسلامة لغته. كذلك كانت كتبنا الأولى، ثم فسد الأسلوب وغلبَت عليه العُجمة وبَعُدَ عن السليقة العربية، وتفرّع عن ذلك الأسلوب قراراتُ المحاكم ووثائقُها فمالت إلى التطويل الذي لا داعي له والتكرار المملّ، على ما فيها من الركاكة والضعف، حتّى صار يُضرَب المثل بها، فمَن رأى رسالة طويلة زادت عن حدّها قال: إنها ليست رسالة ولكنها حُجّة شرعية! وكانت الحُجَج تُكتب على ورق سميك وتُلَفّ لفاً تبدو معه كأنها قنبلة أو عصاً غليظة تهشّم رأس قارئها! ثم تهذّبَت حواشيها قليلاً قبل استلامي محكمة دمشق ولكنْ بقيَت مليئة بالحشو

والتطويل، فكان أول ما صنعت أن استحدثت صِيَغاً جديدة في الوثائق، مختصَرة واضحة جامعة للشرائط على اختصارها، صحيحة اللغة على وضوحها، لا تكاد تزيد عن عشرة أسطر إلى عشرين سطراً. واتّبع ذلك مَن جاء بعدي واستمرّ أكثرُه حتّى الآن، ولا يكاد يدري أحدٌ مَن وضع هذا الأسلوب الجديد إلاّ مَن فتح الدفاتر القديمة وقابل أسلوب الوثائق الذي كان فيها قبلي بالأسلوب الذي استُحدث على عهدي واستمرّ بعدي. وبمناسبة الكلام عن الوثائق أعود إلى ذكر شيء طالما أبدأت فيه وأعدت وكتبت وخطبت، أنبّه إلى ثروة عظيمة أخاف عليها أن تضيع، وأحسب أنها قد ضاعت الآن؛ تلك هي «الوقفيّات». عندنا في المحكمة الشرعية وقفيات من مئتين أو من مئة وخمسين سنة أو من مئة سنة، فيها من تاريخ البلد العمراني وخُطَطه، ومن وصف دمشق وحاراتها وأحيائها، وذكر وُلاتها وحكّامها، ووصف دورها ومساجدها، وذكر القُرى التابعة لها ... فيها من ذلك شيء كثير لم يَعُد يعرفه منّا إلاّ القليل، تُستخرَج منه عشرون رسالة جامعية تُنال بكل واحدة منها أعلى الشهادات؛ فهي كنز لا يُقدَّر بثمن ولا تُغني عنه التواريخ المطبوعة، لأن فيها ما لا تحتويه هذه التواريخ. كانت هذه الوقفيات أدلّة شرعية لأصحاب الحقوق، فلما ألغى حسني الزعيم الأوقاف الذرية (التي تُسمّى في مصر بالأوقاف الأهلية) وصفّاها ووزّعها على مستحقّيها من غير دليل

شرعي يستند إليه ويعتمد عليه، لم تبقَ لها قيمة مادّية وصَفَتْ للتاريخ والعلم. لذلك خفتُ أن تضيع وبذلت ما أستطيع من جهد، بلساني وبقلمي، فكتبت إلى وزارة المعارف وإلى الجامعة وإلى المَجْمع العلمي، وندبت الناس إلى الاحتفاظ بها خوف ضياعها، فلم يُصغِ إليّ أحد، وأخشى أن تكون الآن قد ضاعت، وحينئذ لا تكفي موازنة الدولة لخمس سنين لتعويضها لأنها كنز لا يُعوَّض. * * * كان أعرض باب يدخل منه المفسدون والطامعون بأموال الناس هو قضايا الأيتام الذين ليست لهم أهليّة الدفاع عن أنفسهم ولا يملكون التصرّف بأموالهم. وليس عندنا إلاّ قانون عثماني قديم مستمَدّ في الأصل من المذهب الحنفي. والمسائل الفرعية في الشرع التي تشتمل عليها كتب الفقه منها ما هو مبدأ ثابت بالنص لا يؤثّر فيه تحوّل الأحوال وتبدّل الأوضاع، وهذا الذي تنطبق عليه القاعدة الشرعية المعروفة: «لا مجال للاجتهاد مع ورود النصّ»، وقسم هو تطبيق لهذا المبدأ، يتبدّل بتبدّل الأزمنة والأمكنة، وهذا الذي تنطبق عليه القاعدة الأخرى: «لا يُنكَر تبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان». مرّ على قانون الأيتام دهر طويل تغيرَت فيه أوضاع الناس وهو باقٍ على حاله، كأنه ثوبٌ خِيطَ للولد الصغير على مقاسه، كان مناسباً له، ثم كبر الولد فضاق عنه الثوب! كان هذا القانون يقضي ببيع التركة كلها إن كان في الورثة قاصر وتقسيم الثمن

وحفظ حصّة القاصر في صندوق الأيتام. وقد وردَت عليّ معاملة أول عهدي بالمحكمة لقاصر مات أبوه وكانت له دُكّان بقالة، أي أنه كان سَمّاناً في القصاع (في حارة النصارى). فقوّمنا الدكّانَ وما كان فيها فبلغ ألفاً وأربعمئة ليرة، وهي بحساب تلك الأيام مبلغ كبير. ولكن المورد الشهري للدكّان كان نحو أربعمئة ليرة، كسباً خاصاً. ففكّرت: كيف أبيع الدكّان بموردها في ثلاثة أشهر؟ بقرة تحلب لي كل يوم، هل أبيعها بثمن لبنها في ثلاثة أيام أو أربعة؟! وعرضت القضية على مجلس الأيتام الذي كانت لي (أي للقاضي) رياسته وسألتهم رأيهم، فأبدوا آراءهم ثم قالوا (كما هي العادة): الرأي ما تراه. قلت: أنا عليّ أن أنفّذ حُكم القانون ولو خالفت طريق الحقّ الظاهر وآذيت القاصر، ولو عملت ما لا يعمله عاقل في ماله لو كان هذا المال ماله. قالوا: فكيف نصنع إذن؟ قلت: هذا القانون لم ينزله الله وحياً من عنده ولم يأمر به رسوله الذي لا ينطق عن الهوى، ولكنْ وضعه أناسٌ أرادوا الخير فحققوه في أيامهم، ثم ظهر أنه يُضيع ما أرادوا من الحق لمّا تغيرَت الأيام، وعلينا نحن أن نُرضي الله وأن نحقّق العدل، ولو خالفنا هذا القانون البشري، فما رأيكم؟ قالوا: نحن معك. فجئت بالرجل الذي أقامه الميت في حياته مديراً لهذا المحل، فتعاقدت معه -بوصفي وليّ القاصر القانوني- على أن يستمرّ في إدارة المحلّ، وأن يكون الربح مناصفةً بينه وبين القاصر، بشرط ألاّ يقلّ الربح عن الحدّ الذي هو عليه الآن

وأن يتعهد بدفع الفرق من ماله إذا قلّ الربح بغير إرادته، أو أن يراجعني لفسخ هذا العقد الذي بيننا وبينه. ولم يكن قرار القاضي في المعاملات الإدارية خاضعاً لاستئناف ولا لتمييز (أي لنقض)، إلاّ أن يشتكي أصحاب العلاقة فتنظر الوزارة في شكواهم. ولم يتفق -بحمد الله- أن رُفعَت عليّ شكوى في مثل هذه المعاملات. هذا الذي عملتُه وحملتُ تَبِعتَه مخالفاً به نص القانون صار هو السنّة المتبَعة في مثل هذه الحال، ومشَت عليه المحكمة حتّى بعد أن تركتها وخرجت منها، ولم يعُد يشكّ أحدٌ بأنه إجراء قانوني، مع أنه في الأصل مخالف لهذا القانون! وسأبيّن لكم أنني لمّا وضعت مشروع قانون الأحوال الشخصية (وأُوفِدت بسببه سنة كاملة إلى وزارة العدل في مصر، شاركت فيها في جلسات اللجان التي تضع القوانين المستمَدّة من الشرع للمحكمة الشرعية) عدّلت كثيراً من أحكام هذا القانون. * * * ومن غرائب قضايا الأيتام التي عُرضت عليّ أوائل عهدي في المحكمة أنّ شيخاً جليلاً من علماء الشام تُوفّي، وكان له ورثةٌ كبيرُهم طالب علم ظاهره ظاهر أهل الصلاح، وهو مدرّس من مدرّسي وزارة المعارف. وكان ممّا ترك عمارة فيها قبو نصفه تحت الأرض فوقه دور أرضي، فوقهما دوران، الأول والثاني. جاءني هذا المعلّم فقدّم مقدمة طويلة ألقاها بكلا شدقَيه

متفاصحاً بها. وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكره المتشدّقين المتفيقهين، أي الذين يملؤون بالكلام أفواههم ويدفعونه من شدقَيهم ولا يتكلّمون كما يتكلّم الناس. قال بعد هذه المقدّمة إنه يخاف أن يأكل حقّ الأيتام ويريد أن يخرج بأوكس النصيبين في الدنيا، يظلم نفسه لئلاّ يحمل إثم ظلم القاصرين، ولذلك قسم العمارة قسمَين متساويَين أعطى القُصَّر أفضلَهما (وهو القبو والدور الأرضي) وأخذ هو الدورَين العُلويّين. وأنا -كما قلت لكم- أجهلُ الناس بأمثال هذه الأمور، ولكن الله لمّا استهديتُه ورجعت إليه مُقِراً بضعفي ألهمني وجهَ الصواب وبصّرني، فقلت له: اكتب ما تقول ووقّعْ على أن الاثنين متعادلان، وأنّ خيرهما ما اخترتَه للقاصرين. فكتب ذلك بخطّه ووقّعه. فلما صارت الورقة بيدي قلت له: أنا وكيل الأيتام، لذلك أدَعُ لك القسم الأغلى الذي هو القبو والدور الأرضي وآخذ القسم الأقلّ للقاصرين، وهو الدوران العُلويّان. لا أزال أتذكّر بعد خمس وثلاثين سنة من هذا الحادث، لا أزال أتصور وجهه لمّا قلت له ذلك. لقد رأى أن الله قد كشف كيده وأنه أراد بالأيتام ضراً فوقع الضرر عليه، ولم يستطع أن يقول شيئاً. وخرج وقد كان هو الخاسر وكان الأيتام الرابحين. وكان أحد إخواننا القُضاة الأذكياء الأقوياء قد أُحيلَ إلى التقاعد (على المعاش) فاختار مهنة المحاماة، وجاءني يوماً في قضية لأيتام كان أبوهم يعمل مخلّصاً جمركياً في محطّة الحجاز، وهي التي يبدأ منها الخطّ الحجازي في دمشق، وكان مقرّ كبار المخلّصين فيها.

كان في الورثة أيتام، فجاءني يعرض عليّ أن أقوّم التركة وأن آخذها كلها للأيتام ولا أدع لموكّله شيئاً. فعجبت من ذلك وتنبّهت إلى ذكاء هذا المحامي والقاضي القديم وإلى مقدرته وسعة حيلته، ففكّرت في الأمر فقلت له: يا أستاذ، إن التركة كلها هي هذه الطاولة والكراسي والخزانة الخشبية والمكان المستأجَر الذي كان يعمل فيه المورّث، وأنا الوكيل عن الأيتام أدع هذا كله لموكِّلك وآخذ اللوحة فقط التي فيها الاسم وأكتفي بها. فعرف أني كشفت سرّه. وراح يداورني وأنا ثابت مكاني حتّى اضطُرّ إلى القبول. من أين اهتديت إلى ما قلت؟ لمّا ذهبت إلى مصر أول مرّة للدراسة سنة 1928 (وقد مرّ بكم خبر ذلك) سمعت أن «أورزديباك» قد اشترى اسم التاجر المصري المشهور «عمر أفندي». ولم نكن نعرف من قبل أن الأسماء تُباع وتُشترى، فقرنت هذه بتلك، ورأيت أن هذا المخلّص إنما كان يعمل باسمه التجاري، وزبائنه مرتبطون بهذا الاسم لا بالمكتب الذي كان يقعد إليه ولا بالكراسي ولا بالخزانة ولا بالغرفة التي كان يسكنها، فرأس ماله إذن وثروته كلها في هذا الاسم، لذلك أصررت على أن يكون الاسم للقُصَّر. ثم انتهينا إلى نوع من الشركة في الاسم بين موكّل الأستاذ البالغ الراشد وبين القُصَّر، كان لهم فيها بحمد الله نصيب الأسد. وأنا لست من أهل الخبرة بشؤون الحياة، ولكنني كنت -والحمد لله- إذا سمعت خبراً أو رأيت حادثة استخلصت منها

العِبرة فاحتفظت بها في ذاكرتي. ولقد كنت ذهبت من قديم مع شيخنا الشيخ بهجة البيطار رحمه الله إلى عمارة كان أكثرها لأيتام هو الوصيّ عليهم، وقد تعاقد مع مقاول على أن يُنهي بناء هذه العمارة، أي على أن يكسوها بعد أن أقام هيكلها، فوجدت رجلاً من أدْعياء الصلاح والدين، ليّن اللسان قاسي القلب، حلو الكلام ولكنه مُرّ المعاملة، يقصّر في العمل ولكنه إذا رأى الشيخ أسرع فقبّل يده، وكلّما لامه قال له بلهجته المعسولة ولكن عسلها مشوب بالسمّ: يا سيدي أنت شيخنا، تأمرنا أمراً، هل نستطيع أن نخالف أمرك؟ أنا تلميذك وخادمك وربي سيؤاخذني إن قصّرت في حقّ الأيتام، لذلك أبذل طاقتي كلها في خدمتهم والعمل لهم ... وأمثال هذا الكلام الذي لا يأتي من بعده عمل. تذكّرت ذلك لمّا عرضَت عليّ قضية لأيتام أبوهم مقاول يشتغل بالبناء، فلما أحصيت التركة كان للأيتام عمارة صغيرة لم يتمّ بناؤها، فعرض إخوتهم الكبار أن نقدّر نحن نفقات إتمام البناء وأن يتمّوه على حسابهم ثم يسلّموه إلينا. هنا ذكرت قصّة مقاول الشيخ بهجة رحمه الله، فقلت لهم: بل نقوّم البناء ونأخذه بحالته الحاضرة ونأخذ الباقي نقداً، ونحن (أي دائرة الأيتام) نقوم بإنجازه وإتمامه. وكان ذلك، واستعنت بإخواننا الذين يعرفون هذه الأمور ويراقبون الله ولا يأخذون على ذلك أجراً، كالشيخ عبد القادر العاني رحمة الله عليه، الذي أفاد القُصَّر في هذه وفي عشرات غيرها فوائد أسأل الله له الآن -وقد ذهب للقائه- أن يجزل له

ثوابها. وكان ذلك، فوفّرنا على القاصرين مالاً كثيراً وأبعدناهم عن الغشّ الذي كان يمكن أن يقعوا فيه. * * * ولو ذهبت أحصي حوادث الأيتام التي عرضت عليّ في المحكمة لطال الكلام وملّ منه القُرّاء، على أنني قد نسيت أكثرها لبُعد العهد وضاعت مني تفاصيلها، وأسأل الله ألاّ يضيع عليّ ثوابها. ولا أزكّي نفسي، ولكن أقول إنني عملت ذلك احتساباً ورجاءَ ثواب الله، ما نالني منه إلاّ خصومات وعداوات مع الذين أصابهم الضرر أو ضاعت منهم منفعة كانوا يرجونها من هذه القضايا. وجدت قضايا الأيتام من أثقل تَبِعات القضاء، لأن الله شدّد الوعيد على آكلي أموال الأيتام وعلى مُؤكليها مَن لا يستحقّها، وبيّن أن هؤلاء لا يأكلونها وإنما يأكلون في بطونهم ناراً. والخطر على الأيتام ليس أكثره من المحكمة ومن موظفيها ولكن من الأوصياء ومن الوسطاء، وإن كان موظفو المحكمة -إن لم يخشوا الله- عاملاً من عوامل الإفساد. والخطر فيها ليس مالياً فقط بل هو خطر أخلاقي، رأيناه في الشام كما رأيته في مصر لما أقمت فيها سنة 1947 وطرفَي السنة التي قبلها والتي بعدها، وكان عملي فيها متصلاً بالمحكمة الشرعية وبالمجلس الحسبي. ذلك أن المراجِعات في قضايا الأيتام هُنّ الأمهات، وهُنّ في حالات كثيرة من الصبايا الجميلات ومن اللاتي فقدن الأزواج بعد

أن ذُقن متعة الزواج، فمن هنا تَقوى النفسُ الأمّارة بالسوء ويُفتَح للشيطان باب يدخل منه، إن لم يقف أمام النفس وأمام الشيطان إيمان بالله قوي وعون من الصالحين على دفع كيد المفسدين. وأنا أعلم أن المرأة ولو كانت غير صالحة لا تخطو أبداً الخطوة الأولى في طريق الإثم، ولكنها تتبع الرجل إذا مشى أمامها إليه أو قادها من ورائها وسهّل لها بلوغه. لذلك اخترت كاتباً ديّناً جدياً قوي الشكيمة مستقيم السيرة متزوجاً محصَناً، فجعلته «مدير الأيتام». وكانت أموال الأيتام -عملاً بالقانون القديم- تُعطَّل، والمال المعطَّل تفنيه النفقات أو تأكله على المدى الطويل الزكاة (لذلك كان من حكمة الزكاة أنها تدفع إلى تشغيل المال واستثماره). والشرع يمنع تعريض مال اليتيم لما فيه احتمال الخسارة، وعمل الوصيّ أو النائب عن اليتيم هو زيادة المال لا نقصه، فلا يجوز له أن يتاجر به فضلاً عن أن يتبرع به أو يهبه. وكان القانون القديم يأذن بأن تُقرَض أموال الأيتام بالربا ويستند في ذلك إلى فتوى قديمة من أحد شيوخ الإسلام. ولقب «شيخ الإسلام» كان يُطلَق قديماً على كبار العلماء الموثوق بعلمهم وبدينهم فكان لقب تشريف، فصيّره العثمانيون لقب توظيف وجعلوا منصب شيخ الإسلام بمثابة وزير الشؤون الدينية في بعض البلدان في هذه الأيام، وكان يحضر مجلس الوزراء العثماني ويأتي في التشريفات بعد الصدر الأعظم (أي رئيس الوزراء) مباشرة. وقد تعاقب على هذا المنصب كثيرون جداً،

منهم مَن كان عالماً عاملاً متّقياً لله متثبّتاً في دينه، ومنهم من كان موظفاً كبيراً كسائر كبار الموظفين. والإسلام لا يعترف بهذه الألقاب وليس فيه «إكليروس» كالذي عند النصارى. ولو أفتى شيخ الإسلام أو مفتي الأنام في حُكم من الأحكام من غير استناد إلى دليل شرعي وكانت فتواه خطأ ردّ عليه أحد العامة، بل استطاع غلامٌ أن يردّ على شيخ الإسلام؛ كالذي رُوي أن امرأة ردّت على عمر بن الخطاب (وما أدراكم مَن عمر؟) لمّا أراد أن يحدّد المهور، فرجع عمر إلى رأيها. ونحن -بحمد الله- لم نعمل في الشام بهذا القانون الذي يبيح إقراض أموال الأيتام بالربا، وإن عُمل به في الأردن مدّة من الزمان. فما العمل إذن بأموال الأيتام، وقد يجتمع فيها مبلغ كبير جداً ربما تجاوز المليون أو الملايين؟ فكّرت في هذا لمّا وليت أمر الأيتام، فاتخذنا وسائل تنفع اليتيم وأقمنا احتياطات لئلاّ يقع عليه الضرر. من ذلك أنني كنت أشتري لليتيم أسهُماً قوية يُستبعَد جداً أن تعرض لها الخسارة، كأسهم معمل الإسمنت في تلك الأيام أو الأسهم التي تكفلها الحكومة وتضمن لها حداً أدنى من الربح، أو نشتري له بها عقاراً -بعد الاستئناس بخبرة الخبراء- في مكان لا تنزل فيه أثمان العقارات، وأشباه ذلك، خوفاً من أن يتعطّل هذا المال وأن تضيع فائدته على الأيتام. * * *

عقد الزواج في محكمة دمشق

-126 - عقد الزواج في محكمة دمشق كان عندنا يومان كل أسبوع، إذا جاءا جاء معهما الزحام وجاءت الفوضى وأصوات الرجال وخليط من أحاديث النساء (والنساء في العادة يتكلّمن جميعاً معاً وتسمع كل واحدة ما تقول الأخرى) وضجيج الأولاد وصراخ الصغار وبكاء الأطفال! وانقلب صحن المحكمة المفروش بالرخام اللمّاع المزدان بالورد والزهر إلى ما لا يسرّ العين ولا يُرضي النفس؛ ذلك هو يوم عقود الزواج. نُجري فيه نحواً من ثلاثين عقداً أو أكثر من ذلك أحياناً، ويأتي مع كلّ عقد اثنان: الخاطب والمخطوبة، وأهله وأهلها، وأكثرهم معهم أولادهم، وربما جاء مع المرأة قريبتها أو جارتها ومع الرجل أبوه أو صديقه، ليروا المحكمة ويتخذوا من رؤية صحنها وجمال بنائها فرجة ينفّسون بها عن قلوبهم، وموضوعاً يتحدّثون به إلى أهليهم. ولم يكن عندنا نظام المأذون الشرعي المعروف في مصر وفي المملكة وغيرهما، وإنما يَعقد العقدَ القاضي أو مَن يأذن له

به. فكان الذي يتولاّه فعلاً واحداً من اثنين: أحد كُتّاب المحكمة (وربما كان جاهلاً بشروط العقد وأحكامه) أو بعض المشايخ ممّن يختارهم القاضي، فيخطب خطبة طويلة تخرج من فمه ميتة يقرؤها قراءة تنوّم المستيقظ. والأصل في الخطبة أن توقظ النائم وتقيم القاعد وتثير الهمم وتبعث العزائم، وهذه الخطب التي تكون في العقد دواء الأرق، تأتي بالنوم لمن جفا عيونَه المنام! والخطبة سنّة ولكنها ليست شرطاً في صِحّة العقد، فكنا بين أمرين كلاهما أقرب إلى الشرّ: بين استعجال الكاتب الذي يضيع بعض شرائط العقد وتطويل الشيخ الذي يُذهِب بهاءه ويضيع فرحته. وكان الناس ينتظرون حتّى يأتي دور الواحد منهم، فيملّ الانتظار ويزيد الازدحام. فلما جئت رتّبت أولاً السبق إلى العقد بالسبق إلى المجيء إلى المحكمة، وأعطيت أصحاب المعاملات أرقاماً وربطت بالمعاملة أرقاماً مثلها (كما سبق بيان ذلك من حلقتين)، ثم عمدت إلى العقد الشرعي الأصلي الذي ليس فيه تطويل ولا تعقيد وليس فيه «طقوس» كالتي توجد عند الأمم الأخرى، وليس فيه ما نراه في مصر أحياناً من أخذ العاقد منديلاً أبيض وأمره المتعاقدَين بأن يتماسكا باليدين ويغطّي يديهما بالمنديل، حتّى صار الناس يظنّون وضع هذا المنديل الأبيض من شروط العقد، وما هو من شروطه ولا أصل له في الشرع أبداً. عقد الزواج في الإسلام أسهل عقد عرفه الناس من القديم إلى الآن، فإذا قال وليّ البنت بحضورها ورضاها للخاطب:

زوّجتُك بنتي (أو موكِّلتي) على مهر مقداره كذا (معجَّلاً أو مؤجَّلاً)، وقال له الخاطب: قبلت، وشهد على ذلك شاهدان ... فقد صارت امرأته. هذا هو العقد في الإسلام؛ لا يُشترَط فيه إذن القاضي ولا حضور مندوب عنه، ولكن ذلك من الأمور التنظيمية التي تركها الشرع للحاكم المسلم، فهي من باب «المصالح المُرسَلة» التي لم يأمر الشرع بها ولم ينهَ عنها، فإن وجدنا المصلحة فيها وأمر الحاكم المسلم بها صار أمره واجب الاتّباع. وهذا التنظيم في الشام يقتضي أن يزوّج القاضي البنت إذا أكملَت السابعة عشرة من عمرها والشابّ إذا أكمل الثامنة عشرة من عمره. وليس معنى هذا أنّ زواج مَن كان دون هذه السنّ باطل شرعاً، ولكن الحاكم رأى في ذلك مصلحة فأمر الناس به فوجب اتّباعه، فمن خالف أمره لم يبطل زواجه ولكن أوقعنا عليه عقوبة مناسبة لمخالفته أمر الحاكم. فإذا ادّعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة أو المراهِقة بعد إكمالها الثالثة عشرة وطلبَت زواجها يأذن به القاضي إذا تبيّن له بمشاهدتهما صدق دعواهما واحتمال جسمَيهما، وإن كان الوليّ هو الأب أو الجدّ اشتُرِطت موافقته على ذلك. فكنّا نشاهد البنت الصغيرة بعد التثبّت من شخصها، تكشف عن وجهها. وكشف المرأة عن وجهها للشهادة لها أو عليها جائز شرعاً، على أن تتخَذ الاحتياطات التي تمنع وقوع الفتنة بهذا الكشف. وكنت في أحوال كثيرة أكتفي برؤيتها بحجابها إذا كانت

متحجّبة من غير أن آمرها بأن تكشف عن وجهها، وإن كان الوجه في الأصل ليس عورة متفَقاً عليها ويجوز كشفه في بعض المذاهب، مع غضّ البصر، فإذا نشأ عن كشفه فتنة للمرأة أو عليها وجب ستره عند عامّة العلماء. وقد وقعت لي في هذا الباب حوادث طريفة. منها أنها جاءت مرّة معاملةٌ البنت فيها في الثالثة عشرة من عمرها، فبينت لمن قدّم الأوراق أنه لا بد من حضورها مع وليّها لمشاهدتها قبل الإذن بعقد زواجها. فلما كان اليوم التالي جاءني رجل طويل عظيم الخَلق عريض كأنه من بقايا قوم عاد أو من سلالة العماليق، قدّم نفسه إليّ على أنه أبو البنت، ثم جاء برجُل مثله كأنه صورة عنه فقال: هذا عمّ البنت، ثم جاء ثالث كأنه نسخة منهما لا يقلّ في طوله وعرضه عنهما وقال: هذا خال البنت، ثم جاءت امرأة متحجّبة، لولا أنها في حجابها وأنها امرأة وهُم رجال لقلت إنها صورة عنهم ونسخة منهم. قال: هذه أمها. ثم جاءت بنت في مثل جثّة الأم متحجّبة كأمها، قال: هذه البنت. فقلت بعد أن رأيت أباها وأمها وخالها وعمّها، وتيقنت أن الله أعطاهم بسطة في الجسم أو أنهم أسرة من الفِيَلة، قلت لهم: قد وافقت على إجراء العقد وهذا توقيعي على الأوراق. بنت ثلاث عشرة سنة أطول مني وأعرض! ورُبّ بنتِ ثلاث عشرة غيرها إذا وقفَت إلى جنبها لم يصل رأسها إلى كتفها، فليسَت العبرة إذن بالسنّ وحده؛ لذلك يُخطئ الذين يُسرِعون

فيتكلّمون بلا علم ولا فهم عن زواج رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل البشر وهو سيد مَن أنصف وعدل، عن زواجه بالسيدة عائشة وهي بنت تسع سنين! هل رأوها؟ هل شاهدوا جسدها؟ ألا يمكن أن تكون مثل هذه البنت التي أحدّثكم الآن حديثها؟ ولو لم يكن أبوها (أبوبكر رضي الله عنه) ولا أمها مثل والدَي هذه البنت التي أتكلم عنها. * * * أرجعت العقد إلى وضعه الأصلي في الشرع، فبدلاً من أن يزدحم الناس في صحن المحكمة لينتظروا دَورهم في عقد الزواج جعلت العقد يتمّ في عشر دقائق: أتحقّق أولاً من رِضا البنت، فإن لمحت ما يدل على أنها مُكرَهة على الزواج أو رأيت فارقاً كبيراً في السنّ بينها وبين خاطبها، أو لمست من أبيها قسوة عليها في ملامحه أو في نظراته فهمت منها أنه يُجبِرها على ما لا تريد ... أي أنني كنت أستعين بفراسة المؤمن، فإذا ارتبت في الأمر أخذتها جنباً وسألتها بعد أن طَمْأنتها أن ما تقوله لي يبقى سراً بيني وبينها: هل هي راضية عن هذا الزواج أو أنها قد أُكرهت عليه إكراهاً؟ فإذا فهمت أنها غير راضية رِضاً قلبياً لم آذن بإجراء الزواج واعتللت لذلك بعلّة لا تُدني الشبهة من البنت فيغضب منها أبوها أو أمّها، وإن علمت رضاها رضاً حقيقياً ودلّت القرائن والظواهر على هذا الرِّضا أجريت العقد في دقائق، فسمّيت الله وحمدته من غير إطالة ولا إسهاب، وقلت للوالد: قُل للخاطب: زوجتك بنتي على مهر معجّله كذا ومؤجّله كذا، فيقول. وقلت للخاطب: قل:

قبلت. فيقول قبلت، ويسمع ذلك الشاهدان، ويوقّع الجميع في صحيفة العقد من سجلّ العقود وينصرفون. فلا تكاد تمضي ثلاث ساعات أو أقلّ من النهار حتّى ننجز العقود جميعاً، وينصرف الناس راضين مسرورين. ولم أُحدِث في ذلك حدثاً ولا جئت بشيء جديد، ولكن رددت الأمر إلى نصابه وأعدته إلى وضعه الشرعي البعيد عن التكلّف وعن الرسميات وعن الإطالة التي لا معنى لها. * * * ولي مع الآباء حوادث منها ما هو طريف؛ ذلك أنني كنت خلال ولايتي القضاء أُلقي محاضرات في الثانويات أسدّ بها خلل الراتب وأُكمِل نقصه، وكُلِّفت أحياناً بالتدريس في بعض ثانويات البنات. ولست أوافق على هذا المبدأ ولا أسوّغ أن يدرّس شابّ بنات شابّات، فضلاً عن أن تدرّس امرأةٌ (كما حدث أخيراً في العراق أولاً، ثم في الشام ومصر) أن تدرّس فتاة طُلاّباً شباباً. كِلا الأمرين ممنوع شرعاً وعقلاً، ولكني مع ذلك درّست مدّة قصيرة في دار المعلّمات. ولم يكن في هيئة التدريس من الرجال غيري وغير شيخنا الشيخ بهجة البيطار، فكنا نعتزل النساء ونقعد على حدة، وكانت الطالبات من غير ضغط منّا ولا إلزام يتغطّين في درسي ودرس الشيخ، يسترن شعورهن بالخمار (بالإيشارب). فجاءت مرّة إحدى المدرّسات تسألني وتسأل شيخنا الشيخ بهجة -رحمة الله عليه- عن مسألة شرعية، وكانت كاشفة الوجه، وأظنّ أن كشفها لا

يؤدّي إلى فتنة بها ولا عليها! ولستم تعرفونها ليكون كلامي عنها غيبة لها أو تشهيراً بها، امرأة لم يؤتِها الله أيسر حظّ من الجمال، والله يخلق ما يشاء ويختار. ذكرت هذه القصّة لأن هذه المدرّسة جاءتني في المحكمة ومعها شابّ أصغر منها، جميل الصورة مكتمل الشباب، يريد أن يعقد عليها عقداً شرعياً. فكلّفتها أن تأتي بأبيها، قالت: إنه ممتنع عن الموافقة على هذا الزواج. وهذا الامتناع من الوليّ إذا لم يكن له سبب مشروع كان عَضْلاً، والعضل ممنوع شرعاً. وفي مثل هذه الحال يدعو القاضي الوليّ فيسأله عن سبب امتناعه عن الموافقة، فدعوت به فلم يُبدِ سبباً مشروعاً، وقال خلال كلامه إن البنت لا تسكن معه ولا تعطيه شيئاً من مرتّبها. فقلت: هل أنت محتاج لهذا الراتب؟ قال: لا، بحمد الله، ولكن يجب عليها أن تعطيني شيئاً لأنني أبوها. قلت: إذا كانت لا تسكن عندك فأين تسكن؟ قال: غضب الله عليها، إنها تسكن مع هذا الشابّ في دار استأجرَتها لها وله! قلت: وكيف سكتّ عن سكناه معها وليس زوجاً لها ولا قريباً تربطه قرابة تُحِلّ له مساكنتها؟ قال: لقد عصَت أمري ولم أقدر عليها. قلت: فلماذا إذن لا توافق على زواجها به؟ إذا كنت قد رضيت مرغَماً على أن تقيم معه بالحرام أفلا ترضى أن تقيم معه بالحلال؟ قال: لا. فكلّمته ووعظته فلم يستمع مني. وكان عندي في المحكمة جماعة من العلماء ومن طلبة العلم يلازمونني في المحكمة،

أكلّفهم بأعمال ينتفعون منها، كالتحكيم بين الزوجين إذا لم يكن في أهلهما من يصلح للتحكيم، وتقدير النفقات، والبحث والتحقيق عن بعض الأمور التي تحتاج إلى تحقيق. ولم يكونوا يَرزؤون المراجعين شيئاً من أموالهم إلاّ ما أقرّره أنا لهؤلاء المشايخ وطلبة العلم ضمن حدود الشرع والقانون. فوكّلتهم به ليحاولوا إقناعه، فأصرّ على موقفه ولم يتزحزح عنه. وتبيّن لي ولهم أن مقصده كلّه أن يمنع زواج البنت ليستأثر هو براتبها أو ليضع يده على قسط منه، فهو يخاف أن يأتي الزوج فينازعه فيما يأمله ويطمع فيه. عند ذلك استعملت حقّي فزوجتُهما بالولاية العامّة بعد أن تبيّن أن الوليّ الخاصّ عاضل لها. وإن كانت القاعدة الشرعية أنّ «الولاية الخاصّة أقوى من الولاية العامّة». وكنت أحرص دائماً على أن يصل المهر كاملاً إلى يد الزوجة فلا يغلبها عليه أبوها كما يفعل كثير من الآباء، يحسبون أن البنت نعجة يبيعونها ويقبضون ثمنها، ومنهم من يقول: "بنتي وأنا حرّ فيها"! لا يا أخانا، لست حراً فيها ولست مالكاً أمرها وليست بضاعة تبيعها وتشتريها، ولكن الشرع جعل لها شخصية حقوقية كاملة، وجعل لها إذا كانت بالغة راشدة أن تتصرف هي بمهرها. فالمهر لها وحدها لا لأبيها وأمها ولا لخالها ولا لعمّها. * * * وكان النظام الإداري للزواج في سورية أن تُقدَّم أوراق معيّنة، هي شهادة من المختار (أي العمدة) وعرفاء المحلّة بأنه لا يمنع مانع شرعي من هذا الزواج. وهذه الشهادة للتثبّت

وللاطمئنان وليست شرطاً في صحّة الزواج، فإن تمّ الزواج من غيرها كان شرعياً لا شكّ فيه. ومن الأوراق التي تُربَط عندنا بمعاملة الزواج صورة مصدَّقة من قيد نفوس الطرفين وأحوالهما المدنية، لأن سجلّ الأحوال المدنية في الشام لكل رجل ولكل امرأة صفحة فيه، يدوَّن فيها تاريخ الولادة وتاريخ الزواج والطلاق والأولاد، ويتبيّن منها إن كان للزوج أربع زوجات وجاء يخطب الخامسة مثلاً. ومن هذه الأوراق شهادة من طبيب يختاره الطرفان بخلوّهما من الأمراض التي تسري من أحدهما إلى الآخر أو تنتقل بالوراثة إلى الأولاد، وللقاضي التثبّت من هذه الشهادة إذا شكّ فيها بمعرفة طبيب يختاره. وقد وجدت بالاستقراء والتتبّع خلال عملي الطويل في القضاء أن الأطبّاء، حتّى أصحاب الضمائر منهم، لا يتورعون من أن يعطوا شهادة بخلوّ الزوجين من الأمراض من غير فحص لهما. فكنت إذا شككت أسأل المخطوبة: هل راجعتِ الطبيب؟ فتقول: نعم. فأسألها عن اسمه فأجدها تحفظه أحياناً وتنساه أو لا تعرفه حيناً. فإن عرفَته قلت لها: أين عيادته؟ ومن أخذك إليها؟ وما صفته؟ أسأل عن هذا كله لأكشف كذب التقرير الطبّي إذا أعطاه الطبيب زوراً. ولقد أحلت جماعة من الأطبّاء ثبت أنهم أعطوا تقريراً بسلامة الخاطب والمخطوبة من الأمراض من غير فحص لهما أو نظر إليهما، أحلتُهم إلى النيابة العامّة ونالوا الجزاء

القانوني. ثم اتفقت مع طبيب كبير من أصحاب الوجدان، كان أستاذاً لنا في مكتب عنبر، هو الدكتور جودة الكيال الذي مرّ ذكره في هذه الذكريات لمّا ذهب يكمل دراسته في لوزان مع أستاذنا الآخر الدكتور يحيى الشمّاع ومع شيخ الأطبّاء الدكتور حسني سبح رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق الآن ... اتفقت مع الدكتور الكيال أن يفحص مَن أحيلُه إليه من الخُطّاب أو المخطوبات من غير أن يأخذ منهم شيئاً، تبرّع بذلك رحمة الله عليه تبرّعاً، ابتغاء لثواب الله ولكشف الكذب الذي ذمّه الله ولعن فاعليه. فاستقام بذلك الأمر، وصار الأطبّاء يتردّدون قبل أن يمنحوا التقرير الطبي بسلامة الخاطب والمخطوبة من الأمراض، وتحقّق بذلك غرض مَن وضع هذا القانون. وقد يقول قائل: هذه بدعة لم يعرفها السلف ولم يشترطها الفقهاء. وجوابنا عليها هو أن الوقاية خير من العلاج، وأن الاحتياط من الوقوع في الشرّ خير من دفعه بعد الوقوع فيه، وأن من الأمراض ما يسوّغ للمرأة أن تطلب الطلاق بعد إتمام العقد وبعد اللقاء الزوجي، فتنهدم بذلك أسرة ويتشرّد أعضاؤها. أفليس خيراً من هذا أن نتدارك الأمر قبل وقوعه؟ ثم إن هذا من باب المصالح المرسَلة؛ أي أن هذا الفحص الطبّي لم يأمر به الشرع ولم ينهَ عنه، فإذا تحقّقَت المصلحة فيه وأمر الحاكم المسلم به صار أمره واجباً شرعياً. وفرق ما بينه وبين الواجب الشرعي الأصلي أن ما أوجبه الله يبقى واجباً في كل زمان ومكان، وهذا الذي يأمر به الحاكم من المصالح المرسَلة يكون

واجباً مؤقّتاً، ودليله قوله تعالى: {وأطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم}. جملة أطيعوا الله جملة مستقلّة، وجملة أطيعوا الرسول جملة مستقلّة، وشبه جملة أولي الأمر منكم معطوفة عليهما لا تُفهم إلاّ بذكرهما؛ فدلّ ذلك على أن وليّ الأمر إذا لم يكن منّا (كأن يكون كافراً غالباً على بلدنا أو يكون في الأصل منّا ولكنه اعتقد عقيدة أو فعل فعلاً يجعله مرتداً عن ديننا خارجاً من جماعتنا) فلا طاعة له ولا للكافر علينا. وإن كان وليّ الأمر منّا ولكنه يأمرنا بما يخالف كتاب ربنا وسنّة نبيّنا فلا نطيعه فيما خالفهما، لأن القاعدة العامّة عندنا أنه «لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق». * * * كانت عقود الزواج تجري في المحكمة أو في دار أحد المتعاقدَين، والاختيار لهما، فمن أراد إجراء العقد في المحكمة لم يكلّفه شيئاً، وكان يستنفد منه وقتاً طويلاً ويحمّله عناء شديداً بالانتظار وبالزحام (فوفّق الله -وله الحمد- فقضيت على هذا كله وجعلت العقد سريعاً سهلاً)، ومن شاء عقْد عقدِه في الدار أوفَدْنا معه أحد الكُتّاب الذين يعرفون طرفاً من أحكام الفقه ويحيطون بشروط الزواج وأركانه، ويكونون من أهل اللطف والذوق فلا يُثقِلون على أصحاب العقد. أما خُطبة العقد فكان يتولاّها في الشام من القديم جماعة من علماء البلد ووجهائه. لمّا كُنّا صغاراً كان يخطب في العقود الكبيرة التي يجتمع فيها مئات من الناس جماعة معدودون،

أذكر منهم شيخنا الشيخ بهجة البيطار والزعيم الوطني زكي بك الخطيب والأستاذ الخطيب الشيخ جودة المارديني، فلما كبرت أنا ضمّني الناس إليهم فصرت أخطب مع هؤلاء، وإن لم تكن سِنّي من أسنانهم ولا قَدْري من أقدارهم ولا علمي مماثلاً علمهم. ثم جاء بعدي بقليل الأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمة الله عليه، فكان يخطب في بعض الحفلات ويخطب في بعضها الأستاذ محمد بن كمال الخطيب زميله وصديقه ورفيقه في إدارة جمعية التمدّن الإسلامي وتحرير مجلتها، ثم نبغ الخطيب البليغ المصقع الأستاذ عصام العطار، ثم جاء جماعة لست أحصيهم الآن. كانت حفلات الزواج الكبيرة كأنها نادٍ أدبي أو وطنيّ، تُلقى فيها الخطب الوطنية الاجتماعية العلمية ويعلو منبرَها أكابر القوم، ولست منهم، ولكنني خطبت في عشرات منها. أذكر منها الاجتماع الضخم يوم عَقْد أخينا في الله الخطيب البليغ المجاهد الذي احتمل مرضه في سبيل الله الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، ويوم زواج أخي وولدي الأستاذ العالم الشيخ الدكتور محمد الصباغ، ويوم زواج أخي وصديقي الشيخ فخر الدين الحسني، وهو حفيد الشيخ بدر الدين الذي كنّا نسميه المحدّث الأكبر والذي طالما كتبت عنه في هذه الذكريات وفي غيرها. وقعَت لي يومئذ قصّة طريفة أحدّث بها لأنها إحدى الذكريات: ذكرت جدّه شيخ الشام المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني، وقلت أنه لم يُرزَق تلاميذ يحملون علمه وينقلون هذا الكنز من المعرفة عنه، فكأنه كان جنّة حُفّت بالمكاره ... وأمثال هذا الكلام. فلما انتهى الاحتفال قالوا لي: إن الشيخ رفيق

السباعي يترصّدك عند الباب! والشيخ رفيق رجل فاضل ديّن من أخلص تلاميذ الشيخ بدر الدين، وكان طبيباً يحمل شهادة الطبّ من جامعة دمشق ولم يمارسه، وكان جسيماً وسيماً عرضُ كفّه كعرض كفَّيّ معاً، فقلت: إن خرجت أمسك بعنقي. فهربت واختفيت في الدار حتّى قالوا قد انصرف! مع أنه رحمه الله ما كان يؤذي أحداً، وكان يُحبّ الناس وينصح لهم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن خُيّل إليّ أنني لما تكلمت عن تلاميذ الشيخ وهو منهم غضب مني. ومن حفلات الزواج الكبيرة التي أذكرها وخطبت فيها خطبة قال الناس إنها كانت موفَّقة، يوم زواج ولدنا قيس ابن أستاذنا أبي قيس عِزّ الدين التنوخي، الأديب العالم اللّغويّ العَروضي الذي جمع من المزايا ما لو وُزِّع على عدد من النابغين لخلد به ذكرهم. الأستاذ عزّ الدين كان دائماً مع الشيخ بهجة، وقد لزمتُهما مدّة طويلة واستفدت منهما. والأستاذ عزّ الدين التنوخي لم يُعطَ حقه من الكتابة عنه ومن دراسة أدبه، فقد كان سبّاقاً إلى أمور كثيرة؛ من ذلك ما ترونه الآن أو ما رأيتموه قبل قليل في الرائي (التلفزيون)، هذا البرنامج الذي يصوّر حياة الطلبة في إيطاليا (وقد نسيت عنوانه)، هو مقتبَس من كتاب ترجمه من قديم الأستاذ التنوخي، كتاب لم أرَ إلى الآن كتاباً أجود منه في وصف حياة الطلاّب ومشكلاتهم، وأفراحهم وأتراحهم وصلاتهم بأساتذتهم وبأهليهم، هو كتاب «قلب الطفل». ترجمه الأستاذ التنوخي رحمة الله عليه من قديم وطُبع في جزأين كبيرَين، ولكن

لغته أعلى من أن تصل إليها أفهام التلاميذ، وكنت قد استأذنته في أن أسهّل عبارته وأن أكتب قصصه بأسلوب أقرب إليهم وأسهل عليهم، فأذن لي، ثم توفّاه الله وضعُفَت هِمّتي عن العمل. فلو أن أحد الأدباء الذين يُحسِنون الكتابة للتلاميذ يستأذنون ورثة الأستاذ التنوخي ويُعيدون كتابته بأسلوب سهل قريب، ليقدّموا بذلك للتلاميذ أكبر هدية فكرية. * * * وممّا كنت أصنع في محكمة دمشق (وأسأل الله أن يغفر لي الخطأ في عملي إن كنت أخطأت، لسلامة نيّتي وحسن مقصدي): كنت إذا جاءتني امرأة تدّعي الزوجية وكنت أعلم أنها تقيم مع المدّعى عليه على غير زواج تساهلت مع الشهود ولم أناقشهم على عادتي في مناقشة أمثالهم، وأثبتّ زوجيتها. وكنّا نُثبت الزواج بالتصادق بين الرجل والمرأة، فإذا جاء رجل وقال إن هذه المرأة هي زوجتي، وصادقَته على ذلك، أثبتنا الزوجية بينهما على المذهب الحنفي. وكنت أتساهل بذلك وأشجّع عليه ليعلم كلّ مَن يجرؤ على مساكنة امرأة بالحرام أنها سترتبط به برباط لا يستطيع فكّه، لذلك كنّا نُثبت الزوجية بالشهادة على أن الرجل والمرأة كانا يسكنان معاً في دار واحدة وكان يدخل عليها كما يدخل الرجل على زوجته ويخرج من عندها كما يخرج الرجل من عند زوجته. ولم نكن نخالف الشرع في ذلك، لأن الشهادة في الأصل لا تكون إلاّ عن عيان وعن حِسّ، فلا يجوز للمرء أن يشهد على شيء ممّا يرى

أو يسمع إلاّ إذا رآه بعينه أو سمعه بأُذنه، إلاّ الشهادة على الزواج وعلى الوقف وعلى مسائل عدّها الفقهاء، فيجوز أن يُشهد بها على التسامع. أنا أشهد وأنتم تشهدون أن فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى آله كانت زوجة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وما حضرنا عقدهما ولا سمعنا الإيجاب والقبول، فالشهادة على الزواج بالتسامُع شهادة شرعية مسموعة. لم آتِ في ذلك بشيء جديد، ولكن تساهلي في إثبات هذا الزواج وترك حقّي في مناقشة الشهود كنت أريد به أن أردع الفُسّاق عن أن يساكن رجل امرأة لا تحلّ له بغير عقد شرعي. لمّا انتشر هذا بين الناس في السنوات التي بقيت فيها قاضياً في دمشق أقلع كثير منهم عن هذا الأمر القبيح، وصاروا يخافون أن يشهد على أحدهم مَن يراه وهو داخل على المرأة وخارج من عندها، فتثبت بذلك زوجيته لها. ومن طريف الحوادث أنها جاءتني مرّة وأنا في مجلس الحكم امرأة معها أولاد، تدّعي أنها زوجة للرجل الواقف موقف المدّعى عليه وأن هؤلاء أولاده، وهو يُنكِر ذلك. فكلفتها البيّنة فلم يكن معها أوراق تثبت الزواج ولا شهود يشهدون لها، وطلبت تحليفه اليمين، وكان الرجل -كما يبدو- قليل الدين، فحلف اليمين. فلما هممت بإعلان الحكم برفض دعواها بكت، فبكى الأولاد معها وصاح صغيرهم: "هيك يا بابا بتعمل مع ماما؟ "، وقال الأولاد الآخرون: "يابابا ليش ماما بتبكي؟ " ...

فرأيت التأثر على وجه الرجل. فاغتنمت هذه اللحظة ووعظته وعظاً مؤثّراً خرج من قلبي فوقع في قلبه، فاعترف بأنها زوجته وأن هؤلاء أولاده، واستغفر الله من اليمين الكاذب وسألني: ماذا يفعل؟ قلت له: إن باب التوبة مفتوح، فإذا كنت قد ندمت حقاً (وقد ظهر عليك الندم) فانوِ واعزِم من الآن ألاّ تعود إلى مثلها، وأحسن معاملة امرأتك وأولادك، وأكثِر من الحسنات فإن الحسنات يُذهِبْنَ السيئات. وخرجوا جميعاً متصافين متراضين، والحمد لله رب العالمين. * * *

الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1)

-127 - الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1) كتبت في عدد «الرسالة» الصادر يوم الإثنين 17 ذي القعدة سنة 1354 مقالة عنوانها: «الحياة الأدبية في دمشق»، وصفتها فيها وصفاً موجَزاً شاملاً، فكتب عبد الوهاب الأمين في «الرسالة» (عدد الخامس عشر من ذي الحجّة 1354) مقالة عن الحياة الأدبية في بغداد تعقيباً على مقالتي وتعليقاً عليها. وفي عدد السابع من المحرّم سنة 1355 كتب حيدر موسى عن الحياة الأدبية في السودان، وفي عدد الرابع عشر من المحرّم كتب سامي الشقيقي عن الحياة الأدبية في لبنان، وفي عدد الواحد والعشرين من المحرّم كتب الأستاذ عبد المجيد شبكشي عن الحياة الأدبية في الحجاز، وفي عدد السادس من صفر كتب الأستاذ محمد تقي الدين النبهاني عن الحياة الأدبية في فلسطين، وفي عدد الثالث عشر من صفر كتب محمد عبد المجيد بن جلون عن الحياة الأدبية في المغرب، وفي عدد العشرين من صفر كتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري عن الحياة الأدبية في الحجاز، وفي عدد الرابع من ربيع الأول كتب جريس القسوس عن الحياة الأدبية في شرقي الأردن، وفي عدد الخامس والعشرين من ربيع

الأول نُشرت مقالة في الرسالة أيضاً عن الحياة الأدبية في المغرب الأقصى للأستاذ ع. ك. (وأظنه الأستاذ عبد الله كنون)، وفي عدد العاشر من ربيع الثاني سنة 1355 كتب محمد الحليوي عن الحياة الأدبية في تونس. والمقالات لها حظوظ كحظوظ الناس، منها الذي يقصر عمره ولا يكون له أثر، ومنها ما يطول عمره ويبعد أثره، كهذه المقالة التي كتبتها عن الحياة الأدبية في دمشق؛ قيّض الله لها مَن علّق عليها هذه التعليقات كلّها، التي يجيء منها صورة مُجمَلة للحياة الأدبية في البلاد العربية قبل نصف قرن. هذه المقالات كلها نُشرت في «الرسالة». ومجموعة «الرسالة» التي أملكها تنقص فيما تنقص الجزء الأول من سنة 1936، وهو الجزء الذي نُشرت فيه هذه المقالات. وحاولت أن أصل إليها فتعذّر ذلك عليّ، فذكرتُه لمخرج برنامجي في الرائي ولدي السيد عبد الله رواس، فأرسل لي شاباً ذكياً طالباً في قسم الإعلام في جامعة أم القرى، وهو ابن أخيه عصام رواس، ليساعدني على جمعها. فلما أعلمتُه أنها في «الرسالة» صنع أكثر ممّا كنت أرتقب وما كنت أتمنّى، فصوّرها لي جميعاً وجاءني بها، وكتب في رأس كلّ مقالة تاريخ نشرها في الرسالة. فله ولعمّه الشكر. * * * وأنا هنا لا أنقل هذه المقالات كلها، ولا يتّسع لها مجال هذه الذكريات في الجريدة، ولكن أشير إلى أهمّ ما جاء فيها

ليستفيد منه مَن يريد الاطلاع على حال الأدب في هذه البلاد العربية قبل خمسين سنة. كان ممّا قلت في مقالتي: لا شكّ أن «الرسالة» بسموّها عن الفكرة الإقليمية الضيقة، وفتحها أبوابَها لأبناء العربية جميعاً، ودعوتها إلى الاجتماع على التوحيد في العقيدة، والفضيلة في الأخلاق، والوحدة في السياسة، والصحّة في اللغة، والجمال في الأسلوب، والتجديد في الأدب، سيكون لها أثر كبير في تاريخ الصحافة العربية لِما سنّت من هذه السنّة الحسنة التي لم تعرفها من قبل كُبريات مجلاّت مصر إلاّ قليلاً، وبما بلغته من الجمال والإتقان في الشكل والموضوع. وسيكون لها أثر كبير في تاريخ الأدب العربي لِما وضعت للأدب من منهج مستقيم، وما أحيَت من الأسلوب البليغ، وما قبسَت من روائع الآداب الأجنبية، وسيكون لها أثر كبير في التاريخ العربي العامّ بما دعَت إليه من الوحدة العربية، وما نشرَت من أمجاد السلف، وما وضعَت في نفوس الناشئة من قُرّائها من العمل للجامعة العربية الواسعة لا للإقليمية الضيّقة. ولا شكّ أن «الرسالة» اليوم للأقطار العربية كلّها لا لمصر وحدها؛ فكما تفتح «الرسالة» أبوابها للمقالات وللقصائد والبحوث التي يبعث بها إليها أدباء الشام والعراق وغيرهما، فلتفتح أبوابها للفصول النقدية والبحوث المستفيضة عن الحركة الأدبية في هذه البلاد، ولو كانت قاسية شديدة على النفوس، ولو كشفت عن حقائق يحبّ بعض الناس ألاّ ينكشف عنها الستار.

وليس من مصلحة الأدب أن يظل أدباء مصر والعراق جاهلين مدى الحركة الأدبية في الشام ومغترّين بها، وليس من المصلحة أن يبقى أدباء الشام ومصر جاهلين مدى الحركة الأدبية في العراق، بل يجب أن يصف أدباء كلّ قطر من الأقطار الحياةَ الأدبية في قطرهم، ومبلغ قوّتها أو ضعفها، وسبب تقدّمها أو عِلّة قصورها، وأن يُحلّلوا أدواءها وأمراضها، لنتعاونَ جميعاً على علاجها ومداواتها وتقويتها وشدّ أزرها. والحياة الأدبية في الشام أحوج شيء إلى المداواة والعلاج ... إن كان في الشام حياة أدبية لها وجود ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها. وأنا أشكّ في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى علامة من علامات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن دمشق -كما يعلم الناس جميعاً- عاصمة من عواصم البيان العربي. ولقد رجعت أعرض التاريخ الأدبي في دمشق منذ عهد الاحتلال إلى اليوم (أي إلى سنة 1936) وأنظر الآثار الأدبية الخالصة التي أخرجها أدباء دمشق في هذه السنين، فلا أجد إذا استثنيت مجلّتَي «الرابطة الأدبية» و «الميزان» وروايتَي «سيد قريش» و «عمر بن الخطاب» لمعروف الأرناؤوط وكتابَي «المتنبّي» و «الجاحظ» لشفيق جبري (وإن كان هذان الكتابان نمطاً جديداً من الكتابة عن الأدباء، ويكاد صدورهما يُعَدّ فتحاً لكنه غير كامل) ورسائل «أئمة الأدب» لخليل مَرْدَم بك ... إذا استثنيت

هذه الكتب وكتابَين آخرَين أو ثلاثة قد أكون نسيتها، لا أجد أثراً أدبياً له قيمة. وهناك كتب محمد بك كرد علي: «خُطَط الشام» و «الإسلام والحضارة» وغيرها، ولكنها ليست من الكتب الأدبية الخالصة وإنما هي كتب تاريخ لا تدخل في موضوع المقال، وإن كان كتابه «غرائب الغرب» نمطاً عالياً من كتب الرحلات، وكان أسلوب الأستاذ كرد علي لا سيما في «أمراء البيان» أسلوباً فريداً في الترسّل، ولقد كتبت عنه حين صدوره صادقاً غير مبالغ: إنني كنت أتخطّى عبارة عبد الحميد الكاتب الذي يكتب عنه كرد علي لأقرأ عبارة كرد علي! على أن هذه الكتب التي استثنيتها ليست في درجة واحدة من حيث قيمتها الأدبية، فبينما نعدّ «سيد قريش» عملاً فنّياً كبيراً (على ما فيها من ضعف العقدة الروائية، وتشابه المناظر، وتكرار الأوصاف، وغلبة النصرانية على أجمل صفحاتها) نعدّ رسائل أئمة الأدب لخليل مردم بك كتباً مدرسية موضوعة لطلاّب البكالوريا، لا تبلغ أن تُعَدّ في الدراسة الأدبية القوية التي تستند إلى طريقة في البحث معروفة وتكشف عن نواحٍ مجهولة من حياة الأديب الذي تبحث عنه ومن أدبه. ثم إن هذه الكتب إذا قيسَت بمدينة كدمشق في مُدّة طويلة كهذه المُدّة لا تعدو أن تكون أثراً ضئيلاً لا يدلّ على حياة. وهذا الأثر -على ما فيه من ضعف- ينحصر في فنّين من فنون الأدب هما: القصّة التاريخية والدراسة التحليلية. أمّا سائر فنون الأدب كالقصّة التمثيلية، والأقصوصة الصغيرة، والرواية

الطويلة، والصورة الوصفية، والذكريات الأدبية، والتأمّلات الفلسفية والشعرية، والخطب البليغة، وغيرها من فنون الأدب فلا نكاد نجد لأدباء دمشق فيها أثراً يُذكَر. لأجل ذلك لم أقُل إنّ في دمشق حياة أدبية لأن ما نجده فيها ليس بالحياة ولا يصوّر الحياة، ولم أنفِ هذه الحياة لأن في دمشق أدباء يُنتِجون أو يستطيعون أن ينتجوا. وإنما أقول بأن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل والحياة الصحيحة، هي كالسّبات العميق والنوم الطويل ... (إلى أن قلت): وإلاّ فما يصنع كتّاب دمشق وشعراؤها؟ وأين هي منتجاتهم الأدبية؟ وهل يكفي شاعراً أن يقول كلّ سنتين قصيدة واحدة تضطرّه إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون في القصيدة أثر من نفسه ولا تصف شيئاً من عواطفه؟ وهل يكفي الكاتبَ أن ينشر كلّ عام مقالة تُطلَب منه أو مقدّمة كتاب يُسأل كتابتها؟ بل هل يستطيع أن يملك لسانَه الشاعرُ فلا يقول شيئاً، وهو يرى كل يوم ما يُنطِق الصخرَ بالشعر من مصائب الأمة ونكباتها، بل من همومه هو ومتاعبه وما يشاهده في حياته في بيته وحياته في عمله؟ أليس في حياته سرور أو ألم؟ أليس فيها أمل أو قنوط؟ أليس فيها ضحك أو بكاء؟ أفيضحك الشاعر فلا يغنّي ويبكي فلا ينوح، وتهزّ قلبَه الحادثات فلا يقول شيئاً؟ أنا لا أستطيع أن أتصوّر شاعراً أو كاتباً لا يكتب ولا يَنْظم وكلّ ما حوله يهيج نفسه ويثير عاطفته!

إن أدباءنا يحتجّون بأنهم لا يجدون مكاناً ينشرون فيه، وإذا لم يجد الأديب سبيلاً إلى النشر ضعُفَت هِمّته وانكسر نشاطه ولم يجد حافزاً إلى العمل، لأن فَقْد الناشر من أكبر الأسباب في هذا الركود الأدبي. وهذا صحيح، فليس في دمشق مجلاّت أدبية إلاّ مجلّة صغيرة اسمها «الطليعة» يُصدِرها نفر من الشباب المثقفين الذين يحملون أكبر الشهادات العالية من أكبر المعاهد في أوربّا، ولكن لها منحى خاصاً لا يرضى عنه الناس كلهم، وأخصّ أهل الدين والمحافظة منهم، وهي تمشي بخُطىً مضطربة، وربما اضطُرّ أصحابها إلى إغلاقها كما اضطُرّ من قبل أصحاب «الثقافة» إلى إغلاقها. على أن أصحاب «الثقافة» كانوا من صفوة أدبائنا ومفكّرينا، كخليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني. ثم إن الجرائد اليومية لا تُعنى بالأدب عناية كبيرة ولا تخصّص له صفحات دائمة، وإن هذه الصفحات الأدبية التي تتزيّن بها صدور بعض جرائدنا اليومية أكثرُها صفحات فارغة، لا أظنّ أن أحداً من أهل الذوق الأدبي يرضى عنها، بل إن أصحاب الجرائد والقائمين عليها لا أحسبهم راضين بها. وإذا ألّف الأديب كتاباً أو قصّة لم يجد الناشر، وإذا أنفق عليها من ماله لم يشترِها أحد، لأن دمشق بلد يقرأ أهله كثيراً ولكنهم لا يشترون! وهذه مجلّة «الرسالة» لا تجد في دمشق أديباً أو متأدّباً إلاّ اعترف لك بأنها خير مجلّة أُخرِجَت للناس وأن العالَم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أُنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدّباً أو طالباً إلاّ وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ

«الرسالة» (¬1)، وبعد ذلك كله يُباع من أعدادها في دمشق كلّها أقلّ من خمسمئة عدد! وإن كان يقرأ كلَّ عدد خمسةٌ أو عشرة من القُرّاء. (إلى أن قلت): على أن الذنب في رأيي ذنب المدارس والمدرّسين، ليس ذنب الأدباء ولا ذنب القُرّاء؛ فليس في الشام اليوم من دروس الأدب إلاّ هذا المقدار القليل الذي يتعلّمه الطالب في مقرّر البكالوريا (أي الشهادة الثانوية)، وهذا المقدار لا يُحِقّ حقاً ولا يُبطِل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تكريه الأدب إلى الطلاّب وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شُعَب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق عَوجاء أبعد ما تكون عن بثّ الملَكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوّن الملَكة الأدبية طائفةٌ من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، وإن فهمها لم يدرك جمالها ولم يتلذّذ بها ولكنه يحتفظ بها في دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظنّ أن معنى «بكالوريوس في الآداب» كاتبٌ أو أديب فهجر المطالعة وانصرف عنها. إلى آخر المقالة، وهي طويلة وفيها نقد لمناهج الأدب في المدارس ولمدرّسيه ولأسلوبهم في التدريس (¬2). * * * ¬

_ (¬1) كتبت في «الرسالة» من قديم أننا كنا في الشام نسمّي الأيام: السبت، الأحد، الإثنين، الرسالة ... (¬2) الذي نُشر هنا جزء من المقالة، وهي كلها (لمَن شاء أن يقرأها) في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

أمّا المقالة الثانية عن الحياة الأدبية في بغداد فقد بين كاتبها أن الذي حمله عليها قراءته مقالتي التي أشرت إليها. وممّا قال فيها أنه لو أتيح للقارئ أن يتصفّح الصحف والمجلاّت قبل عشر سنين (أي في سنة 1926) لَما فاته أن يلحظ فيها طيف اليقظة الأدبية وهي في مهدها، ولرأى من كثرة ما يُنشَر في الصحف حينذاك، من الشعر على الأخصّ ومن بقية الفنون الأدبية، وإن كانت بصورة بدائية، روحاً أدبياً يبشّر بمستقبل لا بأس به. إلى أن قال: على أننا قد خسرنا حتّى تلك الحركة البدائية البسيطة، وقد ماتت كلّ المحاولات التي كان القصد منها بعث الروح في الأدب العراقي. إلى أن قال: إن طغيان السياسة والصحافة على الأدب هو الذي أدّى إلى ضعفه. وقد جرى ذلك في الصحف اليومية، فإن كلّ صحيفة صدرت في العراق كانت في مبدأ أمرها خالصة لوجه الأدب أو تخصّه بأكبر عناية، فأصبحت كلّ الصحف تقريباً لا تنشر القطعة الأدبية أو القطعة الشعرية إلاّ في الأسبوع أو الأسبوعين مرّة، وقد كانت جريدة «البلاد» (وهي كبرى جرائد العاصمة) في أول مبدئها تخصّ الأدب بثلث صفحاتها يومياً، وكانت تستكتب الأدباء والشعراء وتنشر لهم، وكانت وقتئذ تصدر في ستّ صفحات فقط، والآن بعد أن زيدت صفحاتها إلى الثماني فقد تركت الأدب مرّة واحدة. وكذلك قلّ في الصحف الباقية اليومية منها والأسبوعية. وممّا يؤلم ويَستفزّ النفسَ أن الصحف في العراق لا تتكبّد في نشر الأدب شيئاً مادّياً، بل كل ما يُنشَر فيها تقريباً أدب التبرّع وليس أدباً مأجوراً.

ثم بيّن أن أكثر ما يُنشَر في بغداد كتب مدرسية غير مستكملة حتّى الشروط المطلوبة في مثل هذه الكتب، وأكثرها مترجَم ومقتطَع من الكتب الغربية، وهي تبدَّل حسب مناهج التعليم كلّ سنة، وفي بعض الأحيان في أقلّ من السنة. ثم قال: فليس هناك إذن لا مؤلّف ولا ناشر. ثم تكلّم عن الطباعة فقال: والمطبعة العراقية فقيرة إلى حدّ مُزْرٍ، فهي لا تزال على نمط المطابع قبل عشرين سنة. وهناك جريدة يومية كانت تُطبَع إلى زمن قريب بمطبعة تُدار باليد ... إلى آخر المقالة. * * * والمقالة الثالثة عن الحياة الأدبية في السودان، بيّن فيها أن أدب السودان يسير وراء الأدب المصري ويتبعه خطوة خطوة، نظراً للجوار ولتشابه الأخلاق والعادات وغير ذلك، إلى آخره. وبيّن أثر الصحف الأدبية الراقية كالسياسة الأسبوعية في إبّان حياتها، وعندما اختفت وظهرت «الرسالة» وسدّت الثغر تهافتوا عليها وخطبوا وُدّها، فإذا أنت تراها بأيديهم في النوادي والمجالس والمنازل وفي عربات الترام، حتّى صارت قراءتها محتمة على كلّ أديب ومتأدّب. إلى أن قال: الشباب السوداني متطلّع دائماً إلى العلياء، وهم رغم ضيق وقتهم وقلّة مالهم يُقبِلون على تنظيم المحاضرات والمناظرات قدر المستطاع، حتّى النوادي الرياضية لم تُهمِل الأدب بجانب اشتغالها بترقية الروح الرياضية، وكذلك تُعنى

بإقامة حفلات تمثيلية تعرض فيها الروايات العربية والمصرية. ويسرّني (يقول) كل السرور أن القصّة السودانية قد صار لها شأن في عالَم التمثيل السوداني، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها اكتسحَت أو كادت تكتسح الروايات غير الوطنية، وكل هذه الروايات البلدية موضوعة بفعل الشعب المسمّى بـ (الدوبيك). إلى أن قال: ودعني أعرّفك بأسماء هذه الروايات، فمنها «مصرع تاجوج ومحلق»، وهي معروفة لدى المصريين وقد نُشر ملخصها في بعض المجلاّت المصرية، ثم رواية «خراج سوبا» ورواية «فتاة المستقبل» ورواية «البتول» وغيرها. وقد أُعيدَ تمثيل هذه الروايات كثيراً نظراً للإقبال العظيم الذي قوبلت به من الجمهور المتعطش لكل ما هو سوداني أصيل. إلى أن قال: أمّا حركة التأليف فضعيفة لغلاء أجرة المطابع ولعدم وجود ناشرين يتولون إخراج الكتب. ويوجد الآن أدباء وشعراء يملكون كتباً ودواوين شعرية، وهم حائرون لا يعرفون كيف يُخرِجون هذه الآثار الأدبية التي هي ذخر للسودان. وهذه مشكلة يتألّم لها الأدباء ولا يعرفون لها حلاًّ، ولذلك لا تجد كتاباً قيّماً أخرج إلى الآن في السودان، لا لِعُقم في القرائح بل لِما بينّا. أما الصحف فحدّث عنها ولا حرج، فلدينا الآن جريدة «حضارة السودان» وجريدة «السودان» وتصدران في الأسبوع مرّتين، وجريدة «النيل» اليومية وملحقها الأدبي الأسبوعي، ومجلّة «الفجر» وهي نصف شهرية، وكذلك لكلّية كردوم مجلّة

خاصّة لا تقف فائدتها على الطلاّب فحسب بل لا تخلو من فائدة لغيرهم. وقد اختفت بعض المجلاّت كمجلّة «النهضة السودانية» ومجلّة «مرآة السودان» نظراً لقلّة المال. وفي نظري أن صحفنا السودانية لو وجدت الإقبال الذي هي أهل له في البلاد العربية، وخاصّة في مصر، لَما تعثّرت ولَما اختفت. * * * المقالة الرابعة عن لبنان. يقول الكاتب: ظهر في «الرسالة» مقال عن الحياة الأدبية في دمشق، وفي عدد آخر تكلّم الأستاذ عبد الوهاب الأمين عن الحياة الأدبية في العراق، فكان من الإنصاف لإتمام الفائدة أن نتكلّم عن الحياة الأدبية في لبنان. ظواهر الحركة الأدبية في لبنان راكدة كما هي في سوريا والعراق، فالصحافة الأدبية تكاد تكون معدومة والأشهُر تمرّ دون أن تُخرِج المطابع كتاباً نفيساً، وجمهور الشباب مُعرِض عن الآثار الأدبية العربية. والواقع أن إقبال الشباب على الثقافة الأجنبية، وإن يكن نفخ روحاً جديداً في الأدب العربي، فإنه قد أضرّ كثيراً بالحركة الأدبية، خصوصاً في لبنان. فشبابنا المثقف حائر بين الأدب الغربي (العالمي حقاً) والأدب العربي الناقص بإزائه، يُقبِل على الأول لأنه يُرضي ذوقه وثقافته، ويجذبه إلى الأدب العربي نوع من الشعور الوطني. في مصر والعراق وسوريا، وهي بلدان مسلمة، يتعلّم الشبّان القرآن منذ صغرهم فينشؤون وفي نفوسهم ملَكة العربية، لا تستطيع الآداب الأجنبية أن تطغى عليها. وليس الأمر كذلك في

لبنان، ولولا البكالوريا اللبنانية التي توجب على الطلاّب درس الأدب العربي لأهمله هذا النشء الجديد إهمالاً تاماً. وقد كانت الحركة الأدبية عندنا في لبنان إلى الأمس القريب تتجلّى بقصيدة رثاء أو مديح أو مقالة شكوى، أو كتاب لا يتعدّى موضوعه المبتذَل الفارغ. ولكن من الإنصاف أن نقول إن البعض من أدبائنا نشروا كتباً لا بأس بها، وإن كان لا يرضى عنها الذوق الأدبي السائد اليوم. ومن هؤلاء الأدباء أمين الريحاني صاحب «ملوك العرب» و «ابن سعود» و «فيصل الأول» و «قلب العراق»، وعمر الفاخوري صاحب «غاندي» و «أناتول فرانس»، ولبيب الرياشي، وجميل بيرم، وميخائيل نعيمة مؤلّف كتاب «جبران»، وسلمى صائغ كاتبة «النسمات» ونظيرة زين الدين مؤلّفة «السفور والحجاب». وكان الاعتقاد السائد بين الأدباء أن المثل الأعلى في الأدب هو أدب القرن السابع عشر الفرنسي، وإن كانوا لم يطّلعوا عليه، والمتطرّفون منهم كانوا يقتبسون من العصر الرومانتيكي. أما اليوم وقد نضج هذا الفوج من الأدباء الذين ذكرناهم ولا يُرجى منهم أفضل ممّا أنتجوا، فقد هُدمت حركتهم الأدبية وتوقّفَت مجلاّتهم. وعندنا الآن فوج من الأدباء الشباب إلاّ أنهم أثّروا على الأدب في لبنان، منهم «عصبة العشرة» التي بثّت روحاً جديداً في الأدب ووجّهَت خطواته على غرار الأدب الغربي الحديث، ولكن حركتها ما عتمت أن سكنت ولمّا تؤدِّ رسالتها على الوجه الأكمل الذي كانت ترجوه.

وقامت أخيراً ندوة الاثني عشر تضمّ عدداً من الشبّان المثقفين ثقافة عالية، يجتهدون للنهوض بالأدب في لبنان نهضة صحيحة من كلّ نواحيه. والأدب في لبنان يتّجه نحو القصّة لأنها تتحمّل الدروس النفسانية ولأنها من أرقى صور الأدب. ومن أبرز الذين يُعنَون بالقصّة خليل تقيّ الدين وتوفيق عواد ورئيف الخوري. أما النقد الأدبي على الأساليب العلمية الحديثة فحامل لوائه في لبنان فؤاد البستاني صاحب الروائع ... وثمّة نَقّادة آخر يمكننا أن نفاخر به هو جبرائيل جبور الذي ينشر الآن كتاباً ضخماً عن عمر بن أبي ربيعة «دون جوان العرب». أما في الشعر فقد ساد أولَ الأمر المحافظون ينظمون في الرثاء والمديح والفخر، مثل أمين تقيّ الدين وبشارة الخوري، ثم جاء الشاعر إلياس أبو شبكة فتطوّر معه الشعر ... وخطا يوسف غصوب بالشعر خطوة واسعة موفّقة بديوانه «القفص المهجور». وكان أديب مظهر أول من أدخلَ إلى الشعر العربي نظرية الشعر الرمزي التي يعتنقها اليوم شعراء مُجيدون كصلاح لبكي وأمين نخلة وسعيد عقل، الذي نشر مسرحية شعرية هي «بنت يفتاح». إلى أن قال: وكان من إقبال اللبنانيين على الآداب الأجنبية أنهم أضحوا يؤلّفون بهذه اللغات. وكُتُب الريحاني وجبران بالإنكليزية مثلاً مشهورة، وآخر ما أنتجه اللبنانيون من دواوين شعر فرنسي وكان له دويّ بعيد جيّد في فرنسا شعر القرم الذي نال جائزة إدغاربوا في فرنسا بديوانه «الجبل الملهم». والخلاصة أننا

لسنا متشائمين من حال الأدب عندنا، بل ما نراه حولنا من مظاهر النشاط الكامن يبشّرنا بمستقبل زاهر وبأن الحياة الأدبية في لبنان ستخطو خطوات بعيدة جداً. * * * المقالة الخامسة عن الحياة الأدبية في الحجاز. يقول الأستاذ عبد المجيد شبكشي: كان الأدب العربي مثال الكمال والروعة والازدهار في دولة الأمويين وفي صدر الدولة العباسية، وكان نصيب الحجاز من هذا الازدهار طيّباً مرموقاً، واقتضى خلوّه من الأحداث السياسية أن يحيا مغموراً حتّى تجرّد من العلم والثقافة وصفر من الرجال الممتازين، وعملَت الهجرة على محو مقوّماته ومميّزاته. ثم بدرَت بادرة من بوادر النهوض ونسمة من نسمات الحياة، فنبغَت في الحجاز روح اليقظة الفكرية فأخذ يسترجع ماضيه بفضل جهود البعض من أبنائه المخلصين ... سرَت اليقظة في أفكار بعض شباب الحجاز وأحسّوا بالواجب الوطني وتنبّهوا إلى فضل الأدب في نهضات الشعوب، فتأسّسَت لِجان للاجتماع ونوادٍ للأدب، حيث تمثّلوا حركة أدبية لا تشوبها شائبة. إلى أن قال: ثم جاء دور التكوين للنهضة الفكرية، وكان ذلك قبل عشرة أعوام تقريباً نظم في خلالها أدباء الحجاز الشعر وكتبوا النثر ونشروا نماذج منه، وأعلنوا عن أفكارهم وسجّلوا آراءهم. فشَعر الحجاز حينذاك بدبيب الحياة يتمشّى فيه وأحسّ بجمال الأدب والفنّ معاً، وحينذاك قام أحد أدباء الحجاز البارزين

(الأستاذ محمد سرور الصبّان، مدير إدارة وزارة المالية) وأصدر كتاباً أدبياً ضمّ بين ضفّتيه مختارات لأدباء الحجاز، فأثبت للأمة أن هناك أدباً راقياً يُدعى الأدب الحجازي. تجد في هذه المجموعة روح الحجاز الأدبية ممثلة من حيث صحّة النزعة وبساطة التفكير وجماله، فكان عمل هذا الأديب بشير يقظة فكرية. وقد كان الأدب الحجازي في ذلك الوقت بسيطاً شأن كلّ شيء في بدايته ... وكان الكُتّاب البارزون في الحجاز لا يزيدون عن عشرة، أما الحجاز اليوم -بفضل الله ثم بفضل جهود أبنائه المخلصين- فتقدّم بخطوات واسعة إلى الأمام ومال إلى احتذاء أدب مصر ونزعاتها الفكرية. إلى أن قال: والأدب الحجازي اليوم رمز لِما في أفئدة الحجازيين من عواطف وإحساس وحُبّ وولاء ولِما في نفوسهم من شعور وكرم وأخلاق ... وأدباؤنا يشعرون ويتأثرون بعوامل الحياة الفكرية، ويُجيدون التصرّف في فنون القول، ويُبدِعون في سبك العبارات ووضعها في قالب من الحكمة والذوق ليحوزوا قصب السبق في معترك الحياة الأدبية وليرفعوا اسم بلادهم عالياً، وهذا ما يرجوه ويناصره كلّ أديب حجازي وُهب موهبة الإحساس والشعور بالحياة وفرائضها، وليس ولله الحمد ثمة ركود ولا فتور في النفوس والأفكار. * * *

المحتويات الحلقة (100) رمضان في بغداد ... 5 الحلقة (101) إيوان كسرى و «سُرّ مَن رأى» ... 15 الحلقة (102) «قصّة» انتهت بنقلي إلى البصرة ... 29 الحلقة (103) من ذكريات البصرة ... 43 الحلقة (104) في «الكلّية الشرعية» في بيروت ... 55 الحلقة (105) بيروت سنة 1937 وعملية الزائدة في دمشق ... 69 الحلقة (106) وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة ... 85 الحلقة (107) أخي المبتعَث إلى باريس ... 99 الحلقة (108) بغداد تغضب لأختها دمشق ... 115 الحلقة (109) مقتل الملك غازي ورثاؤه ... 129 الحلقة (110) من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد ... 143 الحلقة (111) رفضت دعوة القومية فنقلوني إلى كركوك ... 159 الحلقة (112) كيف صرت ضابطاً؟ ... 175 الحلقة (113) إلى دير الزّور ... 191 الحلقة (114) دخولي في القضاء ... 205 الحلقة (115) بين إقرار العدل وتطبيق نص القانون ... 221 الحلقة (116) من ذكريات الحرب العالمية الثانية ... 237 الحلقة (117) في القضاء في دوما ... 249

الحلقة (118) ثورة في دوما: نار شَبَّتْ ثم خمدت ... 267 الحلقة (119) هجوم على الأطبّاء ... 281 الحلقة (120) دفاع عن الأطبّاء ... 295 الحلقة (121) أشتات من الذكريات عن موسم الحج ... 309 الحلقة (122) من محكمة دوما إلى محكمة دمشق ... 323 الحلقة (123) القاضي الشهيد ... 335 الحلقة (124) في سبيل إصلاح محكمة دمشق ... 349 الحلقة (125) بعض ما صنعت في محكمة دمشق ... 363 الحلقة (126) عقد الزواج في محكمة دمشق ... 375 الحلقة (127) الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1) ... 391

الجزء الخامس

ذكريات علي الطنطاوي الجزء الخامس طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين

-128 - كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين هذه رسالة بعثت بها إلى الأستاذ أحمد أمين رحمه الله مطويّة، فنشرها في «الثقافة» وعلّق عليها. وهذا نصّ الرسالة: كان هنا شاعر لم يعرفه الناس حتى عرّفتهم به هدآتُ الأسحار؛ إذ كان يطوف فيها على مرابع حيّه، يغنيها على ربابه أعذب ألحانه وأشجى أغانيه، وكان ينادي الليلَ الراحل بأرقّ أسمائه فيلتفت الليل ويقف لحظة يصغي إليه، والفجرَ يستحثّه على الرحيل، وتنصت إليه قلوب العاشقين، فإن غنى بـ «يا ليل» هاج بها الشجن فأجابت من لوعتها بـ «آه!»، ويعرفه القمر لأنه كان يسكب في نوره ألحانه، فتطفو على وجه النور، ثم تسيل من رقتها فيه وتمتزج به امتزاج الراح بالماء، فيشرب فيه أرباب القلوب خمرة نورانية تهيج في نفوسهم سكر الحب الطاهر والعاطفة الخيّرة. وعرَّفتهم به الضمائر المؤمنة، إذ كان يهتف بها مع الفجر بالنشيد العلوي الذي يوقظ في نفس الإنسان الذي يسمعه «المَلَك»، فإذا استيقظ فيه المَلَك خنس «الشيطان» واستخذى «السبع»، فتعرف بنشيده لذة الإيمان، وما في الأرض لذة كلذة الإيمان.

شاعر لم يكن يعرف فضلاً (أي زيادة) من عَروض الأوزان ولا سُلَّم الألحان، ولكنه يعرف كيف يعتصر قلبَه بيد الألم وكيف يُذيب نفسه بلهيب الذكريات، ثم يجعل من ذلك أشعاره التي يغنيها على ربابه، فتميل إليه القلوب وتحنو عليه، وتجد عنده الأنس والاطمئنان. غنّى للإيمان وللوطن وللحب، وأكثر الغناء. ولكن النغمة البارعة التي تجيش بها نفسه لم يتحرك بها لسانه، ولا جرَت بها يده على ربابه إلى اليوم. من أجل هذا كنت تراه -إذْ تراه- حائراً مضطرب الجوانح زائغ البصر، كأنما يفتّش في الفضاء عن شيء أضاعه، يفتّش وراء أفق الزمان عن الشيء الذي لم يجده فيه، فهو لا يفتأ ينظر إلى ماضيه يقلّبه ويجوس خلاله علّه يجد فيه ضالّته، فإذا افتقدها عاد إلى الآتي، يحاول أن يستشفّ بعين الأمل ما خَلْفَ بابه، فلا يشفّ البابُ عن شيء ... أما الحاضر فلا شأن له به ولا يعنيه أمره. أُعجب به الناس لما عرفوه وأحبوه، ثم ألفوه واطمأنّوا إليه، ثم تعودوا أن يروه ويسمعوه، فأضعفت العادة شعورهم به، فكانوا لا يدرون به إن حضر ولكنهم يفتقدونه إذا غاب ... ثم أصبحوا لا يعنيهم فقده ولا يعزّ عليهم غيابه! وطرَقَ الحيَّ «شعراءٌ» يضربون على الطبول الكبيرة ويصرخون بأغان فارغة مدوِّية كطبولهم، لا تدعو إلى فضيلة ولا تهزّ عاطفة ولا تمس من النفس موضع الإيمان، ولكنها تدعو إلى الشهوة وتثيرها في الأعصاب، لا تعرِفهم هدآتُ الأسحار ولا يدري بهم فُتونُ

الفجر ولا شعاع القمر، ولكن تعرفهم أضواء الكهرباء الساطعة في معابد الشيطان وهياكل الشهوة، وتعرفهم موائد الخمور في دور الفجور، فحفَّ الناس بهم وصفقوا لهم! عند ذلك كسر الشاعرُ ربابَه وانسلّ خارجاً من الحيّ بسكون، وأمَّ الجبل ليتخذ لنفسه من «الجادة السادسة» (أعني في جبل قاسيون) ملتجأ، يعصمه علوّه من أن يسمع قرع هذه الطبول، وعاد كالشيخ الذي صارت أيامُه الثلاثة يوماً واحداً، فطال أمسه حتى شمل يومه وامتدت ظلاله إلى غده، فلم يعد يعيش وإنما يعيش خيالُه في خيالات الماضي، كالشجرة التي عرَّتْها لفحاتُ كانون، فهي تعيش في ذكرى آذار المنصرم وزهره وتموز الماضي وثمره. ومتى رجعت في كانون أزهار آذار (¬1)؟ أجل يا سيدي؛ لقد مات الشاعر ودُفن في جبة القاضي، ولو جاء أمرك إياه بالكتابة لـ «الثقافة» وفي عاطفته ذلك التوقد وفي أعصابه تلك النار، يوم كانت تنثال عليه المعاني وتجيش بالصور نفسُه ويتحرك بالبيان لسانه من غير أن يحركه، حتى لكأنه الجواد الكريم يتفلّت من الشّكال، وكأنّ قلمه إذ يجري على الطّرس يسابق اليد التي تجريه والفكر الذي يمده، لوجدته أسرع إلى طاعتك من السيل الدفّاع إلى مستقره، بل أسرع من الطرب إلى نفس الكريم ¬

_ (¬1) هذه هي أسماء الشهور الشمسية التي عرفها العرب من قديم؛ من أيام جاهليتهم. فأما كانون فيمكن أن يكون الأول (آخر أشهر السنة الذي يعرفونه في بعض البلدان باسمه الأعجمي، ديسمبر) أو كانون الثاني، أول شهور السنة (يناير)، وكلاهما من شهور الشتاء القاسية. وأما آذار فهو شهر الربيع (مارس) وتموز شهر قلب الصيف (يوليو) (مجاهد).

والحب إلى قلب الأديب! يوم كان يعيش في دنيا الناس وكأن له دنيا وحده؛ يرى فيها ما لا يرون ويسمع ما لا يسمعون: يرى في كل مشهد جمالاً، وفي كل جمال حلماً فاتناً يستغرق فيه مسحوراً، ويدرك من لذاذاته ومتعه ما لا يعرفه إلاّ مَنْ سمع حديث الجمال ووعاه بأُذن قلبه، وأمضى لياليه حالماً سادراً في أحلامه، فإذا صحا لم يجد ما يترجم به عن نفسه إلاّ لغة ضيقة قاصرة خُلقت للتعبير عن حاجات الأرض لا لوصف أحلام السماء! وماذا تصنع لغة لا تعرف للجمال كله -على ما لَه من الصور التي لا تنتهي والمعاني التي لا تنفد- إلا كلمة واحدة هي كلمة «الجمال»؟ وأنّى لها أن تترجم عن عالَم كله حياة وقوة وسحر؟ وكيف تقنعه وللجمال في عينيه صحائف يقرأ منها كل يوم جديداً؛ فلكل وجه جمال لا يقاس به غيره ولا يشبهه سواه، ولكل مقلة جمال، ولكل بسمة ولفتة، ولكل رنة صوت ولكل ومضة ثغر، ولكل واد وجبل ولكل سهل ونهَر، ولكل مقطوعة من الشعر وكل صورة في المتحف وكل زهرة في الروض، ولكل رائحة وكل نغمة. فجمال ريا الياسمين، وجمال أريج الورد، وجمال عبق الزنبق، وجمال رَوْح الفُلّ، وجمال البَيَات والرصْد والحجاز والصَّبا، والعود والقانون والناي والكمَان، وجمال القصة المؤثرة والحكمة المتخيَّرة، وما شئت وما لم تشأ من أنواع الجمال في الوجود ... كل أولئك ليس له في هذه اللغات البشرية إلاّ لفظ واحد يدل عليه ويشير إليه. يا ما أفقر لغات البشر!

وكان تذوُّق الجمال يهيج في نفسه الأدب، والأدب هو البثُّ، فلا تتمّ له متعة ولا يحلو له نعيم حتى يُشرك الناس معه في نعيمه. وكذلك الأديب؛ يجود على الناس بأعزّ شيء عليه: بشعوره وعواطفه، فيفتح لهم نفسه ويكشف لهم عن سرائره ولا يستأثر دونهم بشيء، فهم معه في ألمه وسروره ويأسه وأمله، يتلو عليهم نبأ حبه وبغضه وحركاته وسكناته، فيشاركونه حياته، ثم يقولون: عجباً لهذا الغبيّ الثرثار الذي لا يفتأ يتحدث عن نفسه، ولا ينفك مزهوّاً بها زهو الديك بريشه، مالئاً الصحائف بأخبارها، كأنّ الناس لا همَّ لهم إلاّ أن يسمعوا خبرها! ما درى الظالمون أنهم يتهمون بالأثَرة رجلاً هو أول المُؤْثِرين! وكان ينقل ما يحس به من معاني الخلود إلى لغة الفناء، فلا يبقى منه إلاّ الأقل الأقل، ثم يعدُّه للنشر فيضيع أكثر جماله الباقي بين مراعاة آداب المجتمع وقوانين النشر وأذواق الناشرين ونزعات القارئين، ثم ينشر فإذا هو يرضي القراء، وإذا منه المعجِب المطرِب المقيم المقعِد، ولكنه لا يرضى عنه ولا يُعجب به، لعلمه بأن خير ما كتب ما (¬1) لم يعبّر عنه بلفظ ولم يجرِ به قلمٌ على قرطاس. وما كان -يا سيدي- ليفخر أو ليزهى، وإنه لأعرف الناس بنفسه وعيوبها وأدبه ونقائصه، ولكنك فتحت عليه باباً للذكريات أعياه الليلة سدُّه، وقد كان قبل اليوم مسدوداً. وذو الشّوقِ القديم وإنْ تسلّى ... مَشوقٌ حين يَلقى العاشقينا وإنه لواحد ممّن وأَدَ هذا المجتمعُ ما كان لهم من ملكات. ¬

_ (¬1) ما هنا اسم موصول وليست نافية (مجاهد).

كانت له «نفس» فماتت، أفما يُترَك ليرثي -يا قوم- نفسه؟ يذهب مال الرجل فيبكي ماله، ويُحرق بيته فيندب بيته، وتودي تجارته فيُعْوِل على تجارته، ويهجره حبيبه فيأسى على فقد حبيبه ... وتموت نفسه ويجِفُّ في حلقه لسانه فلا يُطلَق ليبكي نفسه وينوح على بيانه؟! والرسالة طويلة، إلى أن قلت فيها: هذا الشابّ الذي كان يتدفّق حياة ويتوثب نشاطاً، والذي كان له في كل ميدان جولة وكان في كل معمعة فارسها المعلم، والذي عمل للأدب وللإصلاح، وللسياسة وللصحافة، وللتعليم وللتصنيف، والذي عرفته العراق وعرفها، وأحبها وأحبه تلاميذه فيها، وبقي فيهم من يفي له ويذكر عهده وبقي هو وفياً للعراق ذاكراً عهدها. وكان شأنه في لبنان كشأنه في العراق، والذي مشى إلى الحجاز، وكان له في كل بلد أثر في نفوس أصدقائه وفي قلوب الآلاف المؤلفة من تلاميذه، الذين ما انفكّ يوليهم من نفسه وقلبه حتى لم يبقَ له نفس ولا قلب ... هذا الفتى أعادته الأيام بعد هذا كله شيخاً ولم يبلغ الأربعين، ميتاً يمشي مكفَّناً في جبة، وضُيّقت رحاب نفسه حتى أحاطت بها مواد القانون، وحطمت قلمه فتعثر فهو لا يجري إلاّ في حيثيات القرارات وصيغ المخالفات، وصَغُرت دنياه حتى صارت تحدّها جدران المحكمة الأربعة. فماذا -يا سيدي- يرجى منه بعد هذا؟ قضى عليه بلده الذي أحبه وفارق من حبه مصر بعدما بسم له فيها المستقبل عن ثنايا بوارق، ولو أنه بقي في مصر، ومصر

(موطن أسرته الأول) تعرف للأدب حقه وللأدب منزلته، لكان منه اليوم «شيء»! على أن مصر -إن أردت الحق- لا تحب إلاّ أبناءها ولا تبسم إلاّ لهم، وترى واحد الأديب المصري مئة، ومئة غيره لا تساوي عندها واحداً. وإلاّ فخبّرني بالله: لمَ يحتفل نقّادها بأصغر كتاب يصدر فيها ويشتغلون بالكلام عنه الأيام الطوال، ولا يخطّون كلمة ثناء أو نقد للكتاب القيم يصدر في بر الشام أو في العراق؟ وما له يعتب على مصر، وهذا بلده طاشت فيه الموازين وانقطعت الأسلاك وتبلبل الرأي، واختلط الحابل بالنابل والمتحليات بالعواطل، حتى إن الصحف لتجمع على مدح الكتاب وتقريظه وتهلل للشعر الجديد وتصفق، وما ثَمّ إلاّ منكَر من القول قد صيّروه معروفاً، أو ثقيل بارد استحبّوه أو غثّ متهافِت رأوه قوياً بليغاً؛ كأن الأدب صار لهواً وعبثاً، وكأن العربية انحلّت عُقَدها ولم يبقَ لها هذا «الكتاب» تعتصم به، فيحفظ عليها وحدتها ويكون بين أولها وآخرها السببَ الموصول والحبل المتين، فقديمها به حديث أبداً نفهمه اليوم ونتذوقه، وحديثها به قديم لو نشر الله العرب الأولين لفهموه وتذوقوه. وكأن الأديب هو من ينزع عن جسمه جلدَه ليلبس جلداً مصنوعاً في المعامل التي هي (هناك)، ومن يود لو خلع رأسه ليركّب له رأساً فيه عقل من (هناك)، والذي يفرق بالجهات بين الحق والباطل، فما جاء من حيث تشرق الشمس كان باطلاً كله ولو كان الدينَ والأخلاق والشرف، وما جاء من حيث تغيب فهو حق كله ولو كان الكفر والفسوق والعصيان! وحتى إن هذا البلد

لينكر الأديب الصريح الثابت النسب الموصول السبب، ويحفل بكل لصيق دعيّ ... ولكن هل يشكو امرؤ بلدَه وأهله؟ بلادي وإنْ جارَتْ عليّ عزيزةٌ ... وأهلي وإنْ ضَنّوا عَليّ كِرامُ فلا عليكِ يا دمشق ما صنعتِ بمَن لم يكد يحبك أحدٌ مثلما أحبك، ولم يصف من جمالك كاتبٌ مثلما وصف ولا أشاد بذكرك مثلما أشاد، وهذي صديقتنا «الرسالة» أخت «الثقافة» شاهدة على ما يقول؛ لا يمنُّ ويؤذي بالمن، ولكن يعاتب ويشكو. ولئن كتب الله لهذا «الميت» ولادة أخرى (والمرء يولَد فيه كل يوم رجل جديد ويموت رجل قديم) وأعاده إلى الحياة، فليضربنّ إن شاء الله في سماء الأدب بجناحَين مبسوطين، وليطلعن على آفاق لم يرها من قبل، وليحدّثنّ قراء «الثقافة» حديثاً هو أحلى من مناجاة الحب وحديث القلب، وإلاّ يُكتَبْ له ذلك فعليه رحمة الله، وما ضر الناس بفقده (شيئاً)! وهذا اعتذار تضمنته شكوى، فانشره يا سيدي مشكوراً، أو فدَعْه غيرَ ملوم: ولا بُدّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ يُواسيك أو يُسْليك أو يَتَوجّعُ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الذي نُشر هنا هو أكثر هذه الرسالة، وهي منشورة كاملة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

وعلق الأستاذ أحمد أمين على هذه الرسالة في «الثقافة» سنة 1943 (1362هـ) فقال: أرسلَت «الثقافة» إلى الأستاذ الأديب الدمشقي ترجوه الخروج عن صمته والعودة إلى تلحينه، وقد عرفت منه كاتباً قديراً وأديباً متفنناً، فبعث بهذا الكتاب وأباح لنا نشره. ولعل هذا يكون سبباً باعثاً للأستاذ أن ينفّس عن نفسه، ويستعيد قلمه ويمتع القراء بآثاره، ويتحرر من الدنيا الضيقة التي يعيش فيها بين القضايا وكتب القانون وحيثيات الأحكام إلى الدنيا الواسعة، دنيا العواطف ودنيا الناس ومنازعهم ومشاكلهم وإصلاحهم، فما خُلق الأديب وَقفاً على مثل هذه الدنيا الضيقة. والأستاذ يعتب على المجلات المصرية أنها تشيد بالتافه من نتاج مصر ولا تشير إلى الجيد من نتاج الأقطار الأخرى كالشام والعراق، وقد سمعنا هذه الشكوى مراراً، وقد يكون فيها شيء من الحق، ولكن أكبر الظن أنه إهمال غير مقصود، ولعلّ كتّاب الشام والعراق يحملون كثيراً من التبعة، فالكتب الشامية والعراقية تظهر بين أظهرهم وهم أعلم الناس بها وبملابساتها وبقيمتها، فلو كتبوا عنها ونقدوها نقداً قيماً وعرّفوا بها تعريفاً صحيحاً لما تأخرت المجلات المصرية عن نشر مقالاتهم ومشاركتهم في الإشادة بالآثار القيمة منها. و «الثقافة» على الأقل تلتزم هذا وتتعهد به، وتعتقد أنها بذلك تسد نقصاً واضحاً فيها وفي سائر المجلات، وهو عدم إيفاء باب النقد حقه، سواء أكان النتاج مصرياً أو عراقياً أو شامياً. وفي انتظار مقالات الأستاذ نحييه ونشكره. * * *

وكان الأستاذ أحمد أمين قد أجاب قبل هذا التاريخ بعشر سنين (سنة 1933) على سؤال كنت وجّهته إلى «الرسالة» وهو أوّل ما نشرت فيها، فأجاب الأستاذ الزيات جواباً موجَزاً وأجاب الأستاذ أحمد أمين جواباً مفصّلاً، وقد مرّ خبر ذلك. وكان الأستاذ أحمد أمين من أركان «الرسالة» العاملين فيها، فلما انفصل منها وأنشأ مجلّة «الثقافة» (التي صارت الأخت الصغرى للرسالة) تفضّل فكتب إليّ مرتين أن أنشر بعض مقالاتي في «الثقافة». وأنا إن أقبلت على «الثقافة» أمداً فما أعرضت عن «الرسالة» أبداً، ولئن واصلت الأستاذ أحمد أمين حيناً فما انقطعت عن الزيات، وما زلت أعدّه الأخ الكبير المتفضّل، ولكنني لمّا دخلت القضاء وانصرفت إلى كتب الفقه والقانون انقطعت عن الأدب وأهله وعن الكتابة فيه، حتى إن لي في «الرسالة» سنة 1940 مقالة عنوانها «أنا والقلم» (¬1) أقول فيها: أعترف أنها قد جفّت قريحتي فما عادت تبضّ بقطرة، وكَلّ ذهني ومات خيالي، ومرّت عليّ أيام طوال لم أستطع أن أخطّ فيها حرفاً، وعُدت من العيّ والحصر كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجرِ للبلاغة في مضمار. والمقالة طويلة، قلت فيها: وأنا قد بدأت صحفياً لا كاتباً، والصحفي يعيش مع الناس، ¬

_ (¬1) وهي منشورة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

يصف حالهم ويصوّر آلامهم وآمالهم ومتاعبهم ومطالبهم، فهو الطبيب لأوجاعهم، إن لم يداوِها بالعقاقير داواها بحسن المواساة وجميل القول. ومن أوجاع المجتمع ما يكون مثل القولنج، حبة رمل تعترض في الدقيق من مجرى البول، في الحالب، فيكون منها آلام كآلام الأم عند الطلق. لا يستطيع صاحبها أن يستقرّ على حال فهو يتقلّب ويصرخ، فإذا زالت عن موضعها زال الألم دفعة واحدة كما جاء دفعة واحدة. ومن الأوجاع ما هو كالسرطان، لا يذهب حتى تذهب الحياة. لذلك يكتب الصحفي المقالة تتخاطفها أيدي القُرّاء، ومن لم يصل إليها دفع عشرة أضعاف ثمن الجريدة ليطّلع عليها، فإذا مرّ اليوم ونُسي الحادث لم تجد من يباليها أو يفكّر فيها. كتبت في كل موضوع شغل الناس: في الدين وفي الإصلاح وفي السياسة وفي الاجتماع، فإذا هدأت الحياة عندنا قليلاً (وقلّما تهدأ) كتبت في الأدب. وكذلك كنت في دراستي وفي مطالعتي، أقرأ كل شيء ولكن للأدب أكثر أيامي وجلّ اهتمامي، قرأت من كتب الأدب العربي القديم كل الذي وصلَت إليه يدي. قلت لكم من قبل إنني سردت الأغاني سرداً وأنا في أوائل المدرسة المتوسطة، قرأته مرة وحدي ومرة مع رفيق العمر سعيد الأفغاني، الذي كان أبوه الرجل العابد الصالح من كشمير لا يكاد يُحسِن العربية وصار هو اليوم المرجع في علوم العربية والحُجّة فيها، فهو الآن يدرّس في جامعة الملك سعود وما أعرف له في علمه بالنحو نظيراً. ثم قرأت مئات من المجلّدات، وكنت أقتصر أبداً على الأدب

القديم ثم انتقلت إلى الجديد، بدأت بالمنفلوطي الذي كان الأستاذ لنا والقدوة الذي نقتدي به في الإنشاء، وإن لم ألقَه ولم نعرفه، ثم للعقاد والمازني والرافعي والزيّات وحسين هيكل وصادق عنبر، وقرأت أجمل صفحات الأدب الأخرى: أما الفرنسية فأخذتها من نبعتها وقرأتها بلغتها يوم كنت أعرفها وكنت متمكّناً منها، وإن لم أكُن من المتقدّمين بين رفاقي بمعرفتها. وأمّا الآداب الأخرى فقرأت ما تُرجم إلى العربية منها، ومن أحسن ما أفادني ما تُرجم للمنفلوطي فكتبه بقلمه (وإن خرج به عن أصله)، وبعضه كقطعة تأبين فولتير لفيكتور هيغو يعتبر نموذجاً كاملاً للأسلوب الخطابي، لأن هيغو كان أسلوبه خطابياً وكان بارعاً فيه متقِناً له، وكذلك كان المنفلوطي. وأحسب أن فيكتور هيغو لو عرف العربية وكتب هذه القطعة بها لَما جاء بأحسن ممّا جاء به المنفلوطي. أما «العبرات» التي حاول المنفلوطي أن يجعل منها قصصاً فلولا جمال أسلوبها ما كان لها في ميزان الأدب الحقّ ثقل، ذلك لأن الأم التي ترتفع حرارة ولدها وليس عندها أحد، فلا تدري ماذا تصنع له، فيتقطّع قلبها شفقة عليه وحُباً له ... وصف هذه الأم أصعب بمئة مرة ممّا ذهب إليه المنفلوطي، وهو أن يجعل الولد يموت فتموت من حزنها عليه الأم، ويأتي الأب فيفاجأ بالخبر فيُصعق فيموت، ويموت الجيران ويموت أهل الحارة، ويكون وباء عاماً. هذا الذي تشتمل عليه «العبرات»! ومن أجود ما تُرجم إلى العربية من آداب الأمم الأخرى «رافائيل» للامرتين و «آلام فرتر» التي ترجمها الزيات، ثم روايات الجيب. روايات الجيب هذه إن طرحتَ منها حكايات أرسين لوبين

وجدتَ مجموعة من نفائس القصص والأدب العالَمي، كـ «الفندق الكبير» و «الأبيض والأسود» وأمثالهما. فلما انصرفت إلى تدريس الأدب في العراق وفي بيروت غلب على كتابتي -لا سيما ما كتبته في «الرسالة» - الأدبُ الخالص. فلما فكّرت في دخول القضاء وأعددت نفسي للمسابقة التي كانت مفروضة على طالبيه تركت الأدب وأهله وجانبت كتبه، وعكفت عكوفاً كاملاً على كتب الفقه: الفقه المذهبي وغير المذهبي، في مثل كتاب «إعلام الموقّعين» و «زاد المعاد» و «فتح الباري» و «سبل السلام» والكتب التي تبحث في علم الخلاف، وهو ما يُسمّى اليوم في الجامعات «الفقه المقارَن» (ترجمة للكلمة الأجنبية). هنا كان ابتعادي عن الأدب وانقطاعي عن الكتابة، حتى لقد ظننت أني لن أعود إليه أبداً. * * *

الحياة الأدبية قبل نصف قرن (2)

-129 - الحياة الأدبية قبل نصف قرن (2) لامني قوم وقالوا إني أخرج من خطّ الذكريات المتّبَع فلا أسلكه، بل أمشي في طريق جديد. وأنا أعترف بهذا، لأنني لم أُرِد أن أكون كسائق السيارة الذي لا ينظر إلاّ إلى الأمام، بل كراكبها الذي يتلفّت يمنة ويسرة ويرى ما يمرّ به من مشاهد ويصف ما يرى. لست كالجندي المرسَل في مهمّة مستعجَلة فهو يسرع إلى قضائها، بل كالسائح المتمهل الذي يرى ويسمع ليستمتع ويستفيد. لذلك جئت اليوم أكمل الكلام عن الحياة الأدبية قبل خمسين سنة، ألخّص هذه المقالات التي كتبها عن كل قطر أديبٌ من أبنائه، لا أعدّل فيها ولا أبدّل بل أختصر وألخّص وأروي. إنها صورة نادرة تنفع دارس الأدب، ثم إنها تتّصل بذكرياتي لأنها تعليق على إحدى مقالاتي. وليست صورة شمسية (فوتوغرافية) ترسمها آلة جامدة، بل هي لوحة حيّة يعرضها إنسان يحسّ، فتجيء مترجمة عن نفسيّته كما تجيء مصوّرة للأدب في بلده. ولا يشكّ أحدٌ أن الحياة الأدبية في تلك الأيام في سوريا

مثلاً وفي لبنان كانت أحفل وأغنى بالثمرات الأدبية من الأدب في الحجاز، وقرأتم مع ذلك أني لم أعُدّ ما صدر عندنا في الشام من آثار دالاًّ على حياة أدبية صحيحة وعدّ الأستاذ الشبكشي (شفاه الله) ما صدر في الحجاز دليلاً قوياً على حياة أدبية صحيحة، مع أنه لا سبيل إلى المعادلة أو المماثلة بين الأدبَين في البلدَين. ولست في هذه الحلقات ناقداً، بل ناقلاً ما كتب هؤلاء الأدباء من أهل كل بلد عن بلده. * * * وهذه المقالة السادسة عن الحياة الأدبية في فلسطين، يقول كاتبها الأستاذ محمد تقيّ الدين النبهاني: مدارس الأدب في فلسطين مدرستان: مدرسة الشيوخ ومدرسة الشباب. وهذا التقسيم قد يكون طبيعياً، بل قد يكون عاماً لا يمتاز به قطر ولا يستأثر به بلد، غير أنه في فلسطين غيرُه في سواها، فأدب الشيوخ في أكثر الأقطار مطبوع بطابع المحافظة على القديم حتى لدى المجدّدين منهم، وأدب الشباب كَلِفٌ بالجديد حتى لدى المعتدلين من هؤلاء، أما فلسطين ... إلى أن قال: ترى طائفة من الشيوخ أن الأدب في رفض هذا النحو المألوف لدى العرب وتذهب إلى أن كتب النحو وأسفار البلاغة (من أمثال كتب الجرجاني والقزويني حتى اليازجي، وأسفار ابن هشام وابن مالك حتى الشرتوني والجارم) يجب أن تُحرق وينبغي أن تُمحى وأن تكون لغةُ الصحف والكلامُ العادي

هي الأدبَ الحقّ. فكفى المرء أدباً أن يقرأ حتى لو أخطأ رفع المبتدأ ونصب الحال، ما دام هو أو السامع قد فهم مغزى الكلام ... وهذا رأي ينادي على نفسه بالخطل. وتزعم طائفة أخرى أن الأدب في التضلّع من غرائب الكلِم وأنّ من لم يُحِط علماً بذلك لا يُسمّى أديباً ... هذان رأيان من آراء الشيوخ، وهما متناقضان. وطائفة معتدلة ولكنها تقصر علمها وتحصر نهضتها في غرف الدرس وحلقات السمر، لم تُخرِج بعدُ ثمرة ولم تقُم بمجهود ... إلى أن قال: أمّا الشباب ففرقتان: فرقة كان موطن ثقافتها مصر وفرقة رضعَت لبان الأدب في فلسطين ولبنان. فالذين تثقفوا في مصر يرون أن خير طريق لإنهاض الأدب هي الطريق التي تسير فيها جمهرة أدباء مصر، وتعتمد على دراسة النصوص وفهمها ونقدها ... أما الفرقة الأخرى فهي تقصر الأدب على رقيق الغزَل وبارع الخيال في الكلم وما يبدع من مقالات الصحف السيارة، حتى إنهم ليعدّون رئيس تحرير جريدة أديباً إذا ما أنشأ كلمة في علاج شؤون البلاد. إلى أن قال: ولا يحزن القارئ من عرض هذه الصورة، فإن الواقع هو هذا الاضطراب في الحياة الأدبية عندنا، ففلسطين كان أدبها معدوماً وكان أدباؤها غير مخلوقين قبل سنين (وعلّل ذلك بأن الأتراك كانوا يتآمرون على الأدب العربي). وختم مقالته بقوله: بَيد أن هذا الاضطراب والاحتكاك يلمع ببرق أمل في النهضة الأدبية ويبشّر بانتظام حياة أدبية بجهد الشباب والمعتدلين من

الشيوخ، وما هي إلاّ لمحة حتى تتغير الحياة غير الحياة، وتظهر رياض الأدب في هذه البلاد العربية وتؤتي أُكُلها ثمراً شهياً. * * * المقالة السابعة عن الحياة الأدبية في المغرب بقلم محمد عبد المجيد بن جلون. يقول فيها: وبعد، فما هي حالة الأدب العربي في المغرب اليوم؟ لقد أجهدت نفسي في أن أصل إلى جواب أطمئنّ إليه عن هذا السؤال، فما وجدت الحقيقة إلاّ في أنها حالة ضعيفة. فما هي الكتب الأدبية بالمعنى الصحيح التي يصدرها المغرب؟ أعفِني بربّك أيها القارئ، فالحقيقة مُرّة وقلبي يضطرب عند ذكرها اضطراباً. وإذا عدمنا الكتب فلنتساءل عن الصحف. إن كلّ ما يُصدِره المغرب مجلّتان أدبيّتان: الأولى مجلّة «المغرب» للأستاذ محمد الصالح نيسة برباط الفتح، والثانية «المغرب الجديد» للأستاذ محمد المكي الناصري بتطوان. اجتازت الأولى مرحلة أربع سنوات والثانية أتمّت سنتها الأولى من قريب، فما قيمة ما تنشر هاتان المجلّتان؟ أوّلاً يجب أن تعلم أن المجلاّت المصرية طغت عليهما إلى درجة أن إحداهما لا تُباع في فاس لأنها فقدت المشتري بالمرّة، وهما معاً تصدران شهرياً، فلننظر الآن إلى ما في هذه المجموعات. أما ما يُسمّى بالبحث الأدبي ففيها الكثير، خصوصاً حول الأدب العربي في المغرب قديماً، فهذا البحث الذي يتابع نشره

الأستاذ محمد علال الفاسي على الطريق الحديثة، عن أبي عليّ اليوسي، وبحثه القيّم يبهر القارئ. وهو يكتب الآن بحثاً عن أثر شعر المتنبّي في المغرب بمناسبة ذكراه الألفيّة. إلى أن قال: أما إن بحثت عما يُسمّى بالإنتاج الأدبي فذلك ما لا تعثر عليه، فليس يدور بخلد المغربي أن يعالج القصّة بل القصّة عنده لهو وعبث يجب أن يضنّ عليه بوقته الثمين. وهنالك شعر قليل، ولكنه نَظْم ليس إلاّ، ذلك أن المغاربة يجهلون الشعر تماماً ... وما عندهم إلاّ تقليد لما مضى ومعانٍ مفكّكة، وهم ضعفاء الخيال. وهنا أستثني شاعر شبابنا الأستاذ محمد علال الفاسي. إلى أن قال: والنهضة المغربية تقوم على أكتاف الشباب، فالشباب الناشئ الذي يقرأ ما يكتبه أفذاذ الشرق قد اعتدلت أفكاره نوعاً من الاعتدال ... والعقلية المغربية أقرب إلى العلم منها إلى أي شيء آخر، خصوصاً ما في جامعة القرويين من دروس جامعة، مع اعترافنا بما فيها من نقص وما تحتاج إليه من تهذيب. إلى أن قال: بقي أن نقول إن «القرويين» والمدارس الحكومية والقومية كلها تُحمَد وتُعاب، غير أن أفضل معهد للدرس هو «القرويين». ولو كان أبناء «الكوليج» و «مولاي إدريس» يشتغلون بالعربية لكانوا أنجب من أبناء القرويين. * * * المقالة الثامنة عن الحياة الأدبية في الحجاز أيضاً للأستاذ عبد القدوس الأنصاري. قال فيها:

كانت الحياة الأدبية عندنا فيما قبل الحرب العامّة الماضية تجري على سنن أدباء القرون الوسطى جرياً تقليدياً مَحضاً ميكانيكياً خالصاً، قصائد غزل ورثاء ومدح وهجاء وتطريز وتشجير، ورسائل معذرة وإطراء وعتاب وتواصل وتقاطع. وكانت كل هذه الرسائل وهاتيك القصائد منهوكة القُوى المعنوية، بما تحمله دواماً من أغلال السجع المرهِقة وأثقال المحسِّنات البديعية الجافّة، التي كان لها في الأدب عامّة المقام الأول. أمّا المعاني فهي في الدرجة الثالثة أو الرابعة. إلى أن قال: فلما وضعَت الحرب أوزارها استيقظ في نفر من ناشئة الحجاز المتعلّمين روح النهوض، وشعروا أن أدبهم قد أخنى عليه التقليد وأفسده داء الجمود. إلى أن قال: إلى أين نتّجه؟ هنا شاهدنا سببَين ممدودَين إلينا من أقطار العروبة الناهضة، وكل منهما له مغريات: هذا الأدب المصري يجذبنا بنصاعة أسلوبه وقوّة ترتيبه، وهذا الأدب المَهجري يسحرنا بمرونة أسلوبه وبسهولة تعبيره. كان طبيعياً والحالة كذلك أن يحصل انقسام في اتجاه حياتنا الأدبية. ففي المدينة المنورة كان منّا إجماع على اعتناق الأدب المصري أسلوباً وتفكيراً، وفي مكّة وجدّة تمسّكَت طائفة بذيول الأدب المهجري وأخرى اعتنقت الأدب المصري، وكلٌّ سار في اتجاهه يكتب ويفكّر، حتى كان تفاعل فكريّ في الآونة الأخيرة أنتج توحيد مناهج الأدب الحجازي في انتهاج سبيل الأدب المصري وحده. إلى أن قال: على أن حياتنا الأدبية -بسبب حداثة عهدها

ولكونها نتيجة ثقافة محدودة- فإنها ما تزال في حاجة إلى الإصلاح والتغذية وإلى التنظيم والنضوج. فالاضطراب الفكري والارتجال الكتابي ظاهرتان ما تزالان تلازمانها فيما تنتجه من ثمار. ولقد خطَت حياتنا الأدبية خطوات مباركة في سبيل النشر والتأليف، فمع وجود كثير من العقبات والحواجز قد ظهر في عالَم المطبوعات كتب أدبية حجازية، منها كتاب «أدب الحجاز» وكتاب «آثار المدينة المنورة» ورواية «التوأمان» و «إصلاحات في لغة الكتابة والأدب» و «تاريخ العين الزرقاء» و «حياة سيد العرب». وفي الحجاز اليوم صحيفة أدبية هي الأولى من نوعها وهي «صوت الحجاز» التي تصدر بمكّة، وهذه الصحيفة هي المنبر الوحيد الذي يتبارى من فوقه حَمَلة الأقلام في الحجاز، وفي نيّة بعض إخواننا من أدباء المدينة وشبابها إنشاء صحيفة في المدينة كصوت الحجاز، نرجو لهم التوفيق. وخلاصة القول أن في الحجاز اليوم حياة أدبية وإحساساً أدبياً زاخرَين بالآمال. * * * المقالة التاسعة عن الحياة الأدبية في شرق الأردن (لمّا كتبت هذه المقالة سنة 1355 لم تكن قد أُسِّست المملكة الأردنية الهاشمية، وإنما كانت إمارة شرقيّ الأردن فقط وأميرها هو الأمير عبد الله بن الحسين الهاشمي). جاء في هذه المقالة: لم تكن بلاد ما وراء الأردن منذ خمسة عشر عاماً إلاّ جزءاً من سوريا لا ينفصل، فهي بلاد فتيّة في تكوينها السياسي وفي نهضتها

الأدبية والاجتماعية. أمّا والمقصود من هذا المقال النهضة الأدبية فلنقتصر عليها، تاركين البحث في السياسة والاجتماع لعلمائهما. في شرق الأردن حياة أدبية جديدة لم يكن لنا عهد بها، فكان أوّل عمل قامت به الحكومة فتح المدارس الأميرية ... فتولّد من ذلك روح ويقظة جديدتان. كانت الحياة الأدبية قبل ذلك راكدة والنفوس فاترة، فلم تنبعث إلاّ بتأليف حكومة سموّ الأمير المعظم، عند ذلك دخلَت البلادَ فئةٌ راقية من أدباء الأقطار المجاورة، وخاصة سوريا، فكان دخول هذه الفئة البلاد باعثاً كبيراً على إحياء الأدب العربي وإحداث نهضة فكرية مبارَكة. فكان مثلاً لقصائد الشيخ فؤاد باشا الخطيب، شاعر الثورة، والأستاذ محمد الشريقي وغيرهما من الأدباء الذين رافقوا الثورة العربية أثر كبير في إحياء الآمال في نفوس الأحداث. ثم بيّن أن الحكومة عملت أيضاً على إرسال البعثات العلمية سنوياً إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرها من المعاهد العالية في سوريا وفلسطين. وتنبّه الشعب الأردني إلى فضل الأدب والعلم في نهضات الشعوب ... كلّ ذلك كان يحدث بينما الصحافة المصرية تغذّي نفوس الأحداث بأدبها الراقي وعلمها الصحيح، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان للرسالة خاصة أثر ملموس في إحياء النهضة الفكرية وتشجيع الحياة الأدبية، لإقبال الطلاب على مطالعتها إقبالاً شديداً. إلى أن قال: ونحن نرى طلائع هذه العوامل في تكوين النهضة الأدبية في قيام فئة قليلة من حَمَلة الأقلام النثرية، كأديب

عباسي والدكتور أبو غنيمة وبشير الشريقي وعبد الحليم عبّاس، وشعرية أمثال مصطفى وهبي التل شاعر النّوَر (أي الغجر) والشيخ رشيد بك وغيرهم من الأدباء الأحداث. لكن شرق الأردن يمتاز عن الأقطار العربية الأخرى بنوع خاصّ من الأدب، أعني به الشعر البدوي ... والشاعر البدوي شاعران: شاعر راوية يحفظ -على أُمّيته- كَمّية وافرة من القصائد المختلفة ويُلقيها في شتّى المناسبات، كمجالس الشيوخ والأفراح المختلفة من مولد وختان وعرس. وشاعر منشئ مبتكر. وعدد الفئة الأخيرة قليل جداً إذا قيس بالفئة الأولى. إلى أن قال: وأقتصر هنا على ذكر فريق من الشعراء البدو المخضرَمين، نخصّ منهم بالذكر نمر العدوان، وقصيدته في رثاء زوجه مشهورة تتناقلها الألسنة في كل مكان. وجاء في المقالة بأمثلة كثيرة من الشعر البدوي وشرحها وفسّرها، ومنها ما يعدل في جودة معناه أبلغ الشعر الفصيح. * * * المقالة العاشرة عن المغرب الأقصى للأستاذ ع. ك. (ولعلّه عبد الله كنون)، يقول فيها: أما وقد قرأت في مجلّة «الرسالة» الغرّاء مقالة عن الحياة الأدبية في دمشق بقلم علي الطنطاوي وعن الحياة الأدبية في بغداد، إلخ، ورأيت في أكثرها التبرم والتشكّي من ضعف الحياة الأدبية، كلّ في بلده، ومن تصوير مظاهر الضعف في هذه الحياة التي

كادت تُزري بتقدّم البلاد من النواحي الأخرى. أمَا وقد قرأت هذا فيحسن بي أن أضمّ صوتي إلى أخوَيّ الدمشقي والبغدادي وإخوتي الآخرين، فأكتب كلمة عن الحياة الأدبية في المغرب ليعرف القُرّاء أن المغرب قد اغترف غرفة ممّا غرفت منه دمشق وبغداد. إلى أن قال: إذا نظرنا إلى المغرب الحديث وأردنا أن نسبر غور الحياة الفكرية والعلمية والأدبية بمسبر نعرف به مدى ما بلغته من الرقيّ أو الانحطاط، من القوة أو الضعف، من النهوض أو الجمود، إذا أمعنّا النظر استطعنا أن نخرج بنتيجة لا تُرضي. تلك النتيجة هي -في صراحة- أن المغرب الأقصى يتخبّط في ديجور من الجهل قاس، وفي بساطة فكر مفرطة، وفي خمود وجمود لم يسبق لهما مثيل في عصوره التاريخية. إذا تساءلنا: هل هناك حركة فكرية أو علمية تسود المغرب الأقصى حتى يجني من ورائها ما يزيح به هذه الظلمة التي تغمره من أقصاه إلى أقصاه؟ لم نجد إلاّ كلّية القرويين التي أنجبَت فطاحل علماء المغرب. نخرج بالنتيجة الآتية، وهي أن الحركة التي نبتغي البحث عنها وعن مظاهرها هي شيء لم يوجد حتى الآن، غير أن هناك شبح حركة علمية تغذّيها كلية القرويين ونظامها الجديد، ولكن على حال مشوَّهة لا تُرضي، ولن تُرضي إذا بقيَت الحال كما نرى. فإذا ما أطلقنا عليها «حركة علمية» فقد عرّضنا أنفسنا لظلم الحقيقة والتاريخ. إلى أن قال: أمّا الحياة الأدبية فليست أحسن حالاً من الحياة العلمية، بل إننا نجدها أضعف منها وأحطّ بكثير ولم نجد هناك

مايُطلَق عليه اسم الحياة الأدبية ... فهذه المطابع الشرقية تظهر علينا من حين لآخر بعشرات الكتب الجديدة، الأدبية والعلمية، بأقلام أدباء شرقيين وخاصة في مصر، فأين هي آثار المطابع المغربية من ذاك؟ وأين هي المجهودات الأدبية للأدباء المغاربة أمام مجهود الشرقيين على العموم والمصريين على الخصوص؟ فهذا العالَم العربي يطلع علينا كل يوم بمئات الصحف والمجلاّت الأدبية والعلمية فيظهر فيها من المقدرة على البحث الأدبي والإنتاج العلمي ما ينبئنا بقوّة حياته الأدبية وبلوغها أوج الكمال، فأين هي الصحف والمجلاّت المغربية الأدبية؟ وأين هو إنتاج المغاربة الأدبي وبحثهم العلمي؟ وهذه الأندية الأدبية في الشرق تُخرِج لنا كلّ يوم محاضرات قيّمة تغذّي بها الأفكار، فأين هي الأندية المغربية وأين هي آثارها؟ ثم بحث في أسباب هذا الضعف، فتبيّن له أن السبب الأول هو الضعف في التعليم، وبيّن أن المغرب ليس فيه من المعاهد التي تغذّي الحركة الأدبية إلا كلّية القرويين (جامع القرويين) التي يتكفّل برنامجها الجديد بتخريج أدباء بل أساتذة في الأدب العربي، وهم الذين تخرّجوا في القسم العالي الأدبي، وهؤلاء يمكن أن نعلّق عليهم الأمل في بعث حركة أدبية في المغرب. والثاني هو الصحافة. وبيّن أثر الصحافة في الأدب وفضلها عليه، ثم قال: المغرب الأقصى من جملة الشعوب التي لم تَحظَ حتى الآن بصحيفة أدبية

أو علمية سوى جريدة «السعادة»، لسان الحكومة الرسمي وناشرة أخبارها ومقرراتها. ويرجع هذا السبق الصحفي في المغرب إلى القانون الجائر الذي وُضع للصحافة في المغرب (إن صحّ لنا أن نسمّيه قانوناً). وهذا القانون يمنع إصدار جريدة أو مجلّة عربية إلاّ بعد الإذن من الصدر الأعظم (رئيس الوزارة)، وله الرجوع عن هذا الإذن في أيّ وقت شاء، ولرئيس الجيش الأعلى أيضاً تقديم تقرير بمنع الصحيفة فينفَّذ أمره بلا استثناء. وقد أُنشئت صحف في منطقة النفوذ الإسباني فطوردَت في منطقة النفوذ الفرنسي، ذلك أن المستعمرين قسموا المغرب إلى ثلاث مناطق: المنطقة السلطانية أو منطقة النفوذ الفرنسي، المنطقة الخليجية أو منطقة النفوذ الإسباني، المنطقة الدولية. نعم، هناك مجلّة علمية تصدر شهرياً في تطوان باسم «المغرب الجديد» نعلّق عليها الآمال في بعض الحياة الأدبية في المغرب. أمّا مجلّة «المغرب» التي تصدر شهرياً في رباط الفتح فليس يعنيها من الناحية الأدبية والعلمية شيء، وإنما يهمّها الخبز والتعليم على حدّ تعبيرها. والسبب الثالث المشروعات الأدبية. وقد بيّن أن بعض الأدباء حاولوا أن يخطوا بالمغرب خطوة في هذا السبيل، فكان من آثارهم حفل الذكرى الأربعين لخالد الذكر أحمد شوقي بك، وحفل الذكرى الألفيّة لأبي الطيّب المتنبّي (أقيمت في فاس في 25 رمضان الماضي، أي سنة 1354). وهي خطوة حميدة في هذا الباب، غير أن هذا العمل الضئيل لا يكفي في بعث الحركة الأدبية وإيقاظها.

والسبب الرابع لضعف الحياة الأدبية هو البخل على الأدب، أعني عدم وجود الناشرين لهذا الأدب الذي نودّ أن يُبعَث. فمن دواعي النشاط الأدبي أن يجد الأديب (الذي يقف قسطاً من حياته على تأليف كتاب أو نظم ديوان) ناشراً يُبرِز مجهوداته إلى الوجود ويُخرِجها إلى الناس، ليعرفوا مقدار عمله وليكون ذلك مشجّعاً على المضيّ في سبيله. والمغاربة مع شديد الأسف ليس فيهم مَن يُشفِق على هذه الحياة الأدبية وينظر إليها بعين العطف والحنان فيقف قسطاً من ماله على نشر الكتب الأدبية والدواوين الشعرية أو يقدّم جائزة مثلاً لمن يؤلّف كتاباً في الأدب، مع أن فيهم الأغنياء الذين يستهلكون ثروتهم في شهواتهم فقط. إلى أن قال: فهذا شاعر الشباب الأستاذ محمد علال الفاسي يودّ أن ينشر ديوانه «روض الملك»، ولكن أين هو الناشر؟ هذه جملة الأسباب التي تُعين على ضعف الحياة الأدبية في المغرب، أجملنا القول فيها إجمالاً لنعلّل فقط هذا الضعف المزري في حياتنا الأدبية، وليظهر للقارئ السبب الداعي لخمود الحركة الأدبية في المغرب. * * * المقالة الحادية عشرة عن الحياة الأدبية في تونس. وضعوا في أعلاها جملة من مقالتي هي قولي: "يجب أن يصف أدباء كلّ قطر من الأقطار الحياة الأدبية في قطرهم ومبلغ قوّتها أو ضعفها، لنتعاون جميعاً على علاجها ومداواتها". وفيها: الكلام عن الحياة الأدبية في تونس يشمل الكلام عنها من

ناحيتين مختلفتين، فإن كان المراد بالحياة الأدبية كثرة المشتغلين بالأدب والمهتمّين بالحديث عن رجاله والمُقبِلين على مجالسه ونواديه والمطالعين لكتبه ومجلاّته، ففي تونس حياة أدبية لا بأس بها. أمّا إذا أردنا الإنتاج الأدبي والمجهود الفردي لخدمة الأدب بواسطة التأليف والنشر، فتونس ليس لها حياة أدبية تليق بمكانتها التاريخية ومركزها الجغرافي في إفريقيا الشمالية ... إلى أن قال: أمّا الشعر فهناك في تونس شعراء كثيرون ودواوين شعرية مطبوعة، كديوان خزندار وديوان سعيد أبوبكر وديوان مصطفى آغا، ومجموعة للأدب التونسي المعاصر في أربعة أجزاء جمعها زين العابدين السنوسي صاحب مجلّة «العالَم العربي» وترجم فيها لما يزيد على ثلاثين شاعراً واتخذ من شعرهم منتخَبات. ولكن الشعر التونسي في مجموعه لم يبلغ من القوّة والابتكار والاستقلال الفكري والمميزات الفردية وظهور الشخصيات القوية ما يجعله يقوى على تحمّل المقارنة بالشعر العالي أو أن يُنعَت بالأدب الرفيع. ومن سوء حظّ تونس أن الفرد الوحيد الذي استطاع أن يعلو بشعره إلى مكانة الشعر الراقي ويضاهي به أنبغ شعراء العرب قد مات في العام الماضي في ريعان الشباب، وبكته تونس في حفلة رائعة اشترك فيها كثير من أبناء العربية (يريد أبا القاسم الشابي). والشعر التونسي المعاصر يسيطر عليه تقريباً الشعراء الشيوخ، وهم الذين يقتفون فنون الشعر القديم. أمّا الشعراء الشباب فيغلب على شعرهم الميل إلى التجديد في المعاني والأغراض، وحتى الأوزان والأساليب. ولكن الذي يُعاب عليهم هو غَلَبة أسلوب

الجرائد ومواضيعها على أدبهم، وفقرُ شعرهم من المعاني القوية والصور الشعرية، واحتياجُهم الثقافة العامّة القائمة على سعة الاطلاع والإحاطة بتاريخ الحركات الأدبية والفكرية في مختلف العصور. ويُعاب عليهم أيضاً هذا النوع من الأدب الباكي الذليل، فلا يكاد أحدهم يجدّ في نظم الشعر حتى تراه ينظم في البؤس وتوابعه ويتشاءم من كلّ شيء في الحياة. ونحن نقبل هذا النوع من الكهول والشيوخ الذين دخلوا معركة الحياة وتمرّسوا بآفاتها، ولكننا نرفضه من الشباب لأن الشباب أمل وعزيمة وحبّ للغلبة والكفاح. وفي تونس الكتابة كثيرة، فأية كتابة عندنا وأيّ كتاب؟ نقول في الجواب: يوجد عندنا الكاتب الاجتماعي والمؤرّخ والصحفي، وقد نُشر في تونس هذه السنوات الأخيرة كتب بعضها في التاريخ ككتب الأساتذة حسن حسني عبد الوهاب وعثمان الكعاك وأحمد توفيق المدني، وبعضها في الأدب والاجتماع ككتاب أبي القاسم الشابي عن الخيال الشعري وكتاب الطاهر الحداد عن المرأة وكتاب محمد المرزوقي عن مسائل من الفنّ والجمال. وهناك خمس صحف أسبوعية وجريدتان يوميّتان ومجلّة أدبية لم يستطع صاحبها أن ينفخ فيها الحياة، فهي تُحتضر منذ سنوات. وعدا ذلك فليس في تونس من يمثّل تمثيلاً مشرّفاً أدب القصّة والمسرح وأدب الأطفال والأدب القومي، وكذلك الناحية النقدية والعلمية في الأدب، وتاريخ تونس لمّا يكتب. إلى أن قال: أمّا المعاهد الثانوية والعالية فهناك جامع الزيتونة الأعظم، والمدرسة الصادقية، والمدرسة العليا للآداب

واللغة العربية. أمّا جامع الزيتونة فهو حصن العربية الأشمّ، وهو بمثابة الأزهر في مصر، وخريجوه الصفوة من العلماء والحُكّام والقُضاة، وهم الطبقة الوحيدة ذات الثقافة العربية المحضة. أمّا المدرسة الصادقية ومدرسة اللغة والآداب العربية فإن الدراسة تقع فيهما باللسانَين، وربما غلبت فيهما الثقافة الفرنسية على العربية. وفي هاتين المدرستين تخرّج جلّ كبار موظفي الإدارة الفرنسية ومترجميها، وعن طريقهما سافرَت البعثات التي تتكوّن اليوم منها نخبة طيّبة من الأطباء والمحامين والمهندسين. ولكن أطباءنا ومحامينا ومثقَّفينا قلّما يكتبون أو يؤلّفون بالعربية، وكم كنّا نودّ لو أن دكاترتنا كانوا كدكاترة مصر الذين قامت على سواعد أكثرهم نهضة مصر العلمية والأدبية. أمّا المؤسّسات الأدبية فهناك الجمعية الخلدونية، وهي أقدم المؤسّسات التونسية، ثم جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية، وأخيراً جمعية الكُتّاب والمؤلّفين. فأما الخلدونية وقدماء الصادقية فأغلب نشاطهما منصرف إلى تنظيم المسامرات الأدبية والعلمية وإقامة الحفلات لإحياء ذكرى نوابغ الأمة العربية في القديم والحديث. وأمّا جمعية المؤلّفين والكتّاب التونسيين فإنها افتتحَت أعمالها بإقامة حفلة ذكرى الشاعر العبقري المرحوم أبي القاسم الشابي، ثم لم تفعل بعدها شيئاً إلى الآن. ثم بيّن أسباب هذا الركود فحصرها في سببَين: الأوّل قِلّة القُرّاء في الأوساط الشعبية نظراً للأُمّية الغالبة على السواد، ثم جهْل كثير من الشباب بلغته القومية أو مصادر معارفه التي لا تسمح له بالاستفادة من الأدب والصحف الجدّية (يعني غلبة معرفته باللغة

الفرنسية على إلمامه باللغة العربية). الثاني عدم وجود مَن يأخذ بيد الأديب إذا هو أراد أن يُنتِج وينشر. إلى أن قال: والخلاصة أن الأدب في تونس لا يعدو كونَه رواية من الروايات، ولا يوجد الأديب المحترف، وإن وُجد الصحافي والمؤلف فإنه يقاسي الأمرّين من فقدان الناشر والقارئ بالعربية. وليس هناك من المشجّعات للأديب ما يجعله دائم الإنتاج والعمل، فلا مكافآت ولا جوائز، ولا مجلاّت لنشر آرائه، ولا حُرّية لمن أراد أن يفكّر باستقلال. والأصوات التي ارتفعَت في تونس وترقّب منها كلّ مخلص أن تكون في يوم من الأيام مدوّية في العالَم العربي خرست وصمتت لتكاتف هذه العوامل عليها. * * * لقد خرجت عن الموضوع الأصلي للذكريات لأقدّم للقراء هذه الصورة الشاملة التي يستخلصونها من هذه المقالات للأدب العربي قبل خمسين سنة، لعلّ بعض طلبة الدراسات العالية يُعِدّ أحدهم رسالة للماجستير أو الدكتوراة في هذا الموضوع، فيأخذ هذه المقالات ويتوسّع فيها ويترجم لمن وردت أسماؤهم خلال سطورها، وتكون مفتاحاً له يفتح له باب هذا الموضوعُ فيكون منه -إن شاء الله- دراسة شاملة، ومقابلة بين ما كان عليه الأدب في هذه البلاد وما انتهى إليه الآن. * * *

أنا والقلم

-130 - أنا والقلم تيقّنت الآن أن مثل هذه الذكريات لا موضع لها في الجريدة اليومية، لأن الجرائد إنما وُجدت لتُظهِر ما يُضمِر الناس في قلوبهم من ألم يضيقون بحمله أو أمل يشوقهم تحقيقه، ولتكون مرآة لحياتهم وصدى لأحاديثهم فيما بينهم، تكتب لهم ما يهمّهم من أحداث يومهم ومطالب غدهم. فهم يشترونها ليقرؤوا فيها أنباء السياسة وأهلها، والدنيا وأحداثها، وغرائب الوقائع وطرائفها، وكلّما كان الخبر أكثر إثارة للقُرّاء كانوا أشدّ حرصاً عليه وميلاً إليه. هذه هي الحقيقة. فما الذي يهمّ الناس ممّا وقع لي أنا قبل خمسين سنة؟ ثم أرجع فأقول لنفسي إني أسرد اليوم تجرِبتي في ميدان الكتابة والإنشاء، أفليس في القُرّاء من يرغب في معرفتها؟ أو ليس مِن الراغبين فيها مَن يستفيد منها؟ إنّ شُداة الأدب وطُلاّب الإنشاء كثير، وليس يخلو ما وقع لي -إذا سردت خبره- من نفع لهم يدلّهم سردُه على ما فيه من خير ليأخذوه وما فيه من شرّ ليجتنبوه. ولا تمنعني فضيلة التواضُع من ذِكر حقيقة معروفة لست أدّعيها دعوى ولكنني أقرّرها تقريراً، هي أنني اتّبعت في الكتابة

أسلوباً يكاد يكون جديداً، عُرف بي وعُرفت به، وما كان في أساتذتي الذين قرأت عليهم ولا في الأدباء الذين قرأت لهم وأفدت منهم مَن له مثله حتى أقلّده فيه وأتّبع أثره، وإن كان فيهم من هو أبلغ مني وأعلى درجة في سُلّم البيان. كما أن صديقي ورفيق طريقي أنور العطار رحمه الله كان له في الشعر أسلوب تفرّد به، قلده فيه كثير وما قلّد هو فيه أحداً. فمن أين جئت بهذا الأسلوب؟ أعترف أنه ليس عندي جواب حاسم على هذا السؤال، فأنا لا أعرف مِمّن أخذته ولا عمّن نقلته. إن أساتذتي الذين قرأت عليهم ليس فيهم مَن ترك أثراً أدبياً يحشره في زُمرة الكتاب، حتى العلماء منهم الذين أخذت جلّ علمي بالعربية وفنونها عنهم، كالجندي والمبارك؛ فالمبارك (رحمه الله ورحم الجندي) ما كان كاتباً قط، لا ادّعى هو ذلك ولا ادّعاه له ولد ولا تلميذ، على أنه كان إماماً في اللغة صدراً بين الرواة، والجندي ليس دونه في اللغة والإحاطة بها وهو فوقه في الأدب، لم يكتب إلاّ كتابة علمية بعيدة عن الأدب المحض. فكان كلاهما عالِماً بالأدب ولم يكن أديباً، حتى إن الجندي -على سنّة كبار علماء الأزهر وأمثالهم من علماء الأقطار العربية- يقرّرون القواعد ويقوّمون المعوَجّ ويعرفون وجه الصواب، فإذا كتبوا جانبوه. ولمّا أراد مدير الأوقاف العامّ جميل بك الدهان (وكان بمثابة الوزير لأن الأوقاف لم تكن قد صارت وزارة) لما أراد أن يُصدِر مجلّة جمع لها أدباء الشام جميعاً وجعل رياسة تحريرها لأستاذنا سليم الجندي. وكنت أنا محرّراً عنده، وجدته كتب مرة في افتتاحية المجلّة كلمة «مواضيع»، مع أنه لمّا ردّ على اليازجي في كتابه

«لغة الجرائد» وألّف في ذلك كتاباً سَمّاه «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» كتب فيه فصلاً طويلاً في منع جمع موضوع على مواضيع وبيّن أن الصواب فيها «موضوعات»، فلما جاء يكتب نسي ذلك. فعلّقت على مقالته بهذه الجملة: "قوله مواضيع خطأ صوابه موضوعات، كما قرّر ذلك أستاذنا سليم الجندي في كتابه إصلاح الفاسد" ... فكانت نكتة. * * * فمن أين قبست هذا الأسلوب الذي أكتب به؟ لم آتِ به ثمرة بلا شجرة، فما تكون الثمار إلاّ من الأشجار، ولا أوجدت شيئاً من غير شيء، فما كان موجودٌ من معدوم إلاّ إن قال له الله كُن فيكون. وما منّا إلاّ مَن تأثّر بغيره وأثّر في غيره، والدنيا أخذ وعطاء، وما مثالنا إلاّ كتاجر فتح دُكّانه على طريق القوافل يوم كانت التجارة مقايضة ومبادلة ولم تكن وُجدت نقود: يمرّ به المسافرون دائماً، وكلّما مرّ به أحد أخذ منه سلعة وأعطاه بدلها سلعة أخرى، ولبث على ذلك أكثر من خمسين سنة فاجتمعَت عنده مئات من الأشياء من كل صنف وكلّ لون، فهل ترونه يعرف كلّ شيء منها مِمّن أخذه ومتى أخذه وما الذي أعطاه بدلاً منه؟ هذا مثالي ومثال من كانت حاله كحالي؛ ما قرأت كتاباً، ولا جالست عالِماً ولا أديباً، ولا سمعت خبراً، ولا رأيت سروراً ولا كدراً، ولا نزلت بلداً ولا قابلت أحداً، إلاّ ترك في نفسي أثراً. فهل أقدر أن أُحصي كم قرأت من الصحف، وكم لقيت من الناس، وكم رأيت من المسرّات والأحزان، وكم قصدت من الأقاليم والبلدان؟ كان لكل ذلك أثر في تفكيري، وفي مشاعري،

وفي أسلوبي. وإن لأسلوب كل كاتب سمات عامّة نستدلّ عليه بها؛ فبين سطورها وفي تضاعيف جُمَلها وكلماتها، وطريقة صفّها ورصفها، وطول جُمَلها أو قصرها، وسهولتها أو وعورتها، وقُربها من الحقيقة أو ضربها في طرق المجاز ... في كل ذلك إمضاؤه واسمه، إن لم يكتبه في ذيل المقالة صريحاً كتبه هنا تلميحاً وتلويحاً. ومن الأساليب ما يكون كالفتاة الشابة تبدو للنساء بوجهها الذي وهبه الله لها، تخرج به كما هو بحسن البداوة الذي وصفه المتنبّي. والتي تُجمّله أو تُبدّله بالأصباغ، فتُورِّد خدّيها المُصْفَرَّين، وتتّخذ لها رموشاً ليست لها، وتستبدل التكحّل بالكحل الذي حُرمت منه، وتغطّي شعرها المجعّد بشعر مصنوع سبط. وكم بين كاعب غضّة الإهاب ليّنة الأعطاف تتفجّر شباباً وصحّة وجمالاً، وبين نَصَف: وإن أتوكَ وقالوا إنّها نَصَفٌ ... فإنّ أطيبَ نصفيها الذي ذهبا نَصَف غطّت ما فعلت بها السنون بالأصباغ والدهون، وطمسَت ما عراها من بوادر الدمار بما حوى دُكّان العطار: وهل يُصلِح العطّارُ ما أفسدَ الدهرُ؟ لا، ولا يصلحه المزيّن ولا الحلاّق. هل تعدل بسيارتك الجديدة التي خرجت الآن من الوكالة سيارة أكل عليها الدهر وأكل منها، وإن أدخلتها المرأب ونجّدتَ فرشها وصبغت سطحها؟ * * *

لذلك كان أفضل ما كتبت -في رأيي- ما كنت أنطلق به على سجيّتي وأساير طبعي، فأكتب بلا تكلّف ويقرأ الناسُ ذلك بلا تعب، وأسوأ ما كتبتُه ما كنت أتصنّع فيه وأحتشد له وأريد أن آتي بما أحسبه رائعاً، فأتعب أنا بكتابته ويتعب القارئ بقراءته. ويبدو النوعان فيما نشرت إلى الآن (¬1). والذي نشرتُ إلى الآن وطُبع وهو في أيدي الناس يزيد على أربعة عشر ألف صفحة، منها ما أودعتُه كتبي التي أصدرتها ومنها ما بقي في مجلاّت عرفتها وحفظتها، ومنها ما نسيت أين نُشر ولم أحتفظ بالجريدة ولا ¬

_ (¬1) لو سُئلت لقلت إن قديم علي الطنطاوي يكاد يكون كله من النوع الثاني الذي وصفه آنفاً، هذا الذي يَتعب القارئ بقراءته ويقف فيه عند هذه الكلمة أو تلك يبحث عن معناها في المعاجم، أما جديده فمن النوع الذي قال إنه ينطلق فيه على سجيته بلا تكلف. لقد أحسستُ بذلك دائماً وأنا أقرأ كتابات جدي رحمه الله، ثم أحسست به أكثر لمّا جئت أجمع كتاباته التي لم يُخرجها في حياته في كتب؛ فكلما أوغلَت المقالةُ في الزمن وجدتُني أكثرَ حاجةً إلى التعليق عليها بما يُذهب غرابة مفرداتها ويُفهم القارئ غوامض ألفاظها، فتخرج المقالة الواحدة بالعدد من الحواشي. أما الجديد فلا أكاد أجد بي حاجة لشيء من هذا إذا اشتغلت به. وليس يسع المرءَ أن يحدد خطاً فاصلاً في السنين انتقل الأسلوب عنده من هذا المنهج إلى ذاك، فكل انتقال في الدنيا يتم متدرّجاً، لكن يمكنني أن أحدد الخمسينيات تحديداً عاماً لهذا التحول؛ فما كان من كتابات علي الطنطاوي في الأربعينيات والثلاثينيات فأكثره من النوع الصعب وفيه تصنّع أو تكلّف (كما قال هو عن نفسه هنا)، ثم لا تكاد تجد من هذا كله شيئاً فيما كتبه منذ أواخر الخمسينيات إلى آخر عمره رحمه الله (مجاهد).

المجلّة فضاع، ومنها كتب لا تزال مخطوطة. ولمّا جئت أجمع مقالاتي، أضمّ النظائر والأشباه أؤلّف من كل زمرة كتاباً، كان من أقرب كتبي إلى الطبع وأبعدها عن التصنّع وأكثرها غلياناً كتاب «هتاف المجد». ولا تقولوا إن جمع المقالات في كتاب يُفقِد الكتاب معناه ويُذهِب وحدة موضوعه، فإن هذا الكلام على صحّته لم يأخذ به أحد. ها هم أولاء الكُتّاب الذين سبقونا وكانوا قبلنا، وقرأنا ما كتبوا واستفدنا منه، كلهم جمع مقالاته في كتب؛ من أمثال العقّاد والمازني وطه حسين والرافعي والزيات، الذين كانوا أئمة الأدب وكانوا قادته وكانوا سادته. كل منهم جمع مقالاته في كتب. وإلاّ فخبّروني: ماذا يصنع بها؟ يرميها؟ يمزّقها؟ يحرقها؟ حتى تضيع فيضيع معها أدب كثير ويُفقَد بفقدها نفع كثير. ولو أن كاتب المقالات حين يجمعها يقصّ مع كلّ مقالة قصّتها ويبيّن ظروف كتابتها، لو فعل ذلك لجاء منه كتاب ينفي ما ينكرونه عليه من فقد الوحدة في الموضوع. هذا كتاب «هُتاف المجد»، وقعت يدي عليه فقلت: أبدأ الكلام عنه. على أنه لم يُطبَع إلاّ طبعة واحدة سنة 1960. في هذا الكتاب بقيّة ممّا ألقيت من خطب، أقلّها مكتوب وأكثرها مرتجَل، وأقلّ المكتوب هو الذي أودعته هذا الكتاب. وأعترف أنها قد تبدّلَت الأحوال، ففرنسا مثلاً التي كانت عدوّنا الأوّل في الشام وفي الشمال الإفريقي المسلم دانيه وقاصيه، خفّ الآن عدوانها واعتدل موقفها، ولكنني أبقيت ما قلت على

حاله لأنه تاريخ ولأنه يصوّر مرحلة من مراحل حياتنا. ولقد تقارب اليوم ما بين فرنسا وألمانيا وزال أكثر ما كان بينهما من العداء، فهل نطمس لذلك ما كتب موباسان وألفونس دوده وبعض ما قال فيكتور هيغو، والأدباء الذين تحدّثوا عن حرب السبعين وأثرها في فرنسا؟ إن الأدب يبقى لأن له قيمة في ذاته ولو تبدّلت الأحوال. * * * لقد عزمت -ما دمت أكتب ذكرياتي وأسرد أحداث حياتي- أن أختار من كل نوع من أساليب كتابتي فقرات أدلّ بها عليه وأمثّل بها له. والكاتب وإن كان فكره واحداً وقلمه واحداً يتبدّل أسلوبه بتبدّل حاله. أمثّل على أسلوب كتاب «هتاف المجد» بمقدّمته أذكر فقرات منها (ولقد نُشر الكتاب كما قلت لكم في شعبان سنة 1379هـ). قلت: إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة، فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب. إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ الذي يُلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أمّا الخطب فلم تسمعوها إلاّ قليلاً: الخطب العبقريات الخالدات التي لا تُنسَج من حروف ولا تؤلَّف من كلمات، ولكنها تُنسَج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحقّ لكل قلب، وتُحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس. ولا تقولوا: وماذا تصنع الخطب؟ إن خطب ديموستين صبّت الحياة في عروق أُمّة كادت تفقد الحياة، ونفثَت فيها روحاً وملأتها عزماً، حين استعارت لها من جلال ماضيها أجنحة تضرب بها في

طِباق الجوّ بعدما هاض الزمان جناحها، ووقفَت -وهي كلمات- سداً في وجه أعظم قائد عرفَته قرون ما قبل الإسلام: الإسكندر، وفي وجه أبيه من قبله، فيليب. وخطبة طارق هي التي فتحت الأندلس. وخطبة الحجّاج أخضعَت يوماً العراق وأطفأت نار الفِتن التي كانت مشتعلة فيه ثم وجّهَته إلى المعركة الماجدة، ففتح رجل واحد من قُوّاد الحَجّاج أكثر ممّا فتحَت فرنسا في عصورها كلها، وبلغ مشارف الصين، وحمل الإسلام إلى هذه البلاد كلها فاستقرّ فيها إلى يوم القيامة، ذلك هو قتيبة بن مسلم. ولمّا اجتاح نابليون بْروسيا (ألمانيا) ما أعاد لها حرّيتها ولا ردّ عليها عزمها إلاّ خطب فيخته التي صارت لقومه «معلّقات» كالمعلقات العشر عندنا، يحفظها في المدارس الطُلاّبُ ويردّدها على المنابر الخطباءُ، وتقرؤها كل امرأة ويتلوها كل رجل. إن خطب فيخته كانت من أظهر العوامل التي أنشأت ألمانيا الجديدة. ما قام في التاريخ زعيم عبقري ولا قائد نابغة إلاّ كان السلّم الذي صعد عليه هو الخطب. وما زعمت أني أستطيع أن ألقي مثل هذه الخطب، ولا جئت أباري في ميدان البيان، ولكنْ جئت لأقول الحقيقة التي تملك العقول بصدقها وتأسر القلوب بجمالها. فيا أيها المستمعون إليّ مقبلين عليّ (أُذيعت هذه القطعة من إذاعة دمشق)، ويا أيها المستمعون وهم مُعرِضون عني، يلهون في القهوات أو يتبخترون في الطرقات. إلى العالِم في مكتبه، والعامل في معمله، والمرأة في بيتها، والطفل في مدرسته ...

إلى كلّ من يتفيأ الظلال من جنّات الشام، ومن يَضحَى بشمس القفار في فلوات الجزيرة، ومن يحيا على شطّ الفرات وعلى جنبات الخليج. إلى الأسود المرابطين في نحور العدوّ في شوارع بورسعيد، وعلى شعفات الجبال في الجزائر، وعلى سِيف القرى الأمامية في فلسطين ... (إلى أن قلت): إلى كل من شرّق من أمة محمد وغرّب، ما جئت اليوم لأستنفر وأستثير، ولا لأشكو وأستغيث، ولا لأفخر وأحمّس، بل جئت لأبارك هذه الحرب التي أشعلها العرب في كل مكان، من الجزائر إلى مصر إلى العراق، وأطعموها الجماجم وسقوها الدماء. هذه الحرب، ويا بارك الله هذه الحرب. لقد كشفَت منّا عن الجوهر الذي طالما اختفى تحت غبار القرون، وأظهرَت منّا العزائم التي طالما هجعَت في ظلام الليالي، وسلّت بأيدينا السيوف التي طالما تلوّت في الأغماد وتشكّت طولَ الرقاد. وذكّرَتنا -وقد طالما نسينا- أننا نحن بنو الحرب، بنو التضحيات، بنو المعامع الحُمر والأيام العوابس. وأنها ما كانت قطّ قلوبٌ أقوى ولا أظهر من قلوبنا، ولا كانت سيوفٌ أحدّ ولا أمضى من سيوفنا، ولا كان مجد أعظم من مجدنا ولا تاريخ أحفل بالنصر والظفر والفضل والنبل من تاريخنا. وأننا نحن طهّرنا أرض الجزيرة العربية من نجس يهود، ونحن أنقذنا الشرق والغرب من عبودية كسرى وقيصر، ونحن قصمنا ظهر كل جبّار وكسرنا رقبة كل متكبّر، وأننا نحن أبطال بدر واليرموك، والقادسية ونهاوند، وحِطّين وعين جالوت، والغوطة وجبل النار (في نابلس)، وأننا هدمنا صروح الشرّ في الدنيا ثم

بنينا فيها صروح الخير والعلم، وأقمنا فيها منار الحقّ والهُدى، وصنعنا للناس خير حضارة عرفها الناس. لا، ما جئت أفخر بالتاريخ الذي كتبناه أمس، بل بالتاريخ الذي شرعنا نكتبه اليوم. لقد وصلْنا ما كان انقطع من أمجادنا، فالتقى المجدُ الجديد بالمجد التليد، واجتمعَت البطولات التي نُبديها اليوم بالبطولات التي أبديناها بالأمس، وأرينا الدنيا أننا ما أضعنا إرثنا من أمجاد الأجداد. لقد هببنا لنطهّر بلادنا من اللصوص المستعمرين، ولنعيد بناء دارنا ونرفع عليها لواء مجدنا، ونسترجع تحت عين الشمس مكاننا. لا أريد الكلام، ولو أردناه لكنّا نحن سادته؛ نحن فرسان المنابر ونحن أرباب الأقلام، ولكننا نريد الفعال. فليقُل أعداؤنا ما شاؤوا وليكتبوا في صحفهم ما أرادوا، فلقد كتبنا نحن ما أردناه سطوراً على ثرى بورسعيد، ومن قبل كتبناها على بِطاح فلسطين وجنّات الغوطة وجنبات الرّمَيثة، وفوق ثرى طرابلس والجزائر والريف المغربي، سطوراً سطرناها بجثث الغاصبين: قد مَلأْنا البرَّ من أشْلائِهمْ ... فدَعُوهُمْ يَملؤوا الدّنيا كلاما * * * هذا مثال من كتاب «هُتاف المجد». ولو اتّسع المجال وساعدَت الحال لذكرت أمثلة أخرى. وسآتي بأمثلة من الأسلوب العاطفي، وأسلوبي في الترسّل، وأسلوبي القصصي. ولقد قلت لكم في آخر الحلقة الماضية إني لمّا دخلت ساحة القضاء خرجت من نطاق الأدب وظننت أني لن أعود إليه، ولكنني عدت. فهل

ترون الطنطاوي الشيخ يكتب بمثل الأسلوب العاطفي الذي جرى به قلم الطنطاوي الشاب؟ لقد سألني أخي ناجي لمّا قرأ كتابي إلى الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في الحلقة الماضية: هل تقدر أن تكتب اليوم مثل هذا؟ قلت: هاتِ ذلك القلب الذي كان يخفق بالحب ويصفق بالعواطف أكتبْ مثلها، بل أجمل منها، ولكن المرء يلبس لكل حالة لبوسها ويتخذ لكل سنّ ما يناسب تلك السنّ. كان الشاعر العربي في الجاهلية يهتمّ بأمرَين، بالحبّ وبالحرب، فكان أوسع فنون الشعر عندهم فنّ الغزل ثم فنّ الفخر والحماسة. ولقد سمعتم في الفقرة التي نقلتها من كتاب «هتاف المجد» ما كنت أكتب في الحماسة، فاسمعوا أمثلة، مقاطع موجزة، ممّا كنت أكتب في الحب. قلت في قصّة «ابن الحبّ» من كتابي «قصص من التاريخ»: واللهُ الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة، وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة، وأدنى الجبل من الجبل حتى يولَد الوادي، ولوى الأرض في مسراها على الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار، هو الذي ربط بالحبّ القلبَ بالقلب حتى يأتي الولد. ولولا الحبّ ما التفّ الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا عطف الظبي على الظبية في الكِناس البعيد، ولا حنا الجبل على الرابية الوادعة ولا أمَدّ الينبوع الجدول الساعي نحو البحر. ولولا الحبّ ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض

بزهر الربيع، ولا كانت الحياة. وفي فصل «القبر التائه» من كتاب «صور وخواطر» هذا المقطع عن لبنان: لبنان الذي كان يوماً دار الأولياء والشعراء والسيّاح والزهّاد، من كل عابد متبتّل ومحبّ هائم وتائب أوّاب. لبنان الذي جعل الله ماءه خمراً وجمالَه سحراً، فلا تدري أهو السحر قد خَيّل لك أنك في جنّة الخلد أم هو السُّكْر قد جعلك تحسّ التخلّص من هذا العالَم الغارق في الدم الملتحف باللهَب (نُشر هذا الفصل سنة 1940 في شدّة وحدّة الحرب العالَمية الثانية). لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذُراه التي تبرقعَت ببراقع الثلج فلم تبصرها عينُ حيّ من يوم خلق الله العالَم، فعزّ بالحجاب جمالها حين ذلّ بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالِيَة بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم ينابيعه المتفجّرة تفجّر الحكمة على لسان نبيّ، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟ وأيّه هو أبهى: أصباح بْلُودان أم ظهيرة الشّاغور وحمّانا، أم الأصيل الفاتن في ربا صوفر أم المساء الوادع في خليج جونية، أم مناجاة الملائكة في قمّة جبل الشيخ أم مسامرة الزمان عن «الأرْز» أو في بعلَبَكّ؟ أم أنت تؤثر هذا كله وتتمنّى لو شملته بنظرة منك واحدة ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه حتى أفنيته فيك أو فنيت أنت فيه؟

تعالوا سائلوا سفوحه وذُراه وأوديته ورُباه كم شهدت من فصول هذه القصّة الخالدة، قصّة الحبّ، وكم أريقَ على صخوره من الحَيَوات والعواطف، يُطِلْ جوابَكم لو ملك الكلام. * * * يا أصدقائي القُرّاء، أستأذنكم أن أشير إلى بعض كتبي وآخذ من كلّ كتاب فقرة أو فقرات، أمثل بها عليه وأعرض بها أسلوبه، ثم أعود إلى قِصّتي في المحكمة. وإن أمامي -إن صبر عليّ القُرّاء وصبر الناشران الفاضلان- مرحلة طويلة، فأنا لا أزال في ذكرياتي قبل أربعين سنة. وكم مرّ عليّ في هذه السنين الأربعين وعلى بلدي وأمتي من أحداث، لو عرضتُ ما بقي في ذهني منها لامتدّت الذكريات مئة حلقة أخرى! فامتحنا -يا أخوَيّ الكريمَين الأستاذَين هشام ومحمد- نفسيكما ومبلغ احتمالكما: هل تصبران عليّ ويصبر القُرّاء، وإن صبرتم فهل يمهلني القدَر حتى أُتِمّها؟ أنا إلى الآن لا أزال في الرقراق، ما بلغت اللجّ ولا بعدت عن الشاطئ، وإنّ أمامي لبحراً من الذكريات يموج بالأخبار وبالأحداث، فهل أوغل فيه وأستمرّ في عرض ذكرياتي، أم أقف هنا لأنني أمللت القُرّاء واستنفدت صبر الناشرَين؟ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) حين ظهرت هذه الحلقة في الجريدة عقّب الناشران بما يأتي: "يرحّب الناشران كل الترحيب باستمرار فضيلة الأستاذ علي الطنطاوي في كتابة ذكرياته بأسلوبه البديع الفريد. وليس الأمر أمر «صبر» على=

_ = طول الذكريات، بل إن الناشرَين سعيدان جداً بأن تكون «الشرق الأوسط» هي الصحيفة التي يخصّها أستاذنا الطنطاوي بذكرياته. وهما يعرفان أن قُرّاء «الشرق الأوسط» مثلهما حريصون كذلك على استمرار هذه الذكريات. وتأكيداً لذلك فهما يطرحان سؤال الأستاذ الطنطاوي على القُرّاء، وهما متأكّدان من تجاوُب القُرّاء معهما وإصرارهم على مواصلة الأستاذ الطنطاوي كتابة ذكرياته" (مجاهد).

ذكريات جزائرية

-131 - ذكريات جزائرية أستعير هذا العنوان من الأستاذ أكرم زعيتر، فقد كتب تحته ذكرياته الجزائرية، وأنا لي أيضاً ذكريات جزائرية، ولكن شتّان ما بينهما، وكم بين من ينفق من كيس مملوء بالذهب ومن كان مثل المتنبّي: «أمواله المواعيد»! وأنا لا أحسده ولكن أغبطه على أنه يرجع إلى يوميّات كُتبت في حينها، يستند إليها ويعتمد عليها، واعتمادي على ذاكرة تَعِدُ ولا تفي وتُستودَع ولا تؤدّي، وهو مع علية القوم الذين يشتركون في تأليف الرواية ووضع حوارها، وأنا مع المتفرّجين بها (بها لا عليها). كلانا يصف مرحلة سفر واحدة، ولكنه في غرفة القيادة وأنا بين الركّاب. أنا لم أزُر الجزائر، ولكن ربطني بها فوق رابطة الإسلام ورابطة العروبة أساتذةٌ لنا منها، كالشيخ المبارك، والأستاذ علي الجزائري الذي كان إماماً في لغة الفرنسيين يرجعون هم فيها إليه، وكنّا ندعوه «السيد علي»، وأستاذ الأساتذة أحمد جودة الهاشمي، والفاضل الذي كان أستاذه يوماً وصار مدير مدرستنا: محمد علي

الجزائري، ومن قبلهم مربّي الشام وأحد بُناة نهضتها الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ البشير الإبراهيمي الذي طالت صحبتي إياه، في دمشق عندما كان يزورها (وما أكثر ما كان يزورها) وفي عمان مرات، وفي القدس وفي بغداد. وطالما خطبت في الحفلات التي كان يخطب فيها، وهو عالم طلق اللسان ناصع البيان، يتدفّق الكلام من فيه تدفّقاً بلا لحن ولا زلل. وقد كنّا يوماً معاً في سيارة واحدة من القدس إلى دمشق، وكنت إلى جنب السائق حيث تعوّدت أن أركب دائماً (حتى إني إن ركبت داخل السيارة توهّمت أنه دار رأسي وضاق نفَسي). وكنّا نتحدّث، فتعبَت رقبتي من الالتفات إليه لأنني لم أكُن أتلو بيتاً من الشعر إلاّ قال: إنه لفلان الشاعر من قصيدة كذا، وسرد عليّ القصيدة كلها أو جلّها. فقلت: كيف حفظت هذا كله؟ قال: وأخبرك بأعجب منه، فهل تحبّ أن تسمع؟ قلت: نعم. فراح يقرأ عليّ مقالات لي كاملة ممّا نُشر في «الرسالة» أو مقاطع كثيرة منها، ما كنت أنا نفسي أحفظها. قلت: يا سيدي، الشعر فهمت لماذا تحفظه، فلماذا حفظت مقالاتي وما هي من روائع القول ولا من نماذج الأدب؟ قال: ما تعمّدت حفظها، ولكني لا أقرأ شيئاً أحبّه وأطرب له إلاّ علق بنفسي فحفظته. فأظهرت (صادقاً) العجب منه والإعجاب به، وأضمرت في نفسي حقيقة استحيَيت أن أجهر بها، هي أنه مرّ عليّ دهر كنت أنا فيه كما قال. وأنا لا أزال أحفظ مقاطع كثيرة ممّا كتب المنفلوطي

والرافعي والزيات والبشري وكرد علي وأمثالهم من أئمة البيان، مع صعوبة حفظ النثر وتفَلّته من الأذهان. أمّا ما أحفظ من الشعر فكثير كثير، وإن لم يبقَ منه إلاّ القليل، على أن هذا القليل الذي بقي في ذهني كثير والحمد لله. * * * وممّا حبّبني بالجزائر أن جدّنا الذي قدم الشام من مصر سنة 1250هـ كان من جماعة الأمير عبد القادر، وكان مربّياً لأولاده، وكان مفتياً عنده يأخذ راتبه منه، فلما مات الأمير قبله بمدّة يسيرة أبى أن يتسلم الراتب الذي جعلَته له الدولة، وطفق يبيع من كتبه ما يعيش بثمنه حتى توفّاه الله. وما نقله الأستاذ أكرم من حديث العقيد عطاف الجزائري عن الرئيس شكري بك كنّا نسمعه من الثوّار أيام الثورة السورية سنة 1925، وكنّا طُلاّباً في الثانوية. ولقد سمعت من عمّي الشيخ عبد القادر الطنطاوي من قديم خبراً ما حقّقته ولا توثّقت منه، هو أن أصل أسرتنا من الجزائر. ولعلّ ما عندنا من الحِدّة يشير إلى ذلك، وقد كان جدنا الشيخ محمد الطندتائي (وطندتا هو الاسم القديم لطنطا) يذكر الجزائريين مرة أمام الأمير ويثني على خلائقهم وسلائقهم، واستثنى واحدة. فصرخ به الأمير وقد اعتراه غضب مفاجئ فقال: "وِشْ هيّه؟ " قال جدّنا باسماً: "هذه هيه". يعني هذه الحدّة التي عُرف بها الجزائريون والتونسيون،

والتي ورد في خبر لم يصحّ أنها تعتري خيار أمّة محمد عليه الصلاة والسلام. ومن كان حديد المزاج (يثور بسرعة وتهدأ ثورته بسرعة) لا يكون ماكراً ولا حاقداً ولا يكون في قلبه غِلّ على أحد، لأنه يوفي كل واحد حسابه من ساعته فلا يبقى له عند أحد دَين يحقد عليه به. وكان للأمير أحفاد في دمشق أدركت منهم اثنين وانعقدَت المودّة بيني وبينهما، وإن كنت في سنّ أولادهما: الأمير طاهر الذي كان له مجلس أسبوعي يحضره كما يحضر أمثالَه (وكان لهذا المجلس أمثال في دمشق) أكابرُ الوجهاء وأفاضلُ العلماء. والأمير طاهر هو والد الصديق الأمير جعفر الذي لبث أمداً طويلاً أمين المجمع العلمي العربي في الشام. والثاني هو الأمير سعيد الذي كانت صلتي به أوثق، وكنت أزوره في داره في زقاق النقيب ويتفضّل فيزورني في داري في الجبل. وفي زقاق النقيب كانت دار الأمير عبد القادر الجزائري التي صارت بعدُ الكلّية الشرعية، ودرّست فيها، ثم اشتراها السيد مكي الكتاني. صحبت الأمير سعيداً في السفر والحضر وعاشرته معاشرة عرفته فيها من قرب. والأمير سعيد هو الذي أعلن قيام الحكومة العربية في الشام سنة 1918، يوم كنت تلميذاً في آخر المدرسة الابتدائية وأول المدرسة التالية، وبقي يأمل أن تقوى الدعوة إلى الملَكية في الشام وأن يكون هو الملك عليها. وعرف ذلك ناسٌ هم في البشر كالطُفَيليات في الحشرات والنباتات: تعيش على غيرها،

تمتصّ من الحيّ دمَه ومن النبات نسغَه وتتسلّق على ساق الشجرة لأنها حُرمت الساق الذي تقوم عليه، وأخذوا منه جليل الأموال، وأغراه بعضهم فجاء بالنقّاش والمصوّرين فجعل من داره نموذجاً مصغراً للحمراء في غرناطة. ثم أنشأ على سفح الجبل في دمّر (وهي أقرب مصايف دمشق إليها) أنشأ قصراً عجيباً: له أدراج ملتوية تصعد من الجانبَين تلتقي وتفترق، وكلّما التقت قامت بِركة مزخرَفة فيها نوافير عجيبة. ومن أعظم مآثر العرب براعتهم في الصناعات وفي النوافير خاصة، وفي الساعات. أمّا الكلام عن الساعات وما أبدعوا فيها فله مكان غير هذا المكان، وأمّا النوافير فأضرب لها مثلاً واحداً: دخلت على عهدي بالدراسة في دار العلوم سنة 1928 متحف الفنون الإسلامية في ميدان باب الخلق في القاهرة، فرأيت هذه النوافير، فقال لي قيّم المتحف: إذا قعدت على هذا الكرسي ترى عجباً. فقعدت ففتح الصنبور، فإذا الماء من حولي كأنه قبّة متّصلة مبنيّة من الزجاج، تتكسّر عليها الأنوار فتضيء كأنها جوهرة كبيرة، وأنا فيها لا تصيبني قطرة من الماء! لقد أضاعت هذه الزخارفُ وأضاع تمنّي المُلك ثروةَ الأمير، فبيع القصر وصار حيناً مقهى. كما ضاع في الحمراء سلطان المسلمين في الأندلس حين بعنا حقائق المجد بنقوش وزخارف تُبهِج الأبصار، ولكنها لا تحمي الذمار ولا تدفع الأعداء عن الديار. وممّا يتصل بحديث الأمير وحديث الجزائر أن وفداً عربياً فيه

من العراق الشيخ أمجد الزهاوي وجماعة، وفيه من لبنان الرجل الذي أنشأ «النَّجّادة» المسلمة ليقابل بها الكتائب النصرانية (وقد نسيت اسمه وهو مشهور)، مرّ هذا الوفد في دمشق في طريقه إلى مصر لمقابلة جمال عبد الناصر وحثّه على نصرة الجزائر في جهادها، وكان ذلك قبل أن تستقلّ الجزائر، فانتخبوا اثنين من الشام ليكونا فيه هما الأمير سعيد وأنا. وقد ذهبنا إلى مصر وقابلنا جمال عبد الناصر مقابلة طويلة في دار صغيرة لم أعُد أعرف أين هي. وقد استولى علينا بما توهّمناه صراحة كاملة في الحديث، وإخلاصاً نادراً لله وللإسلام، وشبه سذاجة فيه. ورجعنا نثني عليه ونرى فيه المثل الكامل للحاكم المرجوّ، ثم تبيّن أننا الذين كانوا السذّج المخدوعين، وأنه لعب بنا وضحك علينا ولفّنا بلسانه المعسول. وأُخِذت لنا معه صورة تذكارية هي عندي، ولكنها اختفت الآن بين أوراقي. * * * وأنا الآن في معرض التمثيل لأساليب كتابتي الماضية بفقرات أنقلها منها أمثّل بها عليها، وهذا كلام ممّا أذعت وكتبت يومئذ عن الجزائر، إن كان في بعضه ما يمسّ فرنسا اليوم فهو كلام مؤرّخ لا سياسي، والمؤرّخ يصف ما كان وما ليس له فيه يدان، والسياسي يتكلّم فيما هو كائن أو يسعى ليكون، وفرنسا التي كتبت عنها ما أنقله الآن غير فرنسا اليوم. فقد كان قُوّادها في الجزائر يُسيئون بفعلهم إليها، ثم انكشف الستار فتبيّن أن الفرنسيين غضبوا منهم كما غضبنا. ثم أعلن هؤلاء

القُوّاد تمرّدهم على حكومتهم (حكومة ديغول) ونشوزهم عن طاعتها، وكان من التاريخ ما تعرفون. ثم إنني أنقل هذا الكلام اليوم لأمثّل به على الأسلوب لا لأعيد مضمونه ومعناه. لمّا خطفَت فرنسا الزعماء الخمسة الجزائريين (بن بيللا وأصحابه)، وكنت يومئذ أحدّث في إذاعة دمشق بعد صلاة الجمعة حديثاً، استمرّ عشرات من السنين وكان له جمهور كبير من المستمعين، أملى عليّ الغضب ممّا صنعوا والنصرة لإخواني في الدين وفي اللسان ولأخلاق الفروسية التي انتقص منها، فقلت من حديث أذيع يومئذ (¬1): إن فرنسا لم تعُد تبالي، لأنها لمّا خسرت بطولة الميدان ولم يعُد يعرف تاريخُها الحديث إلاّ الهزائم، جاءت تستردّ اعتبارها وتُثبِت بطولتها على العُزّل الأقلاّء المطالبين بحقوقهم، وجاءت تجرّب فيهم سلاحها. هل قلت سلاحها؟ إنها زلة لسان أعتذر إليكم منها، لا، ليس سلاحها. لم يبقَ لفرنسا سلاح، ولكنه السلاح الذي استجدَته فرنسا، الذي «شحدته شحادة» من أميركا لتحمي به استقلالها من الألمان أن يطؤوها بنعالهم مرة رابعة كما وطئوها في حرب السبعين، وحرب أربع عشرة، وحرب تسع وثلاثين. ¬

_ (¬1) ما يأتي هو حديث «مجزرة الجزائر»، وهو منشور في كتاب «هتاف المجد»، وليس هو الحديث الذي أذاعه علي الطنطاوي يوم اختطفت فرنسا زعماء الجزائر، بل إن ذاك هو حديث «فرنسا والجزائر» المنشور في «هُتاف المجد» أيضاً والذي ستأتي منه فقرات بعد قليل. وأحسب أن جدي رحمه الله قد سها في تعليقه هنا فخلط بين الحديثين (مجاهد).

(إلى أن قلت): إنها مجزرة ظاهرة ومذبحة مُعلَنة، والرأي العامّ في أوربّا وأميركا يسمع ويرى ولكنه لا يتكلم. في الحرب الماضية نادوا يا للإنسانية ويا للديمقراطية، ويا للعدالة التي استُبيح حماها ودُنِّس قدسها لأن اللصوص الخوَنة من اليهود نكّل بهم الألمان. وفي كوريا بكوا بعيون التماسيح ونعبوا بحناجر البوم، فما لهم اليوم خرسوا فلا ينطقون؟ وما لهم عَمُوا وصَمُّوا فلا يُبصِرون ولا يسمعون؟ ألا يدرون ماذا يجري في الجزائر أو يدرون ويتغافلون؟ (إلى أن قلت): فيا أيها الفرنسيون، لا تذكروا الحُرّية والأُخُوّة والمساواة بعد اليوم ولا حقوق الإنسان؛ إنكم تدنّسون طهر هذه الألفاظ ونقاءها حين تضعونها في أفواهكم، ولا تحتفلوا بيوم 14 تموز (يوليو) ولا تقرؤوا كتب روسو وهوغو ولامارتين، ولا تُسيئوا إلى الأدب الفرنسي بادعائكم أنكم أربابه. إنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب. لقد خنتم تاريخكم ولطّختم وجه أمجادكم بالطين. لقد أطفأتم المصباح الذي زعمتم أنكم رفعتموه يوماً للشعوب حين ثرتم ثورتكم الكبرى، وما ثورتكم الكبرى هذه التي ملأتم الدنيا فخراً بها واعتزازاً؟ لقد كانت ثورة القتل والتدمير والسلب والنهب، ثورة مجرمة حمقاء مغموسة بدماء الأبرياء. وما الفرق بينها وبين عهد الملوك قبلها إلاّ أنه كان في عهد الملوك نفر معدودون يظلمون، فصار بالثورة كل فرد من الشعب ملكاً ظالماً! إن فرنسا تمشي القهقرى، كل يوم خطوة إلى الوراء؛ لقد

كانت لغتكم لغة السياسة والكياسة والحبّ فسبقَتها اللغة الإنكليزية وصيّرتها وراء وراء. وكانت دولتكم من الدول العظمى فصارت اليوم وراء وراء. وكنتم علماء فصرتم تراجمة، لقد انتهى العلم في فرنسا وصار خير ما تُخرِجه مطابعها المترجَم من اللغات الأخرى. لقد عقمَت فرنسا أن تُخرِج مثل باستور ولافوازيه وديكارت وهانري بيرسون وهوغو وأناتول فرانس ومدام كوري، وصارت عجوزاً متصابية فاجرة أدركها سنّ الإياس فلا تلد العظماء. وكانت لكم مستعمَرات فأضعتم بحماقتكم مستعمراتكم، وستضيع منكم إفريقيا كلها على رغم أنوفكم ورغم الرصاص الذي «شحدتموه» من أميركا وسلّطتموه فيها على العزّل الأبرياء. وها أنتم أولاء قد بقيتم في الجزائر قرناً وثلث قرن، فهل استطعتم أن تجعلوها فرنسية؟ هل استطعتم أن تجعلوها تُحبّ فرنسا؟ هل استطعتم أن تمحوا منها العربية والإسلام؟ لقد عملتم كل شيء ولكن الذي أردتموه هو المستحيل. (إلى أن قلت): لقد كتب ملككم فرانسوا الأول يوماً لأمّه، ثم كتب هذه الجملة نفسها إلى أكبر ملوك عصره، السلطان سليمان القانوني، حين مدّ يده يسأله العون والمدد. قال: "لقد خسرنا كل شيء إلاّ الشرف". وسيكتب التاريخ عنكم للأجيال القادمة -بما صنعتم بالجزائر- أنكم خسرتم كل شيء حتى الشرف. أمّا دعواكم أن الجزائر بلد فرنسي وقطعة من فرنسا فستصير ذكرى مضحكة من ذكريات الحماقة الفرنسية، يتفكّه بها التاريخ وتضحك عليكم بها القرون الآتية. الجزائر فرنسية؟ بمَ؟ بمَ يا أيها

العقلاء جداً؟ أهي فرنسية بشعبها؟ أهي فرنسية بلغتها؟ لقد فشت لغتكم فيها ولكنها ثوب مستعار وعاريّة مستردّة، وستعود إلى أصلها، إلى عروبتها. أهي فرنسية بتاريخها؟ الشعب فيها عربي واللغة عربية والدين إسلامي، وكل حَجَر من جبالها وكل رملة من صحرائها، والتاريخ الذي مضى والمستقبل الذي سيأتي، كل هذا يكذّب هذه الدعوى الوقحة الكاذبة البذيئة، دعوى أن الجزائر قطعة من فرنسا. وأقرب من هذه الدعوى بمئة مرة أن يدّعي الطليان أن فرنسا قطعة من إيطاليا. إن إيطاليا إن قالتها أيّدتها اللغة: كلتاهما لاتينية، والإيطالية أقرب إلى الأصل. وأيّدها تاريخ يوليوس قيصر وبومبي وأن فرنسا بقيَت قروناً وهي تابعة لروما. فماذا يقول الفرنسيون لو ادّعت إيطاليا هذه الدعوى؟ وماذا لو كانت إيطاليا أقوى وساقت قُواها لتذبح الفرنسيين الذين يدافعون عن حرّية بلادهم؟ وبعد يا أيها المستمعون (¬1)، فما أخاف على الجزائر. إن الجزائر تبدأ في كتاب المجد صفحة جديدة، وأنتم تختمون كتاب أمجادكم بصفحاته كلها. إن ذخر المسلمين من البطولة لن ينقطع أبداً حتى يستكملوا تحرير بلادهم، ثم يكتبوا في تاريخ الدنيا مثل الصفحة التي كتبها جدودهم. إن الاستعمار قد مضى وقته، مضى. إنه بناء من الثلج أقمتموه خلسة في ظلام الليالي الطوال من كانون (ديسمبر)، وقد ¬

_ (¬1) هذه أحاديث أُذيعَت من إذاعة دمشق أيام نضال الجزائر.

سطعَت الآن شمس آب (أغسطس) فلا تصمد بيوت من الثلج لشمس آب. لقد تحرّرَت آسيا كلها واستقلّت أُمَمُها وشعوبها، وسيتحرّر الشمال الإفريقي المسلم وتعود أرضه كما كانت، ثم يأتي يوم ترجع فيه أرض فرنسا موطئَ أقدام الجنود المسلمين. لقد كنّا نحن الحاكمين يوماً في قلب فرنسا من البيرنة (جبال البرنس) إلى بواتيه، وكنّا نملك حفافي البحر المتوسط الذي كان يُسمّى تارة بحر الروم وتارة بحر العرب. أنا لا أخاف على الجزائر بل أخاف عليكم أنتم. ليس أمامكم أهل الجزائر وحدهم بل المغرب المسلم كله، بل ديار العروبة من أقصاها إلى أقصاها، بل المسلمون في كلّ الأرض، بل الناس جميعاً، الناس الذين لا تزال في صدورهم قلوب ولا تزال في قلوبهم ضمائر. أمّا الذين فقدوا الإنسانية وأضاعوا القلوب، أما الجُثَث التي تمشي إلى المادّة وحدها فستقتلها المادّة التي تمشي إليها. وسيستيقظ العرب كلهم والمسلمون جميعاً، وسيقاطعون كل شيء فرنسي ويرونه رجساً يدنّس طهرهم وناراً تحرق بيوتهم، وسيجاهدون حتى تشهد الدنيا جلاء آخر جندي فرنسي من المغرب العربي كله كما جلا آخر جندي عن أرض الشام. وما يوم الجلاء عن المغرب ببعيد. * * * هذا بعض ما كنت أقوله وأذيعه أيام كان الجزائريون يجاهدون في سبيل تحرير أرضهم.

لمّا كنّا في أوائل الثانوية عند نهاية الحرب الأولى كان الفرنسيون في الشام وفي أكثر الشمال الإفريقي، وكان الطليان في طرابلس، وكان الإنكليز في مصر وفي فلسطين وفي الهند، ولم يكن بلد مسلم لم تطأه أقدام جنود الاستعمار إلاّ هذه الجزيرة التي برّأها الله من أن تطأ أرضَها أقدامُ جنود الاستعمار. لقد جلت جنودهم عن أرضنا ولكن خلّفوا لهم فيها جنوداً من أبنائنا، فبدؤوا عصر استعمار آخر: استعمار فكريّ، فكانت الوطنية التي أرادوا أن يُحِلّوها محلّ الدين، وهي من مبادئ الثورة الفرنسية التي سرَت إلينا مصطلحاتها ومشت على ألسنتنا كلماتها. ومنها كلمة المواطن والمواطنة الصالحة، بمدلولاتها الغريبة عنّا التي يريد ناس أن يُحِلّوها محلّ رابطة الإسلام. ثم جاءت فتنة أشدّ هي القومية، وشهدتُ في العراق (كما حدّثتكم، وقد كنت أدرّس فيها بين الحربين العالَميتين) أعنفَ المعارك بيننا نحن الإسلاميين وبين دعاة القومية المناوئة للإسلام. ثم جاءت قاصمة الظهر وقاصفة العمر ومصيبة العصر: الماركسية. وما أحسب الدجّال الذي وردَت فيه الأحاديث إلاّ كارل ماركس هذا. والدجّال أعور وهذا أعور حقيقة وإن كان ذا عينَين، لأنه ينظر بعين واحدة؛ المسلم ينظر إلى الدنيا والآخرة وهذا وأتباعه لا يرون إلاّ الدنيا، نحن ننظر إلى المادّة والروح وهذا لا يبصر إلاّ المادّة، نحن نرى الأرض والسماء وهذا بصره عالق بالأرض لا يرتفع عنها ولا يرى السماء.

ولقد كتبت كثيراً عن الجزائر ونضالها، فكان ممّا قلت في حديث عنوانه «فرنسا والجزائر» هذه الفقرات: أقسم إني لو كنت فرنسياً لخجلت أن أقول إني فرنسي، وكل مفكّر أو أديب فرنسي يخجل اليوم من نسبته إلى فرنسا بعد ما صنعَت بالجزائر وبعد أن خطفَت القادة الخمسة من مجاهدي الجزائر. ولن يستطيع بعد اليوم شاعر من شعرائهم أن ينظم بيتاً واحداً يفخر فيه بفرنسا ويتغنّى ببطولاتها وأمجادها. وبمَ يفخر؟ أبهذا الذي صنعتم؟ أهذه هي البطولة الفرنسية؟ أرضيتم لأنفسكم أن تكونوا قطّاع طرق يختطفون الناس من الطريق؟ ألا واجهتموهم في الميدان؟ ألا صاولتموهم في المعركة الحمراء؟ ألا أخذتموهم من معاقلهم؟ أهذا ما انتهى إليه جنود نابليون؟ وإن لم يكن نابليون وجنوده خيراً منكم. خذوهم من حيث كانوا، من شعفات الجبال ومهامه البيد. وهيهات! إن البيداء للأسد، الأسد الذي يهجم من أمام، لا للعقرب التي تدبّ خلسة وسط الظلام. وفرنسا ما كانت أجمة آساد، إن فرنسا مراتع غزلان مباحة لكل صيّاد ... غزلان، ولكن القرون لذكورها فقط. فدعوا القتال فما أنتم أهله، وجرّوا الذيول على أبواب الحانات والمواخير في مونمارتر ومونبارناس، وسنّوا قانوناً يحرّم على مدرّسيكم أن يعلّموا الصبية الصغار في المدارس تاريخ الثورة وأمجاد الحروب، لئلاّ يدركوا كيف لطّخ الفرنسيون أمجادهم

بالوحل وكيف عدوا على الحرّيات بعدما ادّعوا أنهم ثاروا دفاعاً عنها، وكيف فقدوا بطولة الحروب فاستعاضوا عنها بقَطْع الطريق وسرقة المارّين، وبالعدوان على النساء والأطفال بعدما زعموا أنهم صاروا تحت علم نابليون يوماً أبطال أوربّا. ولا تُقرِئوهم روائع الأدب الفرنسي التي تتغنّى بالعظمة والسموّ والشرف، لأنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب ولا أهلاً لهذا التاريخ. تتشدقون بذكر حقوق الإنسان وتعبثون بحقوق الإنسان، وتهتفون بحقّ الشعوب وتعْدُون على حقوق الشعوب، وتدرّسون في كلّيات الحقوق في بلادكم قواعد الحرب وتكفرون بأفعالكم بقواعد الحرب! أفلا تستحون؟ استحوا من الله. استحوا من التاريخ. استحوا من علمائكم وأساتذتكم وأدبائكم. استحوا فما هذه حرب، هذا عدوان على بلد ما لكم فيه حقّ من الحقوق: لا الأرض أرضكم ولا الأهل أهلكم ولا اللسان لسانكم ولا الدين دينكم. هذه سرقة، هذه جريمة، هذه قرصنة، هذه وحشية. وما هذه كلمات سبّ وشتم بل تقرير للواقع. إن الذي يقول للذئب أنت ذئب لا يسبّه ولكنه يُسمّيه باسمه، وكل هذه الكلمات لا تفي بالتعبير عمّا صنعَت فرنسا في الجزائر، ولو صنع عُشرَه شعبٌ آخر لفرنسا لقال عنه كتّاب فرنسا أضعاف ما قلت أنا الآن. إنها جريمة ولكنها جريمة ليس لها قُضاة، وليس للمظلوم فيها محامون. (إلى أن قلت): وما ضرّت فرنسا الجزائرَ باختطافها الزعماء

الخمسة ولكن ضرّت نفسها؛ لقد نفعَتنا فرنسا وزادتنا إيماناً بالنصر. وما شكَكْنا في النصر قط أنه لنا. إن أُمّة ولدَت عشرة آلاف بطل ليس لفرنسا عشرة فقط من وزنهم لا يُعجِزها إذا أُسِرَ بن بيللا (أحسن الله خلاصه وأجزل ثوابه) أن تُخرِج ألف بن بيللا. فلا تحسبوا أنكم صنعتم شيئاً؛ ما صنعتم إلاّ أن أخرستم كل لسان كان على طرفه بقيّة كلام في تحسين الظنّ بكم والأمل فيكم، وجعلتم المغرب كلّه، والمشرق الإسلامي من بعده، ناراً تتلظّى عليكم وجهنّم مفتَّحة أبوابها لكم. فلا تقولوا خلا بأسر بن بيللا العرين: لا تقولوا خلا العرينُ ففيهِ ... ألفُ ليثٍ إذا العَرينُ أهابا فاجمعوا كيدَكم وروعوا حِماهُ ... إنّ عندَ العرينِ أُسْداً غِضابا * * *

بقية من حديث الجزائر

-132 - بقيّة من حديث الجزائر هل ترونني أخطأت الصواب حين قطعت سلسلة ذكرياتي وأخذت أنشر مقاطع تدلّ على الأسلوب الذي كنت أكتب به، وعلى اختلاف الأساليب باختلاف المقامات، وتفيد بعرضها القُرّاء وتُريهم صُوَراً للحياة التي كنّا نحياها قبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة؟ ليضع هذه الصورة مَن لم يدركها إلى جانب صور الحياة التي يعيشها، ثم يوازن بينهما فيرى خيرهما وشرّهما. لقد كنّا (في الشام خاصة وفي أكثر البلاد عامّة) لا نعيش لأنفسنا بل لنا ولإخواننا، لإخواننا في الدين وفي العروبة، فإن ألمّ بمصر خَطْب أو نزلَت بالعراق نازلة أو أصاب المغرب مصاب أحسّت دمشق ألمه، فواست أو سلّت أو غضبَت فثارت واحتجّت. أمّا فلسطين فكانت قضيّتها قضيّتنا، وكنّا نحن أهلها كما كان أهلوها أهلينا، وما الذي يُبعد شمالي الشام عن جنوبيه وكلُّه عند العرب، وفي الواقع، وعلى مدى التاريخ الطويل، كلّه بلد واحد فيه شعب واحد؟ كانت هذه مشاعر كلّ قطر عربي، بل كلّ صقع مسلم، ولكن

دمشق كانت أشدّ بها إحساساً ولها إدراكاً. لقد بسطت أمامي لمّا هممت بطرق هذا الموضوع بعض ما كتبت فيه، فوجدت فيه أكثر من ثلاثمئة صفحة مطبوعة، ومثلها أو ما هو قريب منها من الصحف المنشورة، وقريب منها بل ربما زاد عليها مخطوطات، منها صفحات فُقدت وصفحات بَقيَت. ووجدت خُطَباً ومحاضرات تزيد على المئة. وأكثر الخطب ما كتبتها (وما أشدّ الآن أسفي وحزني على أني ما كتبتها) بل كنت أفكّر فيها وأرتّب أفكاري، ثم أكتب أطراف الأفكار وعناوينها على بطاقة لا تزيد على حجم الكفّ أحملها بيدي وأنا على المنبر، فأنساها تارات فلا أنظر فيها، وإذا عدت إليها لم أعرف ما الذي كتبته فيها، وأرى العنوان ولا أذكر ما كان تحت هذه العنوان. ومنها ما لا أستطيع، صدّقوني، أن أفكّ حروفه فأعرف ما هو لأنني أكتبها بمثل خربشة الدجاج! أرأيتم آثار أقدام الدجاج على الطين الطري؟ هذه هي الخربشة التي كنت أخربش بها حين أُعِدّ المحاضرة. * * * وقد علّمونا أن الكاتب إذا أراد أن يصفو له ذهنه ويجتمع فكره يؤمّ مرابع الجمال ويقصد الرياض وحفافي الحِياض، يستمتع بالأوراد والأزهار، ولكني لم آخذ بهذا الذي علّمونا ولا وجدت منه خيراً. جرّبته فوجدته يفرّق فكري بدلاً من أن يجمعه ويوزّعه على ما أرى حولي بدلاً من أن يركّزه على ما في ذهني. لذلك كان

أكثر ما أكتب أكتبه عندما أضطجع في الفراش وقد أرخى النعاس جسمي وأغلق أجفاني، هنالك يتيقّظ الفكر وينطلق، فأشعل النور لأدوّن فكرة عرضت لي، فإذا نفدَت أطفأته وتمدّدت لأنام، فتأتي فكرة أخرى فأعود إلى النور فأشعله. تأتيني الأفكار مثلما تُقبِل الأمواج على الشاطئ، موجة بعد موجة، وإذا توالت عليّ وتعاقبت طار النوم من عيني، فإما أن أستغني عنه وأبقى ساهراً وأقضي نهاري بعده خاملاً، أو أن أطرد الأفكار وأنام، فإذا أصبحت لم أجد في ذهني منها شيئاً؛ كحلم كنتَ مستغرقاً فيه فلما أفقت تصرّم الحلم، أو صورة على لوحة الرائي قُطع عنها التيّار فلم يبق لها من آثار. وقد أزعج هذا زوجتي لمّا جاءت إليّ من سِتّ وأربعين سنة فحطّم أعصابها وزاد أوصابها، فحملَت وسادتها وفراشها وذهبت تنام في غرفة أخرى. والحقّ معها، فإنّ الذي كنت أصنعه مضطراً يَذهب بحلم الحليم وصبر الصبور، وهو باب من أبواب التعذيب عند الطغاة الجبّارين، يمنعون المعتقَل السجين من المنام، حتى إذا استبدّ به النعاس وأخذ منه بمعاقد الأجفان تركوه ينام فعلاً، فإذا استغرق في النوم أيقظوه. وأنا أسأل الله أن يغفر لي ما صنعت مع أهلي. فإذا قويَت الفكرة ووضحت لي وثبتت أصولها في ذهني، تركتها ونمت مطمئناً لأنني إذا صحوت وجدتها قد امتدّت جذورها واتّسق ساقها وأورقَت وأثمرَت. وطالما كانت تستعصي عليّ مسألة وأنا طالب أو تستغلق

عليّ قضية وأنا قاض، فإذا قمت من النوم وجدت حلّ المسألة وانفتاح القضية. ذلك أن الذهن كهذا المِحساب (الذي يدعونه الكمبيوتر)؛ تضع فيه الأصول تم تتركه يعمل فيأتيك هو بما شئت من الفروع. * * * رأيت في كتبي المطبوعة وما بقي من مقالاتي المنشورة وفي المخطوط من أوراقي خطباً ومقالات ومحاضرات وتعليقات، لو أنها جُمعت كلها لكان منها كتاب كبير، في أجزاء كثيرة لا في جزء واحد، عنوانه «العرب والنضال للاستقلال». عشرات بالجمع، وأقلّ الجمع ثلاث، ثم عشرات ثم عشرات ثالثة، فهذه تسعون مقالة عن نضال سوريا ولديّ أكثر منها. ولقد كتبت نحو ثلثها، بل كتبت قريباً من نصفها عن فلسطين. وقد قرأتم في الحلقة الماضية بعض ما كتبت عن الجزائر، وقرأتم لي في هذه الذكريات من قبل بعض ما كتبت عن العراق وعن الحجاز، وأمامي مقالة كتبتها عن اليمن. أمّا المقالات التي كتبتها عن مصر فكثيرة جداً. تحتفل الجزائر الآن بأنها قد مرّت ثلاثون سنة على استقلالها، فكان لي أن أشارك ولو من بعيد بهذا الاحتفال كما شاركت بلساني وقلمي من بعيد في النضال، وإن كانت مشاركتي قليلة ضئيلة وكانت لبنة واحدة في هذا الصرح العظيم. الرئيس الزعيم شكري القوّتلي رحمه الله كان من المناضلين ثائراً مع الثوّار، وبقي مناضلاً وهو رئيس من الرؤساء، وكنّا معشر

الشباب جنوده، نأتمر بأمره ونمشي وراءه. وكانت لي -على ذلك- حظوة عنده ودالّة عليه، لأنه رأى أنه لا مطمع لي من الصلة به، وأني ليس لي طلب أطلبه منه، لا أطلب منصباً ولا مالاً. لذلك كان يسمح لي أن أبيّن له إن رأيت في عمله أو في عمل حكومته ما أظنّه مخالفاً للشرع أو مجانباً طريق الحقّ. وكان الرجل مؤمناً مقيماً للفرائض مجتنباً للكبائر، وإن كان إيمانه إيمان العوامّ، لا يخلو من بعض البدع وبعض الأوهام. وأنا قد دنوت الآن في ذكرياتي من مرحلة الخطر. ذلك أني أذكر الحقّ عن رجال منهم القليل الذي بقي، ومَن ذهب إلى رحمة الله بقي أبناؤه أو إخوانه الذين يريدون أن تكون هذه الذكريات قصائد مدح كمدح الشعراء للخلفاء، ولا يحتملون نقداً ولو كان يسيراً ولو كان حقاً. ولقد ترددت بين أن أسايرهم وأرضيهم بعض الرضا وبين أن أقول كلمة الحقّ ولا أبالي، فآثرت أن أقول كلمة الحقّ. وأستاذنا محمد كرد علي رحمة الله عليه لبث يكتب أكثر من ستّين سنة وجلّ القُرّاء راضٍ عنه مُحِبّ له، فلما نشر مذكّراته وتعرّض فيها لبعض الأحياء أثار عليه نصف الناس وهاجموه وكتبوا عنه، ومن هؤلاء الذين كتبوا عنه الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الزيات. أعود إلى موضوعي: شكري بك رحمه الله أقام أسبوعاً للجزائر، ثم جعل لها احتفالاً كبيراً حضره وجوه الناس. ولقد كُلّفت الخطابة فيه، ولولا الخجل لقلت إن خطبتي كانت هي الخطبة الرئيسية، كما كانت خطبتي في «أسبوع التسلح»، وربما جاء حديثها.

وكنت قد شرعت من يومئذ أخطب ارتجالاً بعد أن كنت أدون الخطبة تدويناً، وارتجلت خطبتي عن الجزائر. ولكن لمّا أُذيعت الحفلة من الإذاعة السورية تفضل أحد الإخوان فكتب الخطبة وأهداها إليّ مكتوبة، ففرحت بها كأني أُعطيت بها عطيّة، وتمنّيت لو أن مثل هذا الأخ الكريم كتب أمثالها من خطبي، أو لو أن مُحسِناً آخر يستخرج من أشرطة الإذاعة والرائي بعض أحاديثي الآن في برنامجَيّ الاثنَين «نور وهداية» و «مسائل ومشكلات»، ويكتبها ثم يعرضها عليّ فأنقّحها وأصحّحها وأجعل له شطر أرباحها إذا هي طُبعت لبيعها، أو دعوت الله أن يكون له حظّ من ثوابها إذا نُشرت مجّاناً للثواب (¬1). أنشر الآن فقرات من هذه الخطبة لأن فيها مثالاً لأسلوبي في الخطب، ولأنه لم يطّلع عليها واحد في الألف من قُرّاء «الشرق الأوسط» ومن كان قد سمعها منهم قبل أكثر من ثلاثين سنة أنسته مشاغله ومطالب حياته ما كان قد سمعه منها، ولأن فيها وصفاً لما كنّا فيه يومئذ وصوراً من حياتنا. قلت في أولها لمّا استقبلني الجمهور بتصفيق استمر أكثر من أربع دقائق، وأنا أشير بيدي شاكراً ومسلّماً وراجياً وقف هذا التصفيق (¬2): ¬

_ (¬1) صنعتُ ذلك في كتاب «فتاوى علي الطنطاوي: الجزء الثاني»؛ أخذت أحاديث من برنامجَي الإذاعة والرائي هذين فكتبتها وبوّبتها ونشرتها. ولها قصة أودعتُها صدر الكتاب فمن شاء رجع إليها هناك (مجاهد). (¬2) انظر مقالة «في افتتاح أسبوع الجزائر»، وهي في آخر كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

شكراً يا سادتي وعذراً، فإن هذه التحيّة النبيلة، هذا التصفيق الذي ينبعث من القلب هزّة حبّ تحرّك الأعصاب وتُطلِق الأيدي لتستحقّ خطبة من تلك الخطب العبقريات، التي تبدّل نفوساً بنفوس وتحوّل السامعين من حال إلى حال، وتتلاعب بالأفئدة والقلوب، وتسعّر الدم في العروق، وتصبّ العزم في الأعصاب. وليس عندي الليلة شيء من هذا. ما عندي ما أستحقّ به تحيّتكم، لا لأني شخت وعجزت وغاض بياني وكَلّ لساني، بل لأني مُنعت يا سادتي. أُشهِدكم على أنني مُنعت من أمثال هذه الخطب. لا تسرعوا بالعجب، بل فاسمعوا السبب. كان الفرنسيون في كل مكان من بلاد الشام، وكانوا هم السادة وكانوا هم القادة، لهم في كل دائرة مستشار والمستشار هو الحاكم، ولهم في كل قرية جند، وعلى كل أَكَمة قلعة موجّهة مدافعها إلينا لا إلى عدوّنا، وكانت الحكومة في ظاهرها منّا ولكنها في الحقيقة معهم علينا، فكنّا نخطب ونهجم على الحكومة ونثير الشعب على الفرنسيين، فيصفّق لنا الناس ويحملوننا على الأعناق. فأُجلِيَ الفرنسيون عن ديارنا، وصارت الحكومة منّا ولنا، وصار زعيمنا في النضال رئيسَنا في الحكم، فلم يبقَ لنا ما نخطب فيه، فامتنع علينا الكلام وانقطعَت أرزاقنا! فقلنا: لئن مُنعنا عن الكلام في شمالي الشام فلنمشِ إلى جنوبيه، إلى الأردن. فكنّا نسبّ غلوب ونطعن على الذين يأتمرون بأمره، فنشتري بذلك إعجاب الناس وتصفيق المستمعين، فطردوا

غلوب وحرّروا البلد، فقطعوا أرزاقنا ومنعونا من الكلام. فمشينا إلى الحجاز، فكنّا نتكلم على ضيق الحرم وسوء الطرق فنجد من السامعين التقدير والإكبار، فوسّعوا حرم المدينة حتى جعلوه آية في الإبداع، ووضعوا ستمئة مليون ليرة لإصلاح حرم مكّة، ولن تمرّ إلاّ سنوات قليلة حتى ينشأ في مكّة حرم جديد أوسع وأبدع في بنائه من هذا المسجد القديم. وخدموا الحرمَين في هذه السنوات الأربع أكثر ممّا خدمه ملوك المسلمين جميعاً في القرون الثلاثة عشر التي مضت، ووسّعوا الطرق وشرعوا بالإصلاح الشامل، فلم يعُد لنا مجال المقال. فرحلنا إلى مصر، فكنّا نهمس في بعض الآذان نسبّ فاروقاً ونُظهِر عوراته ونطعن على الإنكليز، وكان لنا في ذلك ميدان، فجاؤوا فطردوا فاروقاً وألحقوا به الإنكليز، وفعلوا الأفاعيل التي ملأ حديثها الدنيا وشغل الناس. فأين نذهب وماذا نقول؟ وهل يستطيع الأديب أن يعيش بلا أدب ولا لسان؟ (إلى أن قلت): وقفت فيكم يوم أسبوع التسلح على هذا المنبر أستحلفكم وأذكّركم، فما تركتموني أُتِمّ كلامي حتى تزاحمتم على صندوق التبرع، وتدافعتم مقبلين لا لتأخذوا بل لتُعطوا، ووقفتم في الطريق في هذا البرد تحت المطر تنتظرون أن تُفتَح لكم الأبواب لتدخلوا فتُعطوا، وعملتم العجائب. (إلى أن قلت): لقد آذيتموني في أسبوع التسلّح وفضحتموني،

فإذا كنتم تريدون أن تفضحوني هذه المرة أيضاً فخبّروني من الآن لأريحكم من كلامي وأستريح. وما فائدة الدرس إذا كان المتعلّم أعرفَ به وأسبقَ إليه من المعلّم؟ وإذا كنت أقول لكم «ألف» فتسبقون فتقولون «باء»، فأقول «باء» فتقولون «تاء» ... ندعو دمشق للإضراب فتُضرِب دنيا العرب كلها من مراكش إلى الخليج، بل إلى باكستان وأندونيسيا، فلا يبقى لكلامنا معنى! (إلى أن قلت): لو كان مقامي الليلة في القاهرة أو بغداد لوجدت مشقّة في عرض صورة الحياة في الجزائر اليوم، لأن القوم هناك لم يجرّبوا فرنسا ولم يعرفوا منها إلاّ وجهها الثاني. فرنسا ذات وجهين: الوجه الذي يتمثّل فيه أدب الحُرّية وتتمثّل فيه مباحث علماء القانون وأعيان الفكر، والوجه الحقيقي الذي قابلَتكم به في ميسلون ثم في الغوطة التي كانت خضراء فجعلوها حمراء من مُهرَق الدماء. فاذكروا ما كان في الثورة وانشروا صورتها في أذهانكم، وكبّروها مئة مرة تروا صورة الجزائر في هذه الأيام. أعرضُ عليكم لوحة صغيرة من لوحات الثورة كنت كتبت فيها قصّة نُشرت في مصر من ثماني وعشرين سنة (نُشرت في الزهراء سنة 1928)، ولكني لن أعرض القصّة بل الحادثة التي بنيتها عليها. كنت يوماً في «بَسّيمة» في أواخر الثورة. وبسيمة جنّة من الجنان في وادي برَدى، هي جارة لنبع الفيجة الذي يسقي دمشق. وكان فيها الأمير الشابّ البطل عِزّ الدين الجزائري سبط شيخ الجهاد وبطل الجزائر الأمير عبد القادر، وكان في عدد قليل من

المجاهدين، فكانت تخرج له الحملة الضخمة من الجنود معها السلاح والعتاد، فيربط لهم فم الوادي فيصيد جنودها ويهزمها ويردّها، فتعدو فرنسا على القرى الآمنة تنتقم -لعجزها- منها، فتسوق البُرآء من أهلها إلى الموت وتُذيقهم العذاب قبله ألواناً، وتهدم البيوت وتنهب الأموال ... كبّروا هذه الصورة ألف مرة تروا أمامكم صور الجزائر اليوم. لكن الجزائر اليوم أوعى منّا يومئذ، لقد تقدّم بها الزمان. إن الجزائر تقف صفاً واحداً، لقد ذابت الأحزاب كلها في «جبهة التحرير» واجتمعَت القوى كلها في جيش التحرير. تصوّروا مئة واد كوادي بسّيمة، وفي كل واد منها ووراء كلّ صخرة فيها مجاهدون من جيش التحرير. في كل مكان، في الوعور وفي أصلاد الجبال، يعيشون مع الصخر حيث لا تصبر جِمال الفَلا ووحوش البيد، فكيف بالشُّقْر المخنَّثين مِمّن قذفت حانات باريس يضربهم الثوار ولكنهم لا يرونهم، كالأُسد تعرف أنها في آجامها ولكن مَن يراها؟ لا لأنها تخاف فتهرب بل لأنها تُخاف فيُهرَب منها. لقد عرفنا هذا أيام الثورة السورية، يوم كانت فرنسا لا تحكم إلاّ على بعض دمشق، وأكثرُ دمشق مع الغوطة بأيدي الثوّار. وكان في وسط العقيبة حصن (استحكام) فرنسي فيه ضابط باريزي أشقر ناعم، كأن رجولته خطأ مطبعي في سجل الحياة أو كأنه أنثى متخفّية في ثياب رجل، أَحَبّ أن يرى صورة حسن الخرّاط (أحد أبطال الثورة، الذي كتبت عنه قصّة لم تتمّ في مجلّة «الناقد»

سنة 1930) فجاءه أحد ظرفاء الحيّ بصورة عنتر التي تُعلَّق في القهوات، فلما نظر إلى الصورة ورأى سواداً كالليل وعينين تتّقدان كعينَي الصقر وشاربَين كساريتَي المركب (وكذلك كانوا يصوّرون عنتر) انخرط بطنه وأصابه الزُّحار (الديزنطاريا) فحُمل من فوره إلى المستشفى. كذلك -يا سادة- يلقى هؤلاء المجاهدون مئات الألوف من جنود المستعمرين، ولذلك يتعاقب النصر فيهم وتتوالى الهزائم على عدوّهم. لقد تعلّموا درساً جيّداً في حروب الهند الصينية التي نكّست أعلامَ فرنسا وقضت على ما بقي من أسطورة بطولتها. ينهزم الفرنسيون في كلّ معركة في الجزائر، ولكن البطولة الفرنسية لا تنهزم! البطولة التي أدهشوا بها الدنيا سنة 1870 أمام بسمارك، وسنة 1914 أمام غليوم، وسنة 1939 أمام هتلر، وبينهما سنة 1925 أمام حسن الخرّاط وأبطال الثورة السورية! تبدو هذه البطولة في القرى الآمنة، وعلى المدنيين المسالمين وعلى النساء والأطفال، وتعود من هناك معقوداً بنواصيها الغار لأنها انتصرَت على الأطفال، ولأنها ظفرَت بالنساء بنار المدافع والرشاشات! إنهم يمحون القرى محواً ويُبيدُون أهلها إبادة. وتحت يدي وصف لما جرى في قرية سكيكدة في إقليم المقلع في الجزائر، لم يكتبه عربي جزائري ولكني قرأته لكاتب فرنسي في جريدة فرنسية؛ جاء هذا الصحفي الفرنسي القرية عقب ضربها فلم يجد فيها حياً واحداً، ووجد الكلاب تنبح نباحاً يقطع نياط القلوب

تبحث عن أصحابها خلال الأنقاض، ولو استطاعت البكاء لبكت في هذه المأساة دماً. لقد رقّت قلوب الكلاب ولم ترقّ قلوب المستعمرين، لقد صارت الكلاب أكثرَ إنسانية من قوم روسو وموسّه ولامارتين. إنهم كلّما انهزموا انتقموا من القرى، فيطوّقون القرية ثم يأخذون الرجال فيعذّبونهم (كما يفعل اليوم الأنذال المسوخ من جند ما يُدعى بدولة إسرائيل). يبتدعون طرقاً في التعذيب لا تعرفها الأبالسة، ويذبحون الأطفال أمام آبائهم ويعتدون على نسائهم أمامهم، ثم يقتلونهم جميعاً. أخذ المجاهدون أصابع من الديناميت من منجم العالية فدُمّرت القرية كلها وأُبيدَ أهلها. وكانت خصومة (خناقة) بين خبّاز فرنسي ورجل من العرب في قرية ابن غانم، فصيّروها قضية ثورة وجهاد، وسُعِي بها إلى المستعمرين فأبيدت القرية كلها بالمدافع. وقُتل رئيس الشرطة في قسنطينة فقتل ابنُه ستّة من العرب بالسلاح الرسمي وجرح أربعة، فاختارت السلطات المستعمرة ثلاثة عشر من كبار أهل البلد، منهم الأديب المعروف مدير جريدة «الشعلة» وعضو جمعية العلماء أحمد رضا حوحو ومنهم نواب في المجلس البلدي، وساقوهم مشياً إلى المعتقل. ثم رأوا أن الاعتقال والتحقيق أمر متعِب فقتلوهم جميعاً بلا محاكمة ولا تحقيق! يا سادتي، إن المصائب حينما تكبر يعجز الفكر عن تصوّرها،

وأنا أخشى أن تمرّ بكم هذه الأخبار فلا تعرضوا في أذهانكم تفاصيلها. إن اللصّ ينزل على دار من الدور فتصيح المرأة ويبكي الطفل ويرتاع الجيران، وإن النار تشبّ في غرفة من الغرف فيضطرب الحيّ وتُزلزَل المنطقة كلها، وما هي إلاّ نار تنطفئ أو لصّ ينهزم. فتصوّروا ما يصيب هؤلاء الناس حينما تفاجئهم وسط الليل وهم آمنون في دورهم المدافعُ ترجّ بهم الأرض، والطياراتُ تصبّ عليهم الحمم، والدبّابات قد صارت وسط دورهم والجند قد دخلوا بسلاحهم إلى غرف نومهم، فيطيش الرجل عن أهله ويُقتَل الأب أمام بناته، ويُنال من البنت بحضرة أبيها والمرأة بعين زوجها. وإن هرب المرء لحقه الموت. وأين المهرب من النار وقد تفتّحَت أبوابها من كل جانب؟ وإن أفلت ولد من الموت عاش باليتم حياة ليست خيراً من الموت، وإن نجَت امرأة عاشت تتجرّع حزنها على زوجها وولدها، وقاست مرارة الحاجة وذلّ السؤال. هذا ما يجري اليوم في الجزائر. لقد سُنّ فيها قانون فاجر، لو صدر مثله عن جنكيز أو عن قبائل الهون في ذلك الزمن البعيد لقال التاريخ: إنهم تأخّروا عن زمانهم وانحطّوا عن رتبة أمثالهم، فكيف وقد أصدره الفرنسيون، أحفاد من نادوا بحرّية المساكين في قرن العشرين؟ قانون يسوغ لجنود فرنسا، حتى الأخلاط منهم (الفرقة الأجنبية) الذين هم حثالة كلّ أمة، أن يدخلوا ما شاؤوا من الدور فيما شاؤوا من ساعات

الليل أو النهار، فجأة بلا إنذار، بحجّة التفتيش عن المجاهدين. وتصوّروا ما يكون من سرقات وما يكون من فجور. ونحن العرب قد نصبر على كل شيء ولكن لا نصبر على المساس بالعرض، وهذه حقيقة لا تفهمها فرنسا لأنه ليس في لغة فرنسا كلمة تُترجَم بها كلمة العرض، لأنهم ليس لهم أعراض. فهل تستطيعون أن تأكلوا وتشربوا، وتلهوا وتلعبوا، وتغنّوا وتطربوا، وإخوانكم في الجزائر يقاسون هذه الأهوال؟ لو كان في الطريق قطّة تموء من الألم أو كان عند الجيران عامل يضرب بالمطرقة لما قدرتم على المنام. أفتنامون وفي الجزائر إخوة لكم يهتفون بكم وينتظرون العون منكم؟ أتنامون والمدافع تضرب من حولكم؟ إن في الجزائر إخوة لكم يعيشون في الموت ويموتون في الحياة. لا أريد أن تنشروا المناديل وتستدرّوا الدموع، ولا أريد أن تصعّدوا الزفرات وتنفثوا الآهات. لا، فليس إخوانكم هناك هلكى يستَجْدون الدمع، بل هم بحمد الله أبطال يطلبون المدد. إنهم أقوياء بالله ثم بكم، فإن نصرتموهم اليوم بأموالكم طهّروا الجزائر من أرجاس الاستعمار، ثم جاؤوا يعينونكم على تطهير القدس من نجس إسرائيل. إن فرنسا تعرفهم وتعرف بطولتهم؛ إن كلّ نصر نالته فرنسا خلال القرن الذي مضى من صنع أيديهم هم، وهذه حقيقة يُقِرّ بها تاريخ فرنسا. إن معركة «المارْن» التي يجعلها الفرنسيون مدار

فخرهم ومسار ذكرهم إنما كسبها الجنود الجزائريون. (إلى أن قلت): كان الجزائريون في هذه الحرب الأخيرة في فم المدفع وكانوا في وجه النار، وبذلوا لقضية الحلفاء مالم يبذل مثلَه شعب. إنهم تدرّبوا في جيش فرنسا، ولكن ليس لفرنسا عليهم فضل فقد دفعوا أجرة التدريب. ما دفعوا مليوناً وربع مليون فرنك، لا يا سادة، بل مليوناً وربع مليون روح بشرية سيق أصحابها لإزهاقها جبراً من أجل فرنسا. لقد جاؤوا اليوم يتقاضون بعض هذا الدين. إن الفرنسيين يخشون المجاهدين لأنهم عرفوهم، ونحن لم نعُد نخشى فرنسا لأننا عرفناها! يا أهل الشام، هذا «أسبوع الجزائر». الجزائر تناديكم: المجاهد الذي نفدت ذخيرته وأحاط به أعداؤه وتلقّفَته نيرانهم يسقط وهو يهتف بكم ويناديكم. المرأة التي أرادوها على الخَنا وأبَت إلاّ العفاف وفقدت من حولها النصير تفكّر فيكم وتناديكم. الطفل الذي خرج من المأساة وحيداً قد نجا بأعجوبة من أعاجيب القدر يمشي يتعثّر جائعاً ويمدّ يده من وراء حُجُب الصحارى والبيد يناديكم. تناديكم أمجاد الماضي وآمال المستقبل. العروبة تناديكم والأُخُوّة، والكعبة التي تتوجّهون إليها والأرض والسماوات، فاسمعوا النداء. نداء الأرض الحُرّة التي أراد أن يستعبدها الظالمون، نداء العرض المصون الذي يعدو عليه الظالمون، نداء الدين والفضيلة والشرف والإنسانية.

هذا أوان الثأر فاثأروا لميسلون، اثأروا لضحايا الغوطة والجبل، اثأروا لدمشق التي ضربها هؤلاء المستعمرون بالمدافع مرتين في ربع قرن فدمّروا أجمل أحيائها وقتلوا زهرة أبنائها. وبعد يا أيها السادة، فلقد افتتحت هذا الحديث بذكر الأمير عزّ الدين الجزائري، فدعوني أختمه بذكر جدّه الأمير عبد القادر الجزائري، هذا المجاهد البطل الذي بسط يديه على الجزائر خمس عشرة سنة يحكمها وحده، بيدٍ تحمل المصحف وتؤسّس على التقوى الحكومة الحُرّة العادلة، ويدٍ تحمل المسدس وتدفع عن البلاد القُوى المعتدية الظالمة. فلمّا نخر سوس الخيانة في أساس هذا الصرح واضطُرّ إلى الهدنة أرادوه على أن يسلّم مصحفه ومسدسه، وكان أبداً يصحب مصحفه لا يفارق جيبه أو خيمته، وكان أبداً يحمل مسدسه لا يُنزِله عن عاتقه، فأبى أن يسلّم سلاحه وقال: لن أدع المعلّمين في فرنسا يقولون لتلاميذهم وهم يزورون المتحف: انظروا، هذا هو مسدس عبد القادر. وبذلت المتاحف الفرنسية النفائس لتحظى بهما فلم تصل إليهما، ولكني أنا وصلت إليهما. هذا هو مصحف الأمير عبدالقادر وهذا مسدس الأمير عبد القادر، هذا الذي كانت تنطلق الرصاصة منه فتنفتح من بعدها عشرات الآلاف من البنادق، في تلك المعارك الطاحنة التي لا يزال التاريخ مشدوهاً من خبرها، هذا الذي أبى الأمير أن يسلّمه لفرنسا يسلّمه حفيده الأمير سعيد لأسبوع الجزائر. لمّا شرفني فخامة الرئيس فكلّفني الكلام في هذا الاحتفال

فكّرت في شيء له قيمة معنوية أفاجئ به الناس ليُطرَح للمزايدة (لا لليانصيب، فاليانصيب حرام قطعاً). فقصدت الأمير سعيداً ففتح لي صندوق مخلفات جده الأمير عبد القادر وخيّرني أن أحمل منها ما أشاء، فحملت المصحف والمسدس وجئت بهما. إن الأمير سعيداً ليس بالرجل الغني، وإني أقول لكم -إذا كان يسمح- أن أملاكه مرهونة وأنه يستطيع أن يبيع هذه المخلفات إلى المتاحف الفرنسية بنصف مليون ليرة، ولكن الأمير سعيداً الذي يتحرق شوقاً إلى الذهاب إلى الجزائر ليجاهد مع المجاهدين وهو ابن ثمانين، لا يبيع مخلفات جدّه لفرنسا ولو دفعت له فيها عشرة ملايين. لقد تبرع بهما الأمير سعيد لأسبوع الجزائر. ولو كانت هذه الحفلة للتبرع لافتتحت المزايدة الآن، ولكن اللجنة لم ترَ التبرع في الحفلة، لذلك أضعهما بين يديها، وأرجو أن ينتهي بهما الطريق إلى يد أمينة لا يتسرّبان منها إلى بلد أجنبي، بل إلى متحف عربي أو إلى قادة جيش التحرير، يُهدَيان إليهم ليطلقوا آخر طلقة وراء الاستعمار الراحل بالمسدس الذي أُطلقت منه أول طلقة في وجه الاستعمار الداخل. * * *

ذكريات فلسطينية

-133 - ذكريات فلسطينية مسافر حدّد غايته من السفر وعرف طريقه إليها، وتزوّد له زاده وهيّأ عتاده، ومشى فنزل منزلاً يستريح فيه، فأعجبه منظره وراقه جماله فبات فيه ليلة، فلما أصبح وهمّ بالمسير قالوا: إن ها هنا مهرجاناً يأتيه الناس من كل مكان ولم يبقَ دونه إلاّ يومان، أفتسير وتدع المهرجان وأنت في المكان؟ ألا تمشي إليه فتزوره؟ قال: بلى. فلما انتهى وأزمع السفر قالوا: إن أمامك بلداً قريباً لا يُترَك مثله وهو مقصود من بعيد، فكيف بك وأنت منه قريب، أفيصحّ عندك أن تمشي ولا تراه؟ قال: لا، لا يصحّ، فلنبقَ حتى نراه. وما زال يقصد بلداً بعد بلد، وليسَت هذه البلاد على طريقه والمشيُ إليها يُطيل عليه الطريق وينأى به عن الغاية. أنا يا سادة ذلكم المسافر، وأنا واقف الآن حائر؛ إن مضيت في سرد ذكرياتي مع السنين أضعت وحدة الموضوع وقطعت أوصال الحوادث، وفعلت ما فعل شيخ المؤرّخين ابن جرير ومن بعده ابن الأثير وابن كثير وكل من رتّب تاريخه على السنين. ومَن راعى الموضوعات وجمع أطراف الحادثات مشى في طريق

التاريخ ورجع، كمن يسعى بين الصفا والمروة. ولكن الساعي يؤدّي عبادة ويرجو عليها أجراً، وهذا يذرع الطريق بلا زاد ولا رفيق ولا أجر ولا تعويض! كان عليّ أن أكمل الكلام عن عملي في القضاء، فقد تركتكم في محكمة دمشق تنتظرون بقيّة حديثها، ومشيت مع الذين كتبوا عن الأدب في بلاد العرب قبل نصف قرن، رحلت معهم من الحجاز إلى تطوان وفاس، فلما عدت وجدت الاحتفال بذكرى النضال في الجزائر فتكلمت عن الجزائر. واليوم هو يوم التضامن مع شعب فلسطين والصحف وأصحابها وكُتّابها يكتبون عن فلسطين، فهل أستطيع أن أمرّ بهذا اليوم ولا أتكلّم عنها؟ لا متضامناً مع شعبها كما يفعل البعيدون عنها، فأنا الضامن وأنا المضمون، أنا ابن فلسطين لأني ابن الشام، إنها بلدي كما أن دمشق بلدي. * * * القدس أقرب إلى دمشق من نصف مدن سوريا. وكما عرّفني بالجزائر وتونس وطرابلس (ليبيا) والمغرب مشايخ وأساتذة لنا منها، أحببناهم فأحببنا البلاد التي أخرجَتهم وكانت إليها نسبتهم، فلقد حبّب إليّ فلسطين أولَ الأمر أساتذة ومشايخ وإخوان لنا من فلسطين. حسني كنعان (رحمه الله) الذي مرّ بعض حديثه، والذي جاءنا معلّماً سنة 1918 ثم صار صديقاً وواحداً من رفاق العمر، وهو من نوادر الدهر طِيبَ قلبٍ وصفاءَ حنجرة وجمال صوت.

ولقد سمعت من الأصوات ما يستعصي على الحصر، فما وجدت أحلى ولا أطرى ولا أعذب من صوته لمّا كان شاباً. وكانت له معرفة قليلة بالموسيقى، يعزف على القيثارة ولم يُحسِن العزف عليها. وكان أشهر وأقدر مَن يعلّم الأناشيد المدرسية، وربما ألّفها ولحّنها، أي فعل ما يفعل كثير مِمّن يُسمَّون ملحّنين: يأخذ ممّا يحفظ جُمَلاً موسيقية يغيّر نسقها ويبدّل ترتيبها، فيجعلها لحناً جديداً أو كالجديد ويدّعي أنه له. وربما عمد إلى لحن لا يعرفه إلاّ قليل من الناس فنسبه إلى نفسه، أو ربما حفظه ثم نسي أنه حفظه وأنه لغيره فظنّ أنه له، كما فعل ملحّن نشيد «بلادي بلادي منار الهدى» الذي أحفظ لحنه من أيام شبابي. وحسني كنعان أوّل من علّمني الإنشاء العربي (وكنّا نتعلّم على عهد الأتراك الإنشاء بالتركية)، ثم شرع يكتب، ولقد كتب مئات من المقالات، وكان كاتباً ساخراً يسخر حتى من نفسه ويروي النكتة ولو كانت عليه. وقد تكلّمت عنه كثيراً في هذه الذكريات وسأعود إلى الكلام عنه كثيراً. وممّن هم في منزلة معلّمينا ثم صاروا من زملائنا في التدريس زهدي الخمّاش، وهو من مؤلّفي الكتب المدرسية في الدين. وكانت قد أصابته آفة لست أدري ما هي (ونسأل الله السلامة من الآفات) ففتحوا له في مقدّم عنقه فتحة كان يتنفّس منها، وكان يتّخذ له صداراً صغيراً يسترها، فإذا أراد أن يتكلم مدّ إصبعه من وراء الصدار فسدّها. ومن هم في منزلة مشايخنا من أهل فلسطين الشيخ سعيد

الكرمي، العالم الأديب وأولاده كلهم أدباء: أحمد شاكر صاحب «الميزان»، وحسن الكرمي الذي كان في إذاعة لندن، وعبد الغني وعبد الكريم (أبو سلمى)، وهما رفيقاي في مكتب عنبر. والشيخ عبد الله العلمي وأولاده كلهم أطباء وهم إخواننا. وكان من معلّمينا الفلسطينيين في الابتدائية عبد الهادي الخليلي. وأنا أميّز الخليلي من النابلسي من الغزّي كما أميّز الحلبي من الحِمْصي من الحوراني من لهجة كلامه، وكما أميّز الإسكندراني من الصعيدي والموصلي من البغدادي. وممّن عرفت الأستاذ عِزّة دروزة، العالم المؤلّف وأحد أركان القضية الفلسطينية، الذي توفّاه الله من أيام عن مئة عام. والنشاشيبي، ولي معه صحبة طويلة، عرفته في الشام عند كرد علي وفي مصر عند الزيات، ثم اتصل الودّ بيني وبينه إلى أن توفّي. كانت أول معرفتي به في فندق الشرق (أوريان بالاس) في دمشق، ذهبنا نسلّم عليه مع سعيد الأفغاني وحسني كنعان ورفاق لنا، فلما رأيناه كان قد نسي أن يعقد أزرار بنطاله (وإن كانت لا تكشف عن شيء ممّا وراءها)، وسمعنا لجهته العجيبة التي كان يتفرّد بها، فضحكنا أو كدنا. ثم ظهر لنا واسع اطّلاعه وكثرة مرويّاته. ولمّا أصدر كتابه «الإسلام الصحيح» (وكأنه كان موجّهاً ضدّ آل الحسيني، لِما كان بين الأسرتين من النزاع) وجدت فيه ما لا يوافق الإسلام الصحيح، فنقدته نقداً قاسياً جداً على طريقتنا في تلك الأيام، اتّباعاً لمذهب شيخَي الأدب الرافعي والعقّاد. ثم ندمت على اتباع هذا الأسلوب، وندمت مرة أخرى لأنني نشرت

الردّ في مجلّة «المكشوف» عند فؤاد حبيش. ثم انقشعَت هذه الغمامة وعاد الصفاء ورأيت فيه مزايا جَمّة. وهو أول مَن نظم من الشعر ما يشبه هذا المذهب الجديد (شعر التفعيلة كما يقولون)، وذلك حين أراد أن يرثي شوقي فعجز عن نظم القصيدة، فجاء بشيء هو بين الشعر والنثر: أبيات موزونة لا يجمعها بحر واحد ولا قافية واحدة، سَمّاها «ذات البحور والقوافي»، وهي في رسالة له عن شوقي. وكان إذا ألقى محاضرة طبعها آنَق طبع على أجود ورق، ووزّع أكثرها هدايا. وكنّا في مصر يوم تُوفّي رحمه الله، وقد سهرنا معه في الفندق (الكونتيننتال) وفارقناه وهو حيّ مُعافى، فلما أصبحنا بلغَنا نبأ وفاته، وحيداً إذ لم يكن له زوج ولا ولد. * * * أما الحاجّ أمين الحسيني المفتي فقد جمعني به رحمه الله حَجّ سنة 1391هـ، وكنّا معاً في فندق مصر. وعرفته في مؤتمر القدس الذي أخذني إليه أخي الشيخ محمد محمود الصواف سنة 1954م. وللصواف ولهذا المؤتمَر، وللرحلة التي رحلتُها بعده فقطعت فيها ربع محيط الأرض وزرت فيها الهند والسند وسنغافورة وأندونيسيا، لهذا كله حديث طويل سيأتي إن شاء الله عمّا قريب. ومثل الحاجّ أمين الحسيني لا يُعرَّف به في مقالة لأنه أعرف من أن يُعرَّف، ولكن أذكر واقعة واحدة لعلها أدلّ عليه من مقالات.

ولمّا كتب إميل لودفيغ (الألماني اليهودي الذي كان هو وأندريه موروا الفرنسي أقدر من اشتغل في هذا العصر بتراجم الرجال)، لما كتب لودفيغ عن فولتير ما زاد على أن أخذ مشاهد من سيرته أحسبها كانت عشرة، عرضها عرضاً وسردها سرداً ولم يعلّق عليها بشيء، لأنها تغني بسردها عن التعليق عليها. لمّا كَثُر المتكلمون على الحاجّ أمين بعد ضياع فلسطين واتهموه -بالحقّ أو بالباطل- بأنه هو والهيئة العربية العليا كانوا بتقصيرهم من أسباب هذا الضياع، وكان عندي يوماً الأستاذ محمد كمال الخطيب وهو محام من أبرز العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، له لسان وله قلم ويملك الحُجّة والبلاغة التي يعرضها بها، أراد أن يلقى الحاجّ أمين، فأخذت له ولمن معه موعداً من الحاجّ أمين، على أن يسمع منهم كلّ ما يُقال عنه وأن يسمعوا منه ما يُجيب به. وكان الاجتماع كما أذكر في دار الشيخ موسى الطويل رحمه الله، وكانت داره مواجهة داري في المهاجرين في دمشق. فذهب الأستاذ محمد وذهب معه الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي وأخي ناجي (وأنبّه -بالمناسبة- إلى أن يختلط الاسمان: اسم ناجي الطنطاوي الشيخ الذي كان قاضياً وهو الآن مستشار شرعي في وزارة الحجّ والأوقاف هنا من إحدى وعشرين سنة، وناجي الطنطاوي المذيع والممثل الشابّ الذي يقيم أيضاً هنا). أقول إنهم ذهبوا إليه، ولم أذهب معهم. وأسمعوه كل ما يقال عنه وما يوجَّه من تُهَم إليه، صرّحوا به تصريحاً ما لوّحوا تلويحاً ولا لمّحوا تلميحاً، وهو صامت لا تتحرّك في وجهه عضلة، مصغٍ

إليهم ما أعرض عنهم ولا ضاق بهم، كأنهم يقصّون عليه قصّة من قصص الأوّلين فهو يستمع إليها بلا انفعال ولا غضب. ومضت ساعة وربع الساعة، حتى إذا انتهوا قال: هل بقي شيء؟ قالوا: لا. وماذا بقي وهم ما أبقوا عليه؟ قال: اسمعوا ... وطفق يعيد التهم كما أوردوها ويردّ عليها واحدة واحدة، رداً منطقياً هادئاً مؤيَّداً بالبرهان مقوّىً بالدليل، فخرجوا وهم يحملون العجب منه والإعجاب به، وصاروا بعد ذلك معه وكانوا من قبلُ عليه. وكذلك يمتلك الكبار أعصابهم. وسأحدّثكم عن واقعة مثلها لنواب صفوي، الزعيم الإيراني، مع الرئيس الشيشكلي على أيام حكمه في الشام. * * * مررت بفلسطين أوّل مرة -كما حدّثتكم- لمّا ذهبت إلى مصر سنة 1928، ووقفت بها في سفرتي الثانية سنة 1929 فزرت مع رفيقنا حسام الدين القدسي (ناشر الكتب المعروف الذي تخرّج قبلنا في كلية الحقوق في دمشق ولكنّه لم يشتغل قاضياً ولا محامياً، بل آثر الاشتغال بتحقيق الكتب ونشرها، والذي نشره منها يملأ خزانة كاملة) زرت معه أكثر مدن فلسطين وقابلت جماعة من أعيانها، منهم الشيخ الخالدي الذي زرناه في القدس، وهو صاحب المكتبة الكبيرة في داره، وخلاصة أسماء كتبها ومؤلّفيها والمخطوطات وأمكنة وجودها في ذهنه، فكأنّ الذي استوعبه ذهنه عن الكتب مكتبة أخرى بل مكتبات مجموعة، وهذا الذي دهش منه الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله، حتى كتب عن مجالسه

في «الرسالة» مقالات كثيرة. والمرة الثالثة التي زرت فيها فلسطين كانت لمّا ذهبت إلى مصر سنة 1945، والرابعة بعدها بقليل لمّا أوفدَتني وزارة العدل في دمشق إلى وزارة العدل في القاهرة فأقمت فيها سنة، وكان لي فيها (أي في مصر) مكتب في إدارة التشريع، وحضرت بعض جلسات اللجان القانونية الشرعية، وعرفت الرجل العالم القانوني الشيخ محمد فرج السنهوري وتوثّقَت الصلة به في داره في حيّ السيدة وفي مكتبه في الوزارة. وعرفت جلّة من القُضاة والعلماء منهم المحدّث الثقة والكاتب البليغ الشيخ أحمد شاكر، أمّا أخوه الأستاذ محمود شاكر فعرفته وصادقته من يوم رأيته عند خالي مُحبّ الدين في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف من أكثر من خمسين سنة، وجالسته عشرات من المرات في مصر عند خالي وعند الزيات وفي داره في مصر الجديدة (إن صحّ ما أذكر) وفي داري في الشام وفي مكّة هنا. وهو رجل لم يبقَ له في بابَته نظير. وكنّا نصطدم ونتجادل ونتصاول تصاوُل الأعداء ثم نفترق تفرّق الأصدقاء، وأنا أُحِبّه وأُجِلّه وأعرف له فضله. زياراتي لفلسطين لا أستطيع أن أُحصيها، وكانت آخر مرة رأيتها فيها سنة 1947، وكان قد اتّسع بنيانها وامتدّت أطرافها. وصعدت جبل الكرمل في حيفا الذي صار فيه أحياء جديدة وامتلأت الأحياء بالبيوت الأنيقة، وكانت الحافلات (الباصات) تصل إلى أعلاه. ولكني لمست أثر اليهود في الرجس الذي بثّوه في أرجائها، حتى إنني لمّا ذهبت أسأل عن فندق مناسب قال لي المسؤول: أتريد فندقاً للنوم أم لـ ... وأشار بيده إشارة قرنها ببسمة

من فيه. قلت: ما أدركت ما تريد. قال: تريد فندقاً ببنات أم بلا بنات؟ فتركته وانصرفت عنه وحسبته يمزح معي أو يسخر مني. ولكني لمّا ولجت كثيراً من الفنادق دخلتها لأختار واحداً منها، رأيت بنات جالسات كأنهنّ من نزيلات الفندق، وعلمت بعدُ أنّهُنّ يهوديات، ثم خبّروني أن من شاء أشار بيده إلى واحدة منهنّ دلّ عليها كاتب الفندق، فذهب معها نصف ساعة إلى غرفتها أو ذهبَت معه ليلة أو بعض ليلة إلى غرفته. بغاء مُعلَن وعهر ظاهر! فماذا أصنع؟ أأبيت في فندق فيه مومس وأنا قاضٍ شرعي وكاتب يدعو إلى الدين والعفاف؟ وجُلت في البلدة القديمة، قلت: أضيّع الوقت حتى أجد مكاناً مناسباً أنزل فيه. فمررت بسوق الخضر ورأيت أكوام القمامة والخضر فاسدة رائحتها تملأ المكان، فسألت: ما هذا؟ وأين البلدية؟ قالوا: إن البلدية تنظف الأحياء اليهودية والجديدة وتُهمِل الأحياء الإسلامية، تدعها فلا تلتفت إليها. فقلت: أما في البلد علماء؟ أما فيه جمعيات إسلامية تُعنى بالإصلاح؟ قالوا: بلى، هذه الجمعية الخيرية. وأشاروا إلى مكان قريب منّا، فصعدت سُلّماً فإذا أنا في رحبة متّسعة فيها الأعضاء مجتمعون، عرفت منهم الشيخ نمر الخطيب ولكنه لم يعرفني. فوصفت لهم ما رأيت من القذارة المعنوية في الفنادق والقذارة المادّية في السوق، وحملت عليهم حملة منكَرة، ونفثت ما في صدري ونفّست بذلك عن نفسي، وبدا لي أنني أوجعتهم بالكلام فاعتذروا بأنهم لا يملكون شيئاً،

وذكروا اليهود والإنكليز. والإنكليز رأس كل بلاء رأيناه، وهم الذين جاؤوا باليهود وكانوا يحمون اليهود. قلت: هل يمنعكم الإنكليز واليهود من أن تنبّهوا الناس إلى أن الطهور شطر الإيمان، وأن النظافة من شأن المسلم، وأن إزالة أكوام القمامة من الساحة من شُعَب الإيمان لأن الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؟ فالذي ينظّف الطريق يكون متمسّكاً بهذه الشعبة من شعب الإيمان ومن يوسخها يكون بعيداً عنها. قالوا: عرّفنا بنفسك، فمن أنت؟ قلت: إن الذي يعنيكم هو ما أقول، فإن كان صحيحاً فاعملوا به ولا يضرّكم أن تجهلوا القائل. فنظر إليّ الشيخ نمر (وكنت قد لقيته قبل ذلك مرتين) فعرفني. ثم ذهبنا بعد انتهاء الجلسة إلى دار القاضي نزوره، وكان في عمارة تحتها مقهى (¬1) رأيت فيه نساء جالسات، فقلت: وهل تجلس النساء عندكم في المقاهي؟ فكأنهم خجلوا من سؤالي وأحبّوا أن يبتعدوا عن جوابي، فأصررت، ففهمت منهم أن هؤلاء الجالسات يهوديات يقعدن في المقهى ليستلبنَ شاباً غريراً يفسدن أخلاقه ودينه. ونظرت من الشارع فرأيت رجلاً اقترب من واحدة منهن فكلّمها كلاماً لم أسمعه لأنني بعيد عنه، ثم رأيتها تقوم وتمشي معه. ¬

_ (¬1) مقهى كلمة فصيحة، من «أقهى» أي أدام شرب القهوة.

وكذلك حاربَنا اليهود: بالسلاح الذي أخذوه من أميركا، وبالرجال الذين جاؤوهم من روسيا، وحاربونا بالبنات. سلاحهم أنواع ثلاثة كلها فاجرة عاهرة داعرة. ولقد حدّثني جندي كان يقاتل في حرب 1948 أنه رأى في طرف البلد داراً ينبعث منها الرصاص على المقاتلين العرب، فاقتحمها عربي باسل فلم يلقَ إلاّ مجندة واحدة يهودية، نفدت ذخيرتها كانت تحمل رشّاشاً تطلق الرصاص منه فلم يبقَ عندها رصاص، فاستعملَت سلاح اليهود. وسامحوني إن خبرتكم بما وقع: إنها حلّت حزام بنطالها فأسقطته، فنظر فإذا ليس تحته شيء. والعرب تقول في أمثالها: «تجوع الحُرّة ولا تأكل بثديَيها»، أمّا اليهودية فتأكل من غير أن تجوع بكل عضو فيها. ويأتي مَن ديدنه التقليدُ على طريقة القرود، والأخذ بكل جديد ولو كان شراً مصدره اليهود، فيدعو أن نجعل في جيشنا نساء مجندات وأن نعلّمهنّ فنون القتال! لماذا ويحكم؟ لماذا؟! لماذا والشباب يملؤون القهوات ويزدحمون على أبواب السينمات، فلماذا نجنّد البنات؟ هل عندكم من دليل فتُبدُوه لنا أم هو اتّباع سنن الفُسّاق حتى في الدخول إلى جحر الضبّ؟ ويا ليته كان جُحراً سالماً، ولكنه جحر ضبّ خَرِب كما جاء في المأثورات. * * * قد يقول قائل: فلماذا إذن ضاعت فلسطين؟ إن ضياع فلسطين جريمة ستحكم فيها محكمة التاريخ حين

تسقط قيود المنافع والمجاملات وحُجُب الجهل والغفلة وينكشف الخفيّ ويفتضح المزور؛ عندئذ يستطيع التاريخ أن يحقّق في هذه الأحداث وأن يكشف ملابساتها ويحدّد المسؤول عنها. على أن المحكمة الكبرى هي التي تكون يوم الحساب بين يدَي رب الأرباب، يوم لا تخفى عليه خافية، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا جند ولا أعوان. إن النصر يكون بالعَدد، وإن كانت كثرة العدد لا تُجدي إن لم يكن معها العُدَد الكافية. والعَدد والسلاح لا ينفعان إن لم يكن معهما العلم، وهذا كله لا يأتي إلاّ بالمال. فهل ينقصنا نحن المسلمين العدد؟ نحن ألف مليون واليهود بضعة ملايين، لو أننا (وعفوكم عني إن جئت بمثال بشع) لو أن كل مسلم بصق بصقة لأُغرِق يهود العالَم، ولو أنه نفخ نفخة وجُمعت هذه النفخات لأطارَتهم، ولو ألقى عليهم كل واحد نعله القديم لماتوا ودُفنوا في قبر من النعال! وإذا كان العدد لا ينقصنا، وإذا كان ما عند المسلمين من السلاح أكثر ممّا عند اليهود، وإذا كان مجموع العلماء من المسلمين، العلماء بالطبيعة وعلومها، أكثر ممّا عند اليهود، وإذا كنّا معشر المسلمين جميعاً نملك من المال أكثر ممّا عند اليهود، فما الذي ينقصنا؟ إذا كان لا ينقصنا العدد ولا ينقصنا المال ولا ينقصنا السلاح ولا ينقصنا العلم، فما الذي ينقصنا؟ إن الذي ينقصنا هو الإيمان: أن نكون مع الله حتى يكون الله معنا، أن نُدخل الإسلام في المعركة،

فلا نجعلها معركة استرداد الأرض فقط ولا نجعلها فلسطينية فقط ولا عربية فقط، بل نجعلها معركة إسلامية. إنها قضية المسلمين جميعاً ليست قضية العرب وحدهم. وسترون حين أحدّثكم عن المؤتمر الإسلامي في القدس الذي حضرته ورحلنا على أثره إلى أكثر بلاد المشرق الإسلامي أن قضية فلسطين يشركنا فيها كل مسلم، ألف مليون يَمُدّون أيديهم ليكونوا معنا، فلماذا نُعرِض عنهم ونقبض أيدينا دونهم؟ وإذا سمحتم لي قلت الآن كلمة صغيرة عن هذا المؤتمر ثم رجعت إليه إذا جاء وقت الحديث عنه فتكلّمت بالتفصيل. لقد كان مؤتمَراً إسلامياً للنظر في نكبة فلسطين وطريق العمل على نصرتها، وَفَدَت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها، من مرّاكش إلى أندونيسيا فكان «برلماناً شعبياً» مثّل كلَّ بلد فيه ناسٌ من زعمائه ومن كبار أهله. وقد أوفدَت بعض البلاد رجالاً لهم صفة رسمية، كالأستاذ عبد المنعم خلاّف الذي حضر من جامعة الدول العربية مراقباً والدكتور سوبارجو وزير خارجية أندونيسيا السابق، وأوفدَت بعضُ الدول رجالاً يمثّلون أحزاباً أو هيئات معروفة، كالأستاذ علاّل الفاسي رئيس حزب الاستقلال في المغرب، والأستاذ الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، والأستاذ القليبي رئيس حزب الدستور القديم في تونس، واللواء صالح حرب باشا الرئيس العامّ لجمعيات الشبّان المسلمين في مصر، والأستاذ الشيخ أمجد الزهاوي رئيس جمعية إنقاذ فلسطين في العراق، ومندوب عن الكاشاني في إيران، ونَوّاب صفوي عن

فدائيّان إسلام في إيران، وسعيد بك شامل حفيد الشيخ شامل زعيم مسلمي القوقاز، وابن الشيخ صادق المجدّدي الزعيم الديني الأفغاني ووزير الأفغان في مصر. ورأى أعضاء المؤتمر القدسَ وما حلّ بها والقرى الأمامية ومصابها وشاهدوا آثار المأساة وبقاياها، ولم تكن قد ذهبَت هذه كلّها إلى أيدي اليهود، رأوا ذلك فتقاسموا وتحالفوا على نذر أنفسهم للعمل لها. وانتخب المؤتمر لجاناً ثلاثاً، كانت إحداها لجنة للدعاية لفلسطين والتعريف بقضيّتها، وشرّفني المؤتمَر برياستها وكلّفها أن تطوف العالَم الإسلامي تعرّف بفلسطين وتدعو الناس لإمدادها بالمال. وكنّا خمسة: اثنان من العراق: الشيخ الزهاوي والشيخ الصواف، واثنان من الجزائر الشيخ الإبراهيمي والأستاذ الفضيل الورتلاني، وأنا. ذهبوا جميعاً إلى رحمة الله إلاّ الشيخ الصواف مدّ الله في عمره، وأنا أحسن الله ختامي. واعتذر الجزائريان، ورجع الصوّاف مضطراً من كراتشي لمصلحة إسلامية دعته للرجوع، فبقيت مع أستاذنا الجليل بركة العصر، الشيخ أمجد الزهاوي رحمة الله عليه. وكان علينا أن نجمع المال، ولكنا خفنا أن يقول الناس إننا سرقنا أو أخذنا لأنفسنا فآثرنا السلامة، وجعلنا عملنا أن نشرح للناس قضية فلسطين ونصف لهم مأساتها ونعرض عليهم أدوارها، وأن نؤلّف اللجان في كلّ بلد لتجمع هي المال لها وتبعثه مع أمناء منها.

ولقد ألقيتُ في هذه الرحلة التي وصلنا بها إلى آخر أندونيسيا (حيث لم يبقَ بيننا وبين أستراليا إلاّ مرحلة واحدة بالطيّارة) وأمضينا فيها شهوراً، ألقيتُ فيها ثلاثاً وأربعين محاضرة وخطبة عن فلسطين، وعقدت ثمانية وعشرين مؤتمَراً صحافياً، وشغلت بها ستّ إذاعات وأكثر من أربعمئة جريدة ومجلّة. وسيأتي إن شاء الله الحديث المفصّل عن هذه الرحلة، ولكنْ أردت الآن أن أقول إننا وجدنا المسلمين في كل مكان يهتمّون بقضية فلسطين مثل اهتمامنا، ولا يُزعِجهم منّا إلاّ أننا جعلناها معركة عربية فقط؛ أي أننا قلنا لهم: تفضّلوا اخرجوا فما لكم معنا مكان! فلما قابلنا (الشيخ الزهاوي والشيخ الصواف وأنا) الحاكمَ العامّ بباكستان يومئذ (سنة 1954) غلام محمد، عرّض بهذا ولامنا عليه، كأنه يقول: إذا كنتم تجعلونها معركة عربية فلماذا جئتم إلينا؟ فاستأذنت الشيخين وقلت له: يا فخامة الحاكم. القدس مسرى محمد نبيّنا ونبيّكم، والمسجد الأقصى كان القبلة الأولى لنا ولكم، فالقضية قضيّتنا وقضيّتكم يطالبنا بها ويطالبكم الله ربنا وربكم. فهَبْ أن العرب قصّروا أو تقاعسوا، فهل يُنجِيكم عند الله أن تفعلوا مثلهم؟ صدّقوني لقد كان كلامه الذي أجاب به ممزوجاً بالبكاء، وكان دمع عينيه ينساب على خديه، وأجابنا إلى كل ما طلبنا. لم ينته الموضوع فعذراً، وإلى حلقة آتية إن شاء الله. * * *

شارل ديغول وسوريا

-134 - شارل ديغول وسوريا انتهت الآن المقالات التي نشرتها «الشرق الأوسط» في سيرة شارل ديغول، وكنت أترقّب نهايتها قاعداً على كرسي من أسلاك فيها الكهرباء المشحون، أنظر أيسطر كاتبها تاريخاً فيه الإحاطة بجوانب الحقّ، أم هو شاعر عاشق يرى بعين الرضا التي لا تُبدي المساوئ ولا تبصر العيوب؟ لمّا سقطَت باريس تحت سنابك خيول الألمان (أو تحت دواليب مصفحاتها إن شئتم تعبيراً حديثاً) بكاها ناسٌ من كبار أدبائنا وكُتّابنا ونسوا ما صنعَت بنا. أنسَتهم لذّاتُ ذكريات لهم عن الفواتن من صباياها وما أصابوا من المتع في مخادع الفواسق من بغاياها، عمّا حاق بإخوانهم في الشام وفي الجزائر وتونس وما والاها. فكتبت وكتب منصفون أحرار من أصدقائنا وألقموهم فيها حجراً، بل جمراً متّقداً يسدّ تلك الأفواه ويودي بتلك الأقلام. فهل تُعاد اليوم قصّة الأمس؟ ألم يبلغك يا كاتبَ هذه المقالات عن ديغول ماذا صنع بنا؟ ألم يُنبِئك أحد عن أعمال ديغول وجماعة ديغول في بلادنا؟ قد يقول قارئ: لماذا تحطّ دائماً على الفرنسيين

وتنزل عليهم نقداً؟ تدرون لماذا؟ لأنهم هدموا دورنا، لأنهم قتلوا أبناءنا، لأنهم سرقوا حرّيتنا، لأنهم غلبونا على بلدنا. لأنها لو صنعَت أمة أخرى بهم عُشرَ ما صنعوا بنا لقالوا أضعاف ما قلنا نحن عنهم. والذي كان قبلَ أن يأتي ديغول كان على بشاعته وفظاعته أهون ممّا رأينا بعد أن جاءنا ديغول. * * * كانت فرنسا في يوم من أيامها السود، كان يحكمها الألمان يجوسون ديارها يستعبدون كبارها، كانوا هم مالكي أمرها، ولم يكن قد بقي للفرنسيين إلاّ حكومة تعيش في ظلّ الاحتلال، دولة كانت عند ينبوع الماء في قرية فيشي، أقامها الشيخ الكبير الذي كان ماريشال فرنسا، فأنقذ منها ما استطاع إنقاذه وأبقى لها اسماً على حكومة ولو كانت حكومة من ورق. فسمعنا بأنه قام جنرال فرنسي شابّ في بلد بعيد في إفريقيا، في برازفيل في الكونغو (كما كانت تُسمّى) يحاول أن يجمع بقايا الجيش الفرنسي، يستميل إليه من استطاع من القُوّاد ويجمع حوله من قدر على جمعه من الأفراد، ليُبقي لبلده مكاناً في صفوف الحلفاء. أمّا سوريا فكانت مستقلّة اسماً ولكنها كانت محكومة فعلاً، لا من الفرنسيين وحدهم بل من الفرنسيين والإنكليز. وكان الرأي لممثل بريطانيا الجنرال سبيرس، الذي كان أخف علينا وأسهل مِمّن عرفنا من جنرالات الفرنسيين. وكان في قرارة نفسه كارهاً

للفرنسيين يريد أن يزيحهم عن كراسي الحكم في الشام وأن يحلّ بريطانيا محلّهم فيها. عند ذلك وجد ديغول منفذاً ينفذ منه إلى سوريا ليُعيد إليها حكم الفرنسيين، فتقرّب من أهل البلاد. وكانت قد ظهرَت حركته واشتدّ ساعده وكوّن حوله جيشاً صغيراً، ولولا تشرشل والإنكليز ما نجح وما كان له جيش. ولمّا مال ميزان الحرب ورجحَت كفّة الحلفاء أعرضوا بوجوههم عن ديغول، كما يفعلون دائماً؛ إن كانت لهم مصلحة كان منهم وُدّ وصداقة فإن لم تبقَ لهم هذه المصلحة ذهبَت الصداقة وذهب الوُدّ. وفقد ديغول مكانه بينهم حتى إنهم لم يَدْعوه إلى المؤتمرات التي عقدها روزفلت وتشرشل وستالين في طهران وفي يالطا وفي بوتسدام. وأنا لا أريد هنا أن أسرد تاريخاً، فالتاريخ له مراجع متوفّرة وفيه كتب كثيرة، ولكن أكتب ما بقي في ذاكرتي من ذكريات تلك الأيام. كنّا نسمع أن تشرشل كان يُلِحّ على السوريين لعقد معاهدة تُبقي لفرنسا بعض المزايا في الشام وتُعيد إليها جانباً من سلطانها الذي لم تُحسِن سياسته (وكلّ من لا يسوس المُلك يخلعه). وكان قد استلم الحكم في الشام الوطنيون سنة 1943 وعلى رأسهم شكري بك القوّتلي، فرفض اقتراح تشرشل ولم يستجِب لضغطه ولم يعترف لفرنسا بمركز خاصّ (كما يقولون) في سوريا وفي لبنان. ولا ننسى أن لروزفلت الذي كان يُدير سياسة الولايات المتحدة أثراً في إزاحة العَلَم الفرنسي عن سماء سوريا ولبنان.

ما فعل هذا ابتغاء ثواب الله ولا فعله حباً بنا، فالدول لا تعرف في سياساتها الحب ولا الغرام وإنما تمشي مع مصالحها ومع منافعها. ولو ذهبت أسرد كل ما أصابنا من ديغول لرأينا ما قبله بالنسبة إليه كان أخفّ منه. ولقد أدركت أنا عهد العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، ثم عهد الشريف فيصل بن الحسين (الملك فيصل ملك العراق)، وعهد الاحتلال الفرنسي بعد ميسلون، وعهد الحكم الوطني اسماً الأجنبي حقيقة، وشهدت عهود الانقلابات التي سنّ سنّتها وفتح طريقتها فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها حسني الزعيم ... ما رأينا عهداً إلاّ بكينا فيه منه وبكينا بعده عليه! لن أعرض لذلك فأخرج من نطاق الذكريات إلى ميدان التاريخ، ولكن أحدّثكم عن يوم واحد من أيام ديغول وحكم ديغول وهو يوم البرلمان، يوم المجلس النيابي في دمشق. هل سمعتم به؟ أعلم أن جوابكم هو: لا. أعرف أنكم لم تسمعوا به، وليسَت علّتكم وحدكم ولكنها علّتنا معشر العرب، بل علّة المسلمين جميعاً؛ لا يكاد يحسّ أحدٌ منّا بآلام أخيه! ولماذا؟ أليس المسلمون كالجسد الواحد إن تألّم عضوٌ منه نقلت أعصابُ الحِسّ الألمَ إلى سائر الأعضاء؟ فهل أصيب الجسد الإسلامي بشلل الأعصاب؟ وعلّة أخرى فينا: هي طيب قلوبنا. وربما كان لطيب القلب اسم آخر، اسم أصدق وأدلّ على الواقع هو «الغفلة»؛ فنحن -لأننا مغفلون أحياناً- ننسى إساءات عدوّنا إنْ بَسَم في وجوهنا أو مسح على رؤوسنا أو قال لنا: آسف فلا تؤاخذوني.

إنْ نَسي الفرد الإساءة وعفا عن المسيء مع المقدرة عليه فهذا من نبيل الأخلاق وكريم السلائق، ولكن إن نسيَت الأمة أنّ هذا الجُحر فيه ثعبان يلدغ وعادت فأدخلت يدها فيه مطمئنّة إليه فلا؛ لأن الرسول علّمنا «أن المؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرّتين». صلّى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، فما تركتَ باب شرّ إلاّ حذّرتنا منه ولا طريق خير إلاّ أرشدتنا إليه. إنك المعلّم الأعظم، ولكن أكثرنا من أغبياء التلاميذ الذين لا تنفعهم عظمة المعلّمين. لقد طالما لُدغنا من الجُحر الواحد، لا مرتين اثنتين بل عشر مرات، ثم يعود أكثرنا ويمدّون أيديهم إليه! إن يوم البرلمان واحد من أيام عهد ديغول فينا. إحدى لياليكِ فهيسي هيسي ... لا تَنْعمي الليلةَ بالتّعريسِ «شِنْشِنَة أعرِفُها من أخزم» ... كما يقول المثل، وجرعة سمّ من القارورة الكبيرة التي شربناها كلّها مرغَمين من أيدي قوم روسو ولامرتين، من الذين ثاروا ثورتهم الكبرى (زعموا) ليُقِرّوا في الأرض حقوق الإنسان وينشروا فيها السلم والأمان! * * * قبل أن أحدّثكم عن يوم الندوة، أي يوم المجلس النيابي (البرلمان) الذي كتبت عنه وعن أمثاله عشرات وعشرات من الصفحات، أستأذنكم أن أنقل إليكم فقرات من مقالة في مجلّة «الرسالة» (رحمة الله على صاحبها الزيات) عنوانها «كلمة إلى الجنرال ديغول» نُشرت في عدد الرسالة الذي صدر في الثامن

عشر من شوال سنة 1364هـ، قلت في أولها (¬1): رأيت في سينما ديانا في القاهرة منذ شهور جريدة الأخبار الفرنسية تعرض صوراً من انهيار ألمانيا، فترى المهاجرين معهم النساء والعجائز هائمين مشردين، ثم تعرض منظراً مثله كان في فرنسا يوم انهزمَت فرنسا. ويعقّب المذيع فيقول بصوت خافت رهيب: "إن في الكون عدلاً". وترى المدائن المخرّبة والذعر البادي والدمار الشامل، ثم تعرض مثل ذلك ممّا كان في فرنسا، ويعقّب المذيع فيقول: "إن في الكون عدلاً". نعم يا جنرال، إن في الكون عدلاً. ولكن قومكم ما استوفوا قسطهم من عدل الله، وآية ذلك أنكم أُصبتم فبكى لكم أعداؤكم ورحمكم خصومكم، وكنتم عند الناس ضحيّة القوة العاتية وشهداء العدوان المجرم، وكنتَ أنت تثير الدنيا على الألمان أن حاربوا قومك، وقومُك هم أعلنوا الحرب وهم تقدّموا إليها وهم -كما ادّعوا- بنوها، قد غُذوا بلبانها وربوا في ميدانها، فلما نبَتَ ريشك ورُدّ عنك عدوّك وأغضى عنك الدهر إغضاءة نسيت كل ما كنت فيه وما كنت تقوله وتخطب به، وأقبلت تجرّب سلاحك فينا، فأخذتنا على ساعة غرّة بحرب ما آذنتَنا بها ولا أعلنتها لنا، فسخّرت لقتالنا مدافعك وطياراتك. ويا ليته كان سلاحك يا أيها المحارب الظافر، ولكنه سلاح أُعطِيتَه عاريّة لتحارب به عدوّ صاحبه وعدوّك، فحاربت به قوماً ¬

_ (¬1) والمقالة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

آمنين. حاربت -يا أيها البطل- النساء في الخدور والأطفال في المدارس والمرضى في المستشفيات! وما هابك النساء منّا ولا الأطفال ولا المرضى، ولا رفعوا مثل العلَم الأبيض الذي رفعه قومك حين كان لهم سلاح وكان لهم خطّ ماجينو، لأن لنا نحن من إيماننا حصناً لا تهدمه قنابلك ولا تحرقه نارك. إنني أسرد عليك -يا جنرال- حقائق ما فيها ذرّة من خيال. صورة ما رسمتها يد فنان ولكن نقلتها آلة التصوير (فوتوغراف)، هذا الجيش الذي عقدت له اللواء ورفعت فوقه العلم وائتمنته على شرف فرنسا وتاريخها، قد أهوى باللواء وطوّح بالعلم وعبث بالأمانة حين سطا بالمخازن، فكسّر أقفالها وفتح أبوابها وأخذ ما فيها. وهذا الذي وقع أسرده كما كان لا أتخيل ولا أتزيّد، وذلك يا جنرال فعل اللصوص لا عمل الجنود. ثم عاد فأوقد فيها النار، أحالها إلى جهنّم الحمراء ليُخفي باللهب السرقة، وذلك يا جنرال صنع المجرمين لا المقاتلين. ثم وقف يتربّص، فكلّما أقبل مَن يطفئ النار وينقذ الأطفال رماه فأصماه، وهذه حقائق أسردها لا خيالات أتخيلها، وذلك عمل القتلة السفّاكين لا الأبطال المحاربين. جيشك يا جنرال هاجم المستشفى الوطني وسلّط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى، ولم يقدر بعد ذلك إلاّ على أربع ممرّضات شوابّ (شابّات) أخذهن «سبايا»!

جيشك يا رجل الديمقراطية، يا سليل مَن أعلنوا حقوق الإنسان، هاجم مجلس النوّاب (البرلمان) وفعل به الأفاعيل: مثّل بشُرطته تمثيلاً فبقر بطوناً وسمل عيوناً وقطع أطرافاً، وقد بقي ذلك كله كما بقيَت الدماء على جدران البناء، الذي هو آية في فنّ العمران فجعلتموه آية في الخسّة والعدوان، فتعالَ ترَ الدماء على جدرانه المصدّعة وأبوابه المخلّعة. لقد وجدوا صندوق البرلمان الذي كان فيه المال، وجدوه بعد ذلك فارغاً في دار القيادة الفرنسية، وهم (طبعاً) لم يسرقوه، ولكن أخذوه ليحفظوه! جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون حيث لا يملك من فيها دفعاً ولا منعاً، فصيّر سجونهم مقابر لهم. والمستشفى العسكري يا جنرال، جعله جيشك قلعة فيها المدافع، ومنه أحرق سوق صاروجا الذي كان على عهد الأتراك حيّ البشوات والبهوات وحيّ كبار الموظفين وكانت فيه الدور الأنيقة الغالية، فأكل هذا الحريق ثلاثاً وتسعين داراً. ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشّاشات تُطلِقها بأيديها الناعمات الراهبات المتبتّلات ذوات الرحمة المسالمات! نسخة التوراة التي سُرقت من سنوات (وهي أقدم نسخة في العالَم) وجرَت لها تلك المحاكمة المشهورة وقُضي على طائفة من الأظناء الأبرياء بأشد العقوبات، هل تدري يا جنرال أين وُجدت؟ وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كُبِست داره بعد الحادث، ويُقدَّر ثمنها (في تلك الأيام أي سنة 1940) بنصف مليون فرنك!

القاضي الفرنسي الذي جئتم به إلى المحكمة المختلطة لأن قُضاتنا (بادعائكم) لا يُطمأنّ إلى علمهم ونزاهتهم، هذا القاضي الفرنسي (المسيو سيرو) وُجد في داره رشّاش كان يقتل به الناس، وهو الذي جيء به قاضياً ليحاكم القتلة والمجرمين! إن بطريارك موسكو وكلّ روسيا كان في فندق الشرق (أوريان بالاس) يوم الحادث، يوم عصفت هذه العاصفة برأس قائدك المجنون أوليفا روجيه، فنسي هذا القائد كلّ ما يعتزّ به البشر من فضائلهم ... لبث البطريارك في الملجأ المظلم تحت الأرض ليلة كاملة قال لمّا انقضت: "لقد كنت في ستالينغراد يوم ضربها الألمان، فما رأيت أشدّ ممّا رأيت الليلة"! ولمّا قدمَت دمشقَ زوجةُ رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت السيدة دودج ورأت آثار العدوان قالت: لقد قُتل ابني الوحيد في فرنسا فكان يصبّر نفسي عنه أنه مات في سبيل الحقّ والإنسانية، أما الآن فواطول حزني وكمدي؛ لقد أيقنت أن ابني مات في سبيل لا شيء! يا جنرال، لمّا ذهبت أزور القلعة بعد الحادث بأيام لم أستطع أن أدنو منها من رائحة الموت. صدّقني فإنني أشهد شهادة حقّ لا أكتب قصّة من الخيال، تفوح هذه الرائحة من آلاف الجثث، جثث الأبرياء التي كانت بالأمس رجالاً كراماً كانوا ملء الدنيا حياة ونشاطاً وكانوا ذخر عائلاتهم وبلادهم، فصاروا ... صاروا أكواماً من اللحم العفن الذي يؤذي العين والأنف. لم ينجُ من شرّ جيشك لا الأحياء ولا الأموات. لقد أبصرت في تربة الدحداح قبوراً قد نبشَتها القنابل وقذفَت رِمَمها، أفَئن

عجزت عن حرب أعدائك الأقوياء جئت تحارب موتانا؟ لقد كان ذلك كله وكان أكثر منه، أفهذا من العدل الذي تهتف به؟ لا يا جنرال، إن كلمة «العدل» أكرم من أن تمرّ على لسان مرّ منه ذلك الأمر الهمجي الوحشي بضرب دمشق، دمشق أقدم مدينة عامرة على وجه الأرض بلا استثناء، وكدت أقول بأنها أجملها. إن الفم الذي ينطق بكلمة العدوان لا يمكن أن تسمع منه كلمة العدل والحقّ والإحسان. ولكن في الكون عدلاً. نحن نقولها الآن، وإن من عدل الله أنْ جعل صبرنا نعمة علينا وعدوانَكم وبالاً عليكم، وقد انتهت الرواية وأُسدل الستار، فتعالَ ننظر ماذا ربحنا وماذا ربحتم؟ * * * إلى آخر المقالة، فالمقالة طويلة ولا أحبّ أن أعيدها هنا كلها. أدعها لأعطيكم صورة عمّا كان، أخالف طريقتي التي سرت عليها في ذكرياتي إلى الآن، أنقل لكم صفحة لم أكتبها أنا ولكن كتبها خالد بك العظم رجل الدولة الذي ولي رئاسة وزراء سوريا مرات، فاسمعوا منه ما يتّسع مجال هذه الحلقة لنشره منها. قال: وفي يوم الثلاثاء 29 أيار (مايو) سنة 1945 ذهبت إلى الندوة النيابية لحضور الاجتماع المقرّر عقده في الساعة الرابعة، وانتظرت مع لفيف من النوّاب قرع الجرس إيذاناً باكتمال النِّصَاب لعقد الجلسة، ولكن الأكثرية لم تكن قد حضرت. (إلى أن قال): فقطعنا الأمل بإمكان الاجتماع وسرنا إلى

السرايا (قصر الحكومة) لاستطلاع الأخبار. وجدنا نائب رئيس الوزراء جالساً في بهو الرياسة وحوله بعض النوّاب والموظفين، وبدأ السيد جميل مردم يُدلي بآخر ما لديه من الأخبار والنوّاب يناقشونه فيما يجب عمله. وفي الساعة السادسة تماماً سمعنا أصوات طلقات نارية، وخرجنا إلى الشرفة لمعرفة المصدر، واشتدّ أزيز الرصاص بشكل مزعج فعدنا إلى البهو لنتّقي الرصاصات الطائشة، وعبثاً ذهبَت محاولات نائب الرئيس (وكان الرئيس فارس الخوري) للاتصال هاتفياً بمواقع الشرطة والدرَك، إذ كانت الخطوط الهاتفية مقطوعة. وبعد مدّة جاءنا مَن يُخبرنا بأن الجنود الإفرنسيين المرابطين أمام مركز رياسة أركان الجيش الإفرنسي طلبوا من حرس المجلس النيابي (والأركان كان مقابلاً للمجلس النيابي) أن يصطفّوا لتحيّة العلَم الفرنسي في موعد إنزاله، فما كان منهم تجاه رفض الحرس هذا الطلب إلاّ أن بدؤوا بإطلاق الرصاص عليهم، فقابلهم الحرس بالمثل. ولكنهم ما لبثوا أن هجموا على المجلس ودخلوه عنوة، وقتلوا جميع أفراد الحرس ذبحاً واستولوا على بناية المجلس، وبعده بدأ إطلاق الرصاص على السرايا من الجهة الخلفية. وعلمنا أن مصدره هو الجنود الإفرنسيون المرابطون إلى جانب بناية الهاتف الآليّ، واخترقَت هذه الرصاصات نوافذ السرايا وصارت تتساقط في الممرّ. وكان الليل قد أرخى سدوله، وانقطع التيّار الكهربائي فبتنا في الظلام الدامس، ولجأ كلّ خمسة أو ستّة من النوّاب والوزراء إلى غرفة مستندين إلى جدار بعيد من الرصاص الداخل من

النوافذ، وخيّم السكوت على الجميع واشتدّ قلقهم. ولم يكن داخل السرايا إلاّ سبعة من رجال الدرك (أي الشرطة) سلاحهم الوحيد البنادق، فأمر نائب الرئيس بإغلاق أبواب السرايا ووضع الكراسي والمناضد خلفها. وأصبح الموقف حرجاً للغاية، فرئيس الوزراء وزملاؤه غير قادرين على الاتصال بأحد وقوة الحرس غير كافية للدفاع عن أي هجوم على السرايا، وكان ضجيج الرصاص يملأ أرجاء المدينة. وبهبوط الظلام تضاعف الرعب، وكان الجميع يتوجّسون خيفة من المصير المماثل لمصير حرس المجلس إذا عمد الجنود الإفرنسيون إلى الهجوم على السرايا واحتلالها والتخلص نهائياً من أعضاء الحكومة وما يقرب من ثلاثين نائباً من نواب المجلس. ودبّ اليأس إلى القلوب، وعكف الجميع على الصلوات والأدعية حيث لم يعُد ثمة ملجأ إلاّ الله لإنقاذنا من هذا المأزق وإخراجنا من السرايا. ثم بيّن خالد بك كيف خرجوا انسلالاً واحداً بعد واحد من الباب الجانبي ومشوا على أيديهم وأرجلهم في ظلّ حاجز نهر بردى حتى دخلوا البَحْصة، ومنها انتقلوا إلى دار خالد العظم في سوق صاروجا. إلى أن قال: ومدّ السيد مردم يده إلى الهاتف ليخبر أهله بأنه سليم وأنه في داري، فعرف الإفرنسيون الذين يستَرِقون السمع الملجأ الذي لجأت إليه الحكومة والنوّاب فصوّبوا مدافعهم علينا، فتساقطت القذائف على الدور المجاورة وانهارت على ساكنيها الآمنين ... ثم بدأ الإفرنسيون بإطلاق القذائف المحرقة على الدور الكائنة في مدخل سوق صاروجا، وأكثرها من الدور القديمة المبنيّة بالخشب واللبِن.

واشتعلَت النيران في الدور وانتشر الحريق بشكل مخيف، فخرجنا إلى الشارع وشاهدنا الناس آتين من جهة موقع الحريق يحملون ما خفّ من الثياب والأمتعة هرباً من النار، ثم أعقبَتهم جموع السكان وانتشر الذعر بينهم، وساد الاعتقاد بأن الحيّ كله سيكون فريسة للنيران وليس ثمة فرقة إطفائية قادرة على الحضور لأن الجنود الإفرنسيين كانوا يمنعونها من الوصول إلى مكان الحريق لإطفائه. ثم بيّن في تصوير صادق أمين كيف استطاعوا أن يصلوا إلى دار رئيس الجمهورية شكري بك القوّتلي، وكان مريضاً مرضاً ثقيلاً في داره. أعود إلى رواية كلام خالد العظم، قال: وهنالك استطعنا الوقوف على تسلسل الحوادث خلال اليومين السابقَين، فعلمنا أن رئيس الجمهورية استدعى وزير بريطانيا المفوّض فجاء داخل دبّابة إنكليزية، فاستقبله الرئيس وبلّغه احتجاجاً شديداً على أعمال الجيش الإفرنسي وطلب منه تدخّل حكومته لوقف هذا الاعتداء ومعالجة الأمر بالسرعة، فاقترح عليه المستر شون أن ينتقل إلى حيث يكون أقلّ تعرّضاً لأيّ تشبث فرنسي للقبض عليه وألمح إلى إمكان نقله إلى عمّان بحماية الدبّابات الإنكليزية، فرفض الرئيس بإباء وشَمَم ترك المجال فسيحاً أمام الإفرنسيين وقال: إذا كنت سأخرج من داري فسأخرج بسيارة الإسعاف إلى سرايا الحكومة حيث أمكث هناك، وليأتِ الإفرنسيون ليقبضوا عليّ هناك إذا تمكّنوا من أخذي حياً. ثم هدّد الوزيرَ البريطاني بأنه سيفعل ذلك إذا أعيَته الحيلة ولم تبادر إنكلترا إلى التدخّل في الأمر، فتحمّس الوزير وعاد

إلى مفوضيته وأرسل برقية إلى حكومته واصفاً أعمال الفرنسيين بالطيش والحمق، وذكر عدوانهم على مجلس النوّاب وقتلهم حُرّاسه وقصف المدينة بالمدافع والطائرات ولجوءهم إلى إشعال الحريق بالدور وكسر أبواب المخازن ونهبهم البضائع وسرقتها وإطلاق الحُرّية لجنودهم بالاعتداء على الناس. وأكّد الوزير أن كلّ هذه الأعمال العدوانية لم يكن لها ما يبرّرها ولا هي متفقة مع شرائع الحرب ... إلى آخر ما قال خالد بك. * * * يومان ما أظنّ أنه مرّ على بلد من البلدان مثلهما؛ كان كل بناء وكل إدارة وكل قلعة أو حصن فيها جنود فرنسيون مصدرَ قتل وبلاء، كان كل الجنود حيثما كانوا يطلقون النار على الناس ... لم يبقَ بمنجاة من هذا إلاّ حيّ المهاجرين. أما رئيس مجلس النوّاب فيقول خالد العظم في مذكّراته إنه كان في فندق الشرق، لم يستطع الخروج منه لأن الفرنسيين كانوا يُطلِقون الرصاص على الفندق ويسدّون مدخله فلا يَلِجه أحدٌ ولا يخرج منه أحد، فبقي معتصماً فيه حتى جاء وزير روسيا المفوض بسيارته يرفرف عليها علم دولته، فتوقّف إطلاق النار مدّة من الزمن، فانتهز سعد الله بك الجابري الفرصة وطلب من الوزير مرافقته بسيارته فخرجا معاً، وتابع معه سيره إلى بيروت حتى يُطلع حكومة لبنان على ما حصل بدمشق، وامتطى طيارة إلى القاهرة وأثار القضية على الملأ، فأدلى الرئيس مصطفى النحاس باشا بتصريح رسمي احتجّ فيه على موقف الفرنسيين وهدّدهم بنسف

مصالحهم في مصر. ثم اجتمع مجلس الجامعة العربية واشترك فيه الجابري مندوباً عن سوريا، وفيه تقَرّر الاحتجاج والسعي لإنقاذ سوريا. إلى أن قال: ولم يمضِ إلاّ وقت قليل حتى هتف بي الوزير حسن جبارة وقال لي: لك البشرى، هل استمعت إلى الراديو؟ قلت: أيّ راديو؟ أجاب: راديو لندن، فقد أذاع قبل هنيهة أن مستر تشرشل أرسل إنذاراً إلى الجنرال ديغول لإيقاف العدوان وأمهله مدة قصيرة لسحب جيشه من سوريا، وأبلغه أن قائد الجيش البريطاني المقيم في لبنان تلقّى أمراً بإرسال قوّة عسكرية إلى سوريا. * * * وفي يوم الجمعة في أول حزيران (يونيو) وصلت الدبّابات الإنكليزية الضخمة إلى دمشق ورابطَت في الشوارع الرئيسية، واختفى الجنود الفرنسيون بمثل لمح البصر وعادوا إلى أوكارهم، وكان يوماً شديداً عليهم كيومنا في ميسلون معهم. نعم، إن في الكون عدلاً، وإن له رباً إذا أمهل الظالم فإنه لا يُهمِله. هذه صفحة صادقة من سيرة ديغول كان ينبغي لمن سطرها ونشرها أن يضمّها إليها. * * *

في سبيل فلسطين قطعنا ربع محيط الأرض

-135 - في سبيل فلسطين قطعنا ربع محيط الأرض كنت أمشي في هذه الذكريات في طريق واضح، فتشعّبَت أمامي المسالك وافترقَت (كما قلت من قبلُ) الطرق، فمن أين أمشي الآن؟ أُتِمّ الكلام عن عملي في القضاء؟ أُكمِل الحديث عن فلسطين؟ أستمرّ في عرض نماذج عن أساليبي في كتاباتي؟ وهل أستطيع أن أعرض هذه النماذج كلها؟ اخترت مرة فقرات ممّا كتبت في شبابي عن الحب من كتابي «صور وخواطر» وكتابي «قصص من التاريخ» وكتابي «قصص من الحياة» ... وثقوا أني قلت ولم أفعل، والشعراء يقولون ما لا يفعلون. وإن وصفت جمال المرأة وفتونها وصفاً دقيقاً صادقاً، ولكن ما قارفت لذة منه بالحرام ولا قاربتها. فسمعَت طرفاً منه زوجتي وأنا أُمليه في الهاتف على الأخ الكريم طاهر أبي بكر ناموس «الشرق الأوسط» (أي سكرتيرها)، وهو جزاه الله خيراً يسجّلها ويطبعها، وجزى خيراً ولدي الأستاذ عادل صلاحي الذي يصحّحها، وجزى قبل ذلك الناشرَين الكريمَين الأخوين

الأستاذين هشاماً ومحمداً صاحبَي الجريدة وصبرهما عليّ وعلى طول ذكرياتي. فأنكرَت عليّ ما سمعت وقالت: ماذا يقول الناس عن شيخ يكتب في الحب؟ فتردّدت وأخّرت نشر ما اخترت. وهتف بي أستاذ كبير ما أُحِبّ أن أصرّح باسمه واستحلفني أن لا أفعل، وطلب إليّ أن أشرح قصّة الرحلة التي رحلناها من أجل فلسطين والتي أشرت إليها في الحلقة الماضية. فكان هذا الأستاذ كجَهيزة التي زعموا أنها دخلت نادي قومها وهم يحاولون رأب الصدع بين فرعَين منهم قتل رجلٌ من الفرع الأول رجلاً من الفرع الثاني، يريدون أن يقبل أولياء القتيل الدية وهم يأبَون إلاّ القصاص، وكانت قد استحكمَت بينهم عقدة الخلاف واشتدّ النزاع فقالت لهم: إن ولد المقتول قد انتقم لأبيه من القاتل. فقالوا: «قطعَتْ جهيزةُ قولَ كل خطيب»، وسارت مثلاً باقياً إلى الآن. قلت للأستاذ: شكراً لك، لقد أرحتني من هذا التردّد وأوضحت لي طريقي، ولكن الرحلة كانت سنة 1954 وأنا لا أزال في ذكريات سنة 1945. فقال: ومن طالبك بالسير في ذكرياتك مع السنين؟ إن القُرّاء يريدون الخبر سالماً كاملاً ولو خَفِيَ تاريخه، ولا يريدون أن تُقطَع أوصاله وتُفرّق أعضاؤه ليسلم له تاريخ وقوعه. قلت: هل تعرف حكاية بنت السلطان التي كانت تحكيها لنا الجدّات ونحن في الفراش في ليالي الشتاء الطوال لننام عليها؟ سألخّصها للقُرّاء، ولكن لا ليناموا بل ليبقوا مستيقظين، فإني

جاعلها فاتحة حلقة واسعة جداً من حلقات هذه الذكريات التي طالت جداً؛ بداية قصّة طويلة هي قصّة رحلة المشرق التي رحلناها من أجل فلسطين. كان لبنت السلطان عقد من نفيس الجواهر وغالي اللآلئ، ولكن ميزته فوق نفاسة جوهره وغلاء لآلئه رَصُّه العجيب، فهو من عشرين لوناً ولكن صانعه جعلها تأتلف وتختلف وتتقارب وتتباعد، حتى جاء منها صورة تُبهِر البصر وتستهوي القلب. فانقطع خيط العقد (أي نظامه) وتبعثرَت حبّاته، فأمضت بقيّة عمرها تبحث عنها وتحاول جمعها وما وصلت إلى الأقلّ منها، وما وصلت إليه لم تستطع أن تعيد صَفّه كما كان. لقد انقطع الآن -يا أيها القُرّاء- خيط ذكرياتي ولم أعُد أقدر أن أرتّبها على السنين، لقد ضاع التاريخ وتداخلَت الأحداث. فماذا أصنع؟ قلت ذلك للأستاذ الذي اقترح عليّ أن أكتب قصّة الرحلة فقال: إن ذهبَت صورة العقد وتبعثرَت حبّاته فاجعل ما وجدته منها عقوداً صغيرة وارصف في كلّ واحدة منها ما تجد من حبّات العقد الكبير، ثم إذا فرغتَ منها أَعدتَ ترتيبها ونسّقته. أي أن تنشر الذكريات الآن كما تجيء في ذهنك، ثم إن طبعتها الطبعة الثانية أعدتَ ترتيبها. كما فعل صديقك الكبير خير الدين الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز»؛ لقد جعله متداخل الأخبار مهوَّش الترتيب، ثم نظر فيه فجمع ما هو من أخبار الملك نفسه في كتاب سَمّاه «الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز». وأنت إن مدّ الله لك في العمر فعلتَ مثله، وإلاّ فإن

لك من إخوتك العلماء وبناتك المتعلّمات وأحفادك وحفيداتك، الطبيب منهم والمهندس، كان لك منهم مَن يعيد ترتيب الذكريات وكتابتها (¬1). المهمّ أن تدوّن ما بقي في ذهنك قبل أن تنساه. * * * كانت هذه الرحلة سفرة عجيبة، مشينا فيها من حيث مشى ابن بطّوطة وبلغنا من الجنوب الشرقي من آسيا ما لم يبلغ. وكان كلّما نزل بلداً ولي قضاءها وتزوّج منها وكان له من زوجاته أولاد، ثم ترك الزوجة والولد وذهب. ونحن ما قضينا بين الناس في محكمة ولا قضينا على أنفسنا بزواج! وكان ابن بطّوطة يجد من يمشي معه لا يفارقه يترجم عنه، ونحن كنّا نلقى المستقبِلين في كل بلد ندخله، ثم يدَعوننا أو نؤثر أن يدَعونا جلّ وقتنا وحدنا. رحلنا من القدس إلى عمّان إلى بغداد إلى كراتشي إلى آخر باكستان الشرقية، زرنا الهند ورأينا من بلادها دهلي (لا دلهي كما يقول الإنكليز) وبومباي (وهي من أجمل بلاد الدنيا) ولكنَوْ (بلد الصديق الداعية الشيخ أبي الحسن النّدْوي) وكَلْكُتّا التي كان فيها في تلك الأيام، قبل ثلاثين سنة، خمسة ملايين ونصف المليون. وكان معنا الشيخ محمد محمود الصواف، هو يدبّر أمرنا، يزيح عِلّتنا، يكفينا مؤونة الحِلّ والترحال، يهيّئ لنا كل شيء. فلما ¬

_ (¬1) صنعت شيئاً قريباً من ذلك، لكنني لا أدري أيجد طريقه إلى النشر ذات يوم أم هو يُطوى فلا يُنشَر. انظر تعليقي في حاشيةٍ على الحلقة 189 في الجزء السابع من هذه الذكريات (مجاهد).

رجع مضطراً من كراتشي إلى بغداد بقيت أنا والشيخ أمجد رحمة الله عليه وحدنا. فتصوّروا اثنين كان أمهرَهما وأخبرَهما بشؤون الحياة أنا الذي لا خبرة لي فيها ولا أملك من المهارة شيئاً. قلت إن الصواف كان ثالثنا في العدد ولكنه كان أوّلنا في العمل، فهو المحرّك لهذا المؤتمر الذي لم أحضر مؤتمراً غيره في عمري؛ هو الذي أعدّ له وله -بعد الله- أكبر الفضل فيه. وهو الرجل الاجتماعي الذي يسمّي كل من يلقاه باسمه ويسائله عن خبره وخبر أهله وأصحابه، والشيخ أمجد كان ينسى من لقيه بالأمس! ولقد دوّنت بعض ما رأيت من أخباره العجيبة بإذنه وبموافقته، فلما جئت أكتب الآن هذه الذكريات وجدت أني صرت مثله، وصحّ فيّ أنا ما رويته عنه هو! وكان أشقّ ما مرّ علينا أنا والشيخ أمجد بعد رجوع الصواف جهلنا لسان الإنكليز. ولغةُ التخاطب حيثما زرنا هي الإنكليزية، وهي لغة عرجاء مقطوعة النسب، تأتي في الترتيب والمنزلة خامسة بين لغات الأمم، ليس فيها قواعد مُحكَمة ولا ضوابط مطّردة، ليست مثل العربية في شرَف نسبها ومتانة سببها (السبب: الحبل) وثبات أصولها وضبط موازينها وحُسن اشتقاقها. العربية هي اللغة الأولى التي لم يعرف تاريخ اللغات مولدها لأن مولدها أقدم من مولد التاريخ، ولم يدرك طفولتها لأنه ما رآها إلاّ شابّة مكتملة الشباب. هي في الدرجة الأولى، أما الدرجة الثانية والثالثة فإنها شاغرة ما احتلّتها لغة من اللغات. وفي الدرجة الرابعة الفرنسية والألمانية معاً. ولكن الإنكليز بجدّهم ونشاطهم وسعة حيلتهم،

وأنه مرّ عليهم يوم كانوا يملكون فيه خُمس الأرض ويحكمون بقاعاً لا تغيب الشمس عنها لأنها إن غابت عن مغربها بدت في مشرقها، الإنكليز فرضوا لغتهم على الناس على ما فيها من عِوَج وضعف وخلل، ونحن أضعنا بكسلنا وخمولنا لغتنا. ولولا أنها قائمة بكتاب الله واللهُ تعهّد بحفظ كتابه، وما تعهّد الله بحفظه لا يقدر أحد على المسّ به، لولا ذلك لزالت ونُسيَت. قلنا لهم: كيف نمشي وما نعرف من الإنكليزية شيئاً؟ كيف نخاطب الناس؟ قالوا: ندلّكم على كلمة سحرية تفتح لكم كل مغلَق وتيسّر كلّ عسير وتحلّ كل معقود، فمهما رأيتم من ذلك فقولوها. قلنا: ما هي؟ قالوا: هي كلمة: «نو سبيكن». فكان الشيخ رحمه الله كلّما واجهته عقبة أو وقعنا في ضيق قال: أفندي قُلها، قُلها. وأذكر أن طائرة «كي. إل. إم» الهولندية التي كانت تُربَط الساعة على مواعيد قيامها وهبوطها تأخرت في سنغافورة ربع ساعة من أجلنا. جاؤونا ببيانات مطبوعة بالإنكليزية فقلنا: نو سبيكن. قالوا: سبيكن فرنش؟ أي تعرفون الفرنسية، فقلت لنفسي: إنني درستها وتعلّمت نحوها وصرفها وتمكنت من أدبها، وإن لم أُحسِنها نطقاً وبياناً، فلماذا لا أجرّب اليوم حظّي منها؟ ورأيت المسألة قد هانت فقلت: نعم. فجاؤوني برجل ما أدري من أين التقطوه، يتكلّم الفرنسية بفصاحة شاتوبريان وسرعة الممثل فرنانديل الذي كان يقلّده إسماعيل ياسين، فلم أستطع أن أفهم منه شيئاً، فعدت إلى الكلمة السحرية فقلت: نو سبيكن فرنش. قالوا ما معناه: سبيكن ماذا؟ قلت: العربية. فلم يجدوا في مطار سنغافورة من يعرفها. وأقول إن ممّا وقع لنا: لمّا وصلنا كراتشي في أوّل الرحلة

وعرفوا أني عربي أتكلّم العربية تباشروا ودعوا واحداً منهم، حسبته سيبويه آخَرَ ظهر من الأعاجم في آخر الزمان فكان في العربية كسيبويه الإمام. فلما وصل سلّم وسلّمت وقال: عربي؟ قلت: نعم. فأقبل عليّ عناقاً وتقبيلاً، وشممت منه رائحة هذا «التانبول» الذي يُقبِل عليه الهنود فأزعجني من ذلك تقبيله وعناقه. ثم بدأ الحوار. فقال: ما اسمي؟ قلت: لا أدري ما اسمك. قال: لا لا، اسم أنت. فقلت: اسمي أنا علي. قال: اسم أبي؟ قلت: عدنا إلى ما نجونا منه. ما الذي يدريني ما اسم أبيك؟ قال: أبي أنت، أبي أنت. قلت: الله يخرب بيتك، أنا أبوك؟ قال: لا لا، اسم أبي، اسم أبي أنت. ففهمت أنه يريد اسم أبي أنا ولكنه أخطأ في الضمائر ... وأكثر أخطائنا من علل الضمائر! ولكن ما لي أستعجل بسرد هذه الأخبار وأنا لم أفتح بعدُ صفحة الرحلة ولم أعرّف بها؟ عليّ أولاً أن أتكلّم عن السفر إلى المؤتمر ومَن دعا إليه، وعمّا كان فيه وكيف جرّني إليه الصواف ... ولست أدري الآن كيف استطاع ذلك وجَرُّ جبل أُحُد أهونُ من جَرّي، وحلحلة «ثهلان ذي الهضبات» الذي ذكره الفرزدق (ولا أعرف أين مكانه) (¬1) أهون من زحزحتي أنا عن مكاني! ¬

_ (¬1) ذكره أهل الأخبار والأشعار، وقال ياقوت إنه في العالية (أي عالية نجد) أو إنه في بلاد بني نمير. وفي الكتاب النفيس للشيخ محمد بن بليهد، «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار» (الذي طبع منذ ستين سنة وصار اليوم من النوادر، ولا أدري لماذا لا تُعاد طباعته)، أنه باق على اسمه إلى اليوم، ويبدو من وصف الشيخ أنه قريب من بلدة الدوادمي المعروفة. انظر صحيح الأخبار 1/ 102 و2/ 164 (مجاهد).

لقد كنت ألقي في تلك الأيام حديثاً أسبوعياً من إذاعة دمشق بعد صلاة الجمعة، يتفضّل السامعون بالإقبال عليه كما يتفضّل الناس هنا بسماع حديثي في الإذاعة وفي الرائي، كرماً منهم لا لأن أحاديثي تستحقّ هذا الاهتمام. انقطعت عن هذا الحديث نحواً من ثمانية أشهر، ثم عدت فحدّثت السامعين عن هذه الرحلة؛ وصفت فيها مراحلها مرحلة مرحلة، أَرَيتُهم ما رأيت وأسمعتُهم ما سمعت ونقلت إليهم ما شعرت به حتى كأنهم كانوا فيها معي، حدّثتهم عن فلسطين التي رأيتها يومئذ حديثاً لا يعرفونه وهم جيران فلسطين، عن القدس والقُرى الأمامية يوم كانت المشكلة مشكلة القدس، حين أخذوا أحياءها الجديدة فأعطوها اليهود وتركوا لنا القدس العتيقة بأزقّتها. وكانت مشكلة القرى الأمامية: قَلْقيلية وأمثالها التي أخذ اليهود بساتينها وزرعها وتركوا للناس بيوتها وصخرها، فصارت المشكلة الآن أنهم أخذوا حتى القدس القديمة وحتى القُرى الأمامية! حدّثتهم عن بغداد وعظمتها، بغداد التي عرفتم أني عشت فيها من عمري سنين، فلما عدت إليها بعد خمس عشرة سنة (أي سنة 1954) رأيت بغداد غير التي تركت فلم أكَد أعرفها. عن الموصل التي يُحِسّ الشامي فيها أنه في الشام أو في حلب على التخصيص من مدن الشام، عن البصرة، بندقية العرب (¬1) ومفتاح الشرق. عن باكستان، البلد المتوثّب الناهض الذي لم يكن مضى على استقلاله إلاّ سبع سنين. عن الهند، والهند دنيا من الأجناس ¬

_ (¬1) أي مدينة البندقية في إيطاليا.

والألوان والعجائب. عن ماليزيا، عن سيام (تايلاند) التي يسكن أهلها في بيوت تراها من بعيد كأنها ألاعيب الأطفال ولا ترى فيها إلا ضاحكاً، عن أندونيسيا بلاد الماء والخضرة والجمال. عن الشرق الغنيّ بطبيعته وناسه وأرضه وسمائه وماضيه ومستقبَله، فالطبيعة كلها كنوز: معادن وزيوت وشلاّلات، وثروات لا تنفد، والناس بعدد حبّات الرمل، والملايين فيه كالآلاف عندنا أو المئات، والسماء تسطع بالنور وتقطر بالخيرات، والأرض خصب ونبات وحقول وغابات ورياض وجنّات؛ ما رأينا من كراتشي إلى سورابايا في آخر جاوة بقعة واحدة جرداء. حدّثتهم عن الشرق الغنيّ بالماضي الفخم يوم كانت الحضارة فيه وكان فيه العلم وكانت فيه القوة وكان له في الأرض السلطان، وعن المستقبل الفخم الذي سيرجع إن شاء الله ذلك الماضي، والذي بدَت تباشيره وظهرَت بواكيره حين لم يبقَ في آسيا كلّها من جحيم الاستعمار إلاّ شُعَل صِغار لا تزال هنا وهناك؛ لقد أطفأَت أيدي الشرقيين تلك النار وأقامت مكانها جنّات تجري من تحتها الأنهار، لقد تحرّر الشرق ولن يعود إن شاء الله إلى الرّق أبداً. لقد انتهى عهد الاستعمار الذي كانت ترفرف راياته فوق أرضنا وتخطو جنوده على ثرانا، وخَلَفه استعمار آخر شَرٌّ منه، لا يحمل أخطارَه غرباء عنّا ولكن ناس منّا من أبنائنا، أخذهم الاستعمار فربّاهم على ما يريد هو فأتمّوا ما بدأ به، بل سبقوه وجاؤوا بما لم يقدر على أن يأتي بمثله. ولكن ذلك إن شاء الله لا يدوم. حدّثتهم عن الفتوح الإسلامية الثلاثة في الهند: الفتح

العربي؛ لقد سلكتُ طريقه الذي سلكه ومشيت من حيث مشى، وتتبعت آثار أقدام الجيش الذي خرج من دياره في أرض الحجاز يقوده الفتى العربي، ابن الطائف الذي فارق منازل أهله فيها ومشى ومشى ومشى، حتى جزع الأرض إلى موضع كراتشي اليوم. وأين أنت يا طائف من كراتشي؟ وكان الجندي يشري زاده بنفسه، وراحلته يشريها بنفسه أو يمشي على رجلَيه، وكان يصبر على الحر والقر والجوع والعطش، وكان مع ذلك كله يدعس (لا يدهس كما تقول الصحف) في طريقه كل قوة تعترضه وكل قلعة وحصن حتى بلغ الهند. ذلك الفتى هو محمد بن القاسم الثقَفي الذي لم يَزِدْ عمره يومئذ عن سبع عشرة سنة، وهي سنّ تلميذ في الصف الثاني الثانوي! والفتح الأفغاني، حين استعاد السلطان محمود الغزنوي ما فتح ابن القاسم، ثم حاز من الهند ما لم يَحُزْه قبله فاتح. ثم الفتح المغولي، فتح بابر وأحفاده الذين ملكوا الهند كلها، وكان منهم الإمبراطور «أكبر» الذي كفر في آخر عمره وأكره الناس على الكفر، ولفّق ديناً جديداً ما أنزل الله به من سلطان، فمحا الله هذا الدينَ الملفّق الجديد وبقي الإسلام إلى يوم القيامة. وكان من أحفاده شاه جيهان، أحد أعظم البنّائين من الملوك، الذي ترك أجمل أثر عمراني على وجه الأرض هو «تاج محل». ثم جاء منهم الملك الصالح «أورانك زيب» الذي ملك من الهند ما لم يملكه أحد، والذي جمع الحزم والعزم والتقى والصلاح والعلم والأدب، وكان خطّاطاً لا يجاريه إلاّ كبار الخطّاطين، ذلك الذي لا أعرف بعد الخلفاء الراشدين وبعد عمر بن عبد العزيز، وبعد

نور الدين وصلاح الدين وأمثالهم من الملوك الصالحين الكبار من هو أصلح منه. ومَن أراد أن يعرف قصّة «تاج محل» وذلك الحبّ الخالص وذلك الوفاء العجيب الذي حمله شاه جيهان لزوجته المحبوبة الجميلة التي ماتت في شبابها وفي فتنتها وجمالها «ممتاز محل»، ومن أراد خبر أورانك زيب (هذا الملك الصالح) وجد ذلك في كتابي «رجال من التاريخ» (¬1). حدّثتهم عن آثار المغول في قلب دهلي، عن القلعة الحمراء التي لا تزال آية في القوّة وفي الرشاقة بناها باني المسجد الجامع شاه جيهان. حدّثتهم عن كلكتا التي كان فيها بمقدار ما كان في سوريا ولبنان والأردن معاً يومئذ من السكان، وكان الناس فيها من بني آدم يَجرّون عربات الركوب والحمل بدلاً من أن تجرّها الحيوانات، والبقر تمشي تتبختر في الشوارع لأنها مقدسة معبودة لا يعرض لها أحد بسوء! عن لكنَو (التي فيها ندوة العلماء)، عن ديوبَنْد (التي فيها «أزهر» الهند)، عن عروس المدائن بومباي. ثمانية أشهر، كم دخلت فيها من بلدان وكم لقيت من ناس، وكم شاهدت من عجائب وغرائب ولطائف وطرائف! وما نسيت ¬

_ (¬1) انظر في كتاب «رجال من التاريخ» مقالة «بقية الخلفاء الراشدين» ففيها خبر أورانك زيب وتفصيلات عن تاريخ المسلمين في الهند لا يعرفها عامة الناس، وفي مقالة «الملك الصالح» طرف آخر من هذه الأخبار (مجاهد).

بلدي على هذا كلّه يوماً ولا خمد الشوق إليها ساعة، وكان في قلبي وعلى لساني دائماً بيت الشريف: وقائلةٍ في الرّكْبِ ما أنتَ مُشتهٍ؟ ... غداةَ جزَعْنا الرملَ، قلتُ: أعودُ لقد عدت وفي جعبتي مئات من الصور، من كلّ طريف مُعجِب وكل طريف مُطرِب، نثرت عليهم أكثرها وجلّيتها لهم في أحاديثي فرأوا جديداً لا يعرفونه. ولو أنني رجعت من أوربّا وأميركا وفتّشوني لما وجدوا معي عجباً لأنهم يعرفون ألوان الحياة في أوربّا وأميركا، يعرفونها من السينمات والأفلام، ومن الكتب والمجلاّت، ومن ألسنة الراحلين إليها. أمّا بلاد المشرق فما كنت أعرف أنا ولا يعرفون هم من أمرها إلا القليل؛ لم يكن قد زار أندونيسيا قبلي من السوريين إلاّ نفر قلائل، والذين كتبوا عنها أقلّ. هذه الأحاديث التي أذعتها لم أكتبها، وقد ضاع أكثرها فيما ضاع ممّا حدّثت به (¬1). أقول هذا وقلبي يملؤه الأسف. وما جدوى الأسف على ميت قد مات ولن يعود إلى الحياة؟ ¬

_ (¬1) بعض هذه الأحاديث نجا من الضياع فخرج منه كتاب «في أندونيسيا» الذي طُبع أول مرة سنة 1960، وكانت نيّة جدي رحمه الله أن يجعل ذلك الكتاب جزءاً من تاريخ الرحلة ثم يُتبعه بآخر يخصصه لأخبار الباكستان والهند (وقد أمضى فيهما شطر رحلته)، لذلك حمل كتاب «في أندونيسيا» في طبعته الأولى هذا الإعلان في آخر صفحة من صفحاته: "ارتقبوا كتاب علي الطنطاوي: «في السند والهند»، وهو يصدر قريباً إن شاء الله". ثم مرت الأيام ولم يصدر الكتاب. وكل =

فهل أستطيع الآن (بعد ثلاثين سنة كاملة) أن أتذكّر ما كان في هذه الرحلة؟ أن أصف ما رأيت؟ أن أروي ما سمعت؟ أن أُسَمّي من عرفت من أفاضل الرجال؟ هل أستطيع ذلك؟ سأجرّب وعلى الله الاتكال، ومنكم صالح الدعوات. * * *

_ = ما يأتي في هذه الذكريات من أخبار الرحلة لا يخلو من أن يكون مختارات من كتاب أندونيسيا المنشور أو تبييضاً لمُسَوَّدات قليلة كتبها جدي رحمه الله عن الهند والباكستان وكان ينبغي أن يستكملها لتصبح الكتاب الموعود. وقد بقيَت بعضُ هذه المسوَّدات فلم تُنشَر لا في هذه الذكريات ولا في أي مكان، وأرجو أن أوفَّق إلى نشرها قريباً في موضعها المناسب بإذن الله (مجاهد).

قصتي مع رقص السماح

-136 - قصّتي مع رقص السماح فارقتكم في آخر الحلقة الماضية على أن نبدأ رحلة المشرق، «قَد أَزِف الرّحيلُ وشُدّت الأهْداجُ»، كما قال الشاعر القديم، يوم كانوا يسافرون على الإبل، ينصبون عليها الهوادج للنساء مبالغة منهم في إعزازهن وإكرامهن، حتى كأنهن لا يخرجن من بيوتهن ليسافرن بل تسافر بهن البيوت وهن فيها. ولكن خبّروني: ماذا تصنعون إذا عرضَت لكم ساعةَ السفر حاجةٌ ترغبون قضاءها قبل الرحيل؟ لذلك أستأذنكم أن أجيب على رسالة وصلت إليّ معها قصاصة من جريدة، فيها كلمة يُثني كاتبها على رقص السماح وعلى أنه مثال الاحتشام والكمال، ويسألني ما رأيي فيه. لي مع رقص السماح هذا قصّة هزّت دمشق هزاً وشغلَت صحفها، وكان لوزارة العدل نصيب فيها وللمجلس النيابي، واستُجوِبَت الحكومة بشأنها. أفأسافر قبل أن أنبّئكم نبأها؟ في القصص يقدمون للقُرّاء أبطالها ويعرّفونهم بهم قبل الدخول فيها. وأبطال هذه القصّة مدرسة «دَوْحة الأدب» في

دمشق، وشيوخ الموسيقى في حلب، وفخري البارودي. أمّا مدرسة دوحة الأدب فهي ثانوية أهلية أنشأها بعض من يدعوهم الناس بالزعيمات النسائيات، اللواتي يُغلِقن عيناً وينظرن بالأخرى وحدها (كما يفعل الصيّاد قبل أن يضغط على الزناد). ينظرن إلى الغرب وعاداته بعين الرضا ويُغمِضن العين عن عيوبه وعن مفاسده، كما يُغمِضنها فلا يبصرن بها جَمال ما في الشرق المسلم من فضائل ومكرمات. استدعت هذه المدرسة من دمشق أكابر مترَفيها ففسقوا فيها. أوَليس من الفسوق في نظر الشرع أن يُرسِل أبٌ ابنتَه البالغة متكشّفةً مُبدِية زينتها إلى حيث تختلط برجال أجانب عنها ليسوا بمحارمها؟ ولو كانوا أساتذة لها، وإن لم يكن بينها وبين واحد منهم حبّ ولا غرام ولا اتصال بالحرام؟ وأمّا حلب فقد كانت مثابة الفنّ العربي فيها أساطينه ودهاقينه، وكان ممّا تفرّدَت به فرع من هذا الفنّ عنوانه «اسقِ العِطاش» مشهور معروف، مختلَف في أصله؛ فقائل إنه قديم منسوب للشيخ أبي الوفاء المصري الصوفي وإن الشيخ عبد الغني النابلسي عارضه. وهو فقيه دمشقي عالم متمكّن، لكنه من القائلين بوحدة الوجود على مذهب ابن عربي. وهي مقالة مقتبَسة عن الأفلاطونية الحديثة منافية للتوحيد الذي جاء به محمد والرسل من قبله عليهم صلوات الله وسلامه. والكلام الآن على النغمة والمقام لا على صحّة أو بطلان الكلام. ولعلّ أصله نوع من الاستسقاء كانوا ينشدونه عندما ينقطع

غيث السماء، أكثره تضرع ودعاء، من مثل قولهم: يا ذا الْعَطا، يا ذا الْوَفا ... يا ذا الرّضا، يا ذا السَّخا اسقِ العِطاشَ تكرُّما ... فالعقلُ طاشَ منَ الظَّما وكان هؤلاء المشايخ إذا أنشدوا الموشّحات وما يماثلها وقفوا وعبّروا بدقات أقدامهم على الإيقاع الموسيقي وبأيديهم عن حركات النغمة على أسلوب يعرفونه. ولا شكّ أنه بدعة سيّئة، وأسوأ منه وأقبح وأولى بالإنكار ما يُسمّى عندهم بالذكر، وما هو من الذكر، لكنه في لغة العرب وفي اصطلاح العلماء يُدعَى الرقص. ونقل ابن عابدين في الجزء الثالث من حاشيته (وهي عمدة المفتين في المذهب الحنفي) عن المنظومة الوهبانية هذا البيت: ومَن يستحِلّ الرقصَ قالوا بكُفرِهِ ولا سيّما بالدّفِّ يلهو ويزمِرُ وأمّا فخري البارودي فهو أبرز الزعماء الوطنيين الشعبيين في دمشق، غنيّ واسع الغِنى كريم شديد الكرم، خفيف الروح ساحر الحديث حاضر النكتة، لكنه -والله أعلم بحاله- رقيق الدّين. يخطب خُطَباً يخلط فيها الفصحى بالعامّية، تؤثّر في الناس تُضحِكهم كثيراً وتبكيهم أحياناً، يخاطب العامّة باللسان الذي تفهمه العامّة، ولا تنكر ما يقوله الخاصّة. ولقد سبق الكلام عنه في هذه الذكريات. ولي معه مواقف طريفة، منها أنه لمّا نجح في الانتخابات في سنة من السنين، وكان الحشد الكبير في داره الكبيرة في

القَنَوات وتعاور الخطباء المنبر، قال لي: لا بد أن تتكلّم. وصاح بالناس: كَفّ يا شباب، سَمَاع (أي صفّقوا واستمعوا)، الشيخ علي الطنطاوي. وكنت أُدعى بالشيخ من قبل سنة 1930، ولذلك قصّة سأقصّها يوماً (¬1). فقلت له: إني نظمت قصيدة. قال (بلهجته العامّية) وشاعر أيضاً؟ تقبرني (وهي كلمة تحبُّب تُقال في الشام). قلت: نعم. قال: هات. وأصغى الناس، وأردت أن أجعلها نكتة فقلت (كأنني ألقي مطلع قصيدة): دمشقُ قدْ فازَ الزعيمُ فخري. هل انتبهتم إلى النكتة في كلمة «فخري»؟ فضحكوا جميعاً وقال: بلحيتك (يخاطبني أنا). نطق بدري! (وهي كلمة لا يعرفها إلاّ الشاميون، أو الكهول والكبار منهم) (¬2). كان فخري البارودي وطنياً مُخلِصاً وأميناً على المال، ولكن الناس يتّهمونه تهمة شائعة وقالة سوء قيلت عنه، ما حقّقتها ¬

_ (¬1) قال علي الطنطاوي في الحلقة 244 من هذه الذكريات: كان أبي إمامَ المسجد الصغير، فلما توفّاه الله ولّوني أنا الإمامة وأنا لم أكمل السابعة عشرة، فقالوا لي: لا بدّ للإمام من عمامة. فأدرتُ على طربوشي عمامة فصرت شيخاً صغيراً. قالوا: ولا بدّ له من لحية. قلت: العمامة أتينا بها من عند البزّاز (أي بائع القماش) فمن أين آتي باللحية؟ (مجاهد). (¬2) يقولون: "حَكَى بَدْري"، تُقال لمن يجيء بالكلام السخيف الذي لا يتناسب مع المقام؛ كأنما يقولون: سكوتك خير من كلامك هذا. والنكتة التي أشار إليها في قوله «فخري» تُفهَم مسموعة لا مكتوبة، لأنها تحتاج إلى ألف بين الفاء والخاء! (مجاهد).

وأستغفر الله من روايتها من غير تأكد منها. ولكن الذي حقّقته وتأكدت منه أن ولعه بالموسيقى وحبّه للفنّ أوصله إلى فكرة شيطانية ما أحسب أنها خطرت في بال إبليس نفسه، هي أن ينقل رقص السماح هذا من المشايخ والكهول ذوي اللِّحى إلى الغيد الأماليد والصبايا الجميلات من بنات دوحة الأدب، التي دعوتها من يومئذ «دوحة الغضب». ولعلّ هذه النقلة على ما فيها من الفسوق الظاهر، لعلّها أيسر من بعض ما في أناشيد المشايخ من شِرك يكاد يكون ظاهراً. فجاء من حلب بأستاذ كان في حفظ الموشحات ومعرفة الغناء القديم مُفرَداً لا يجاريه في ذلك أحد ولا يدانيه، هو الشيخ عمر البطش. وكان بعمامة مطرزة يلبسها التجّار في الشام تفريقاً لها عن العمامة البيضاء التي يلبسها العلماء، وإن كان الشيخ بدر الدين الحسني المحدّث الأكبر والشيخ علي الدقر الواعظ الأشهر يتخذانها. وفُصّلت للطالبات ثياب من الحرير بأزهى الألوان، فضفاضة كثياب القِيان والإماء في بغداد قديماً وفي مدن الأندلس. وحفّظهن هذه الموشحات، ولكنه نقلها ممّا كانت عليه حين كان يُنشِدها ويرقص عليها المشايخ من تضرّع ودعاء واستغاثة ونداء، إلى كلام كلّه عشق وغرام وشوق وهيام، وكثير منه صيغ ليكون من كلام البنت تخاطب الرجل. وشتّان بين غزل الشاعر ونسيب الشاعرة! أشرح لكم الفرق: حين تقول "ضرب زيد عَمراً" يكون موقع الرجل كمحل زيد من الإعراب، ومحلّها هي في موضع عمرو.

هل فهمتهم؟ هو يقول: تعالي، وهي تقول: خذني. واستمرّ التدريب ونحن لا ندري به. وما يُدرينا بالذي وراء جدران مدرسة أهلية للبنات، ونحن لا ندخلها وما لنا فيها قريبة ولا نسيبة تخبرنا بالذي فيها؟ حتى سمعت أنها ستقام حفلة كبيرة في دار أسعد باشا العظم، وهي أوسع الدور الدمشقية وقد صارت الآن متحف الفنون الشعبية. فكتبت أنقد إقامتها وأحذّر منها، وأنصح آباء البنات وأولياءهن أن يمسكوا بناتهم فلا يبعثوا بهنّ إليها. وكيف يرضى لبنته مسلمٌ عربي أبيّ أن ترقص أمام الرجال الأجانب، وتتخلّع وهي تغنّي أغاني كلها في الغرام والهيام؟ ولكن الحفلة أُقيمت، وحضرها رئيس الوزراء وأظنّ أنه كان خالد بك العظم، وحضرها العقيد أديب الشيشكلي، وقد كان بعد قتل حسني الزعيم هو الحاكم من وراء ستار، الجيش معه وحكم البلد في يده، وحضرها قوم مِمّن يُدعَون بوجوه الناس وكبارهم. وعرفنا خبرها من الجرائد ومن الإذاعة، ولم يكن قد جاءنا هذا الرائي أي التلفزيون. * * * وأنا من عادتي إذا سمعت بمنكَر أو رأيته أُدخِله ذهني كما تدخل المعلومات في المِحساب (¬1)، فأنام عنه كما أنام كل ليلة ¬

_ (¬1) «المحساب» كلمة وضعتها للكمبيوتر، كما وضعت من قبل كلمة «الرائي» للتلفزيون وكلمة «الرادّ» للراديو، لأنه يردّ علينا الصوت الخارج من المذياع.

كأن شيئاً لم يلج فكري، فإذا كان قبل موعد قيامي لصلاة الفجر استيقظت من نومي، فوجدت الفكرة قد ملأت نفسي وغلبَت على فكري وتملّكَت أعصابي، فأتحمّس لها وأُعِدّ في ذهني ما أكتبه أو أقوله عنها، ويطير النوم من عيني فألبث متيقّظاً أترقّب طلوع النهار. وكنت يومئذ القاضي الممتاز في دمشق، ولعلّ ذلك بمثابة رئيس المحكمة الشرعية الكبرى في المملكة وفي مصر. وكنت أخطب مع ذلك في مسجد الجامعة، وهو مسجد صغير أقامه العثمانيون لمّا بنوا الثكنة الحميدية التي صارت فيها الجامعة، وهي الأخت الكبرى للثكنة في مكّة التي ترونها عند البيبان، هي مثلها في بنيانها ولكنها أوسع منها وأضخم. فلما غلب الفرنسيون عليها جعلوا المسجد نادياً أو ملهى وصوّروا على جدرانه صوراً، فلما استرددنا الثكنة عمل طائفة من الشباب على رأسهم أخي الأصغر محمد سعيد، بذلوا الجهد ودأبوا وثابروا حتى استرجعوا المسجد. وأُقيمت فيه الصلاة، وألقيتُ فيه أول خطبة جمعة وكان موضوعها «خطبة الجمعة»، ثم جعلوا فيه دروساً ليلية ألقيت أنا بحمد الله أول درس فيها، ثم نُشرت رسائل كتبت أنا أوّل رسالة منها، وكان الذي يرتّب الخطب والدروس ويطبع الرسائل أخي محمد سعيد. * * *

فلما أُقيمت هذه الحفلة رقص فيها هؤلاء البنات رقصة السماح، وهُنّ صفوة فتيات دمشق جمالاً ومالاً ودلالاً، وألبسوهن ألبسة حريرية ملوّنة فضفاضة كالتي كان يلبسها الجواري قديماً. لم يكن في هذه الرقصة عورة مكشوفة، ولا كانت رقصة هزّ البطن الظاهر التي تعرفها بعض البلاد، ولا كان فيها عرض الأفخاذ بحركات متّزنة كالذي يدعونه رقص الباليه. ولكن فيها ما أظنّ أنه أضرّ على الشباب من ذلك كله؛ لأن فيها -على الرغم من الثياب الواسعة- من الإثارة ما كان يتعمّد مثلَه في العصر العباسي الإماءُ الفاتنات المستورَدات لإثارة ميول الرجال. وكان من عادتي حين أصعد المنبر لأخطب خطبة الجمعة أن أُعِدّ الموضوع في ذهني، لا أكتبه لأنه ليس أقبح من خطيب يتلو خطبته من ورقة مكتوبة، يضع عينيه فيها، لا ينظر إلى الناس بل يكلّمهم مُعرِضاً عنهم. وأقبح منه مَن يفعل ذلك في الرائي (أي في التلفزيون). وربما أعددت في ذهني موضوعَين أتردّد بينهما، أيهما أختار منهما. حتى إن المؤذّن بين يديّ يصل إلى «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» وأنا لا أزال متردّداً في اختيار الموضوع، ولكن الموضوعَين في ذهني، فإذا بدأت بأحدهما فتح الله عليّ وانطلقت أتكلّم فيه. ولم أكُن أنوي التعرّض للحفلة لأنني تكلّمت فيها وكتبت، وحسبت أني أعذرت بذلك إلى ربي. ولكني لمّا بلغت الدعاء في آخر الخطبة خطرَت على بالي الحفلة وما كان فيها، فخفت من

الله أن يراني ساكتاً على إنكارها وأن أكون شيطاناً أخرس. وأنا لا أرضى لنفسي أن أكون شيطاناً ناطقاً بليغاً، أفأرضى أن أكون شيطاناً أخرس؟ وأحسست أن شيئاً قد نبض في قلبي فهزّه مثل هزّة الكهرباء وسرى في أعصابي وعروقي. وحين أحسّ بذلك أعلم أني إن تكلّمت كان كلامي لله وأن الله لا يخذلني، وقع لي ذلك عشرات من المرات، ما تخلّى الله عني في واحدة منها. أمّا حين أتكلّم للدنيا وأفكّر في نفع أناله من كلامي أو ضرر أتحاشاه، إن تكلّمت في هذه الحال لم يكن لكلامي أثر في نفوس السامعين. لمّا بلغت الدعاء قلت كلاماً صدِّقوا أنني لا أحفظه لأنني لم أُعِدّه ولم أرصفه، وإنما تكلّم به إيماني على لساني. قال السامعون لي بعد ذلك أنني قلت ما معناه أن دمشق ظئر الإسلام ومثابة الأخلاق لا ترضى بما يخالف الإسلام ولا بما يذهب بمكارم الأخلاق، كائناً مَن كان قائله أو فاعله وكانت منزلته بين الناس، وأن هذه الحفلة منكَرة وأنها حرام وأنها تنافي الإسلام، وأن كل من حضرها ورضي بها آثم، وأن الذي لا يغار على محارمه ديّوث! وخرجَت الكلمات من فمي كالرصاصات من المدفع الرشاش، ما احتمل هذا الكلام كله دقيقتين اثنتين. وشُدِهَ السامعون أوّلاً، ثم خشعوا ثم اقتنعوا واستيقظَت ضمائرهم المؤمنة، وقرأت في الصلاة آيات قالوا إنها جاءت مناسبة للمقام، لا أعرف الآن والله الذي قرأت يومئذ في الصلاة. وأقبل الناس عليّ بعدها داعين مهنّئين خائفين عليّ، فقلت

لهم: إني فعلت ذلك لله، والله لا يتخلّى عمّن يعمل له. ومشَت كلمتي في الناس مشي الكهرباء، تنتقل من أقصى البلد إلى أقصاها في لحظة، فلم يُمسِ المساء حتى كانت حديث الناس. أمّا الحكومة فعلمت أنها فوجِئَت وغضبَت، ولكن لم تجد سبيلاً عليّ فأنا أتمتّع بحصانات: بحصانة القضاء، وحصانة الدين لأني أخطب خطبة الجمعة في بيت الله، ومن ورائي الأُمّة المسلمة وآلاف من الشباب يدافعون عمّن ينصر دين الله. فلم تجد الحكومة إلاّ أن تصبّ غضبها على رأس مذيعة ما لها ذنب، أظنّ أن اسمها فاطمة البديري، ولست أعرفها. لمّا سألوها قالت لهم: ماذا كنتم تريدون أن أصنع؟ هل أقطع البثّ؟ (ونسيت أن أقول لكم إن الخطبة كانت تُذاع من الإذاعة على الهواء). هل أقطع الخطبة والخطيب من رجال الدين؟ ثم إنه قاضي البلد، وماذا يقول سامعو الإذاعة؟ ثم إن الأمر كله لم يمتدّ إلاّ أقلّ من دقيقتين، لم أُفِق فيهما من دهشتي حتى أرجع إلى عقلي وأقدّر ما ينبغي عليّ أن أفعل؟ وعلى هذا الدفاع المخلص أوقعوا عليها العقاب. * * * وانقسم الناس قسمَين: أمّا أهل الدنيا وفيهم بعض الحاكمين وبعض الصحافيين فحملوا عليّ وكتبوا عني ما شاؤوا وشاء لهم هوى نفوسهم. وقد قلت لكم من قبلُ شيئاً قد لا تصدّقونه ولكنه

حقّ، هو أن الجرائد في الشام تُعلَّق على جدار القصر العدلي، وأنه طالما وقع لي أن الجرائد كلها تحمل عليّ وتسبّني بالعناوين الكبيرة، وأنا أمرّ بها فلا ألتفت إليها وأدخل إلى المحكمة وأباشر عملي وأنساها كأنني ما رأيتها. وأقسم لكم لتصدّقوا أنني إلى هذه الساعة لم أدرِ ما الذي كتبوه عني. أمّا أهل الدين (وهم الكثرة الكاثرة من السوريين بحمد الله ربّ العالمين) فهم معي، حتى إن القاضي الفاضل العالم الشيخ محمد الأهدلي (رحمه الله) كتب مقالة عنوانها: «كلنا علي الطنطاوي» ذهب فيها في تأييدي كل مذهب ممكن. ونشرَت الهيئات الإسلامية بياناً طبعت منه أكثر من مئة ألف نسخة ووزّعته في أرجاء البلاد عنوانه «بيان الهيئات الإسلامية إلى الشعب الكريم». كان ممّا قالت فيه: إن الجمعيات الإسلامية وعلماء المسلمين تُعلِن للحكومة باسم الدين، وباسم الدستور، والكثرة الساحقة من هذا الشعب الذي تُنكِر أديانه على اختلافها، وتُنكِر أعرافه وأخلاقه الفسوقَ والدعارة والتهتّك وإقامة الحفلات الراقصة المتكشّفة باسم الفنّ والذوق والرياضة، والتي غضبت من الحفلة التي أقامتها مدرسة دوحة الأدب وعُرضت فيها البنات المسلمات راقصات أمام الرجال، في شهر رمضان شهر الطاعة، ونحن في مرحلة حرب مع اليهود، ولا يُستنزَل نصر الله بمعصية الله. تعلن للحكومة أنها -قياماً بواجب الدين الذي يأمر بإنكار المنكَر، وتنفيذاً لأحكام الدستور الذي يحمي الخلق والعفاف،

وذوداً عن عقائدها وأخلاقها- لا ترضى بمخالفة شرع الله وشرع العفاف، والسماح للفئة التي تتبع أهواءها وشهواتها باسم دعوى التقدمية والتجدّد أن تتحكم بأخلاقها وأعراض بناتها ومستقبل أبنائها، وتؤيّد (وأنا هنا أنقل ما هو مكتوب) فضيلة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في كلمة الحقّ التي أعلنها في خطبته في مسجد الجامعة وعبّر فيها عن حكم الدين، وتُنكر كل تحريف لها، وتطلب وضع حدّ لمؤازرة بعض رجال الحكومة لهؤلاء الناس وحمايتهم للحفلات الماجنة، إلخ. أما التوقيعات فهي: رئيس رابطة العلماء أبو الخير الميداني، رئيس جمعية تضامُن العلماء كامل القصّاب، رئيس جمعية الهداية الإسلامية محمد سعيد الحمزاوي، نائب رئيس رابطة العلماء مكي الكتّاني، رئيس جمعية التوجيه الإسلامي حسن حبنّكة الميداني، رئيس جمعية الأنصار أحمد كفتارو، رئيس جمعية التهذيب والتعليم هاشم الخطيب، رئيس جمعية الشعائر الدينية محمد الهاشمي، نائب رئيس الجمعية الغرّاء أحمد الدقر، المراقب العامّ للإخوان المسلمين مصطفى السباعي، رئيس جمعية التمدن الإسلامي محمد حسن الشطي (رحمهم الله جميعاً). * * * ثم أصدرَت جمعية الهداية الإسلامية منشوراً آخر قالت فيه: لقد حذّر فضيلة الشيخ الطنطاوي (عفواً فإني أنقل ما هو مكتوب) وكثيرٌ من العلماء والجمعيات الحكومةَ من إقامة هذه الحفلة وممّا ينشأ عنها من ذيول هي في غِنى عنها وعن عواقبها. وليس الظرف

بالذي يلائم التفكّك بين أفراد الشعب الواحد أو إثارة مسائل لا يرضى عنها الدين ... إلى أن قالت: وما كان الذي جرى بالأمر الذي يسكت عنه قادة الدين وعلماء المسلمين وفي طليعتهم (عفواً مرة ثانية) فضيلة قاضي دمشق الشرعي الأستاذ الطنطاوي، إلخ. ولمّا قابل وفود العلماء رئيسَ الوزراء (وأحسب أنه كان خالد بك العظم) قال لهم إنه يحترمني ويقدّرني، ولكنه أنكر لفظاً بذيئاً لا يليق بي قد استعملته هو لفظ الديّوث. فصرخ به الشيخ عبد القادر العاني (وكان جهير الصوت حديد المزاج صدّاعاً بالحقّ): "لقد كفرت وحَرُمَت عليك امرأتك إلاّ أن تجدّد إسلامك! أتقول عن لفظ استعمله رسول الله ووَرَدَ في الحديث أنه لفظ بذيء؟ " ... يريد لفظ «الديّوث» الذي ورد في حديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم، فبُهِت ولم يجد بداً من الاعتذار. ثم انتقلَت القضية إلى المجلس النيابي وأُثيرَت في جلسة 26 حزيران (يونيو) 1951 (الموافق 22 من شهر رمضان سنة 1370هـ)، وكان الاستجواب موقَّعاً من نائب دمشق مصطفى السباعي ونائب دمشق محمد المبارك ونائب المعرّة حكمة الحراكي ونائب الباب عبد الوهاب سكر، رحم الله الجميع فقد مضوا إلى رحمة الله. أمّا الاستجواب فمنشور في الجريدة الرسمية في الصفحة 259 من المجلد الصادر سنة 1951. لا أستطيع أن أورد الاستجواب كله لأنه طويل، ولكن ألخّصه فيما يأتي: يقول أولاً: هل ترى الحكومة في هذه الحفلة التي أُقيمَت في

قصر آل العظم باسم معهد دوحة الأدب، وبرزَت فيها الفتيات في سنّ الثامنة عشرة والعشرين في رقصات متعدّدة أمام الجمهور، وأنشدن أناشيد الهوى والغرام بشكل مثير استُعملت فيها آيات القرآن في مواطن لا تتّفق مع جلالة القرآن وقدسيته، هل ترى الحكومة في هذا ما يتفق مع نصوص الدستور وبيانها الوزاري؟ هل ترى الحكومة أنه كان من المناسب إذاعة هذه الحفلة من محطّة الإذاعة الرسمية في شهر هو عنوان العبادة والتقوى والخضوع إلى الله، وهو شهر رمضان؟ هل ترى الحكومة أن مثل هذه الحفلات يصحّ أن يقوم بها معهد أُنشئ للتعليم والتهذيب؟ هل ترى الحكومة أنه ممّا ينسجم مع بيانها الوزاري ومع تعليمات وزارة الداخلية بمنع الاختلاط في الشوارع العامّة بين الرجال والنساء في شهر رمضان أن سُمح بالاختلاط في تلك الحفلة، حين كانت السيدات والتلميذات في أتمّ زينة وأجمل حلية؟ هل ترى الحكومة في تقديم الأستاذ الطنطاوي للقضاء احتراماً لحرّية الرأي ولحرّية المساجد، وللإسلام الذي نصّ الدستور على وجوب استمساك الدولة به وبآدابه؟ إلخ. وتكلّم في هذه الجلسة الأستاذ محمد المبارك (رحمه الله ورحم الجميع) فقال كلمة طيّبة جاء فيها: إن رقص السماح -أيها الإخوان- الذي يريد بعض الناس أن يفخر به قد رافق عصر الانحلال والانحطاط في الأندلس وفي بعض البلاد العربية الأخرى، أفلا يجب أن نقلّد، إذا ما أردنا أن نقلّد، عصور الحضارة والمدّ الذهبي الذي كانت فيه المرأة تجمع بين الخلق والكرامة

والجهاد والكفاح؟ إلخ. ثم تكلّم رئيس المجلس فدعا النوّاب إلى إرجاء البحث في هذه القضية حتى يَرِدَ جواب الحكومة، ثم أعطى الكلمة للدكتور منير العجلاني فكان ممّا قال: سيدي الرئيس، لقد ألقيت سؤالاً على معالي وزير العدلية يتعلّق بقضية قاضي دمشق الأستاذ الطنطاوي. وليس القصد إحراج معالي الوزير، فهو شخصية محببة مهذّبة وأنا من الذين يُحِبّونه ويحترمونه، ولكنْ أردت أن نفهم من هذا السؤال الأسباب الحقيقية التي حملت الصحف على تكثيف حملة غاشمة ضدّ كاتب كبير ومناضل وطنيّ معروف (أعتذر مرة ثالثة لأنني أنقل مدح نفسي) هو فضيلة قاضي دمشق الأستاذ علي الطنطاوي. وقد كان من جملة الأشخاص الذين استمعوا إلى خطابه في المسجد أستاذ في كلّية الحقوق هو الأستاذ مصطفى الزرقا، كما استمع إليه أستاذ آخر هو الدكتور مصطفى البارودي، وقد أكّدا لي أن فضيلة القاضي لم يأتِ على ذِكر حفلة دوحة الأدب بصراحة ولا تعرّض لها بجملة مخصوصة، إلخ. ثم ألقى الشيخ الدكتور مصطفى السباعي كلمة قال فيها: إننا نزولاً عند رغبة مقام رئاسة المجلس النيابي ودولة رئيس مجلس الوزراء نُرجئ بحث هذا الموضوع حتى يأتي جواب الحكومة، ولعلها تسعى في هذه المدّة إلى إصلاح الجوّ بما يحفظ لنا الأخلاق ويحفظ سمعتنا في البلاد العربية الشقيقة ... إلى آخر ما قال. * * * هذه هي القضية التي شغلت الناس والتي لم أُرِدْ من إثارتها

-يعلم الله- إلاّ إنكار المنكَر، وقد حوكمتُ بعدها أمام مجلس القضاء الأعلى، عليها وعلى مقالة كنت كتبتها في نقد قانون العقوبات الذي يكاد يُبيح الزنا، وقلت عنه إنه قانون «القطاط في شباط»! وقصة المحاكمة طويلة، وقد انتهت بالحكم عليّ بخصم عُشر راتبي شهرَين متعاقبَين! * * *

تعليقات وهوامش

-137 - تعليقات وهوامش مَثَلي فيما كتبت عن ديغول وسوريا مَثَل الذي يتبوّأ كرسيه في السينما، يرى الفلم معروضاً لكن لم يشهد مراحل إعداده ولا يعرف خفايا أعمال أبطاله، ولا يدري ما حقيقة القصّة وما صَنع فيها مرتِّب المشاهد (السيناريست) ولا مؤلف الحوار. ولكنّ هنا في المملكة من قدماء أصدقائنا ومن رفاقنا في كلّية الحقوق رجلاً كان وراء الحُجُب (الكواليس)، رأى أبطال الرواية بلا تحسين ولا تزيين ولا (ماكياج)، دنا منهم وكلّمهم، وعنده من الأخبار ما هو عند الناس سر من الأسرار. وأسرار السياسة تُفشى وتُعلَن بعد ثلاثين سنة، وقِصّتنا مع ديغول قد مضى عليها أكثر من أربعين سنة. هذا الرجل الذي ولي رياسة وزراء سوريا ورياسة مجلسها النيابي، وكان أوّل من تجرّأ على الكلام في كسر احتكار دول الغرب للسلاح وحظر استيراده إلاّ منهم، هو الدكتور معروف الدواليبي. وأنا أقترح على الجريدة أن تبعث إليه مَن يسمع منه هذا الحديث ويكتبه، وكيف نجا على يده مفتي فلسطين الحاجّ

أمين الحسيني رحمه الله من براثن الحلفاء، وما صنع ممّا هو أقرب إلى الأساطير منه إلى الواقع. وإن شئتم ما هو خير من ذلك وأجدى على الجريدة وقُرّائها وأنفع للتاريخ، فاستكتبوه مذكّراته وستجدونها من أغنى الذكريات بالمعلومات. * * * وتعليق آخر جاءني من الأستاذ زهير الشاويش عن المقابلة التي أشرت إليها بين الأستاذ محمد كمال الخطيب ومَن كان معه، وبين الحاجّ أمين. لقد ذكّرني أن هذه المقابلة في بيت الشيخ موسى الطويل قد حضرها -على رأس المعترضين على الحاجّ أمين وفي مقدّمة مجادليه- طبيب كبير السن معروف في دوما وعند بعض المُسِنّين من أهل الشام، هو الدكتور سعيد عودة. وهو طبيب من دوما، طويل اللسان جداً جارح اللفظ جداً، لا يداري ولا يواري ولا يبالي ممّا يتعارفه الناس من أدب الخطاب، كان سيّئ الظنّ بالناس، ما يُذكَر عنده أحد إلاّ صنّفه في الـ «إنتلجنس سيرفس». وترجمتها اللفظية «مصلحة الذكاء»، ومعناها المعروف «الاستخبارات»، أي التجسّس للإنكليز ولغيرهم من أعداء العرب والإسلام. وزاد على ذلك فأعطاه رقماً في هذه المصلحة. وكان من شأنه أنه إذا حضر مجلساً لم يدَعْ لأحد مجالاً للكلام، يبدأ فلا ينتهي حتى ينتهي المجلس. وكان صديقنا بل أستاذنا الدكتور حمدي الخيّاط جاراً لنا في الدار، وكان له مجلس مفتوح للناس يوم الجمعة، وكان إذا حضر الدكتور سعيد ثَقُل المجلس ووقف الحديث. ولقد اصطدمت به مرات وأسمعته كلاماً

من جنس ما يخاطب به الناس. وأنا إذا شئت أقدَرُ عليه منه لأنني أحفظ ثلاثة أرباع أهاجي العرب، ولكن حيائي منه لسِنّه وخوفي أن أسيء إلى الرجل الكريم صاحب الدار جعلني أكفّ عنه. لقد خبّرني الأستاذ زهير وكان حاضراً هذا المجلس مع الشيخ عبد القادر العاني، وهو رجل صريح غاية الصراحة ولكنه مخلص إلى أقصى درجات الإخلاص، يعمل لله، جهير الصوت شديد الهجوم، ولكنه صافي القلب محب للحق، فإذا نُبّه انتبه ورجع إلى الصواب. والأستاذ زهير بالنسبة لهؤلاء صغير السنّ ولكنه واسع الاطلاع؛ لمّا نسيت اسم الطيار التركي الذي كان من السابقين إلى الطيران في الشرق وسقطَت طيارته ودُفن في صحن مقبرة صلاح الدين الأيوبي ذكّرني هو به مع أن القصّة كانت قبل أن يُولد بزمان. ذلك أنه يضمّ إلى ما رآه ما سمعه، ويستودع ما سمع ذاكرة قوية يؤيّدها -كما يبدو- بمذكّرات يكتبها. وقد وصف لي الاجتماع مع الحاجّ أمين في بيت الشيخ موسى الذي كنت السبب في عقده ولم أحضره، وصف مجلس الدكتور سعيد ومجلس الحاجّ أمين فقال: جلس الدكتور سعيد عودة على كرسي خيزران مرتفع، ورفع رجله قبالة وجه الحاجّ أمين الذي كان يجلس على أريكة ليّنة أقرب إلى الأرض من كرسي الخيزران ... إلى أن قال: وأنا اليوم وقد انتقل الحاجّ أمين والدكتور سعيد عودة إلى رحمة الله، وزادت معرفتي وكَثُر اطّلاعي وتجمّعَت لديّ وثائق خطّية وشهادات صحيحة تلقّيتها مباشرة من أصحابها، أنا

بعد هذا أشهد أن سعيد عودة عرف شيئاً وغابت عنه أشياء. ويقول (وأنا أنقل ما يقول): إن ممّا غاب عنه خوف الله في إطالة لسانه على عباد الله، وأشهد أنه كان ظالماً. ويقول إن الفكرة التي كانت سائدة عند مجادلي الحاجّ أمين هي أن الوكالة اليهودية أنشأت دولة والهيئةَ العربية العليا أضاعت شعب فلسطين وأخرجَته من بلده. وأن هذه النقطة كانت موضع قناعة أكثر الحاضرين ومنهم -على ما أظن- الدكتور أحمد حمدي الخياط والأستاذ أحمد محمد كمال الخطيب والأستاذ مظهر العظمة والأستاذ عصام العطار والشيخ عبد القادر العاني (وأزيد أنا أنني كنت أيضاً أقول بهذا وأؤمن به إلى حدّ ما)، وبيّن أن الاجتماع استمرّ أكثر من ستّ ساعات، وأنه عُقد في اليوم التالي في جلسة مثلها، وأن الحاجّ أمين ردّ على هذه النقطة بأن الوكالة اليهودية تأوي إلى ركن ركين وحصن حصين، يؤيّدها العالَم الغربي والشرقي ومن نعرف ومن لا نعرف، واستشهد ببيت المتنبّي: وسوى الرومِ خلْفَ ظهرِكَ رومٌ ... فعلى أيّ جانبَيكَ تميلُ؟ واليوم وقد رأينا دول العرب وحُكّامها بعد خمسين سنة من الدعاوى العريضة لم تستطع أن تصنع شيئاً، كَبُرَ في نفسي الحاجّ أمين. وزاد تعلّقي به لمّا تجاورنا في لبنان سنوات توثّقَت فيها صلتي به واستفادتي منه، وقد أطلعني على الكثير جداً من الوثائق، وبعضها ممّا كان أثاره الدكتور سعيد عودة عن قضايا مالية. وأنا أرجو (يقول الأستاذ زهير) أن أتمكّن يوماً من الأيام من نشر

ماعندي من تلك الوثائق، فإن فيها الكثير من الحقائق التي تضع الأمر في نصابه، وترفع رؤوساً طالما حاول أعداؤها خفضها وتَخفض رؤوساً يحاول أصحابها التفاخر والتطاول بها بغير حقّ. * * * هذا الذي كتب إليّ به الأستاذ زهير الشاويش. إن أخبار رجال العصر أكثرها لم يُدوَّن، ولا يزال في صدور أصدقائهم أو في وثائق خاصّة عند مُحِبّيهم والمقربين منهم. فيا ليت بعض من يُعِدّ رسائل الدكتوراة أو الماجستير ويريد أن يكتب عن الرجل الذي كان له المكان الظاهر في قضية فلسطين والذي عاش حياة حافلة بالأحداث، الحاجّ أمين الحسيني، يجمع فيما يجمع من أخباره ما عند الدكتور معروف الدواليبي وما عند الأستاذ زهير الشاويش. وبمناسبة الكلام عن الوثائق: لقد طالما قلت إنني أعرف أن عند خالي محبّ الدين الخطيب الوثائق الأصلية للحركة العربية التي قامت رداً على ما ذهب إليه غُلاة الأتراك من الاتحاديين وغيرهم من قبلهم، قبل أن تصير إلى هذه القومية المعروفة. عنده رسائل رجالها، عنده ضبوط جلساتها، وكل ذلك بخطوط أصحابها وتوقيعاتهم. ويا ليت إحدى الجامعات أو الهيئات التي تهتم بتدوين تاريخ العرب الحديث تشتريها أو تأخذ صوراً عنها لئلاّ يضيع شيء منها. * * *

وتعليق آخر ما كنت أحسب أني سأُضطَرّ يوماً إليه وإلى أن أثبت معرفتي بأدب الأستاذ إسعاف النشاشيبي وعلمه وتذوّقه الشعر. وقد صحبته مدّة طويلة في مصر لمّا كان وكنت أقيم فيها، وحينما كان يزورنا في دمشق. فلما تسلّمت الإشراف على تحرير «الرسالة» (تقريباً) سنة 1947 كنت في كثير من أيام تلك السنة أذهب مع الزيات رحمه الله دائماً وسعيد الأفغاني أحياناً فنسهر عنده حيث ينزل في فندق الكونتنينتال في ميدان الأوبرا. وكنت بحكم عملي في المجلّة أرى ما يكتب قبل نشره، أعرفه من خطه إن كان مكتوباً بخطه ومن أسلوبه إن استكتبه غيره، لأن العطر الزكيّ -ولو خبّأته في ثنايا ثوبك- أريجُه يدلّ عليه ويرشد إليه. كان ينشر تارة باسمه وتارة باسم «السهمي» (لأن النشاشيبي نسبة إلى «النشاب» وهو السهم)، وتارة بحرف نون، وأحياناً يكون الإمضاء «أزهريّ المنصورة»، وربما أغفل الاسم ووضع في مكانه نقطاً متجاورة. وأعجب منه أشدّ العجب حين يستشهد على صحّة كلمة بعبارة وردت خلال كتاب أو رسالة لبعض البلغاء: كيف وصل إليها؟ وكيف جمعها وما أخذها من مُعجَم مرتب على الحروف؟ أكان قد وضعها بيده فاستخرجها حين أرادها؟ ولو أنه وضعها بيده فلربما نسي مكانها. أم كان يفهرس كتبه كلها؟ وأنا أعلم أنه لمّا كان في مصر لم تكن مكتبته معه بل كانت في فلسطين. أم كان يستوعب ذلك كله في ذهنه؟ لعلّ عند الأستاذ أكرم زعيتر الجواب أو بعض الجواب. وإذا كان الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي يجمعه بالأستاذ

إسعاف النسَب فإن الذي يجمعنا به (الأستاذ أكرم وأنا) هو الأدب، وقد عجبت من الذي أنكر عليّ قولي أنه لم يستطع أن يَنظم قصيدة في رثاء شوقي فجاء بالتي سَمّاها «ذات القوافي والبحور» وفتح بها من حيث لا يريد باب فنّ جديد هو شعر التفعيلة. ما الذي أنكره وأكبره في هذا المقال؟ هل يعرف للنشاشيبي قصيدة زاحمت في ميدان البلاغة قصائد شوقي وحافظ ومحمد عبد المطلب وأحمد محرّم؟ هل ادّعى هو أنه شاعر، أو ادّعى ذلك أحدٌ من إخوانه ومُحِبّيه؟ وأنا من مُحِبّي أدبه ومقدّريه. وماذا يضيره مع هذا الإطلاع الواسع على أدب العرب، والفهم العميق لكلام العرب، والمحبّة الصادقة للسان العرب، ما الذي يضيره بعد ذلك كله ألاّ يكون شاعراً؟ أمّا عجبي وعجب من معي لمّا كلّمناه أول مرة فما كان ذلك لأنه يتكلم الفصحى، بل لأن له في كلامه وإشاراته أسلوباً يعجب منه مَن لم يكن يعرفه. أنا أعلم أنه كان بليغ القول وكان لا ينطق بالعامّية، وكان يلتزم حتى في الكلام العادي النمط العالي من بلاغة القول، ولكنه كان يُبهِم أحياناً فلا يفهم عنه إلاّ من عرفه. من ذلك أن قاضياً في الشام اسمه محمد نور الله، من أسرة هذا اسمها معروفة على الساحل السوري، كتب إليه مرة في شأن من الشؤون فجاء الردّ في برقية ما فيها إلاّ هذه الجملة: «محمد نور الله ما شاء الله». فما فهم المراد منها. فقلت له: أنا أفسّرها لك. وتصوّرت الأستاذ ينطق بها أمامي، وذكرت حُبّه محمداً وتعظيمه إياه تعظيماً يكاد يجاوز به الحدّ المشروع، فقلت له: ما هكذا تُقرَأ. قال:

فكيف إذن؟ فقلت له (وقلدت لهجة الأستاذ): محمد، نور الله؟ ما شاء الله! وكان يكلّم العامّة بما تكلَّم به الخاصّة، وكان ذلك ممّا أخذه أدباؤنا على بعض المتقدّمين. دعانا مرات إلى الغداء معه في فندقه الكبير الذي كان ينزل فيه فأحببنا (أنا وأنور العطار) أن نردّ إليه الدعوة، فأبى علينا وكاد يغضب منّا، كما يغضب إن لم نُجِب دعوته. فلما ألححنا عليه خفّف عنّا فرضي أن نغديه لحماً مشوياً. وكان قد أنشئ مقهى جديد في طرف دمشق في أول شارع يُدعى شارع بغداد فأخذناه إليه. قال للجزار بلهجته المعروفة: جنّبني الدهن، جنّبني الدهن. فلما جاء اللحم وجدناه غارقاً في الدهن يسبح فيه. فقلت له: لماذا خالفت ما طلب الأستاذ وقد أمرك أن تجنّبه الدهن؟ فقال: لا ياسيدي، قال لي: "جِبْلي الدهن"! ذلك لأنه كان يخاطب صبيّ الجزار بمثل ما يخاطب به عضو المجمع العلمي. أما كتابه «الإسلام الصحيح» فالذي كنت كتبته عنه (والذي يهمّني الآن منه وقد سمعت أنه أُعيدَ طبعه) أن أقول إن فيه أشياء ليست من الإسلام الصحيح. وهذا أمر ليس من اختصاص الأستاذ إسعاف على علوّ قدره في الأدب، ولا الأستاذ ناصر الدين على منزلته في الصحافة، بل إن المرجع فيه -كما يكون المرجع في كل علم من العلوم- إلى أصحابه وثقات أربابه. فالذي يملك أن يحكم عليه: هل هو موافق للدين أو مخالف له؟ هم علماء الدين. ولم أقُل رجال الدين لأنه ليس عندنا في

الإسلام رجال دين (أي إكليروس)، وإنما عندنا علماء وجهلاء، كما أن في كلّ علم من العلوم وكل صنعة من الصناعات قوماً لهم معرفة بها وقوماً بعيدين عنها قد شُغلوا عنها بغيرها. أمّا الأستاذ عادل الصلاحي فأشكر حبّه إياي وخوفه عليّ ودفاعه عني، وأقول له على ذلك كلّه: إنني لست الذي: نَسَماتُ الرّبيعِ تجرحُ خدّيْـ ... ـهِ ولَمْسُ الحريرِ يُدمي بَنانَهْ ولا أنا إناء ثمين من البلّور الرقيق تكسره وقعة من علوّ ذراع، بل أنا قطعة من الفولاذ المتين الذي يسقط من المنارة العالية ويبقى سالماً. فلا تخَفْ عليّ أن تهدمني مقالة مهما كانت. على أنني شكرت الأستاذ ناصر الدين وإن كان قد أسرف، وشكرت الأستاذ حسن الكرمي الذي أنصف. وأنا لم ألقَ الأستاذ حسن الكرمي، ولكنّ أخاه عبد الكريم رحمه الله كان معنا وأخاه عبد الغني كان سابقاً لنا. وأحسب أن الأستاذ حسن كان في المدرسة (مكتب عنبر) متقدّماً علينا، فهو إذن أكبر مني سِناً. فإن كان هذا يسوؤه فلا تخبروه به، فإن من إخواننا من يكره أن يصرّح بعمره. والعرب تقول: «إنما يأسى على العمرِ النّساء»، فما بال بعض الرجال يكرهون أن يُقال إنهم صاروا شيوخاً؟ أمّا ما كتبه عن ذكرياتي الأستاذ أكرم زعيتر، فما أملك إلاّ أن أُطرِق معه خجلاً وأن أقول له (صادقاً): شكراً. فلئن كانت كلمته كريمة فلا عجب فإنه هو الأكرم. * * *

وإنني أشرع الآن بالكلام على رحلة المشرق: يقولون إن الإنسان حيوان اجتماعي، فهل هذا القول باطل أم أني لست بإنسان؟ أم أن الله خلقني وحدي دون بني آدم متوحّشاً أخاف المجتمعات التي لم آلفها وأخشاها أن أغشاها؟ وإلاّ فما لي كلّما دعتني الدواعي إلى لقاءِ مَن لم تَزِدْ بيني وبينه الألفة حتى ترتفع بازديادها الكلفة أفرّ من هذا اللقاء، أو أُرجِئه ما استطعت الإرجاء؟ أفليس هذا عجيباً؟ أوَليس أعجب منه أني إذا ضمّني المجلس وصرت فيه تبيّنت أن عندي من المعلومات والمحفوظات والطرائف واللطائف، ما يوجّه إليّ الأبصار ويُميل الأسماع؟ ويقولون إن لكل جديد لذّة، ولكنني لا أذكر أنني مرّ عليّ عيد وأنا صغير وجاؤوني بثوب العيد الجديد إلاّ لبسته مُكرَهاً باكياً. ولا انتقلت من دار إلى دار ولا من بلد إلى بلد، ولا تحولت من عمل إلى عمل، إلاّ أسيت على فراق ما تركت ورائي وخشيت ما سألقاه أمامي. فهل كان المتنبّي ينطق بلساني حين قال: خُلِقتُ أَلوفاً لو رَجعتُ إلى الصِّبا ... لَفارقتُ شَيْبي مُوجَعَ القلبِ باكِيا إن لي الآن بنات ثلاثاً في جدّة وثلاث حفيدات، والبيوت الستّة مفتّحة لي ومَن فيها يستحبّون لقائي ويرحّبون بمجيئي، وأنا أتهيّب أن أسافر من مكّة إلى جدّة وبينهما على الطريق الجديد العظيم أربعون دقيقة أو أقلّ من أربعين. فكيف إذن سافرت إلى

أقصى المشرق؟ بل كيف رضيت أن أحضر المؤتمر وفيه رجال من كلّ البلاد؟ إني لأفكّر في ذلك الآن فأعجب والله منه، وأعجب كيف رحلت قبل ذلك رحلة الحجاز التي حدّثتكم حديثها، والتي كانت سياراتُنا فيها أولَ سيارات دارت عجلاتها على ثراها من يوم خلقها الله وبراها. إن الذي استطاع أن يضمّني إلى رجال الرحلة الأولى هو الشيخ ياسين الروّاف رحمه الله، والذي جرّني إلى الثانية هو الشيخ محمد محمود الصواف شفاه الله (¬1). إن صندوق الحديد في المصرف يوزن بالقناطير ولا يستطيع أن يحمله بعير، ولا تحطّمه المطارق ولا تحرقه النار، ولكنه -على هذا الوقْر كله وهذه المنَعة كلها- يفتحه مفتاح صغير بمقدار عقدة الإصبع، وربما فتحَت بابَه كلمة، كلمة سرّ رُكّبت حروفها بحيث يُغلَق الصندوق بها ويُفتح عليها. ذلك هو مفتاح شخصية الرجل. فمن الناس من تدخل إلى قلبه بإخافته منك بقوّتك، ومنهم من تصل إليه بإثارة شفقته عليك لضعفك ورقّتك، أو بإطرائه حتى يشلّ الإطراء أعضاءه ويخدّر جسده، أو بإطماعه حتى ينزل لك عن الكثير أملاً بما هو أكثر ... ومفاتيح أخرى لا أستطيع إحصاءها. وليس حتماً أن يكون ¬

_ (¬1) رحمه الله. نُشرت هذه الحلقة أواخر عام 1984، وتوفي الشيخ الصوّاف رحمه الله سنة 1992 (مجاهد).

للشخصية مفتاح واحد، بل قد يحتاج معرفة ما في باطنها إلى سلسلة مربوط فيها عدد من المفاتيح. فمَن أعلمَ الشيخ الصواف بمفتاح شخصيتي حتى استطاع أن يبلغ مني ما لم يبلغه إلاّ قليل من الإخوان والخلاّن؟ إن الحديث عن هذا المؤتمر لا بدّ فيه من الكلام عن الشيخ الصواف والشيخ أمجد، وهما اللذان دَعَوَا إليه وجمعا من المال ما أنفقنا منه عليه. وسأشرع إن شاء الله من الحلقة المقبِلة بتدارُك ما يمكن تدارُكه ممّا بقي في ذهني من أخبار هذه الرحلة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) بالأمس كان يكلّمني الدكتور سميح الخضراء من جدّة فقال: متى تبدأ بالحديث عن الرحلة؟ قلت: قريباً إن شاء الله. قال: فلماذا لا تأخذ الأحاديث الطويلة التي استمررت تحدّث بها من إذاعة دمشق أكثر من ثلاثة شهور؟ لقد حرّكَت هذه الكلمة أشجاني وأثارت أحزاني، ذلك لأني لم أكتب شيئاً منها، فلا أنا حفظتها على الورق ولا الزمن حفظها في الذاكرة، لذلك ضاع أكثرها. والأقلّ الباقي منها هو الذي سأعرضه عليكم إن شاء الله.

مؤتمر القدس الإسلامي

-138 - مؤتمر القدس الإسلامي كان قبل هذا المؤتمر مؤتمرات، أعرف أنّ من أقدمها مؤتمر باريس الذي عُقد لمواجهة ما سُمّي «تتريك العناصر العثمانية»، وقد أخرج عنه خالي محبّ الدين الخطيب كتاباً صغيراً. ومؤتمر القدس الأول سنة 1350، وكان رئيسه المفتي الحاجّ أمين الحسيني، ونُوّابه: محمد إقبال شاعر الإسلام، ومحمد علي علوبة الوزير المصري، وضياء الدين الطبطبائي من إيران، ومحمد زيارة الوزير اليماني. وكان في لجنة الأمانة العامّة (السكرتارية) الأساتذة: عزة دروزة وعبد القادر المظفّر وشكري القوّتلي ورياض الصلح وأحمد حلمي باشا. ثم عُقد مؤتمر العالَم الإسلامي في كراتشي الذي كان فيه الدكتور معروف الدواليبي، وبعده بنحو عشر سنين كان هذا المؤتمر الذي جئت أتكلّم عنه. لو أردنا تقويم (ولا تقُل تقييم) هذه المؤتمرات لوجدنا فيها خيراً كثيراً، لا شكّ في ذلك أبداً، وفيها أمور كنت أتمنّى ألاّ تكون. أوّلها حُبّ الكلام، فنحن أمة البلاغة وشعب البيان،

ولكنها ما سُمِّيت بلاغة إلاّ لأنها تبلغ بنا الغاية التي نريد وتوصلنا إلى المقصود، فإن لم تكن لنا غاية معروفة كان الكلام لمجرّد الكلام. ولا بُدّ من الكلام على أن يكون بعده عمل، فكلام الطبيب سبب للشفاء، ولكن إن لم يُعمَل به فلم يشترِ المريض الدواء ولم يأخذه في مواعيده لم يكن لكلام الطبيب نفع. والثانية أن هذه المؤتمرات فيها رجال كبار من أكثر أقطار الإسلام، ولكن لم يُختاروا اختياراً من أهل هذه الأقطار ولم يوكلوا الكلام عنها ولا يلزمها الذي يقولونه بلسانها. والثالثة أن أيام المؤتمر تنقضي ويعود كل من حضره إلى بيته وينغمس في دنياه مقبلاً على عمله، وتصير أيام المؤتمر عنده كما صارت عندي الآن: ذكرى من الذكريات. ولكن يبقى المكتب الذي انتُخب فيه واللجنة التي انبثقت عنه، تتكلّم باسمه وتتخذ له مقراً تشتريه أو تستأجره وتضع على بابه لوحة كبيرة تدلّ عليه وتشير إليه، ويحضر رجال هذه اللجنة المؤتمرات والمجتمَعات باسمه، وربما فُرض لهم أو لبعضهم مرتّب دائم من المال الذي جُمع لإقامته، وربما اتخذه بعضهم سُلّماً إلى نيل رغائب الدنيا ومنافعها. الفلاّح يملك بستانه وما فيه من شجر وما لهذا الشجر من ثمر، وهؤلاء الأعضاء لم يشتروا البستان ولا زرعوا شجره ولا ملكوها، ولكنهم دُعوا فاستظلّوا بظلّها وأكلوا من ثمرها، ولبثوا يأكلون ويبيعون بعد أن زال الشجر والبستان ولم يبقَ لشيء منه وجود.

وعندي شيء أُحِبّ أن أشير إليه هنا إشارة، وإذا كتبت في «المسلمون» الجديدة التي تصدر إن شاء الله بعد أيام فصّلت القول فيه تفصيلاً. شيء كنت أهمس به همساً في آذان إخواني الأدنَين، ثم تكلّمت به في المجالس، ثم عرضت إليه في خُطَبي ومحاضراتي، وأنا أجهر به اليوم لعلّ الله يحقّقه إن كان فيه نفع للمسلمين: هو أننا لا ينقصنا في الدعاة فكر ولا علم ولا لسان، ولكن الذي ينقصنا خطة واحدة نسير كلنا عليها وطريق واضح نمشي كلنا فيه، نعرف من أين نبدأ وإلى أين ننتهي فلا نشتغل بالأمور المختلَف عليها قبل المتفَق عليها، ولا يضع أحدٌ دعوتَه أو حزبيته أو قانون جماعته التي ينتسب إليها، ولا صوفيتَه مثلاً ولا مذهبَه أساساً للدعوة الإسلامية، يصبغها بذلك حتى تصير معرض ألوان. ولا يبدأ بالفروع قبل الأصول، ولا يفرض ما يراه في المسائل الاجتهادية على من يرى غير رأيه. ولست أقلّد اليهود، ولكن علينا أن نُعِدّ للعدوّ ما استطعنا من قوّة. ومن أقوى القوّة خُطَط العمل. فإذا كانوا قد وضعوا مخططات حكماء صهيون ورسموا فيها طريقهم إلى عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، يهتدون فيها بعقولهم الفاسدة ووحي شيطانهم، فلماذا لا نضع خُطَط «حكماء حراء» مثلاً، نرسمها للسنين المُقبِلات، نستهدي فيها بهدي القرآن ونسير على ضوء وحي الرحمن؟ هذا هو الشيء الذي أريد أن أقوله. * * *

لقد ضمّ مؤتمرُنا جماعةً من صفوة العلماء والمفكّرين القادرين على هذا العمل، كالأستاذ علاّل الفاسي من المغرب، والأستاذ البشير الإبراهيمي، والأستاذ الشهيد السعيد سيد قطب، والأستاذ الشيخ أمجد الزهاوي، والأستاذ عبد المنعم خلاّف، والأستاذ الصوّاف، والأستاذ السبسبي، والأستاذ عبد الحميد السائح، والأستاذ عبد الله غوشة، والأستاذ عارف العارف، وأمثالهم ممن ضمّ مؤتمرنا هذا. وهؤلاء وغيرهم ممن نسيت أن أذكر أسماءهم هم من صفوة العلماء والمفكّرين، وقد ضمّت المؤتمرات من قبله ناساً هم في الفكر والعلم في الذروة والسنام. على أن يكون عملهم سراً لا علناً، وأن يكون مدروساً لا مرتجَلاً. وأمر آخر لم أفهمه إلى الآن، ولعلّ في القُرّاء من يُفهِمُنيه؛ هو أنه إذا كانت هذه المؤتمرات تسعى إلى غاية واحدة وتصدر عن بداية واحدة، فلماذا لا تمشي معاً؟ لماذا تتعدّد وأولى بها أن تتوحد، وديننا دين التوحيد الذي يدعونا إلى الوحدة؟ إذا تعدّدَت لاختلاف أوقات عقدها فلماذا لا تتوحّد الآن اللجان التي انبثقَت عنها فيكون منها لجنة واحدة، لعلّ مِن أظهر فوائدها لقاء الرجال، ولا يكون من لقائهم إلاّ خير ونفع وتعاون على البِرّ والتقوى، واحتكاك الآراء، ولا يكون من احتكاكها إلاّ شرارة تنطلق فتحرّك مصنعاً وتسيّر قطاراً. وربما أسأنا استعمالها فإذا هي تحرق ولا تحرك، وإذا هي تدمر ولا تسيّر. وهذا كله يحصل، بل يحصل أضعاف أضعافه في مِنى

بعد قضاء المناسك وأداء الفروض والواجبات لو كنّا نحجّ حجاً كاملاً. وما يكون في مِنى لا يكون مثله في عشرات من هذه المؤتمرات. * * * وسترون أننا جمعنا في هذه الرحلة لفلسطين أموالاً طائلة ما تسلّمْنا بأيدينا قرشاً واحداً منها، بل دللنا المتبرعين على مَن سَمّوه الأمين العامّ للمؤتمر، وهو الأستاذ سعيد رمضان (المصري لا البوطي) فأرسلوه إليه. وما تسلّمتُ من المال إلاّ بمقدار ما أدفع منه أجور السفر والفنادق والنفقات التي لا بُدّ منها ولا غِنى عنها، فلما عُدت قدّمت إليهم حساباً عنها كلها مربوطاً به وثائقها. ولكن ما أرسل الأستاذ سعيد رمضان حساباً ولم أعرف كيف أنفق المال ولا أين ذهب. فلما كانت الدورة الثانية للمؤتمر في دمشق أصررت على أن يُطلع المؤتمرين على حسابها، وقلت إنني لا أتهمه ولا يحقّ لي أن أتهم أحداً، ولكن أطالب بما يطلبه الدين وتطلبه الأمانة وما هو الحقّ. فلما لم يستجيبوا لي قاطعت المؤتمر فلم أحضره. وقد بلغني أن واحداً من الأساتذة المعروفين من الإخوان المسلمين من حلب قام فيهم خطيباً، فنال منهم موافقة على بياض على حساب لم يقدَّم ولم يطّلع عليه أحد. أعفوَه من تقديم الحساب، ولكن بقي الحساب الأكبر يوم العرض على الله؛ هنالك ينكشف الغطاء، فمَن أكل قرشاً من مال الله أو وضعه في غير موضعه، أو ستر على هذا الأكل وإن لم يشاركه الأكل، كان شريكه في الإثم ... هنالك ينال كلٌّ ما يستحقّ.

وليس الصلاح بتجميل ظاهر الحال ولا بتحسين المقال، بل إن المقياس المعاملة. وعُمَر لمّا جاء رجل يزكّي عنده رجلاً سأله: هل عاملته؟ هل سافرت معه؟ فلما قال لا، ردّ شهادته ولم يسمع كلامه. وأنا تعوّدت أن أبتعد عن مواطن التهم، لذلك أحذر الدخول في قضية فيها مال. ولمّا كان العمل لدفع الصهيونيين عن فلسطين وأقبل الشباب على التطوع والأغنياء على التبرع، وجمع هنا في المملكة أبناء كلّ بلد عربي ما يساعد متطوّعيه على الجهاد، عرض أحد كبار المحسنين المعروفين مبلغاً ضخماً جداً على أن يكون صكّ قبضه (الشيك) باسمي أنا فأبيت، فلامني إخواني وقالوا: تحرم مجاهدي بلدك من هذا المال؟ قلت: إن هذا المال سيُسجَّل على أنني استلمته، فمن أين أُقنع الناس أنني قد وضعته في مواضعه وسلّمته لمن رُصِد له؟ رحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه ودفع قالة السوء عنها. لذلك لا أتسلّم مالاً بيدي ولا أشارك بجمعه إلاّ إن وثقت بمن يتسلّمه، ولا أمشي في طريق أرى أوّله ولا أعرف آخره. هذه مقدّمة ما كان من حاجة إليها، ولكن الأدب هو البثّ، والأديب كالمرأة الحامل، لا يزال يثقل عليها حملها حتى ولادتها، والأديب لا يستريح حتى يُلقي إلى القُرّاء وِقْر الفكرة فيشاركوه في حملها. أمّا إن كان أحسنَ في هذا أو أساء فأمرٌ قلّما يهتمّ بمثله الأدباء. * * *

في ربيع الأول سنة 1373 تلقّيت كتاباً من جمعية إنقاذ فلسطين في العراق بإمضاء أمجد الزهاوي ومن مكتب الإسراء والمعراج بإمضاء محمد محمود الصواف، جاء فيه أنهما -أداء للأمانة وإيفاء بالعهد وإبراء للذمّة- يُبلِغان المسلمين كافّة أن بيت المقدس، مهبط الأنبياء والمرسَلين والقِبلة الأولى للمسلمين، مُعرّض لأذى اليهود الذين هاموا بتخريب ما وصل إلى أيديهم من مساجد المسلمين ومعابدهم، وتعمّدوا تدنيسها واتخاذ بعضها دوراً للبغاء. ورغم الهدنة فإن اعتداءاتهم المسلحة على المسلمين متكرّرة ومتوالية دون رادع، وفوق ذلك فإنهم يتطلّعون الآن إلى بيت المقدس، حيث المسجد الأقصى، للاستيلاء عليه وإعلان قيام إسرائيل مملكة حقيقية فيه وتشيِيد هيكل سليمان على أنقاض المسجد. إن تخاذل المسلمين في هذا الأمر وتقاعسهم عن أداء واجبهم في الدفاع عن مقدساتهم معناه إعلان فشلهم في الدفاع عن كرامتهم، إلخ. وفي الكتاب دعوة لمؤتمر يُعقَد في القدس، يكون موعد انعقاده في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1373، الموافق للثالث من الشهر الأخير من سنة 1953. وأنا وعدت أن أقول لكم -إكمالاً لهذه الذكريات- كيف عرفت الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف. قال الشاعر الأول: إذا همّ ألقى بينَ عينَيهِ عزمَهُ ... ونكّبَ عن ذكرِ العواقبِ جانبا أو لعلّي حرّفت البيت أو صحّفته، فما أعني الآن رواية نصّه

بل الكلام على معناه. لقد أراد الشاعر ثناء ومدحاً، فكان هجاء وقدحاً. وهل أسوأ من أن يُقدِم المرء على أمر بلا نظر إلى مناقبه ومعايبه ولا فِكر في عواقبه؟ ولكنه -على ذلك- وصف لي أنا! إن أكثر ما فعلته في حياتي كان بقرار مفاجئ؛ أُقدِم على الأمر بلا تفكير ظاهر، وإن كانت الفكرة تدخل في عقلي الباطن كما تدخل المعلومات في المِحساب (الكمبيوتر) فيشتغل بها وصاحبها منصرف عنها حتى يعطي جوابها. من ذلك أنني كنت سنة 1929 في مصر أدرس في دار العلوم وأحرّر في «الزهراء» وأكتب في «الزهراء» و «الفتح»، وكانت الزهراء من المجلاّت الأدبية الأولى في مصر، وكانت الفتح المجلّة الإسلامية الوحيدة التي تشبه الجريدة اليومية في ذيوعها وانتشارها. وكنت أشارك في عمل المطبعة السلفية. كان طريقي واضحاً وغايتي من سيري ظاهرة، هي أن أُتِمّ الدراسة في دار العلوم وأقيم في مصر وأستمرّ في مثل عمل خالي. فخطر على بالي يوماً بلدي دمشق، وهاجني الشوق إليها وإلى أمي وإخوتي وأهلي وأصحابي فيها، واسودّت الدنيا في مصر في عيني كأني منها في ليل مظلم، وكأن صورة دمشق هي النجم الذي يلمع لي من بعيد. فتركت دار العلوم، وفارقت خالي على كُره منه وعلى دهشة مِمّن حولي، وكان جواز سفري حاضراً فركبت القطار من محطّة باب الحديد في المساء فأصبحت في حيفا. ومن فرحي بالعودة لم أنَم. وكيف أنام وأنا مسافر في الدرجة الثالثة ... لأنه ليس في القطار درجة رابعة أرخص منها؟ أمضيت ليلى على مقاعد من الخشب لا يطمئنّ إليها الجنب ولا يستريح

عليها الجسد، فلما بلغت حيفا ركبت السيارة وصعدت إلى رأس الناقورة (حيث تُعقَد الآن جلسات المفاوضات بين الحرامي وصاحب الدار)، ومنها إلى دمشق. ولم أعُد إلى مصر إلاّ بعد ستة عشر عاماً، عُدت أزورها سنة 1945. أفليس عجيباً أنني جئت أتحدّث عن هذه السفرة إلى مصر بعد أربعين سنة كاملة؟ أوَليس أعجب منه أنني أذكر هذا كله استطراداً خرجت به عن موضوع الكلام عن المؤتمر؟ إنه داء الاستطراد الذي ابتُليت به وآذيت به القُرّاء، وهم كرام فليحتملوه مني وليقبلوني عليه. لم أكُن أريد السفر يومئذ (أي سنة 1945) إلى مصر ولا أفكّر فيه، وإن كنت أتمنّاه وأحنّ إليه، فإذا بشباب يتحدّثون بأمر السفر إلى مصر، فسألتهم: ما القصّة؟ قالوا إنهم ذاهبون إليها مع الشيخ محمد الحامد. فقلت: أتأخذونني معكم؟ فظهر السرور عليهم وعلا البشر وجوههم، وخبّروه فرحّب بي كما رحّبوا أجمل ترحيب. كذلك كانت بداية هذه السفرة. وليس الذي قلته رؤيا منام ولا أضغاث أحلام، ولكنها لوحة محا النسيان أكثر أجزائها، فلم يبقَ منها إلاّ ما يبقى من حلم النائم الذي إذا سمع قصّته السامع قال: خير إن شاء الله! عرضت عليهم الصحبة لأني طول عمري أعجز عن أن أشتري أو أن أبيع أو أن أستقلّ بأمر من أمور الدنيا وحدي، كأن ما أعطاني الله من عقل ومن ذكاء ومن قوة ومن مضاء انصبّ كله على الكتاب

وانحصر بالفكر والعلم وانصرف إلى الأدب، ولأن الشيخ محمد الحامد (رحمة الله عليه) صديق أُحِبّه، وإن كنت أخالفه في بعض ما يذهب إليه؛ فهو صوفي، وأنا مررت في حياتي بأدوار: قربت من الصوفية لأن مشايخي أكثرهم من أهلها ولكني لم أقبلها كلّها ولم أنخرط فيها، وصرت سلفياً (أو كما يقولون عندنا في الشام «وهابياً») ولكني كنت أقف في أشياء هي عندهم من المسلّمات وأراها من المشكلات. وكنت يوماً حنفياً ملتزماً متعصّباً لمذهبي لا أقبل ما يخالفه ولو كان حديثاً صحيحاً! وكنت قد أوتيت من صغري جدلاً، فكنت أقول إن مذهبي امتدّ اثني عشر قرناً وانتشر علماؤه بين مشرق الأرض ومغربها، فهل بلغهم هذا الحديث أم لم يبلغهم؟ وإن هو بلغهم فهل خالفوه متعمّدين وهم من صفوة علماء المسلمين، أم أن لديهم دليلاً آخر يرجعون إليه ويعتمدون عليه؟ وأمثال هذه الجدليات التي رأيت أنها قد تُسكِت المجادل ولكنها لا تُرضي العاقل ولا يقبلها المسلم العالم العامل. وانتهيت إلى الوقوف عند قول المعصوم حين يبلغ آيات الله، وفيما يشرع بما أعطاه الله من وحي آخر اللفظ فيه من عنده والحكم من عند الله، وهو الحديث الثابت الصحيح. وكنت أخالف الشيخ في مسائل في الفقه يذهب فيها إلى التضييق على الناس وفي أدلّة الشرع سعةٌ فيها، كالغناء، أو يتمسّك بفرعيات هي من الكماليات وليست من أسباب النجاة ولا يُعَدّ تركها من المحرمات. وأشهد مع ذلك أن الشيخ محمد الحامد كان صادقاً مع الله صادقاً مع نفسه، وقد جعل الله له من الأثر في الناس ما لم يجعل لعشرات من أمثالي أنا.

تقولون: وهل يكذب أحد مع الله؟ أو هل يكذب مع نفسه؟ وأقول: نعم، الذي يعلم المصلح من المفسد والصادق من الكاذب يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ولكنّ من سفه نفسه وجهل قدرها يحسب أنه يخادع الله، ولا يخدع إلاّ نفسه: يُظهِر العمل لله ويُبطِن قصده الدنيا، فيَعُدّه الناس في الصالحين لأن لهم الظاهر ويكتبه الله في سواهم لأنه يتولى السرائر. أما الصادق مع الله (مثل أخي الشيخ محمد الحامد رحمه الله) فإنه يُصلِح جُوّانيّه قبل إصلاح بَرّانِيّه، ويصفّي نية قلبه قبل تحسين أعمال جوارحه. والصادق مع نفسه هو الذي يأمر الناس بالخير ويكون أولَ من يأتمر به، لا الذي يدعوهم إليه ثم لا يعمل به ولا الذي ينهاهم عن الشرّ ثم يخالفهم إلى ما نهاهم عنه. وأقول استطراداً آخر: هل تدرون ما خائنة الأعيُن التي ذكرها الله وما الذي تُخفي الصدور؟ إن كل آيات القرآن عظيم، ولكن في هذه الآية صورة من حياتنا لو أنّنا تنبّهنا إليها. يكون الشابّ المسلم في البلد الذي انحرف عن جادة الإسلام، ففشا فيه السفور وظهرت العورات، وعمّ الاختلاط في الجامعة باسم العلم وفي الملعب بحُجّة الرياضة وفي المسرح بدعوى الفنّ وفي المستشفى باسم الطبّ، فتمرّ به البنت الجميلة، فيغضّ بصره عنها ويُمسِك بإرادته أجفانَه أن تنظر إليها، ولكن لحظة غفلة منه تجعل عينه تخونه فتقع عليها، فإذا هو ناظر إليها. هذه هي «خائنة الأعين». أما الذي تخفيه الصدور فهو الاقتراب منها والوصول إليها.

أعود إلى حديثي: عرفت الشيخ الحامد من قديم (وكان أخوه الأكبر الذي ربّاه الشاعر بدر الدين الحامد معنا في مكتب عنبر، لا أقول إنه سَنيني وإن عمره من عمري، فهو أكبر مني بكثير كما أن الشيخ محمد أصغر مني بقليل) ولكنني إذا أفَضتُ في الكلام عنه خرجت عن خطّ سيري. وإن كتب الله لي عُدت فكتبت عنه كثيراً لأني أعرف عنه وعن أثره في حماة الكثير. وجدته في هذه السفرة صاحب نكتة، وفي روحه خِفّة على القلب وفي سلوكه أنس للنفس. وأنا أكره المتزمّتين الذين يتكلّمون الجدّ دائماً أو يحرصون على «المشيَخة». والمشيَخة غير العلم وغير التدريس والتهذيب، فمَن شاء أن يعرف ما هي فليرجع إلى مقالة لي قديمة عنوانها «صناعة المشيَخة» (¬1). وأنا قد أصبر على الجِدّ المحض نصف ساعة، ثم أُفسِده بنكتة تجيء عفواً أو ملاحظة تُضحِك مَن حولي وتُخرِجني من ثقل هذا الجِدّ. أقول إنني صحبت الشيخ ومن معه في الطريق إلى مصر، فلما بلغناها استأذنتهم وفارقتهم وذهبت إلى دار خالي. وداره أبداً فوق مطبعته، وقد خلّفتها في شارع الاستئناف في باب الخلق فوجدتها هذه المرة في روضة المنيل في شارع الفتح. وأول مَن ذهبت إليه أقرب الناس إليّ بعد خالي، هو أخي الكبير وأستاذي الزيات رحمه الله. وكانت «الرسالة» في دار صغيرة في طرف ميدان عابدين، كنت حين أدخلها أحسّ أنني ولجت ¬

_ (¬1) وهي في كتاب «مع الناس». وانظر أيضاً مقالة «تحريف لمعنى الإسلام» في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد).

مَثوى المُنى ومَهوى الهوى وصرت في دار الأمان. ثم زرت الصديق القديم والأخ الكريم الذي كان سنة 1928 شاباً صالحاً مثله في مصر كثير، لا يكاد يدري به إلاّ من يتّصل حبله بحبله، فلما عدت الآن سنة 1945 وجدته قد صار عَلَم البلد ورجل الرجال، ومرشد الآلاف والآلاف من الشباب في جميع مدن مصر وقراها. ولكن هذا المجد العظيم الذي تعجز عن حمله هامات الرجال فتُصاب منه بالدوار كما تصنع بشاربها المعتقة الصرف من بنات الكرْم، لم يدُرْ رأسه ولم يُبدّل حاله ولا أنساه إخوانه، وبقي معهم كما كان، حتى لقد أحسسْتُ لمّا قابلته أنني فارقته بالأمس، وأن هذه الأعوام الستة عشر ليست إلاّ عشيّة وضحاها. وكذلك يكون العظيم؛ لقد تعلّمنا في المدرسة ونحن صغار أن السنبلة الفارغة ترفع رأسها في الحقل وإن الممتلئة بالقمح تخفضه، فلا يتواضع إلاّ كبير ولا يتكبّر إلاّ حقير. وأن من أحسّ أن الكرسي أو المنصب أو المنزلة الاجتماعية أقلّ منه ازداد به تواضُعاً، وأنّ من رأى نفسه أصغر من ذلك انتفخ به كِبْراً وتاه على الناس أشراً وبطراً. إن الذي يكون ارتفاعه على أرجُل الكرسي فقط إذا زال كرسي الوظيفة من تحته هوى وأخلد إلى الأرض، أمّا من كان كالنسر ارتفاعه بجناحَيه، فلا يزال محلّقاً في الجِواء (¬1). هل عرفتم من هو الذي أتكلم عنه؟ إنه مجدّد الإسلام في ¬

_ (¬1) الجِواء (لا الأجواء) جمع جو.

هذا القرن، إنه الشيخ حسن البنّا (¬1). أقام لنا حفلة شاي في دار الإخوان التي اشتروها في الحلمية الجديدة، لولا الخجل لقلت إنني أنا المقصود بهذه الحفلة، إكراماً منه لي لا استحقاقاً مني لها. بقيت مُحِباً له من بعيد صديقاً مُخلِصاً أدعو له بظهر الغيب، ولكنني -على طريقتي- ما انتسبت إلى جماعة الإخوان ولا إلى غيرهم من الجماعات. خطبت في هذا الحفلة وخطب الشيخ الحامد، وخطب الشيخ حسن، وهو في خطبه التي يلقيها كما تُلقى الأحاديث، بلا انفعال ظاهر ولا حماسة بادية، مِن أبلغ مَن علا أعواد المنابر. تفعل خُطَبه في السامعين الأفاعيل وهو لا ينفعل، يُبكيهم ويُضحكهم ويُقيمهم ويُقعدهم، وهو ساكن الجوارح هادئ الصوت، يهزّ القلوب ولا يهتزّ. وأعرف في الخطابة طريقتين: الطريقة التي نشأنا عليها أول عهدنا في ارتقاء المنابر والتي كان عليها الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله (وأنا أَسَنّ منه بكثير) والأستاذ عصام العطّار والأستاذ الصواف الذي سأتكلم عنه الآن، وطريقة الشيخ حسن البنا والدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وكلّ هؤلاء من الخطباء الأبيِناء ¬

_ (¬1) لمّا شرعت أكتب في «الرسالة» في أوائل عهدها كان القُرّاء يحسبونني شيخاً كبير السنّ، وقد ظنّ الشيخ حسن ظنّهم ونسي أنه لقيَني عند خالي شاباً. وعندي منه رسالة بخطّه يخاطبني بها خطاب طالب صغير للشيخ الكبير، مع أنه الأكبر سِنّاً وقدراً ومنزلة وأثراً صالحاً رحمه الله.

ومن سادة المنابر. وأنا قد جرّبت الطريقتين، كنت أخطب مثل السباعي وأمثاله: تغلبني الحماسة فيعلو صوتي ويحمرّ وجهي وتتلاحق الجمل والعبارات مني، ثم انتقلت منها إلى مثل طريقة الشيخ حسن البنا والدكتور الشهبندر. في هذه الحفلة في دار الإخوان سنة 1945 قام يخطب شابٌّ آتاه الله جمالاً في الوجه وبسطة في الجسم وجَهارة في الصوت، على رأسه عمامة ليست مثل عمائم المشايخ في مصر، بل هي على طربوش مقشَّش مكويّ كعمائم السوريين والأتراك. فألقى خطبة تتفجّر حماسة وتتدفّق إيماناً، تزدحم ألفاظها ازدحاماً. فسألت عنه، فوصفوه لي بإعجاب وعرّفوه بفخر، وإذا هو طالب عراقي موصلي. وللحديث بقيّة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) سيلاحظ القارئ أنه وصل إلى هذا الموضع من المقالة وهو يمشي في استطراد تفرّع من استطراد. ومنشأ الحديث (الذي هو أصل الموضوع) أن صاحب هذه الذكريات قال في أول المقالة: "وأنا وعدت أن أقول لكم كيف عرفت الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف ... "، فلما وصل إلى هذا الموضع في نهاية الحلقة قطع الحديث ليكمله في أول الحلقة التالية. وقد فعل، لكن لو أنكم قلبتم الصفحة وقرأتم الفصل التالي فلن تجدوا من ذلك شيئاً. والسبب أن جدي رحمه الله اقتطع من الذكريات -لمّا نشرها في الكتاب- عدداً من المقالات التي خصصها وهو ينشر حلقات الذكريات في الجريدة للحديث عن بعض الأعلام، وضمّها إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته السابعة التي نشرتها=

_ = دار المنارة سنة 1985، وهكذا خرجت من سياق «الذكريات» المنشورة، ولكنها تسببت أحياناً في انقطاع مفاجئ كما حصل هنا. فمن شاء من القراء أن يُتمّ المشهد الذي انقطع هنا فليذهب إلى مطلع مقالة «الشيخ أمجد الزهاوي» في كتاب «رجال من التاريخ»، وفيها يقول المؤلف: "لما كنا صغاراً كان شيوخنا -أحسن الله إليهم- يبعدوننا عن كل ما يفسد ملكتنا الأدبية أو يُدخل العُجمةَ والضعف على أساليبنا، لذلك لم أقرأ قصص «ألف ليلة» حتى كبرت وصلب عودي واشتد ساعدي، فلما قرأتها وجدت شهرزاد كلما أدركها الصباح سكتت عن الكلام المباح، فإذا انقضى النهار ودجا الليل عادت فوصلت ما كانت قد قطعته ومشت من حيث وقفت. وأنا اليومَ مثل شهرزاد، مثلها في حديثها ومقالها لا في حسنها وجمالها! قطعت الحديث في الحلقة الماضية لما صعد المنبرَ الشابُّ العراقي الموصلي، وفارقتكم قبل أن أسميه لكم ... فاعلموا الآن أن اسمه محمد محمود الصواف". وبعد هذه الإيجاز فصّل الشيخ الطنطاوي الحديثَ عن الشيخ الصواف (رحم الله الاثنين)، وهو حديث شيّق يستحق القراءة، فراجعوه في المقالة المذكورة في كتاب «رجال» (مجاهد).

رجال كرام عرفتهم في مؤتمر القدس

-139 - رجال كرام عرفتهم في مؤتمر القدس أقدّم بين يدَي هذه الحلقة تعليقاً قصيراً على مقالتَي الأستاذ نجدة فتحي صفوة (¬1). لقد انقضى أسبوع والهواتف لا تنقطع عني من إخوان لنا أدباء، من صيارفة الكلام الذين يميزون عاليه من نازله كما يميّز الصيرفي العملة النادرة الغالية من العملة الرخيصة المبتذَلة، ومن صاغة البيان الذين يعرفون عياره ومقداره كما يعرف الصائغ عيار الذهب من النظر إليه. يقولون: أقرأت مقالة نجدة فتحي صفوة؟ ¬

_ (¬1) حينما نُشرت هذه الحلقة في صحيفة «الشرق الأوسط» قدّمت لها الصحيفة بهذه المقدمة: نشرَت «الشرق الأوسط» في الأسبوعين الماضيَين مقالتين للأستاذ نجدة فتحي صفوة، الدبلوماسي العراقي، تحدّث فيهما عن ذكرياته عن أستاذَيه الشيخ علي الطنطاوي أطال الله عمره ومتّعه بالعافية، والشاعر أنور العطّار رحمه الله، عندما كانا أستاذين وكان طالباً في المدرسة الغربية المتوسطة في بغداد. وكأنما لمست المقالتان بعض الذكريات العزيزة في نفس أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي، فهو يقدّم لحلقة اليوم من ذكرياته بهذا التعليق على المقالتين.

لقد أصبحت -يا نجدة- معروفاً في المملكة لأن البضاعة الجيّدة لا يحتاج رواجها إلى إعلان، هي تعلن عن نفسها. لقد أعدت لي بمقالتيك أياماً حلوة عزيزة على نفسي بعدما ولّت تلك الأيام، وذكّرتني عهوداً كنت أعيش بها ثم بذكراها فكاد النسيان يغلبني عليها، ونشرت لي صوراً أنا لا أملك نسخاً منها، فتعالَ انظر إلى هذا الشيخ الذي أثقلَت كاهلَه أعباءُ السنين وجثمَت عليه ثمانٍ وسبعون سنة، هل هذا الشيخ هو الشابّ الأنيق الذي نشرتَ صورته وأفضت في وصفه؟ وأعدت لي ذكرى أنور العطار. وما نسيته رحمه الله، فقد كان شقيق النفس وكان قسيم الروح. أمّا ما كتبتُ عنه في «المكشوف» فقد كان كما حزرتَ وقدّرت؛ في حالة جفوة لا بد أن يقع مثلها أحياناً بين الإخوان والأصدقاء، بل بين الإخوة والأشقاء. يا نجدة (أناديك كما كنت أناديك يوم كنت طالباً، لا أعرف كيف يُنادى وزير مفوض ولو كان متقاعداً): هل تذكر أيام انقطعَت «الرسالة» عن دمشق في سنوات الحرب وكانت تأتيكم في بغداد، وكنت أحب أن أعرف ما نُشر لي أو لغيري فيها، فلمّا علمتَ أرسلت لي جدولاً بفهارس تلك الأعداد كلها؟ إنها لا تزال بخطّك عندي. فهل تعمل الآن مثل ذلك المعروف الذي عملته من أربعين سنة، فتصوّر لي ما نشرت في «المكشوف»، أم أن الأستاذ نجدة الباحث الأديب والوزير السابق لا يعمل ما كان يعمله ذلك الطالب الصغير؟ على أني ما كتبت هذا التعليق لأطلب منك أعداد «المكشوف»،

بل لأكشف لك عمّا أدخلتَ على قلبي من المسرّة بما كتبت وبما نشرت من مطويّ الذكريات، وأطلقت لساني بالفخار أن نشأ في تلاميذي من هو مثلك، وإن كان التلميذ ربما فاق أستاذه. وقد عشتُ حتى رأيت من تلاميذي مَن صار أرسخ في الأدب مني قدماً وأكثر في الناس علماً، وأوسع ذكراً وأكبر اسماً. فلله الحمد على ذلك، وأشكرك وأرجو لك التوفيق. * * * أعود إلى سرد حديث المؤتمر. لمّا جاءتني الدعوة إلى حضوره هممت -على عادتي دائماً- بالاعتذار عنها والفرار منها، لولا أن هتف بي هاتف (أي كلّمني بالهاتف) من أحد الفنادق في دمشق بأن الشيخ أمجد الزهاوي والشيخ الصواف قد وصلا. فلم يبقَ بُدّ من أن أذهب إليهما، سروراً بلقائهما وقياماً بحقّهما. ووجدت عندهما شيخنا الشيخ بهجة البيطار ورفيقنا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليهما، فحصراني بالليّن من قولهما والعظيم من حقّهما في زاوية لا أستطيع الخروج منها، فاضطُررت أن أوافق على حضور المؤتمر. وتركا لي اختيار من يذهب معي أو أذهب أنا معه من دمشق، فنظرت فإذا العاملون في الساحة أكثرهم شيخ كبير له الوجاهة في الناس والصدارة في المجلس، إن مشى مشى الناس وراءه وإن قعد قعدوا بين يديه وإن قال استمعوا لقوله، لكن لا يُرجى منه كبير عمل لأنه استفرغ طاقته وأذهب شبابه وقوّته. ثم إن كثيراً من هؤلاء الذين هم مشايخنا يعيشون (كما أعيش أنا الآن) على

هامش الحياة، لا يخالطون الناس ولا يداخلونهم ولا يعرفون ما يُخفون من مقاصدهم وما يعدون من مكايدهم. فالواحد منهم ينخدع إن خُدع، يظن الناس كلهم صادقين مثله فيصدّق كل ما يقوله الناس. ولو سردت ما وجدت منهم في هذا الباب لأطلت السرد وأمللْتُ القُرّاء. ووجدت آخرين كل واحد منهم خَرّاج وَلاّج، يعرف من أمر الناس الظواهر والخفايا ويكاد يُدرِك النوايا ويكشف الخبايا، فلا ينخدع لأحد من الناس، ولكنه ربما خدع هو الناس إذ يتّخذ الدين سُلّماً إلى الدنيا، فهو تاجر وتجارته معقود بها الخَسار، لأنه يبيع ذهباً بنحاس وألماساً بزجاج، يُعطي الخالد الباقي من أمور الآخرة ليأخذ الموقوت الفاني من حطام الدنيا. وهل أَخْسَرُ مِمّن يبيع دينه بدنياه، هَمُّه إعجاب العامّة فهو يُقِرّها على بِدَعها وضلالها، ورِضا الحُكّام فهو يمالئهم ويجاريهم؟ يرجو الناس واللهُ أَولى أن يرجوه، ويخشاهم واللهُ أحَقّ أن يخشاه. فعلى أيّ هذين أعتمد وبأيهما أعتضد؟ لذلك تركتهم وتخيّرت نفراً من الشباب العاملين، مِمّن أعرفه من أهل الفهم والعلم والعقل والدين. كانوا يومئذ شباباً فكأن الله أراني ما صاروا إليه اليوم، صاروا أساتذة كباراً يُشار إليهم بالبَنان. منهم الأساتذة عصام العطار، وزهير الشاويش، وأديب صالح. أمّا عصام فقد عرفت أباه من قبله في المحكمة، فلما جئت أدرّس في المعهد العربي مع اشتغالي بالقضاء وأوشكَت الساعة الأولى على الانتهاء قام طالب من بين الطلاّب، فحسبته يريد أن

يسأل سؤالاً، فإذا هو يُلقي خطبة بلسان فصيح وبلاغة متدفّقة، يُثني على درسي ثناء لا يستحقّه الدرس. ففتحت عيني دهشة، وشهدت في تلك الساعة مولد خطيب. ثم لمّا اجترحتُ السيئةَ التي تُبْتُ منها فلم أعُد إلى مثلها فرشّحت نفسي في انتخابات سنة 1947 (¬1)، كان ذلك اختباراً مني لصداقة الأصدقاء، إذ انصرف عني أكثرهم، حتى إخوان الصِّبا ورفاق العمر الذين لا أفتأ أذكرهم دائماً في هذه الذكريات أعرضوا عني فلم يساعدوني، بل حاربني من كنت أعدّهم من أوليائي فكانوا أشدّ عليّ من أعدائي! وأنا هنا لأقول الحقّ لا لأجامل، وسيأتي إن شاء الله خبر ذلك كله مفصلاً. وربحت أصدقاء جُدُداً مِمّن كانوا يوماً من تلاميذي، ثم صاروا من أقراني ثم سبقوني وتخطّوني، كالأستاذ محمد القاسمي الذي كان على رأس من أعانني على خوض الانتخابات، كما كان الأستاذ زهير الشاويش وعمر عودة الخطيب والأستاذ وحيد العقّاد، الذي أقام لي أبوه الشيخ محمود رحمه الله حفلة انتخابية في مدرسته في حيّ العمارة بجوار الجامع الأموي. والشيخ محمود تلميذ أبي وأستاذي. في هذه الحفلة قام فتكلّم شابّ أدهش الحاضرين حقاً بإشراق بيانه وانطلاق لسانه وثبات جَنانه، وكان هذا الخطيب ¬

_ (¬1) سيأتي خبر هذه الانتخابات وكيف رشح علي الطنطاوي نفسه فيها في حلقة متأخرة في الجزء السابع من هذه الذكريات، وهي الحلقة رقم 193 (مجاهد).

هو عصام العطار (¬1). وسأكتب يوماً إن شاء الله عنه وعن إخوانه وأقرانه، مِمّن هم أبنائي في السنّ وخُلَصائي وأصدقائي في الحياة، أكتب عن كلّ منهم، تاريخه معي أو تاريخي معه. أسفت بعد هذه الحفلة على هذا العلم وهذا النبوغ أن يغفله الناس أو لا يهتمّ به الحُكّام، الذين لا يزِنون البشر بما في رؤوسهم من علم ولا بما في قلوبهم من إيمان ولا بما على ألسنتهم من بيان، بل بما في أيديهم من شهادات قد تكون مزوّرات. فسعيت إلى إرساله إلى مصر ليأتي منها بشهادة، ولكن الإخوان هناك لمّا رأوا فيه هذه المزايا قدّموه إلى المنابر وصدّروه في اجتماعات الأسَر، وقعد بين يديه يأخذ عنه ويستفيد منه مَن كان المفروض أن يكونوا أساتذته في الجامعة فيتلقّى هو عنهم ويأخذ الشهادة منهم. ومن طرائف أخبار الشهادات ومن ظرائفها أنه ذهب إلى مصر في تلك السنة التي أقمتها فيها (سنة 1947) اثنان من رفاقنا كل منهما عالِم، بل هو مرجع في العلم الذي انقطع إليه، الشيخ مصطفى الزرقا الفقيه والأستاذ سعيد الأفغاني النحوي، ذهبا ليأخذا شهادة رسمية يحتاجان إليها لأن القانون لا ينصف إلاّ من يحملها، على طريقة الفرنسيين. ولقد كنت أحفظ قديماً أنك إذا قلت للفرنسي: هذا عالِم، قال: ما هي شهاداته؟ والإنكليزي يقول: ¬

_ (¬1) وبعد هذه الحفلة بنحو عشر سنين تزوج عصام العطار الابنةَ الثانية لعلي الطنطاوي، كبرى خالاتي بنان، التي قضت شهيدة في ألمانيا عام 1981، وسيأتي خبرُ موتها المفجع ورثاؤها الموجع في الحلقة 165 من هذه الذكريات (في الجزء السادس)، رحمها الله (مجاهد).

ما هي معلوماته؟ والأمريكي يقول: ما هي أعماله؟ ولست أدري مدى صحّة هذا القول. وتبيّن من اللقاء الأول بين الأستاذ الزرقا والأستاذ الأفغاني وبين من ذهبا ليتعلّما منه أنه أمام زميلَين لا طالبَين، بل ربما كانا أعلم من كثير من أقرانهما من أساتذة الجامعات. * * * لقد كنت في هذا المؤتمر حاضراً كأني غائب. ذلك أني -على مشاركتي الكبيرة في النضال للاستقلال في بلدي وفي الدعوة إلى الإسلام- كان عملي لا يعدو واحدة من ثلاث: إما أن أعلو المنبر فأخطب، أو أن أمتشق القلم فأكتب، أكتب ما أطمئنّ أنا إليه لا ما يُلزِمني غيري بكتابته، أو أن أُستشار فأشير بما يُخطِره الله على بالي ... على بالي أنا لا على بال غيري. لذلك لم أدخل في عمري حزباً ولم ألتزم بمبادئ هيئة ولا جماعة. كان لي طريق حدّدته وسرت فيه، فمَن كان طريقه على طريقي مشيت معه حتى يختلف الطريقان. إن أردت وأنا في مكّة السفر إلى الشام وصاحبي يريد مصر، رافقته من مكّة إلى المطار، ثم أخذ هو طيارته وركبت أنا طيارتي. فعلى هذا كنت في المؤتمر: شرّفوني فجعلوني أحد خطباء حفلة الافتتاح، فقلت شيئاً لا أحفظه الآن ولكنه كان بحمد الله صحيحاً موفّقاً. وكلّما جلّت المناسبة وكثر السامعون وكان بينهم أهل الفكر

والعلم والمنصب، جادت خطبة الخطيب وزادت بلاغته وانجلى بيانه. وهذا الذي يرهّب غير الخطيب ويمنعه أن يعتلي المنبر ويكلّم الناس هو الذي يرغّب الخطيب المتمرس ويدفعه إلى الكلام. ولو أني -حين أتكلم وحدي في الإذاعة فتنقل كلامي إلى عشرة ملايين أو يزيدون- لو أني على منبر أرى أمامي عُشر معشارهم، أقوم بينهم أخاطبهم وأنا أراهم ... لو كان لسمعتم مني غير الذي تسمعونه الآن حين أتحدّث في الإذاعة أو الرائي. لا تفهموا من كلامي هذا أنني أحدّث ابتغاء إعجاب الناس أو طلباً لرضاهم، أو أني لا أعمل لله. إني لأرجو أن يكون قصد الثواب أكبر، ولكنها طبيعة طبع الله النفوس عليها، وما لنا في الغرائز والطباع من عمل. ألقيت خطبة كان أثرها في الناس ظاهراً. ولست أذكر الآن ما الذي قلت فيها ولكن أذكر معنى ما قلت، وقد تختلف المعاني باختلاف طريقة التعبير عنها كما يختلف منظر الغادة الحسناء إن بدت لك بثياب التفضّل (أي ثياب البيت) أو ثياب العروس. أذكر أني جلوت لهم حقيقةً كلُّهم يعرفها، ولكن منهم من ينساها ويطلب مَن يذكّره بها. والقرآن -الذي يجد فيه مَن يحسن فهمَه كلَّ ما يحتاج إليه في دنياه وآخرته، في فكره وسلوكه- علّمنا أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأنها وإن لم تُعطِهم ما ليس عندهم تضع تحت أيديهم وأعيُنهم ما بَعُد عنها ممّا هو عندهم. هذه الحقيقة التي شرحتها في خطبة افتتاح المؤتمر هي أن الله نزّل هذا القرآن وتعهّد بحفظه، وما حفظه الله لا يقدر أن يضيّعه

بشر. وأن الإسلام باقٍ خالد وأن أهله لهم المنصورون، وأن العاقبة لهم وإنْ كتب الله الظفر حيناً لعدوّهم في معركة من المعارك عليهم لما خالفوا عن أمره ولمّا اتبعوا غير سبيله. فليس هذا تعذيباً من الله للمؤمنين ولكنه تأديب لهم أن يعودوا لمثله. وقلت إننا بين أمرين: إما أن ننصر الله فينصرنا ويكون لنا بذلك عِزّ الدنيا وسعادة الآخرة، وإما أن نقعد عن نصرة ديننا ونهمل شريعتنا، فيستبدل الله بنا غيرنا، فيدخل في الإسلام شعب حيّ عامل كشعب الألمان أو اليابان فيحملوا هم لواءه ويصيروا هم أولياءه، ونرجع نحن كفقراء اليهود: لا دنيا ولا دين، نسأل الله السلامة من هذا المصير. وأبلغُ الخُطَب ليس الذي يَحشد فيه الخطيب أضخم الألفاظ وأبلغ الجُمَل ويسوق فيه أروع الشواهد، ويهدر بذلك هدراً ويتكلم فيه مع لسانه يداه وعيناه. بل إن أبلغ الخُطَب ما قلتَ فيه الحقيقة التي تدخل قلب السامع، فيؤمن بها ويصدّقها ويقول لك: صدقت. على أن توقد تحتها نار العاطفة لا أن تعرضها قضية منطقية باردة تخاطب العقل ولكن لا تهزّ الروح ولا تحرّك القلب، وأن يكون كلامك من قلبك قبل لسانك. صرت كلّما وجدت في جلسات المؤتمر مجالاً لإحدى الثلاث التي ندبتُ نفسي لها وقصرتها عليها حضرت معهم، فإن لم يكن شيء منها بَعُدت عن هذه المجالس وأويت إلى غرفتي في الفندق. وصرت ألقى على انفراد مَن اصطفيت من أعضاء المؤتمر، فكانت لنا لقاءات مع الشهيد السعيد سيد قطب كان يحضرها عصام وزهير ويحضرها أحياناً أديب صالح، وكنّا لا نفترق إلاّ قليلاً، وأُخذت لهذه الجلسات صور نُشر بعضها.

ولي مع سيد قطب رحمة الله عليه تاريخ طويل: كنت معه في دار العلوم سنة 1928 (إن صدقت الذاكرة)، ولكني نسيت ذلك ونسيَه. ثم عاركته فيمَن عاركه في معركة العقّاد والرافعي، وكان يومئذ أكرهَ الناس إليّ وأبغضَهم إلى قلبي، شتمته وشتمني وأنكرته وأنكرني، حتى جاء أخ من فلسطين اسمه (نسيت الآن اسمه (¬1)) فكتب في الرسالة يعجب منّا فيقول: أتتناكَران ولقد كنتما معاً، وكنت معكما في دار العلوم، في فصل واحد؟ ثم لمّا ألّف كتابه «التصوير الفنّي في القرآن» رأيت فيه فتحاً جديداً في دراسة القرآن، وكتبت أثني عليه بعدما هجوته وشتمته. وكنت في الحالَين مدفوعاً بمبدأ انطلقت منه. ثم كانت المفاجأة لي أني كنت يوماً في دار «الرسالة» عند الأستاذ الزيات، فدخل رجل رأيته دقيق العود أسمر اللون هادئ الطبع ساكن الجوارح، يكاد يكون خافت الصوت قليل الكلام. فسلّمت عليه سلامَ مَن لا يعرف الآخر، فضحك الزيات وقال: ألا تعرف خصمك سيد قطب؟ ففوجئت حقاً، لأني كنت أتصوّره ضخم الجسم بارز العضلات تقدح عيناه شرراً، كالمصارع الذي ترونه في المصارعة الحرّة يضرب رأسه بالحديد ويضرب رأس خصمه بالحديد! كنت بادئ الأمر في صفّ وكان في صفّ، كنّا في صفّ ¬

_ (¬1) ذكره في مقالة «العقيدة بين العقل والعاطفة» المنشورة في كتاب «فِكَر ومباحث»، قال: "الأستاذ سيد قطب رفيقي في دار العلوم سنة 1928 على ذمة الأستاذ اللبابيدي الذي نشر ذلك في «الرسالة» إبّان المعركة الأولى، معركة الرافعي والعقاد" (مجاهد).

الرافعي وهو أقرب إلى الجهة الإسلامية، وكان في صفّ العقّاد قبل أن يؤلّف العقّاد كتبَه الإسلامية. ثم اقترب منّا بكتابه «التصوير الفني»، ثم أعطاه الله ما أرجو أن أُعطى نصفه أو رُبعه أو عُشره، فعلا عليّ وسبقني وصنع ما لم أصنع مثله حين ألف «الظلال»، ثم أعطاه الله النعمة الكبرى التي طالما تمنيتها ولم أعمل لها: ترجو النّجاةَ ولم تَسْلُكْ مَسالكَها ... إنّ السّفينةَ لا تَمشي على اليَبَسِ أعطاه ما كنت أتمناه، بل ما تمنّاه من هو أكبر مني قدْراً وأجلّ في خدمة الإسلام أثراً، الملك فيصل رحمه الله، وهو الشهادة في سبيل الله. * * * وألف المؤتمر (ولم أكُن حاضراً) لجاناً أربعاً، منها لجنة للدعاية لقضية فلسطين وتعريف الناس بها، جعلوني رئيسها. فكانت اللجان تجتمع الساعات لتضع منهجها وتحدّد طريقها، وأنا قعدت وحدي فحصرت ذهني وعصرت تجارِبي في الدعوة الإسلامية التي عملت لها جندياً صغيراً من يوم أصدرت أول مطبوعة لي سنة 1348هـ. فوضعت أنا المنهج ودعوت الأعضاء للنظر فيه ومناقشته، فغضب الشيخ الراميني (وأحسب أنه كان مفتي عمان) وقال بأن هذا استبداد مني، فأرضيته وأقنعته بأن الذي قدّمته اقتراح لا يُلزم أحداً، وأن الرأي رأيهم وأن لهم أن يعدّلوا وأن يبدّلوا. وممّن اتصل حبل الودّ بيني وبينه وأحببته محبّة الأخ،

ووجدت فيه فضائل البداوة التي سمعت أنه نشأ أوّل نشأته فيها: بلاغة في المنطق واستقامة في السيرة وصدقاً في القول ورجولة وشجاعة، وسافرت معه فكان رفيقي في الحجّ لمّا دُعينا إليه فذهبنا باسم المؤتمر، فنمت أنا وهو في غرفة واحدة (وقلّما ضمّتني في المنام غرفة واحدة مع غيري)، فما أنكرت في السفر ولا في الحضر في سلوكه شيئاً، ما لمست منه غلظة ولا وجدت منه إزعاجاً، ولمست فيه صواب الفكرة وصدق المقال. وهو الأستاذ كامل الشريف. وكان ثالثنا في رحلة الحجّ الأستاذ سعيد رمضان. وكلّفونا أنا وهو السفر إلى طهران لمّا حُكم على صديقنا نَوّاب صفوي بالموت، لنعمل على إنقاذه. فلما وصلنا بغداد منعونا من دخول إيران، فاجتمعنا في الكاظمية بوفد كبير من علماء الشيعة وبذلنا الجهد، فما قدرنا لأخينا نواب على شيء، وقُتل رحمه الله. ودامت صلتي بالأستاذ كامل الشريف حتى صار وزيراً. وأنا في العادة أبتعد عن الوزراء حتى يُلقُوا عن عواتقهم وقر الوزارة، وإن كنت أستثني من ذلك نفراً ما بدّلَتهم الوزارة ولا غيرَتهم، كالأستاذ نهاد القاسم رحمة الله عليه، والشيخ مصطفى الزرقا والدكتور إسحق الفرحان والدكتور مصطفى البارودي أطال الله أعمارهم، وجماعة آخرين لعلّي كنت أعدّ معهم كامل الشريف لو أني قابلته وزيراً. وممّن زادت صلتي به وطال اجتماعي معه وتقديري له وصحبتي إياه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، في المؤتمر في القدس وفي عمان في فندق بالاس، وفي دمشق في داري ودار

شيخنا الشيخ بهجة البيطار، وفي بغداد. وقد بلغني أن ابنه الآن وزير خارجية الجزائر وأنه على طريقة أبيه في العمل لله وفي السعي للخير والإخلاص فيه. ومنهم الأستاذ عبد الرحمن خضر، المحامي العراقي الذي أكبرت فيه دينه وإخلاصه وجِدّه في عمله، وبراعته في صناعته (في المحاماة) وحسن خلقه. ورافقته في بغداد إلى بعض المحاكم وسمعت مرافعته، وكنّا يوماً في زيارة رئيس محكمة من المحاكم يبدو عليه أنه كبير السنّ بادي الشيخوخة، فلما جاء يعرّفه بي قال: شنو؟ إنه أستاذي. فعجبت أولاً، ثم لمّا ذكر اسمه أدركت أنه كان حقاً من تلاميذي في الثانوية المركزية سنة 1936 وأنه في سِنّ إخوتي الصغار، وقد حسبته لمّا رأيته في عمر أبي! وإن أنا ذكرت في هذه الحلقات طائفة من الناس قلت إنهم تلاميذي فربّ تلميذ فاق أستاذه. عمل الأستاذ -يا أيها القُرّاء- مثل واد بين جبلَين في وسطه جدول صغير، لا يستطيع السائح أن يصل من جبل إلى جبل حتى يقطع الجدول، وليس على الجدوَل جسر يجتاز الناس من فوقه، فقام عليه من يُجيز المسافرين، ينقلهم من ضفّة إلى ضفّة حتى يصل بأحدهم إلى الجانب الآخر ثم يؤمّ الجبل صُعُداً، فيبلغ منهم ناس عاليه وهو لا يزال في مكانه. هذا مثال الأستاذ، فإن أنا قلت إن فلاناً وفلاناً كانا من تلاميذي فإنما أعني السبق الزمني التاريخي، ولست أعني أنهم يبقون التلاميذ دائماً وأبقى الأستاذ دائماً. * * *

كيف قابلنا الشيشكلي؟

-140 - كيف قابلنا الشيشكلي؟ نحن كالنمل. هل رأيت قرية النمل؟ ادنُ منها ترَ حركة دائبة وصفوفاً متعاقبة، كلّ واحدة تأخذ بعقِب أختها فتمشي وراءها. كنت أحسب أنّ لها غاية تريد بلوغها، ثم علمت أنها تدع مِن أثرها شيئاً له رائحة، تهدي رائحته التي بعدها فتتبع سبيلها، فإذا مسحت بإصبعي طريقها اضطرب حبلُها واختلّ سيرها. أليس هذا مثال البشر؟ بعضهم يموج في بعض، منهم من يمشي يميناً ومن يمشي شمالاً، وكلٌّ مسرع لا يقف، وكلٌّ يحسب أن طريقه هو الصراط المستقيم. وهل أنا إلاّ واحد من الناس أمشي مشيهم وأصنع صنيعهم؟ أصبح فأعدو نهاري كله، فإذا جاء الليل هجعت أستريح، ثم غدوت لأعود فأعدو من جديد. لا أقف إلاّ مرة في رأس كل سنة. أقف قليلاً لأنظر أمامي لأرى إلى أين أسير، وأنظر ورائي لأرى كم قطعت من الطريق. أفتح دفاتري وأصفّي حسابي، كما يصنع التاجر عند الجرد السنوي إذ ينظّم موازينه ليبصر كم ربح وكم خسر. واليوم (الأربعاء 23 جمادى الأولى) هو يوم الجرد، في هذا اليوم من سنة 1405

ختمت ثمانياً وسبعين صفحة من كتاب حياتي الذي لا أدري ولا يدري أحد كم عدد صفحاته، لأن النسخة الأصلية لا يستطيع أحد أن يراها، فهي في كتاب مكنون مخبوء، ما فرّط الله في هذا الكتاب من شيء. وليس المراد بالكتاب الذي ما فرط فيه من شيء القرآن، بل هو كتاب القدَر الذي انفرد بعلمه الرحيم الرحمن، لا يعلمه نبيّ مُرسَل ولا ملَك مقرَّب. إنه غيب ولا يعلم الغيب إلاّ الله. فتحت اليوم (23/ 5/1405هـ) الصفحةَ التاسعة والسبعين، فمتى تُغلَق؟ وهل أقدر أن أعود إلى ما قبلها فأصحّح ما فيه من أخطاء مطبعية أو ما فيه من أغلاط فكرية؟ إن من رحمة الله بنا أن جعل لي ذلك، أعود إليها ولكن بالذاكرة، وأصحّح ما فيها بالتوبة. فاللهمّ إني تبت إليك فتُب عليّ، وجئت أستغفرك فاغفر لي، فلقد أيقنت والله الآن أن لذائذ الدنيا سراب وأن مخاوفها أوهام، وأنها كلها رؤى منام أو أضغاث أحلام. كتابة على الماء، يموج الماء فيمحوها، يمحوها أمام عينك ولكنها ثابتة أمام الله، لا تضيع منها صغيرة ولا كبيرة يُحصيها ليحاسبنا عليها. دنيا كالذي تراه في لوحة الرائي (التلفزيون): مناظر جميلة وجبال وأنهار وناس وبهائم، عالَم كامل، ولكن إذا أدرت المفتاح أو انقطع تيار الكهرباء ذهب كلّ ما ترى في لمحة فكأنه ما كان. * * *

كنت أقف على رأس كلّ سنة فأصفّي حسابي مع الزمان، ولكنْ كَبُر الآن رقم الحساب وطال العمر، وما عدت أستطيع أن أشمل كلّ الذي رأيت في عمري بنظرة، ولا أن أحصره في فكرة، ولا أن أصوّره في مقالة. إني لأفكّر الآن: ما الذي قدّمته لآخرتي في هذه السنوات الطوال؟ ما الذي نفعت به الناس؟ لقد طُبع ممّا كتبت إلى هذا اليوم أكثر من أربعة عشر ألف صفحة، وما لم يُطبع كثير. لقد علّمت في المدارس من سنة 1945. إنها ستّون سنة، بدأت التعليم قبل أن أُكمِل التعلّم، علّمت في المدارس الأولية في القُرى وفي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ودرّست في الجامعات وفي أقسام الدراسات العُليا فيها، في الشام وفي العراق وفي لبنان وفي الرياض وفي مكّة. علّمت بنين وبنات، علّمت مشايخ وأفندية، ألقيت محاضرات في النوادي ودروساً في المساجد، وخطباً في المظاهرات وفي الشوارع والساحات. والله وحده الذي يعلم عددها. وضعت أو شاركت في وضع قوانين كثيرة ومناهج للمدارس الشرعية. فما الذي بقي لي من ذلك كله الآن؟ إن كان عملي للدنيا وحدها فما بقي شيء: المال الذي دُفع لي أُنفِقَ وذهب، والتقدير الذي أرجوه من الناس نُسِي وراح، وكذلك يكون العمل للدنيا. وإن كان شيء منها لله، قد خَلُصَت فيه النيّة وصفي القلب وأُريدَ به الله والدار الآخرة، فهذا الذي يبقى عند الله ويسبقني ثوابه إلى الدار الآخرة.

كان موضوعي في هذه الحلقة مقابلة نفر من أعضاء المؤتمر العقيد أديب الشيشكلي، يوم كان هو الحاكم في سوريا، حكمه النافذ وقوله المسموع وإليه المرجع. فأين الشيشكلي؟ وأين مَن رأيت قبله وبعده من الحُكّام؟ وهل أقدر أن أعدّ من رأيت من الحُكّام؟ كنّا ونحن في المدرسة الابتدائية أيام الحرب الأولى نرى جمال باشا هو كل شيء، وإليه ينتهي في بلدنا كل شيء. يخافه الكبار فكيف لا نخاف -إن ذُكر اسمه- نحن الصغار؟ كان معه الجيش، ومعه المال، ومعه السلاح. وكان يشنق ... لا يزال أمام عيني منظر المشنوقين في ساحة المرجة أيام الحرب العالَمية الأولى. وبكيتهم مع من بكاهم وسَمّيتهم الشهداء مع من سَمّاهم، وقلنا للمرجة بعدهم «ساحة الشهداء»، ثم لمّا كبرت وعرفت بعض ما كنت أجهل من الحقائق علمت أن أكثرهم لم يكونوا شهداء ولا مظلومين برآء، ولكن كان أكثرهم مجرمين. كانوا جواسيس وكانوا أعواناً للإنكليز والفرنسيين، ثبت ذلك من الأوراق الرسمية التي وجدوها في القنصلية البريطانية والفرنسية ومن وثائقهما (¬1). فكيف تضيع حقائق التاريخ في دعايات بعض الدول وبياناتها الرسمية؟ إنْ كذب عليك ولدك أو تلميذك نصحتَه ثم زجرته ثم عاقبته. ولكن من يعاقب من يزوّر التاريخ وهو يملك كلّ وسائل التزوير وأنت لا تملك من أسباب التصحيح شيئاً؟ السلطان معه ¬

_ (¬1) انظر التعليق الذي سبق في أواخر الحلقة الخامسة من هذه الذكريات (مجاهد).

والدولة والمال والإذاعة والصحف معه، فما الذي هو معك؟ كُن مع الله ترَ الله معك، وكفى بالله لمن كان معه بقلبه معيناً ونصيراً. وسيُظهِر الله الحقّ ولو طال المدى، وإن لم يظهر في الدنيا فإن هذه الدنيا فصل من الرواية وليست الرواية كلها، إنه سيُرفع الستار عمّا بقي من فصولها. كم رأيت في حياتي من حُكّام انتهى إليهم في حياتهم أمر كلّ شيء، ثم أمسوا ليس في أيديهم من الأمر شيء، بل لقد باتوا هم لا شيء: ماتوا فما ماتتِ الدنيا لمَوْتِهمُ ... ولا تعطّلَتِ الأعيادُ والجُمَعُ وسيموت كل طاغية جبّار ويمشي على طريق من سبقه. ما بقيَت الدنيا لأحد قبله حتى تبقى له. بل إن الأسماء التي كبرت حتى مشَت على كل لسان ودخلَت كلّ أذن وصار منها ما يُخوَّف به الأولاد كالبعبع والعفريت والغول، لقد نُسيت هذه الأسماء! كنت مرة مع بعض العوام فجرى ذكر ستالين، فسألت أحدهم: ألا تعرف ستالين؟ فخجل من جهله ثم قال: أنا يا أستاذ أستعمل الأسبرين، لا أعرف الستالين! كم عدد الذين يعرفون من القُرّاء تاريخَ القرامطة؟ القرامطة الذين احتلّوا مكّة، وأقَضّوا جانب الدولة العباسية، وعاثوا في الأرض فساداً، وكانوا شرّ قَبيل انتسب زوراً إلى بني آدم. الذين ذبحوا الحُجّاج ذبح النعاج وهم يطوفون حول البيت، واقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم إلى هَجَر. ولست أعرف ما هجر:

أهي القطيف أم البحرين؟ ولا يضرّني ألاّ أعرف ما هَجَر بعد أن أباد الله ذلك الصنف الفاسد من البشر. وصاحب الزِّنْج الذي أثار الأذناب على الرؤوس والعبيد على السادة، وأراد أن يقلب وضع المجتمع ويجعل سافله عاليه ورأسه تحت ورجلَيه من فوق، فقلبه الله فجعل جسده تحت الأقدام وصيّره عِبرة للأنام. لو كنت أستطيع أن أعُدّ مَن علا حتى ظنّ أنه بلغ برأسه السحاب ثم غدا تأكل جسدَه الدود تحت التراب! كلّما رأيت من يسيطر اليوم بقوّته أو يحكم بجيشه وسلاحه ويستعين بجنده وأعوانه على ظلم الأنام والتحكّم في الناس، يظلم عباد الله ويخالف شرع الله ويسعى في الأرض فساداً، كلّما رأيت ذلك تذكّرت أمثاله وتخيّلت مصيره الذي لا يستطيع أن ينجو منه، فهان عليّ ما أرى. يا أيها القُرّاء، أقول لكم بعد تجارِب ثماني وسبعين سنة كاملة في هذه الحياة، رأيت فيها من خيرها وشرّها وذقت من حُلوها ومُرّها، أقول لكم: من اغترّ بهذه الدنيا واطمأنّ إليها فهو أحمق. * * * أعود الآن إلى موضوعي. قلت لكم في الحلقة الماضية إنهم انتدبوني أنا والأستاذ كامل الشريف، لمّا حُكم على أخينا نَوّاب صَفَوي بالقتل، أن نذهب

إلى طهران فنسعى للعفو عنه أو للرفق به. لمّا بلغنا بغداد منعونا دخول إيران، وكأنهم كرهوا أن نذهب إلى النجَف فنجتمع بعلمائها لنتعاون معهم على ما جئنا نسعى إليه، فقَدمت جماعة كبيرة من علماء الشيعة إلى بغداد. واجتمعنا في مسجد الكاظمية فقلت لهم: إن نواب صفوي أنتم أولى به وإن قضيّته قضيّتكم، وإنه وإن لم يكن بعيداً منّا أقربُ إليكم، فاعملوا ونحن معكم. وقلت لكم إنّا ما استطعنا أن نصنع شيئاً وإن سهم القضاء قد نفذ فيه فمات، رحمة الله عليه. وقد يسأل سائل: من أين عرفت نواب صفوي؟ لقد سمعت أخبار جماعته الفدائية، تلك الأخبار التي ملأت الصحف في تلك الأيام، وما كان يعمل أعضاء «فدائيان إسلام». فلما قرأت اسمه بين أعضاء المؤتمر كرهت لقاءه، وخفت أن يكون كما قالوا مغرقاً في شيعيته فيقع بيني وبينه جدال ربما أساء إلى المؤتمر وأبعده عن بلوغ الغاية التي يسعى إليها. فلما لقيته وجدته شاباً صغير السنّ بهيّ الطلعة لطيفاً، بعمامة أظن أنها كانت سوداء وجبّة سابغة، ولمّا كلّمته وجدته متأدّباً يحترم الكبير ويستمع النصيحة، فخضت معه في الموضوع الذي كنت أخشاه فوجدته كما كنت أقدّر غالياً في شيعيته. ولا يأتينا الضرر ولا يقع بيننا الخلاف إلاّ من أصحاب الغلوّ والتشدّد. فصرت أبيّن له ما أرى أنه الحقيقة، فكان يُصغي إليّ ويَقبل ما يقوم الدليل على أنه صحيح من كلامي، فلما لمست طيب قلبه وإخلاصه وحُبّه للوصول إلى الحقّ، كدنا نتّفق على كثير

من المسائل التي يختلف فيها من كان في مثل موضعه وموضعي. ثم صار يُكثِر الاجتماع بي ويمشي معي، ولنا صور كثيرة في المؤتمر وفي المسجد الأقصى بالقدس، ثم في عمان في دار صهري الأستاذ عصام العطار لمّا كان في عمان. وأقول لكم إنني أحببته لِما لمست فيه من كريم الصفات. ولمّا انقضى المؤتمر ورجعنا إلى دمشق أحبّ وأحبّ فريقٌ مِمّن كانوا في المؤتمر من الأساتذة والمشايخ أن يقابلوا الشيشكلي. وأنا في العادة لا أطرق أبواب الحُكّام ولا أحوم حولها ولا ألتمس الدنوّ منهم، ولكن لمّا ألقيت تلك الخطبة عن حفلة دوحة الأدب ورقصة السماح وكان بعدها ما كان (وقد قرأتم خبر ما كان) جاء صديق لنا طبيب عقيد في الجيش، وكان العقداء (الكولونيلات) في الجيش السوري نفراً معدودين، منهم العقيد أديب الشيشكلي والعقيد عزّة الطباع، الطبيب الذي أتكلم عنه، وهو أديب النفس وأديب الصنعة، أظنّ أنه يَنْظم الشعر ويكتبه، وهو من إخواننا. اقترح عليّ أن أزور الشيشكلي لأوضّح له ظروف الخطبة التي ألقيت فأزيل من نفسه بقايا الألم لِما قلت عن حاضري الحفلة في دار العظم أن من لا يغار على نسائه ونساء المسلمين يكون ديّوثاً. وقبلت هذا اللقاء وحدّد الموعد، وذهبت أنا وأخي الشاعر أنور العطار رحمه الله فقابلناه في «الأركان». وجدته لطيفاً ناعم الملمس حلو اللفظ، كأنه تاجر شامي قديم. وكان -كاسمه- أديباً

عند المقابلة، ما شمخ بأنفه ولا صعّر خدّه، بل استقبلَنا كما يستقبل العربي ضيفه، يُكرِمه ويقدّمه ويرفع مقامه ويتأدّب معه. ثم كان بيننا لقاء ثانٍ، لا سعيت أنا إليه ولا طلبته ولكن طُلب مني. جاءني يوماً في داري، وكان الشيشكلي والعسكريون هم الحُكّام في الشام، وكان شبح سجن المزة يلوح من ورائهم والناس يخشونهم ويحذرونهم ... في هذه الحال جاءني صباحَ يوم إلى الدار ضابطٌ في الجيش يخبرني أن سيادة العقيد يحب أن يجتمع بي. وطمأنني بأن الاجتماع وُدّي وأن لي أن أوافق عليه أو أن أعتذر عنه. وقد حاولت الاعتذار لكني وجدت فيه حرجاً، وطمأنني أن الاجتماع في داره لا في قصر الحكومة. والاجتماع في الدار أدعى إلى الاطمئنان. وكان مستأجراً دار نسيب بك البكري، في أول فرع شارع بغداد الذي يبدأ من ساحة السبع بحرات. وأنا -كما عرفتم- أستصعب أن أذهب وحدي في زيارة ولو كانت لأقرب أصدقائي إلى نفسي، فأصحب معي واحداً من إخواني. فلما جاءتني هذه الدعوة مررت على دار صديقي وزميلي في المحكمة الشيخ صبحي الصباغ فقلت له: إن العقيد يدعونا لنزوره في داره. وأستغفر الله أني كذبت في هذا القول، وإن كان إلى المعاريض الجائزة أقربَ منه إلى الكذب الحرام. فقال: خَيّو (أي يا أخي)، لماذا نذهب؟ قلت: نزوره، هو يريد ذلك. ففكّر قليلاً ثم قال: باسم الله.

ذهبنا إليه صباحاً قبل ابتداء العمل في المحكمة، وكذلك حدّد هو الموعد. فلما دخلنا عليه خرج من وراء مكتبه واستقبلَنا من وسط الغرفة، ثم قعد أمامنا فحيّانا بأحسن ما يُحيّي به مضيفٌ ضيفَه. وجاءت القهوة فأبى إلاّ أن يقدّمها هو إلينا، أخذ الصينية من الخادم ووقف أمامنا يقرّبها إلينا! وأنا أتحرّج من أمثال هذه المواقف ولو كانت من زميل أو صديق وأرتبك ولا أعرف ماذا أصنع، لقلّة اختلاطي بالناس واندماجي بالمجتمعات، فقمت واقفاً وقام صاحبي نشكره ونرجو منه أن يقعد، فأبى وقال ضاحكاً: أنتم ضيوفنا، هل نسيتم عاداتنا العربية؟ ثم كان حديثٌ كالذي يكون بين الأصدقاء في المجالس. وبعد أن ذهب بالحديث يميناً وشمالاً قال إنه عازم على نشر دستور جديد، قد استشار فيه أهلَ الحلّ والعَقْد وأراد منه الخير للناس وللبلد، وهو يريد مني (وخصّني هنا بالحديث) أن أُبدي رأيي فيه في عشر حلقات إذاعية من حديثي الذي كان يُذاع بعد صلاة الجمعة من كلّ أسبوع. فسألته: هل لكم توجيهات معيّنة تريدون أن نتوجّه إليها في الحديث أو أمور تُحِبّون أن نؤكّد عليها؟ قلت هذا وأنا أعلم وهو يعلم أنني لن أستجيب له إذا أملى عليّ شيئاً لا أقتنع به. وتبيّن لي من هذه المقابلة والتي قبلها أنه ذكيّ نادر الذكاء، فقال: أعوذ بالله، وهل أنا مِمّن يُملي على مثلك؟ إنما نريد أن نستفيد من خبرتك ومن علمك ما ينفعنا وينفع الناس. وأنا أظهرت أنني صدّقته، وأخذت كلامه على ظاهره. وذهبت

فجعلت حديثي يوم الجمعة التي تلَت المقابلة عن الدستور، وقلت بأن الدول الإسلامية المتأخّرة كانت تدّعي أن دستورها القرآن، ولكن كان أكثر حكامها فاسدين فما نفَعهم الدستور لمّا لم يطبّقوه، لذلك أقول إن دستوراً سيّئاً مع الحاكم الصالح القوي الصادق خيرٌ من دستور صالح مع حاكم فاسد. سمع الناس هذا الكلام وسمعه هو، فما لامني عليه ولا شكرني، ولكن لم يُذيعوا لي الأحاديث التسعة الباقيات! * * * فلما جاء إخواننا في المؤتمر يريدون لقاءه كان الوسيط هذه المرة بيني وبينه الأستاذ أحمد عسّة، مدير الإذاعة، وكان يوماً من الأيام تلميذي، فطلبت إليه أن يأخذ لنا موعداً ففعل. وذهبنا إليه، نَوّاب صَفَوي الذي أتحدّث عنه، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري، والأستاذ الفضيل الوَرْتلاني الجزائري، والأستاذ مُحيي الدين القُلَيبي التونسي، ومعهم اثنان أو ثلاثة نسيت أسماءهم الآن، ولم يكن فيهم سوري غيري أنا. فلما دخلنا عليه أحسن استقبالنا على عادته واستمع منّا. فقال الشيخ الإبراهيمي كلاماً جيّداً صريحاً صادقاً ولكنه مهذّب مؤدّب، وقال آخر كلاماً لا أذكره، ثم استلم الكلام نواب صفوي فقال بلهجة المهاجم المقاتل لا الناصح الصديق: يا شُشْكُلي (وكان يضم الشين الأولى ويُسكّن الثانية)، أنت تخالف الإسلام وأنت تحارب العاملين له وأنت تعمل كذا وكذا ...

وقال كلاماً ما كنت أحسب أن رجلاً يواجه به آخر من عامّة الناس في لقاء له معه أول مرة! وكان العقيد الشيشكلي مبتسماً، ما اختلجَت عضلة في وجهه ولا تقلّصَت بَسمتُه شعرة ولا بدا عليه أنه غضب أو تألّم، وكان يهزّ رأسه مستمعاً كأن الذي يُلقى عليه قصيدة مدح له لا كلام هجوم عليه. وكان يلحظني بطرف عينه خلسة كأنه يقول لي: أهؤلاء الذين جئتني بهم وسألتني الاجتماع بهم؟ وكأني أحسست أن في نظرته تهديداً ووعيداً، فلما خرجنا من عنده (وقد شيّعَنا إلى الباب) قال لي نواب صفوي: ما رأيك؟ ينتظر مني أن أقول له الله يعطيك العافية، فقلت له: الله لا يعطيك العافية! فصُدم وقال: لماذا؟ قلت: الله لمّا بعث موسى وهارون إلى فرعون قال لهما: {فقُولا لهُ قولاً ليّناً}. هل أنت خير من موسى أم هو شر من فرعون، أم أنت لا تعرف آداب الخطاب؟ وكان عندنا بعد هذا الاجتماع احتفال كبير في جامع تنكز، وهو من مساجد الدرجة الثانية بعد الجامع الأموي، في مكان هو لُبّ البلد ومجمع الناس. فوجدنا فيه حشداً عظيماً يريدون أن يستمعوا لمن حضر من المؤتمر، فقام نواب صفوي فحدّثهم بما كان في مجلس الشيشكلي وروى لهم ما قال له. * * * وكنت قد رتّبت أموري على أن أذهب في رحلة الشرق مع الشيخ الصوّاف والشيخ أمجد الزّهاوي، وكاد الأمر ينتهي، بل

لقد سعوا لي أن يكون سفري إيفاداً في مهمّة رسمية آخذ عنها تعويضاً. فلم أعُد أنتظر التعويض ولا أرجو أن تكون مهمّة، بل كان هَمّي كله أن أنجو بريشي، لا أكتمكم أنني خفت أن أبيت في سجن المزة! إن سَلَف الشيشكلي الذي ابتدع بدعة الانقلابات وحقّقها بعد أن وضع مشروعَها في العراق بكر صدقي في انقلابه الجزئي (وقد شهدت الانقلابَين وسأتحدّث عنهما)، إن حسني الزعيم اعتقل رئيس الجمهورية، فهل يمتنع خَلَفه أن يعتقل رجلاً مثلي ليس رئيساً ولا وزيراً؟ هذه هي قصّة لقائنا مع الشيشكلي. وأنا لا أدنو عادة -كما قلت لكم- من أبواب الحُكّام، ولم ألقَ الشيشكلي إلاّ هذه المرات. وقد لقيت عقيدَين من أعوانه، الأوّل هو العقيد إبراهيم الحسيني الذي جاء المملكة في آخر أيامه فاشتغل فيها. وكان ناعماً مؤدّباً رقيق الحاشية مهذّب اللفظ، قابلناه مرة مع جماعة من المشايخ فاحتفل بنا وأصغى إلينا، فلما ودّعناه وخرجنا تلفّتُّ فإذا هو يمشي ورائي من غرفته إلى أوّل الدرَج، فأقسمت عليه فرجع. ونزلنا الدرَج فلما وصلنا إلى الباب الخارجي لدائرة الشرطة تلفّتُّ فوجدت أنه قد نزل معنا يشيّعنا إلى هذا الباب! والآخر عقيد خشن بذيء اللفظ قليل التهذيب، نسيت بحمد الله اسمه. استدعى مرة جماعة من العلماء والمشايخ فاعتذر منهم ناس كالشيخ حسن حبنكة رحمة الله عليه وآخرون، وذهبت أنا والشيخ أحمد الدقر والأستاذ محمد المبارك ونفر لا أذكر

الآن أسماءهم. قابلناه في المكان الذي قابلنا فيه من قبل العقيد الحسيني، ولكن اختلف الوجه وتبدّل اللسان، فواجهَنا بتهديد ووعيد وكلام شديد، بلفظ بذيء وصل فيه إلى حدّ الكفر. وأنا المعروف عادة بأنني جريء الجَنان ماضي اللسان، شغلَتني هذه المفاجأة فجعلَتني أفكّر في الذي أقول، وإذا بأخينا المبارك كان أسرع مني، فبادر إلى الردّ عليه بلهجة حاسمة قوية وقال له: نحن لا نقبل أن نستمع إلى هذا الكلام ولا أن نُهدَّد هذا التهديد. وكلاماً هذا معناه أكبرته به وأعظمته منه (وأنا أشهد له هذه الشهادة بعدما ذهب إلى رحمة الله، كما شهدتها في حياته رحمه الله). ومن غرائب الأمر أننا لمّا خرجنا من عنده حدّث بهذه المقابلة أحدُ المشايخ الحاضرين الذين لم يفتحوا فماً ولم يتكلّموا كلمة، فنسب لنفسه الهجوم على العقيد وتفجّرَت حماسته بعدما انتهت المعركة، وانطلق لسانه بعد أن لم يبقَ للكلام مجال، فزعم أنه قال وقال. وقد اختلفنا مرة: أيّ العقيدين أقوى مراساً وأشدّ بلاء: العقيد الحسيني الناعم المعسول الكلام أم الآخر الخشن البذيء الذي نسيت اسمه؟ فقلت لهم: لا تغرّنكم نعومةُ الفأس ولا تخدعنّكم خشونةُ الحطبة، فإنّ الفأس على نعومتها تقطع أشدّ الحطب على خشونته. * * *

بغداد، المحطة الأولى في رحلتنا من أجل فلسطين

-141 - بغداد، المحطّة الأولى في رحلتنا من أجل فلسطين لوحة جميلة، فيها صور مدن وناس ومشاهد مختلفات، وفيها من غرائب العادات ما يستهوي النفس ويُثير الرغبة في الاطّلاع، ولكن ثلاثين سنة مرّت عليها محَت خطوطها إلاّ العريضةَ منها، وطمسَت ألوانها إلاّ ملامحَ منها تدلّ عليها. وهذه الخطوط العريضة وهذه الملامح العامّة هي ما جئت أعرضه عليكم اليوم على استحياء. رحلة امتدّت حتى عدلَت ربع محيط الأرض، ولكنها بدأت من هذه البادية: بادية الشام التي قطعتها ذاهباً وآيِباً، من دمشق إلى بغداد ثم من بغداد إلى دمشق، مرات لا أحصيها ... قولوا عشراً، قولوا أربع عشرة، إنكم لا تكونون مبالغين، ولربّما كانت أكثر من ذلك. إذا انتهيت من مرحلة عُدت فابتدأت من حيث انتهيت، فتكون النهاية بداية والبداية نهاية، والدولاب يدور والعجلة

تمشي، كما تمضي أيام العمر: يَومٌ يَمُرّ وليلٌ يكِرُّ ... وفجرٌ يعودُ بيوم جَديدْ ثم يصير الجديد قديماً والعمر ينقضي بينهما، والأجل يقترب، حتى يأتي على المرء مساء لا صباح له أو صباح ما له من مساء. نغدو ونروح والبادية لا تحسّ بمن غدا أو راح؛ يتبدّل الناس وهي باقية على ما كانت عليه، حتى يجيء عليها هي أيضاً يوم تُبدَّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات، فيموت كل حيّ ويسكن كل متحرّك، ويعود إلى التراب كُلّ ما فوق التراب، ولا يبقى إلاّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام. هنالك ينادي المنادي: لِمَنِ المُلْكُ اليوم؟ فيجيب المجيب: لله الواحِدِ القَهّار. ثم نعود بشراً نخرج من التراب كما بدأنا أوّل مرة من التراب، ويرجع حياً من مات ويصير حاضراً يرى التاريخ الذي كان ماضياً يُروى، ويجتمع البشر في صعيد الحشر، يُساقون جميعاً للحساب بين يدَي ربّ الأرباب. * * * إن رأيتموني خرجت عن موضوع الرحلة فلا تثريب عليّ، فإن هذه الرحلة التي خرجتُ إليها هي التي لا بُدّ منها ولا مَعدى لنا عنها، يذكرها العاقل أبداً ويشكر من يذكّره بها، وينساها الأحمق الجاهل ويؤذيه أن يأتي مَن يحدّثه حديثها، أو يسأله ماذا أَعَدّ لها وماذا عمل في دنياه التي جعلها الله مزرعة لها، يحصد كلٌّ ما زرع،

فلا يقطف من الحطب العنب ولا من الشوك الرطَب. ورُبّ قائل يقول لي: إنك لم تستوفِ الكلام عن المؤتمر؛ لم تصِفْ جلساته ولم تسرد مقرّراته ولم تُفِض في بيان أعماله. وهذا الذي قالوا حقّ، وأنا كتبت منه ما رأيت. كتبت ذكرياتي ولم أكتب تاريخ المؤتمر، كنت فيه ولم أكُن حاضره. لا تعجبوا من هذا الكلام، فلقد كنت فيه على الهامش أمسّ محيط الدائرة مسّاً، أما الذي كان في مركزها وكان هو قطب المؤتمر، وهو الداعي إليه والساعي لإقامته وهو الذي جمع له المال، وهو الذي يعرف ظواهره ودواخله وباديه وخافيه، فهو رجل اسمه الشيخ محمد محمود الصواف. فاسألوه يُجِبْكم واستكتبوه يكتُبْ لكم، عن المؤتمر وعن الدعوة إلى الإسلام في شباب العراق التي كان له شرف حملها. إن عنده صفحة من تاريخ العراق الحديث، كما أن عند الدكتور معروف الدواليبي صفحة أخرى من تاريخ الشام، فخذوهما منهما وانسخوهما عنهما، قبل أن تفقدوهما وتفتّشوا عنهما فلا تجدوهما. على أني لن أدع المؤتمر وأسافر قبل أن أذكر بالخير فتية أحسنوا إليّ، فلم يفارقوني ولم يضنّوا عليّ لحظةً أن يؤنِسوني ويُعينوني. كانوا يومئذ فتية كراماً وصاروا الآن أساتذة أعلاماً، لهم كتب ولهم مصنّفات ولهم مآثر ظاهرات، ولهم في الإصلاح أثر وفي الصلاح مكان: عصام العطار وزهير الشاويش وأديب صالح، وصحب لهم مثلهم وإن لم أذكرهم الآن كذكري إياهم. أمّا عصام فقد عرفتم مكانه مني وصِلَته بي، وأمّا زهير

فليس في المكانة دونه وهو في الصلة مثله. وهو ابنُ نَفْسِه، علّمَها وزكّاها. قرأ الكتب وصحب العلماء، وفتح عينيه على الحياة وأذنيه للعلم، وأمدّته ذاكرة قلّ نظيرها وذكاء ندر مثيله، ثم أقبل على طبع الكتب وتصحيحها والرجوع عند التصحيح إلى أصولها التي أخذ مؤلّفوها منها. فبلغ كلّ منهما ما ترونه منه الآن. * * * خرجنا من عمان أنا والأستاذ الصواف يوم الجمعة بعد الصلاة يوم 22/ 1/1954 في سيارة صغيرة لصديق من أصدقاء الصواف. ولئن كان السفر بالطيارة أسرع والسفر بالقطار أمتع، فإنك حين تسافر بالسيارة الصغيرة، ولا سيما إن كانت سيارة رفيق موافق، تحسّ بالحُرّية والانطلاق. تقف السيارة بك متى شئت وتنزل منها متى أردت، لا كراكب الطيارة الذي يمضي طريقه كالمحبوس في غرفة واحدة وكالمصفَّد بالأغلال. لقد كتبت عن هذه السفرة مقالة طويلة. لكن أين هو الذي يعلم مكان المقالة؟ وأنّى لي الوصول إليها الآن؟ على أن الصور التي أودعتها المقالة ماثلة أمامي والأفكار التي وضعتها فيها محفوظة في ذاكرتي. مشينا في رحلتنا مع خطّ النفط (البترول)، فوجدناهم قد أقاموا محطّات كأنها قُرى صغيرة سَمّوها بحروف مرقّمة بأرقام (H4) و (H5)، ورأينا في المحطّة بيوتاً مثل بيوتهم في بلادهم جمعوا فيها الراحة من أطرافها، ففيها الفراش الوثير، والطعام النافع اللذيذ، والوسائل إلى دفع الحَرّ والقَرّ، والكتب والمجلاّت، والمجامع والملاعب، وفيها كلّ ما يكون في المدينة

الكُبرى. والمرء لا يشعر بالاطمئنان والأمان إلاّ في بيته. ولا أعجب مثل عجبي مِن الذين يَدْعون المرأة إلى الخروج من بيتها، فتجول في الشوارع أو تعمل في المصانع أو تخوض المعارك والمعامع. يقولون لنا محتجّين علينا: هل تريدون للمرأة السجن في دارها؟ ما أجهلكم وما أضأل بالحياة معرفتكم حين تسمّون البيت سجناً! لقد طالما نزلت في رحلاتي الكثيرة بلاداً لم أجد فيها فندقاً آوي إليه أو نُزُلاً أبيت فيه، فشعرت أن البلد كلّه -على سعته- هو السجن إن لم يكن لي فيه دار، وأن الدار، إن كانت داري، هي البلد. لقد عرف الإنكليز هذه الحقيقة فنقلوا بيوتهم إلى هذه الصحراء، فأقاموها فيها أو أقاموا فيها مثلها حتى لا يحسّوا الغربة عن منازلهم. ومن الصور التي بقيَت في ذهني إلى الآن أن البدوي الذي رأى السيارة أول مرة فهرب منها وحسب أن الجنّ تسيّرها، والذي كان يجزع من الرادّ (الراديو) الذي تغنّي فيه العفاريت ويرتجف قلبه هلعاً من المحرّك (الموتور) الذي تديره يد مارد لا يُرى، صار يسوق اليوم السيارة التي كان يهرب منها ويُصلِحها هو إن فسدت، ويفكّك أجزاء الرادّ ويجمّعها، ويحرّك (الموتور) ويعرف كيف يدور. عرف الحقيقة فبطل السحر، ورأى الغربيَّ مثلَه فلم يعُد يخشاه ولا يجبن أمامه. وكنّا نمرّ على مخافر الجيش العربي الأردني. وهم يعيشون في هذه الصحراء بما ورثوه من أخلاق الصحراء، ومن أخلاقها

الصبر والجلَد والاحتمال والصراحة والبعد عن النفاق. ولقد مررنا بأحد المخافر فكلّفونا أن نحمل صرّة صغيرة وقربة فيها ماء. قلنا: لمن هذه؟ قالوا: للولد دهّام. قلنا: وأين هو؟ قالوا: جِدّام (أي قدام). فسرنا ثلاثين كيلاً (كيلومتراً) حتى وجدناه وحده في خيمة قائمة في الصحراء يحرس الحدود، وإلى جانبه على مرمى حجر منه خيمة مثلها تتّصل بها خيمات. وإذا في الصرّة قليل من التمر وفي القربة شيء من الماء، وإذا هو يعيش بهذا التمر وهذا الماء يومه كلّه. يا أيها القُرّاء، هذه أخلاق الصحراء، فثقوا بأنكم لا تزالون أقوياء ما دمتم متمسّكين بها، تجمعون إلى فضائلها فضيلةَ العلم والمعرفة بأسرار الفكر، فما ضَعُفَ العرب إلاّ حينما فقدوا أخلاق الصحراء. ولقد وقع مثل ذلك لغيرهم. هذا جيش هاني بعل (هانيبال) القرطاجي (القرطاجنّي) الفينيقي الذي وضع رأسه في رأس روما أيام قوّتها وعظمتها، والذي حاربها فانتصف منها، والذي صنع ما لم يصنعه قبله أحد حين صعد جبال الألب بجنوده ودوابّه وأثقاله فانقضّ عليها من علٍ انقضاضاً. لقد قلّده في ذلك بعد دهر من الزمان نابليون حين صنع مثله، فهبط على النمساويين فظفر ذلك الظفر المؤزّر. فلما استقرّ جنود هاني بعل في إيطاليا وذاقوا نعيم الحضارة سَرَت إليهم رخاوتها ومشى إليهم ضعفها، وأضاعوا أخلاقهم الأولى فغُلبوا على أمرهم. وقريب من ذلك ما كان سيقع لجنود ابن تاشفين لو أنّهم

عاشوا في الأندلس، ولكن الله نبّهه فعاد بهم من حيث جاء، وعصمهم من فتنة هذه الحضارة الرخوة الضعيفة. ورحم الله شيخنا الرافعي إذ قال في نشيده الإسلامي الذي لم يُنظَم مثله: إنما الإسلامُ في الصّحرا امتهَدْ ... لِيَجيءَ كلُّ مسلمٍ أسدْ ومن أعجب ما رأيت في هذه الرحلة (وما لا أزال أذكره إلى الآن) أنني سمعت وأنا في قلب الصحراء حديث علي الطنطاوي الذي كان حدّث به في غرفة من دار الإذاعة في شارع جمال باشا في دمشق قبل أسبوعين من ذلك التاريخ. سجّلته في الشام وسمعته بعد ذلك في الصحراء، أفلا تعجبون من ذلك؟ لو قيل لأكبر علماء الأرض قبل مئة سنة إن هذا سيكون لَجُنّ أو لَحَسِبَ القائل مجنوناً. ونحن لو سمعنا بما سيكون من العجائب بعد مئة سنة لصرنا كلّنا مجانين. هذا ونحن في الدنيا، فكيف بما سيكون في الآخرة؟ * * * ووصلنا الرطبة في آخر النهار. ولقد مررت بالرطبة مرات لست أحصيها، حين ذهبت إلى بغداد أوّل مرة وحين رجعت منها في عطلة الصيف، وحين عدت إليها في السنة التي بعدها مرات ومرات لم أعُد أعرف عددها. كانت الرطبة يومئذ محطّة سيارات ومركزاً للجوازات ولا شيء وراء ذلك، فرأيتها هذه المرة (1954) قد صارت قرية فيها

زرع وفيها بساتين. ولقد حدّثني مدير الناحية عن أماني الحكومة فيها وقال لي: إنك ستراها بعد عشرين سنة أخرى مدينة هي جنّة الصحراء، وستمرّ بها وستكتب عنها. فقلت له: ولكن هل يُقدَّر لي أن أعيش حتى أراها؟ وما أصنع برؤيتها والكتابة عنها وأنا يومئذ شيخ على أبواب السبعين هَمُّه -إن عقل- الاستعداد للقاء ربه والعمل لآخرته؟ هذا ما قلته وكتبته في تلك السنة، وأنا أكتب هذه السطور الآن لا بعد عشرين سنة كما قال المدير، بل بعد ثلاثين، وأنا اليوم لست على أبواب السبعين ولكنني على عتبة الثمانين، فهل عقلت حتى أجعل هَمّي كله الاستعداد للقاء ربي والعمل لآخرتي؟ رَبِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي، اللهمّ رُدّني إلى صراطك المستقيم واختم لي بالحسنى. وعدنا نسير وليس مع سيارتنا سيارة أخرى، فهي تضرب وحدها في ظلمات الليل وفي مهامه البادية، ولكننا بحمد الله في أمان. حتى إذا قارب السحر لمحنا في الأفق مصابيح الرّمادي (ولعلّها هي الأنبار)، ثم وضحَت، ثم ابيضّت حواشي الأفق بالأضواء الساطعة لمشروع مجلس الإعمار الذي كان قائماً يومئذ هنالك. ودخلنا شوارع الرمادي تحت صوب من المطر والريح تعصف فتصيب الوجه والأطراف بمثل لذع السياط، وإذا نحن بفتيان وشُبّان ينبعثون من سواد الليل، وأكثرهم بثياب النوم قد وضعوا المعاطف عليها، هجروا فُرُشهم وعافوا دفء بيوتهم

وخرجوا في هذه الساعة ليحيّونا، أو ليحيّوا (على الصحيح) شيخَهم الصوّاف. وكان هذا المشهد أول ما رأيت من ثمار دعوة الصواف في العراق. عشت في العراق سنين، فلمست في الشباب فتوّة ونشاطاً وهِمّة وعزيمة وقوّة ورجولة، ولكن لم ألمس فيهم مثل هذا التديّن وهذا الإيمان. ولست أدري كيف سرى الخبر بوصولنا في هذا الليل فاجتمع عشرات من الناس. عشرات؟ لقد أخطأت التعبير، بل إن المجتمعين كانوا أكثر من مئة، هجروا فُرُشهم في هذه الليلة الباردة ليستقبلوا شيخهم ومَن مع شيخهم. فكيف لو وصلنا في رَأْد الضحى أو في أَلَق الأصيل؟ وكيف لو جئنا بلداً كبيراً فيه ناس كثير ولم نأت بليدة صغيرة كالرمادي؟ وأخذونا إلى دار من دورهم فكانت جلسة تعارف وتوجيه وسمر، كانت كشفاً لهذا المنجم الزاخر بالتقى والفضيلة والكرم في هذه النفوس الخيّرة. وودّعتهم وكأنني أودّع أصدقاء أو أبناء عرفَتهم روحي من عشر سنين. وكتبت يومئذ أقول: يا شباب الرمادي وياشيبه، عليكم سلام الله وتحيّاته وبارك الله فيكم. * * * وسرنا مع الفرات، وهو يسير إلى جنبنا لا يبالي بنا ولا يلتفت إلينا كما كان يسير منذ ملايين السنين. مَن يعرف عمر الفرات حتى يقدّره بالسنوات؟ رأى في سيره أجناساً من البشر اختلفَت سماتهم وتعدّدَت

لغاتهم، ولكنهم جميعاً يمشون على أرض واحدة، فلم يرَ فيهم ناساً هم أقرب الناس إلى الإنسانية وأحقّهم بوصف البشرية وأسماهم نفساً وأطهرهم قلباً مثل الذين جاؤوا من الصحراء ترفرف فوق رؤوسهم رايات محمد ‘. ومررنا بالفلّوجة، ورأينا من بعيد الحبّانية ومنازل الإنكليز. وتواردَت على الذهن صور لَمّاعة زاهية للنار التي أضرمها مرة رشيد علي الكيلاني ليحرق بها الاستعمار ويبدّد ظلامه، ولكن رياح الشرّ كانت أقوى من لهيبها فما أسرع ما أطفأتها. ودنونا من بغداد فازداد الشوق إلى بغداد: وأكثرُ ما يكونُ الشوقُ يوماً ... إذا دنتِ الخيامُ مِن الخيامِ ثم دخلنا أرباضها وجزنا بمدينة المنصور وبغداد الحديثة، ثم ولجنا المطار وقد دنت طلائع الفجر. واستيقظَت في نفسي الذكريات التي كانت نائمة في جنباتها، ذكريات أيامي في بغداد. ولقد عشت فيها أكثر من ألف يوم، فلو أن لكل يوم ذكرى لكانت في النفس عنها ألف ذكرى. وكان المخفر خالياً والمراقب وراء بابه يحتمي به من لذعة البرد في هذه الساعة من الليل، فقرعنا عليه الباب فخرج يتلقّانا بالبِشر والترحاب، لا ترى فيه مراقب مكس (جمرك) وموظف جوازات، بل تلقى (كما تلقى في كل بلد عربي، بل كل بلد مسلم حقاً) مضيفاً كريماً يقابل ضيوفاً أحبّة. وتلك هي سلائق العروبة وتلك هي خلائق المسلم.

وصلنا بغداد ومؤذّن الفجر ينادي «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح»، فأسرعنا إلى أقرب مسجد فصلّينا فيه مع الجماعة، وبدأنا أيامنا في بغداد بالقيام بين يدي الله. وكان التعب والإعياء قد بلغ منّا كلّ مبلغ، وصار أقصى مانتمنّى فندقاً نأوي إليه وفراشاً نطرح أجسادنا عليه، وما معنا من أهل البلد إلاّ الصوّاف، ولكنه لا يكاد يعرف فنادقها. ولا أعرف أنا فنادق الشام، وما حاجة ابن البلد إلى الفنادق حتى يعرفها؟ إنما يعرفها القادمون إليها. تركت الفندقين الكبيرَين لأن النفقات فيهما لا يحملها كيس نقودي، إن كان الدفع عليّ فأنا أعجز عنها، وإن كان الدفع من المؤتمر فأنا أخشى الله أن أنزل فيهما على حساب المؤتمر. والفنادق الكبيرة التي عرفتها في البلاد الإسلامية التي زرتها أحسّ حين أجتاز بابها كأنني خرجت من هذا البلد ودخلت بلداً غريباً عليّ لا أعرفه ولا يعرفني؛ فاللسان فيه غير لساني، والعادات غير عاداتي، والمنكَرات في أكثر هذه الفنادق معلَنة بادية، والأسعار محرقة غالية، والشيء الذي تشتريه من السوق بعشرين يُحسَب عليك في الفندق بمئة وعشرين ... لذلك أنفر منها وأبتعد عنها. درنا مع الشيخ الصواف نفتّش عن الفندق المناسب، فكلّت أقدامنا من الصعود والنزول وألسنتنا من السؤال والاستفهام. وكنّا في تعب فازددنا تعباً، حتى رضينا من الغنيمة بالإياب وقبلنا أن ندخل كل باب. ورأينا فندقاً هادئاً جميلاً على دجلة اسمه فندق

سومر، دخلته مستأنساً ونمت فيه هانئاً وأصبحت فيه مستريحاً، وسمعت أذان الفجر من جامع السيد سلطان علي الذي قابلْنا فيه شيخَ علماء العراق الشيخ إبراهيم الراوي سنة 1936. ثم جاؤوا فأخذوني إلى دار الأخوّة الإسلامية في باب المعظم، فإذا دنيا جديدة وإذا ناس غير من عرفت من الناس؛ كأنني كنت في جاهلية وأدركت الإسلام: شباب مؤمنون صالحون إنْ سلَكَ أمثالُهم طرقَ الغواية واللذّة سلكوا هم طرق العبادة والصلاح، يَدَعون هوى نفوسهم لطاعة ربهم، مجالسُهم أنس وحديثهم عبادة وصحبتهم خير وبركة. أين كان هؤلاء قبل سبع عشرة سنة لمّا كنت أدرّس في العراق؟ كيف كانت هذه النهضة الإسلامية؟ جزى الله الشيخ الصواف الذي يرجع إليه بتوفيق الله وبنعمته الفضل فيها. ولا أحسب أنه يقع في وهم أحد منكم أني أقول هذا مجاملة له أو رغبة فيه أو رهبة منه؟ لا يا سادة، ولكن أقوله شهادة حقّ إن كتمتها كنت مِمّن وصفه الله بأنه آثمٌ قلبُه. على أن أنفع له من ثنائي عليه دعائي له، فجزاه الله خيراً ووفّقه ووفّقني إلى ما يُرضيه، وأكثرَ الدعاة إلى الله وألّف بين قلوبهم، وأذهب الخلف بينهم ونزع الحسد والغِلّ من قلوبهم وحقّق الخير على أيديهم. كان الشباب الذين يقابلونني يسألونني: أين نزلت؟ فإذا سَمّيت لهم الفندق الذي نزلت فيه فتحوا عيونهم دهشة وقلبوا وجوههم استنكاراً، كأنني أقول منكَراً من القول أو كأنني أخبر عن منكَر من العمل، أو «كأنني أفطرت في رمضان» كما قال

أبوالعتاهية في البيت المشهور الذي بلغ في صدره السحاب وهبط في عجزه حتى توارى في التراب (¬1). فكنت أسألهم وأستوضحهم فلا يقولون شيئاً، كأن الأمر عندهم أعرف من أن يُعرَّف وأقبح من أن يوصف. فلما عدت إلى الفندق جعلت أنظر وأدقّق النظر فلا أرى شيئاً من المنكَر، لا أرى ما يخالف الدين أو ينافي الخلق الكريم، وسألت صاحب السيارة ورفيقه الذي جاء معه (وهما من عمان) هل ينكران في هذا الفندق شيئاً؟ قالا: لا. قلت: فمِمّ إذن عَجَبُ الشباب واستنكارهم؟ حتى إذا كان اليوم الثاني وقد عدت بعد صلاة العشاء مبكّراً عن موعد عودتي، فوجدت نزلاء الفندق جميعاً من ذوات الشعر الأشقر ومرتكبات المنكَر، من الكاسيات العاريات، أي من «الأرتيستات»! ومن طريف ما وقع لي أنني مررت في إحدى قدماتي بغداد لمّا كنت مدرّساً فيها بمخفر الرطبة، فوقفَت سيارة فيها إحدى ¬

_ (¬1) صدر البيت: «مات الخليفةُ أيها الثَّقَلان». وهو بيت مختلَف في نسبته، نَسَبه ابن رشيق القيرواني في «العمدة» إلى أبي العتاهية، ونُسب في غير ذلك من مصادر الأدب إلى شاعر مجهول أو إلى بعض الحمقى، وهو في بعض كتب الأدب في رثاء المهدي وفي أكثرها في رثاء المتوكل. قال أبو هلال العسكري في كتاب «الصناعتين»: لما مات المتوكل أنشد رجلٌ جماعةً: «مات الخليفةُ أيّها الثَّقَلانِ». فقالوا: هذا أشعر الناس فإنه نعى الخليفة إلى الإنس والجنّ في نصف بيت. ومدّ الناسُ أبصارَهم وأسماعهم إليه فقال: «فكأنني أفطرتُ في رمضان»، فضحك الناس وصار شُهرة في الحمق (مجاهد).

هؤلاء البنات، فلما جاء الموظف يدوّن اسمها ونعتها وجد في الجواز أن مهنتها «أرتيست» (ومعنى الكلمة الحرفي «فنّانة»)، فما عرف كيف يقرؤها، فسأل زميلاً له أكبر منه، عراقياً عربياً أصيلاً، كيف يكتب الكلمة، فقال له: أكتب «قحبة»! أعود إلى حديث الفندق. لمّا رأيت هؤلاء سألت فعلمت أنه يكاد يكون مخصّصاً لهذا الصنف من البنات، وأنهن ينَمنَ حين أقوم لصلاة الفجر ويَقُمن بعد صلاة الظهر، لذلك لا أراهن. فذهبت إلى الشيخ الصواف فقلت له: تدري أين أنزلتني؟ فلما خبّرته كان عجبه أشدّ من عجبي. وفهمت لماذا كان الشباب إذا سألوني أين نزلت يُدهَشون من سماع الجواب: الشيخ الطنطاوي يُنزله الشيخ الصوّاف بين القِحاب! وكان عديلي الشيخ ماجد الخطيب (رحمه الله) يسكن يومئذ بغداد، وزوجته شقيقة زوجتي وبيني وبينها رضاع فهي لا تحتجب مني. وكان أخوه الأستاذ محمد كمال يكرّر دعوتي لأنزل في الدار فكنت آبى خشية الإزعاج، فلما رأيت ما رأيت قبلت الدعوة وتركت الفندق وذهبت إلى الدار. * * * جدّدَت لي هذه الرجعة إلى بغداد ذكرى أيامي فيها. قابلت إخواناً لي وتلاميذ، منهم من بقي على العهد وقليل منهم تنكّر لي ونسي صحبتي. وممّن لم أجد له عهداً طالبٌ كان أديباً وكان يَنْظم الشعر، وكنت أخصّه برعايتي وأدلّه على طريق النبوغ في الأدب، فلما عدت صار عميد إحدى الكلّيات. ودُعيت إلى إلقاء

محاضرة في هذه الكلّية، فلم يُرِد أن يقدّمني إلى السامعين على العادة في مثل هذا الموقف، وأحسست كأنه كره أن يعترف أمامهم بأنه كان تلميذي. فكان جوابي على ذلك أنني بدأت المحاضرة بحمد الله على أنْ جعل من تلاميذي الذين كانوا يقعدون أمامي مَن صار أستاذاً كبيراً أو عميداً في كلّية أو قاضياً في محكمة، وأن منهم فلاناً. وأشرت إليه ليعلم الناس جميعاً أنه كان من تلاميذي. ما أردت من ذلك التعالي عليه ولا أردت الفخر بأنني درّسته، وليس ذلك من شِيَمي، ولكني وجدته لا يزال بحاجة إلى درس آخر من الدروس التي كنت ألقيها عليه وعلى إخوانه، فألقيت عليه هذا الدرس في الوفاء وفي كرم الأخلاق. وكنت في محاضرة ألقيها في بهو أمانة العاصمة في بغداد، فدخل شيخ كبير وقال للناس: لقد تركت فراش المرض وجئت تحيّةً لفلان (يعنيني). هذا الشيخ هو نابغة الموسيقى العربية الذي اعترف له مؤتمر الموسيقى الأول الذي عُقد في القاهرة سنة 1932 (على أغلب الظنّ) بالصدارة فيها، هذا الذي كان أحسن من يقرأ (يغنّي) المقام العراقي، والذي سمعت أنه زاد على المقامات العراقية الموروثة أحد عشر مقاماً جديداً. ذلكم هو الأستاذ القبانجي، رحمة الله عليه. * * *

زيارة للموصل وإربل في بدء رحلتنا الطويلة

-142 - زيارة للموصل وإربل في بدء رحلتنا الطويلة إن أحلى الأسفار ما كان بالقطار. ولقد عرفت قطارات العراق من سنة 1936 يوم كنت أدرّس فيه، وركبتها من بغداد إلى البصرة ومن بغداد إلى كركوك، فوجدتها أحسن القطارات في البلاد العربية. فلما جئت هذه المرة (سنة 1954) رأينا أن نبدأ رحلتنا للتعريف بقضية فلسطين وحثّ الناس على الاهتمام بها جولةً في أرجاء العراق. ذهبنا فيها إلى الموصل في الشمال ثم إلى البصرة في الجنوب. وكانت سفرة الموصل ممتعة، وكانت نافعة ببركة الشيخ أمجد وصحبة الشيخ الصواف مع ولدَيه: مجاهد ومصلح، وكانا يومئذ صغيرَين. وأخذنا تذكرة للنوم، فلما جاء موعده انقلبَت المقاعد أسِرّة وثيرة نظيفة غاية النظافة مريحة أكمل الراحة، وألقيت رأسي على الوسادة وأنا أؤمّل نومة هنيئة وصحوة نشيطة، ولم أكُن أدري ما هو مخبوء لي. ما كدت وكاد الشيخان نستغرق في المنام حتى أيقظتني

(أوركسترا) (¬1) مرعبة، فيها أصوات لا أدري بماذا أشبّهها ولا أجد كلاماً يفي بوصفها. وتصبّرت ولكنني لم أستطع الصبر، تلك هي أصوات غطيط الشيخَين (أي شخيرهما)، ولن أصفه لأن الشيخ الصواف سيقرأ هذه الحلقة فيظنّ أنني أغتابه عند القُرّاء. فاشهدوا أني لم أقُل عنه شيئاً، واستغفروا الله من شهادة الزور. هل سمعتموني أقول عنه شيئاً؟ فنهضا ووعدا وعداً حسناً، واسترحت إلى هذا الوعد فرجعت أحاول المنام، ورجعَت تلك الموسيقى وتلك الأنغام. فقمت مذعوراً وخرجت من الغرفة ومشيت في ممرات القطار، فوجدت في آخره شطر غرفة: مقعد واحد بدلاً من المقعدَين المتقابلَين في الغرفة الكاملة. فحملت وسادتي وغطائي ودخلتها وأغلقت عليّ الباب بالمزلاج، وقررت ألاّ أفتح لأحد ولو جاءت الشرطة. وسأقول للشرطي إنني كنت نائماً. وهذا صحيح، فلقد كنت في بعض الزمان نائماً، وإن في المعاريض لَمَنجَى من الكذب. ولكن الله سلّم فلم يدخل عليّ أحد. وكنت كلّما سار القطار أنام، فإن وقف في المحطّات أيقظني وقوفه وصمته كما تُزعِج النائمَ في بيته الأصوات والحركات! حتى وصلنا الموصل. وذكّرني مجاهد الصواف من سنتين في مكّة (وقد صار دكتوراً من أكسفورد) بهذه الرحلة، وبالحكايات التي سمعها مني والطرائف التي لبث يرويها عني. ¬

_ (¬1) الأوركسترا هي الجوقة، وكلمة جوقة فصيحة.

رحمة الله على الشيخ أمجد، فلقد كان بَرَكة العصر، وكان مجلسه مدرسة، وكان يؤثّر بقوّة حاله أكثر من تأثيره بروعة مقاله. ولن أسرد الحديث عن الأيام التي قضيناها في الموصل، ولا أستطيع سردها ولكن أذكر ما بقي لديّ منها. من ذلك أن الصواف أخذني لأحاضر في ناديهم (وقد صار للإخوان المسلمين بسعي الصواف ناد في الموصل كما صار لهم ناد في بغداد وفي البصرة). وكنت وسط المحاضرة وأنا مندفع بحماسة فَوّارة، فرفعت رأسي، فإذا منارة المسجد تُطِلّ علينا قد أحنت رأسها فوقنا ... إي والله، فما ظننت إلاّ أنها ستسقط علينا. فقطعت الخطبة فجأة وقلت: السلام عليكم، ونزلت. فضجّ الحاضرون وقالوا: أكمل، أكمل، تكلّم، تكلّم. فقلت: ويحكم! أما ترون المنارة تريد أن تنقضّ علينا؟ فإذا كان مقدّراً عليّ أن أموت فدعوني أذهب إلى فلسطين فأقاتل اليهود فأكون شهيد المعركة، لا أن أموت تحت الأنقاض. قالوا: إن هذه هي الحدباء، منارة مسجد نور الدين، نور الدين الذي ردّ الله علينا به وبصلاح الدين أرض فلسطين. أفما سمعت بها؟ إن لها ثمانمئة سنة وهي مائلة. أما سمعت ببرج بيزا المائل في إيطاليا؟ قلت: بلى، وعندنا في أول حيّ الميدان في دمشق منارة مائلة (¬1). ولكن من يضمن أنها وقد ظلّت راكعة طول هذا الزمان لا تسجد فوقنا الآن؟ ولا أدري كيف أقنعوني وأرجعوني، ولا أدري كيف أكملت خطبتي ورأسُ المنارة مائل عليّ أراه من فوق رأسي! ¬

_ (¬1) وقد كان في جدّة إلى عهد قريب واحدة تشبهها في مسجد الباشا.

وقام يخطب في هذا الاجتماع شيخ بعمامة بيضاء عرفت -بعدُ- أنه رئيس هذا النادي. تكلّم فأجاد ونمّ ما قال عن علم وفضل وإخلاص، وأُعجبت به وأثنيت عليه. فلما كان من الغد وكان الشيخ الصوّاف يمرّ بي في سوق مزدحمة (بقيَت في نفسي صورتها وذهب مني اسمها) فوجدت محلاًّ لشواء اللحم، والشوّاء بمئزره الأحمر قائم في مدخله يقطّع اللحم للزبائن، وهم مزدحمون عليه. وفي المحلّ موائد يقعد عليها الآكلون، يأخذون اللحم الذي طلبوه فقطّعه لهم إلى حيث يُشوى قِطعاً أو كَباباً، ثم يأتون به فيأكلونه على هذه الموائد. و «كَباب» الموصل وحلب أشهى وأشهر كَباب (¬1) في بلاد العرب. فقال لي الصواف: هل تُحِبّ أن ندخل فنأكل؟ قلت: أفي هذا المكان ووسط هذا الزحام؟ لا يا عم. قال: إنك تعرف صاحب المحلّ. قلت: وأنّى لي معرفته؟ قال: انظر إليه تذكره. قلت له: وأين هو حتى أنظر إليه؟ قال: ها هو ذا. وإذا هو يشير إلى الرجل ذي المِئزر الأحمر. وتلك -كما أدركت- عادة الجزّارين في ذلك البلد، يلبسون هذا الثوب الأحمر. فأنعمت النظر إليه وهو يقطّع اللحم من الخرفان المعلّقة بين يديه، فإذا هو صاحبنا بالأمس وإذا هو الشيخ الذي خطب في الاجتماع! ومرّ بي الصوّاف في سوق تُباع فيها موادّ التموين فقعدت أمام دُكّان يزدحم الناس على صاحبها، هذا يطلب رزاً أو سُكّراً أو ¬

_ (¬1) فائدة: الذي نسمّيه في بلاد الشام كلها «كباباً» يَدْعونه في مصر «كُفتَة»، و «الكباب» عندهم هو القِطَع المَشويّة (أو «الشُّقَف») في بلاد الشام، وهي «الأوصال» في الجزيرة العربية (مجاهد).

سمناً وذاك يسأله عن مسألة في الإرث أو في الطلاق! وإذا هو عالِم تاجر. لقد نسيت اسمه، ولو أنني هتفت وأنا أكتب هذه السطور بالشيخ الصوّاف لأعلمني هاتفياً باسمه، ولكنني خفت أن أكون في سؤالي كالذي يغشّ في الامتحان ويستعين على جوابه بالإخوان. وهذه الطبقة من العلماء التجّار ومن طلبة العلم الكبار كان عندنا في الشام كثير من رجالها. أذكر منهم الشيخ هاشم الخطيب والشيخ موسى الطويل والسيد شريف النصّ والشيخ أحمد القشلان والشيخ عبد العزيز الخطيب، وآخرهم ويكاد يكون أجلّ أو مِن أجلّ مَن عرفت منهم الشيخ صالح العقّاد. ومن قرأ كتاب «صناعات الأشراف» (وعهدي بقراءته بعيد جداً فلا أذكر الآن منه شيئاً) ومَن تتبّع أخبار أهل التجارة والصناعة من الأعيان والعلماء في كتب الأدب وجد منهم جماعة لا تُحصى كثرة من الصحابة ومن التابعين ومن الأئمة المتبوعين، كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن. وعمرو بن العاص الذي كان -كما أذكر- جزّاراً، كما كان عمر بن الخطاب سمساراً، ومن التابعين سعيد ابن المسيّب الذي كان يتّجر بالزيت، وأبو حنيفة وهو بَزّاز (تاجر قماش) وله دائرة مالية توزّع رواتب شهرية على كثير من فقراء العلماء، والليث بن سعد الذي شهد له الشافعي (وحسبكم به شاهداً) بأنه أفقه مِن مالك ولكن أصحابه لم يقوموا به، والذي كان دخله الصافي ثمانين ألف دينار من الذهب في السنة ولم تجب عليه زكاة قط، لأنه لا يستبقي منها ما يحول عليه الحول! وعبد الله بن المبارك، ولي عنه كُتيّب في سلسلة أعلام التاريخ التي أصدرتها من قديم، كما أن لي كتابات عمّن ذكرت هي في كتابي «رجال

من التاريخ» وفي غيره من كتبي. كان عبد الله بن المبارك يحجّ سنة ويغزو سنة، فإذا أراد أن يحجّ بعث من ينادي في الناس: إن ابن المبارك يريد الحجّ فمن يحبّ أن يصحبه فليأتِ إليه. فيجيئه الناس أفواجاً فيقول لهم: نجعل نفقتنا شركة، فإن البركة فيها أكثر. فيعطيه كل منهم ما معه من النقود في صرّة يصرّها يكتب عليها اسمه، ثم يذهبون معه، فكلّما نزل منزلاً أعدّ لهم أطايب الطعام، ومن ذلك الطعام الفالوذج، يأكلونه ويأكل هو مِن زُهده -على غناه- طعاماً دون ذلك. ثم إذا أنهوا حجّهم قال لهم: انظروا ماذا تريدون أن تُهدوا إلى ذويكم وإلى أصدقائكم لأشتريه لكم ثم أحاسبكم عليه. فيشتري كلٌّ مايريد. حتى إذا ما رجعوا إلى بلادهم (وكانت بلده في أطراف بلاد الأفغان اليوم) أقام وليمة كبيرة، ثم أعاد لكل منهم صرّته التي فيها نقوده وكانت السفرة كلّها على حسابه. ومن طريف خبره أنه نزل مرة منزلاً، فرأى بعدما نام أصحابُه شاباً يأتي إلى دجاجة ميتة كانوا قد رموا بها فيأخذها. فدعاه وسأله، فتردّد الشابّ واستحيا وامتنع عن الجواب. فلما ألحّ عليه علم أنه هو وأخت له لا يملكان شيئاً وأنهما احتاجا حتى حلّت لهما الميتة، فلذلك أخذ الدجاجة. فدعا عبد الله بن المبارك وكيلَه وقال: انظر كم بقي معك من النفقة (أي من نفقته هو لحجّه) فأَمسِكْ منها ما يكفي لعودتنا وادفع الباقي إلى هذا الشابّ، فإن إعطاءه خير لنا من حجّة النفل هذه السنة. ذكرتُ هذه الحادثة استطراداً ليقرأها الذين يحجّون في كل سنة، لا سيما من المقيمين هنا في المملكة، فيضيّقون المكان

على مَن يحجّون حجّة الفرض ويزيدون الازدحام، ليعلموا أن لهم قدوة إن تركوا حجّة النفل واستبدلوا بها عملاً آخر من أعمال الخير. وأبواب النوافل التي توصل إلى الجنّة كثيرة. كان من الصحابة ومن التابعين، وكان من الأئمة المتبوعين، مَن هو غنيّ يكاد يُحسَب في عُرف اليوم في أصحاب الملايين، ومن هو فقير لا يكاد يجد الفلوس (والملاليم). ولكن مال الأول في يده لا في قلبه، لا يفرح بما زاد فيه ولا يأسى على ما فاته منه، وكان فقر الثاني في يده لا في قلبه، فحاله حال فقير ونفسه نفس ملِك. وليس الغِنى بكثرة المال، بل بفقده مع الحاجة إليه. فمَن كان معه مليونان وهو يتمنّى أن تكون ثلاثة فهو ناقصٌ مليوناً، ومن كان معه ألفان، وهو لا يطمح إلاّ إلى ألف فهو زائد ألفاً. هل عقّدت المسألة؟ إذن أزيدها تعقيداً فأقول إن مقدار الغِنى يتناسب عكساً مع كِبَر الفرق بين ما يتمنّاه المرء وما يصل إليه! إن لم تفهموا هذه الفلسفة فالحقّ معكم، فأنا لا أكاد أفهم عمّن يتكلم بهذا الأسلوب ويحسب أنه صار بذلك من كبار المفكّرين! * * * كنّا نقرأ في التاريخ القديم أنباء بابل ونَيْنَوى وتاريخاً لهما مستفيضاً. ولقد زرت بابل من قبلُ لمّا كنت أدرّس في العراق، ولكن ما عرفت أين هي نينوى (مدينة يونس عليه السلام) حتى زرت الموصل، فعرّفني بها الصوّاف: قطع بي النهر فإذا آثارها على الضفّة الأخرى مقابل الموصل.

شعرت في الموصل كأنني في حلب (وإن لم أبِتْ في عمري كله إلاّ ليالي معدودة في حلب). ولمّا عدا اللصوص على تَركة مَن كانوا يدعونه «الرجل المريض»، عدوا على الدولة العثمانية لمّا مات عبد الحميد وجاء الاتحاديون أحفاد اليهود فأضعفوها ومزّقوا وحدتها وأبعدوها عن النصر لمّا أبعدوها عن الإسلام، لمّا تقاسم اللصوص هذه التركة كانت الموصل في القسمة مع سوريا، فلما ظهر النفط في أرضها (وكان الإنكليز يومئذ دهاة العالَم ودهاقين السياسة، وكانت لهم مملكة لا تغيب الشمس عنها) لعبوا لعبتهم فإذا الموصل مع العراق، لأن العراق يومئذ كان معهم، لا باختياره ورضاه فالمسلمون جميعاً، والعرب خاصّة، والعراق على الأخصّ، يأبى إلاّ الحُرّية الكاملة، لا يرضى وصاية من أحد ولا تبعيّة لأحد. وأنا لا أقول هذا الكلام تعصّباً لسوريا لتعود إليها الموصل ولا عداوة للعراق لينزع منها الموصل، فأنا أراهما بلدَين في دولة واحدة، وأنا كما قال الشيخ رضا الشبيبي: ببغدادَ أشتاقُ الشآمَ وها أنا ... إلى الشامِ في بغدادَ جَمُّ التشوّقِ هما بلدٌ فردٌ وقدْ فَرّقوهما ... رمى اللهُ بالتشتيتِ شَمْلَ المُفَرّقِ وُلدت في دمشق، وأصلي من مصر، وقلبي متوجّه دوماً إلى مكّة كلّما قمت بين يدَي ربي، وانتسابي إلى كلّ بلد مسلم، وحُبّي لكل قطر عربي، ووطني حيث يُتلى القرآن ويُصدح بالأذان وتقوم صفوف المؤمنين بين أيدي الرحيم الرحمن. هذا هو الوطن عندي، لا الشام وحدها ولا مصر ولا العراق. * * *

كان عملنا الذي سافرنا من أجله أن نعرّف بقضية فلسطين، فلما استوفيناه في الموصل توجّهنا إلى إربل (التي تُدعى اليوم أربيل)، ولها في التاريخ ذِكر لأن أوّل من جعل الاحتفال بيوم المولد عيداً ورتّب له مهرجانات واجتماعات هو ملكها الذي كان من قُوّاد صلاح الدين، فلما تصدّعَت هذه المملكة الضخمة وقام في كل جانب منها ملك من الملوك كان هو واحداً منهم، وخبره في كتابي «رجال من التاريخ» (¬1): ممّا يزهّدني في أرضِ أندلسٍ ... ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعها ... كالهرِّ يحكي انتفاخاً صَولةَ الأسدِ وإربل على تلّ صناعي عالٍ في رأسه قلعة واسعة هي المدينة، أو مدينة مسوّرة فيها القلعة. وأمثال هذه القلاع التي يتّسع سور إحداها حتى يضمّ صغار المدن، أو هذه المدن المسوَّرة كالقلاع القائمة كلّها على تلال مصنوعة، تمتدّ على امتداد الهلال الخصيب، من حِمْص إلى حماة إلى حلب إلى الموصل إلى كركوك وإربل، كأنها خطّ دفاعي عن هذه البلاد. وأجمل ما بقي منها قلعة حلب. كان في إربل وفي السليمانية وفي كركوك مشايخ صالحون من شيوخ النقشبندية. وإذا كان في الطرق الصوفية ما يؤخَذ عليها ¬

_ (¬1) انظر مقالة «الاحتفال بالمولد» في ذلك الكتاب (مجاهد).

من البِدَع والمخالفات فإن النقشبندية أقلّها مخالفات وبدعاً. ولهم تَكايا، كل تكيّة منها أو رباط مدرسةٌ ومسجدٌ وفندقٌ ومطعم؛ تبقى مفتّحة الأبواب لكل قادم عليها، تعطيه ما يريد وتقدّم إليه ما يطلب: إن طلب العلم وجد فيها العلم، وإن كان مطلبه المنام والطعام وجد فيها الطعام والمنام. وصلنا مسجد المدينة حين كان المؤذّن يدعو الناس لصلاة العصر فحضرناها معهم، فلما قُضِيَت الصلاة جلس الناس صفوفاً يستمعون للخُطَب التي جئنا نُلقيها عليهم تعريفاً بقضية فلسطين وشرحاً لحالها وحثاً على مساعدتها. ولكنني فوجئت بعَجَب ما كنت أتصور أنني أراه، ولقد شككت فيه وهو أمام عيني أبصره. ذلك أن كبار المشايخ استندوا إلى الجدران وأخرجوا دخائنهم (سيجاراتهم) الطويلة وشرعوا يدخّنون في المسجد! وبدا لي أن ذلك مألوف معروف عندهم لا يرون به بأساً، كما أن من المعروف (أو ممّا كان معروفاً) عند المشايخ في الشام حتى في الجامع الأموي أن يُخرج أحدهم علبة «النشوق» وفيها مسحوق «التبغ» فيشمّونه في المسجد، لا يستنكرون ذلك ولا يُنكِره الناس منهم. وكلا الأمرين منكَر: التدخين وشمّ النشوق، ولكن العادات تُضعِف الشعور بالعمل وتصرف الذهن عن تقويمه والحكم عليه. ألقيت أنا خطبتي وخطب الشيخ الصوّاف. ثم قام الشيخ أمجد، وهو قلّما يخطب، فكلّمهم بالكردية لأن أكثر الحاضرين من عامّة الأكراد الذين لا يعرفون إلاّ القليل من العربية، فخطبهم

بلسانهم. وأسرة الزّهَاوي التي خرج منها علماء أجلاّء وأدباء أصلها -كما فهمت- من الأكراد. والإسلام لا يفرّق بين عربي وكردي ولا بين تركي وفارسي، إنما المؤمنون إخوة، فالإيمان يجمعهم والاختلاف في العقيدة هو وحده الذي يفرق بينهم. وطال الكلام، وتوالى المتكلّمون بالكردية وأنا قاعد كالأصمّ في الزّفَّة لا أفهم، فمللت وضاق صدري وقلت للشيخ الصوّاف: أنا أمشي أمامكم تلقونني على الطريق. وكنت قد عرفت الطريق من المسجد إلى ساحة البلد، فلما وصلت إليها أخذت طريق الموصل الذي جئت منه، وفي ظني أنني لا أمشي نصف ساعة حتى يكون القوم قد ختموا اجتماعهم وأكملوا خطبهم ولحق بي الشيخان بالسيارة فأدركاني على الطريق. ولكنني مشيت، ومضت نصف ساعة، وأذّن المغرب وأظلم الليل وأنا أتلفّت ورائي فلا أجد ضوء سيارة ولا أرى أحداً. وكنت في تلك الأيام امرَءاً يحبّ المشي الطويل وكنت أقدر عليه، فما زلت أمشي بخطوات عسكرية موزونة حتى مرّ على أذان العشاء ساعة ونصف الساعة، وأنا وحيد في هذه البرّية ما معي أحد، ولم تمرّ بي سيارة ولم يمرّ بي ماشٍ على رجلَيه. ثم بدت أضواء سيارة فحسبت أنها سيارة الشيخين قد لحقَت بي، فوقفت فإذا هي سيارة الشرطة، نزل منها ضابط فنظر إليّ بارتياب وسألني من أنا وماذا أصنع هنا، فخبّرته وأريتُه أوراقي، فعجب مني وقال لي: اركب معنا. قلت: لا أستطيع لأنني أنتظر

مَن يلحق بي وأخاف أن أضيع عنهم. فوقفوا معي وخبّروني أن في هذه البرّية وحوشاً خطيرة وأن فيها أشقياء فارّين من العدالة فهم يتعقّبونهم، فلو أدركَني وحش من الوحوش أو شرّير من هؤلاء الأشرار لقضى عليّ. فتنبّهت كالذي يصحو من منام، وإذا أنا أسير وما معي سلاح وليسَت لي معرفة بالطريق، وقد ابتعدت عن البلد بُعداً كبيراً. وقفت معهم حتى وصلَت السيارة، فنزل منها الشيخ أمجد رحمه الله والشيخ الصواف ومعهم جماعة. وكان من عادة الشيخ الصواف أنه يكلّمني بلطف ويعاملني برقّة، فثار عليّ ثورة هائلة، فتصوّروا الشيخ الصوّاف بصوته العريض وحماسته المشتعلة وماآتاه الله من بسطة في الجسم يُقبِل بذلك كلّه عليّ أنا! وسكتّ على غير عادتي إقراراً مني بأن الحقّ معه، وتبيّنت بعد أن هدأَت الأمور كيف أضاعوا هذا الوقت كله في التفتيش عليّ في طرق البلد وسخّروا لذلك الشرطة والشباب وكلّ من يعرفون من الناس، حتى لم يَدَعوا موضعاً قدّروا أنني أكون فيه إلاّ ذهبوا إليه فلم يجدوني. لم يخطر على بال أحد منهم أنني مشيت وحدي في هذا الطريق وابتعدت عن البلد ثلاثين كيلاً (كيلومتراً) كاملة. هذا بعض ما بقي لديّ الآن من ذكريات زيارتي للموصل وإربل. * * *

من بغداد إلى كراتشي

-143 - من بغداد إلى كراتشي فارقت الموصل: سَقى رُبَى المَوْصلِ الفَيْحاءِ مِن بَلَدٍ ... جُودٌ مِنَ المُزْنِ يَحكي جُودَ أهلِيها أأندُبُ العَيْشَ فيها، أم أنوحُ على ... أيّامِها، أم أعزّى في لياليها؟ أرضٌ يَحِنُّ إليها مَن يفارقُها ... ويَحمَدُ العيشَ فيها مَن يُدانيها وعدنا إلى بغداد. ولكن هل بغداد التي عُدت إليها هي بغداد التي كنت أُعلّم في مدارسها؟ وهل بغداد اليوم هي بغداد الأمس التي أتكلّم الآن عنها؟ ألا تتبدّل المدُن كما يتبدّل الإنسان؟ ألا يعمل فيها الزمان مثل عمله في الإنسان والحيوان؟ على أنّ الزمان لا ينفع ولا يضرّ، إنه وعاء للحوادث، إناء للصلاح وللفساد، «وكلّ إناء بالذي فيه ينضح». فإذا وجدتم زماناً فاسداً فلا تعيبوه فالعيب ليس منه: نَعِيبُ زَمانَنا والعَيبُ فينا ... وَما لِزَمانِنا عَيْبٌ سِوانا

وإذا كان من الناس من يذكر ومن ينسى ومن يفي ومن لا يعرف الوفاء، فإن ذلك يفيض على الزمان وعلى المكان! لمّا رجعت إلى بغداد سنة 1954 ذهبت أزور المدارس التي كنت أدرّس فيها قبل سبع عشرة سنة: الثانوية المركزية، والمدرسة الغربية، ومدرسة الأعظمية (كلّية الشريعة) التي عشت فيها لياليّ ونهاراتي، ورأتني في يقظتي وفي هجعتي، وكانت يوماً مستقَرّي من دنياي. أفتدرون ماذا وجدت في هذه المدارس التي ذهبت أزورها؟ جئت المدرسة الغربية التي أعرفها وتعرفني، يعرفني كل مَن كان يعلّم فيها معي من إخواني وكلّ من كان يتعلّم فيها من أبنائي، وتعرفني غرفها وأبهاؤها وممراتها وأبوابها وأركانها وجدرانها. تركت فيها بقايا مني، من أيامي، من أمانيّ وأحلامي، فلما بلغت بابها أُصِبْت بصدمة اهتزّ لها جسدي؛ صاح بي البواب: ممنوع يا أفندي. فلما رآني ماضياً قُدُماً لا أقف عليه ولا أتلفّتُ إليه وثب يعترضني ويقول: قلت لك ممنوع، فماذا تريد يا أفندي؟ قلت أريد أن أقابل المدير. فتردّد ثم قال لي مستسلماً: تفضّل. ودخلت على مدير المدرسة، فإذا كهل يدلّ سَمْته على فضل وعلى صلاح، فانتسبت له (كما كانوا يقولون قديماً، أو عرّفته بنفسي كما يُقال الآن)، فرحّب بي، وأراد أن يُكرِمني فدعا بأساتذة الأدب العربي ليلقوني، فدخل رجلان سلّما وسلّمت، ثم دخلَت صبيّة حسناء سافرة حاسرة، قصيرة الكمّ واسعة الجيب

يبدو منها الساعد والنحر وأعلى الصدر، تتهدّل خصلة من شعرها على جانب جبينها، فكلّما تكلّمت اهتزّت فسقطت على عينيها فأزاحتها بيدَيها، قصيرة الثوب، ما أنعمت النظر إلى ساقها لأعرف هل تلبس جوارب أم هي كاشفة الساق؟ دخلَت غير محتشمة ولا مستحيِية، كأنها رجل يدخل على رجال أو كأنها حسبَتنا نساء تتكشّف أمامهن كما تتكشّف أمام النساء. وما طالت حيرتي في أمرها ودهشتي منها حتى سمعت المدير يقدّمها إليّ يقول: أعرفك بفلانة (نسيت اسمها)، مدرّسة الأدب العربي. ومدّت يدَها لتصافحني فتأخّرت لحظة ثم قبضت يدي، وقلت كلمة اعتذار ما أعجبَتها. وأسرعت لأتخلّص من هذا الموقف فسألت المدير: هل تدرّس الآنسة هنا في مدرسة كلّ طلاّبها شباب؟ فابتدرَت هي الجواب وقالت للمدير بجرأة عجيبة: يظهر أن الأستاذ لم يعجبه أن أدرّس هنا. قلت للمدير: اسمح لي أسألك، هل الآنسة مسلمة؟ قالت وقد انقلبَت كالنمرة المتوحّشة: وما دخل الإسلام في الأمر؟ قلت: يا آنسة، أنا لم أخاطبك وإنما خاطبت المدير. فإن كنت مسلمة فالإسلام يدخل حياة المسلم كلها، يكون معه إن كان وحده أو كان مع أهله، أو كان في سوقه أو كان في مدرسته، يبيّن له حكم كل عمل من أعماله، لأنه ليس في الإسلام عمل يعمله المسلم إلاّ وله حُكم في الشرع. ورأيت أن الكلام معها لا يُفيد، فقمت فسلّمت على المدير وانصرفت، ودمي كلّه يغلي في عروقي وغضبي يضرب قحف رأسي. وذهبت فسألت مَن لقيت من الشبّان في «دار الأخوّة

الإسلامية»، فإذا هي سنّة سيّئة جديدة: أن يذهب مدرّسون شُبّان إلى مدارس البنات ومدرّسات شابّات إلى مدارس البنين، في أخطر مرحلة من العمر، مرحلة الدراسة المتوسطة التي يكون فيها التلاميذ في بداية العهد بالبلوغ، نار الرغبة مشتعلة بين جوانحهم وكوابح العقل والتجرِبة ضعيفة في نفوسهم، أمّا الدين فقد كان من أثر المستعمرين في أكثر بلاد المسلمين أنهم أضعفوه في نفوس الناشئين. وروى لي هؤلاء الشباب حوادث ممّا يقع في المدارس التي تدرّس فيها فتيات. حوادث مخيفة أخشى على أعصاب القُرّاء من الشباب أن أذكرها أو أن أشير إليها، فأكون من الذين يريدون الفساد في الأرض. نار وبنزين، هل يكون من اجتماعهما نبع في ظلّ حوله ورد وياسمين؟ وذهبت فنشرت مقالة مشتعلة، لم أكتبها بقلم مقطوف من أغصان الجنّة بل بحطبة من جهنّم، تلتهب كلماتها التهاباً فتُلهِب نفوس أهل الإيمان وأهل الشرف ومَن في نفسه بقيّة من سلائق العروبة وخلائق الإسلام. تردّد صداها بين جوانب البلد تردّد صدى صوت المدافع، أرضَت ناساً أبلغ الرضا وأغضبَت آخرين أعنف الغضب. حملت على الذين جاؤوا بهذه البنت فألقوها بين الشباب، حمامة بيضاء بين صقور، وقد أشرعَت هذه الصقور مناقيرها وأعدّت مخالبها. على أنها لا تخلو هي من اللوم، فما الذي أدخلها هذا المدخل؟ وإن هي أرادته فما الذي عقد ألسنة أهلها فلم ينصحوها وكفّ أيديهم عنها فلم يمنعوها؟ وإن هي اضطُرّت

(وما ثَم اضطرار) فما لها وما لهم: تختار هذا الثوب القصير وهذا الزي المثير وهم يُقِرّونها على ما اختارت؟ على أنني لا أتّهم شباب العراق ولا بناته. إنهم جميعاً أولادي أو إخوتي، ولا شباب الشام ومصر، ولا أتّهم أحداً بضعف الخلق ولا بامتهان العفاف. هل أتّهمُ المنحدَر إن سيّرت فيه سيارتي بلا كوابح فانهارت السيارة؟ هل أتّهم النار إن أدنيت يدي منها بلا حجاب؟ الطريق إنما شُقّ لتسلكه السيارات، ولكن مع قوّة الكابح (الفرامل) ويقظة السائق. والنار إنما خُلقت ليستفيد منها الإنسان فيطبخ عليها ويتدفّأ بها. وكابح السيارة هنا إنما هو الزواج، والانتفاع بنار الشهوة إنما يكون بإنشاء الأسرة واستيلاد الولد. ما قال الله لنا كونوا رهباناً فعطّلوا هذه الطاقة واحبسوا السيل المندفع من فم الوادي، فمَن أراد حبس السيل بعدما سال يذهب به السيل. ولكن أعِدّوا له مجرىً ليجري فيه، أو فاستفيدوا من طاقته يُدِرْ لكم معملاً أو يسيّرْ لكم قطاراً. هذه الشهوة طاقة إن أهدرناها خسرناها، وإن وضعناها في حدودها التي حدّدها الله لها انتفعنا منها. إن كان المصنع ينتج لنا ثياباً وأواني وسيارات فإن هذه الطاقة هي التي جعلها الله منتجة للناس الذين يصنعون الثياب والأدوات والسيارات، فلا تُهدِروها ولا تضيّعوها. إن المدارس إنّما عُرفت لتزيد الناس علماً، لتقوّم منهم الخلق، لتُبعدهم عن طريق الرذيلة، وهذا الاختلاط يسوقهم إلى هذا الطريق سوقاً. لقد كانت مقالة طويلة وكان ممّا قلت فيها: إن من المترَفين

الأغنياء قوماً يراجعون الأطباء يشكون إليهم بعض ما يجدون من الأبناء، يقولون إنهم إن حضر الغداء أو العشاء أعرضوا عنه ولم يُقبِلوا عليه، فهم يطلبون لهم دواء يفتح نفوسهم إليه ويزيد إقبالهم عليه. ولا يخبرون الطبيب أن السبب فيما يشكونه أن الولد أكل قبل الطعام بنصف ساعة حبّة شُكلاطة وقبلها تفاحة وقبل ذلك شرب شراباً حُلواً، أي أنه أكل ما لا يغذّيه ولا يكفيه، ولكنه شغل معدته وأضعف شهيّته. والله قد جعل الجوع الذي تحسّون به دافعاً إلى الطعام الذي تحتاجون إليه، كما جعل الشهوة (وهي جوع آخر) دافعاً إلى الزواج، فالشابّ الذي يأخذ من هذه نظرة بشهوة ومن هذه لمسة أو قُبلة، لم يحقّق له ذلك المراد من الزواج ولم يبق عنده قوّة تدفعه إليه ليُقبِل عليه. * * * كان هذا الذي رأيته، وهذا الذي كتبته ونشرته قبل ثلاثين سنة. لم أكُن أتصور أنه سيأتي عليّ يوم أرى فيه مدارس البنات في بعض بلاد المسلمين تكشف عن أجسادهنّ بحُجّة الرياضة، وتعلّمهن الاختلاط باسم الفنّ، وتُخرِجهن من بيوتهن للفتوّة أو للتدريب العسكري ... وسيأتي إن أذن الله ومدّ في الأجل وصفُ ما رأينا من ذلك في الشام أيام الوحدة مع مصر. لقد رأينا شيئاً عجباً تشيب له نواصي الأطفال. لقد كانت العراق لمّا تركتها بعد أن كنت مدرّساً فيها (كما كانت أكثر البلاد العربية) مَثَلها كمثل غدير كبير كان عذباً صافياً فتعَكّر ماؤه وخالطه الكدر فلم يعُد سائغاً شرابه، فلما عدت بعد

سبع عشرة سنة (أي سنة 1954) وجدت قوماً قد أقاموا مصفاة إلى جنب الغدير أخرجَت ماء صافياً أبلغ الصفاء عذباً غاية العذوبة، فوضعوه في بِركة صغيرة، وما خرج منه من أوضار كانت في الماء العكر أُلقِيت في بركة أخرى صغيرة كلها دنس وطين قذر. هذا مَثَل أكثر البلاد العربية لمّا كنّا صغاراً ومَثَلها الآن: ترى الآن في كل بلد قِلّةً أطهاراً صالحين متعبّدين كأنهم (كما شبّهتهم مرة غيرَ مبالغ) من أهل الصدر الأول، وقِلّةً أنجاساً تتلقّف كل خبيث من المذاهب وسخ من العادات، أسماؤهم أسماء المسلمين وما هم في عقائدهم وفي أعمالهم وفي سلوكهم كالمسلمين. وسائر الناس (أي باقيهم) وجمهورهم كما كانوا من قبل: خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؛ يُقيمون الصلاة ويصومون ويحجّون كما كان السلف يصومون ويصلّون ويحجّون، فالأعمال هي الأعمال، ولكن النيّات ليست هي النيّات. ومنهم من لا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر، ومنهم من لا يحافظ على صلواته أو لا يكاد يصلّي، ويحسب أن الإسلام قول بلا عمل ودعوى بلا دليل، وأن الله يوم القيامة يميّز أهل الجنّة من أهل النار بأوراق النفوس وجوازات السفر، فمَن كُتب فيها أنه مسلم جاز الصراطَ إلى الجنّة ومن كُتب فيها أنه غير ذلك كُبّ في جهنّم. * * * بقينا في بغداد إلى أواخر آذار (مارس) سنة 1954، ذهبنا خلالها مرة إلى البصرة كما ذهبنا إلى الموصل. وكان الشيخ الصوّاف قد أسّس في البصرة فرعاً لجمعية الأخوّة الإسلامية،

يقوم عليه الشيخ عبد الله أبا الخيل، وهو والد الوزير الشيخ عبدالرحمن وزير الشؤون الاجتماعية سابقاً، ولا أعرف ما قرابته بوزير المالية. ولقد زرناه في داره وأجبنا دعوة منه إلى الطعام (وإن كنت في العادة أعتذر عن أمثال هذه الدعوات) فرأينا رجلاً كريماً وبيتاً مفتوحاً ونُبلاً وفضلاً، ورأينا أثره في العمل الإسلامي أثراً واضحاً، وفهمت أنهم سَمّوها جمعية الأخوّة الإسلامية لأن الحكومة يومئذ لم تسمح لهم باتخاذ اسم الإخوان المسلمين. وقد نزلنا في فندق شطّ العرب، وهو أحد الفنادق التي أنشأتها إدارة السكك الحديدية وهي التي تديره، ووجدنا به الراحة والنظافة والاطمئنان. وعدنا إلى بغداد، وبقينا إلى أن فارقناها في يوم من أيامها الشداد، قد عمّها الذعر وطار بألباب أهلها الفزع. وأشهد -وقد عشت في العراق سنين- أنه ليس في العراق جبان، ولكن كان في بغداد تلك الأيام ما يَجبن أمامه كلُّ الشجعان؛ عدوّ لا تردّه المدافع ولا تدفعه النار ولا الحديد، غَضِبَ على بغداد وكان مُحِباً لها يحنو عليها، واشتدّ على بغداد وهو اللطيف الرقيق الذي تراه من لطفه ورقته يسيل سيلاناً. إنه النهر يا سادة: دجلة. إنه الفيضان! وقد رأيت الفيضان العظيم سنة 1936 (ومرّ حديثه في هذه الذكريات) (¬1) ولكن فيضان سنة 1954 لم يسبق له مثيل. علا ¬

_ (¬1) في الحلقة السادسة والتسعين في الجزء الثالث، وانظر مقالة «ثورة دجلة» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

الماء حتى قارب الأرض، ثم حاذاها، ثم صار أعلى منها بمتر، لا يمسكه إلاّ أكياس الرمل التي رُصفت على الشطّ. لا يحمي بغدادَ إلاّ هذه الأكياس، فإذا وقف الإنسان من ورائها رأى وجه الماء يحاذي صدره، يموج كأنه أسد هائج يمسكه قيدٌ ضعيف، فإن نفذ الماء من مكان واحد غرقَت بغداد كلها. وكانت ليلة سفرنا ليلة لا تُنسى (¬1): جمع كل امرئ أطفاله والغالي من متاعه واستعدّ للهرب. يستوي في ذلك الغنيّ والفقير، لأن دجلة إن غضبَت لا تفرّق بين الكوخ وبين القصر. وفي الساعة الرابعة من تلك الليلة كان موعد سفرنا. وفي الرابعة تماماً، لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة، حطّت الطائرة الضخمة (طائرة «ك. ل. م.» الهولندية) على أرض المطار، وشرعَت تأخذ البنزين، فصُبّ فيها أكثر من مئة وخمسين صفيحة. ولم تكن مستودعاتها فارغة بل كان فيها نقص، فملؤوها بهذا الذي صبّوه فيها. ولم أحسّ بها وهي تقوم، ولم أعلم بأنها طارت حتى نظرت من تحتي فرأيت بغداد والنهر الفيّاض يحيط بها، يلمع كأنه ثعبان ضخم قد التفّ على فريسته. وابتعدنا حتى غابت بغداد عن عيوننا ولكن صورتها لا تزال في قلوبنا، نحاذر عليها الغرق ونرجو لها السلامة. ولكن السلامة لم تتمّ وكانت الفاجعة بعد ذلك بيومين، سمعنا بها ونحن في السفارة العراقية في كراتشي. ¬

_ (¬1) انظر مقالة «من بغداد إلى جاكرتا» في كتاب «صور من الشرق: في أندونيسيا» (مجاهد).

ومرّت بنا الطيارة إلى البصرة فلم تنزل بها، ورأيت الناس فيها صغاراً كالنمل تمشي في الشوارع، وكانوا إذا رفعوا رؤوسهم رأوا طيارتنا صغيرة كأنها عصفور فوق سطوح المنازل! وهذا هو مَثَل المتكبر على عباد الله. والكبرياءُ لله وحده، والكبرياء كانت سبب هلاك إبليس واستحقاقه لعنة الله. المتكبر يرى الناس صغاراً وهم يرونه صغيراً، فليخجل الذين يستكبرون من البشر، وأوّل أحدهم -كما قال الأوّلون- نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة وهو بينهما يحمل في بطنه العذرة! يغرّه أنه استطاع أن يطاول الجبال طولاً ويخرق بطونها قوّة واقتداراً، فإذا جاء الأجل واراه التراب لا يملك دفعاً ولا حراكاً. أنا أعدّ هذه الكلمات وأمامي الجريدة فيها صورة تشيرنينكو، الرئيس السوفياتي الذي ظنّ بإلحاده أنه يستطيع أن يحارب الله وأن يمحو من الأرض دين الله وأن يُكرِه الناس على الكفر، فاسألوه الآن لو استطعتم سؤاله: ماذا وجد؟ اسألوه ماذا أعَدّ للقاء الله الذي لا مهرب منه ولا معدى عنه؟ اسألوه ماذا هيّأ لنفسه ليجتاز الصراط فلا يسقط تحته؟ ما أغنى عنه ماله، وقد هلك عنه سلطانه، وانفضّ عنه جنده وأعوانه، ونزل التراب وحده، وسيقوم بين يدَي ربّه للحساب وحده. فيا أيها الطغاة اعتبروا؛ فلقد كان هذا الرجل أقوى منكم قوة، وكان أضخم جيشاً، وكان أكثر مالاً، وكان أعزّ سلطاناً، فذهب ذلك كله ولم يبقَ في يده منه شيء. اجعلوه عِبرة لكم، فالعاقل من يعتبر بغيره والأحمق من يكون هو العِبرةَ لغيره. * * *

ومرّت بنا الطيارة فوق أرض فارس، فوق إيران؛ البلاد التي ملأ ذكرها تاريخنا، وغلبت أسماء بلدانها على ألقاب علمائنا الذين خرجوا منها والذين غدوا من دعائم صرح مجدنا: الرازي (نسبة إلى الريّ، وهي طهران أو قريبة منها) والقزويني والجرجاني والتبريزي والأصفهاني والشيرازي، وعشرات لهم مثل هذه الألقاب لكل واحد منها في نفوس المتعلّمين منّا والمتأدّبين ذكريات حافلة بالأمجاد. جزنا العراق ثم طرنا فوق إيران. وهما جارتان، فكيف جارَتا حتى تقاتلتا؟ وهل تتقاتل الأختان أم تتقابلان وتتعانقان؟ وما لهما -وهذه الروابط تربط بينهما- يدع كلّ منهما عدوَّه، بل عدوّهما، ويوجّه قوته إلى الصديق بدل العدو؟! لمّا جزت بالبصرة من فوق ذكرت أياماً لي فيها لم تكن من أطيب الأيام ولم تكن ذكرياتها من أحلى الذكريات، ولكن المرء يحنّ إلى ما مضى من عمره، كأن فقده منه ويأسه من عودته حبّباه إليه فرأى آلامه مسرّات. لم أكُن أرى -وأنا أطير فوق هذه البلاد الواسعة- إلاّ أضواء متناثرة، تلوح لحظة من أعماق الأعماق ثم تختفي. فقلت في نفسي: ما أشدّ غرور ابن آدم بهذه الدنيا! إن في هذه الظلمة التي تمتدّ من تحتي لَعالَماً يتنازع أهله، يدفعهم الطمع أو الفزع فيقتتلون ويبيعون الآخرة وما فيها بدنيا هم واثقون من زوالها. وأنا حين علوت في الجوّ لم أرَ من هذا العالَم إلاّ ظلاماً تلوح فيه مصابيح ضئيلة. فكيف يرى أرضَنا كلَّها من يعيش في الكواكب البعيدة (إن

كان فيها ناس يعيشون)؟ إن هذه الكرة كلها لا تبدو لعينيه أكثرَ من ذرّة مضيئة في الفضاء، كهذه الذرّات التي نراها تسبح في جوّ الغرفة في أشعة الشمس التي تدخل من نافذة الجدار إذا كنس الخادمُ أرضَ الدار. فما أحقر الدنيا وما أشدّ غرور الإنسان! وغبت لحظة عن حاضري وشعرت كأني أعيش في التاريخ، أمشي مع القوافل التي كانت تحمل خيرات الأرض من الشرق إلى الغرب وتعود بمثلها من الغرب إلى الشرق، وحيثما سارت استظلّت بظلّ العَلَم الإسلامي، عَلَم الدولة التي تملك هذه الأرجاء كلها. وأساير الطلبة الذين كانوا يقطعون هذه المراحل الطوال ويصبرون على المشقّات والأهوال ليروُوا حديثاً أو يتعلّموا مسألة. فما أعظم هِمَم أولئك العلماء! كنت أعيش في الماضي أيام كان الحكم في الأرض لنا، والعلم فينا، والمال معنا، والمجد في ركابنا، وكل خير بأيدينا، لأن أيدينا كانت ممسكة بمفتاح كل خير، ومفتاحُه القرآن. وعاد بي إلى الحاضر صوت مضيفة الطائرة تقول بالإنكليزية: العشاء! وهي فتاة مولَّدة، نصفها هولندي ونصفها جاويّ، جمعَت الجمال من أطرافه: فتنة الغرب وسحر المشرق. وجاءت بالعشاء سخناً قد طُبخ في الطيارة. وهذه الطيارة كانت يومئذ عَجَباً من العجب، لم تكن نفّاثة (ولا أظنّها عُرِفت يومئذ الطائرات النفّاثة)، ولولا الألفة والعادة لرأينا فيها معجزة، ففيها ثمانون مقعداً كلّ مقعد له زرّ تكبسه بالأصبع فينقلب المقعد سريراً كاملاً، وفيها

بهو للمدخّنين فيه أرائك لا تؤجّر ببطاقات، بل هي مباحة لكل راكب يريد أن يتناول السمّ البطيء بامتصاص الدخائن (السجائر)، وفيها أسِرّة للأطفال مخبوءة في الجدران، إن كانت ثمة أمّ وأرادتها مسّت زراً فخرج لها من الجدار سرير. فندق كامل يطير في الجو، وهي لا تهتزّ ولا تتحرك لأنها تستطيع أن تعلو حتى تجاوز مكان الاهتزاز. ولقد نظرت مرة فإذا تحتنا، تحت في الأعماق، سحاب مركوم يحجب الأرض وإذا فوقنا سحاب مركوم يحجب الشمس، ونحن نمشي بينهما في جوّ ليس فيه ذرّة من السحب. ولمّا انقضت سبع ساعات كاملة قيل: لقد دنونا من كراتشي وسنهبط، فشدّوا الأحزمة على أوساطكم. سبع ساعات قطعنا فيها خطاً مستقيماً طوله ثلاثة آلاف وخمسمئة كيل، مَن مشاها على الأرض في الطرق الملتوية مشى ستة آلاف كيل (كيلو متر). سبع ساعات قطعنا فيها ما كانت تقطعه القوافل في ثلاثة أشهر. هذه كراتشي التي دخل منها الإسلام إلى القارة الهندية، فكانت فاتحة كتاب أمجادنا في تلك الديار، وستكون إن شاء الله فاتحة كتاب مجدنا الجديد. من هنا دخل ابن القاسم، القائد العربي المسلم، ومن هنا بعد حين (أو من طريق قريب من هنا) دخل القائد الأفغاني المسلم السلطان محمود الغزنوي، ومن هنا دخل الفاتحون المسلمون الذين أراقوا على كل ثرى دماً من دمائهم زكياً، وتركوا في كل أرض شهيداً عزيزاً، وخلّفوا في كل بلد مَن

يُشعِل للناس المصباح الهادئ في ليل الجهل والظلم، يدلّهم على طريق الحقّ والخير حين يلقّنهم أحكام الإسلام. إن التاريخ مليء بأخبار الفتوح؛ لقد شرّق الإسكندر حتى بلغ بفتحه الصين، وغرّب المغول وقَبيلُهم حتى وصلوا إلى روما مرة وإلى حدود مصر مرة، وفتح نابليون أوربّا، وجاء مئات من الفاتحين، جاء هتلر وجاء غيره مِمّن ظنّ أن الدهر قد سلّمه قياده وأن النصر قد مشى في ركابه ... فكان ذلك كلّه فتحاً عسكرياً يبقى ما بقي السيف أو المدفع، فإذا زال زال. أما الفتح الإسلامي فكان فتحاً للقلوب وفتحاً للعقول، فبقي أثره إلى يوم القيامة (¬1). وقطع عليّ تفكيري -كرّةً أخرى- صوت المضيفة تقول: حلّوا الأحزمة فقد هبطنا في كراتشي. فهبطَت بي من سماء الذكرى والحلم إلى أرض الواقع. * * * ¬

_ (¬1) انظر مقالة «الفتح الإسلامي» في كتاب «فِكَر ومباحث»، وقد نُشرت سنة 1936. وفي كتاب «أخبار عمر» مقالة بنفس العنوان نُشرت سنة 1946، وبين المقالتين تشابه وبينهما اختلاف (مجاهد).

صور ولمحات من كراتشي

-144 - صور ولمحات من كراتشي ما أدهشني لمّا وصلنا مطار كراتشي أنني رأيت المراوح الكِبار فوق مكاتب موظفي المُكوس (الجوازات) وهم بقمصان ما لها أكمام، ونحن نلبس الصوف من تحت الثياب والمعاطف من فوقها وفوق ذلك العباءات! فكدت أحترق، ولكن برودة الموظف الذي وقفنا أمامه، هذه البرودة التي أعداه بها الإنكليز على ما يظهر، أطفأَت الحريق الذي أوشك أن يشبّ فيّ وردّتني إلى برد بغداد التي فارقناها وهي في الشتاء. وكان وراء الحاجز سفراء السعودية ومصر والعراق وسوريا، ووفود الجماعة الإسلامية وحشد ضخم من كرام القوم، تركوا بيوتهم وجاؤوا إلينا يسلّمون علينا نصف الليل، وأخونا الموظف لا يحسّ بهم ولا ينقص من عمله شعرة. وانتهت الإجراءات أخيراً ففتحوا لنا، لا عناية بنا بل لأنها وصلَت طائرة جديدة ودخل وفد آخر من المسافرين. وخرجنا فوجدنا سفير مصر الصديق الجليل الدكتور عبد الوهاب عزّام، وسفير السعودية الصديق الفاضل الشيخ عبد الحميد الخطيب،

وسفير سوريا الصديق الكريم ورفيقنا في المدرسة (وإن كان متقدّماً عني وكان أكبرَ سناً مني، لكن لا تشوا بي إليه فتخبروه بأني فضحت سنّه) الأستاذ جواد المُرابط، والسفير العراقي الفاضل النبيل الشيخ عبد القادر الجيلاني، وأمير الجماعة الإسلامية الداعية العالِم المودودي وصحبه، والمفتي الشيخ محمد شفيع، وجماعة التبليغ الإسلامي، وكبار التجّار، وجماعة من الصحافيين والمصوّرين الذين أزاغوا أبصارنا ممّا أبرقوا بمصابيحهم أمامنا. وأنا أحب أن أسرع فأقرّر حقيقتين وجدناهما من أول ساعة دخلنا فيها باكستان، وكلّما مرّت الساعات ازددنا إيماناً بهما، هما: (1) إن القوم هنا يُحبّون العرب حبّ تقديس، ويتبرّكون بالعربي تبرّكاً، ويعدّون معرفة العربية شرفاً ومجداً، بل إنهم يرون تعلّمها ديناً، لأنها لغة قرآنهم وسنّة نبيّهم، ولا يسرّهم شيء كما يسرّهم التقرّب إلى العرب. رأينا هذه الحقيقة عند الحاكمين والمحكومين والكبار والصغار والمتعلّمين والجاهلين. (2) وإن عتبهم علينا بمقدار حبّهم لنا. يتألّمون لأنهم يُقبِلون علينا ونُعرِض عنهم، ويَدْعون بالدعوة الإسلامية التي تُدخِلهم فينا وندعو بالدعوة العربية التي تُخرِجهم منّا، حتى إنهم كانوا يشكون من بعض الصحافيين العرب لأنهم كانوا ينصرون الهند على باكستان تبعاً لإمامهم الذي كاد يقودهم في طريق النار، فرعون الجديد الذي صنع ما لم يصنع الفراعنة الأوّلون. سمعنا هذا العتب من أكبر رجال باكستان على الإطلاق، كما سمعناه من

المشايخ والطلاب ومن عوامّ الناس. وحقيقة ثالثة أستعجل بتقريرها، هي الشكر الحقّ على الرعاية والعناية التي وجدناها من السفراء العرب في باكستان، فلم يكن يمضي يوم دون أن نزور السيد عبد الحميد الخطيب والسيد الدكتور عبد الوهاب عزام أو الأستاذ الجيلاني أو الأستاذ المرابط، يستقبلوننا ويُكرِموننا ويمهّدون لنا طريق الاجتماع بالرجال المسؤولين ويصحبوننا إليهم. أمّا الدعوات والسهرات وإرسال السيارات إلينا فشيء لا يُحَدّ ولا يبلغ شكره القلم ولا اللسان. * * * لم نخرج من المطار حتى جاوزنا منتصف الليل وانتهينا من المعاملات الرسمية والاستقبالات. والإنسان مفطور على حبّ الاستطلاع، لذلك يجد المسافرُ المتعةَ الكبرى في قدومه ليلاً على بلدة جديدة وانتظاره الصباح ليُرفع له الستار عنها؛ يحسّ في ليلته تلك كأنه في حلم طال حتى اتصل بالنهار فكانت الحقيقة هي تَتِمّة الحلم. فكيف إذا كان يقدم على عالَم جديد كشبه القارّة الهندية، التي كانت ولا تزال غاية أمل كل سائح، الهند التي يثوي فيها أكثر من خُمس بني آدم. لذلك كنت لمّا خرجت من مطار كراتشي في شبه نشوة، شديد الانتباه مفتوح العين، لكن الظلام كان يلفّ دوني كلَّ شيء بستار أسود. وكان بين المطار والمدينة أكثر من خمسة عشر كيلاً، مشيناها في طريق لم نجد على طرفَيه إلاّ تخوم الصحراء. هذه

الصحراء التي لازمَتنا من دمشق إلى كراتشي، فكنّا حيثما طرنا وجدناها تحتنا، فكلّ بلاد العرب صحارى، واتصلَت إلى ما حول كراتشي. ثم اختفت الصحراء فلم نعُد نجد من كلكتّا إلى آخر جزر أندونيسيا إلاّ أرضاً مخضرّة، تغطيها مزارع الأرز وغابات المطّاط والنارجيل والموز ومنابت الشاي. كما أنني لم أجد في أوربّا -لمّا زرتها- إلاّ أرضاً مخضرّة كلّها أشجار ونباتات، وجبالها تلبس جلباباً من الغابات. فكأن الصحراء نطاق يلفّ الكرة الأرضية من خصرها من باكستان وإيران إلى جزيرة العرب إلى شمالي إفريقيا، وأحسبها تمتدّ (وإن لم تكن متصلة) إلى صحراء نيفادا وراء البحر. وأحسب (والله أعلم) أن الله لمّا قسم الخيرات جعل خير هذه الصحارى في بطنها، نفطاً، ذهباً أسود، كما جعل الخير فيما سِواها على كتفَيها وعلى رأسها، ورداً وزهراً، وماء جارياً وثمراً طيّباً دانياً. فلما قاربنا مدينة كراتشي بدت لنا على الجانبَين مغانٍ ودارات أنيقة (أي فيلات) متناثرة. وكان أول ما عجبت منه أن السائق كان يسير بنا على يسار الطريق، فحسبته نائماً أو سكران ونبهت مَن معي إلى ذلك، فعجبوا من عجبي، وإذا هي طريقة الإنكليز: يخالفون الناس في كلّ شيء؛ إن مشَت سيارات الناس على يمين الطريق مشوا هم على شماله، وإن قاس الناس بالمتر قاسوا بالياردة، وإن وزنوا بالكيلو وزنوا بالليبرة والرطل، ولا يكتفون بهذه المخالفة حتى يفرضوها على ثلث أهل الأرض، ولا يقول لهم أحد: ماذا تفعلون؟ فإذا قسنا نحن بالذراع أو كِلْنا بالمُدّ أو وزنّا بالرطل قامت علينا القيامة، ووُصِمنا بكلّ وصمة سوء واتُّهمنا بأننا خصوم المدنية

وأعداء التقدّم! ولست أقول هذا لنترك المتر ونعود إلى الذراع وندع اللتر ونرجع إلى المُدّ. لا، ولكن لأبيّن كيف تكون سيّئات الضعفاء حسنات الأقوياء. وأوّل ما يراه الغريب من البلدة التي ينزلها ثلاثة: الفنادق والسيارات ومظاهر العمران. لذلك تحرص كلّ أمة على تحسين فنادقها ووسائل مواصلاتها، وتُعنى بسياراتها العامّة، وأخلاق سائقيها وعُمّالها وانتظام سيرها. أمّا فنادق كراتشي فقد رأيت منها الفندق الذي حجزوا لنا الغرف فيه أوّل ما وصلنا، وكان ميزان الليل قد مال والصبح قد اقترب، فلم يعجبني وسألت: أليس في البلد غيره؟ فأخذونا إلى فندق سنترال، وهو أحد الفنادق الثلاثة الكبرى في كراتشي. وسرّني منه أنه عمارتان منفصلتان، إحداهما للطعام والشراب والموسيقى والسماع، والأخرى للمنام. نزلنا في غرف كلّ غرفة منها جناح كامل أو منزل صغير. وكان التعب يجرّني إلى الفراش جراً، ويدفعني إلى النوم دفعاً، ولكنني خفت أن تفوتني صلاة الفجر فأبدأ رحلتي في باكستان بهدم ركن من أركان الإسلام، فانتظرت حتى أذّن الفجر وصلّيت مع القوم وأويت إلى سريري، وحب الاستطلاع وترقب النهار الذي أرى فيه أول بلدة في القارة الهندية يطردان النوم من عيني.

وقد لبث المستقبلون معنا حتى صلّينا الفجر، فما مضت ثلاث ساعات حتى أيقظني من منامي قرع باب الغرفة، فقمت مضطرباً فإذا هو النادل (الجارسون) يحمل صينية الشاي. فصِحت به أسأله من الذي أمره أن يأتيني بالشاي في مثل هذه الساعة. فحار وعجب وكلّمني بلغة لا أعرف ما هي، فما فهمت عنه ولا فهم عني. وتبيّنت بعد ذلك أن هذه عادة الإنكليز، يشربون الشاي في السابعة تماماً لا يسبق دقيقة ولا يتأخّر دقيقة. وقد وجدت عادات الإنكليز معي في كلّ فندق نزلناه إلى آخر الرحلة، ولم أفهم معنى قولهم: «إن المؤمن يأكل في مِعَىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» (¬1) إلاّ حين عاشرت الإنكليز ورأيت أكلهم. يُفيقون الساعة السابعة فيأخذون الشاي بالحليب قبل القيام من الفراش، فإذا مرّت ساعة جاء الفطور فأكلوا أكل من لا يخشى الفَزْر: بيضتين وقطعة لحم وزبداً ومُربّى وشيئاً اسمه «البودينغ» لا أدري ما هو، وشربوا معه الشاي باللبن. فإذا جاء الظهر أكلوا أكلاً لَمّاً: لحماً بارداً ولحماً حاراً ورزاً وخضراً وحلوى وفاكهة. فإذا كانت الساعة الرابعة أكلوا الفَرَانيّ (أي الكاتوه) وشربوا عليه الشاي باللبن الحليب، فإن كان المساء أكلوا أكبر من أكلة الظهر. ولا يأخذون الخبز مع ذلك كله إلاّ مُغطّى بالزبد. والعجيب حقاً أنه ليس لهم -مع ذلك الأكل كله- أكراش ظاهرة ولا بطون كبطون الحبالى ولا يركبهم الشحم! فأين يذهب هذا الطعام كله؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (مجاهد).

وكان من أثر حُكم الإنكليز أنْ تركوا في مظاهر الحياة في الهند وباكستان كثيراً من آثارهم، فأسماء الشوارع في كراتشي إنكليزية (أو كانت في العهد الذي أتكلّم عنه، قبل ثلاثين سنة كاملة، إنكليزية) وعادات العلية من الناس عادات إنكليزية، واللغة الإنكليزية فاشية بين الكبار والصغار. وكثيراً ما رأيت فقيهاً في مسجده أو تاجراً في سوقه وهو ينطق الإنكليزية كأهلها، مع أن النطق بها عمل من الأعمال الشاقّة التي يُحكَم بها على عُتاة المجرمين! وكان من عادتي إذا نزلت بلداً أنني أحفظ اسم الفندق ثم أمشي على غير هدى، أمشي الساعة والساعتين والثلاث، ثم أقول لسائق السيارة (أو الركشة، وسأخبركم ما هي الركشة): خذني إلى فندق كذا، فيأخذني إليه. مشيت مرة ثم ركبت ركشة فقلت لسائقها: "سنترال أوتيل"، فما فهم عني. فكرّرت اللفظ وهو يهزّ رأسه بأدب، فكتبت له الاسم كتابة على ورقة كانت معي، فضحك وقال: "صنطرل هطل"؟ أي أنه خطف الراء وفخّم اللام ومضغ الكلمة بين لسانه وأسنانه مضغاً حتى صار الأوتيل هطلاً، وكانت هذه هي بلاغة الكلام عند الإنكليز. ولقد كتبت مرة أقول إن اللغة الإنكليزية أفظع اللغات، وإن كنت لا أعرفها، أشهد عليها بما سمعته عنها. فيها حروف تُكتَب ولا تُقرأ وحروف تُقرَأ وهي غير مكتوبة، وحروف تُقرأ في كلمة على صورة وتُقرأ في الكلمة الأخرى على صورة غيرها، وقواعدها

سماعية ليست قياسية، واللفظ بها شنيع. وهم مع ذلك قد فرضوها على رُبع العالَم، لأن أصحابها أهل اعتزاز بها وحرص عليها، ونشاط في تسهيل تعليمها والدعوة إليها، حتى إننا نجعل لها في مدارسنا خُمس الساعات الأسبوعية أو سُدسها ونوزّع الأخماس الأربعة على الدروس الباقية كلها، ثم لا يأخذ منها أبناؤنا ما يسهّل عليهم الدراسة بها إذا ذهبوا يُتِمّون تعليمهم في البلاد الأخرى بل يُمضُون سنة من أعمارهم في تعلّمها من جديد. ولغتنا العربية أكمل لغات الأرض بلا جدال، صارت لغة كاملة قبل أن يُوجَد في الدنيا كلها من يقول عن نفسه أنا إنكليزي وقبل أن تعرف الأرض هذا الجنس، ولا أقول المبارك. ولم يشهد التاريخ ولادتها ولا طفولتها ولم يعرفها إلاّ بالغة رشدها، لأنها أكبر من التاريخ وأقدم منه مولداً. ولا نزال نجد في هذه اللغة التي كانت مستعمَلة قبل ألفَي سنة كلمات تفي بكل ما يحتاجه أستاذ الطبّ وأستاذ الحقوق وأستاذ العلوم في الجامعة ... ولا أقول هذا خيالاً ولا فرضاً مستحيلاً، بل أُخبِر عمّا صنعه أساتذة كلية الطب في دمشق حين عرّبوا المصطلحات كلها في السنين الستين الماضية. ولكنْ قعد بهذه اللغة العربية النبيلة، قعد بها أننا نحن أبناءها (¬1) لا نعتزّ بها اعتزاز الإنكليز بلغتهم الشوهاء، ولا نحرص عليها حرصهم على لغتهم ولا ننشط في تعليمها ونشرها مثل نشاطهم. بل إن فينا من يظنّ بأن من الظُّرف والحضارة أن يدَع الكلمة العربية ¬

_ (¬1) كلمة أبناءها منصوبة على الاختصاص.

الفصحى وينطق بمرادفتها من الإنكليزية أو الفرنسية، فلا نقول «خِمار» ولا «وِشاح» بل «إشارب»، ولا نقول «معطف» بل نقول «مانطو»، ولا نقول «البُرد» بل نقول «روب دو شامبر»، ولا نقول «تِقانة» بل نقول «تكنولوجيا»، وأمثال ذلك مئات. عفواً يا سادة فقد خرجت عن الموضوع، بل أنا على الأصحّ لم أدخل بعدُ في الموضوع. * * * أمّا وسائل الركوب في كراتشي فكثيرة متنوّعة، منها السيارات الصغار (التاكسي)، وكنّا إن ركبناها وأسرعَت بنا لم نرَ شيئاً. ومنها عربات الخيل، ولكن الخيل ليست مهذّبةً التهذيب الكامل، فهي لا تمتنع عن أن تؤذينا ونحن خلفها بفعل قبيح أو رائحة كريهة تنقض وضوءها لو كانت متوضّئة! ومنها السيارات الكبيرة (الباصات)، ولكنها كانت تلك الأيام، سنة 1954، عتيقة ومزعجة. وكان في كراتشي ترام يسير على المازوت (السّولار)، فلم يبقَ إلاّ الركشة. و «الرَّكْشَة» هي المركب الشعبي في آسيا كلها، وهي في الأصل عربات صغيرة جداً تتسع لراكب واحد يجرّها إنسان مثلي ومثلكم ويعدو بها. وقد ركبتها -كما سأحدّثكم- في كلكتا، المدينة الهائلة التي كان فيها في تلك الأيام خمسة ملايين ونصف مليون، أي بمقدار سكان سوريا ولبنان والأردن (في تلك الأيام)! وكان السائق رجلاً عجوزاً لم يبقَ منه إلاّ قفص عظام، ولم أكُن أريد الركوب لأنني أخجل من الله أن أقعد في عربة يجرّها بشر، لا

سيما إذا كان شيخاً كبيراً. لكنه توسّل إليّ وألحّ عليّ حتى أركب معه، فأعطيته الأجرة ومشيت، فأباها ورفضها وأصرّ على أن أركب. فركبت وانطلق راكضاً، وحرارة الجوّ فوق الأربعين والعرق يغسل جسده، وأنا أرجوه أن يُبطئ وأكلّمه بالإشارة، وهي اللغة التي لم أكُن أعرف غيرها في رحلتي كلها، فيظنّ أني أستحثّه فيزداد ركضاً وإسراعاً، حتى وَقْفتُه وأعطيته أجرته، وزدته عليها ونزلت فأخذت سيارة. والغريب حقاً أن هذه العربات يجرّها الإنسان، والبقر المقدسة تمشي في شوارع الهند -كما سترون- طليقة. وليست بقرة ولا بقرتين ولا عشراً، بل إنك لا تمشي عشرين متراً في كلكتا مثلاً حتى تلقى بقرة. وقد تمرّ واحدة في الشارع العظيم فيَقِفُ لها الشرطيُّ السيارات حتى تجتاز بسلام واحترام. وقد تأكل أثمن الفاكهة من الدكاكين أو أندر الأزهار من الحدائق فلا ينهاها أحد، بل يتبرّكون بها! وسيأتي خبر ذلك كله إن شاء الله. هذا هو الأصل في الركشة. لكنها تطوّرَت فلم يعُد يجرّها رجل. بل صارت مقعداً مربوطاً بدرّاجة يركبها السائق ويحرّكها برجلَيه. والمقعد في كراتشي وراء سائق الدرّاجة وفي أندونيسيا أمامه، كأنهم خافوا أن يهرب من غير أن يدفع الأجرة أو أرادوا من الرّاكب إذا كان حادث اصطدام أن يتلقّاه بوجهه الكريم وأن ينجو السائق سالماً! ورأيت الركشة في سنغافورة إلى جنب راكب الدرّاجة. ثم تطوّرَت الركشة فصار مقعدها يُربَط بدرّاجة آليّة (بخارية) فلا يتعب السائق بتسيِيرها، ولم تبقَ الركشة الأصلية إلاّ في المدن الهندية العتيقة مثل كلكتا.

كراتشي مدينة جديدة مشرقة مضيئة، على الضدّ من كلكتا. كانت قبل إنشاء باكستان مدينة صغيرة فصارت من بلاد العالَم الكبار، وكانت لمّا زُرناها عاصمة باكستان، فهي مرفأ عظيم ومطارها من أكبر المطارات، وهي باب الشرق كلّه. شوارعها فسيحة فيها الأشجار المزهرة، الشجرة منها بحجم شجرة الجوز الكبيرة ولكنها ذات زهر دائم أحمر أو أصفر. وأوّل ما ينتبه إليه المسافر إذا نزل بلداً نظامُ السير. وهو في كراتشي على غاية من الضبط والإحكام، تتسابق السيارات في الشوارع كأنها بنات الجِنّ ولا ترى حادثاً واحداً، وللمارّة عند تقاطُع الشوارع نفق تحت الأرض من جانب إلى جانب. ورأيت وأنا أمشي في كراتشي برجاً عالياً فيه ساعة ضخمة وتحته بناء جديد له بوّابة كبيرة، فحسبته جامعة أو مكتبة عامّة، ورأيت الناس يدخلون إليه فدخلت مع الداخلين، فوجدته ليس بالجامعة ولا بالمكتبة ولكنه سوق الخضر! سوق نظيفة عجيبة مرتّبة أجمل ترتيب، فقِسم للقصّابين ليس فيه ذبابة واحدة، وقسم للخضر، وقسم للفواكه، وأقسام لكلّ ما يحتاج إليه البيت، والأسعار محدّدة معلَنة. وإذا في كل حيّ من أحياء البلدة مثل هذه السوق. وكنت كلّما سرت مئة متر وجدت دكاكين صغاراً فيها رجال قاعدون، وأمام كل واحد منهم جامان من النحاس الأصفر وورق شجر أخضر يلفّه ويضع عليه ممّا في الجامَين، والناس مزدحمون عليه. وقد ذكر هذا الورقَ وطريقة استعماله ابنُ بطّوطة في رحلته، وقد بقي من أيامه إلى الآن لم يتبدّل ولم يتغير. هذا هو ورق «الفوفل» يأخذونه ويضعون عليه شيئاً حاراً ملوّناً ويمضغونه ثم

يبصقونه في الطرق أو في آنية تكون في المجالس، على صورة لا يستحبّها مَن لم يتعوّدها. فترى شفاههم محمرّة منه، وهو يُقدَّم بدلاً من الدخائن (السجاير) أو معها، وتقديمه من علامات الإكرام. والمترَفون من الناس يتخذون في جيوبهم علباً وقناني صغاراً فيها من هذه البهارات وهذه الموادّ كما يتخذ المدخّنون علب الدخائن، وهم يزعمون أنه ينقّي الفم ويقوّي الأسنان. وهذا الورق لا يَنبت شجرُه في كراتشي بل يأتون به كل يوم -كما سمعنا- بالطيارة من الهند؛ أي أنه في الهند كمصيبة القات في اليمن، نجّى الله البلدَين من هاتين المصيبتين. والأسواق كثيرة والبضائع فيها معروضة عرضاً جميلاً. ولقد مررت مرة على مخزن واسع في وسط البلد كأنه من كثرة الأنوار كالثريّات شعلة أو كأنه دار فيها عرس، فدخلته فإذا جامات كبيرة مضاءة مملوءة بزهور ملوّنة حمراء وصفراء وخضراء على هيئة النجوم والأوراد والأزهار، مصفوفة في الصواني مزينة بنقاط من الفضّة اللمّاعة أو بالورق الذهبي أو الفضّي، والناس يقفون على الجامات يأخذون منها. منظر هو الغاية في حسن العرض وتوزيع الأضواء والنظافة. وإذا هي الحلوى الباكستانية، هذه أشكالها وهذه طريقة عرضها. وهي كلها كالحلوى المسمّاة في الشام «الغُرَيْبَة» ولكنها هنا أدسم وأكثر دهناً، تخلط بأنواع من العطور والبهارات فيختلف طعمها باختلاف لونها، وأكثرها لا يخلو من لذعة كلذعة الفلفل الخفيف. * * *

أقمنا في كراتشي يومين، ثم دُعينا إلى حفلة كبيرة في حديقة واسعة اسمها -كما أذكر- حديقة آرام باك. وكان في صدرها دكّة عالية عليها صدور المدعوّين ووجوههم وكبارهم، وكانت عادتهم أن ينصبوا لكل حفلة عريفاً، وكان عريف هذه الحفلة الدكتور عبد الوهاب عزّام. وسألت عن سبب الاجتماع فقالوا إن سببه هو المطالبة الشعبية بتطبيق الدستور الإسلامي. كانت باكستان حلماً في خيال شاعر اسمه محمد إقبال وكانت هدفاً في رأس سياسي اسمه محمد علي جنّة (جناح)، ولكن الإسلام الذي دعوا إليه كان أقرب لأن يكون إسلاماً سياسياً منه إلى الإسلام الحقيقي الذي يقيم شرع الله كاملاً، يلتزم بأحكامه ويؤدّي فرائضه ويبتعد عن حرامه، ولذلك ضاق صدر الشعب بالانتظار فدعا إلى هذا الاجتماع. حديقة كبيرة جداً والناس فيها آلاف مؤلّفة لا أدري كم عددهم، ولكنني لم أكُن أبصر وجه الأرض من كثرتهم. ومن عادتهم في مثل هذه الحفلات أنهم يقعدون على الأرض لا على الكراسي، فيتسع المكان لعدد أكبر. خطب خطباء باللسان الأردي الذي لا أعرفه، وألقى بعض الشعراء قصائد. ومن عادة الشعراء أنهم يُلقُون قصائدهم ملحّنة، أي أنهم يغنّونها غناء. وهو شيء جديد لم أكُن أعرفه من قبل، وإن كان لفظ «أنشد شعراً» قد يُشير إلى أن إلقاء الشعر لا يخلو من بعض النغم عند العرب قديماً. دعَوني إلى الكلام. وكان الذي يترجم لي إذا خطبت الشيخ

القدوسي، وهو المترجم في المفوّضية السعودية، يُحسِن العربية ويُحسِن الأردية. فألقيت كلمة كان لها وقع عظيم، وصدرت الجرائد لا سيما جريدة «الفجر» (وقد نسيت اسمها الأردي) وجعلت العنوان الكبير لذلك العدد جملة من خطبتي. قلت في هذه الخطبة ما خلاصته: إنكم انفصلتم عن الهند لأنكم مسلمون وأقمتم هذه الدولة على أن تكون دولة إسلامية، فإذا لم تُقيموا فيها حكم الله ولم تطبّقوا فيها الإسلام فلا معنى لقيام باكستان، فارجعوا إلى الهند. وقد تَرجم لي هذه الفقرة إلى اللغة الأردية فألقيتها بها. ولعلّي حرفت الكلام أو أضعت بلاغته بسوء تعبيري، فإن لهجة الكلام وإيقاعه قد تبدّل معناه: كنت مرة في دمشق فرأيت سائحاً أجنبياً قد ضلّ الطريق؛ فسألني: "سوكيل أميديا"؟ فلم أفهم عنه. فأعاد الكلمة فلم أفهم، وإذا به يريد أن يسألني عن سوق الحميديّة! فتصوّروا كيف يُضيع سوء الأداء وقبح النطق معاني الكلمات. صرت بعد هذه الحفلة خطيباً شعبياً. وكانت تلك الأيام أيام ذكرى الإسراء والمعراج والحديث عن فلسطين، فوجدت في كلّ كراتشي مثلَ ما تركت في الشام، يتسابق الأحياء في مثل هذه المناسبات إلى إقامة الحفلات وإلقاء الخطب. وكان من أبرز الخطباء الشعبيين في تلك الأيام عبد الربّ نشتر، وهو خطيب بليغ بِلُغته الأردية ووزير سابق ورجل معروف. وكان من الخطباء الشيخ الصوفي البدايوني، وهو كما فهمت من أبلغ من يخطب باللغة الأردية، وجماعة قلّما تخلو حفلة منهم.

فضمّوني إليهم وألحقوني بهم، فصرت كلّما أقيمت حفلة أثناء مقامي في كراتشي أكون بين خطبائهم، أتكلّم العربية ويترجم عني المترجمون إلى اللغة الأردية. وأشهد أن الشعب هناك شعب يُحِبّ البلاغة ويتأثر بها وينقاد للخطباء، ويُصغي إليهم ويعمل بما يقولون. أقمت في كراتشي شهرين ما مر عليّ يومٌ فيها إلاّ مشيت فيه أكيالاً كثيرة: خمسة أكيال أو عشرة أكيال، حتى عرفت البلدة كلّها مثل معرفتي ببلدان المملكة هنا الآن ومعرفتي بالشام التي هي بلدي ومعرفتي ببغداد وبالقاهرة وبعمّان. والحديث عن كراتشي طويل، وسأعود إلى إتمامه إن أذنتم لي في الحلقات المقبلات إن شاء الله. * * *

قصة باكستان

-145 - قصة باكستان وصلنا باكستان واستقلالُها وليد جديد لم يبلغ عمره سبع سنين، وُلد لأمه على كبر بعدما عاشت في الاستعمار عمراً يشيخ في مثله الأطفال. ولعلكم تعجبون إذا قلت لكم إنني لم أسمع بكلمة الاستقلال، ولم يسمع بها أحد من أهل بلدي، قبل دخول الشريف فيصل بن الحسين دمشق سنة 1918، وكنت في آخر الدراسة الابتدائية. ذلك أن الاستقلال لا يكون إلاّ بعد الاستعمار، والاستعمار لا يكون إلاّ باستيلاء الأجنبي الكافر على البلد المسلم. وقد نشأنا في ظلّ الراية العثمانية، والدولة العثمانية قامت بالإسلام وعملت للإسلام، وكان ملوكها الأوّلون من خيار الحاكمين في تاريخ الإسلام، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وتركوا دعوة الإسلام لدعوات ما أنزل الله بها من سلطان، فضاعوا وأضاعوا بلادهم وأضاعونا معهم. ولكن كيف تمكّن الاستعمار الإنكليزي من الهند؟ والهند قارة كبيرة والإنكليز -إذا قيسوا بأهلها- قِلّة قليلة؟ كيف تمكّنوا

منها حتى جعلوها جوهرة تاج مُلكهم وأغلى ممتلكاتهم، وبنوا فيها بناءَ من يعيش فيها أبداً لا من يظنّ أنه سيخرج منها غداً؟ ما كنّا نظنّ ولا يظنّ أحد (مهما حسن به الظنّ واتسع له أفق التفاؤل وزاد به الأمل) أنه سيرى الإنكليز خارجين من الهند. لقد حسبوا -كما يحسب خنازير البشر الإسرائيليون الآن- أنهم باقون فيها إلى الأبد وأنهم مانعتهم حصونهم من الله، ونسوا أنه لا يمتنع على قدَر الله أحد. الهند وكندا وأخواتهما، التي سرقَتها إنكلترا من أصحابها وضمّتها إلى أملاكها، هي التي جعلَت منها بريطانيا العظمى. وإلا فما بريطانيا؟ إن سكوتلندا تتبرّأ منها وأيرلندا كانت ولا تزال حرباً عليها، حتى ويلز ليست منها ولا شعبها شعبها ولا لسانها لسانها. فهل بقي إلاّ لندن وبقعة من الأرض صغيرة من حولها؟ حتى هذه، حتى الإنكلو والسكسون، التي دُعيَت نسبة لها إنكلترا (أي أرض الإنكل) هما قبيلتان جرمانيّتان استولتا على هذه الأرض بلا حقّ مشروع ولا نصر مؤزّر، بل بأسلوب هو أقرب إلى الحيلة والغدر. فما هي إنكلترا؟ وكيف ملكَت الهند؟ ضفدعة تلتهم ثوراً! لقد قالوا قديماً: إن للضفادع مثل صوت البقر ولكنها لا تجرّ المحراث. كيف استعمرَت الهند؟ هل تعرفون كيف ملكت الهند وكيف سيطرَت عليها؟ لقد كان ذلك كما يسيطر المرض على الجسم، المرض الذي يصرع البطل القوي حتى يلقيه جسداً بلا حراك. بل الذي يصرع الفيل والأسد إن استطاعت جرثومته (جرثومة الشيء:

أصله) الدخول إلى جسم الأسد والفيل. وما جرثومته؟ إنها حيوان أصغر من أن يُلمَس باليد وأدقّ من أن يُرى بالعين، لو اجتمع منه مئة مليون، أو ألف مليون، بعدد سُكّان الصين، لقضت عليها كلّها نقطة واحدة من الغَوْل (الإسبيرتو) أو من أي سائل مطهّر. بدأ الاستعمار الإنكليزي بمخزن صغير، بدُكّان جاؤوا صاغرين يستأذنون إمبراطور الهند المسلم بافتتاحها! فما زالت هذه الدكان تتّسع، وتتّسع، وتتّسع، حتى وصلَت جدرانها إلى حدود الهند فإذا البلاد كلها قد دخلت فيها. إن الراية الإسلامية انطوت بعدما ظلّلَت الهندَ أكثر من ثمانمئة سنة. إن للإسلام في الهند أندلساً كبرى يقف المسلم في آثارها، في دهلي ولكنَوْ وعليغار وهاتيك الديار ... على المساجد التي لم يعُد يسيطر عليها أهلوها، على القلاع التي خلت من جنودها، على العروش التي غاب عنها أصحابها، على الآثار الإسلامية الضخمة، على مسجد قبّة الإسلام (الذي يدعونه مسجد قوّة الإسلام)، على منارة قطب، على القلعة الحمراء، على المسجد الجامع ... وكل ذلك في دهلي، على تاج محلّ القريبة من دهلي، يقف المسلم على ذلك فيحسّ أنه يعصر قلبه دموعاً ويزلزل جوانحه أسىً. لن أطيل عليكم الكلام ولن أنقل لكم نصوصاً ولا أروي تاريخاً، بل أعرض عليكم خلاصة لما بقي في ذهني بعد أن زرت الهند وقرأت تاريخها. هذه القارة التي يعيش فيها خُمس سكان الأرض والتي تحوي

من الأديان واللغات ضعف ما في أوربّا كلها وأميركا، قارة الهند، بلد الماضي البعيد الحافل بالأحداث، بلد الحضارات والمجد التالد، بلد العجائب والغرائب ... لقد فتحناها ثلاث مرات: مرة على يد القائد العربي الشابّ محمد بن القاسم، ومرة على يد الملك الأفغاني السلطان محمود الغَزْنَوَي، والثالثة على يد الفاتح المغولي المسلم بابر حفيد تيمورلنك (أي تيمور الأعرج). دخلها ابن القاسم من موضع كراتشي، ودخل مَن بعده من ممرّ خيبر، بالقرب من بيشاور في الشمال. وقد عرفتم (إن كنتم لا تزالون تذكرون) ما تحدّثت به عن أورانك زيب وما كتبته عنه في كتابي «رجال من التاريخ»، هذا الملك الصالح المصلح التقيّ المجاهد، الذي حكم الهند كلها إلاّ قليلاً، وكان سيدها الأكبر، لا أمر فوق أمره ولا إرادة مع إرادته، إلاّ إرادة الله التي يخضع لها كلّ شيء. في عهد هذا الملك العظيم تبدأ الحكاية: في عهد هذا الملك سنة 1606 للميلاد استأذن عليه سفير الإنكليز، هوكنز. فلما أذن له دخل خاضعاً خاشعاً وانحنى وحيّا وطلب من مكارم الملك وأفضاله الإذن لشركة إنكليزية اسمها «الشركة الشرقية» بأن تفتح مركزاً تجارياً (أي دُكّاناً) في ميناء سورت في مقاطعة كُجُرات. ولم يجد الملك مانعاً من إجابة الطلب فأذن له بافتتاحه. ولم يدرِ، وأنّى له أن يدري، أنه لم يأذن بفتح دُكّان للتجارة ولكنْ أَذِنَ بفتح الباب للاستعمار وللفساد وللخسارة. وكيف كان يعرف ما عرفناه نحن اليوم من أن الاستعمار في آسيا وإفريقيا

إنما بدأ كلّه بدُكّان، بمركز تجاري يُفتَح، ثم يحشد فيه الرجال، ثم تكون له الفروع، ثم تتحوّل هذه الفروع إلى لجان إحصاء واستطلاع (أو هي بالاسم الصريح جمعيات تجسّس ومواطن إفساد)، ثم تصير قلاع حرب علينا، ثم تكون قصور حكم فينا. وهذا الذي كان. فتح الإنكليز هذا المركز، وسكتوا. سكتوا سبع سنين ينسجون القيود لنا من وراء الستار، لا يجرؤون أن يُظهِروها لأن الحكم بيد من حديد، هي يد السلطان المسلم السلطان أورانك زيب. حتى إذا مضت السنون السبع وذهب الملك القوي، أقبلوا مرة أخرى يسألون ويستأذنون صاغرين بفتح مراكز جديدة في بلاد اختاروها، فأُذِن لهم. وما زالت هذه المراكز تزداد وتمتدّ، كما يمتدّ المرض الذي ينتشر في الجسم ولا يدلّ عليه ألم ولا ينبّه إليه هُزال، فلم تمضِ مئة وخمسون سنة حتى طوّقَت هذه المراكز البلاد، وصارت الشركة حكومة مستترة تقوم من وراء الحكومة الظاهرة. عفواً، لقد نسيت أن أقول لكم إن هذه الدولة الإسلامية الضخمة قد تصدّعَت بعد موت الملك الصالح العظيم أورانك زيب (كما تصدّع مُلك صلاح الدين الأيوبي بعد موته) وأدركها مرض المسلمين في أكثر عصور تاريخهم، وهو الانقسام؛ فصارت الدولة الواحدة القوية دولاً صغاراً. ذهب البطل العملاق وحلّ محلّه نفر من الغلمان المَهازيل. لذلك لم تأتِ سنة 1832 حتى أيقنَت الشركة أن هذه الحكومات

الصغيرة لا يمكن أن تتّحد عليها ولا تستطيع واحدة منها أن تصمد لها وحدها، عندئذ رفعَت النقاب وسفرت عن وجهها القبيح، وبدأت ببعض المقاطعات الهندية فحكمتها حكماً مباشراً ظاهراً مدّة ربع قرن. وهنا استيقظ المسلمون وتنبّهوا إلى الخطر الداهم، إلى النار الآكلة التي شبّت في ديارهم، وهي تمشي إليهم تريد أن تأتي على بنيانهم من القواعد، فاجتمعوا وتداولوا ثم قرّروا الجهاد. وفي صباح يوم الأحد 10 آذار (مارس) سنة 1857 بدأت الحرب قرب دهلي. الحرب التي يظلمها المؤرّخون الإنكليز ومَن ينقل عنهم بلا فهم من مؤلّفين فيسمّيها حركة عصيان، وما هي بالعصيان ولكنها الحرب الدفاعية المقدسة. وكان يقودها ميرزا مغول ابن بهادر شاه، آخر إمبراطور مسلم في الهند، ولم يكن بقي له من الملك إلاّ اسمه! انضوى تحت رايته المسلمون جميعاً وقليل من الهنادك (الهندوس)، وأبدى المجاهدون من ألوان البطولات ما أدهش المؤرّخين. ولكنهم قوم يظلمون وتدفعهم مصلحة بلادهم إلى استحلال الكذب وتزوير التاريخ. لم تنفع بطولات المجاهدين مع أسلحة الإنكليز الحديثة ومع دسائسهم المعروفة وتفريقهم بين المتّحدين، فقضوا على هذه النار بعد خمسة أشهر من اشتعالها. فلما هدأت وانطفأت أسرعوا بالانتقام، الانتقام الوحشي المروّع الذي لم يُسمَع بمثله عن جنكيز وهولاكو. هذا الانتقام قام به الإنكليز الذين يزعمون

أنهم أُمّة الحضارة وأهل الديمقراطية وأصحاب الدستور! دمّروا دهلي المسلمة وقتلوا أهلها قتلاً عاماً، حتى غدت خرائب وأطلالاً وقد كانت أعظم بلاد الهند. وتتبّعوا المسلمين إلى القرى والدساكر يقتلونهم، وكانت تكفي إشارة من هندوسي إلى المسلم حتى يُعلَّق بغصن شجرة مشنوقاً أو يُذبَح بسكّين كما تُذبَح النعاج، وكان شيء لا يوصف. ثم قبضوا على الإمبراطور فحبسوه، وعلى أمرائه ووُلاته وعلّقوا لهم المشانق في الطرق والساحات. أمّا الإمبراطور فتُرك بلا طعام وهو صابر، حتى إذا عضّه الجوع طلب ما يأكل ... أمسكوا يا أيها القُرّاء بقلوبكم، فإن ما سأعرضه عليكم من تاريخ الإنكليز المتحضّرين وما صنعوا مع الإمبراطور المسلم يصدع قلوب البشر ولو كانت من جلمد الصخر: جاؤوه بصحن كبير مُغطّى، فلما كشفه وجد رؤوس أبنائه الثلاثة قد قُطعت وهي تقطر دماً! وجاؤوه بها فوراً عندما طلب الطعام لتُقدَّم إليه حارّة. هذا الذي صنع الإنكليز المتحضرون! ثمّ شكّلوا خمس محاكم لمحاكمة من بقي من زعماء المسلمين والقضاء عليهم، محاكم سبقت في وحشيتها محاكم التفتيش في إسبانيا. وعاد المسلمون بعد ذلك كلّه إلى الثورات وإلى الجهاد، سنة 1863 وسنة 1868، ولكن الله لم يكتب لهم النصر. وتفانى الزعماء والقادة ومضوا شهداء واحداً بعد الواحد، وأصاب عامّة المسلمين من هذه الصدمات مثلُ اليأس، فاستسلموا للأقدار وانزووا وتواروا، وانطووا على أنفسهم وابتعدوا عن الحكم بعد أن

كانوا هم الحاكمين، وأخلوا المكان للهندوس الذين قرّبهم الإنكليز وأعطوهم الوظائف والولايات التي كانت للمسلمين وشجّعوهم على العلم والدرس والاطلاع على الثقافة الغربية. واستمرّ ذلك نحواً من أربعين سنة، كل سنة منها تزيد المسلمين ذبولاً وانطواء على أنفسهم وعزوفاً عن الحياة العامّة وبعداً عن غمار السياسة. حتى قام أحمد خان ينبّه المسلمين ويذكّرهم بما كان لهم من سلطان. ولم يكن أحمد خان ماشياً على الطريق الإسلامي الصحيح، ولكن في نفسه غيرة وهِمّة، وكان يريد أن يعمل عملاً يرفع من شأن المسلمين، ولم يكن يريد طفرة ولا يدعو إلى ثورة، بل كان يدعو المسلمين أن يُقبِلوا -مثلما أقبل الهنادك- على الثقافة الغربية ويُتقِنوها ويدخلوا في غمار السياسة وفي وظائف الدولة. وهو الذي وضع أساس جامعة عليكرة. ولست أريد أن أتقصّى حديث أحمد خان، فمَن شاء وجد خبره عند الأستاذ أحمد أمين في كتابه «زعماء الإصلاح»، ولا أن أُلِمّ بتاريخ المسلمين في الهند، فإنه تاريخ طويل لا يمكن أن تتّسع له هذه الذكريات وليس من صلب موضوعها، فمَن أراد أن يعرفه رجع إلى ما كُتب فيه، ومِن أقرب المراجع ما كتبه الأستاذ مسعود الندوي رحمة الله عليه، وما كتبه أخونا الحبيب الأستاذ أبو الحسن الندوي أحسن الله إليه وأطال عمره. ولكني أعرض عليكم حادثة تبيّن لكم الأخلاق العملية عند أحمد خان: لمّا كان يطوف أرجاء الهند ليجمع المال لإنشاء الجامعة وفد على ولاية نَوّابها (أي واليها) مسلم، ولكنه معارض لمشروع

الجامعة وكاره لأحمد خان، فسأله أن يشارك في هذا التبرع فوعده بأن يرسل إليه ما يقدر عليه. فلما عاد أحمد خان إلى بلده ومضت أيام جاءه في البريد صندوق صغير من هذا النَّوّاب، فحسب أن فيه هدية ثمينة أو مبلغاً من المال، فلما فتحه وجد فيه حذاء قديماً! أفتدرون ما الذي فعله أحمد خان؟ لم يُعلِن غضبه عليه ولم يردّ الحذاء إليه ولم يشهّر به بين الناس، ولكنه باع هذا الحذاء بقروش قليلة معدودة وبعث إليه سند إيصال بهذا المبلغ ومع الإيصال كلمة شكر. فاستحيا النَّوّاب وتبرع بخمسة وعشرين ألف ربّية للجامعة. وكان أحمد خان يرى اتحاد المسلمين والهندوس في المطالبة بحقوق البلاد، وكان متحمّساً لذلك حتى أنشأ الهندوس «حزب المؤتمَر» سنة 1885، أي قبل قرن كامل، واتضح له ممّا بدا من سياسة الحزب وأعماله أنّ مصالح الفريقَين مختلفة لا يمكن أن تأتلف. وكيف يجتمع اثنان أحدهما يذبح البقرة ليأكلها، والثاني يقدّسها ويتبرّك بها ويتضمّخ بروثها ويتطيب ببولها؟! ورأى أنه لا يمكن الاتحاد إلاّ بفناء القِلّة المسلمة في الكثرة الهندوسية، فنبذ فكرة الاتحاد. وتوالت الأحداث واتّسعَت شقّة الخلاف بين المسلمين الذين تنبّهوا قليلاً وبين الهندوس، وعاد إليهم بعض الثقة بأنفسهم، وجاءت سنة 1905 ميلادية وظهر الخلاف على أشدّه في البنغال التي يَعمُر شرقيّها (أي منطقة بنغلاديش اليوم) المسلمون ويسكن غربيّها الهندوس، واستجاب الإنكليز للواقع فقسموها إدارياً بين الطرفين.

وكانت تجرِبة موفّقة، حفظت للمسلمين بعض حقوقهم فيها وصانتها بعض الصيانة من الضياع. ويَعُدّ المؤرّخون سنة 1906 بداية اليقظة الحقيقية لمسلمي الهند بعدما ظلّوا مئة وخمسين سنة في حالة إغماء، أو شبه إغماء، من تلك الضربة التي انصبّت غدراً على رؤوسهم من الإنكليز. في هذه السنة، 1906، تأسّسَت الرابطة الإسلامية لعموم مسلمي الهند، وألّفَت وفداً من ستّة وثلاثين زعيماً من زعماء المسلمين في أقطار الهند كلها للمطالبة بحقوقهم، وأوّلها الاحتفاظ بتقسيم البنغال الذي كان الهندوس يعملون على إلغائه، ووصلوا إلى ما كانوا يسعون إليه سنة 1911 فأُلغِي تقسيم البنغال. والدنيا يا إخوان يومان: يوم لك ويوم عليك. وقد بدأ في تلك السنة (1911) اليوم الذي كان علينا، وكان يوماً طويلاً وكان صعباً أليماً، مال فيه الميزان واشتدّ علينا الزمان، ففي الهند كانت هذه النكسة، وطرابلس (ليبيا) هجم عليهم الطليان بلا حُجّة ولا برهان، بل كما تهجم الذئاب الجائعة على القرية الآمنة في الليل البهيم. وكان الاتحاديون (وأكثرهم مفسدون ملحدون) قد عزلوا السلطان عبد الحميد بعدما شوّهوا سيرته، فكذبوا عليه ونسبوا كل منقصة إليه، واستولوا على الدولة العثمانية فأضاعوا -بجهلهم وقلة حنكتهم وفساد نيّاتهم- بلاد البلقان التي كان يحكمها السلاطين من آل عثمان. وهُتك الستار الذي كانت تختبئ وراءه أوربّا، وظهر للعيان أن الحروب الصليبية لم تنتهِ حملاتها ولم تَزُلْ من نفوس القوم الدوافع إليها، فإذا هي تتّحد علينا جميعاً في حرب البلقان، حتى

إن إنكلترا نسيَت ما صنعت في الهند بالأمس القريب وبكت في اليونان بدموع التماسيح (إن صحّ أن التماسيح تبكي بالدموع)! وتحمّس أبناؤها للدفاع عن الحُرّية وعن العدالة. وما يريدون حُرّية ولا عدالة، وإنما هي عداوتهم للإسلام الذي كان يتمثّل في أنظارهم بدولة آل عثمان. وتطوّعوا للحرب مع اليونان، حتى وصلَت الحماسة إلى الشاعر الفاسق الذي عشق أخته. هل سمعتم بإنسان يهبط في درك البهيمية حتى يعشق أخته؟ ذلكم هو اللورد بيرون! وقلب الإنكليز في الهند للمسلمين ظهر المِجَنّ، فسُجن الزعيمان المسلمان شوكت علي ومحمد علي وصودرَت صحف المسلمين، عندئذ أعلنت الرابطة الإسلامية غضبها على بريطانيا. وكانت هدنة عُقدت بينها وبين حزب المؤتمَر لمّا أعلنت الحرب سنة 1914، فلما انقضَت الحرب وقام غاندي بحركة العصيان السلميّ ... وقد مرّ علينا دهر كنّا نظنّ فيه غاندي من أبعد الناس عن التعصّب ومن أقربهم للمسلمين، فلما ذهبت إلى الهند ورأيت الحقائق من قرب علمت أنه أعدى علينا مِمّن يُظهِر منهم العداوة لنا، ولكنه يطعن بخنجر حادّ يمسكه بيد ناعمة تلبس قفّازاً من حرير. وسيأتي خبر ذلك. لمّا قامت حرب 1914، وهي أفظع حرب شهدها تاريخ الإنسان إلى ذلك الزمان، أدخل الاتحاديون دولتهم فيها وما للدولة مصلحة في دخولها، وزادهم الله عَمَى في البصيرة وقِصَراً وضعفاً في البصر فضلّوا الطريق، فكانوا مع الجانب الذي كان عليهم -لو عقلوا- أن يجانبوه، كانوا مع الألمان. فلما انهزموا

وضاعوا ضاعوا معهم. ثم جاء رجل منهم فأعلن الحرب على الإسلام جهاراً، الإسلام الذي جعل من قومه ملوكاً وسادة للقارّات الثلاث بعد أن كانوا بدواً رعاة بقر وشَاء، لا شأن لهم في الدنيا إلاّ أنهم يقاتلون فيحسنون القتال. وألقى بيده عن رأس قومه تاجَ الخلافة، فتلقّفه محمد علي وصحبُه في الهند وجعلوا الخلافة وإعادتها شعاراً لهم، فانضوى المسلمون إليهم. ولا يربط المسلمين دائماً شيء مثل الدين، وكل رابطة سواه مصيرها إلى التقطّع والانحلال. وانتهت الزعامة الإسلامية إلى الذي يدعونه «القائد الأعظم»، وهو محمد علي جنّة (جناح)، واقترب تحقيق الحلم الذي كان اسمه باكستان. وهي كلمة جُمعت حروفها من أسماء الأقاليم الإسلامية هنا: البنجاب (ومعناها الأنهار الخمسة) وكشمير والسند. أما المعنى الحرفي لكلمة باكستان فهو «أرض الأطهار». والأطهار حقاً هم المتمسّكون بالإسلام اعتقاداً وسلوكاً، قولاً وعملاً، يخلصون لله رجاء ثوابه ومخافة عقابه، لا يكون لهم فيما قضى الله فيه رأي ولا اختيار، فلا يفكرون في ترك واجب أوجبه الله ولا استحلال أمر حرّمه الله أو مخالفة ما في كتاب الله وما جاء به رسول الله. فهل كان القائد الأعظم وكان صحبه كذلك؟ أنا لا أقول شيئاً ولكن أسأل سؤالاً. هل كانوا مع الله يتبعون شرعه، ويسلكون طريقه، ولا يحيدون عنه، في خلواتهم وفي جلواتهم، في أنفسهم وفي أُسَرِهم وفيمن ولاّهم الله أمرهم من قومهم؟

أكثر القُرّاء يعرفون كيف قُسِّمت القارة الهندية بين المسلمين والهندوس: حيدر أباد التي كان يحكمها حاكم مسلم كان في أيامه أغنى رجل في الدنيا أُعطِيَت للهنادك، لأن العبرة -كما قالوا- ليست بدين الحاكم بل برغبة الشعب المحكوم. فلما جئنا إلى كشمير التي يسكنها شعب مسلم لا يريد إلا الإسلام، قالوا: لا، بل العبرة بدين الحاكم لا برأي الشعب! لأن كشمير كان حاكمها غير مسلم. وقامت باكستان جسماً مقطَّع الأوصال، نصفٌ في الشرق ونصفٌ في الغرب، ودخلَت أيدي الأشرار بين القسمَين فلم تجمعهما ولكن ثبّتت تفريقهما. ولو أن الدولة أُسِّست على التقوى من أول يوم، ولو أنها اتّبعَت شرع الله وطلبت النصر من الله، ولو لم يدركها الداء الذي أصابنا جميعاً، داء الثقة بغير الله واتباع أعداء الله واقتفاء خطواتهم والسير على أثرهم ... لو أن المسلمين جميعاً، لا باكستان وحدها، كانوا مع الله لكان الله معهم، ومن كان الله معه لم يضرّه عدو مهما كان كبيراً، لأن «الله أكبر». ودعوني أقُل لكم كلمة أنا أعلم أنها ليست من صميم الذكريات، وأعلم أنها موعظة، والمواعظ شديدة على النفس تنفر منها وتأباها، ولكنني أردت أن أختم هذه الحلقة بها: لقد عرفت كثيراً من الزعماء المسلمين الذين قاموا يحاربون الاستعمار والمستعمرين، ولكنهم يسلكون طريقهم ويفكّرون تفكيرهم ويعتادون عاداتهم، ولا يكاد جلّهم يتمسّك بما يدعو

إليه الإسلام. فخبّروني: كيف يحارب الاستعمارَ مَن الاستعمارُ في رأسه فأفكارُه أفكار المستعمرين، والاستعمارُ في قلبه فهواه تَبَعٌ لهوى المستعمرين، والاستعمار في بيته وفي أسرته فسلوكه في البيت سلوك المستعمرين؟ إذا كنت لا أستطيع أن أتحرّر أنا منهم فكيف أحرّر بلادي من الاستعمار؟ والكلام لم يكمل، والحديث متصل إن شاء الله. * * *

دهلي: الفردوس الإسلامي المفقود

-146 - دهلي: الفردوس الإسلامي المفقود يا سيد «ع. س»، ولست أدري أهذه حروف من أوائل اسمك أم حروف أقمتَها تختفي وراءها، ولا أبالي أهذا الذي كان أم ذاك: إنها دهلي كما كتبتُ لا دلهي كما يقول الناس. ولقد زرتها وبقيت فيها أمداً، وجُلتُ في شوارعها وحاراتها، ولقيت من رجالها وعلمائها، وقرأت الكثير عنها. وكان الحديث سيصل إليها، ولكن رسالتك التي أرسلتها واعتراضك الذي أبديته جعلني أستأذن القُرّاء فأبدأ بالحديث عنها. إنها المدينة التي لبثَت ثمانمئة سنة وهي دارة الإسلام وسدة الملوك المسلمين الذين ملؤوا الهند مصانع وآثاراً، وأترعوها مساجد ومدارس وقباباً، والتي أقاموا فيها صرح مجد أرسوه على جذور الصخر، وساموا به شُمّ الذّرى، وباروا به الزمان في طريق الخلود. المدينة العظيمة التي عاش فيها أبطالنا حاكمين، ثم ثووا في ثراها خالدين. دهلي التي تجمع الزمان من طرفَيه والأرض من جانبَيها: ففيها القديم والحديث، وفيها الشرق والغرب جميعاً، فهي من هنا

المدينة الأوربّية السافرة المتبرّجة. ففي دهلي القديمة سحر الشرق وروحانيته، وفي دهلي الجديدة (نيودلهي) روعة الغرب وحضارته. في دهلي أروع آثار الملوك المسلمين وفيها أكبر آثار الحُكّام البريطانيين. وإن أردنا الإنصاف لم نستطع أن نحكم أيّ الأثرَين أعظم: أمّا المسلمون فقد عُنُوا بالجمال أولاً ثم بالضخامة والجلال، وأمّا الإنكليز فأرادوا الضخامة والجلال ثم الروعة والجمال. فمَن أراد الهيكل الضخم والعظمة البادية رآه في آثار الإنكليز، ومن طلب الدقّة والفنّ والجمال وجدها في آثار المسلمين. والآثار الإسلامية أجلّ وأعظم، لأن الإنكليز بنوا ما بنوا في الأيام التي اتسع فيها العلم وكُشفت فيها خفايا الكون وسخّر الإنسان فيها الآلات من الحديد، وأولئك بنوا بنيانهم حين لم يكن في إنكلترا إلاّ شعب لا يَفضُل في العلم والحضارة الشعوبَ البادية المتدنّية اليوم، وبلغوا به -على ذلك- هذا المبلغ. وحسبهم أن «قبراً» بناه الملك المسلم شاه جيهان لا يزال إلى اليوم أجمل من كل قصر شيد في الشرق والغرب، بل لا يزال بالإجماع أجملَ بناء أقيم على ظهر الأرض كلها، هو «تاج محلّ» الذي يجيء السياح من أقصى أميركا ليقفوا عليه مشدوهين مُكبِرين متعجّبين. ولئن عرف التاريخ رجالاً مَلَك الحبُّ قلوبَهم، بل منهم من ذهب بعقولهم، وعرف عباقرة من الشعراء العشاق خلّدوا عواطفهم بقصائد بقيَت وستبقى على طول الزمان، فإن حبّ شاه

جيهان لزوجته ممتاز محل قد خلّده بقصيدة من الرخام كلماتها من المرمر، طوّع له الحجر اليابس حتى لان في يده فكان قصيدة ناطقة، تنافس بجمالها خوالد القصائد في آداب الأمم. ولقد دخلت (كما سيمرّ بكم) إلى دهلي، ولكنني لم أذهب إلى أغرة ولم أرَ فيها تاج محل. وتجدون -على ذلك- وصفاً له في كتابي «رجال من التاريخ»، أحسب أن من زاره ووقف عليه لم يصفه مثل هذا الوصف. وعفوكم إن سلكت طريق الشعراء فمدحت نفسي بدلاً من أن يمدحني الناس! دهلي في منبسط من الأرض كلّه خضرة، غابات وبساتين وخمائل، وقد أبصرت لمّا حوّمَت بنا الطيارة فوقها مساكن مختبئة وسط الأيك، وقباباً كثيرة بادية، وسعة وعمراناً. وكان في دهلي لمّا زرناها قبل ثلاثين سنة كاملة (أي سنة 1954) مطاران: مطار داخلي للطيّارات القادمة من مدن الهند ومطار دولي لطيارات السياحة العالَمية. وكنّا قادمين من لكنَوْ في داخل الهند فحطّت بنا الطيارة في المطار الداخلي. وكان أول ما بدا لنا من الآثار الإسلامية مسجدٌ ضخم عليه قِباب شامخة على الطراز المغولي. ثم سرنا في ريف دهلي نقصد المدينة، فلما بلغنا أوائلها رأينا شوارع فِساحاً تظلّلها الأشجار الكبيرة (والعجب أن هذه الأشجار على كبرها مُزهِرة مثل أزهار الروض البهيج) وعلى جانبَيها حدائق وبساتين فيها دارات ومغانٍ (فيلاّت)، بين كل دارة ودارة أكثر من أربعين متراً، فلم تكن بيوتاً لها حدائق بل كانت حدائق فيها بيوت! وهي تُشبِه في هذا جاكرتا.

وعفوكم إن لم أسِرْ بكم من حيث سرت وعرضتُ ذكرياتي مختلطة أنتقل فيها من مدينة إلى مدينة، فسبب ذلك أنها قد اختلطَت في ذهني فصارت كلها صورة واحدة جميلة. ولعلّ جمالها في تنوّعها، وقديماً قالوا: «والضدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُّ». ألا تطربون للتناسق الموسيقي (الهارموني) حين يغنّي معاً رجال بأصواتهم الضخمة وصِبْية صغار بحناجرهم الحادّة، فيختلط الصوتان فيجيء منهما صوت واحد مطرب معجِب؟ وإن كانت مساكن جاكرتا (كما سيمرّ عليكم) صغيرة ملوّنة كلعب الأطفال، وكانت حدائقها أكثر وأشجارها أعجب. ثم رأيت في طريق دهلي بوابة ضخمة جداً من الحجر قائمة في وسط ساحة تتفرع منها شوارع كثيرة، عليها نقوش وكتابات إنكليزية وأمامها تمثال جورج الخامس، الذي حسب أنه سيبقى وتبقى الهند لقومه، فذهب كما يذهب كل حيّ وخرجَت الهند من أيدي أمّته. وكان التمثال وسط بركة هائلة عجيبة الصنع. ورأيت في بومبي (وسيأتي ذكر ذلك) بوّابة أخرى أفخم وأقدم، أرادوا أن تكون باب الهند الرمزي. ولمّا جزنا البوّابة ظهرَت دهلي الجديدة. وهي مدينة مدوّرة، لا أعرف لها شبيهاً إلاّ بغداد عندما بناها المنصور. في وسطها (في وسط دهلي) ميدان كالدائرة الكاملة حوله العمارات الكبيرة، تنصبّ فيها شوارع مستقيمة ثم تخرج منه كأنها أشعّة النجم، ووراء العمارات دائرة أخرى أوسع منها، وتتوالى الدوائر تقطعها هذه الشوارع المستقيمة.

وإلى جنب دهلي الجديدة (نيو دلهي) دهلي القديمة، يحيط بها سور ضخم له أبواب، لا تزال باقية أبوابه عليها أسماءُ مَن شادها من ملوك المسلمين. وبين المدينتين فضاء واسع أشبه بالمرج الأخضر في دمشق، بل هو أوسع وأكبر، يلعب فيه الشبّان ويتكوّم على أرضه الرجال والنساء والأسر كلّ مساء. فإذا جاوزت هذا الفضاء الذي تشقّه الشوارع رأيت أمامك السور القديم وأبوابه الباقية، ولكن المدينة خرجَت منه كما خرجَت المدن من كل سور كان يطوّقها، وامتدّت حتى صار السور وسط الشوارع والعمارات كما هي الحال في دمشق. ولكن دمشق لم يقف التجديد عند حدودها القديمة بل وصل إلى أقدم حارة فيها، وليته لم يصل، وليتهم حفظوا قديمها كما صنعت فاس وكما صنعت بعض المدن في سويسرا، تحفظ القديم على حاله ليكون تاريخاً ناطقاً، وتجدّد ما شاءت من حوله. ودهلي التي تعيش وسط السور رأيناها لمّا زرناها كما كانت منذ خمسمئة سنة. وهذا سِرّ إقبال السياح عليها وإعجابهم بها، فالسائح الغربي لا تهمّه الشوارع الكبيرة والعمارات ومظاهر الحياة الأوربية، فإن عنده الكثير منها، ولكن يهمه ما لا يجد مثله في بلاده. وما كنت أدرك هذه الحقيقة حتى سِحت في مدن آسيا. لذلك أحببت دهلي القديمة وأمضيت عشرة أيام أجول في أسواقها وطرقها، وأعجب بما وجدت فيها. وما الذي وجدته؟ أسواقاً ضيقة لا أوّل لها ولا آخر، كأسواق دمشق حول الجامع الأموي، وأسواق بغداد، وأسواق مكّة والمدينة التي رأيتها من أكثر من نصف قرن. تقوم على جوانب هذه الأسواق الدكاكين

فيها من كل شيء، وهي مرتفعة عن الطريق، والبيّاعون يقعدون متربّعين في وسطها كما كان يفعل تُجّار سوق الخيّاطين في الشام. وفيها حارات وأسواق ضيقة ملتوية، منها ما لا يتّسع إلاّ لمرور رجلين اثنين، وقد رأيت مثلها في الرياض (في الديرة) لمّا زرتها أوّل مرة من أكثر من نصف قرن. وهي كمدن الهند جميعاً، معرض عجيب لكل ما يتصوّر الإنسان من ألبسة وأزياء، فأنت ترى امرأة قرويّة مسلمة قد لبسَت كيساً، كيساً حقيقياً معلّقاً برأسها، يُخفي كل شيء من جسمها حتى يديها ويمسّ وجه الأرض فيستر قدميها، وأمام عيونها كوّتان بمقدار العين قد أُسدِل الكيس عليهما. وأخرى تلبس الزيّ البنجابي، وهو الزيّ الشائع للمسلمات ولا سيما في باكستان، وهو مؤلّف من سروال طويل كسراويل المَنامة (البيجامة)، فوقه قميص إلى الركبتين ومنديل (خمار) من قماشه يستر الرأس، وهم يَفْتَنّون في ألوان هذا الزيّ افتناناً. وثالثة تلبس الساري، وهو قماش غير مَخيط يُلَفّ لفاً على الجسد ليستر إحدى الكتفين وأكثر الظهر ويترك البطن حول السرة مكشوفاً، ويُعرف بالزيّ البنغالي. وهو في الأصل لغير المسلمات، ولكنني رأيت بعض المسلمات يتخذنه. والساري أنواع منوّعة وأشكال مشكّلة، منه ما يبلغ ثمنه الآلاف. والرجل منهم يلبس الشّرواني، وهو اليوم اللباس الرسمي لباكستان. ومنهم من يتخذ العمامة الضخمة جداً ويُطيل لحيته، وهو لباس السيك (السيخ)، وحلقُ الشعر حرام في مذهبهم، لذلك تراهم يتعبون أشد التعب باللحى التي تطول وتعرض ولا يدرون ماذا يصنعون بها وقد مُنعوا من قصّها وحلقها، فهم يربطونها

بالخيطان أو يضفرونها ضفراً، مع ما في الهند من حرّ ومع ما يكون فيها من العرق الشديد. وربما رأيت رجلاً بلحية هائلة تبلغ بطنه وعمامة بمقدار رأس الفيل الصغير، وتحت ذلك بنطال قصير لا يستر إلاّ أربعة أصابع من أعلى الفخذ! وعلماء المسلمين يتّخذون في الهند قميصاً واحداً يبلغ الركبتين تحته لباس (سِرْوال) (¬1) طويل، وعلى الرأس كمة (طاقية صغيرة)، وكل ذلك من الخام أو الكتان. ومن الرجال من يتخذ الزيّ الإفرنجي، ولكنه يلبس على البنطال (البنطلون) قميصاً ينسدل عليه من فوقه بدل الرداء (الجاكيت) الذي لا يُحتمَل في ذلك الحرّ. وكنت أسير مرة في السوق الكبير في دهلي القديمة، فسمعت طَبْلاً وزمراً ورأيت جوقة موسيقية (الجوقة كلمة عربية، أي الأوركسترا) ووراءها موكب ضخم وجَمَل قد عُلِّقت به عشرات الأجراس الصغيرة، وفوقه هودج فيه فتاة تلبس ثياباً تكشف من جسدها أكثر من الذي تستره، فعجبت من ذلك فحاولت بالكلمات العشرة التي تعلّمتها من الأردية وبمثلها من الإنكليزية، وبالإشارات والحركات أن أفهم ما هو، فإذا هو ... موكب إعلان عن حفلة مسرحية. وسمعت مرة أجراساً قوية تجلجل بصوت حادّ يكاد يثقب طبلات الآذان، فتتبعت الصوت فإذا أنا أرى بيتاً في وسطه غرفة، على بابها أصنام قبيحة النحت لها بدل اليدين أزواج كثيرة من ¬

_ (¬1) والعرب تقول: «سَراويل».

الأيدي، وكلّما دخل البيت داخلٌ صُبّ الماء على رأسه حتى صارت أرض البيت كالبِركة، ثم وقف الناس صفّين عن طرفَي الغرفة، وأنا أراهم من خارجها وأسمعهم يتبادلون الصياح العجيب بأصوات عالية، والأجراس تُقرَع بشدّة وعنف. فسألت فقالوا: إن البيت معبد وهذه هي صلاة القوم فيه. {وما كانَ صَلاتُهم عِندَ البيتِ إلاّ مُكاءً وتَصْدِيَة}. ومن العجيب أن الذي يقف وسط دهلي الجديدة يرى شارعاً طويلاً، على طرفه الأيمن قبّة بعيدة تلوح من بعيد وعلى طرفه الأيسر قبّة مثلها: هذه قبّة قبر نائب الملك أيام كان ملك الإنكليز هو الحاكم الأعلى للهند، وتلك قبّة المسجد الجامع أيام كان المسلمون هم حكّامها. يقف على طرفَيه الماضي والحاضر والشرق والغرب، متقابلَين متعادلَين. أمّا قصر نائب الملك فلست أدري كيف أصفه لكم. إن قصر عابدين في القاهرة يبدو إلى جنبه بيتاً عادياً، بل هو أكبر -كما قالوا- من قصر الملك في لندن. فيه داران كبيرتان عاليتان مشمخِرّتان على الجانبَين، وبينهما الدار الكبيرة وفوقها قبّة شامخة تنطح النجم، وهو من سعته كأنه مدينة كاملة. وأما المسجد فهو من أعظم مساجد الهند، بل هو من أعظم مساجد الأرض، لم أرَ أروع منه. وهو قائم على قاعدة يُصعَد إليها على درَج عريض جداً يزيد على أربعين درجة، وله سور عالٍ فيه ثلاثة أبواب على كل باب بُرج كأنه عمارة، فإذا صعدت الدرَج ودخلت وجدت صحناً رحيباً أوسع من صحن الجامع الأموي في

الشام، لكنه مربّع، وفي صدره مكان الصلاة. وهو على الطراز المغولي: له واجهة عالية فيها ثلاثة أقواس: الأوسط مها بعلوّ سقف الأموي، وفوق السقف قبّة أعلى من قبّة قصر نائب الملك. وهو من بناء شاه جيهان (أي ملك الدنيا)، منشئ تاج محل أجمل أبنية الأرض. وأمامه القلعة الحمراء، سُمّيت بذلك لأنها مبنيّة بنوع نادر من الحجر لونه أحمر، وتُدعى القلعة تجوّزاً، وهي في الحقيقة بلد كامل، فيها قاعات وأبهاء لا تكاد تقلّ في روعة نقشها وبراعة تزيينها عن قاعات الحمراء في الأندلس. ولمّا وقفت عليها وأحاط بي صمتها وهدوؤها أحسست كأني قد انفصلت عن حاضري وغبت عن نفسي، وأنني قد عُدت إلى الماضي القريب. وشعرت كأني أسمع في أرجاء القلعة دويّ الطبول وهتاف الجند، وصدى الأذان تردّده منارات المسجد، وأرى خفق الراية الإسلامية على رأس الإمبراطور أورانك زيب الملك المسلم الصالح، وأبصر جحافله ترمح ظافرة من سمرقند والأفغان إلى سواحل الهند كلها، تقطف ثمار النصر وتنثر في الأرض نور القرآن وعدالة الإسلام. وتنثال عليّ صور الأمجاد الخالدة لهذه المملكة العظيمة، التي أقامها مجاهدون كِرام اختلفَت ألسنتهم وتباعدَت أنسابهم، ولكنْ جمعهم الإسلام، ووحدة المبدأ الذي هو توحيد الله، ووحدة الغاية التي هي العمل لما يرضي الله. وإذا جاءت وحدة الإسلام لم يضر معها اختلاف جنس ولا لسان. مِن فتح محمد بن القاسم العربي الثقفي، إلى فتح محمود الغزنوي التركي الأفغاني، إلى فتح بابر المغولي. وكلهم مجاهد في سبيل الله عامل على إعلاء

كلمة الله. الأول غرس البذرة، والثاني تعهّد النبتة، والثالث رعى الدَّوْحة؛ أقاموا لهذه المملكة سوراً من جماجم شهدائهم وسقوها من دماء أبطالهم، فظلّلَت فروعُها وأغصانها الهندَ كلّها. الهند التي كانت كلها لنا، فلم يبقَ في أيدينا منها إلاّ آثارنا: مساجد -كما قلت لكم- قد عطلت من شعائرها، ومآذن قد فقدت مؤذّنيها، وقلاع غاب عنها جنودها، وقصور فارقها أصحابها، ورايات قد سكنت المتاحف لم تعُد ترفرف في سمائها، وسيوف قد صدئت في أغمادها لم يبقَ لها منّا مَن يسلّها. هذه هي الأندلس الكبرى، وهذا هو الفردوس الإسلامي المفقود. * * * فإذا اختصرتُ الطريق فجئتُ بحديثها في غير موعده فإنما فعلت ذلك جواباً على الرسالة التي افتتحت بالإشارة إليها هذه الحلقة من ذكرياتي. إن صاحب الرسالة (مثل أكثر المسلمين اليوم) لا يعرفون من تاريخ الإسلام في الهند إلاّ شيئاً قليلاً لا يكاد يُعَدّ شيئاً. إن ثلث التاريخ الإسلامي في الهند. لقد أقام المسلمون في الهند دولاً وأنشؤوا فيها حضارة، وفتحوا فيها مدارس وبنوا مساجد، وكانت مساجدهم ومدارسهم منارات تدلّ السفن الضالّة على الشاطئ الآمن لتعصمها من الأمواج العاتية وتخلّصها من المخاطر والمهالك. إن اليوم هو ابن الأمس وهو أبو الغد، فمَن كان له تاريخ

عظيم وعرف تاريخه دفعه أن ينشئ كما أنشأ الأجداد وأن يبني مثل ما بنوا. والأمم التي لا تاريخ مكتوباً لها تُنشئ لها تاريخاً مكذوباً لتبني عليه مستقبلاً مزعوماً، فلا الأساس ثَبَتَ لهم ولا البنيان سيتمّ ويبقى لهم. فيا أيها القُرّاء، اعرفوا تاريخكم، لا لتقفوا عنده وتقنعوا بالفخر به وتناموا عليه، بل لتصنعوا مثل ما صنع أجدادكم ولتحققوا قول شاعركم: نَبني كما كانت أوائلُنا ... تَبني، ونفعَلُ مثلَ ما فعلوا بل فوق ما فعلوا. وإذا صدق العزم وصفَت النيّة وصحّ التوكّل على الله، بعد أن يتّحد المسلمون ويُعِدّوا للنصر عُدّته، فإن هذا سيتحقق إن شاء الله. * * *

حديث يوم الجلاء عن سوريا

-147 - حديث يوم الجلاء عن سوريا رَبْعُ الشآمِ، أعامرٌ أمْ خالي؟ ... اليومَ عيدُكَ عيدُ الاستقلالِ هذا البيت مطلع قصيدة للأستاذ العقّاد في يوم الجلاء، أخطرَه على بالي الآن أني أكتب عن هذا اليوم. ولست أدري ما الذي زين للعقاد -غفر الله له- أن يفتتح به قصيدة في التهنئة، وهو لا يبعث في النفس شعور التهاني بل أشجان العزاء، وإني لأتخيّل هذا البيت في مطلع القصيدة كالنائحة في العرس أو الضاحكة في المأتم! وأتصوّر أن الأستاذ حسب الشام خلت من سُكّانها أو أنهم نسوا أيام انتصارهم وموطن فخارهم، فهو يذكّرهم بها (¬1). وربما اقترنَت الذكرى أحياناً بمشهد تراه العين، أو نغمة تسمعها الأذن، أو رائحة يشمّها الأنف، أو لفحة حرّ أو لذعة برد ... وأنا رجل ذاكرته بصرية لا سمعية، ولكن بعض النغمات يرتبط عندي ببعض الذكريات، فأنا لا أسمع الأغنية التي تشدو بها أم كلثوم والتي فيها «مينْ في حُبّه شافْ هَنا زيّي أنا» إلاّ كرّت ¬

_ (¬1) بل لأن الأستاذ العقّاد لم يكن يوماً شاعراً مطبوعاً إلاّ عند من طبع الله على ذوقه.

بي الأيام راجعة فرأيت نفسي في سلمية سنة 1931 لمّا أُرسِلت إليها معلّماً في مدرستها، ولا أسمع قصيدة «يا شام» تغنّيها فيروز إلاّ عُدت إلى أيام الانفصال، ولا أسمع «ليلة الوداع» لمحمد عبد الوهاب إلاّ عُدت إلى سنة 1937 حين كنت أدرّس في بيروت وأُوفِدَ أخي عبد الغني إلى باريس ليأتي منها بالدكتوراة في الرياضيات. وقد يسمع غيري هذه الأغاني فلا تثير في نفسه ذكرى. يقول هيراقليط الفيلسوف اليوناني: "لو أن مئة شخص شهدوا مشهداً واحداً لأثار في نفوسهم مئة إحساس". أو لعلّ القائل فيلسوف يوناني آخر، فما يهمّني الآن تعيين القائل ولكن يهمّني اللفظ المَقول. وقد أسمع أغنية عامّية اللفظ سوقية الأسلوب فتفتح عليّ باب التخيّل، فأرى فيها عالَماً لا يراه غيري مِمّن يسمعها. كهذه الأغنية التي تقول «ما في حدا، لا تندهي ما في حدا»، إنها تملأ صدري حزناً وقلبي بالشجن، حين أتصوّر من يأتي دار أحِبّته الذين استودعهم قلبه وأولاهم حُبّه، فناداهم كما كان ينادي، فإذا الدار خلاء ما فيها أحد يردّ النداء. ويتوارد على ذهني حين سماعها كلّ ما أحفظ في بكاء الديار ومخاطبة الأطلال. لذلك يرنّ في ذهني كلّما سمعت هذا البيت للأستاذ العقّاد رحمه الله صدى الأغنية المشهورة، التي وُلدَت بعدها آلاف الأغاني وماتت وهي تدور على ألسنة الناس تنتقل من الأجداد إلى الأحفاد، أغنية: «الحنّة الحنّة يا قطر الندى». وأنتم تعرفون أن

يوم الحنّاء كان من الأيام الحلوة التي تسبق يوم العرس، فتكون كالتمهيد له والمقدّمة بين يديه. تصوّروا أن قطر الندى غفلَت عنه فجاء من ينبّهها إليه ويبعث فرحتها به، فلما ماتت عادوا يدعونها إلى يوم الحنّاء. وهل توقظ الذكرى من أَوْدى به الرّدى؟ ذلك هو مبعث شَجَني حين أسمع مثل هذه الأغنية. وزعم بعض الباحثين أن قطر الندى في الأغنية هي قطر الندى بنت خُمارويه بن أحمد بن طولون لمّا زُفّت إلى الخليفة المعتضد، فإن صحّ هذا يكون عمرها أكثر من ألف سنة. وأنا هنا ناقل لست بقائل، فلا تطالبوني بالدليل فما لديّ على ما نقلت دليل. * * * وبعد، هل سمعتم -يا أيها القُرّاء- بالذي يمشي في نومه؟ أنا ذلك الرجل. لقد مشيت وراء فكرة لاحت لي فتركت طريقي وابتعدت عن غايتي، فعفوكم عني وسامحوني. كنت أتكلّم عن يوم الجلاء، يوم 17 نيسان (أبريل). يسأل العقّاد عن رَبع الشام هل هو عامر أم هو خالٍ؟ إن الشام يا أستاذ ما خلا من أهله، ولكن خلا مِمّن يعرف حقاً ما يوم الجلاء. تحت يدي الآن عدد يوم الإثنين الرابع من جمادى الآخرة سنة 1365 من مجلّة «الرسالة». في هذا العدد وفي الذي بعده مقالتان لي عن يوم الجلاء، فأنا أقرؤهما وأسائل نفسي: ماذا يحسّ الشباب الذين لم يدركوا تلك الأيام حين قراءتهما؟ إنهم يقرؤونهما كما يقرؤون قطعة أدبية، كل ما يهمّهم منها نقد أسلوبها وكشف محاسنها وعيوبها، ثم لا تقرع في قلوبهم وتراً حياً ولا تبعث في

نفوسهم ذكرى، إلاّ ذكرى ما سمعوه وما قرؤوه، وهم ما عاشوه ولا شهدوه. إنما يعرفه مَن كان هذا اليوم أقصى أمانيه وكان أبعد مراميه، نعرفه نحن إذ مشينا حتى وصلنا إليه خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، لا نمشي في طريق مزفَّت تتخلّله الأشجار وتحفّ به الأوراد والأزهار، بل كنّا نقحم فيه لهب النار، النار التي أشعلها الفرنسيون في دورنا ومساكننا، ونخوض فيه بِرَك الدم الذي أساله الفرنسيون من عروقنا، نطأ فيه على أجساد الشهداء من أبنائنا وإخواننا، لا نمشي على وقع الطبول العسكرية والمزامير، بل على أصوات الأمهات الثاكلات أو بكاء الأولاد الذين أودت بآبائهم وأمهاتهم قنابل المتحضّرين الذين انتُدبوا علينا ليلقّنونا دروس الحضارة، فإذا هي ثلاثة دروس: درس في الإلحاد، ودرس في الفساد، ودرس في تخريب البلاد ونهب ثروات العباد. * * * كانت زوجة أبي لهب، حمّالة الحطب، تجمعه بشوكه فتلقيه في طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن هؤلاء الذين انتُدبوا ليمدّنونا كانوا شراً منها: هي تحمل ما تُطيق حمله يداها، وهؤلاء نقلوه بكل وسيلة نقل قدروا عليها. ما كان أهل الشام قبلهم كالصحابة الأوّلين ولا كانوا كالتابعين، وكان قد دخل عليهم في دينهم كثير من البِدَع والمُحدَثات، ولكن ما كان فيهم مُلحِد يُظهِر إلحاده ولا سافرة تُعلِن سفورها ولا عاصٍ يجاهر بمعصيته، فضلاً عن أن يفخر بها

أو «يفلسفها» ويدافع عنها. وكانت النصرانيات واليهوديات من أهل الشام يلبسن قبل الحرب الأولى الملاءات الساترات كالمسلمات، وكلّ ما عندهن أنهن يكشفن الوجوه ويمشين سافرات، أذكر ذلك وأنا صغير. وجاءت مرة وكيلةُ ثانوية البنات إلى المدرسة سافرة، فأغلقَت دمشق كلها حوانيتَها وخرج أهلوها محتجّين متظاهرين، حتى روّعوا الحكومة فأمرتها بالحجاب وأوقعَت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلاّ وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالِماً جليلاً وكان أستاذاً لنا. ومرّت الأيام. وجئت هذه المدرسة أُلقي فيها دروساً إضافية، وأنا قاضي دمشق سنة 1949. وكان يدرّس فيها شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، فسمعت مرة صوتاً من ساحة المدرسة فتلفّتّ أنظر من النافذة، فرأيت مشهداً ما كنت أتصور أن يكون في ملهى فضلاً عن مدرسة، وهو أن طالبات أحد الفصول (وكلّهن كبيرات بالغات) قد استلقَين على ظهورهن في درس الرياضة ورفعن أرجلهن حتى بدت أفخاذهن عن آخرها. وكتبت في إنكار ذلك مقالة وعرضت له في أحاديث في الإذاعة، واجتمع رأي الشيخ ورأيي على أن بقاءنا في المدرسة بعد هذا لا يجوز. وكان ذلك آخر يوم من السنة المدرسية فلم أعُد إليها السنة التي بعدها. ألقى المنتدِبون ما حملوه من الشوك في طرقنا، ثم لم يكفِهم ذلك حتى أوحى إليهم شيطانهم بما هو أدهى منه وأمرّ وأبلغ في

الأذى وفي الضرّ، فألقوا بذوره في أرضنا، فلما نبت ملأ بلدنا وأصاب أذى شوكه أبناءنا وبناتنا؛ فكان هذا الاستعمار الجديد شراً من الاستعمار القديم، لأن ذلك يمثّله قوم ليسوا منّا ولا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا، وهذا يقوم عليه ويدعمه ويحرسه أبناؤنا. لذلك تجدون في كثير من البلدان أن الذي تمّ بعد جلاء جيوش المستعمرين أشنعُ وأفظع وأبشع ممّا كان قبل لمّا كانوا هم الحاكمين. ولست أبرّئهم ولا أدافع عنهم، وكيف وهم الذين غرسوا في أرضنا نبتة الفساد، وكيف وفي مدارسهم وعلى مناهجهم سيّروا أبناءنا وبناتنا في هذا الطريق؟ * * * ورجعت إلى عددَي «الرسالة» أقرأ من جديد مقالتَيّ المنشورتين فيها من أربعين سنة وأربعين يوماً، فأحسّ كأني أدرت إبرة المسجّل فظهر أمامي فِلْم كامل فيه فصول كثيرة وفي فصوله تاريخ طويل: مسلسل كله مآسٍ وفواجع وبطولات وتضحيات، بدأ يوم دفنّا استقلالنا الوليد في وادي ميسلون ورجعنا كما يرجع الأب الثاكل من جنازة ابنه الوحيد وقد ذهب من يديه كل شيء. ولكنا ما قعدنا، ما استلقينا على كراسينا، ولا هجعنا في سُرُرنا فنمنا نحلم بالجلاء، ثم صحونا فإذا الحلم قد صار حقيقة والأماني غدت وقائع ... لا، ولكنْ جالَدْنا وجاهدنا، على ضعفنا وقلّتنا وقوّة عدوّنا وكثرة جنده ووفرة عتاده. رأينا أياماً سوداً وليالي طوالاً لم يكتحل فيها جَفنٌ برقاد، وصبرنا على ما لا تصبر على

أكثر منه رواسي الجبال، فكان بعد الصبر النصر وبعد العناء والبلاء كان الجلاء. لذلك قلت في تلك المقالة في مجلّة «الرسالة» (¬1): يا أيها الذين عادوا من ميسلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتلّ وطغيانه ووحشيته، والصرح الذي أقاموه على عزائم سواعدهم وسقوه دماء قلوبهم هوى، والبلاد التي براها الله واحدة قُسمت فجُعلت دولاً، والوطني المخلص نُفي أو سُجن أو حُكم عليه ظلماً بالموت شنقاً، والخائن الملعون قد أُعطِي الرُّتَب والذهب ... ويا أيها الذين خرجوا على الظلم وعرّضوا أرواحهم للموت على شعفات الصخر من جبال اللاذقية إلى جبل العرب، وعلى السهول الفيح من أداني حمص إلى أعالي حلب، وعلى ثرى الجنّات من أرض الغوطة؛ لم يخشوا فرنسا حين كانت تخشاها الدول ويرهب بأسها الأقوياء. ويا أيها الذين نشؤوا في عهد الانتداب، فرأوا في كلّ مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي ومديرُ المدرسة تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك والوزيرُ صنم، وفي كل منطقة مستشاراً هو الحاكم وهو المنفّذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدوّ وعلى الجبال قلاعاً له قد وجّهَت مدافعها إلينا، إلى بلدنا، لتضربنا إذا أبينا الظلم أو طالبنا بحقّنا لا إلى الفضاء لتردّ عنّا الأعداء. ويا أيها الشهداء الذين قضوا بنيران العدوّ الباغي في ¬

_ (¬1) انظر مقالة «الجلاء عن دمشق» بجزأيها الأول والثاني، وهي في كتاب «دمشق» (مجاهد).

سبيل الله ثم في سبيل الحُرّية، هل تسمع أرواحكم دعائي يا أيها الشهداء؟ يا معشر العرب في قاصٍ من الأرض ودانٍ. إنّا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه وجلّ جلاله، فقد أكمل نعمته وأتمّ مِنّته، وأخرج الفرنسيين من الشام كله فلم يبقَ منهم أحد. اذهبوا الآن إلى المزّة وادخلوا القلعة (في دمشق)، وأمّوا الثكنة (القشلة) الحميدية فإنه لا يمنعكم جندي وجهه يقطع الرزق ولا يردّكم ضابط فرنسي ولا تحجبكم سلك (جمع سلكة) ذات أشواك. وسيروا في طريق الصالحية، فادخلوا قصر المفوَّض السامي الذي كان يتنَزّل منه وحي الضلال على قلوب الخوَنة المارقين من طُلاّب الحكم وعُشّاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلّة وعلى أبناء بلدهم فراعنة مستكبرين. ولِجُوا قصر المندوب الذي كان ينصبّ منه أمس الموت الزؤام على من يدنو من حماه، فاسرحوا وامرحوا حيث شئتم فالبلاد بلادكم؛ لا فرنسي ولا إنكليزي، ولا طلياني ولا روسي، ولا أشقر ولا أسود. ألا لا «مفوض سامي» اليوم ولا مندوب. لقد ذهبوا جميعاً، وما تركوا من جنّات زرعوها ولا عيون، ما تركوا إلاّ بيوتاً لنا كانت عامرة فجعلها حكمهم خراباً، وجناناً صيّروها مقابر، وضمائر نفر منّا كانت نقيّة فدنّسوها ... ذهبوا وما أورثونا خيراً قط. هذا قصر المفوض السامي الذي كان بالأمس يزعم أنه إله الأرض، تعالى الله ما من إله غيره. وكان كلّما نزَت في رأسه نزوة من حماقة جعلها قانوناً وحمل الناس عليها بسنان البندقية وفم

المدفع: قوانين ينقض بعضها بعضاً وتلعن أواخرها الأوالي (أي الأوائل)، ولا يحصيها عالِم ولا جاهل: "إن المفوض بناء وبناء ... يقرّر تعديل الجملة الثانية من الفقرة الأخيرة من المادّة 18 من القرار 1105 ل/ر ... " فلا يعرف جِنّي ولا إنسي ما هذه الفقرة ولا ما هذه المادّة ولا ما هذا القرار! لقد ذهب وأورثنا عشرة آلاف قرار مثل هذا. ذلك هو التشريع الفرنسي الغربي الذي يحسبه القردة المقلّدون أحسن من شرع ربنا، لأن عليه «الدمغة» الأوربّية. اليوم يوم الجلاء. اليوم يبكي رجال منّا كانوا يأكلون الطيّبات وينامون على ريش النعام من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب ويأكلون الخبز اليابس. اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين. اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلاّت «الاستخبارات» أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالجِراء (جمع جرو) في المزبلة بعدما مات الكلب. هؤلاء يبكون، ولكن الشعب كله يضحك اليوم وتضحك معه الدنيا. اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام ويضحك الليل بالأضواء والمصابيح. اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تُمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكّرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان. (إلى أن قلت): لقد ضاع حلمك يا غورو وتبدّد، وخابت

أمانيك يا ديغول، وحقّق الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة شهيد ميسلون. وسيحقّق الله أماني سعد في مصر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعمر المختار في طرابلس، وورثة عبد القادر في الجزائر، وجناح في الهند ... ولِمَ لا؟ وأهل سوريا التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلاّ قليلاً عن سُكّان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم أقلّ من مسلمي الهند. فتيهي يا دمشق واعتزّي، فلقد كنت عاصمة العرب في أوّل الدهر حين أنشئ فيك المُلك الضخم وأقيمت الدولة العظمى ورسا عرش بني أميّة في ظلّ راية الإسلام على ثراك، فطاولَت فروعُه النجمَ وأظلّت المشرق والمغرب وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمناً، وعدتِ اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، وكنت أول بلد عربي جلا عنه الأجنبي بعد أن غصب أرضه واستبدّ بحكمها، وأوّل بلد عربي أبطل الامتيازات الأجنبية التي كانت وصمة عار وشارة ذلّ وصَغار (والتي لا يعرف أكثر القُرّاء اليوم ما هي)، وأوّل بلد عربي ألغى الألقاب التي لم يعرفها العرب، إذ كان أصغر واحد فيهم ينادي عُمَرَ باسمه (ياعمر) وعُمَر يحكم إحدى عشرة دولة من دول هذه الأيام! في عمر الإنسان ساعات هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون متحدّرة في درك الماضي مسرعة إلى هوّة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تُنسى، مُشرِقة لا تغيب.

وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها ما قام لها بنيان ولا ثبت لها وجود. أيام قد عمّت بركاتها وشملَت خيراتها البشر جميعاً. أيام هي ينابيع الخير والحقّ والعدل في بيداء الزمان، وهي المفخرة لأمة أرادت الفخار. وما أكثر هذه الأيام الغُرّ في تاريخنا! وقد زعم العُداة أننا فرحنا به هذا الفرح لأننا أُعطِينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين إذ يطلب قرشاً فيُمنَح ديناراً. كلاّ، إننا لم نأخذ إلاّ الأقلّ من حقنا. إن الجلاء ليس عجباً وإنما كان العجب العجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال. العجب ألاّ نحكم نحن الأرض وقد خُلقنا من أصلاب من حكموها وورثنا القرآن الذي دانت لهم به الأرض. زعموا أن هذا الجلاء قد أتى بلا تعب وأننا لم نُرجف عليه بِخَيلٍ ولا رِكاب، ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنكليز ما جاء! كذبوا والله. أو فليخبروني: أجاهدَت أمّة على ضعفها وقِلّة عددها وعلى كثرة عدوّها وقوّته مثل ما جاهدنا؟ في مصر العزيزة سبعة عشر مليوناً، وفي أندونيسيا سبعون وفي الهند مئة (كان هذا سنة كتابة المقال قبل أربعين سنة)، ونحن أهل الشام لا نعدّ كلّنا -بَدْوُنا وحضَرنا، رجالنا ونساؤنا- أكثر من ثلاثة ملايين، وقد ابتُلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والملايين الأربعين والعدد والآفات. فاسألوا الفرنسيين: هل أرحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمسة مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارْن: أما أباد حملتَه على بكرة أبيها مجاهدون منّا لم يتعلّموا في مدرسة

حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كلّه فلم يعُد من الحملة بعد معركة المزرعة إلاّ مئتان وخمسون جندياً فقط. سلوا الغوطة عن معارك الزور وعمّا صنع حسن الخراط؟ سلوا النبك وجبالها وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة قُوّادنا الأبطال: سعيد العاص وسلطان الأطرش ومحمد الأشمر وعشرات وعشرات، إن لم أعدّهم اليوم فما يجهلهم أحد. أما ضرب الفرنسيون أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين في عشرين سنة؟ أما أحرقوا حيّ الميدان وهو ثلث دمشق ودمّروه، فلم ينهض من كبوته إلى اليوم (أي إلى يوم كتابة المقال)؟ أما أضرموا النار في جرمانة والمنيحة (المليحة) وزبدين وداريا وتلّ مسكين ودير سلمان وقُرى أخرى لا يُحصيها من كثرتها العدّ؟ بل سلوا شوارع دمشق وساحاتها عن إضراباتها ومعاركها ومظاهراتها. أما لبثَت في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مُضرِبة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون؟ فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمّر أو ضجر ... إلى آخر المقال، فالمقال طويل. * * * وسيقول بعض القُرّاء لقد تركناك في الهند وباكستان، فما بالك عدت إلى الشام والحديث عن الشام؟

ألا يقطع المرء رحلته ويعود إلى بلده إن شدّه إليها خبر أو دعاه داعٍ؟ وهل أكبر من هذا الخبر، خبر الجلاء في يوم ذكرى الجلاء؟ هذا هو عذري إن قطعت الكلام عن رحلتي ورجعت أتحدّث عن بلدي. على أن هذا الحديث لم يتمّ وله بقايا، سأُدلي بها وأعود إلى الهند وباكستان فأتحدث عنهما. * * *

دفاع عن الفضيلة (1)

-148 - دفاع عن الفضيلة (1) يا ليتني لم أذكر في الحلقة الماضية مدارس البنات والذي رأيناه في مدارس البنات! لقد نكأ ذكرُها عليّ جرحي الذي حسبته اندمل، وأيقظ ذكريات ظننتها ماتت فإذا هي حيّة تَلدغ، ولدغتها تُربِك وتكاد تُهلِك. إنه حديث طويل يقطر الألم من كلّ كلمة فيه، وما فيه كلمة إلاّ وهي حقّ وصدق. إنه تاريخ يُروى ليس حديثاً يُفترى، فهل أتكلم عن مدارس البنات أم أعود إلى سرد الذكريات؟ لقد انقطع خيط السبحة على كل حال وتناثرت حبّاتها، ولم يعُد يفيد نَظْمها من جديد. ولست أكره مدارس البنات ولا أنا مِمّن يبلغ به قصر النظر وضيق الفكر أن يحاربها، لأن طلب بعض العلم فرض على الرجال والنساء، لا فرق بينهما في شيء من الواجبات والمحرّمات ولا في شيء من الثواب والعقاب. مدارس البنات في الشام قديمة، ولقد قلت لكم إن عمّتي كانت أول فتاة تخرّجت فيها سنة 1300هـ، أي من مئة سنة

وخمس سنوات! أتدرون كيف كان الامتحان؟ كان الفاحصون من الرجال إذ لم يكن في الشام يومئذ من المتعلّمات من يمتحنّ الطالبات. نصبوا ستارة قعدَت وراءها التلميذة ومعلّمتها وأمامها لجنة الامتحان، وكان رئيسها مربّي الشام وأستاذ الجيل الذي كان قبلنا، الشيخ طاهر الجزائري، الذي كان له العمل الأكبر في افتتاح مدارس البنين والبنات والمكتبة الظاهرية التي تُعَدّ من أغنى المكتبات بالمخطوطات، والذي كان من أخصّ تلاميذه به وأقربهم إليه أستاذنا محمد كرد علي وخالي محبّ الدين الخطيب والشيخ سعيد الباني. ثم أخذ الطريق ينحدر والمصائب تتوالى. والمدارس التي أنشئت لحفظ البنات وتثقيفهن وتقويمهن، وكانت عنايتُها برؤوسهن تملؤها بحقائق العلم وبأفكارهنّ تقوّم طريقها إلى الفهم وبقلوبهنّ تملؤها بالإيمان وبالفضائل، صارت عنايتها بأجساد الطالبات! وبعد أن كانت مدارس البنات لا يدخلها معلم ولا فرّاش (إلاّ إن كان شيخاً كبيراً) صار معلموها من الشباب العُزّاب المتأنقين الحاسرين، أصحاب الشعور المرجَّلة والوجوه المحفوفة، وصارت تقيم حفلات للرجال تمثّل فيها البنات ويرقصن بالثياب القصيرة الرقصة الرياضية ويدبكن «الدبكة الوطنية»، ثم اخترعوا شرّ اختراع، وهو هذه الرحلات المدرسية التي يشترك فيها الجنسان. ولقد بدأ ذلك كلّه يوم الاحتفاء بالجلاء! المسلم يحمد الله على النعمة ويتلقّاها بالطاعة، ونحن قابلنا نعمة الله علينا بجلاء المستعمرين عنّا بمعصية ربنا. لامني أصدقاء لأنني أكتب عن الفرنسيين بقلم سِنّه حديد

يجرح ولا يداوي، فليطمئنّوا فإنني أريد اليوم أن أثني على الفرنسيين؛ لا لأنهم أحسنوا إلينا، ولا لأنهم عدلوا فينا ولم يغلبونا ظلماً على بلادنا ولم يستبدّوا بغير دليل فينا، بل لأن ما رأيناه بعدهم هوّن علينا ما قاسيناه منهم. إن العمى إن جاء بعد العَوَر جعل تصوّر العوَر نعمة، والمصيبة الكبيرة تهوّن ما كان قبلها من المصائب الصغار. على أن هذا الذي رأيناه بعدهم هو ثمرة غرسهم الذين غرسوه في نفوس أبنائنا، هو النبت الشائك السامّ الذي نثروا بذوره في أرضنا. إن الذي أقوله الآن بعد أربعين سنة قلته في يومه وكتبته وأعلنته. وقد كانت الصحف طليقة لا يقيّدها إلاّ قيد القانون ولا يسيطر عليها إلاّ قضاء القاضي، وكانت الأقلام حرّة تجول وتصول حيث تشاء كما تشاء، فكتبت في جرائد الشام، وكان أخي الأكبر وأستاذي وصديقي الأستاذ الزيات يفتح لي في «الرسالة» الواسعَ من أبوابها ويُلحِقني (وإن لم أكُن أستحقّ) بالكبار من كُتّابها، فكتبت فيها غداة يوم الجلاء مقالة كان عنوانها «إبراهيم هَنانو قال لي». وإبراهيم هَنانو هو الزعيم الوطني الذي لم تَعْلق باسمه ريبة ولم تخالط سيرتَه البيضاء بقعة سوداء. كان أحد الكبار من زعماء الشام، وكان أول من أعلن الثورة على الفرنسيين بعد ميسلون، فأقام دولة صغيرة لم تقوَ على محاربة الباطل أيام جولته فقُضي عليها. وإن كانت جولة الباطل لا تستمرّ وكانت العاقبة للحقّ وأهله.

كان لهذه المقالة دويّ في الشام كبير، وتناوشَتني فيها أقلام حاولَت أن تمزّق جلدي وتهتك عرضي لأنني -كما زعم أصحابها- شوّهتُ جمال يوم الجلاء بهذه الانتقادات. وأنا أكتب وأخطب من ستّين سنة كاملة، من سنة 1345هـ، أكسبني قلمي إخوة وأصدقاء وخصوماً وأعداء، فاتّخذ خصومي من هذه المقالة وما جاء بعدها مطعناً فيّ وقدحاً في وطنيتي، ونسوا أنني كتبت في نضال المستعمرين من المقالات وألقيت من الخطب والمحاضرات ما زاد على المئات، ووُلّيت رياسة لجنة الطلاب العليا (أي ما يُسمّى اليوم باتحاد الطلبة) مدّة سنتين من 1929 إلى 1931، يوم كان هؤلاء المنتقدون في ظهور آبائهم لم يخرجوا إلى الوجود أو في بطون أمهاتهم، أو كانوا أطفالاً يبولون في سراويلاتهم! ونسوا أني بذلت ما لم يبذلوا ولذلك فرحت بيوم الجلاء أكثر ممّا فرحوا، ولكن الفرحة لا تُنسي الشريف شرفَه ولا المسلم إسلامه ولا الرجل رجولته. كان عنوان المقالة «إبراهيم هَنانو قال لي»، ولم ينتبه أحدٌ إلى أنه كان قد مرّ على موت إبراهيم هنانو رحمه الله أحد عشر عاماً، فقد مات سنة 1935. قلت في أولها: هذا إنذار أستحلف كلّ قارئ من قُرّاء «الرسالة» في الشام أن يُحدّث به وينشره ثم يحفظه، فإنه سيجيء يوم تضطرّه أحداثه أن يعود إليه فيقول: يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليت ... ويومئذ لا تنفع «ليت» شيئاً، لأنها لا تردّ ما ذهب ولا ترجع ما فات.

وهذا إعذار إلى الله ثم إلى كُتّاب التاريخ، لئلاّ يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحة إنكار لهذا المنكر ولم يعلُ فيها صوت ناطق بحقّ، وإن كُتّابها وأدباءها حضروا مولد سنّة من ألعن سُنَن إبليس فلم يقتلوها وليدة ضعيفة، بل تركوها تكبر وتنمو حتى صارت طاعوناً جارفاً، حتى غدت ناراً آكلة، حتى استحالت داهية دهياء أيسر ما فيها الخسف والمسخ والهلاك. ونعوذ بالله من تذكير لا ينفع وإنذار لا يفيد. وبعدُ، فقد حدّثني صديق لي فقال: كنت أمس في مجلس، وكنّا نتحدث فيما كان يوم العرض يوم الاحتفاء بالجلاء من مناظر «الكشّافات» ومنظر «الأسير والعروس» حديث إنكار وأسف لِما كان، ونعجب كيف جاز على رجال هذا العهد الوطني وهم فيما كنّا نرى أهل الشهامة والمروءة والغيرة على الأعراض. وكان في المجلس الزعيم الجليل عضو مجلس النوّاب: إبراهيم بك هنانو. * * * وكتبت قصّة تخيلتها يتوهّم من يقرؤها أنها واقعة، على طريقة الأستاذ زكي مبارك لمّا كان يخترع مجالس لطه حسين وأحمد أمين يقوّلهما فيها ما لم يقولا ويضع على لسانيهما ما شاء هو من أقوال. على أن هذا القصّة ما جاء فيها إلاّ ما هو حقّ، إن لم يقُلْه مَن نسبتُه إليه فإنه كلام صحيح وفيه موعظة ونصح. قلت فيها على لسان واحد من أذناب الفرنسيين وأعوانهم مِمّن رفعوهم إلى المناصب العالية: لئن كُتب عليكم (والخطاب

للفرنسيين) أن تذهبوا فإنكم ستعودون عاجلاً ثم لا تذهبون أبداً. إني سأنتقم لكم وسأعدّ وحدي العدّة لعودتكم، سأصنع في ليالٍ معدودات ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر. سأريكم قوّتي. وليست القوّة أن تسوق على عدوّك العسكر اللجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوّة أن تأتيه باسماً مصافحاً، فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب. إني سأدسّ لهم دسيسة في يوم الجلاء ... لا أصبر والله حتى ينتهي العيد، لأنها فرصة إن لم أغتنمْها لم أكَدْ أجد مثلها. وأنا أعرَف بأهل بلدي (وإن لم يكن دينهم من ديني): إنهم لا يؤتَون بالقوة ولا تنفع فيهم، وقد جرّبتم ورأيتم، فما قتلتم منهم كارهاً لكم إلاّ وُلد عشرة هم أكره منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلاّ هدمتم معها ركناً من انتدابكم عليهم، ولا أشعلتم النار في حيّ لهم إلاّ كانت هذه النار حماسة عليكم في قلوبهم ونار ثورة تُتعِبكم. وهم لا يؤخَذون بالشُّبَه تلقى عليهم في دينهم، إلاّ قليلاً منهم. ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفنّ، لا يقبل ذلك إلاّ قليل منهم. وما جئتموهم بكتاب ظاهر فيه هدم لدينهم إلاّ أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم فهبّوا يدافعون، فإذا أنتم قد قوّيتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما يُنالون بالقوانين التي تُبطِل قرآنهم، وقد علمتم حينما جرّبتم في المغرب أن تأتوهم بالظهير البربري الذي أرجعتموه هنا لابساً ثوب «قانون الطوائف». ألا تذكرون ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم؟ ولا بالأموال التي تشترون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم،

لأن من هذه الضمائر ما هو كالوقف عندهم: لا يُباع ولا يُشترى ولا يوهَب. ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالُكم بعصيّهم، صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها. فقال له فلان الفرنسي: ومن أين تأتيهم أنت؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا؟ قال: نعم، ولو كنتم قد سمعتم مني ما عجزتم. إنّي آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلاّ ولجه. إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نسائهم، وأُلقِي الضعف والخوف فيهم فأفسد عليهم رجولتهم وأخرب أسرَهم، وأجعل جيشهم أخشاباً قد شُغلَت كل خشبة بهواها ولذّتها. إني آتيهم من باب الغريزة الجنسية الذي لم تدخل منه أمّة بغير زواج إلاّ أدخلَت معها النار التي تحرقها والتي لا تخرج أبداً منها. قال الفرنسي: أما أدخلناهم نحن من هذا الباب؟ أما قلنا لهم إن تعريض أجسام الشباب والشابّات للشمس صحّة لهم وقوّة، فأبوا وقالوا: كلاّ، إنه تعريص (بالصاد)؟ أما قلنا لهم إن هذا الحجاب همجية ووحشية ورجعية وإن التقدم والمدنية بالسفور؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات من النساء؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس؟ أما صنعت هذه المدارس أكثر ممّا صنعت مدرسة الفرنسيسكان؟ إننا لم نصل بعد ذلك كله إلى شيء. قال الآخر: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا استطعتُ أن

أضرب ضربة واحدة فقد ضمنت النجاح. وإني سآتيهم من طريق الوطنية فأقول: إنه يوم عرس الوطن، يوم الجلاء، يوم تختلط فيه الرجال والنساء ... إلى آخر ما جاء في هذه المقالة، ومن شاء أن يطّلع عليها وجدها في عدد «الرسالة» الذي صدر يوم الإثنين التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1365 هجرية (¬1). * * * فما الذي كان في ذلك اليوم حتى كتبت عنه هذا الكلام؟ كان أن دمشق التي عرفناها تستر بالملاءة البنتَ من سنتها العاشرة شهدَت يوم الجلاء بنات السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن تهتزّ نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة. وشهدَت بنتاً جميلة زُيِّنت بأبهى الحلل وأُلبِسَت لباس عروس، وركبت السيارة المكشوفة وسط الشباب. قالوا: إنها رمز الوحدة العربية. ولم يدرِ الذين رمزوا هذا الرمز أن ¬

_ (¬1) وهي في كتاب «مع الناس». ولست أدري لماذا وضعها جدي رحمه الله هناك، فقد كان ينبغي أن توضع في كتاب «في سبيل الإصلاح» لأنها به أليق وألصق (وما أكثر ما أحببت -لو كان الأمر إليّ- أن آخذ المقالة من هذا الكتاب من كتب جدي فأضعها في ذاك أو أعدّل ترتيب بعض الكتب ... لكنه أمر قد سبق به القول وفُرغ منه). وسوف تجدون أن المقالة الأخرى التي هي كالتتمّة لهذه (وهي «دفاع عن الفضيلة») والتي سيأتي خبرها في الحلقة الآتية من هذه الذكريات، هذه المقالة منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).

العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها. وكان في العرض مناظر كثيرة من أمثال هذا المنظر، قالوا إنها لوحات حيّة تعبّر عن الفرح والسرور! وأُخذت صور هذا كلّه فنُشرت في الجرائد وعُرضت في السينمات، فازدادت جرأة الناس على نقض عُرى الأخلاق، حتى رأينا صور ناس من كبارنا مع نسائهم عراة على سِيف البحر منشورة في المجلاّت! قالوا: إنه يوم النصر يجوز فيه ما لا يجوز في غيره. وكذبوا فيما قالوا، فإن المرأة التي تزلّ يوم العيد كالتي تزلّ يوم المأتم، والناس يزدرونها من غير أن يسألوا عن تاريخ زلّتها. وكان ممّا كتبت في «الرسالة»: ألا من كان له قلب فليتفطّر اليوم أسفاً على الحياء. من كانت له عين فلتبكِ اليوم دماً على الأخلاق. من كان له عقل فليفكّر بعقله، فما بالفجور يكون عِزّ الوطن وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تُحفَظ الأمجاد وتسمو الأوطان. فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسْر الحجاب والستر، إذا ظننتم ذلك من دواعي التقدّم ولوازم الحضارة وتركتم كلّ إنسان وشهوتَه وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبّة ما تفعلون، وستندمون -ولات ساعةَ مَنْدَم- إذا ادلهمَّت المصائب غداً وتتالت الأحداث، وتلفّتّم تفتّشون عن حُماة الوطن وذادة الحِمى، فلم تجدوا إلاّ شباباً رخواً ضعيفاً لايصلح إلاّ للرقص والغناء والحب. فاللهَ اللهَ للأمّة والمستقبل! إنّنا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات وهِمَم

تحمل الجبال، فلا تضيّعوا هذه العزائم ولا تُذهِبوا هذه الهمم، ولا تشغلكم لذّات نفوسكم عن حماية استقلالكم، فمَن نام عن غنمه أكلَته الذئاب. إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقّوها بالشكر والطاعة واحفظوها بالجد والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تهلك وتبيد. إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته، فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد. وكذلك تفعل الأمم الحيّة اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز، وما العهد عنها ببعيد؟ لقد كان نصفها في الكنيسة. فلماذا لا يكون احتفاؤنا بالجلاء إلاّ اختلاطاً وتكشّفاً وغناء ورقصاً، كأنه لم ينزل علينا كتاب ولم يُبعَث فينا نبيّ ولم يكمل لنا دين؟ إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنّا وترك فينا قنابل تتفجّر كل يوم، فتدمّر علينا أخلاقنا وأوطاننا واستقلالنا. إن كلّ عورة مكشوفة وكلّ فسوق ظاهر قنبلة أشدّ فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفى ضررها إلاّ على أحمق. فيا أيها الناس، لقد جلَت جيوشُ العدوّ عن أرضكم فأَجْلُوا من بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شبهاتهم، وعن مدارسكم مناهجهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم. وذلك هو الجلاء الحقّ. * * *

وازداد الانحدار وتتالت المصائب، وضعف أهل الدين بتنازعهم واختلافهم واشتغال علمائهم بفروع الفروع من أمر دينهم وغفلتهم عن الأصول التي لا تقوم الفروع إلاّ عليها، وخلا الميدان للذين يريدون أن يطبقوا فينا قانون الشيطان، قانون إبليس. وأوّلُ مادّة في هذا القانون كما تعرفون: «ينزع عنهما لباسَهما ليريَهما سوآتهما». فبعد أن كانت النصرانيات واليهوديات يتّخذن الملاءات، وبعد أن كانت دمشق تُغلِق حوانيتها وتخرج المظاهرات فيها لأن وكيلة ثانوية البنات جاءت سافرة عن وجهها، وصلَت الطالبات إلى ما رأينا من التكشف والاختلاط وتلك المنكَرات. إن أقوى الطاقات في الدنيا ما يسمونه «ردّ فعل»؛ فأنت حين تكبس بيدك على كفّة الميزان لا يظهر الأثر في الوسط وإنما يظهر في الكفّة المقابلة. هذا الانطلاق وراء اللذّات وهذا التحلل من قيود الدين والأخلاق دفع جماعة من الشباب من العامّة ومن الطلاب إلى إنكار هذا المنكَر، ولكنهم لم يرجعوا إلى مشورة أهل العلم ولم يقفوا عند آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وحسبوها فوضى يصنع كلٌّ ما يشاء ما دام يريد بينه وبين نفسه الخير، فانطلقوا يتعرّضون في الطرق للسافرات المتكشّفات، وهجموا مرة على سينما في وسط البلد ليس فيها إلاّ نساء (لأن دور السينما يومئذ كانت عندها بقيّة من حياء، فهي تخصّص أياماً للنساء وأياماً للرجال)، دخلوا عليهن فروّعوهن، فأعطوا بذلك أعداءنا وأعداء ديننا حُجّة علينا. ولذلك قالت العرب في أمثالها: «عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل».

الفرنسيون أقاموا في الشام ربع قرن فما تعرّضوا لعالِم من العلماء ولا لشيخ من المشايخ، ولكننا لمّا حكَمنا اتخذنا ممّا صنع جُهّالنا وسفهاؤنا حُجّة فحاولنا النيل من علمائنا ومن مشايخنا. حتى إن الشيخ محمد الأشمر، وهو أحد الصالحين الذين ثاروا على الفرنسيين وأبلوا في قتالهم البلاء المبين، وكانت داره حِمى لمن دخلها لم يجرؤ فرنسي أن يدنو منها فيدخل عليه فيها. فلما كان عهد الاستقلال وكان رئيس الوزارة الرجل الوطني ... سعد الله الجابري، وأخوه إحسان الجابري كان في أوربّا رفيقَ أمير البيان شكيب أرسلان وكان زميلَه في دفاعه عن بلادنا وعن ديننا. سعد الله الجابري هذا أمر باقتحام دار الشيخ محمد الأشمر وبسحبه منها إلى السجن! كما أسيء إلى كثير من الأفاضل والعلماء، فكتبت في «الرسالة» (عدد يوم الإثنين 6 شوّال 1365) مقالة عنوانها «دفاع عن الفضيلة»، خاف عليّ الأستاذ الزيات رحمه الله من تبعاتها فمحا اسمي (بموافقتي) من رأسها وكتب أنها لأحد الكُتّاب، ولكن الذي يضع فهارس الرسالة لم يتنبّه لهذا أو لم يخبره به الزيات، فوضع على غلاف الرسالة أن المقالة لفلان (أي لعلي الطنطاوي). وكان الأستاذ الزيات يحبّ الرفق والاعتدال ويريد ذلك من كُتّاب مجلّته، فيقصّ بموافقتهم من حواشيها إذا هي طالت ويقصّر من أشواكها إذا أوشكَت أن تؤذي بحدّها. فمنهم من كان يرضى بذلك ويوافق كارهاً عليه كالدكتور زكي مبارك، ومنهم من كان يأبى أن يُبدَّل في كتابته شيء ولا يرضى إلاّ أن تُنشَر كاملة

أو تُرَدّ كاملة، ومن هؤلاء الأستاذ سيد قطب رحمه الله وكاتب هذه السطور. لكنه لمّا رأى هذه المقالة جازت الحدَّ المعروف في الصراحة حذف منها، وكتب إليّ رسالة لا تزال عندي يبرّر فيها ما صنع. والمقالة طويلة والبقيّة في الحلقة القادمة. * * *

دفاع عن الفضيلة (2)

-149 - دفاع عن الفضيلة (2) هذا العنوان لم أضعه اليوم ولا اليوم كتبت هذه المقالة. إنها كُتبت ونُشرت في «الرسالة» يوم 6 شوال 1365هـ، أي من أربعين سنة. ولو كتبتها اليوم لرأيتها مقصّرة لا تصف إلاّ الأقلّ ممّا وصلنا إليه، أي ممّا رأيناه بعدها، أيام الوحدة مع مصر وما بعد أيام الوحدة. وإنْ مدّ الله في الأجل واتسع صدر الأخوَين الناشرَين وصدور القُرّاء، حدّثتهم حديث الخبير الصادق عمّا نراه الآن. ونعوذ بالله أن يأتي علينا يوم نرى فيه هيّناً سهلاً هذا الذي نراه الآن. وأنا لا أقصد بلداً بذاته، بل أتكلّم عن جميع البلدان، ومنها ما مسّه طرف من لهب هذه النار أو أصابه لفحة من حرّها أو أذى من دخانها. وإن كانت المملكة هنا لا تزال -بحمد الله- خيراً من غيرها، ولا يزال لواء الدين فيها مرفوعاً وصوته مسموعاً، ولكن على كل صحيح الجسد أن يتخذ أسباب الوقاية من المرض وأن يسأل الله النجاة منه. والدين لا يمنع من الأخذ بأسباب القوّة ومجاراة الأمم في ميدانها، ولا يحول بيننا وبين النافع من نتاج

الفكر ولا من ثمرات الحضارة. ومن عرف هذه البلاد قبل خمسين سنة كما عرفتها ورأى ما وصلَت إليه الآن، في كلّ ميدان، من غير أن تفرّط في شيء من عقائدها أو تدع كثيراً من فضائلها ومن سلائقها، أدرك أن من أراد الجمع بين التمسّك بالدين الذي يكون به النجاة في الآخرة، وبين أعلى درجات التمدن والحضارة التي يكون بها السموّ والفخار في الدنيا، وجده سهلاً ممكناً. فتحت عيني على الدنيا والعلماءُ في بلدنا (كما كانوا في أكثر بلاد الإسلام) هم قادة الناس وإليهم مرجع أمرهم، إن اعترضَتهم مشكلة في دنياهم رجعوا إليهم في حلّها، وإن كانت مسألة في دينهم طلبوا منهم حُكمها. لا كلمةَ فوق كلمتهم ولا رأيَ بعد رأيهم، لأنهم صدقوا مع الله وذلّوا بين يديه فأعزّهم الله في الناس حتى صدقوهم ومشوا وراءهم. أرادوا الآخرة فأعطاهم الله الدنيا والآخرة. عهدنا شيخ العلماء في سوريا، الشيخ بدر الدين الحَسَني، يدخل عليه في غرفته الصغيرة في دار الحديث الأشرفية الباشواتُ والولاة أيام الأتراك، والمفوضون والقُوّاد والجنرالات أيام الفرنسيين، فيخلعون نعالهم عند بابها ويقعدون بين يديه على بساطها، ويستمعون إليه وينفّذون ما يطلبه. وما كان يطلب لنفسه شيئاً منهم، بل كان يعظهم وينصحهم ويحثّهم على ما فيه مصلحة الناس. ولمّا استولى الجيش على جامع تنكز الكبير وجعلوه في

أيام الشريف فيصل بن الحسين مدرسة عسكرية، ثم ورثه منهم الفرنسيون فأبقوه على حاله، لم يحتَج استرداده منهم إلاّ لمسيرة الشيخ إليه ووراءه تلامذته، وعلى عاتقه ثقل الثمانين التي عاشها وفي صدره نور العلم والإيمان، فما هي إلاّ أن دخله عليهم حتى خرجوا منه وأخلوه. ثم داخل طائفةً من العلماء حبُّ الدنيا وطلبوا حظوظ نفوسهم قبل طلب رضا ربهم، فوكَلهم الله إلى نفوسهم، وتزاحموا على أبواب الحُكّام فصرف الله عنهم قلوب الناس. وبقيَت طائفة على طريق الحقّ، تطلب العلم لله وتؤدّي فيه حقّ الله، لكن الشرّ قوي من حولها. وازداد أتباعه فشغلوا الناس بالعاجلة ولذّاتها عن الآجلة ومكارهها، وهؤلاء العلماء ثابتون على الحقّ، ولكنهم يقيمون من حولهم جداراً من الكتب والحواشي ويعيشون في برج عاجي، يتنفسون هواء هذا القرن وعقولُهم وتفكيرهم في القرون المَواضي. ومنهم من هو خَرّاج وَلاّج، عارف بالدنيا وأهلها يدرك ظواهرها وبواطنها، ولكنه يحرص على إرضاء الحكام وموافقة العوامّ، وهذا لا يكاد يأتي منه خير. ومنهم من جمع خوف الله وجرأة القلب وطلاقة اللسان، فنزل إلى الميدان، يعلّم الجاهل ويقوّم المائل ويصلح الفاسد، ويؤدّي حقّ العلم عليه حين أخذ الله على العلماء أن يبلغوه الناس ولا يكتموه. ولمّا ابتُلينا بالاحتلال كان الذين قادوا النضال وأوصلوا

بلادهم إلى الاستقلال من هذه الطبقة من المشايخ والعلماء: الأمير عبد القادر الجزائري منهم، وعبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، والذين أيقظوا النُّوّام في مصر والشام: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، والذي فتح للناس باب الجهاد في فلسطين عزّ الدين القسّام، وأمثال هؤلاء. وكنّا كلّما قام فينا حاكم لا نرضاه أو مرّ بنا عهد لا نحبّه، كان أول من يعمل على إزاحة هذا الحاكم وإنهاء هذا العهد هم علماء الدين وخطباء المساجد وشباب الإسلام. نحن نخوض المعركة وغيرنا يأخذ المغانم: وإذا تكونُ كريهةٌ أُدعى لها ... وإذا يُحاسُ الحَيسُ يُدعى جُندُبُ ثم كَثُرَت الجنادب حتى لحسَت الحَيس كله، وحازت المآدب جميعها وأكلت ثمار الجهاد، والذين جاهدوا ينظرون بعيونهم من بعيد! في كلّ يوم يقوى أنصار الباطل ويزيدون ويقلّ دعاة الحقّ ويضعفون، وهذه سنّة الله في الكون: الفساد أكثر انتشاراً من الصلاح؛ حبّة برتقال عَفِنة تُفسِد صندوق البرتقال، ومريضٌ واحد ينقل مرضَه إلى مئات الأصحّاء وهم لا ينقلون إليه صحّتهم. وابتُلينا بالفرنسيين يوم كانوا يُعَدّون السابقين إلى الانطلاق والفسوق في أوربّا، وكانت باريس مباءة المتع ودار اللذّات يقصدها الناس لهذا من الآفاق. وإن كانت فيها السوربون وكان

فيها المجمع العلمي. فمشى إلينا داؤهم وانتقلت إلينا العدوى منهم، ولكن المرض لا تظهر آثاره من أول يوم، بل الجسم -بما أودع الله فيه من وسائل الدفاع- يصاول المرض ويقاوم الداء. فلما كان يوم الجلاء كانت مدّة تفريخ الجرثومة قد انتهت وأيام الحمل بالمرض قد تمّت، فوُلد هذا المولود الخبيث الذي حدّثتكم حديثه، وجاء من بعده إخوة له وأخوات، وكثروا وازدادوا كما يكثر نسل الشياطين و (الميكروبات)، حتى وصلنا إلى الذي أعرف وتعرفون. * * * ولكن تعالوا نحاسب أنفسنا. ألا نحمل شيئاً من وزر هذا الداء؟ ألم نُذهِب قوّتَنا فيما بيننا؟ ألم ننسَ أعداء ديننا من المُلحِدين والمكفّرين (المتسمّين بالمبشّرين) والفاسدين المُفسِدين وأذناب المستعمرين؟ ألم نَدَعْهم كلّهم ونشتغل بمعارك يثيرها تارة ناس من الأعداء يلبسون ثياب الأصدقاء يدخلون بيننا ليفرّقوا جمعنا، ويثيرها ويبعثها تارة أتقياء صالحون، ولكنّ في أبصارهم قِصَراً فلا يرون أبعد من مناخرهم، وفي عقولهم نقصاً فلا يقدّرون عواقب ما يفعلون؟ كم من المجادلات والمناقشات، كم كُتب من الرسائل والمقالات، كم نشأ من الأحقاد والأضغان بسبب صلاة التراويح في الشام مثلاً: هل هي عشرون ركعة أم هي ثمانٍ؟ والصلاة على الرسول بعد الأذان؟ والشيخ الذي كان يُصدِر رسائل «الإصابة» يصيب بها المسلمين وهم يردّون بمثلها وبأشدّ منها عليه وعلى

الصوفية والمتصوّفين؟ ومسائل من أمثالها لا حاجة إلى تعدادها، لأن العقلاء يحيطون علماً بها، والمغفّلين يندفعون فيها، والأعداء يفرحون بها ويضحكون علينا بسببها، ثم يُضرِمون نار الخلاف عليها، ينفخون فيها إن خمدَت ويمدّونها بالحطب إن ضَعُفَت، حتى أزحنا أنفسنا بأنفسنا عن مكان الصدارة، وتخلّينا بأيدينا عن موضع القيادة، فصار أمر المدارس مثلاً (وفيها بناتنا وأبناؤنا) بأيدٍ غير أيدينا، يتولاّها في بعض بلاد المسلمين مَن ليسَت غايته غايتنا ولا منهجه منهج ربّنا، ونفقاتها على الأحوال كلّها منّا! فهل سمع سامع في الدنيا بأعجب من هذا؟ الأولاد أولادنا والأموال أموالنا، ونحن الكثرة الكاثرة من الأمة، فعلامَ تُنفَق أموالنا على تكفير أولادنا وردّهم خصوماً لنا ولديننا ولأخلاقنا وأعراضنا؟ إنني حين أفكّر في هذا، وبما كان من تقصيرنا وتنازعنا حتى خرج الأمر من أيدينا، أقول: آه آه! أقتلعها من قرارة القلب، فتخرج ومعها لهب ودخان أسىً وحزناً على هذا الذي كان. * * * أعود إلى المقالة فأنقل إليكم فقرات منها، لأنها صارت تاريخاً وذكرى ولتروا كيف كنّا نكتب قبل أربعين سنة (¬1). جاء في عنوانها أنها كلمة صريحة لله ثم للوطن، شرحت فيها ما كان من عمل الشباب الذين هالهم ما رأوا من فشو التبرّج ¬

_ (¬1) المقالة منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).

والاختلاط بُعَيدَ الجلاء في دمشق، البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويردّون إليهم الناس، لأن ديار الشام لا تزال متمسّكة بدينها ولا يزال نساؤها بالحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها وكادت تصل إلى غايتها، ودُعاة الفجور ينظرون ويتحرّكون. لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية -مع الجهل بأحكام الدين والبعد عن استشارة العلماء المخلصين- بعضَ العامّة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها، وإلى التجوال في البلد ونصح كل متبرّجة ووعظها وزجرها. وقد أنكر العلماء والعقلاء ذلك عليهم فكفّوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يُرضِهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تَهدم عليهم عملَهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط، فاستغلّوا عمل هؤلاء العوامّ وأعلنوا إنكاره، وكبّروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا ويُبرِقون البرقيّات ويُرعِدون بالخطب. وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبّان الفاسقين على الستر والحجاب باسم «الحُرّية الشخصية» التي تمتّعهم بما وراء حدود الفضيلة من لذائذ محرمة. أيُخرِجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرّجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر، يا للعدوان على الحُرّية الشخصية التي ضمنها الدستور! أليسَت المرأة حُرّة ولو خرجَت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كلّ امرئ حُرّاً ولو نقب مكانه في السفينة فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها؟

كذلك فهم الحُرّيةَ هؤلاء الجاهلون، أو كذلك أراد لهم هواهم أو شاءت لهم رغباتهم وميولهم أن يفهموها. ودفعوا أكثر الصحفيين، فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلاّ في الدفاع عن هذه «الحُرّية»، وأثاروا بعض النوّاب في المجلس، فجرّب كل واحد منهم أن يتعلّم الخطابة في تقديسها. ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حامَوا عن الفضيلة فساقوهم إلى المحاكم سَوق المجرمين، وأدخلوهم السجون من غير مستند إلى قانون من القوانين، وجرعوهم كؤوس الذلّ، حتى صار مَن يذكر السفور بسوء أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى (¬1). وتوارى أنصار الفضيلة من هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء. وحسب أولئك أن الظفر قد تمّ لهم وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تُجبَر، فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الميدان ويمرحون. وكانت النتيجة أن انحطم السدّ فطغى سيل الرذيلة وعمّ، وامتدّ في هاتين السنتين أضعاف ما امتدّ أيام حكم الفرنسيين، وازدادت جرائم التعدّي على العفاف واستفحلَت، حتى رأت المحاكم من يعتدي على عفاف بنته أو أخته، أو على طفل رضيع! وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت «الحُرّية الشخصية» غرائزه فلم يجد إلاّ البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟ ثم ازدادت الجرأة حتى رأينا بعض مجلاّت دمشق تقلّد ¬

_ (¬1) وتولّى كِبْر ذلك سعد الله الجابري وكتلتُه، فسوّد به صفحته وأفسد وطنيته.

نظيراتها في مصر فتنشر صور العرايا، فيشتريها الشباب لهذه الصور، لأنه ليس فيها ما يُقرَأ فتُشترى من أجله. ثم امتدّ الشرّ حتى رأيناهم يعملون من الطالبات كشّافات يمشين في الطرقات بمثل لباس المجنّدات في الجيش الأمريكي (ولم نكن قد عرفنا الجيش الإسرائيلي، ولا كانت إسرائيل أزال الله عنّا رجس إسرائيل) بعد أن كانت دمشق لا تحتمل أن ترى الكشّافين الشباب بلباس يرتفع عن الركبتين، وحتى رأيناهم يقيمون معرضاً لأدوات تحضير الدروس التي صنعها المعلمون، فتُترك مدارس البنين كلها (ومنها الثانوية المركزية ببنائها الضخم وأبهائها الواسعة، وهي أصلح مكان للمعارض، وهي التي أقيم فيها معرض دمشق الكبير سنة 1936) وتُختار مدرسة البنات في طريق الصالحية. ثم يُفتتح المعرض بدعوة الرجال لمشاهدة فرقة من البنات (الكشّافات) يغنّين على المسرح ويأتين بحركات رياضية تُبدي للأعين الفاسقة المفتّحة أكثر ما يخفى عادة من أجساد فتيات نواهد، قد انتُقين عمداً أو مصادفة من جميلات الطالبات. ثم امتدّ الشرّ حتى رأيناهم يفتحون نادياً في قانونه أن العضو يجيء مع زوجته أو ابنته غير المتزوجة، وحتى شهدنا النفر الشيوعيين العُزّاب المستهترين الساكنين في المقاهي الخبيثة والخمّارات، أصحاب تلك البرقية الوقحة المعروفة، يتسلّمون شؤون المعارف ويسلّطون على الشباب والشابّات، فيبتدعون نظام المرشدات. وإنه لَنظام الضالاّت المُضِلاّت! ويسنّون الاختلاط في الحفلات، وينقلون دار المعلّمات من مكانها القديم المستور إلى دارة (فيلا) جديدة في شارع مُحدَث في ظاهر البلد مكشوفة

من جهاتها الأربع، لها طُنُف وشرفات دائرة بها، وأسرّة الطالبات تظهر من الطريق، فإذا نهضنَ من النوم رآهن مَن يمشي في الشارع بثياب المنام! ثم يدفعون خِرّيجات دور المعلّمات فيعملن حفلة خيرية، فلا يجدن لها مكاناً في دمشق إلاّ ... مرقص العباسية! ويطبعن في البطاقة أنه سيغنّي فيها فلان من فَسَقة المغنّين وترقص فلانة الراقصة المحترفة رقصاً بلدياً. ثم ... ثم ماذا؟ الله وحده يعلم ماذا يكون أيضاً، وإلى أين نسير، وإلى أين المصير. (هذا ما قلته يومئذ وقد عشنا حتى رأينا ماذا كان بعد هذا. وسيأتي حديثه إن شاء الله). وقد نزلَت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة، لا تصحو من واحدة حتى تحسّ بالأخرى، وهم يريدون منّا مع ذلك أن نسكت ولا نقول شيئاً لئلاّ نشوّه -كما زعموا- جمال العهد الوطني. كلاّ؛ إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة ويسود الحقّ ويُحفَظ العفاف. كلاّ ولا كرامة‍! إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو كانت غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرض ولا في الدين. إنها حياة هذه الأمة؛ لا تحيا أمّة بلا أخلاق. أفئن قامت فئة من العامّة بما لا يُرضى عنه وانتهكَت الحرمة التي تزعمونها لحرمكم الذي تدعونه، وهي السينما، وتجاوزَت على حياء الفاضلات «المطهّرات» من النساء المتبرّجات! نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟

(إلى أن قلت): ثم ما هذه الحُرّية التي طبّلتم لها وزمّرتم وهوّلتم وعظّمتم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة وإلحاداً بشرعة الديمقراطية؟ أهي حُرّية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة أن يحوّل مدرسته إلى ماخور؟ أهي حُرّية الفسوق والعصيان؟ أهذه هي الحُرّية المقدَّسة عندكم؟ إنكم يا أيها السادة بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسادكم. وإلا فخبّروني: أيّ أمة تصنع مثل هذا الصنيع؟ العرب؟ إن العرب أغيَرُ الناس على الأعراض، وإن كلمة العِرض في لسانهم لا تقابلها كلمة في ألسُن الأمم تُترجَم بها. المسلمون؟ إن الإسلام أمر بِغَضّ البصر وستر العورة ولَعَن الناظر إليها والمنظور. الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ الشباب في الملعب، فعلامَ تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء وفيه الرجال والنساء؟ وهو كالموسكي في مصر والشورجة في بغداد. إن الفرنسيين يُنشئون بيوتاً للهو واللذّة وبيوتاً للعلم، وأنتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذّة ولهو! وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند، فلما استلمتم أنتم الجيش كشفتم عن أفخاذهم! الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسَين في المدارس لمّا رأوا بالتجرِبة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وأنتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس. هل تعرفون ماذا يُسمّى الذي يجمع الجنسين من غير عقد زواج؟ لا أوجّه هذا الحديث للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا

عربي، لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأعراض. ومن ادّعى العربية ولم تكن له على العِرض غيرة ولم يغضب لحُرَمه فهو كذّاب دَعِيّ ليس بعربي. وسيقول عني ناس من القُرّاء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له، إنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء ونحن نريد أن نتقدّم إلى الأمام. وهذا كلام لا يُناقَش، إنما يُناقَش كلام مؤيَّد بحُجّة، إنما يُسمَع اعتراض قائم على منطق، إنما يُقرَع الدليل بالدليل. فهل في هذا الكلام حُجّة أو منطق أو دليل؟ أنا أدعو إلى مناظرتي كلَّ مخالف لي، على أن يكون في رأسه عقل وفي يده قلم أو في فمه لسان. أمّا الذين حفظوا كلمات فهم يردّدونها كالببغاوات لا يحاولون فهمها، فلا شأن لي معهم ولا وقوف لي عليهم. يقولون «رجعية». فما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعاداته (فما يمكن أن يُرجَع إلى زمان مضى). فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأوائل نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك الأخلاق مُصلِحاً أو مفسداً؟ هذه هي الرجعية عندنا؛ الرجوع إلى الدين. أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها، ويظفر الحزب الديني فيها بأكثر مقاعد المجلس النيابي، فلا يُنكِر عليها أحد ولا يتّهمها أحد بالتأخّر ولا يصفها بالجمود؟ (اذكروا أن المقالة منشورة سنة 1946) ونطلب نحن العودة إلى ديننا الحقّ فيقول السفهاء إننا متأخّرون جامدون؟ لا؛ هذا كثير. هذا كُفر بالمنطق وتعطيل للفكر. هذا شيء نستحيي منه أن يكون فينا من يقوله.

ونحن إذ ننتقد شيئاً نبيّن أضراره، فبيّنوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به ولو حملنا معه شيئاً من الضرر. ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شرّ محض، وأن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حُرّما. إنه لا بدّ في كل مناظرة من مبادئ يتّفق عليها الطرفان ليعودا إليها ويرتكزا عليها، وما المنطق إلاّ ردّ الفروع إلى هذه الأصول. فإذا كان المتناظران مختلفَين في كلّ شيء، يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضارّ، ويدّعي هذا أن اتّباع الدين واجب فيقول الآخر إنه ممنوع، ويرى هذا العمل على منع الفجور ويرى ذاك العمل على نشر الفجور، فكيف يمكن أن يكون بينهما كلام؟ فلنتّفق أولاً على الأصول: هل العفاف وقَصْرُ الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم هو شرّ؟ هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم هو شرّ؟ هل مراقبة الله وخوفه وتمسّك كل امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟ هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها. وإنه ليكون غروراً مني وازدراء للخصوم وللقُرّاء إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً، فحاولت إقامة البراهين على أنها خير، وأتعبت نفسي والقُرّاء في إثبات هذا الأمر الذي أظنّه ثابتاً عند العقلاء جميعاً. وإني أؤجّل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه وأبني المناظرة على هذه الأسس الثلاثة.

فتفضّلوا قولوا: هل هذا الذي أوصلتمونا إليه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيّعه علينا؟ هل يعمر بيوتنا أم يخربها على رؤوسنا؟ هل يُرضي ربّنا أم يُسخِطه علينا؟ هل يجعلنا أمة قوية أم هو يذهب بقوتنا؟ وإذا سلّمنا جدلاً بأن من الخير مشاركة الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء، فهل يُشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن يُنتخب لذلك الجميلات منهن لا النابغات ولا الذكيات، وإذا لبسن الثياب الطويلة والجوارب الساترة أيبَطل رواء الاحتفاء وتَذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحُجّة المشاركة في أعياد الجلاء؟ وإذا حَسُن أن نقوّي بالرياضة أجساد الطالبات فهل يُشترط لهذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟ لا والله. أحلفها يميناً غَموساً وأضعها في عنقي؛ إنكم لا تريدون الصحّة ولا الرياضة ولا المشاركة بالعيد، إنما تريدون التلذّذ بمرأى أجساد بناتنا باسم العيد والرياضة والصحّة. إنكم لصوص أعراض. ولكن ليس الحقّ عليكم؛ الحقّ علينا نحن آباء الطالبات والطلاّب. فنحن عميان لا نبصر، خُرس لا ننطق، حمير لا نغار. وإذا استمرّت هذه الحال فليس أمامنا إلاّ اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم. اللهمّ لقد بلّغت، اللهمّ لقد أنكرت المنكَر، اللهمّ لا تُنزل علينا لعنتك ولا تُحْلِلْ بنا غضبك. * * *

وبعد، فهذا نصّ المقالة بعد أن مسّتها يد الزيات رحمه الله، فليّنت من قسوتها وفلَّتْ من حدّها. صارت الآن ملكاً للتاريخ بعد أن مضى على نشرها أربعون سنة، قرأها الناس في كل بلد كانت تصل إليه «الرسالة» وتُقرأ الآن في كلّ بلد فيه مجموعات «الرسالة». خرجت من نطاق الأدب الذي يقول فيه الناقد: ليت الكاتب قال كذا أو سكت عن كذا، ودخلت في التاريخ. والمؤرّخ لا يُقال له: أحسنت فيما قلت أو أسأت، ولكن يُقال: صدقت فيه أو كذبت. والذي رأيناه بعدها يهوّن علينا ما شكوناه فيها. وإن مدّ الله في العمر أوردتُ ما بقي في ذهني من خبره، وإنه -مع الأسف- خبر يؤلم الصديق المؤمن ويسرّ العدو الفاسق، والشكوى لله من قبلُ ومن بعد. أما الذي نالني بسببها من أذى الألسنة والأقلام ومن بطش الرؤساء والحُكّام، فأحتسب ثوابه عند الله، وأرجو أن يتقبّل الله دعوات أهل الخير التي دعوا لي بها لمّا قرؤوها. * * *

لمحات من أسلوب الاستعمار

-150 - لمحات من أسلوب الاستعمار قال شاعرنا العربي من أكثر من ألف وخمسمئة سنة: وأعلَمُ عِلمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِ لأن دون الغد ستاراً كثيفاً فلا يستطيع أحدٌ أن يطّلع عليه. ولكن أمامنا أمارات ربما أرشدَت إلى بعض ما يكون فيه؛ فأنت حين ترى قافلة السيارات تحمل أهل القرية وأثقالهم، تعرف من اتجاهها أين هو مقصدها. والمدارس هي الإشارة التي تعرف منها إلى أين يكون اتجاه الأمّة وكيف تكون حالها في غدها. والمدارس في المملكة عمرها نصف قرن أو ستّون سنة، أُسِّسَت على التقوى من أول يوم لأنها قامت بأيد مؤمنة في ظل حكومة مؤمنة، وكانت كالبناء في الأرض الخلاء، لا يحتاج بانيه إلاّ إلى شقّ الأخدود ووضع الأساس ورفع الأركان والجدران، كما يريد ويشتهي، وإن عرض له رأي جديد كان سهلاً عليه التعديل أو التبديل.

أمّا المدارس في الشام فهي كالدار القديمة، التي مرّت عليها الأيام وتوارثها الآباء عن الأجداد، وربما ورثها الأجداد عمّن قبلهم. تعاورَتها الأيدي وتبادلَتها المُلاّك، وكل مالك لها يزيد فيها أو ينقص منها أو يبدّل في هندستها، حتى اجتمعَت فيها الهندسات، فكان بيتٌ منها كأنه مسجد فيه الكتب وغرفة منها كأنها ملهى فيها المحرّمات. حتى لم يعُد أكثرها يصلح للبقاء، ولا يجدَّد إلاّ بهدمه ونقل أنقاضه وإخلاء أرضه وإقامة الجديد عليها، أو بترقيعه وإصلاحه بمقدار ما يمكن الإصلاح والترقيع. كانت المدارس في الشام أصنافاً ثلاثة: المدارس الأهلية، والمدارس الأميرية (الحكومية)، والمدارس النصرانية. أما المدارس النصرانية فقد فُتحت لأهلها ولم يكن لأبنائنا مكان فيها، ولكنها امتلأت على مرّ السنين بأبناء المسلمين بحُجّة تعلّم اللغة الأجنبية. وهذه الحُجّة الواهية التي لا تَثبت للنظر ولا للتمحيص قد جرّت علينا شراً كبيراً. أمّا المدارس الأهلية فكانت هي الأقوم سبيلاً والأكثر عدداً، وكان يملكها آحاد من الناس، ما للحكومة دخل في وضع مناهجها ولا في إدارتها ولا في اختيار معلّميها وأساتذتها. وكانت تحرص على تلقين الطلاّب العلوم الإسلامية وتعويدهم على أداء الواجبات والبعد عن المحرّمات، ولكنها كانت تسلك في التربية وفي أساليب التدريس أسوأ السبل؛ تقدّمَت الدنيا وارتقى التعليم فيها وهي في مكانها، لا تشعر بهذا التقدم ولا تحسّ هذا الارتقاء. وكانت الشدّة والقسوة هي الطريقة المختارة فيها، وكان

الفَلَق (التي تسمّيها العامّة الفلقة أو الفلكة) وعصا الخيزران هما عنوان تربية الأولاد. وكانت هذه المدارس درجات: أدناها «الخُجَة». والخجة امرأة تعلّم في بيتها، يأتون إليها بالأطفال لتحفّظهم قصار السور أو تلقّنهم حروف الهجاء، وتكون غالباً أمّية أو شبه أمّية، شمّت رائحة العلم ومشت في طريقه خطوة واحدة. وربما وُجدَت «الخجة» على شيء من المعرفة والإدراك، وذلك قليل. فقد كان عندنا في حيّ الصالحية في دمشق خجة عندها شبه مدرسة أولية، فيها أكثر من مئة وعشرين تلميذاً مقسومين إلى ثلاث شعب، يقعدون على مثل مقاعد المدرسة ويدرسون مثل ما يدرسه تلاميذ المدرسة. وأرقى من الخجة «الكُتّاب». ولي تجرِبة فيه كتبت عنها كثيراً من المقالات، ولكني نسيت أن أودعها هذه الذكريات (¬1). أدخلني جدي إليه قُبَيل إعلان الحرب الأولى وأنا طفل ما أحسب أني جاوزت الخامسة إلاّ قليلاً، فلبثت في هذا الكُتّاب من بعد صلاة الظهر إلى أن كان الانصراف بعد العصر، ساعتان أو ثلاث ساعات مرّ عليها الآن ثلاث وسبعون سنة، وكلّما تذكّرتها أحسست الرعب الذي أصابني فيها والألم الذي دخل عليّ منها والشقاء الذي استهللت به حياتي العلمية. فماذا يكون مبلغ العذاب الذي مرّ عليه أكثر من سبعين سنة ولا تزال مرارته في قلبي، ولا أزال كلّما ذكرته كأنني أراه أمامي؟! ¬

_ (¬1) من شاء فليقرأ مقالة «في الكُتّاب» المنشورة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

وفوق ذلك مدارس ابتدائية منظَّمة، عرفتها تلميذاً ثم علّمت في أكثرها. وأقدمها وأشهرها مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني. ولي عنه كتابات كثيرة، ويوم مات كنت أحترف الصحافة وكنت محرّراً في الجريدة الكبرى في دمشق، فكتبت عنه، فقال لي أحد الإخوان: أتشغل أعمدة الجريدة في الكتابة عن شيخ كُتّاب؟ ولم يدرِ أن شيخ الكُتّاب هذا كان من أساطين النهضة في دمشق. كان جندياً مجهولاً في معركة الإيمان والكفر والعلم والجهل، لبث سبعين سنة يعلّم الأولاد، فاجتمع في سجلاّته اسم التلميذ وأبيه من قبله وجدّه من قبلهما ووالد جده! وكانت مدرسته أولاً عند باب الفرج (¬1)، أحد أبواب دمشق السبعة، وكلّها باقٍ إلى الآن إلاّ باب النصر الذي كان في رأس سوق الحميدية. ثم انتقلت إلى المدرسة الجَقْمَقيّة، وهي من أجمل الأبنية الأثرية في الشام، جدّدَتها وأصلحَتها وأعادتها إلى رونقها وزارةُ الأوقاف بإشراف دائرة الآثار، ولكنها تركَتها خالية ليعجب منها السياح ويزورها الزائرون. ثم انتقلت إلى المدرسة الجوهرية. وقد علّمت في هذه المدارس كلّها. ومن المدارس الابتدائية «الأمينية» التي كان مديرها وصاحبها الشيخ شريف الخطيب، وهو ابن خالتي. وقد كنت عنده تلميذاً، ثم صرت عنده معلّماً. والمدرسة الريحانية التي ورد ذكرها في كتاب أستاذنا كرد علي رحمه الله «المعاصرون»، فندب مجمع ¬

_ (¬1) في المناخلية، وهما بابان: باب على السور الخارجي وباب على الداخلي، وهما باقيان.

اللغة العربية أحد الناس للإشراف على طبعه وتصحيحه، فوضع في ذيل الصفحة حاشية تقول إن ذلك سَبْق قلم من كرد علي وإنها قرية الريحانية التي هي في جنوبي الشام قرب القدم. هذا الرجل الذي وكّلوه تصحيح الكتاب كان يرفع الصواب الذي أثبته كرد علي ويضع الخطأ الذي توهّمه هو! والمدرسة الريحانية قديمة، أُزيلَت لمّا افتتح الشارع الكبير الموصل إلى دار أسعد باشا العظم. وقد عرفتها وأنا صغير، وكان القيّم عليها الرجل العجيب صاحب النوادر، الشيخ عبد الجليل الدرة، الخطيب الطلق اللسان، الحاضر الدمعة متى شاء، الذي يبكي في خطبته ويستبكي الناس عندما يريد، كأن في عينيه صنبوراً يفتحه فيقطر الدمع منه! أمّا قرية الريحانية فليست جنوبي الشام كما قال هذا المصحّح العلاّمة، بل هي في شماليها قرب دوما التي أمضيت سنين من عمري قاضياً فيها (¬1). ولست الآن في مجال الكلام على مدارس الشام ورجالها، وإنما تكلمت عنها صلة للحلقتين السابقتين لأبيّن موقف المشايخ وأهل الدين منها وما أنكروه عليها، ومبلغ ما جاهدوا وعملوا على إصلاحها. * * * وكانت عندنا ثلاث ثانويات أهلية كبيرة رؤساؤها أو مديروها كلهم من المشايخ: الكاملية، وكانت تُدعى حيناً المدرسة العثمانية، ¬

_ (¬1) انظر الاستدراك على هذا التعليق في أول الحلقة 152 من هذه الذكريات (مجاهد).

وكان صاحبها ومؤسّسها ومديرها الرجل الذي له الصدارة في الشام بين المربّين وبين السياسيين وبين المصلحين، الشيخ كامل القصّاب الذي شارك في وضع أساس التعليم في المملكة هنا. والثانوية التجارية التي كان أبي مديرها، والتي مر الكثير من الكلام عنها. والثانوية الثالثة هي الكلّية العلمية الوطنية، وكان مديرها الدكتور منيف العائدي الأستاذ في كلّية الطبّ، ولكن رئيسها ومؤسّسها هو الشيخ أبو الخير (محمد خير) الطبّاع. ثم خَلَفه الشيخ راشد القوّتلي، أحد العلماء الوجهاء الأغنياء الصلحاء. أما المدارس الأميرية (الحكومية) فكان أقدمها وأشهرها مدرسة الملك الظاهر عند قبره في مدرسته الأثرية، التي تقابل العادلية الكبرى التي فيها مجمع اللغة العربية. ثم كان في دمشق بعد الحرب الأولى خمس مدارس ابتدائية (وكانت المدرسة تُدعى «الأنموذج»)، وهي أنموذج الملك الظاهر، وأنموذج البحصة، وأنموذج المرجة، وأنموذج الميدان، وأنموذج المهاجرين. وكان عندنا مدارس أولية أشهرها مدرسة الحبّال في أدنى القَيْمريّة، وكانت قديماً للشيخ محمد المبارك والد شيخنا الشيخ عبد القادر، وكان مِمّن تعلّم فيها أستاذنا محمد كرد علي. والمدرسة الريحانية والمدرسة السباهية. وكان شيخ المعلمين الأستاذ سعيد مراد، وزميله في مدارس البنات الشيخ محيي الدين الخاني، والأستاذ عبد الرحمن السفرجلاني (ابن الشيخ عيد). وكان يدرّس في هذه المدارس

الابتدائية كثير من الأساتذة الأعلام، كشيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار والشيخ الدكتور رفيق السباعي وشيخنا الشيخ حامد التقي، وآخرون ربما رجعت إلى الحديث عنهم. وكان يدرّس فيها من الشباب إخواننا أنور العطار وسعيد الأفغاني وسليم الزركلي وجميل سلطان وزكي المحاسني وأمجد الطرابلسي وأمثالهم. وكل واحد مِمّن ذكرت في صدري عنه ذكريات وأنباء لو كتبتها لجاءت في صفحات كثيرة، ولكان منها تاريخ للمعلّمين في الشام. وكانت هذه المدارس تديرها أيامَ الأتراك مديرية المعارف في الولاية، وأشهر مدير لها هو هاشم بك. ثم لمّا ذهب الأتراك آلَ أمرُها إلى وزير المعارف اسماً والمستشار (الفرنسي) فعلاً. وكان ركنا وزارة المعارف الأستاذ شفيق جبري والأستاذ مصطفى تمر، وكان أمر المحاسبة للأستاذ مصطفى القبّاني، وكان رئيس الديوان هو عبد النبي القلعي. وقد سبق الكلام أن رجال وزارة المعارف كلهم لا يجاوزون أحد عشر رجلاً، وعند المستشار أربعة أو خمسة: رئيس ديوانه (ولا أزال أذكر اسمه وهو إسبر زمباكوس)، وكان الترجمان عنده ميشيل السبع. وكلهم من النصارى، لأن الفرنسيين لا يثقون إلاّ بهم ولا يطمئنّون إلاّ إليهم، وإن جاؤوا بمسلمين فإنما يجيئون بمثل جميل الألشي وبهيج الخطيب. وكانت للمعارف ثانوية واحدة للبنين هي «مكتب عنبر» وأخرى للبنات في طريق الصالحية، عند قبر عَرْنوس. يلحق بكل منهما دار للمعلّمين، يشاركنا طلابها في سائر الدروس وينفردون

عنّا في مادّتَي التربية وأصول التدريس، وربما تلقّوا معلومات في الصناعات. * * * قلت لكم إن للمدارس الأهلية معايب، ولكنها لها في مقابل هذه المعايب مزايا، من أبرزها العناية بالعلوم الإسلامية من التوحيد والتجويد والتفسير والفقه والأصول والحديث والمصطلح. وإن كان الحرص على استظهار المعلومات أكثرَ من حرصهم على إفهامها، وكانوا يلقّنون التلاميذ أحياناً ما لا تتّسع له مداركهم. فلما جاء الفرنسيون كان أول ما صنعوه أن جمعوا العلوم الإسلامية كلها في درس واحد سمّوه درس الديانة، ثم جعلوا عنوانه التربية الدينية (في مقابل التربية الرياضية للجسم، والتربية الفنّية، أي الموسيقى والغناء والرسم). هذا، والتربية شيء غير التعليم، وإن كان أحدهما لا يُغني عن الآخر ولا بُدّ من جمعهما. وجعلوا لذلك كلّه ساعة واحدة في الأسبوع، أي أنهم أعطوه مثل الذي يُعطى للرسم وللموسيقى وللرياضة! فما الذي يمكن أن يتلقّاه التلميذ في ساعة واحدة من هذه العلوم كلها؟ ولماذا لم يجعلوا مثلها للرياضيات بأقسامها، وهي الحساب والجبر والمثلّثات والهندسة المسطحة والهندسة الفراغية والهندسة النسبية؟ أو للطبيعيات بعلومها: الفيزياء بأنواعها والكيمياء بأقسامها والحيوان والنبات؟ هذا ما لبثنا أكثر من أربعين سنة ونحن نقوله لهم، فلا يستجيب لنا أحد ولا يريد أن يفهم عنّا أحد.

ثم ابتدعوا بدعة ظاهرها تنظيم إداري لا اعتراض لنا عليه، بل لا شأن لنا به، ولكن باطنها محاربة الإسلام وإضعافه في نفوس الأطفال. هي أن يتسلّم معلّمٌ واحد الصفّ (أي الفصل) كلّه بدروسه كلّها، فيدرّس الدين والعربية والرياضيات والطبيعيات والرسم والموسيقى وكل ما يُكلّف الطلاّب بتلقّيه. وكان بين المدرّسين ناس من النصارى وناس من المسلمين بالاسم البعيدين عن الإسلام بالفعل وبالعقيدة وبالسلوك، وهم شرّ من غير المسلمين وأبعد عنّا منهم، فكانت النتيجة أن يُكلَّف تدريس القرآن مَن لا يؤمن به، فيُهمِله وينفق الساعة في درس آخر غير القرآن. وقد وقع في أول الاحتلال أن كُلِّف معلم نصراني في بيروت بتدريس السيرة وتاريخ الصحابة. وكان مفتي بيروت (إن صحّ ما أذكر) الشيخ مصطفى نجا رحمة الله عليه، فذهب إلى المفوضية وطلب مقابلة المفوض السامي، فلما دخل عليه رحّب به وسأل الترجمان عمّا يريده فقال له: إن عندي شاباً مسلماً مطّلعاً على ديانتكم وعلى تاريخ كنيستكم وسِيَر قِدّيسيكم، فأنا أطلب منكم أن تجعلوه معلّماً في المدارس المسيحية الكَنَسية ليدرّس أبناء النصارى. فعجب المفوض السامي وسأل الترجمان: هل الشيخ يجدّ أم هو يمزح؟ فقال الشيخ: إنني أطلب ذلك جاداً. فقال له المفوض: كيف تريد أن نسلّم أبناء النصارى إلى معلّم لا يؤمن بدينهم؟ فقال المفتي: هذا ما جئت من أجله؛ جئت لأسأل: كيف ترضون أن نسلّم أبناءنا إلى معلم يعلمهم ديننا وليس دينه من ديننا ويكفر بما نؤمن به؟

وقد نشأ عن ذلك أمور عجيبة، إذا عدت يوماً وكتبت ذكرياتي عن المعلّمين وعن المدارس رويت الكثير ممّا أحفظ منها. من ذلك أنه كان عندنا في طرف حيّ العقيبة مدرسة أولية فيها معلّمان فقط، وهما شيخ وخوري (أي قسيس)، إذا خرجا من المدرسة فمشيا معاً في السوق في ذلك الحيّ الشعبي المسلم توجّهَت إليهما الأنظار وصِيغَت عنهما النكت. الشيخ بجبّته وعمامته والخوري بثوبه وقلنسوته! وكان الشيخ هو الشيخ قاسم القاسمي، الأخ الأصغر لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي، وكان الخوري والد رفيقنا في التعليم وفي كلية الحقوق أفرام عين. ثم ابتدعوا بدعة أخرى كانت أشدّ علينا من الأولى وأنكى فينا منها، هي أنهم لم يُدخِلوا دروس الدين في الامتحان. وأكثر الطلاب إنما يدخلون المدارسة للشهادة لا للعلم ويحرصون على النجاح في الامتحان أكثر من حرصهم على الفائدة من التعلم، فكانت النتيجة أنْ أهمل التلاميذ درسَ الدين. ولماذا يدرسونه والعلم به لا ينفعهم والجهل به لا يضرّهم، لأن غايتهم النجاح والشهادة؟ ولقد سعينا سعياً حثيثاً دائباً في سنين متطاولة متعاقبة حتى استطعنا أن نجعل له ساعتين في الأسبوع بدل الساعة الواحدة، ثم أُلغِيت هذه الساعة الثانية وعاد كما كان. والثالثة أن الفرنسيين أضعفوا العربية بأن قرنوها بالفرنسية، وجعلوا التلميذ من حين دخوله المدرسة ابنَ ستّ سنين يبدأ

بتعلّم «A B C» الفرنسية مع «أب ت» العربية. والجاحظ يقول: ما جمع أحدٌ لغتين إلاّ أدخلَت إحداهما الضيم على أختها. وإن كنّا لا نسلم للجاحظ ما قال ونعرف من الناس من أتقن ألسناً كثيرة ولغات متعددة، وكان فيها كلها السابق المجلّي. صار يبدأ الولد بتعلّم الفرنسية حين يبدأ بتعلّم العربية. والإنكليز والفرنسيون رسموا لتعليم لغاتهم خططاً ووضعوا لها أساليب وصنعوا لها مرغّبات تستهوي التلاميذ الصغار، لم نكن نملك يومئذ (أي قبل ستين سنة) مثلها، فكانت النتيجة أن قَوِيَت الفرنسية على حساب العربية. وإن كان من الحقّ أن نذكر ما لهم كما نذكر ما عليهم. إن الفرنسيين -رغم هذا- كانوا يهتمّون باللغة العربية أكثر من اهتمام مَن جاء بعدهم، ولقد قلت لكم إننا كنّا نقرأ كتاب قواعد اللغة العربية لحفني ناصف وإخوانه في الصف السابع، أي في السنة الأولى من الدراسة المتوسطة، وهذا الكتاب يحوي من القواعد أكثر ممّا يحويه شرح ابن عقيل، وإنه يكفي الكاتب والأديب إذا وعاه وحفظ ما فيه، فضلاً عن الطالب أو معلّم الابتدائي. وإن كل غلطة في الإملاء كان يخسر التلميذ من أجلها درجتين من عشر درجات، أي أن من يخطئ خمس خطيئات بمواقع الهمزات وأمثالها من الخطيئات الكبار بالإملاء (أي من مثل ما نقرؤه الآن لبعض من يُقال إنهم أدباء) يأخذ صفراً، ومن أخذ صفراً في الامتحان في مادّة من الموادّ لم ينفعه أن يأخذ الدرجة الكاملة في المواد الأخرى كلها وكان مصيره الرسوب حتماً.

ومنعوا الكلام باللغة العربية في الفُسَح القصيرة بين ساعات الدروس زعماً منهم أنهم يقوّوننا بذلك على تعلّم اللغة الأجنبية. وتعلّم اللغة الأجنبية من أشدّ ما دخل به علينا إبليس. ونحن لا نُنكِر فائدة هذا التعلّم ولكن نُنكِر المبالغة فيه وشدّة الحرص عليه، وأن نُضيع في سبيله لغتنا أو مقوّمات حياتنا، وأن نعطيه رُبع أو خُمس الساعات الأسبوعية ونَدَع الباقية للعلوم كلّها. واستحدثوا قطعة من الخشب أو المعدن تُسمّى «السينيال» (ومعنى «السينيال» العلامة). فكان التلميذ الذي يحملها يريد التخلّص منها، كمَن يشتري فاكهة فيجد فيها عقرباً، فماذا يصنع إلاّ أن يُلقي الفاكهة ويتخلّص منها ويبعدها عنه حتى لا تلسعه العقرب؟ كان حامل السينيال يتجوّل بين التلاميذ، فإذا سمع من يتكلّم العربية دفع السينيال إليه، ومَن حانت ساعة الدرس وهي معه ناله بسبب ذلك أذى. فكنّا -من أجل ذلك- نتحامى أن ننطق الفرنسية. خُيّل إلينا أن من الوطنية ألاّ ننطقها وألاّ نتعلّم الحديث بها، فنشأت كما نشأ غيري، أقرأ كتب الأدب الفرنسي فأفهمها، ثم إذا أردت أن ألقي جملتين أو أقول كلمتين انعقد لساني ووقفت، كما وقف حمار الشيخ في العقبة. والرابعة أنهم حاربوا التاريخ الإسلامي، فكان الواحد من أبنائنا، بل لقد كان رفاقنا لمّا كنّا نتعلّم أيام الفرنسيين في أوائل عهدهم بالانتداب في المدارس، كان إخواني يعرفون من تاريخ فرنسا وتاريخ نابليون ومن جاء بعده من ملوك فرنسا ومن كان

قبل الثورة من ملوكها ومن أخبار حكوماتها أكثر ممّا نعرف من تاريخ أجدادنا (¬1). ولم أقُل إنني كنت أجهل ذلك مثل جهلهم لأنني قرأت بنفسي من صغري كتباً من كتب التاريخ، مررت على صفحاتها كلها، ما فهمته منها استوعبَته ذاكرتي وما لم أفهمه جزت به. فلم أكُن بتاريخ الإسلام بمثل جهل الرفاق، وإن كنت في العلم بتاريخ فرنسا مثلهم. بل أنا لا أزال إلى الآن أعرف التاريخ الفرنسي من أوله إلى آخره وأعرف الثورة الفرنسية الكبرى وما كان فيها يوماً بعد يوم وأروي الكثير من أخبار رجالها. * * * هذا ما صنعه الفرنسيون: أضعفوا العلوم الإسلامية، وجاؤوا باللغة الفرنسية وزاحموا بها اللغة العربية، وضيّعوا التاريخ الإسلامي ووضعوا مكانه تاريخهم حتى نشأ أولادنا على جهل بتاريخنا. هذه كلها، ويقابلها أمر لعلّه كان أشدّ علينا وآلم لنفوسنا وأسوأ عاقبة فينا، هو العمل على نزع حجاب الطالبات وعلى تعويد النشء على الاختلاط. وكان ذلك ميدان نزاع طويل وجهاد مرير، وعمل دائم من المشايخ ومن ورائهم جمهور الأمّة المسلمة في الشام، والداعين إلى هذا المنكر والعاملين عليه. وسيأتي إن شاء الله بعض خبر ذلك في الحلقات المقبلات. * * * ¬

_ (¬1) انظر مقالة «أبناؤنا وتاريخنا» في الجزء الثاني من كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

إفساد التعليم والأخلاق على الطريقة الفرنسية

-151 - إفساد التعليم والأخلاق على الطريقة الفرنسية جاءتني رسالة من رفيق زركلي، الطالب في السوربون، يقون إنه قرأ في الحلقات الأخيرة من ذكرياتي حملة قاسية على رجال الرعيل الأول في سوريا، من أمثال هشام الأتاسي وشكري القوّتلي وفخري البارودي وسعد الله الجابري، ولم يقرأ لي كلمة واحدة على غيرهم مِمّن عدا على العقائد فأفسدها، وعلى الأموال فغصبها، وعلى الأعراض ... وجوابي أن من ذكر من الزعماء كنت أعمل معهم وأمشي وراءهم وأئتمر -أيام كنت أقود الطلاب من خمس وخمسين سنة (أي سنة 1931) - بأمرهم. ما كنت عدوّهم ولا أنا بالكاره لهم، ولكنّ لهم عيوباً. ما ادّعوا لأنفسهم ولا ادّعى أحدٌ أنهم كانوا مبرَّئين من العيوب معصومين من الذنوب. وأنا أدوّن ذكرياتي، أروي فيها ما رأيت وما سمعت، أذكر عيوبهم كما أذكر محاسنهم، لا بغضاً لهم ولكن نصحاً لغيرهم، وكذلك يصنع من يكتب التاريخ، لا يصوغ قصيدة في المدح.

كان هؤلاء كثوب أبيض به بقع من الزيت والطين والأوضار، فأنا أشير إليها وأدلّ عليها لتُزال فتعود بيضاء نظيفة، أو لئلاّ يصيب صاحب الثوب النظيف بقع مثلها. وربما كان في الناس مَن ثوبُه كله وضر وزيت وطين ما فيه بقعة بيضاء نظيفة، فلا يفيد معه الإشارة إلى وسخ ثوبه ولا إلى بيان عيبه، لأن الثوب كله أوساخ وهو كله عيوب. أعود إلى حديثي. قلت إن الفرنسيين كانوا أشدّ عناية بلغتنا وأحرص عليها ممّن جاء بعدهم. وهذا حقّ، ولكن ليس الفضل لهم فيه وإنما لأولئك الغُيُر (جمع غيور) على العربية الذين كانوا يدفعون الفرنسيين إلى العناية بها ويخوّفونهم عواقب إهمالها، وكانوا يصنعون ذلك حباً بها ودفاعاً عنها وحفاظاً على القرآن الذي أُنزِل بها. من أمثال سليم الجندي وعبد القادر المبارك ومحمد البِزم وعبد الغني الباجِقْني، وطبقة بعدهم من أمثال ياسين طربوش وعبدالرزاق الباجقني، وإخوان لهم وأقران لا أُحصيهم الآن. ورفيقنا سعيد الأفغاني الذي تسلّم أمر العربية في جامعة دمشق أكثر من ربع قرن، فكان له ولمن معه عمل ظاهر في الدفاع عنها. حتى إنه ألزم الطلاّب (وفيهم غير المسلم) دراسة القرآن باعتبار أنه كتاب العربية وهم يدرسون العربية، وأنه النص الأوّل الذي يُعتمَد فيها عليه ويُرجَع إليه. ثم جاءت طبقة جديدة من تلاميذه كان منها راتب النفّاخ الذي بلغ بالعلم بالعربية مرتبة ما نالها إلاّ قليل، ومازن المبارك، وعاصم البيطار، ومن قبلهم عبد الرحمن الباني، ومعهم أو من

بعدهم عبد الرحمن الباشا. هؤلاء على اختلاف أزمانهم وتفاوت أسنانهم، وأمثال هؤلاء من إخوانهم، هم الذين حفظ الله بهم العربية في الشام. وقد نسيت عاملاً آخر هو الأستاذ كرد علي، والمجمع العلمي الذي أسّسه سنة 1920 فكان أبا المجامع العربية كلها، ومَن كان معه مِن رجال المجمع: الشيخ عبد القادر المغربي والأستاذ عزّالدين التنوخي والأستاذ عارف النكدي، وأمثال هؤلاء. ثم مَن جاء بعدهم من المَجْمعيّين: شكري فيصل وشاكر الفحّام وعبدالكريم اليافي وعدنان الخطيب. والعامل الثالث أساتذة المعهد الطبّي (أي كلّية الطبّ) الذين قاموا بما قعدَت عنه الجامعات والمجامع، فعرّبوا على مدى نصف قرن جميع مصطلحات العلوم الطبّية: الأساتذة الأطباء حسني سبح رئيس مجمع اللغة العربية الآن، وحمدي الخياط وجميل الخاني وصلاح الدين الكواكبي ومرشد خاطر وشوكة الشطي، وأمثال هؤلاء المجاهدين الأفاضل. وتمشي اليوم على الألسنة كلمات صارت ملكاً للناس جميعاً وعُدَّت من اللغة العامّة، وأنا أعرف تاريخ الكثير منها وشهدت مولده. فكلمة «عبقرية» من وضع الشيخ عبد القادر المغربي ترجمة لكلمة «جيني» الفرنسية، وكلمة «فيزياء» وكلمة «برمائية» من وضع التنوخي، وكلمة «عفوي» ترجمة للفظ الفرنسي «سبونتانيه» من وضع سليم الجندي (وفي مصر يقولون «تلقائي» بدلاً من عفوي). وكلمة «هاتف» للتلفون و «سيارة» و «درّاجة» وُضعت في أوائل

النهضة العربية. وكان أسبق البلاد إلى هذا التعريب الشام أي سوريا، ثم العراق، ثم حمل العبء الأكبر مجمعُ اللغة العربية في القاهرة. وكان في مجمع دمشق أوائل العهد بالانتداب الفرنسي لجنة دائمة لتعريب المصطلحات والأسماء، وأذكر أن شيخنا المبارك مرّت معه في الدرس إحدى هذه الكلمات فلم نتنبّه لها، فقال: إن هذه الكلمة كلّفت الدولة مئة ليرة ... يوم كانت مئة الليرة راتب وكيل وزارة. يا سقى الله تلك الأيام ويا ما أطيب ذكراها، يوم كنّا نراجع في لسان العرب ونحن في السنة الأولى من المرحلة المتوسطة، ونقرأ مقالات الكبار كالرافعي والعقّاد والمازني وطه حسين، فنأخذ عليهم كلمة وضعوها في غير موضعها أو خالفوا فيها عن طريقها. سمعنا في شعر شوقي كلمة «حنايا» ففتّشنا المعاجم فلم نجد إلاّ «أحناء» فأنكرناها عليه. وأنكرنا على خير الدين الزركلي سنة 1925 قوله «سوريا الشهيدة» لأن الفصيح أن يُقال سوريا الشهيد لا الشهيدة، فعلنا ذلك بإرشاد مشايخنا وأساتذتنا الذين قوّموا ألسنتنا وألزمونا حفظ الشعر الجاهلي والإسلامي (الذي لا يُحتَجّ باللغة إلاّ به) والرجوعَ إلى الكتب الكبار. ألا تعجبون إن قلت لكم إني كنت أخطب ساعة ارتجالاً وأنا شابّ فلا يزلق لساني ولا يزلّ بكلمة ولا آتي بلحن، فصرت الآن بعد هذا العمر كله يسبق لساني أحياناً إلى الخطأ، فإذا سمعته عند إذاعته تحسّرت على نفسي وواريت خجلاً وجهي.

كان الفضل في حفظ العربية لهؤلاء وأمثالهم، لا إلى الفرنسيين. * * * أما الجانب الآخَر من المصيبة (الذي وقفت في آخر الحلقة الماضية عنده) فهو نزع حجاب البنات، والسعي الدائب لاختلاط الشبّان بالشابّات، حتى كُشفت العورات وصار بعض المدارس كالمراقص والملهيات، وصار الرقص (لا الرقص الرياضي، بل الرقص العادي) مادّة من الموادّ المقرّرات تُجبَر على تعلّمه الطالبات! إي والله العظيم، ما أقول إلاّ ما وقع، لا أسير وراء خيالي ولا أفتري على الناس الكذب. ولم نصل إلى هذا في يوم واحد، بل كانت خُطّة مرسومة؛ كانت فصلاً من كتاب محاربة الإسلام. لقد حاقت بالإسلام مصائب وحلّت به نكبات: الردّة التي كانت بعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، حيث رجع أكثر العرب عن الاتّباع الكامل للإسلام، فمنهم من تبع متنبّئاً كذّاباً وترك الدين الحقّ، ومنهم من أراد أن يهدم ركناً من الأركان التي يقوم عليها بنيان الإسلام فيمنع الزكاة. وظنّ بعض خصوم الإسلام أنه انتهى، ولكن الإسلام عاد بحمد الله أقوى ممّا كان. ثم جاءت سلسلة طويلة من المصائب التي تعرفونها، وما أنشأت هذا الفصل لبيانها ولكن أشير إليها لأذكّركم بها: الفتن

الداخلية التي أثارها ابن سبأ، اليهودي المتنكّر بلباس الإسلام. ثم الحروب الصليبية، وهجمات المغول والتتر، وما تعرفون من أمثال ذلك، وأمثالُه كثير. ولكن الإسلام كان ينتفض فيُلقي عنه ما علق، ويشفى ممّا أصابه، ويعود قوياً محفوظاً بحفظ الله. أمّا الحرب التي تواجه الإسلام الآن فهي أشدّ وأنكى من كل ما كان؛ إنها عقول كبيرة جداً، شريرة جداً، تمدّها قُوى قوية جداً وأموال كثيرة جداً، كلّ ذلك مسخَّر لحرب الإسلام على خُطَط مُحكَمة، والمسلمون أكثرهم غافلون. يجدّ أعداؤهم ويهزلون، ويسهر خصومهم وينامون. أولئك يحاربونهم صفاً واحداً، والمسلمون قد فرّقت بينهم خلافات في الرأي ومطامع في الدنيا. يدخلون علينا من بابَين كبيرَين حولهما أبواب صغار لا يُحصى عددها، أمّا البابان الكبيران فهما باب الشبهات وباب الشهوات. أمّا الشبهات فهي كالمرض الذي يقتل مَن يصيبه، ولكنّ سريانه بطيء وعدواه ضعيفة. فما كلّ شابّ ولا شابّة إذا أُلقيَت عليه الشُّبَه في عقيدته يقبلها رأساً ويعتنقها. أمّا الشهوات فهي داء يُمرِض وقد لا يقتل، ولكنه أسرع سرَياناً وأقوى عدوى؛ إذ يصادف من نفس الشابّ والشابّة غريزة غرزها الله وغرسها لتُنتج طاقة تُستعمل في الخير، فتنشئ أسرة وتُنتج نسلاً وتقوّي الأمّة وتزيد عدد أبنائها، فيأتي هؤلاء فيوجّهونها في الشرّ، للّذّة العاجلة التي لا تُثمِر. طاقة نعطلها ونهملها ودافع أُوجد ليوجَّه إلى عدوّنا لندافع بها عن بلدنا، فنحن

نطلقها في الهواء فنضيعها هباء، أو يوجّهها بعضنا إلى بعض. هذا هو باب الشهوات، وهو أخطر الأبواب. عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلّوه، وأول هذا الطريق هو الاختلاط. بدأ الاختلاط من رياض الأطفال، ولمّا جاءت الإذاعة انتقل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات. ونحن لا نقول إن لبنت خمس سنين عورة يحرم النظر إليها كعورة الكبيرة البالغة، ولكن نقول إن من يرى هذه تذكّره بتلك فتدفعه إلى محاولة رؤيتها. ثم إنه قد فسد الزمان حتى صار التعدّي على عفاف الأطفال مُنكَراً فاشياً ومرضاً سارياً، لا عندنا، بل في البلاد التي نَعُدّ أهلها هم أهل المدنية والحضارة في أوربّا وأميركا. كان أعداء الحجاب يقولون إن اللواط والسحاق وتلك الانحرافات الجنسية سببها حَجب النساء، ولو مزّقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها ورجعتم إلى الطريق القويم. وكنّا -من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا- نصدّقهم، ثم لمّا عرفناهم وخبرنا خبرهم ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة. إنْ كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ فخبروني: هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجّبات الحجاب الشرعي؟ فكيف إذن نرى هذا الشذوذ منتشراً فيهم حتى سنّوا له قانوناً يجعله من المباحات؟ ثم إن أصول العقائد وبذور العادات ومبادئ الخير والشرّ إنما تُغرَس في العقل الباطن للإنسان، من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الستّ الأولى من عمره. فإذا عوّدنا الصبيّ والبنت

الاختلاط فيها، ألا تستمر هذه العادة إلى السبع والثمان، ثم تصير أمراً عادياً ينشأ عليه الفتى وتشبّ الفتاة، فيكبران وهما عليه؟ وهل تنتقل البنت في يوم معيّن من شهر معيّن، من الطفولة إلى الصِّبا في ساعات معدودات، حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب؟ أم هي تكبر شعرة شعرة، كعقرب الساعة تراه ثابتاً فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه؟ فهو إذن يمشي وإن لم ترَ مشيه. فإذا عوّدنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم؟ ثم سلَّموا التعليم في المدارس الأوّلية لمعلّمات بدلاً من المعلّمين. ونحن لا نقول إن تعليم المرأة أولاداً صغاراً أعمارهم دون العاشرة محرّم في ذاته. لا، ليس محرّماً في ذاته، ولكنه ذريعة إلى الحرام وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام، وسدّ الذرائع من قواعد الإسلام. والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير ولا يحسّ إن نظر إليها بمثل ما يحسّ به الكبير، ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكرته فيُخرجها من مخزنها ولو بعد عشرين سنة. أنا أذكر نساء عرفتهنّ وأنا ابن ستّ سنين قبل أكثر من سبعين سنة، وأستطيع أن أتصور الآن ملامح وجوههن وتكوين أجسادهن! ثم إن من تُشرِف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياتَه كلّها، يظهر في عاطفته وفي سلوكه وفي أدبه إذا كان أديباً. ولا تبعد في ضرب الأمثال، فهاكم الإمام ابن حزم يحدّثكم في كتابه العظيم الذي ألّفه في الحب «طوق الحمامة» حديثاً مستفيضاً في الموضوع.

خلق الله الرجال والنساء بعضهم من بعض، ولكن ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب. فمَن طلب الرحمة والمودّة واللذّة والسكون والاطمئنان دخل من الباب، والباب هو الزواج. ومن تسوّر الجدار أو نقب السقف أو أراد سرقة متعة ليست له بحقّ، ركبه في الدنيا القلق والمرض وازدراء الناس وتأنيب الضمير، وكان له في الآخرة عذاب السعير. فما الذي صنعناه؟ إن للأعراض لصوصاً كما أن للأموال لصوصاً، ولصوص المال أخفّ شراً وأقلّ ضراً من لصوص الأعراض. وهم يحومون دائماً حول بناتنا، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتحموا علينا بيوتنا إلاّ إذا صار الأمر فوضى، وصار «حاميها حراميها»، وعاد الناس كوحش الغاب. ففكَّروا وقدَّروا واستوحوا شياطينهم، فوصلوا إلى الرأي: وهو أن يدخلوا علينا من طريق المدارس. فكيف دخلوا من طريق المدارس؟ إن لذلك قصّة طويلة الذيول عريضة الحواشي، أعرفها كلها ولكن لا أستطيع الآن أن أرويها كلها، لذلك أسرد اليوم العناوين وأعود يوماً إلى المضامين. بدؤوا بإدخال المدرسين من الرجال على البنات بحُجّة فقد المدرّسات القادرات. وكان المدرّسون أولاً من أمثال الشيخ محيي الدين الخاني والأستاذ أديب التقي البغدادي والأستاذ محمد علي السراج، وممّن درّس فيها حيناً شيخنا الشيخ بهجة البيطار وأنا. ثم فُتح الباب للشباب، ومن الشباب قِلّة هم أصلح وأتقى لله من

الشيوخ الكبار، وأكثر الشباب من المَستورين الذين لا يُعرَف عنهم إقبال على المعصية ولا تمسّك قوي في الدين. ومنهم من هو فاسق يُخفي فسوقه، ومنهم من يجاهر به ويُعلِنه ويجد من الناس من يعجب بهذه المجاهرة ويصفّق لهذا الإعلان. ثم احتجّوا بالرياضة، فكشفوا من أجلها العورات واستباحوا المحرّمات. ثم اتخذوا الحفلات السنوية طريقاً إلى ما يريدون، يصنعون فيها ما لا يجرؤون عليه في غيرها. ولمّا كنت أُدرّس في ثانوية البنات سنة 1949 دُعيت إلى هذه الحفلة السنوية فلم أذهب. وكانت الطالبات (وكلهن بالغات كبيرات) يأتين المدرسة بالثوب الرسمي الساتر، وكُنّ يحتجبن في درسي ودرس الشيخ بهجة. فلما كان يوم الحفلة -وقد جئت المدرسة لبعض المعاملات- رأيت الطالبات في الثياب العادية، أي التي يُذهَب بها إلى الأعراس؛ أي أنني رأيتهن متكشّفات بأبهى زينة! فنصحت من سلّمَت عليّ وانصرفت عائداً. فلما انقضت الحفلة ومرّت عليها أيام أهدت إليّ إحدى الطالبات ظرفاً كبيراً فيه أكثر من ثمانين صورة ملوّنة للبنات أُخذت في الحفلة. والذي صوّرها رجل أجنبي عنهن، ليس أباهن ولا أخاهن. ثم رأيت هذه الصورة في محلّ هذا المصوّر (ومحلّه على طريقي الذي أجتازه كلّ يوم) معروضة في واجهة المحل! ثم اخترعوا نظام المرشدات (وهو مثل نظام الكشفية للأولاد) وصرن يذهبن في رحلات قصيرة في قُرى دمشق. ثم

جاءت المصيبة التي أنست ما قبلها من المصائب، وهي نظام «الفُتُوّة»، أي إلباس الطالبات لباس الجند وتدريبهن على حمل السلاح. لماذا؟ وهل انقرض الرجال حتى نقاتل بربّات الحِجال؟ ولمَن تُترك إدارة البيوت وتربية الأطفال؟ لماذا والشباب يتسكّعون في الطرقات ويزدحمون على أبواب السينمات، فندع الشباب لهذا ونقاتل أعداءنا بالبنات؟ قالوا: أنتم رجعيون متأخّرون جامدون. ألا ترون اليهود كذلك يصنعون؟ أتكون الفتاة اليهودية أشجع من العربية؟ ولو أنهم قرؤوا ما نقله الدكتور محمد علي البار (جزاه الله خيراً) في كتابه عن النساء المجنّدات في الجيش والشرطة في أميركا وأوربّا لعضّوا الأنامل ندماً، وبكوا بدل الدموع دماء على أنهم جعلوا أئمّتهم اليهود. تقول العوامّ (وفي بعض ما يقولون حكمة بالغة وحق بيّن)، يقولون: «المال الداشر يعلّم الناس السرقة». ذلك لأن كلّ نفس تميل إلى المال، وأكثر وأقوى من الميل إلى المال الميل إلى الجمال. وهؤلاء الذين سلّمناهم بناتنا (ومنهم من لا تعصمه زوجة ولا يردعه دين ولا يمسكه خوف من الله والدار الآخرة)، هؤلاء تدفعهم غرائزهم إلى هذا الذي فعلوا، ولا يزالون دائبين ليصلوا لأكثر ممّا نالوا. فأين حُرّاس هذا الجمال المعروض؟ أين الآباء والأولياء لهؤلاء البنات؟ لو جاؤوا يسرقون منهم أموالهم لغضبوا لأموالهم وهبّوا يدافعون عنها يستميتون في سبيلها، فما

لهم لايغضبون لأعراضهم ولا يعملون على حمايتها؟ * * * لم يبقَ في الميدان إلاّ المشايخ. والمشايخ لم يكونوا صفاً واحداً إلاّ أياماً قليلة، ولا يزالون مختلفين. وهذه حقيقة يقطع ذكرُها القلبَ أسفاً وحزناً. ليس المشايخ على قلب رجل واحد، منهم الصوفي والسلفي وأتباع المذاهب والآخذون رأساً من الكتاب والسنّة والإخوان المسلمون وخصوم الإخوان المسلمين، وأتباع كل شيخ يتنكّرون للشيخ الآخر. هؤلاء هم الإسلاميون العاملون، هذه حالهم، أمّا المشايخ الذين يَنظرون: كلّ حاكم ماذا يريد، فيفتّشون له في الكتب عمّا يؤيّد ما أراده ويجعلون ذلك ديناً، وأما المشايخ الموظفون الذين أهَمّتهم وظائفهم (أي رواتبهم) فلا يحرصون إلاّ عليها ولا يبالون إلاّ بها، هؤلاء وأمثالهم لا أتكلّم عنهم ولا أمل لي فيهم. كان المشايخ الباقون في الميدان يجتمعون فيتشاكَون ويتباكون ثم لا يجدون (وأنا واحد منهم، يُقال عني كلّ ما أقوله عنهم) لا يجدون إلاّ أن يجمعوا صفوفهم فيراجعوا الرئيس أو الوزير، فلا تنفعهم المراجعة شيئاً. ويعلنون النصح للناس، ويجهرون بكلمة الحقّ من فوق المنابر، فيخرج الناس من صلاة الجمعة فيتحدّثون بما سمعوه ويُثنُون على الخطيب ويدعون له، ثم ينغمسون في حمأة الحياة فينسون ما قاله وما سمعوا. * * *

معركة دروس الديانة في المدارس في الشام

-152 - معركة دروس الديانة في المدارس في الشام لقد نسيت الكثير من ذكرياتي، ولكن ليس كل ما تخطّيته قد نسيته. لقد كنت كالسائح في الأرض، يرى عجائبها ويزور مدنها ويقف على آثارها ويستمتع بجمالها، قد خَطّ له خطاً يمشي في رحلته عليه، فيمرّ على بلد فيقولون له: لو تيامنت قليلاً لرأيت ما تحبّ رؤيته، فيميل إلى اليمين. فإذا رأى ما أعجبه رغب في غيره، فتحوّل عن طريقه واتخذ له طريقاً آخر، وهذا الآخر عدل به إلى ثالث ... كذلك صنعت في كتابة هذه الذكريات. بدأت بدايات تركتها بلا نهايات. تكلّمت عن نقلي قاضياً إلى محكمة دمشق ووصفت ما أحدثت في معاملاتها الإدارية، ثم تركتها وشرعت أتكلّم عن المؤتمر الذي حضرته، وهو مؤتمر القدس سنة 1953، ثم فتحت سيرة رحلة المشرق التي مشينا فيها إلى الهند وسنغافورة وآخر أندونيسيا، فلم أكَد أصل إلى كراتشي وأشرع بالحديث عنها حتى حلّت ذكرى الجلاء، فتكلمت عن الجلاء وما جرّه هذا الكلام الذي لم أنتَهِ منه إلى الآن.

وكان قد وقع لي خلال ذلك أحداث كثيرة تستحقّ أن تُدوَّن: منها وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية (وهو أول قانون في البلاد العربية كلها شامل لأحكامها جامع لمسائلها)، وسفرتي من أجله إلى مصر وإقامتي فيها، وعودتي خلال هذه السنة إلى دمشق وخوضي معركة الانتخاب فيها. وما كان في تلك السنة من استلامي أشهراً طويلةً الإشراف على تحرير مجلّة «الرسالة»، وما كان من المعارك فيها، كمعركة الرافعي والعقّاد بين العريان ومحمود شاكر وسيد قطب، التي شاركت فيها فأصابني من سيد رحمة الله عليه وأصبت منه. ثم معركة «القصص في القرآن» التي أثرتها على خلف الله وأستاذه الشيخ أمين الخولي، الذي وقفت معه من أجلها أمام المحكمة. وأمور أخرى كثيرة، أنوي أن أعود إليها فأصل ما قطعت منها، وأسأل الله أن يُعينني على ذلك. وتعليق آخر هو إنصاف للمشرف على طبع كتاب «المعاصرون» لأستاذنا كرد علي واعتذار له. فلقد خطّأته لمّا قال إن الريحانية جنوبي دمشق وأكّدت القول إنها في شماليها عند دوما، فخبّرني ولدي وصهري زوج بنتي، زياد الطباع، أنهما اثنتان: مزرعة في الجنوب تُسمّى «حوش الريحانية» (والحوش عندنا هو المزرعة أو العزبة)، وقرية صغيرة كما قلت أنا في الشمال. ولذلك تنتهي المباراة بـ «التعادل بلا أهداف». * * *

عودة إلى موضوع المدارس: القاعدة عند الحَنَفية أن «الشروع مُلزِم»؛ فمن شرع في نافلة لم تُفرَض عليه وجب أن يُتِمّها لشروعه بها. وأنا مذهبي في الأصل حنفي، نشأت عليه وتفقّهت فيه، ولكن لا ألتزم به الآن التزاماً كاملاً بل أتبع الدليل الأقوى من الكتاب والسنّة حين أتوثّق من قوّة الدليل. لذلك أكمل الحديث عن المدارس الحكومية. لقد مشت هذه المدارس على غير الجادة واتجهَت غير الاتجاه الذي يوجب علينا دينُنا أن نتجه إليه، والمشايخ وأهل الدين دائبون على إنكار منكَرها ومحاولة إصلاحها. حتى إن منهم من يئس منها يوماً من الأيام فدعا إلى مقاطعتها وإخراج الأولاد منها، وفتح مدارس لهم تنشّئهم على ما يريده الشعبُ الذي ينفق على هذه المدارس، وربُّ هذا الشعب الذي يريد منّا أن نتبع دينه الحقّ الذي ننجو به من العذاب يوم القيامة. وكان ذلك سنة 1343هـ، من أكثر من ستين عاماً، لمّا قام الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب بما دُعي «نهضة المشايخ» التي سبق الكلام عنها. خرج يومئذ مئات من الأولاد من مدارس الحكومة، وافتتح الشيخان مدرسة ابتدائية في الريحانية، ثم نقلاها إلى مكان المدرسة التجارية التي كان أبي مديرها ولكنهما جعلاها مدرسة ابتدائية. ثم أدركَت الشيخَين علّة الانقسام فبقيَت التجارية للشيخ هاشم وأنشأ «جمعية التهذيب والتعليم» التي تُمِدّها وتسندها، وبقيَت «الجمعية الغرّاء» للشيخ علي وافتتح مدرسة «سعادة الأبناء»

التابعة لها. وكانت هذه المدرسة في المدرسة الأثرية (السميساطية) عند الباب الشمالي للجامع الأموي. ولكن لم تتمّ مقاطعة المدارس الحكومية ولم تكفِ المدارس التي أنشآها، وعاد أولادنا مضطرّين إلى المدارس الرسمية. وإنما عادوا في الواقع إلى مدارسنا، مدارس الأمّة التي -نحن المسلمين- جمهورُها ومنا الكثرة الكاثرة من أفرادها ونفقتُها من جيوبنا. واستمرّت المعركة مستترة غالباً وظاهرة حيناً بيننا وبين من يمسك بزمام هذه المدارس ويوجّهها غير الوجهة التي نريدها، وانحصر الخلاف في اثنتين: مسألة الدروس الدينية ومسألة حجاب الطالبات. ووُفّقنا حيناً؛ فزيدت علوم الدين ساعة أخرى في الأسبوع فصارتا ساعتين وأُدخلت في الامتحان، ولكن الخصوم ما ناموا ولا سكنوا، وظلّوا يعملون في الخفاء ونحن نراجع الحُكّام ونكتب في الصحف ونخطب في المساجد. وقد وجدت بين أوراقي كلمة ممّا كان يُنشَر في الصحف نشرتُها في جريدة «الأيام» عند الأستاذ نصوح بابيل، ولكنني لم أحتفظ بالجريدة كاملة بل بكلمتي وحدها مقصوصةً فلم أعرف تاريخ كتابتها. وأقدّر أنها نُشرت في أوائل الخمسينيات من هذا القرن الميلادي. أعيدُ نشرَ بعضها هنا لتكون مثالاً لِما كنّا نكتب ودليلاً عليه. وكنت ألوّن الأساليب، فأكتب تارة غضبان متحمّساً ثائراً مثيراً، آمل أن أوقظ هذا الشعب النائم حتى يدع المنام ويسارع

إلى القيام. وأكتب تارة هادئاً أحاول أن أجادل بالتي هي أحسن، وأن أدلي بالحُجّة وحدها من غير أن أوقد من حولها النار أو أن أطير الشرار. كان عنوان هذه الكلمة «دروس الديانة في المدارس»، وأولها: قرأت تصريح وزير المعارف الذي بيّن فيه أن الوزارة لا تفكر في تخفيض عدد ساعات الديانة، بل تبحث زيادة عددها. وأنا أشكر الأخ الوزير الدكتور عبد الوهاب حومد، ولم أكُن أنتظر منه إلاّ هذا، لذلك تردّدت في تصديق ما نقله الناس عنه من أنه يريد نقص هذه الساعات أو إعفاء الطلاّب من الامتحان في علوم الدين. وما كتبت هذه الكلمة لمجرّد الشكر بل لأنبّه الوزارة إلى أمر ما أحسبها إلاّ متنبّهة له عارفة به، ولكنها تتغافل عنه. ليس عندنا شيء اسمه علم الديانة ولا يعرفه علماء المسلمين، وليس في مكتبتنا كتب في هذا العلم. إنما الذي عندنا: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم التوحيد، وعلم التجويد، وعلم الحديث، وعلم التفسير، وأشباه ذلك من العلوم التي أُلِّفت فيها آلافٌ وآلافٌ من الكتب وظهر فيها آلاف من العلماء. تجمعها كلها كلمة «الدين» كما تجمع كلمة «الرياضيات» في المدارس بين الحساب والهندسة بأنواعها الجبر والمثلّثات، وكما تجمع كلمة «الطبيعيات» بين الفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي وعلم النبات وعلم الحيوان. ولو قلنا لمدرّس الرياضيات أعطيناك

ساعة في الأسبوع أو ساعتين لتدريس هذه المادّة لصُعق من دهشته وقال: وماذا أصنع بساعتين؟ هل أدرّس فيهما الحساب أم الهندسة أم الجبر، أم ماذا؟ وكلّ علم من هذه العلوم يحتاج إلى أكثر منها؟ فكيف نطالب مدرّس الدين أن يوسع ساعتين لهذه العلوم كلها؟ وسيضحك كثير من «التقدميين» من هذه المقابلة، لأنهم تعوّدوا أن يروا الدين دائماً في المرتبة الثانية، ولأنهم رُبّوا على احترام هذه العلوم وتقديمها. ولكن هل هذه هو الواقع، أم أنهم هم المخطئون؟ الصحيح أنهم هم المخطئون. وأيسر دليل على خطئهم أنهم يحكمون على الدين من غير معرفة به أو اطّلاع عليه. ولو حلّلتَ ما في نفوس هؤلاء الإخوان لوجدت أنه ليس للدين في نفوسهم إلاّ صورة مشوّهة، رسمها فيها بعض من عرفوا من جهلة المشايخ ومن سخفاء العامّة الذين يدّعون التدين والصلاح. ولقد صرّح لي بهذا الأستاذ ساطع الحصري في حديث طويل كان بيني وبينه، حيث كان يسكن في مصر في شارع شريف باشا سنة 1947، بحضور الأخ الأستاذ نهاد القاسم، ونشرتُه في يومه. ونحن نُقِرّ بهذه المبادئ الغربية التي تقول بفصل الدين عن العلم، والدين عن السياسة. إنها صحيحة بلا شكّ، لكن بشرط أن نفهم معناها عند مَن وضعوها. إن الغربيين الذين وضعوا هذه المبادئ يقصدون بالدين ما يحدّد صلة الإنسان بالله فقط. ومن هنا قالوا: «الدين لله والوطن للجميع». ونحن نقول مقالتهم ونفصل بين الدين الذي هو الصلاة والصيام، أي العبادات، وبين السياسة

والعلم. إن العبادات لا تتبدّل ولا تتغير بتغير السياسة وتبدّل نظريات العلم. ولكن الإسلام ليس ديناً فقط يحدّد صلة الإنسان بالله، بل هو دين وتشريع وقانون دولي وأخلاق، وهو يحدّد صلة الأفراد بعضهم ببعض، وصلة الأفراد بالدولة، وصلة الدولة بالدول الأخرى، ويرسم طريق الأخلاق والسلوك. فالإسلام إذن ليس ديناً فقط لتنطبق عليه هذه القواعد، بل هو نظام كامل للحياة لا يشابهه دين من الأديان التي يتبعها البشر. والعلوم الإسلامية -بناء على هذا الأساس- قسمان: قسم منها للدين فقط كالعبادات، وهذا للمسلمين وحدهم، وقسم هو من الثقافة العامّة، كَفَهْم القرآن الذي هو النصّ البياني الأوّل في اللغة العربية، ودراسة الفقه الإسلامي في المعاملات على اعتباره مصدراً تشريعياً في العالَم كلّه، قديمه وحديثه، بكثرة نظرياته الحقوقية وعُمقها، ولأن غير المسلمين من أمم أوربّا تدرسه أوفى دراسة في كلّيات الحقوق فيها وتعرف قدره، وتهتمّ بنصوص الآيات والأحاديث من الناحية البيانية، وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية التي يجب أن يدرسها -في رأيي- المسلم من الطلاب وغير المسلم، للبيان والبلاغة، وللخلق، وللثقافة. وهذه كلّها أمور نشترك فيها جميعاً، لأنها تراث عامّ لا يختلف فيه مسلم عن نصراني، ولأن أعلام النصارى وفصحاءهم وأهل البيان فيهم، كاليازجيين والبستانيين وفارس الخوري وبشارة الخوري الشاعر وأمثالهم، ما بلغوا هذه المنزلة في الأدب التي

تقصر دونها الهمم إلاّ لأنهم درسوا القرآن والحديث وأخذوا من بيانهما. وما ضرّ الأستاذ فارس بك أنه مطّلع على الثقافة الإسلامية أكثر من كثير من أهلها، بل نفعه ذلك وزاده رفعة بين الناس. فلماذا لا يدرس الطلاب جميعاً هذه العلوم؟ لا ما يتعلّق منها بالدين الإسلامي وبالعبادات، فهذا للمسلمين وحدهم. بل ما يتصل منها بهذه الثقافة اللغوية والعقلية. وإذا كان الطلاّب المسيحيون يكرهون أن يقرؤوها على المشايخ في درس الدين فإن في غير المشايخ، وإن في غير العرب، من يستطيع أن يُقرِئهم هذه العلوم، لأنهم أدركوا نفعها وقدروها قدرها فاهتمّوا بها وأقبلوا عليها وأتقنوها. أقول هذا ليعلموا أننا لا نريد من العناية بدرس الدين وإدخاله في الامتحانات الخاصّة والعامّة أن نضطرّهم إلى ما يكرهون، ولا نريد أن نحتال عليهم لنُجبِرهم على الدخول في الإسلام. وهذا الذي أقوله كلام صريح ظاهر ليس له خبيء باطن، ما فيه إلاّ ما تدلّ عليه ألفاظه. أمّا هؤلاء الذين يَدْعون أنفسهم بالتقدميين، والذين ربّاهم الأجانب، والذين يرون في انتشار الإسلام «بعبعاً» كالذي كان يُخوَّف به الأطفال، ويخشون اسمه ولا يريدون الاقتراب منه لأن أعداء الإسلام صوّروه لهم على غير حقيقته أو لأن بعض الجهلة من المنسوبين إليه قد أعانوا هؤلاء الأعداء على ما يريدون ... والمقالة طويلة. * * * وبقيَت المعركة مستمرة، وكانت سِجالاً بيننا وبينهم، ولكننا

نتقدّم خطوتين فيؤخّروننا بعدهما أربعاً. نسهر الليل نضع بأيدينا حجراً على حجر لنقيم الجدار، فإذا طلع النهار جاء مَن يحمل المعاول الكبار ليهدم ما بنينا. وقديماً قالوا: متى يَبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه ... إذا كنتَ تبنيهِ وغيرُك يَهدِمُ؟ هذا إذا كان الهادم واحداً، ولكننا كنّا أمام مئات. لا يهدمون بأيديهم كما نبني بأيدينا، ولكنهم يهدمون بالمعاول، بل بالبارود والقنابل. وكلّما مرّ علينا يومٌ بكينا فيه منه جاء بعده غدٌ بكينا فيه عليه؛ كالذي كان مع اليهود وأنصار اليهود في فلسطين: نرفض الأمر في الحيف علينا والمضرّة بنا، ثم يأتي بعده ما هو أشدّ ضرراً وأنكى فينا أثراً فنتمنى لو كان الأول قد دام! حتى إذا كانت الوحدة مع مصر انهدم السدّ فبلغ السيل الزُّبى (¬1) وجاوز الحزام الطبِيّين (¬2)، وبلعنا السكّين على الحدّين، فكادت تضيع العقيدة كلها في غمرة الدعوة الرعناء إلى الاشتراكية. وما هذه الدعوة إلاّ قشرة تُغطّى بها الشيوعية، وما الشيوعية إلاّ أخت الصهيونية، اللون مختلف ولكن النسَب واحد. أما رأيتم أختين من أب واحد، بيضاء وسوداء، لأن الأمهات مختلفات؟ ودأبنا على مراجعة الحُكّام في الشام، حتى إننا ذهبنا مرة ¬

_ (¬1) الزّبى جمع زُبْية، وهي الحفرة تُحفَر في الجبل لصيد الوحوش. (¬2) و «بلغ الحزام الطبيين» أي أن حزام الدابة زاح عن بطنها فتعرّض راكبها للسقوط.

ونحن مجموعة من المشايخ إلى وزير المعارف الإقليمي (أي وزير الإقليم الشمالي أيام الوحدة)، وكان صديقنا الشاعر البليغ، الذي عرفته صغيراً فكان نابغة ألمعياً، وعرفته كبيراً فكان أديباً عبقرياً، هو الأستاذ أمجد الطرابلسي. فقلت له (فيما قلت): كنّا نراجع في مثل هذا المكان المندوب (أي مندوب المفوّض السامي) الفرنسي أو مَن أقامه المندوب ليفكّر برأسه وينطق بلسانه ويحقّق له ما يريد، وإنني لأزدري نفسي إذا كنت سأقول لأمجد الطرابلسي ما كنت أقوله لذلك الفرنسي أو لمن يمثّل الفرنسي. لقد وجدنا من أمجد ومن غيره من إخوتنا الاستجابة والتأييد، ولكنهم لم يكونوا يملكون من الأمر إلاّ أقلّه. لمّا سمعنا نبأ الثورة في مصر وانقضاء عهد فاروق الذي كانت تصل إلينا أخباره تفوح منها رائحة لا تطيب في أنوفنا ونسمع عنه ما لا ترضاه سلائقنا وأخلاقنا، لمّا سمعنا بأن عهده انقضى وأنه بدأ عهد جديد يُراد منه تقويم المعوجّ وإصلاح الفاسد، هتفنا وفرحنا. ثم ذهبنا مرة (وقد أشرت إلى ذلك من قبل) وفداً عربياً مشتركاً للقاء عبد الناصر وحثّه على تأييد ثورة الجزائر، وقد لفّنا بلسانه وسحرنا بحلاوة بيانه وأسكرَنا بوعوده. ولمّا كانت الوحدة وجاء الشام أول مرة ماجت دمشق لمقدمه واستقبلَته استقبالاً ما حظي به إلاّ قليل مِمّن زارها في تاريخها الطويل. * * *

كيف استقبلت دمشق جمال عبد الناصر يوم الوحدة؟

-153 - كيف استقبلت دمشق جمال عبد الناصر يوم الوحدة؟ كانت جرائد مصر ومجلاّتها من القديم تصل إلينا، ومجلاّتنا وجرائدنا لا يكاد يصل شيء منها إليهم. فكنّا نعرف ما دقّ وما جلّ من أخبارهم ولا يعرفون شيئاً من أخبارنا؛ فلا تقوم في مصر وزارة ولا تسقط، ولا يكون حدث من الأحداث، ولا يظهر زعيم من الزعماء، ولم يكن فيها أديب ولا عالِم إلاّ كان عندنا من أخباره الكثير. وكنّا نعرف عن الملك فؤاد كلّ شيء، ثم عن ابنه فاروق. كانت تتسرّب إلينا أنباء فسوقه وانحرافه، فلما قام عليه الضبّاط ونحّوه وأبعدوه عن مصر طارت بنا الفرحة وعمّتنا البشرى، وكتبت في «الرسالة» (عدد 20 ذي القعدة سنة 1371هـ) مقالة أعلّق فيها على هذا الحدث العظيم، وعلى اليقظة التي كانت يومئذ في إيران حين قام الكاشاني والدكتور مصدَّق على الإنكليز، أثبت بعض المقالة هنا لأنها صارت تاريخاً ولأنني أكتب للقُرّاء ذكريات، فمن حقّهم عليّ أن أروي لهم بعض ما قلت كما أحدّثهم عمّا رأيت وسمعت.

قلت فيها (¬1): أكتب هذه الكلمة وأنا مريض في المَصِيف في مضايا. لقد هبط معي الضغط وضَعُف مني الجسم وانقطعتُ عن عمل اليد وعمل الدماغ، ولذلك أخللت بعهدي مع «الرسالة». وكان العهد أن أكتب للرسالة مرتين في الشهر. ولكن أخبار مصر (ومن قبلها أخبار إيران) تطرد المرض وتُنهِض الجسد، وتهزّ من الحماسة وتُرقص الحجر، فكيف أنام اليوم واليوم عزّت بالإسلام العرب والعجم؟ واليوم استكمل الشرق يقظته إلاّ بقايا في عينيه من الكرى وأقسم ألاّ ينام؟ واليوم أحسّ كل مسلم أن الأمّة التي يكون فيها من زعماء الدين أمثال حسن البنا والكاشاني، ومن زعماء الدنيا محمد نجيب ومصدّق، لم تفقد عزّتها ولم تدفن أمجادها في قبور تاريخها، ثم تسير بلا عزة ولا مجد. بل إن لها من حاضرها أياماً غُرّاً محجّلات لا يضرّ مَن رآها ألاّ يكون رأى مَواضي الأيام. لقد تتالت علينا الأفراح وتتابعَت البشائر حتى ما تستطيع أن تحتملها أعصابنا. إننا نعدو عَدْواً في طريق الظفر، لا نقدر أن نقف ساعة لنستريح ونلتقط أنفاسنا: في إيران شعب هبّ على الإنكليز هبّة الرجل الواحد، يحمل معه أكفانه ليثبت للدنيا أن الكفن في يد المستميت أمضى من المدفع في يد من يحبّ الحياة ويكره الموت، وأن الرغبة الصادقة في الموت هي أقصر طريق إلى الحياة، وأن الشعب إذا استمات لا تغلبه قوة في الدنيا. وهل يمكن أن يُباد شعب فلا يبقى له أثر؟ هل تستطيع قوى ¬

_ (¬1) انظر مقالة «ثورة مصر» في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

الشرّ كلها التي حشدها المتمدّنون ليقتلوا بها البشر باسم المدنيّة (التي نسبّح جهلاً بحمدها ونموت في عشقها) أن تُهلك خمسمئة مليون إنسان يستجيبون لصوت إيمانهم، ويغضبون لماضيهم ويعملون لمستقبلهم؟ إن القطّة إن غضبت لأولادها كشّرت عن أنيابها وأبدت عن مخالبها وهجمَت على الذئب، فكيف إن غضب شعب له في الأمجاد ميراث لا يعدله في الدنيا ميراث؟ لقد جاءتنا أخبار مصر، مصر الديّنة الصيّنة التي طالما احتملت الفسوق والعصيان، وسكتت ترجو أن يؤوب الفاسق ويتوب العاصي. مصر العزيزة الحرّة التي صبرَت على الطغيان والفساد، مصر التي بذلت في حرب فلسطين ما لم تبذله دولة عربية، ثم ضربها في ظهرها مِن كبار أبنائها مَن كان شراً عليها وعلى جيشها من أعداء الله والإنسانية، اليهود، حين وضعوا في يد جندها سلاحاً فاسداً ليقاتلوا به عدوّهم فانقلب ناره عليهم. مصر التي طالما زرتها وأقمت فيها الشهور الطوال، فكنت أشمّ رائحة الفساد كلّما خرجت من إدارة «الرسالة» ومررت بالميدان الكبير، ميدان عابدين. وانتشرَت هذه الرائحة حتى بلغَت جوانب مصر، ثم وصلَت إلى أوربّا وشمّها أصحاب الجرائد هناك بأنوفهم الحسّاسة فنشروها في كل مكان، حتى بلغَت الشام ودخلت فيه كل بيت. لذلك كانت أخبار الانقلاب الأولى فرحة في كل بيت يتباشر بها الناس، ويفتحون الرادّ ليسمعوها. وأزهد الناس بسماع الأخبار

صار يعانق الرادّ في داره ليسمع إذاعة مصر وغير مصر، فلما أذيع أن فاروقاً (الذي دعاه المنافقون يوماً الملك الصالح) قد أُخرجَ من مصر لم يعُد يستطيع الناس أن يضبطوا من الفرح أعصابهم. ووالله ثم والله الذي لا يحلف به كذباً إلاّ فاسق، لو أُعطيت مبلغاً من المال كبيراً ما فرحت به مثل فرحي بهذا الخبر. ولولا أني مريض وأن ذهني مكدود، لحيّيت هذا اليوم العظيم التحيّة التي تليق به، ولسقت له كلاماً غير هذا الكلام: كلاماً تشبّ له القلوب وتحمى منه أقحاف الرؤوس، وترقص له من الحماسة الأعصاب وتغلي الدماء، ولكني إن عجزت اليوم عن نظم هذا الكلام فلقد قال هؤلاء بفعالهم أكثر منه. فيا أيها الرجل العظيم، يا محمد نجيب، لقد نُقش اسمك على جوانب القلوب مع أسماء أبطال التاريخ. وبعد، فهذه عاقبة الفسق والفجور واستغلال أموال الأمّة وسلطانها في إرضاء الشيطان وإرواء الشهوات، فاعتبروا يا من لم تصل إليهم النوبة بعد، فإنها ستنوبكم. إن الله يُمهِل ولا يُهمِل، وينسئ ولا ينسى. فليعتبر بما حلّ بهم سواهم، وليعلموا أن نِعَم الله لا تُحفَظ بالمعصية ولكن بالشكر، وأن الأوطان لا تُحمى باتباع الشهوات وإضاعة الأموال في الترف والملذّات، ولكن بتقوية الجيش وإعداد السلاح وإطاعة الله والعمل على إعلاء كلمته. (إلى أن قلت): والسلام على روح حسن البنا موقظ الأرواح النائمة في مصر، وعلى الكاشاني وعلى مصدَّق، وعلى البطل النجيب محمد نجيب. * * *

إني لأتمنى الآن أن لا أكون قد كتبت هذه المقالة، وأحمد الله أن ألهمني أن لا أضع اسمي عليها، وإن عرف الناس يومئذ واعترفت أنا الآن أنها لي. لقد رأينا بعدها ما جعلَنا نستسهل ما كان قبلها. والسياسة لها ظاهر وباطن، وربما كان ظاهرها غير باطنها، وربما كان ما عرفه الناس عنها يخالف حقيقتها التي كانت عليها: فالخاصّة الذين يصفون أحداثها أو الذين يكونون قريباً منهم يعرفونها حقّ معرفتها، أما العامّة فلا يصل إليهم من خبرها إلاّ ما أراد الخاصة أن يعرفوه عنها. وكم من هزيمة ظنّوها نصراً، وكم طيّب حسبوه خبيثاً وسيّئ صُوّر لهم شيئاً حسناً. وأنا واحد من عامّة الناس، لا أعرف من الأمور إلاّ ما أرادوا أن يعرفه الناس ولا أروي إلاّ ما عرفته، وإن كان لي -بحمد الله- فكر أعلو به عن طبقة العوامّ والرعاع، فأناقش الأمر بمقدار ما يستطيع عقلي مناقشته، فأشكّ في بعض الأمر وأردّ بعضه ظناً، وأرفض بعضه يقيناً لأن الوضع ظاهر فيه والكذب بادٍ عليه. إن المؤرّخ ينظر إلى الأحداث نظرة شاملة كاملة كمَن يرى المدينة من الطيارة، ففي نظرته سعة وشمول، ولكن ليس فيها دقّة وتفصيل. أمّا الأديب فإنه يصف ما رأى وصفاً مفصّلاً، ولكن ليس شاملاً. وأنا متّهَم بأني خصم الوحدة، للحديث الذي أذعته غداة الانفصال وتناقلَته الصحف والإذاعات، حتى لقد سمعته أنا مُذاعاً مكرّراً أكثر من سبع مرات. وأنا وأهل بلدي بريئون من هذه التهمة.

أنا من يوم قرأت التاريخ ورأيت كيف كان المسلمون دولة واحدة ثم تفرّقوا دولاً، وكانوا أمّة واحدة فصاروا جمعية أمم، أنا من ذلك اليوم أرى الوحدة أمنيتي الكبرى. لمّا دخل الفرنسيون سوريا وجعلوا منها أربع دول كان مسعانا كلّه لترجع بلداً واحداً، فلما صارت بلداً واحداً كان أملنا أن يكون للعرب وحدة شاملة. فإذا حقّق الله يوماً هذه الوحدة فلن تقف هِمّتنا عندها، وليس لنا أن نقف عندها، لأن الذي قرّر الوحدة الإسلامية وجعلها هي الرابطة التي لا يكون لنا أن نعدل بها غيرها ولا نعدل عنها إلى غيرها هو الله ربّ العالمين، في كتابه الذي أنزله على خاتم المرسلين. وما قرّره الله وقضاه ليس لبشر أن يُبدي فيه رأياً أو أن تكون له فيه خِيَرة، ومن رفض شرع الله أن يُطبّق على حياة الفرد أو الجماعة وقال لا أريده، فقد كفر بإجماع المسلمين وصار مرتداً تُنفّذ فيه أحكام المرتدّين. * * * كان يوم إعلان الوحدة أحد الأيام الغُرّ في حياتي؛ ملأ بالمسرّة قلبي لأنها المحطّة الأولى في طريق الوحدة الإسلامية الكبرى. كنت أشعر بأنني في حلم، ولكن الذي ينهض من المنام تطير من يده الأحلام. أمّا هذا الحلم فقد انقلب إلى حقيقة ماثلة أمامي، أحسّها وأعيش فيها كأنني قد انتقلت إلى الجنّة التي تتحقّق فيها الأماني. ولكن لمّا شهدت منظر بيعة عبد الناصر رئيساً وتنحّي القوّتلي وعودته رجلاً عادياً، ورأيت كيف عومل، شعرت بشيء

من الأسى. لا لأن المصريين حكموا سوريا، فطالما حكمَت مصرُ الشامَ أياماً طويلة من تاريخنا، وطالما حكمت الشامُ مصرَ وغير مصر قبل ذلك، والمسلمون أمّة واحدة وإخوة في أسرة واحدة، فلا فرق لدينا أن يحكم مصري أو شامي، ولكننا رأينا بوادر جعلَت تبدو لنا، ما كرّهَتنا بالوحدة لذاتها بل لهذه الأعراض التي علقت بها. لمّا زار عبد الناصر دمشق أول مرة استقبلَته دمشق استقبال الأبطال الفاتحين، واحتشد أهلها حول قصر الضيافة ساهرين منتظرين يرتقبون أن يطلع النهار فيطلع الرئيس عليهم فينظروا إليه: يجدونَ رؤيتَه التي فازوا بها ... مِنْ أنعُمِ اللهِ التي لا تُكفَرُ كانوا يأملون أن يجدوا على يديه الفرج بعد الضيق، يحسبون أنه سيُعيد عليهم عهد أبي عُبَيدة وخالد لمّا دخلا الشام فأنقذا أهلها من ظلم الرومان، وأنه سيدور الزمان حتى يعود كما كان في صدر الإسلام. فتبيّن أنه لم يكن حُكّامنا مثل الرومان ولا كان عبد الناصر كأبي عبيدة وخالد، وأنها لم تمر إلاّ شهور معدودات حتى أذابت شمسُ الواقع التمثالَ الذي صنعناه من ثلج الأماني، حتى طلع نور النهار فمحا ما أبصرناه في أحلام المنام. قلت لكم إني لم أكُن في موضع مَن يرى الخفايا ويكشف الأسرار، وإنما كنت واحداً من غمار الشعب، وإن كان لي قلم بحمد الله وكان لي لسان وكان لي فكر وجنان. فكنت أسمع خُطَب الرئيس تذاع، وهم على عادتهم على أيام عبد الناصر يحشدون

لسماعها البشر يجمعون المصفقين والهاتفين. وكانوا يدعون المشايخ والقُضاة ووجوه الناس لمواقف الاستقبال والوداع حتى يأخذوا صورهم فينشروها في الجرائد. أمّا أنا فما استجبت لها، وهربت منها وتمارضت حتى نجوت. وقد عرفتم في هذه الذكريات أني لم أخرج لمّا كنت قاضياً في القلمون في النبك لاستقبال الشيخ تاج، وهو خال زوجتي وشقيق أمها وهو ابن شيخ الشام الشيخ بدر الدين الحسني، ولا لاستقبال شكري القوتلي، وهو زعيمنا أيام النضال وهو قائدنا في العمل للاستقلال. أفأخرج لاستقبال عبد الناصر؟ لقد كنت أستمع إلى خطبه التي يلقيها في مصر وتُذيعها الإذاعات، فأسمع وعوداً حلوة تسرّ وتُرضي ثم تذهب وتمضي بلا وفاء، وأسمع ما فيه تحريف للواقع وتبديل لما نراه ونشاهده. ولكني أشهد -مع ذلك- أنه خطيب. خطيب على عامّية أسلوبه وعلى ركاكة لفظه، خطيب من أعظم الخطباء. وهل الخطيب إلاّ الذي يلعب بألباب السامعين، فيوجّهها حيث يريد ويجعلها تقتنع بما يقول؟ وكذلك كان عبد الناصر. ولكنها كانت تفلت منه كلمات أو يتعمّد تمريرها عرَضاً من غير أن ينتبه الناس إليها ليناقشوها، من ذلك اصطلاح «التحويل الاشتراكي» الذي كان يردّده دائماً ويُعيده فلا يملّ إعادته وترديده. ولم أكُن أستطيع أن أصل يومئذ إلى إذاعة أذيع منها صوتي ولا جريدة أنشر فيها رأيي، كل ما في طوقي أن أقول لمن حولي: أتدرون ما التحويل الاشتراكي الذي يريده؟ إن عمرو بن العاص

لمّا فتح مصر حوّلها إسلامية باقية على إسلامها إن شاء الله إلى يوم القيامة، لا تعرف غير الإسلام ولا تدعو إلى غيره ولا تقبل دعوة إلى ما يخالفه. فليس التحويل الاشتراكي إلاّ تحويلها عن الإسلام إلى الاشتراكية. وكنت أقرأ في الصحف أن عبد الناصر كان يحالف الكفار ويخالف المؤمنين في كثير من الأحايين، كما كان يفعل في قبرس (¬1)، وكان يحارب التضامُن الإسلامي الذي يحقّق أخوّة الإيمان، وأخوّةُ الإيمان قرّرها الله في القرآن. وكان يؤيّد مبادئ تُبعِد أهل الدين وتُدني تيتو ونهرو والشيوعيين والوثنيّين، يتولاّهم والله يقول: {ومَن يَتَولَّهُمْ منكُم فإنّه منهم}. ثم أدخلوا هذه المبادئ في المدارس، وأرادوا أن ينشأ عليها الصغار وأن يعيش عليها الكبار. جاؤوا بسمّ جديد هو خليط من القومية والشيوعية والتحلّل الذي يسمّونه التقدمية، ممزوجاً مزجاً كيميائياً، فجعلوه مادّة تُدرَس في المدارس. نوّعوا أسماءها فهي تارة «المجتمع العربي» وتارة ما لست الآن أدري، وأدخلوه في المدارس ثم نقلوه إلى مصر أو حاولوا نقله إليها أيام الوحدة. حتى إنني كنت يوماً في زيارة العالم الجليل والصديق الكريم الشيخ شلتوت، وكان شيخ الأزهر. وهو عالم مفكر عرفته من قديم في مجالس الشيخ عبد المجيد سليم، وكانت لي عليه جرأة ولي معه كلام يجاوز حدود الرسميات إلى الإخوانيات (¬2)، لا لأنني ¬

_ (¬1) هي قبرس لا قبرص. (¬2) الإخوانيات اصطلاح قديم.

أتطاول إلى مقامه، فما أنا من رجاله، ولكن لأنه من تواضُعه يتنازل إلى مقامي. كنت عنده يوماً في إحدى زياراتي لمصر، فجاءه من يقدّم إليه منهج هذه المادّة ليوافق على تدريسها بالأزهر. فكأنه همّ بالموافقة عليها، فتجرّأت عليه فأمسكت بيده (وكان بها شلل أصابه في آخر حياته) وقلت: أستأذنك وأقبّل يدك، فخبّرني ماذا أنت صانع؟ قال: أوافق على تدريس هذه المادّة. قلت: يا سيدي، هذه بضاعتنا ونحن أعرف بها. إنها سمّ فوقه طبقة من الدّسَم أو غشاء من الحلوى ... فصرف من كان أمامه وخلا بي حتى شرحت له الأمر. قلت لكم إن دمشق كلّها خرجت لاستقبال عبد الناصر لمّا قدمها أول مرة. ولا شكّ أن الفرحة بالوحدة كانت غامرة وأنها شملت أهل الشام كلّهم، ولكن هناك أمراً تقتضيني أمانة القلم أن أُعلِنه، هو أنه ليس كل استقبال في الشام علامة حبّ وفرح ولا كلّ جنازة أمارة حزن وأسى. فإن أهل الشام لِمَلَلهم من حياتهم المتشابهة أيامُها، المتكرّرة مشاهدُها، يبالغون في الاهتمام بكل جديد والاحتشاد لكل قادم والازدحام على كل مشهد، حتى لو أن صاحب (سِرْك) أعلن عن مقدم فيل ضخم ما رأى الناس مثله أو غوريللا هائلة لازدحموا على هذا المشهد وتسابقوا إليه. ولا يقع في وهم أحدكم أني أشبه عبد الناصر أو غيره بالفيل أو الغوريللا. لا، وإنما أبيّن طبيعة فينا أهل الشام. وبقيّة الكلام في الحلقة المقبلة. * * *

علماء الشام مع الوزير كمال الدين حسين

-154 - علماء الشام مع الوزير كمال الدين حسين لمّا قدم عبد الناصر الشام وخرج الناس (أو أُخرِجوا) لاستقباله كان في طليعة مستقبليه في المطار المشايخ. وكان من بينهم رفيق السباعي، الرجل الذي ترك الطبّ بعدما أكمل دراسته ونال شهادته، ليلزم الشيخ بدر الدين وينقطع لخدمته ويُمضي حياته في صحبته. فلما مرّ عبد الناصر عليه ناوله ورقة كبيرة، فعجب الرئيس منها وارتاب بها، ودفعها إلى عبد الحميد السرّاج (وكان يمشي معه). فقال له الشيخ: إنها لك لا له، وفيها مطالبنا منك لا منه. قال الرئيس: إنها وصلَت إليّ. وهذا المشهد معروف هنا (في المملكة) لا يُستنكَر ولا يُستكبر، فما يأتي الناس للسلام على الملك أو الأمير إلاّ ناولوه مثلها. وهذه هي الرقاع التي كانت على عهود الخلفاء، لا سيما العباسيين، وكان لها موظّف كبير يُحصيها ويقرؤها ويرفع خلاصتها إلى الخليفة فيأمر فيها بأمره. ثم ماتت هذه السنّة في سائر البلاد

وبقيَت في المملكة، أحياها مؤسّسها الملك عبد العزيز رحمه الله وتوارثها أبناؤه. فلما انقضت أيام الزيارة وجاء يوم سفر الرئيس، وكان المشايخ والوجوه في وداعه كما كانوا في استقباله، ومدّ يده يصافح الصفوة المختارة منهم وكان الشيخ رفيق رحمه الله من بينهم، أمسك بيده وأطبق بكفيه عليها (وكان عرض كفّ الشيخ رفيق بعرض كفّيّ الاثنتين معاً) وقال له: ماذا صنعت بطلباتنا؟ لم يُجِب عبد الناصر، ولكن أجابت الأيام. أجابت أفعاله وأفعال عُمّاله ورجاله. وكنّا تحت المطر فوضعونا تحت الميزاب! وكنّا نشكو إذ نمشي في الشمس على الحصى الحارّ فسيّرونا على جمر النار ... ما زال شيء ممّا كنّا نشكوه بل زاد. كنّا من قبلُ إن رأينا منكراً ذهبنا إلى الرئيس أو الوزير. كنّا ندخل على الرئيس هاشم بك أو على شكري بك أو على الشيخ تاج متى شئنا، لا يُغلَق في وجوهنا باب ولا يحجزنا بوّاب، فصار رئيسنا الآن في مصر ومَن عندنا تبع له، لا أمر لهم إلاّ من بعد أمره. لذلك عزمنا على الذهاب إلى مصر. وكنّا جماعة هم: الشيخ أبو الخير الميداني، شيخنا رئيس رابطة العلماء، ونائبه السيد المكي الكتاني، وصديقنا الدكتور محمد أمين المصري الأستاذ في الجامعة، رحم الله الثلاثة. واثنان من النوّاب في المجلس هما سعيد العبار (وهو صحافي إسلامي) وآخر من حمص أظنّ أن اسمه الطيب الخجا، وأنا. هؤلاء الذين

أذكرهم الآن، ولعلّي نسيت غيرهم مِمّن كانوا معنا. فلما وصلنا مصر (وإذا قلنا مصر فإنما نعني القاهرة، كما نقول في سوريا «الشام» ونقصد بها دمشق) جلسوا في إدارة شركة الطيران في ميدان الأوبرا، حيث الصنم المقام لإبراهيم باشا الذي خرب «الدرعيّة» وزرع بذور الفساد في الشام، وذهبت مع أحد الإخوان نختار فندقاً مناسباً. فلما عدنا لم نجد المشايخ ولكن وجدنا بطاقة فيها أن السيد مكي ضاق صدره بالانتظار، فذهبوا إلى فندق قريب في منعطف وراء الميدان. وأنا أعرف مصر من سنة 1928، أمشي فيها وأنا مغمض العينين لا يشتبه عليّ شيء من شوارعها وحاراتها، وأحسب أني جزت ميدان الأوبرا مرة فما أبصرت هذا المنعطف ولا علمت أن فيه فندقاً، فلما بلغناه إذا هو فندق عتيق في حارة ضيقة لا يصلح لنزولنا. وما هذا هو العجيب، ولكن العجيب أني لمّا وصلت إلى الفندق وجدت الشيخ الميداني قاعداً على طرف السرير، وأمامه ضابط على كتفه نجوم جاثم على ركبتيه، ورأسه على ركبة الشيخ وهو ينشج ويبكي. فلم أعرف من هو ولا ما الذي أبكاه، ولم أدرِ من أين جاء بهذه الدموع، ولعلّه شمّ بصلاً قبل أن يدخل الفندق، ولعلّ هذا من فصول «الرواية»! كيف وصل هذا الضابط إلينا ومن الذي دلّه علينا؟ ومن أين عرف أن الشيخ أبا الخير معنا وأننا نزلنا ها هنا؟ ثم علمت أن «القوم» لا يدَعون قادماً حتى يُرسلوا إليه من

يكشف سرّه ويعرف خبره، فمن الناس من يستميلونه بتسهيل طرق الملذّات وإرواء الشهوات، ومنهم من يُغوُونه بالعطايا والهدايا، ومنهم من يكون من أهل السياسة فيسلكون به مسالك الكياسة والأطماع بالرياسة، ومنهم ومنهم ... وكل هؤلاء ما نحن منهم ولا شغل لنا معهم، فكيف يعرفون خبرنا؟ إن عندهم مُخبِرين من كلّ لون من ألوان الناس، فلما علموا بأننا مشايخ وأننا جئنا نزور مصر اختاروا مِمّن يثقون به ضابطاً أهله من المتصوّفة، من الذين يزورون الشام ويعرفون مشايخها وممّن لهم صلة بشيخنا الميداني، فأرسلوه إلينا. لمّا رأيت الفندق لم يعجبني، وتركوا إليّ أمر اختيار غيره. وكنّا قد انتقينا فندقاً صالحاً في الشارع الذي كان يُدعى شارع فؤاد الأول (ولست أعرف الآن بماذا يُدعى) فذهبنا إليه والضابط معنا. فلما كان من الغد جاءنا مبكّراً، وقد نزع بزّته العسكرية وأزاح عن كتفيه نجومها ولبس ما يلبس جمهور الناس وبقي معنا. فقلت له: كيف تدع عملك لتبقى معنا؟ فقال: إذا جاء الشيخ لم أبالِ بعمل ولا بمنصب ولا بوظيفة لأغتنم صحبته. ونظر بعضنا في وجوه بعض وعرفنا أنه كاذب. ثم بحثنا عن أمره فعلمنا أن له مرتبة عالية في دوائر الاستخبارات، وأنه إنما أُرسِلَ لتحسّس خبرنا والتجسّس علينا. فلما أمسى المساء بقي معنا وطلب غرفة ينام فيها لئلاّ يفارقنا، وأعجب ما في الأمر أنه نزل في الفندق يأكل ويشرب على حسابنا! فأقمنا مَن يُخبِر كلّ زائر لنا بحقيقة أمره قبل أن يصل إلينا،

فإذا دخل زائر ولم يعلم قلت له مازحاً: أترى هذا الرجل؟ إياك أن تنطق بكلمة. إنه يشنقك، إنه كولونيل، ضابط كبير له نفوذ عظيم، فإياك إياك أن يسبق لسانك إلى ما لا يريد. وربما قلت لغيره: «ما ينطق من قول إلاّ لديه رقيب عتيد» وأشرت إليه. فأضعنا عليه بذلك ما أُرسِلَ من أجله، فما استفاد منّا فائدة ولا استطاع أن يعرف عنّا خبراً. وكنّا إذا أردنا أن نتحدّث بشيء تركناه وذهبنا إلى غرفة واحد منّا، وما كان له أن يجرؤ على أن يتبعنا. * * * وجعلَت الأيام تمرّ ونحن في الفندق نأكل ونشرب وننام ونفيق، وندفع ثمن الطعام والمنام، ولا نستطيع أن نُنجِز ممّا جئنا له شيئاً، فـ «الريّس» لا نقدر أن نلقاه، والوزير يفرّ منّا ويتوارى عنّا، وكلّ ما صنعناه أن قابلنا وزير المعارف الإقليمي. ونحن نعلم أن عمله محصور في الإقليم الجنوبي، أي في مصر، وأنه لا شأن له بإقليمنا، أي بشامنا. وإذا كان الرجل قد عاد قديماً من الحيرة بِخُفَّي الإسكافي حُنَين، فنحن لم نعُد بشيء ولا بالخُفّين. وكان حَزُّ ذلك في نفوسنا عميقاً وأثرُه على إخواننا في الشام لمّا عدنا وخبّرناهم به سيئاً. وسمعنا أن وزير المعارف كمال الدين حسين سيقدم الشام. وهو -كما نمي إلينا- من أقرب هؤلاء الضبّاط إلى الدين، هو وحسين الشافعي. وسمعنا أن بين جوانحه قلباً مؤمناً، إذا ذُكّر

ذَكَر وإذا وُعظ اتّعظ. فبعثنا إليه برقية نطلب منه فيها موعداً نجتمع فيه إليه، فما جاءنا منه جواب. ثم علمنا أن مَن كان حوله من المصريين الموظفين في الشام كتموا برقيتنا عنه وحالوا دون وصولها إليه، فجرّبنا أن نهتف به (أي نكلمه بالهاتف) فما وجدنا إلى ذلك سبيلاً. وعُقد يومئذ اجتماع أو مهرجان صغير، لست أدري الآن ماهو، في الشعر والشعراء، حضره صديقنا الأستاذ الشاعر ضياء الدين الصابوني، فأعطيته رسالة ليبلغها الوزير فلم يستطع الدنوّ منه، فما كان منه إلاّ أن وقف على طريقه لمّا خرج يعترض سيارته، حتى إذا دنت منه وكادت تدعسه (بالعين لا بالهاء) رفع الورقة بيده، فأمر الوزير بوصوله إليه وأخذَها منه. بذلك استطعنا إقناع الوزير بأن يضرب لنا موعداً. وكان هذا الموعد، واجتمع له العلماء من أقطار الشام كلها، فجاء ناس من كبار علماء حلب، ومن علماء حمص وحماة وغيرهما من مدائن الشام. وإنه ليحزنني ألاّ أستطيع الآن أن أعدّ أسماءهم، ولعلّ عند ولدي الأستاذ زهير الشاويش علماً بهذه الأسماء فلقد عرفته حافظاً واعياً وضابطاً محقّقاً. أذكر أن بين من حضر من علماء حلب الأستاذ الشيخ عبدالفتاح أبو غُدّة، ومن حماة الأستاذ الشيخ محمد الحامد، ومن دمشق كثيراً أذكر منهم شيخنا المفتي الطبيب الشيخ أبا اليسر عابدين، وأمين الفتوى صديقنا الشيخ عبد الحكيم المنير، والصديق المجاهد الصدّاع بالحقّ الشيخ عبد القادر العاني، والشيخ الطبيب

رفيق السباعي، وغيرهم مِمّن لا أحصيهم الآن. اجتمعنا أولاً في دار الإفتاء، وكانت في طريق الصالحية تحت الجسر الأبيض. واتفقوا على أن يفتتح الكلامَ المفتي، ثم أتولّى أنا شرح الأمر. وهذه إحدى المرات التي شرّفني فيها العلماء بأن أتكلم عنهم وأنطق بلسانهم، وإن كنت أقلهم علماً وأدناهم منزلة. أما المرة الأولى فكانت يوم موت المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني سنة 1935، حين اجتمع علماء سوريا مثل هذا الاجتماع، واختاروني بالإجماع لأنعاه للناس على منبر الجامع الأموي في دمشق. إن المرء تعتريه أحياناً حالات يحسّ فيها حلاوة الإيمان ويستشعر الصلة بالله، فيرى كلّ كبير في الدنيا صغيراً وكل صعب سهلاً. ولقد عبّر عن ذلك سلطان العلماء لمّا سأله تلميذه الباجي كيف واجه الملك الأيوبي بما واجهه به، لم ترُعْه عظمة موكبه ولا قوّة جيشه ولا خشية بطشه، فقال له تلك الكلمة الصادقة الباقية: "يا بُنَيّ، تصورت هيبة الله فصار السلطان قُدّامي كالقط" (¬1). وما أنا من أمثال العِزّ بن عبد السلام، ولا أنا من العلماء الأعلام ولا من العباد الزهّاد، ولكن الله -كما تقول العامّة- «يضع سرَّه في أضعف خَلْقه». لقد تصوّرت والله (ولا أزال أذكر إلى الآن ما تصوّرت) أن الموت قد نزل بي وأن القيامة قد قامت وأننا نقف جميعاً في المحشر، وأن الوزير مثلي، كلانا حافٍ عارٍ لا يملك ¬

_ (¬1) والقصة في آخر مقالة «شيخ من دمشق» في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

شيئاً ولا يقدر على شيء، قد نادى المنادي: لِمَن المُلك اليوم؟ فكان الجواب: لله الواحد القهار. ولا تحسبوا أن هذا الشعور يلازمني دائماً. هيهات! ولا أني كثيراً ما أحسّ به. إنما هي نفحات نادرة تهبّ عليّ، كان هذا الموقف واحداً منها. بدأ شيخنا المفتي الكلام وعرض لرواتب «أرباب الشعائر»، فخفت أن يتحوّل المجلس عن غايته وأن ننتقل من المطالبة بإصلاح عامّ إلى مصلحة تكاد تكون شخصية، فلم أملك إلاّ أن رفعت صوتي فقلت له: يا سيدي، ما لهذا جئنا. فقال الشيخ أبواليسر: وهذا أيضاً ممّا جئنا له. وخشيت أن يفلت الأمر من يدي فالتفتّ إلى الحاضرين، وكانوا نحواً من خمسين من كبار علماء سوريا، فقلت لهم: يا إخوان، ألهذا جئتم؟ فصاحوا قائلين: لا، ما جئنا من أجل الرواتب ولكن جئنا مدافعين عن الدين وعن الأخلاق ومطالبين بالإصلاح. فسكت المفتي وأمسكت أنا بزمام الكلام، فقلت للوزير: هل تعلم سيادتك أننا لسنا هنا أحراراً، كلّ واحد منّا مراقَب يُبعَث إليه من يُحصي عليه حركاته وسكناته، فكيف نعيش مطمئنّين آمنين ألاّ تصيبنا جائحة؟ حتى أنت، إن معك اثنين يراقبانك ويرفعان عنك تقريراً بكل ما تقول أو تفعل. لمّا قلت هذا وجدت الحاضرين قد دُهشوا، حتى ظنتهم حسبوني جُننت أو أني لم أعُد أدري ما أقول. ثم قلت له: وهذا

التقرير لا يُرفَع إلى سيادة الرئيس، بل إلى ربّ الرئيس وربّ العالَمين، يُعلَن على رؤوس الأشهاد يوم الميعاد، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا وزارة ولا رياسة. فأرجو ألاّ تهيّئ جواباً يرضينا الآن بل تُعِدّ الجواب لربّ الأرباب يوم الحساب. لم أقُلها بلساني كما أقولها الآن بل نطق بها قلبي وإيماني. وسرَتْ في جوّ المجلس كهرباء الإيمان، وإن أكُن أنا مطلقها فإن مدّخرتي (أي بطاريتي) صغيرة إن قيست بأمثالها ممّا عند الحاضرين. وما ظنّك بأمثال الشيخ محمد الحامد، والشيخ أبيغدة، والشيخ العاني، والسيد المكي الكتاني، ومَن لا أذكر الآن اسمه ولكن الله يذكره ويشكره؟ إن ذاكرتي بصرية، فكأنني حين أكتب هذا الكلام أتصوّر المجلس الكبير الذي كنّا فيه، وفي الزاوية التي كنت فيها المفتي وفي المقابلة لها الوزير، وكأنني أرى المشايخ وهم يتكلّمون من أماكنهم. وكانت جلسة روحية إيمانية، وسأل الوزير أحد الإخوة المصريين مِمّن كانوا يعملون في سوريا عن بعض ما قلت، فدنا من أذنه يسارّه، فخفت أن يلقي فيها ما يُفسِد به علينا ما جئنا له فقلت له جهراً: يا سيادة الوزير، لا تسمع منه. إنه صديقي، ولكنه هو وأمثاله يغشّونك ويغشّون سيادة الرئيس. الشعب هنا ناقم والأمة تغلي غضباً لله وللأخلاق، وهؤلاء يكذبون عليكم ويكتمون ذلك عنكم. فأصابه هو ومن معه من هذا الكلام ذهول، لم يعُد يدري معه ماذا يقول. ومرّت ساعتان وعشر دقائق، وهمّ الوزير بالقيام

يريد الانصراف لأن عنده موعداً أحسب أنه كان في رياسة رعاية الشباب، فصاح به السيد مكي: أتذهب إلى من كلّ هَمّه اللعب وتدع علماء المسلمين الذين جاؤوا يحفظون عليك دينك وآخرتك؟ اقعد! فقعد. وأشهد أني قلّما رأيت مثل السيد مكي الكتاني رحمه الله، في عزّة نفسه وجرأته على الحُكّام وقوّة تأثيره عليهم. * * * وذهبنا إلى دارنا بعد انقضاء الاجتماع مع بعض من كان حاضراً، وأذكر أن منهم الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وأنه قال لي كلاماً خجلت منه لأنه أعطاني فيه ما لا أستحقّه، ولكنه كان دافعاً لي إلى الأمام. ومشى خبر هذه المقابلة بين الناس، ونسبوا إليّ مناقب ليست لي ومنحوني ألقاباً أتمنّى أن أكون أهلاً لعُشرها. ولكن الشرّ بقي ماشياً في طريقه، ما بدّل الطريق ولا خفّف السرعة ولا خشي أهله العواقب. والمصيبة أن جمهور الناس ما لهم لسان، وأن أكثر أهل اللسان والأقلام الذين يُسمَع قولهم وتُقرأ كتابتهم من الصحافيين والسياسيين لا يعبّر أكثرُهم عن إرادة الأمة ولا يصدر عن رأيها، وليس الذي يقولونه ويكتبونه هو الذي يصوّر حالها ويعرض حقيقتها. ولطالما مرّت بنا أيام كان البلد الذي نعيش فيه يتزلزل بالمظاهرات وتشتعل فيه النار، ويموت فيه الناس ويُجرَحون ويُمنَع

فيه التجوّل، ثم نقرأ في التقرير الرسمي أو نسمع في الإذاعة الحكومية، أن الأمن شامل والسكينة عامّة والناس كلهم بخير! والمشايخ عندنا كثر. وأنا أشاركهم الدعوة الإسلامية العامّة التي تجمع وأُجانب في التفصيلات التي قد تفرّق، ثم إني لا أزاحم شيخاً على مشيخته، بل إنها لو عُرضت عليّ لأبيتُها، بل لقد عُرضت عليّ غير مرة فتملّصت منها وابتعدت عنها. لذلك كنت صديقاً للجميع وكنت أقدر الناس (والحمد لله) على جمعهم. حتى إن الشيخ أمجد الزّهَاوي رحمة الله عليه جاءنا مرة مع الصديق الشيخ محمد محمود الصوّاف، فقابلتهما في الفندق الذي نزلا فيه بعد العصر، فثار عليّ الشيخ الزّهَاوي ثورته المعهودة التي تبعثها الغيرة على دين الله والحماسة في الدعوة إلى الله، وقال: أفندي، إنتو قاعدين ما تعملون شيء. لماذا لا يجتمع العلماء ويُصلحون؟ قلت له: كم مرة اجتمعوا فكان اجتماعهم بأجسامهم وحدها وأرواحُهم متفرّقة، فما أفاد اجتماع. قال: أنت، عليك أنت أن تجمعهم والنجاح على الله. قلت: سأجمعهم لك الليلة إن شاء الله بعد العشاء. واتصلت بهم واحداً بعد واحد، من أقصى جماعة السلفية إلى أقصى جماعة الصوفية، ودعوتهم إلى الاجتماع في دار الحديث الأشرفية بعد العشاء، فما تخلّف منهم أحد. وتكلّمت أقدّم إليهم الشيخ أمجد، فتكلّم الشيخ أمجد كلاماً كله إخلاص، ثم تكلّم الشيخ الصوّاف باندفاعه وحماسته وجهارة صوته حتى

توهّمنا أن نار الحماسة قد أُضرِمَت بين جوانحهم وأنهم صاروا مستعدّين للعمل، وقلت لهم: إننا لا نريد من أحد منكم أن يبدّل طريقه أو أن يعمل شيئاً لم يكن من قبلُ يعمله، إنما نريد أن يكون عملنا موحّداً، فإذا نزلَت بالمسلمين نازلة وكّلنا من يوصل إليكم خبرها، فمن أراد أن يعمل عمل ما رآه؛ فالخطيب يخطب على منبره، والمدرّس يعرض للقضية الطارئة في درسه، وصاحب القلم يكتب فيها بقلمه، ومن لم يكن له قلم ولا لسان يحدّث بها إخوانه وأصحابه. ولعل الذين يتابعون هذه الذكريات يذكرون أنني جمعت العلماء مثل هذا الجمع وأنني قلت لهم مثل هذا الكلام سنة 1937 لمّا رجعت من العراق إلى الشام، وأننا انتخبنا يومئذ لجنة من ثلاثة عملها أن تُبلغ هؤلاء العاملين بما يطرأ على الإسلام والمسلمين، وكان الثلاثة يومئذ هم الشيخ ياسين عرفة، والأستاذ محمد كمال الخطيب، وكاتب هذه السطور. وكلهم اليوم حيّ يُرزَق. هذا ما كان سنة 1937، أما هذا الاجتماع الذي أتحدّث عنه (سنة 1959) فقد وقّع فيه الحاضرون جميعاً على ميثاق إسلامي يعملون فيه للإسلام ولدفع الشبهات ولتخليص أبنائه من الوقوع بيد أصحابها. ولم نكن نريد سياسة ولا نريد رياسة، ولا نريد كسباً دُنيَوِياً. وافترقنا بعدما وقّعنا الميثاق، وكانت هذه الجلسة هي الأولى، وكانت هي الأخيرة. * * *

وعُدنا نجتمع، معشر المشايخ والشباب المسلمين العاملين في الجمعيات الإسلامية، نحاول أن ندفع هذا الفساد الذي حلّ بالبلد وأن نُصلح المدارس وأن ننقّيها ممّا دخل عليها من الفساد والانحراف. وكان الاجتماع مرة في بيت السيد مكي الكتاني، فقلت لهم: لماذا لا نقيم أسبوعاً ثقافياً يخطب فيه كل مرة ناس منّا، يعرّفون المسلمين بدينهم ويُبعِدونهم عمّا يُفسِد عليهم عقائدهم ويضيع أخلاقهم؟ وكان جدال، ثم اتفقنا على أن نبدأ هذا الموسم في اجتماع في جامع تِنْكز لأنه مسجد كبير يقوم في وسط البلد، ولأنه يطل من هنا على شارع النصر ومن هناك على ساحة المرجة، وله مكبّرات للصوت تُسمَع من في الجانبين. وكان الاتفاق على أن يفتتح الاجتماع المفتي الشيخ أبو اليسر عابدين بكلمة منه وأن أُلقي أنا المحاضرة، وأن يختمها السيد المكي الكتاني، نائب رئيس رابطة العلماء. وقد قدر الله لهذا الاجتماع أثراً أكبر ممّا كنّا نقدر، وأن يهزّ البلد هزّاً، وأن تتكوّن له ذيول سأتحدّث عنها إن شاء الله فيما يأتي من الحلقات. * * *

الخطبة التي هزت دمشق

-155 - الخطبة التي هزّت دمشق عرفتم من الحلقة الماضية أننا افترقنا على أن نبدأ ما دعوناه «الأسبوع الثقافي»، يجتمع له الناس في جامع تِنْكز فيفتتح الاجتماعَ المفتي الطبيب الشيخ أبو اليسر عابدين، ثم ألقي أنا خطبة فيها موعظة وفيها ذكرى، وفيها نصيحة وفيها تنبيه، ثم يختتم الاجتماعَ السيد مكي الكتاني نائب رئيس رابطة العلماء. وكان من عادتي إذا نويت أمراً أن أكتمه حتى عن أقرب الناس إليّ، فيُفاجَأ به كما يفاجأ غيره. ولم أقُل لأحد ما الذي سأضمّنه خطبتي، وإنما ذكرت لِفِتْية من المسلمين يزورونني ونبّهتهم إلى دعوة الناس إلى هذا الاجتماع لأنني سألقي فيه ما يهمّهم. فطبع هؤلاء أوراقاً صغيرة فيها الدعوة إليها وزّعوها في مساجد دمشق ونواديها ومجتمعات أهلها، فلما كان الموعد امتلأ المسجد على سعته بالناس، ووقفوا صفوفاً على الجانبَين من الجهة الجنوبية في شارع النصر الكبير ومن الجهة الشمالية في ساحة المرجة التي هي لُبّ البلد، والمكبّرات على سطح المسجد من الجانبَين. لم يحضر الشيخ أبو اليسر فافتتح الاجتماعَ السيد مكي،

ثم قمت أنا للكلام، فصاح الناس من أركان المسجد: المنبر، المنبر! فصعدت المنبر، وأخرجت أوراقاً كنت كتبت فيها خطبتي على غير عادتي. وأنا أنشر هذه الخطبة لأول مرّة، لم تُنشَر من قبل في صحيفة ولا في كتاب، ولم يطّلع عليها إلاّ من سمعها في المسجد من نحو ربع قرن، قلت فيها: لا تعجبوا إن رأيتموني أقرأ في الورق، فما كتبت كلمتي الليلة عجزاً مني عن الكلام، ولكن خوفاً من أن يُفلِت مني الزمام. ثم إني أحبّ أن يُعرَف ما قلت فلا ينقل أحد عني ما لم أقُل. وكنت أحبّ أن أجعل هذه الكلمة دائرة حول كتاب الله، أصل بها ما كان انقطع بانتهاء رمضان من أحاديث «نور من القرآن» التي كنتم تسمعونها من الإذاعة كل مساء على مائدة الإفطار. ولكني نظرت فوجدت أن لكلّ عمل غاية، ولكلّ غاية طريقاً، ولسلوك كلّ طريق دافعاً. فأحببت أن أبيّن في هذه الكلمة غايتنا -معشر المشايخ- التي نمشي إليها، والطريق الذي نسلكه لبلوغ هذه الغاية، والدافع الذي دفعنا إلى سلوك هذا الطريق. وأنا -كما تعرفون- من أهل القضاء، مستشار في محكمة النقض في القاهرة (أذكّر أن تلك الكلمة أُلقيَت أيام الوحدة)، والقاضي لا يُحسِن التلميح والتلويح، بل التصريح والتوضيح. وقد كنت من قبلُ من رجال التعليم، والمعلّم لا يفهم لغة السياسة ولكن لغة العلم. ثم إنني من أرباب الأقلام ومن رجال الأدب، والأدب هو البيان ليس الأدب التغطية ولا الكتمان.

وأنا أقول بصراحة إننا لا نريد من هذه المحاضرات شَغباً ولا تهويشاً (أي تشويشاً) ولا إثارة، ولا نريد أن نكون مَطيّة لمن يسعى إلى الشغب والإثارة والتهويش. وإذا كان في الناس، من فلول الأحزاب السياسية ومن أصحاب المطامع، من يُريد أن يعكّر ماء الساقية ليصطاد في الماء العَكِر، فنحن نريدها صافية عذبة يجري ماؤها سلسلاً رَخِيّاً. وإن كان في الناس من يعمل مثل عملنا ابتغاء سلطان يناله أو تحقيقاً لمنافع نفسه أو حزبه، فنحن لا مطامع لنا ولا حزبَ لنا إلاّ حزب الله، ولا نبتغي إلاّ رضاه. فثقوا أننا لا نريد إثارة الناس. ولكننا لا نريد أيضاً، بل لا نستطيع لو أردنا، أن نسكت عن إنكار المنكَر، وعن النصيحة للحاكمين، وعن بيان الحقّ للناس، لأن هذه هي وظيفتنا التي وضعَنا فيها ربّنا وأنذرَنا إذا لم نؤدّها حقّ أدائها أن يعذّبنا بالنار. وكل ما يمكن أن ينالنا في الدنيا من أذى إن أدّيناها أهون من عذاب النار. ونحن نهدم ونبني. نهدم الجدار المائل، ولكنّا لا نتركه كومة من التراب بل نبني مكانه جداراً متيناً قوياً. ونحن نقتلع النبتة الخبيثة والحطبة اليابسة، ولكن لا ندع مكانها أرضاً قاحلة بل نزرع فيها أفانين النبات، لتنعم الأنظار منها بأفانين الأوراد والأزهار وينتفع الطاعم منها بأنواع الثمار. لا نُنكِر المنكَر ونمشي، بل نقف حتى نُحِلّ محلّه المعروف. إننا نريد أن نعلّم الناس دينهم، لأن الدين باب كل صلاح وسبب كلّ خير، ولأنه الطريق إلى السعادة في الدنيا وفي الآخرة.

إننا نريد أن نبني أمّة جديدة مسلمة. فكيف نبنيها؟ كيف يبني الباني الدار؟ إنه يختار الحجارة، ثم يرصفها، ثم يشدّ بعضها إلى بعض. وحجارةُ بناء الأمّة أفرادُها. إنها لا تنشأ أمة صالحة من أفراد فاسدين. فلنبدأ أولاً بإصلاح أنفسنا بتصحيح العقيدة والبعد عن المحرّمات ومعرفة أحكام الدين والعمل بها. إن الواعظ إن لم يبدأ بنفسه فيعظها لم يستطع أن يعظ الناس، والنبع الجافّ لا يَمُدّ السواقي بالماء، والفؤاد الذي يملؤه الظلام لا يضوّئ للسالكين الطريق، والقلب الذي فيه الثلج لا يبعث في قلوب السامعين حرارة الإيمان، والذي يطمع في أموال الناس وفي دنيا الحكّام لا يستطيع أن يعظ الناس ولا أن ينصح الحكام. والكلام الذي يخرج من اللسان لا يجاوز الآذان ولو حوى جواهر البلاغة ودُرَر البيان. فلنحاول أن نُصلِح أنفسنا لنُصلِح الناس. وإذا أصلح كل أب نفسه وراقب الله وكان معه بقلبه كان الله معه، فسخّر لطاعته زوجه وولده. فليكن كل واعظ بفعله أَوْعَظَ منه بقوله، فإنّ عيب أمثالي أنا -من وُعّاظ آخر الزمان- أن أفعالهم لا تماثل أقوالهم، فلا يستمع الناس منهم. ثم ليعمد كل واحد منّا إلى أسرته فيحاول إصلاحها، فإن الأمّة هي مجموعة أسر، فإذا صَلُحت الأسر صَلُحَت الأمّة. والله لا يبدّل ما بقوم حتى يبدّلوا ما بأنفسهم، هذا هو دواء القلوب كما أن العقاقير أدوية الأجسام. والأدوية لا تُفيد جسماً يعاشر صاحبه المرضى ويعرّضه في كل لحظة للعدوى، وأدوية القلوب

لا تنفع قلب من يصاحب الأشرار ويخالط الفُسّاق الفُجّار. ولا بد للمريض من حِمية ولا بد له من عزلة، فلنحمِ أنفسنا عن المُغريات والمُغويات، ولنعتزل الضالّين المُضِلّين والفاسدين المُفسِدين، من الآن إلى أن يتمّ لنا العلاج. وأمراضنا الروحية على ضربين: ضرب يأتي عن طريق العقل وضرب يجيء عن طريق الغريزة، يعمل لكل منهما إبليس وأعوانه من شياطين الجنّ وشياطين الإنس. وأنا أُجمِل الآن ولا أفصّل، وأشير ولا أبيّن، لأن ما أقوله اليوم هو مقدّمة المتن، وسيأتي المتن والشروح والحواشي إن شاء الله ووفّق إلى استمرار هذه المجالس. لقد ظهرَت فينا أفكار غريبة عنّا ما كنا نعرفها ونحن صغار، أفكار جاء بها الاستعمار وصنائع الاستعمار، من الذين تربّوا في تلك الديار. منها قولهم «الدين لله والوطن للجميع»، يجعلون الدين مفرِّقاً والوطن جامعاً والدينَ فرعاً والوطن أصلاً. مع أن الدين لله، هو يشرعه وهو ينزله: {ألا للهِ الدينُ الخالصُ}، {ويكُونَ الدينُ للهِ}. والدين لنا أيضاً يهدينا ويدلّنا: {اليومَ أكملتُ لكم دينَكُمْ}، {أتعلّمونَ اللهَ بدينِكُم؟}. والوطن في نظر الإسلام ليس التراب ولا الحجارة ولا السهل ولا الجبل، ولكن وطن المسلم حيث تسود أحكام الإسلام: {إنّ الذينَ تَوَفّاهُمُ الملائِكةُ ظالمي أنفسِهِمْ، قالوا: فيمَ كنتم؟ قالوا: كنّا مُستضعَفينَ في الأرضِ. قالوا: ألم تكنْ أرضُ اللهِ واسعةً فتهاجروا فيها؟}.

ومنها قولهم بفصل الدين عن السياسة وفصل الدين عن العلم، يترجمون هذا الكلام عن غيرنا ويردّدونه ترديد الببغاوات، ولا يعرفون ماذا يريد أصحاب هذا الكلام بالدين. الدين عندهم هو ما يحدّد صلة الإنسان بالله، أي أن الدين هو العبادات عندنا، والعبادات (أي الصلاة والصيام) لا تدخل في السياسة ولا تدخل السياسة فيها. ولكن الإسلام ليس عبادات فقط؛ الإسلام فيه العبادات وفيه المعاملات، وفيه المناكحات وفيه العقوبات، وفيه الحقوق الدولية العامة والخاصة، وفيه الأخلاق وقواعد السلوك. فإذا لم نُدخِل السياسة في صلاتنا وصيامنا فهل نستطيع ألاّ نُدخِل في سياستنا آيات ربنا التي أنزلها علينا في قرآننا؟ هل نستطيع أن نحذف من سورة براءة أو الأنفال الآيات التي توجّه سياستنا الدولية؟ ولا تؤاخذوني إذا أعدت كلاماً قلته من يوم أصدرت أوّل كتاب لي سنة 1348هـ، ولا أزال أقوله، وهؤلاء لم يستطيعوا أن يفهموه إلى الآن. (إلى أن قلت): أمّا المرض الذي جاءنا عن طريق الغرائز والشهوات فإن له قصّة. وقصّته أن طائفة من الشباب الذين تربّوا في فرنسا وفي غير فرنسا، ورأوا فيها ذلك الانطلاق وذلك التحلّل، ورأوا أنهم ما تمنّوا لذّة إلاّ نالوها ولا اشتهوا منهنّ واحدة إلاّ وصلوا إليها، فعشقوا تلك البلاد ورأوها جنّة من جِنان الشيطان. فلما عادوا لم يستطيعوا أن يعيشوا في بلدهم الذي عادوا إليه

وهم يرون الجميلات ولا يقدرون على التمتع بهنّ، ولا يريدون (أو لا يقدرون) أن يقتصروا على الحلال القليل بعد استمتاعهم هناك بالحرام الكثير. وضاق عليهم الأمر واشتدّت الحال، وعاشوا من لذع الشهوة التي تتوقد نارها في قلوبهم عيش العذاب، فلما اشتدّ الضيق جاءهم الفرج. قلنا لهم: تعالوا أنتم من دون الناس جميعاً فأشرِفوا على بناتنا في مدارسهن، لقد جعلنا إليكم أمر تربيتهن وتعليمهن وأمر ثقافتهن وإرشادهن. كما كلّفناكم، أنتم وحدكم، رعاية شبابنا وتوجيه أبنائنا في الصحف وفي الإذاعة، وهذا الذي جاءنا حديثاً ولم نكن نعرفه من قبل وهو الرائي (التلفزيون). فطارت عقولهم من الفرح وأطلقوا لشهواتهم العنان، وأحسّوا بمثل ما يحسّ به الذئب الجائع الذي يشتهي قضمة واحدة من لحم النعجة، ينام بإحدى مقلتيه يحلم بها وينظر بالثانية من بعيد إليها، فقلنا له: تفضّل يا حضرة الذئب المحترَم فأشرِف أنت على هذا القطيع الذي تمشي فيه مئة نعجة. لقد سلّمناهم بناتنا وقلنا لهم: وجّهوهن الوجهة التي تشاؤون واصنعوا بهنّ ما ترون أنه أنفع لهن. فأخذوهن يرقصن لهم، يسافرنَ معهم، ويكشفنَ عن المستور من أعضائهنّ أمامهم، واخترعوا لذلك أسماء شيطانية هي «النهضة الفنية» و «النشاط الرياضي» و «الروح الجماعية» و «المقاومة الشعبية»، وأسماء أخرى ليس لها كلها إلاّ معنى واحد هو التمتّع ببناتنا بعد أن حُرِموا التمتع ببنات فرنسا وغيرها من بلاد الغرب.

بدؤوا بالرياضة تعلّمها معلّمات للطالبات في باحة المدرسة، ثم خرجوا بهنّ إلى الساحة المكشوفة التي يراها الجيران، فلما رأونا سكتنا جعلوا لها ثياباً تكشف عن بعض الساق وعن نصف الذراع، فلما رأونا سكتنا ألّفوا من البنات فرقة كشّافة ومرشدات أخرجوهن يوم العرض، فأنكرنا إنكاراً ضعيفاً. وأنا أحمد الله على أني كنت أول من أنكر هذا في مجلّة الرسالة وكنت آخر من ثبت على الإنكار، ولكنهم رأوا الإنكار فردياً فلم يبالوا به. صنعوا ما صنعوا على تخوّف أولاً وحذر، والعرب تقول «كاد المريب يقول: خذوني». فلما رأونا لا نبالي ولا نعترض ولا نغار على بناتنا خلعوا العذار وأزاحوا الستار، وجاؤوا جَهاراً من الباب بعد أن كانوا يتسلّلون من النافذة، حتى إنني رأيت في رحلتي مع المشايخ إلى مصر التي حدّثتكم حديثها، رأيت يوماً وقد دعانا صديق لنا إلى باخرة له راسية على شط النيل وأمامها ملعب مكشوف الجوانب مفتّح الأبواب، رأيت فيه وأنا قادم إلى الباخرة وأنا راجع منها مئات من الشبّان والشابّات لا يُستَر منهم ولا منهن إلاّ السوأة الكبرى، رأيتهم مضطجعين على الرمال جنباً إلى جنب يتمرّنون على حركات رياضية (جمنازية)، فيمسك المدرب البنت من كل عضو فيها: يمسكها من فخذها لتنقلب من فوق «الثابت»، ويمدّ يده إلى ما شاء منها وهي عارية ما تستر إلاّ حلمتَي الثديَين والسوأتين، كما يُرى على السواحل في شطوط البحار! ورأينا مدارس ثانوية للبنات تقيم حفلات في آخر السنة (بيدي الآن بطاقتان للدعوة إليها) فيها بعد خطبة الافتتاح تسع رقصات تؤدّيهن الطالبات أمام المدعوّين من الرجال والنساء!

ففكّروا: مَن الذي يعلمهن هذه الرقصات؟ هل يعلّمها أستاذ الدين، أم مدرس العربية، أم معلّم الحساب؟ إنه شيء لا يعرفه إلاّ أصحاب الملهيات والحانات. هل تتصوّرون أن يأتي القائمون على تربية بناتكم ببعض هؤلاء الفُسّاق ليُلبِسوهن لباس الرقص ويعلّموهن هذه الرقصات؟! هذا والله الذي كان. تحولَت المدارس إلى مراقص، وصارت الطالبات يصنعن صنيع الأرتستات، أي الساقطات الفاسدات! ثم جاؤوا بما كنا نعجز أن نتخيله تخيّلاً فأصبحنا نراه واقعاً ظاهراً، فأجبروا الأب على أن يبعث ببنته لتنام خارج بيتها شهراً كاملاً في هذه المعسكرات، في معسكر التلّ، تحت إشراف الرجال الأجانب. ولم يكفِهم ذلك حتى عرضوا لنا في الرائي (التلفزيون) صور بناتنا وهنّ يرقصن لهم في ليالي المعسكر. وأنا لا أزال أتساءل: لماذا عرضوا ذلك في الرائي؟ لماذا؟ إنهم وصلوا إلى ما يريدون وأخذوا بناتنا رغماً عنّا لينَمْن شهراً بعيدات عن بيوتنا، فحقّقوا ما كانوا يتخيلونه ووصلوا إلى ما كانوا يريدونه. فلماذا عرضوهن علينا وهُنّ يرقصن لهم في تلك الليالي؟ هل كان ذلك عن غفلة منهم؟ هل كان ذلك مبالغة في إذلالنا، يقولون لنا: انظروا يا من تدّعون الشرف والنخوة كيف جعلنا بناتكم جواري لنا يرقصن أمامنا وأنتم ترون وتتألمون ولا تتكلمون؟ أم كان ذلك استفزازاً للناس، وتحقيقاً لمآرب أحزاب تريد أن يضطرب أمر الناس في هذا البلد وأن يُفقَد فيه الأمان؟ لست أدري. ولكن ذلك كله قد كان، فما نتيجة هذا الذي

كان؟ إن من أشكل المشكلات -يا سادة- توضيح الواضحات، ولكنني مع ذلك أوضّح لكم الواضح فأسأل: ما هو الرقص وما منشؤه؟ منشأ الرقص هو الحركاتُ التي كان يعملها قديماً الجواري المملوكات والبغايا الفاسدات لإثارة الرجال وتحريك الغرائز، ثم تهذّبَت شيئاً فشيئاً وصارت تقع مع أنغام الموسيقى وغدت فناً من الفنون. ومَن تأمّل الأعضاء التي تُحرَّك في الرقص وما يمكن أن يكون لها من دلالة تبيّن هذه الحقيقة التي ذكرتُها. وأنا أفهم أن يكون في البلد مرقص لأهل اللهو، هذا ما تعلّمناه من أوربا! أما أن تتحوّل المدرسة التي أُقيمت للدّين وللأخلاق وللعلم، أن تتحوّل المدرسة إلى مرقص؟ فهذا الذي لا أستطيع أن أفهمه ولا أن أهضمه. وأنا أفهم أن يكون في البلد امرأة فاسدة يُغوِيها الشيطان فتشتغل بالغناء للرجال والرقص أمامهم، وأن يكون فيه نساء شريفات عفيفات ديّنات صيّنات لا يصل إليهن الرجال ولا يقدرون على المتعة بهنّ إلاّ بالزواج الحلال. ولكني لا أستطيع أبداً أن أفهم كيف تصير الطالبة الشريفة هي المغنية الراقصة؟ ونحن جميعاً نعلم أن الشابّ العَزَب يتخيّل المرأة في خلوته فيُجَنّ بخيالها، ويتمثلها ويهيج لرؤية مثالها، وإذا هو رآها أثاره على البعد مرآها، وإن لمس طرف إصبعها هزّت اللمسة جسده وجسدها ... فكيف تكون حاله وحالها عندما نُقيمها أمامه على المسرح، ونُلقي ساطع الأنوار عليها، ونأمرها أن تحرّك كتفها

وتهزّ ردفها وتمدّ ساقها، وأن تميل بجسدها وأن تُميل من ينظر إليها؟ وأن تفعل في الحفلة المدرسية كل ما تفعله الساقطات في الحانات والمواخير سواء بسواء، بالأغاني ذاتها والحركات ذاتها؟! والبقية في الحلقة الآتية إن شاء الله. * * *

إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

المحتويات الحلقة (128) كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين ... 5 الحلقة (129) الحياة الأدبية قبل نصف قرن (2) ... 19 الحلقة (130) أنا والقلم ... 37 الحلقة (131) ذكريات جزائرية ... 51 الحلقة (132) بقيّة من حديث الجزائر ... 67 الحلقة (133) ذكريات فلسطينية ... 85 الحلقة (134) شارل ديغول وسوريا ... 101 الحلقة (135) في سبيل فلسطين قطعنا ربع محيط الأرض ... 117 الحلقة (136) قصّتي مع رقص السماح ... 131 الحلقة (137) تعليقات وهوامش ... 147 الحلقة (138) مؤتمر القدس الإسلامي ... 159 الحلقة (139) رجال كرام عرفتهم في مؤتمر القدس ... 175 الحلقة (140) كيف قابلنا الشيشكلي؟ ... 189 الحلقة (141) بغداد، المحطّة الأولى في رحلتنا ... 203 الحلقة (142) زيارة للموصل وإربل ... 219 الحلقة (143) من بغداد إلى كراتشي ... 231 الحلقة (144) صور ولمحات من كراتشي ... 245 الحلقة (145) قصة باكستان ... 261

الحلقة (146) دهلي: الفردوس الإسلامي المفقود ... 275 الحلقة (147) حديث يوم الجلاء عن سوريا ... 287 الحلقة (148) دفاع عن الفضيلة (1) ... 301 الحلقة (149) دفاع عن الفضيلة (2) ... 315 الحلقة (150) لمحات من أسلوب الاستعمار ... 331 الحلقة (151) إفساد التعليم والأخلاق ... على الطريقة الفرنسية ... 345 الحلقة (152) معركة دروس الديانة في مدارس الشام ... 357 الحلقة (153) كيف استقبلت دمشق جمال عبد الناصر؟ ... 367 الحلقة (154) علماء الشام مع كمال الدين حسين ... 377 الحلقة (155) الخطبة التي هزّت دمشق ... 391

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق ... 1935 2 ـ قصص من التاريخ ... 1957 3 ـ رجال من التاريخ ... 1958 4 ـ صور وخواطر ... 1958 5 ـ قصص من الحياة ... 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح ... 1959 7 ـ دمشق ... 1959 8 ـ أخبار عمر ... 1959 9 ـ مقالات في كلمات ... 1959 10ـ من نفحات الحرم ... 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) ... 1960 12ـ هتاف المجد ... 1960 13ـ من حديث النفس ... 1960 14ـ الجامع الأموي ... 1960 15ـ في أندونيسيا ... 1960 16ـ فصول إسلامية ... 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) ... 1960 18ـ فِكَر ومباحث ... 1960

19ـ مع الناس ... 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات ... 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) ... 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام ... 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي ... 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) ... 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) ... 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) ... 2001 27ـ فصول اجتماعية ... 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) ... 2002 29ـ نور وهداية ... 2006 * * *

الجزء السادس

ذكريات علي الطنطاوي الجزء السادس طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

كيف قابلت عبد الحميد السراج بعد الخطبة التي هزت دمشق

-156 - كيف قابلت عبد الحميد السراج بعد الخطبة التي هزّت دمشق لست أستطيع أن أحصي الخطب التي ألقيتها، بل لقد نسيت أكثرها فلا أذكر موضوعاتها ولا زمانها ولا مكانها ولا أذكر ما قلت فيها، ولكن هذه الخطبة بقيَت لأني كتبتها وقرأتها مكتوبة من الورق، لم أرتجلها ارتجالاً كما أصنع دائماً. ثم إنها قريبة العهد ما مرّ عليها ربع قرن، وإنها كانت عميقة الأثر ظاهرة النتائج، وإنها لم تُنشَر من قبلُ في صحيفة ولا مجلّة ولا كتاب، لذلك أستأذنكم أن أتمها في هذه الحلقة، أمشي من حيث وقفت في التي قبلها، فمن اهتمّ بها فليضمّها إليها. * * * هل يجرؤ عاقل واحد في الدنيا أن يقول بأن الشابّ لا يفكّر وهو ينظر إلى البنت ترقص أمامه تفكيراً جنسياً، وأنها هي لا تفكّر فيه تفكيراً جنسياً، وأنه لا يتخيلها في أحلامه بعد الحفلة، وأنه لا يسعى إلى الاتصال بها ولا تحنّ هي إلى الاتصال به؟ والمعلّم، المعلّم الشابّ الأجنبي الذي يعلّمها تحريك

الساق وهزّ الوسط وتكسير الأجفان، ويلقّنها الغنج والدلال وتلك الأحوال، التي هي عماد الرقص وهي شروطه وأركانه ... هذا المعلم لا يفكّر فيها هو الآخر ولا تفكّر هي فيه، ولا يكون اجتماعها به إلاّ نظيفاً شريفاً عفيفاً خالياً من كلّ خطر، كاجتماعها بأبيها وأمها وأخيها وعمّها؟ هذا مع العلم بأن ذلك كلّه حرام. حرام ولو لم يكن فيه خطر ولو لم ينشأ عنه ضرر، حرام حرام. ومن قال إنه حلال كفر وخرج من دين الإسلام، ومن سكت عنه وهو يقدر على إنكاره كان شيطاناً أخرس، ومن حبّذه ودعا إليه كان شيطاناً ناطقاً. وإذا لم يُنكِره أحد في الأمّة صرنا كبني إسرائيل، الأمّة التي لُعنت على لسان داود وعيسى بن مريم. فأنا أُنكِره بقلمي ولساني لأني لا أملك إلاّ قلمي ولساني، أنكره لأدفع عني وعنكم لعنة الله. وأنا أسأل: ماذا يريد هؤلاء من تعليم الطالبات الرقص بدلاً من تعليمهنّ العلم والخلق؟ إن تسعمئة وتسعة وتسعين من كل ألف من أهل هذا الإقليم (سوريا) لا يرون في الرقص إلاّ شيئاً حقيراً ساقطاً ويُؤثرون الموت لبناتهم عن أن ينشأن رقّاصات، ويلعنون الأدب والفنّ إن كان في الأدب أو في الفنّ ضياع ذرّة واحدة من أعراض بناتهنّ. فلا تهولوا علينا باسم الأدب والفنّ ولا باسم الرياضة التي تقوّي الجسد، فلا خير في قوّة الجسد إن لم يكن معها قوّة الدين وقوّة الخلق، ولا بالمقاومة الشعبية لأن الحرب صناعة الرجال، فما لنا نحمّل النساء البندقيات والشباب يملؤون المقاهي والسينمات؟

إننا لا نقبل تكشّف البنات واختلاطهن بالرجال واختلاط الرجل بهن أبداً، مهما كان السبب الذي يتذرّع به هؤلاء. هذه هي أعرافنا، وهذه هي أحكام ديننا، وهذه هي سلائق عروبتنا. إن الكثرة من أهل هذا الإقليم من المسلمين الذين يحرّم عليهم دينهم كشف شيء من جسد المرأة للأجنبي. وليس الأجنبي الإنكليزي والأميركي والروسي فقط، بل الأجنبي في نظر الشرع كلّ من لم يكن مَحْرَماً للمرأة؛ فابن عمّها أجنبي عنها، وابن خالها، وابن خالتها، وزوج أختها، فضلاً عمّن لم يكن قريباً لها. والذين يدينون بالنصرانية من أهل هذا الإقليم تحرّم عليهم نصرانيتُهم التبرّجَ والتكشّف والاختلاط كما يحرّمه على المسلم إسلامُه. وكلّهم عرب، وأظهر سمات العروبة الغيرةُ على الأعراض والإغراق في صيانة النساء، وليس في الدنيا عربي لا يغار على حُرَمه ولا يصون عرضه وشرفه. فمَن هو الذي وضع هذه الخطّة؟ هذه الخطّة التي كانت خفيّة ولكنها ظهرت الآن واضحة بيّنة. لقد زرنا (ونحن خمسون عالماً من علماء سوريا) الوزير كمال الدين حسين وكلّمناه بصراحة وكلمَنا بصراحة، وخرجنا مقتنعين بأنه لا يريد هذا ولا يعمل له. ولقد زرت الرئيس عبد الناصر قبل الوحدة، وكنت أنا والأمير سعيد الجزائري المندوبَين السوريَين في الوفد العربي المشترك (السوري العراقي اللبناني) لنصرة الجزائر، وجلسنا معه في بيته ساعتين وحادثناه من قرب، فلم يقُل لنا إنه وضع هذه الخطّة أو إنه يريدها. وجالست الرئيس السرّاج طويلاً وحادثته على انفراد

لما كان وزيراً للأوقاف، فلم أحسّ منه أنه وضع هذه الخطّة أو أنه يريدها. وأنتم تعرفون أني لا أتزلّف إلى أحد، ولا أقول هذا الكلام الآن ليصل إليهما لأستغلّه في جلب منفعة لنفسي منهما أو دفع مضرّة عنها، ولكن أقول الحقّ. وليس معنى كلامي هذا أنهما وليّان من أولياء الله ولا أنهما الحسن البصري وسفيان الثوري، ولكن معناه أننا لم نشعر أن الرجلين خصمان للفضيلة ولا للأخلاق. فمن هو إذن الذي وضع هذه الخطّة الشيطانية لإفساد أخلاق الشباب والشابّات؟ وضعها هؤلاء الذين تربّوا في باريس فانطلقوا فيها وراء لذّاتهم انطلاق العطشان الهَيْمان إن رأى الماء، فلما تركوها حنّوا إليها وأرادوا أن ترجع لهم أيامها، وجئنا نحن فسلّمناهم أمر أبنائنا وبناتنا فأرادوا أن يجعلوا دمشق مثل باريس. ونسوا أن هذه الأخلاق هي التي أوْهَت قُوى فرنسا ونخرَت في عظمها نخر السوء فجعلَتها لا تقف أمام جيوش هتلر إلاّ أياماً معدودات. المسؤول هؤلاء الذين يعملون من وراء الستار. ولكنّ هناك مسؤولاً آخر، هناك من هو مسؤول قبل هؤلاء كلهم، وهذا المسؤول هو الأب. إنهم ما أخذوا بنتاً لترقص إلاّ بموافقة من أبيها، وإنهم ينتقون كل بنت جميلة ليعملوها راقصة في المسارح المدرسية أولاً ثم في غيرها بموافقة من أبيها. والذي نعرفه نحن أن الأب العربي المسلم يطير عقله إن رأى بنته تكلّم شاباً أجنبياً أو تمشي معه، فإن رآها كشفَت أمامه عن ساقها أو هزّت له رجلها

أراق دمها. فما الذي جرى حتى صار الأب يحضر الحفلة التي ترقص فيها بنته كاشفة الفخذين، ويصفّق مع المصفّقين؟ أنا أفهم الدافع الذي يدفع المفسدين إلى الإفساد؛ إنه الشهوة المتسعّرة بين ضلوعهم. إن أعظم فرقة راقصة تكون في أكبر ملهى لا توجد فيها إلاّ راقصتان أو ثلاث من الشابّات الصغيرات، يدخل الناس إليه ويدفعون الأجر الكبير من أجل رؤيتهن. وهذه بطاقة فيها برنامج الملهى الذي ترقص فيه النساء في دمشق استطعت أن أبعث من يأتي به. إن في برنامج الملهى أربع رقصات، وفي بطاقات الحفلات المدرسية في الثانوية الرسمية تسع رقصات، تقوم بها مئة أو مئتان من العذارى الفاتنات من بناتنا بنات ستّ عشرة وسبع عشرة! فما هذه البدعة التي ابتُدعت في هذه الأيام؟ كيف تريدون منهم أن يتركوا هذه المتعة النادرة بعدما وصلوا إليها؟ إذا طالبناهم في دمشق الشام، المدينة العربية المسلمة، بزيادة ساعات الدين في المدارس، قالوا: من أين نأتي بالوقت؟ إن الوقت الذي كان ينبغي أن يُخصَّص لدروس الدين أخذَته الاستعدادات للرقص! إن في كل مدرسة مخبراً للعلوم وملعباً وغرفة للموسيقى وغرفة للرسم، مع أن تصوير ما له روح حرام ومع أن بعض الموسيقى ممّا لا يجوز. ولكن ليس في المدرسة غرفة للصلاة! وقد كنا في المدرسة الثانوية (مكتب عنبر) نصلّي الظهر جميعاً ويصلّي معنا كثير من المدرسين، وكانت صلاة الظهر من جملة أعمال المدرسة وكان الطلاّب مجبَرين عليها، وكان للمدرسة إمام رسمي هو الشيخ أحمد زروق رحمة الله عليه.

فألغينا الصلاة ووضعنا محلّها الرقص! بدأنا برقص السماح، على من أحياه ونقله من المشايخ الكبار إلى الفتيات الصغار، عليه من الله ما يستحقّ. ثم جزنا بأنواع من الرقص لا أحفظ أسماءها، ثم وصلنا إلى رقص الباليه. ولقد سمعت اليوم خبراً لم أتحقّقه أن مدارس البنات أُبلغت من المرجع الرسمي لزوم تعليم الطالبات رقص الباليه! هل تعرفون ما هو؟ هو الذي تدع البنت فيه ثيابها المعتادة وتلبس شيئاً كالمطاط يستر جسدها ولكنه يجسّده، فكأنها كاسية عارية، ثم تقفز على رؤوس أصابعها. إنها خطّة شيطانية، كلما رضيتم حلقة منها وسكتّم عليها جاءتكم حلقة أخرى ... (وسكتّ هنا سكتة طويلة ثم قلت): لم يبقَ إلاّ أن تُنكَح بناتكم أمام أعينكم! * * * إن في المملكة الآن من الذين حضروا هذه الخطبة وسمعوها عدداً كبيراً، فاسألوهم ماذا صنعَت بهم؟ نحن قوم لا يكاد يهزّنا شيء ولا يحرّكنا شيء كالعِرض وما يمسّ العِرض. هل تريدون أن أحلف لكم أني لما وصلت في الخطبة إلى هذه الجملة كانت قلوب الحاضرين كلها في يدي؛ فلو دعوتهم إلى الهجوم على الموت لهجموا، ولو اعترضَتهم النار لخاضوا لهب النار، أو شفرات السيوف لمشوا على شفرات السيوف. لا لبلاغة كلامي، بل لأن في نفوسهم من الغيرة على الأعراض ما فيها، الغيرة التي كانوا في غفلة عنها فنبّهتهم إليها، وكأنهم قد

نسوا ما كان فذكّرتهم بما كان. إني لو دعوتهم في تلك اللحظة إلى الثورة لثاروا، ولكني لم أكن يوماً ممّن يدفع إلى الثورة التي تراق فيها الدماء وتُزهق الأرواح، ولا ممّن يريد الفساد في الأرض وقطع حبال الأمن. أنا أدعو إلى الله على بيّنة، بالحكمة والموعظة الحسنة. فإذا جاء الجهاد الذي أمر به الله لإعلاء كلمة الله جاهدنا الكفار والمنافقين وأغلظنا عليهم، ولم ندّخر وسعاً ولم نقبل إلاّ بإحدى الحسنيَين: الظفر أو الشهادة. أمّا النفخ في نار الثورة وأن تكون البلد فوضى وأن يُقتل الأبرياء، فما كنت في يوم من الأيام مَن يصنع هذا أو يدعو إليه. لذلك أضعفت من درجة حرارة الخطبة وحوّلت الموضوع قليلاً من هذه الوجهة، وبرّدت النفوس التي أوقدت فيها هذه النار وقلت: أمّا الثمرات السامّة لهذه الزّرعة فقد ظهرت بواكيرها في العلم، وستظهر قريباً في الأخلاق. لقد كان من ثمراتها في العلم أن انصرف الطلاّب والطالبات عن الدرس. ومتى يدرسون؟ وفي النهار الغناء والرقص، وفي الليل هذا الرائي الذي جاءنا ولم نكن نعرفه من قبل (التلفزيون)! فهبط مستوى المناهج، فما كنا نقرؤه في السنة الأولى المتوسّطة لمّا كنا تلاميذ في الثانوية في أوائل العشرينيات من هذا القرن صار يُقرأ الآن في أواخر الدراسة الثانوية، وجاء خبراء التعليم بأمر ما سمعنا به من قبل، هو أن التلميذ الابتدائي لا يسقط

في صفه، بل ينجح من صفّ إلى صفّ (أي من سنة إلى سنة) نجاحاً تلقائياً، قرأ أم لم يقرأ! واخترعوا في العربية نحواً جديداً غير النحو الذي كنا نقرؤه، فنشأ الطلاّب على جهل بالعربية. أمّا الدين فقد نزلوا به أوّلاً فسمّوه تربية دينية، وجعلوه كالتربية البدنية والتربية الفنية ولم يعطوه إلاّ ساعة في الأسبوع، ولمّا ناضلنا وطالبنا منّوا علينا بساعة أخرى. (والخطبة كما قلت لكم طويلة، لذلك أجتزئ منها بخاتمتها): إننا نراجع الحكام ونُلِحّ عليهم، لأن إبطال المنكَرات من عمل الحاكمين. نراجع الحكام ليمنعوا اللصّ من أن يسرق منّا عِرضنا وشرفنا. ولكن علينا قبل مراجعة الحكام ليمنعوا اللصّ عنّا أن نغلق نحن أبوابنا وأن نحمي متاعنا حتى لا يدخل اللصّ علينا، والعوامّ يقولون «المال السائب يعلّم الناس السرقة». مراجعة الحكام واجبة، ولكنها ليست هي العلاج الشافي ولا الحلّ الأخير، لأن الأمر بأيديكم أنتم، بأيدي الآباء، فإذا أصلح الآباء أنفسهم وعادوا إلى ربهم ووقفوا عند حدود دينهم، وربّوا أولادهم وبناتهم على خوف الله وعلى طاعته، صلحت الأمّة وزالت المفاسد. لذلك نفتتح اليوم هذا الموسم ونبدأ هذه المحاضرات. إننا نريد تعليم المسلمين أمور دينهم وتلقينهم خوف ربهم ... (إلى آخر ما جاء في الخطبة). * * *

لقد كان أثر هذه الخطبة في الناس أضعافَ ما كُنّا نقدّر لها؛ لقد أشعلَت الحماسة في نفوس الذين استمعوا إليها، ونقلوا ما أحسّوا به إلى غيرهم، فما كان الغد حتى كانت حديث الناس في بيوتهم وفي مجالسهم، ولم يبقَ بعدها إلاّ أن ندعو إلى عمل لا نرغب فيه ولا نأمن عواقبه. فاجتمعنا، ورأيت بعض المشايخ كأنهم قد عتبوا عليّ وغضبوا لأنني لم أخبرهم بهذا الذي نويت أن أقوله ونفّذته وهم لا يدرون به. وكان الاتفاق على أن ألقي محاضرة من جنس ما كنت أقول في برنامج «نور من القرآن» في عشيّات أيام رمضان. لقد كان فيها تنبيه وكان فيها تحذير، وكان فيها بيان للحقّ وكان فيها إنكار للمنكَر، ولكن بأسلوب هادئ، فجئت الآن أصنع ذلك بهذا الأسلوب الثائر المثير. ورأيت أن من الحكمة أن نهدّئ بعض ما أثرنا، فلجأت إلى العالم الجليل صديقنا الشيخ محمد أبي زهرة رحمة الله عليه، وكان في الشام، فرجوته أن يُلقي هو المحاضرة المقبلة، لأننا وعدنا الناس أن يكون هذا الاجتماع أسبوعياً يتنقّل من مسجد إلى مسجد من مساجد دمشق الكبار. فقبل الرجل جزاه الله خيراً، على أن تكون محاضرة فيها بيان للحقّ وفيها هدوء، وأن تكون بعيدة عن الإثارة وأن تكون خفيفة الحرارة. وفي حيّ من الأحياء الشعبية القديمة التي كانت في طرف دمشق يُدعى حيّ العقيبة (وكان من قبل ضاحية من ضواحي الشام تُسمّى منزل الأوزاع، وإليها يُنسَب الإمام الأوزاعي)، ذهب مع طائفة من الشباب إلى الاجتماع فوجد -كما خبّرني هو من بعد- حشداً لم يرَ مثله ولم يكن يظنّ (وهذه عبارته) أنه يمكن أن يرى

مثله؛ فالمسجد بصحنه وحرمه والطرق المؤدّية إليه والسقوف المشرفة عليه والساحات القريبة منه، كلها مزدحمة بالناس ليس فيها موطئ قدم لماشٍ ولا مكان يقعد فيه قاعد، وقد مُدّت إليها الأسلاك ونُصبت فيها مكبّرات الصوت ووُضعت فيها المصابيح في الأمكنة التي لا تكفي فيها أضواء الشوارع. وخبّرني رحمه الله أنه كان يريدها محاضرة علمية هادئة، ولكن هذا الجوّ الحماسي أعداه وهزّه وأثاره، فكانت الخطبة على غير ما كان يقدّر، تحمّس فيها وحمّس، وإن لم يبلغ في ذلك مبلغ ما كنت فيه في الخطبة الأولى. وكانت عيون الحاكمين منبثَّة بين الناس، وكان المُخبرون بالمئات مختلطين بالحاضرين، فلما رأوا أن ما صنعوه لم يُغنِ عنهم شيئاً قطعوا التيار الكهربائي في وسط الخطبة عن الحيّ كلّه، فَخَفَتَ صوت الخطيب وعمّت الظلمةُ المسجدَ وما حوله. ولكن المفاجأة -كما خبّرني الشيخ رحمه الله- أنها لم تمضِ دقيقتان حتى عادت الأنوار كما هي ورجعت الأصوات عالية مجلجلة؛ ذلك أن القوم (ولست أعرف من هم، ولكن الله يعرفهم) قد أعدّوا لكلّ مفاجأة متوقَّعة عدّتها وهيّؤوا محرّكات لوصل ما يمكن أن ينقطع من التيار، ونجحَت خطتهم نجاحاً عجيباً. وكان الأسبوع الثالث في المسجد المعروف باسم جامع زيد ابن ثابت، وهو في الطرف الثاني من أطراف دمشق. وكان مدرسة شرعية يقوم عليها شيخ من أتقى الشيوخ العاملين لله، الذين تجرّدوا من حبّ الدنيا ومن الرغبة في الجاه، وأخلصوا في دينهم وابتغوا

ثواب ربهم لا يبتغون غيره، هو الشيخ عبد الكريم الرفاعي. وذهبت إلى هذا الاجتماع وصعدت المنبر، فقلت كلاماً لم أكتبه كما كتبت الخطبة الأولى بل انطلقت فيه -على عادتي- أرتجل الكلام ارتجالاً، ولكنني أذكر معاني ما قلت وإن لم أحفظ ألفاظه. قلت: إن الناس يتساءلون: ما الذي دفع المشايخ إلى إقامة هذا الأسبوع؟ ماذا يريد المشايخ؟ هل يريد المشايخ أن يستلموا الحكم؟ هل يريد المشايخ أن يُحدِثوا في البلد ثورة؟ وأنا أؤكّد لكم أنه ما دفع المشايخَ إلى ما صنعوا أحدٌ، ولا يريدون سياسة ولا رياسة، وما دفعهم إلى ما عملوا رغبةٌ في منصب ولا في مال، إنما دفعَتهم إلى ذلك غيرتهم على دينهم والعهدُ الذي أخذه الله على أهل العلم أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه. لا يريد المشايخ منكم شيئاً. إنما يريدون أن يحموكم من عذاب ربكم، إنما يريدون أن تسلم لكم آخرتكم، إنما يريدون طهارة أبنائكم وبناتكم. وطريقُهم له بداية وله نهاية، فبدايته الإخلاص ونهايته إطاعة الله وإعزاز دينه ونشر علومه وتعريف الناس به. وكل من مشى على هذا الطريق فهو منّا وهو معنا، ونحن مع كل عامل مخلص للإسلام. ولقد أدركت عهداً كان العلماء فيه هم قادة الشعب وهم مرجعه في أمور دينه وفي أمور دنياه، إن تردّد الناس بين أمرَين رجعوا إلى العالِم فأرشدهم إلى أرضى الأمرَين لله وأقربهما إلى رضاه. وإذا اختلف اثنان كان الحَكَم بينهما العالِم، وإن دهم

الناس أمر كان الفزع فيه إلى العالم. ولقد سمعتم مني في خطبة الاستسقاء من الإذاعة كيف كان الناس لما انقطع المطر واستمرّ الجفاف واحترق النبات يرجعون إلى الإمام النووي في دار الحديث، فيدعو العلماء ويبيّن للناس ما ينبغي أن يصنعوا (وسأحدث إن شاء الله حديث صلاة الاستسقاء التي دعوت إليها أيام الوحدة بعد انقطاع المطر ثلاث سنين، وكيف تجلّى الله برحمته فأمطرت السماء). * * * لقد اهتمّت الحكومة ورجالها بهذا الموسم وما أُلقِيَ فيه من خطب، ولكن لم يَدْعُني أحدٌ منهم ولم يسألني سائل ماذا صنعت. وكان السرّاج يومئذ رئيس الحكومة، حكومة الإقليم الشمالي، أي سوريا أيام الوحدة. فكان يأتيني من يحثّني على لقائه فأقول: إن دعاني أجبته، وإن لم يدعُني فلا حاجة لي بلقائه. حتى اقتنعت يوماً بأن لقاءه ينفع المسلمين. وكان الوسيط بيني وبينه مدير دائرة الإفتاء الشيخ فخر الدين الحسني، ولا يزال حياً فاسألوه. فرجوته أن يطلب لي موعداً من السراج. وكان طلب الموعد يتأخّر جوابه أسبوعاً أو أكثر من ذلك، فلما طلبت الموعد في صلاة الظهر رجع إليّ بالجواب بالموافقة على أن ألقاه في منتصف الساعة الثانية (أي الواحدة والنصف). فذهبت إليه مع الشيخ فخري، وقلت له: إن لي حاجة أعرضها قبل أن أبدأ الحديث، هي أنني اشتغلت في عمري

بمهنتين: مهنة التعليم ومهنة القضاء، وكلا المهنتين بعيد عن أساليب السياسة وعن طرائق الدبلوماسيين، فطلبي أن تسمح لي أن أتكلم على سجيّتي وأن أقول ما في نفسي، ولك عليّ عهد الله الذي هو المطّلع على قلبي على ألاّ أقول لك إلاّ الحقّ. قال: تفضّل. وتكلّمت، وقلت له أكثر ممّا قلت في الخطبة على المنبر، بيّنت له ما يصنع موظفو وزارة المعارف بالطلاّب والطالبات، وشرحت له ما نراه من الانحرافات، ونصحت له كما أمر الرسول ‘ طلبةَ العلم أن ينصحوا للحاكمين كما ينصحون لعامة المسلمين ... وهو ساكت لا يتكلّم ولا يبدو على وجهه رضا ولا سخط ولا استزادة من كلامي ولا ملل منه. حتى انقضت ثلاثة أرباع الساعة، وأنا أتكلّم وأنظر إلى الساعة في يدي. ولم يبقَ عندي ما أقول فسكتّ، وبقي ساكتاً، فقلت له: هل تأذن لنا بالانصراف؟ فوقف يودّعنا، وكأنه همّ بأن يمشي معنا فعزمت عليه أن يبقى في مكانه، وما كنت أدري هل كان سيمشي معنا يودّعنا حقيقة أم قد أوهمَنا بذلك؟ فلما خرجت قلت للشيخ فخري (وهو كما قلت لكم حيّ فاسألوه): هل تراه غضب من كلامي؟ قال: لا أدري. قلت هل تراه وافق عليه وسُرّ به؟ قال: لا أدري؟ ولم يقُل خلال الجلسة كلها إلاّ جملتين؛ جملة قال فيها إنه كان يستمع أيام رمضان كلها إلى أحاديثي «نور من القرآن»، وكان ينتبه إلى كل ما يجيء فيها ولكنه يسكت عنه لاعتقاده حسن نيّتي. والجملة الثانية كانت عتاباً على كلمة صدرَت مني لما خطبت في

مسجد زيد بن ثابت إذ قلت: هذا منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحين أقوم عليه تكون قدمي أرفع من أعلى الرؤوس. وكرّر كلمة «أعلى الرؤوس»، فتغابيت وقلت له: الناس في المسجد يقعدون على الأرض وأعلى رأس يرتفع عنها سبعين معشاراً (سنتيمتراً)، والمنبر علوّه ثلاثة أمتار. فنظر إليّ نظرة من يقول إنه فهمها ولم يصدّقها، ولكنه سكت عنها، ولاحت على شفتيه شبه ابتسامة. * * *

صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

-157 - صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام يوم الجمعة 8 جمادى الأولى 1380 كنت في شتاء 1959من عهد الوحدة أشتغل بنشر سلسلة «أعلام التاريخ» التي تكلّمت فيها عن رجال، منهم من عرف الناس سيرته مُجمَلة ففصّلتها كعبد الرحمن بن عوف، ومن سمع الناس باسمه ولم يعرفه أكثرهم كالقاضي شُرَيك صاحب المناقب التي قلّما حوى تاريخ قضاء أمّة مثلها، وعبد الله بن المبارك المليونير الزاهد والفقيه المحارب العابد. ومنهم من لم يسمع به في بلدنا إلاّ نفر قليل كأحمد بن عرفان، الذي كان عالماً عابداً وكان زعيماً مجاهداً، والذي نازل في الهند الإنكليز والسيخ معاً وأقام دولة تحكم بالإسلام عجز العدو عنها، فقضى عليها الجَهَلة من المسلمين العوامّ. ومنهم الرجل الذي أرجو أن يقرأ سيرته كل عالِم وطالب علم، الذي أخلص حياته للعلم وفرغ من شهوتَي بطنه وفَرجه وبلغ أرفع منصب علمي على أيامه، وهو أنه صار مدير الجامعة الكبرى، أي شيخ دار الحديث الأشرفية، التي كان من أوائل

شيوخها ابن الصلاح وأبو شامة ومن أواخرهم الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ عبد الحكيم الأفغاني. وهو صاحب «المجموع»، أكبر مرجع في فقه الشافعية. أما عرفتموه؟ إنه النووي. وما كنت أكتب عنهم مكدّساً الروايات التاريخية بعضها فوق بعض، كجدار فيه الحجارة الكبار لكن بلا مِلاط يمسكها ولا هندسة تنظمها. بل كنت في تأليف هذه السلسلة أمشي على طريقتي في كتابي «رجال من التاريخ»: أجمع أقوال المؤرّخين ثم أحقّقها، ثم أختار مشهداً من حياته أجعله مدخلاً إلى الكتابة عنه، فيكون ما أكتبه عنه وسطاً بين القصّة الأدبية والسيرة التاريخية (¬1). * * * وهذه المقدّمة كلها لأقول لكم إن المطر انقطع على عهد الإمام النووي سنين طوالاً، شحّت فيها العيون وأمحَلَت فيها الأرض وتوالت سنوات الجدب، حتى صارت السهول صحارى ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المجموعة (أعلام التاريخ) في كتيّبات صِغار، لكنها لم تنتشر بين الناس ولم يُكتَب لها من القَبول ما كُتب للكتاب الآخر «رجال من التاريخ». وأنا لم أصل بعد إلى هذا الكتاب فيما أراجع وأصحح من كتابات جدي رحمه الله، لكن الخطة في ذهني -حين أصل إليه بإذن الله- أن أضم إليه هذه السِّيَر التي صدرت في الماضي مستقلة مجزَّأة في سلسلة أعلام التاريخ، وأن أضم إليه بضع ترجمات مخطوطة لم يضمّها أيٌّ من الكتب التي نشرها علي الطنطاوي من قبل، ثم أفصل الأعلام القدماء عن المُحدَثين فأجعل كل مجموعة منهما في جزء مستقل، وهو الأمر الذي كان في نيّة جدي رحمه الله أن يصنعه. وأرجو الله أن يوفقني إلى ذلك كله عمّا قريب (مجاهد).

وجفّ الضرع وهلكَت المواشي. فدعا إلى إحياء سنّة الاستسقاء، وكتب إلى الملك الظاهر، الرجل العظيم الذي طهّر بلاد الشام من الأعداء الثلاثة الكبار: المغول والصليبيين والبيزنطيين وأعاد الوحدة بين مصر والشام. وخرج الناس للاستسقاء في يوم 11 جمادى الأولى سنة 668 هجرية، ومنّ الله على الناس بالمطر. وكان المطر قد انقطع في الشام أيام الوحدة سنين متعاقبات كانت حالنا فيها كحال الشام التي ذكرتها على عهد الإمام النووي، حتى إن عين الفيجة التي كانت تسقي دمشق كلها وكان منها ثلثا ماء بردى قد قلّ ماؤها وكاد يغور. ونظرتُ فوجدت سنّة الخروج للاستسقاء قد نُسِيَت في الشام من مئة سنة أو أكثر من مئة سنة. وكان لي حديث أسبوعي في الإذاعة يُذاع بعد صلاة الجمعة، في مثل الوقت الذي تسمعون فيه الآن من الرائي هنا حديث «نور وهداية»، وقد استمرّ ذلك البرنامج في الإذاعة كما استمرّ برنامج «نور وهداية» حتى كاد يُنهي سَنَتَه التاسعة عشرة. وكنت يومئذ أكتب أحاديثي، لا أرتجلها ارتجالاً كما أصنع الآن. وليتني بقيت على ما كنت عليه، فلقد أضعت على الناس بترك كتابتها نفعاً كبيراً كما أضعت على نفسي جهداً أكبر. والناس يرونني أجيب بلا إعداد فيحسبون أن أجوبتي الآن في الإذاعة والرائي كلها ارتجال، مع أنني أنفق في بعضها ساعات طوالاً أراجع فيها المسألة وأُعِدّ فيه الجواب. فلما كان يوم الجمعة من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1959 قلت في حديث:

نحن الآن -أيها السامعون- في وسط كانون، وهذه هي السماء مُصحية زرقاء ما فيها بقعة سحاب، وهذه هي الشمس ساطعة كأنها شمس آب (أغسطس). فأين الشتاء؟ أين الثلج والمطر؟ لقد تعاقبَت علينا سنون تكاد تكون كسِنِي يوسف، وذلك نذير من الله لنا لنعود إلى ربنا ونُقلِع عن ذنوبنا، ولكن أين مَن يسمع النّذُر؟ إن مفتاح المطر في أيدينا، ولكن أين من يفكّر في مفاتيح المطر؟ إن مفتاح المطر يا أيها الناس هو التوبة والاستغفار: {اسْتغفروا ربَّكم إنّهُ كانَ غَفّاراً، يُرْسِلِ السّماءَ عليكم مِدْرَاراً، ويُمْدِدْكُم بأموالٍ وبَنينَ، ويَجْعَلْ لكُمْ جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لكم أنْهَاراً}. كُلّ ذلك بالاستغفار: بالاستغفار تهطل الأمطار، وبالاستغفار تجري الأنهار، وبالاستغفار يكون المال والبنون. هكذا يقول ربّكم ربّ العالَمين، ليس هذا قولي أنا. وليس الاستغفار باللسان وحده، ولكن بالإقلاع عن المعاصي وترك الذنوب. فهل أقلعنا عن ذنوبنا؟ هل تمسّكنا بديننا؟ هل عدنا إلى ربنا؟ هل نحن مؤمنون حقاً؟ يا أيها الناس، امتحنوا إيمانكم وحاسبوا أنفسكم. وصفَ الله المؤمنين بأنهم: {الذينَ يُؤمِنُونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزَقنَاهم يُنفِقُونَ}، وقال: {إنّما المُؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهُم وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُهُ زادَتْهُم إيماناً، وعلى ربِّهم يَتَوكّلونَ}. فهل نحن من الموصوفين بصفات المؤمنين؟ (إلى أن قلت): أوَلم يبيّن الرسول ‘ أن كل واحد منّا راعٍ

ومسؤول عن رعيّته؟ وأن الأب راع لأولاده مسؤول عن تربيتهم وتنشئتهم على الدين والفضيلة والأخلاق الإسلامية؟ فهل قام الآباء بواجب هذه الرعاية، أم أضاع الآباء سلطانهم وفقد الأزواج مكانهم، ولم يبقَ لربّ بيت سلطة على بيته ولا لرجل حكم على أهله ... (إلى أن قلت): ماذا أُعَدّد وماذا أقول؟ أين نحن من المسلمين الأوّلين الذين كانوا مسلمين حقاً يحكمون بما أنزل الله؟ فهل نحكم نحن بما أنزل الله؟ ويتّبعون شرع الله، فهل نتّبع نحن شرع الله؟ ويريدون بأعمالهم كلها وجه الله، فهل نريد نحن بأعمالنا وجه الله؟ يا أيها السامعون، ليس العجيب أن يمنع الله عنّا المطر، ولكن العجيب أن لا تنزل علينا الحجارة والصواعق! فيا أيها الناس، عودوا إلى الله واعتبروا. يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروا. ارجعوا إلى الله فاطلبوا منه المطر واسألوه الغيث، فإذا لم يبعث الله المطر فمَن غيرُ الله يأتيكم بالمطر؟ وإن حفرتم فلم تجدوا ماء ووجدتم ماء الأرض قد غار والعيون قد جفّت، فمَن غير الله يضع لكم الماء في الأرض؟ أإلهٌ مع الله تراجعونه؟ أفي الوجود مُلك غير مُلك الله تفرّون إليه، كما يفرّ اللاجئ السياسي من دولة إلى دولة؟ {يا مَعشرَ الجنِّ والإنْسِ إنِ اسْتَطعتم أنْ تنفُذُوا منْ أقطارِ السّماواتِ والأرضِ فانفُذُوا}. وإلى أين؟ والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما كلّ ذلك له وحده لا شريك له. فلم يبقَ إلاّ الرجوع إليه واتّباع سنّة رسوله بالاستسقاء. إن المسلمين الأوّلين كانوا إذا انقطع المطر تابوا إلى الله من الذنوب،

وأزالوا المنكَرات، وردّوا المظالم، وأدّوا الحقوق، وتصدّقوا بما استطاعوا، ثم يخرج أهل البلد جميعاً، حكامهم أمامهم، إلى البرّية متذلّلين خاشعين لله ناكسي رؤوسهم (وربما صاموا قبل ذلك ثلاثة أيام) وأخرجوا معهم صبيانهم وصلّوا صلاة الاستسقاء ودعوا واستغفروا وابتهلوا. قلّ المطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجدبَت الأرض وهلكَت المواشي، فخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام متبذّلاً (أي بثياب متواضعة) متضرّعاً خاشعاً حتى أتى المصلّى. وكان في كل بلد ساحة يجتمع فيها أهل البلد كلها لصلاة العيد، وكان في دمشق مصلّى كبير في ميدان الحصى، أي في موضع حيّ الميدان الآن. ولا يزال اسم الحيّ الذي يليه حيّ باب المُصلّى (في دمشق) معروفاً إلى الآن. أتى صلى الله عليه وسلم المصلّى، فلم يزل في الدعاء والتضرّع والتكبير والاستغفار، ثم استقبل القبلة فاستسقى، فلم يرجع حتى أنشأ الله سحابة فرعدَت وأبرقَت ثم أمطرَت بإذن الله، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول. وكانوا يُخرِجون الصالحين فيتوسّلون إلى الله بدعائهم، لا بأشخاصهم. لما خرج عمر يستسقي أخرج العباس وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيّك، وها نحن نتوسل إليك بعمّ نبيّك". ثم قدمه ليدعو لهم، فدعا العباس فقال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلاّ بذنب، ولا يُكشَف إلاّ بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيّك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة، فاسقِنا الغيث".

يا أيها السامعون، إن دعوة واحدة تصدر عن قلب مخلص لله واثق من الإجابة قد يرفع الله بها هذا البلاء. لما كان القحط على عهد عمر وجّه رجلين من الأنصار معهما إبل كثيرة عليها الميرة والتمر، فدخلا اليمن فقسما ما كان معهما إلاّ فضلة بقيَت على جمل. قالا: فبينما نحن مارّان نريد الانصراف فإذا نحن برجل قائم قد التفّت ساقاه من الجوع يصلّي، فلما رآنا أسرع في صلاته ثم قال لنا: هل معكما شيء؟ فصببنا بين يديه وقلنا: هذه من عمر. قال: والله لئن وكَلَنا الله إلى عمر لنهلكنّ. ثم أعرض عنّا وترك ما قدّمنا إليه وعاد إلى صلاته، ومدّ يديه يدعو، فما ردّهما نحوه حتى أرسل الله السماء بالغيث. ولمّا أجدبَت السماء في الأندلس على عهد الخليفة الناصر أمر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن يخرج بالناس إلى الاستسقاء، فقال القاضي لغلامه قبل أن يخرج: اذهب فانظر ماذا يصنع أمير المؤمنين. فعاد فقال له: وجدته في ثياب رثّة، واضعاً جبهته على الأرض يبكي ويقول: اللهم إن كنتُ أذنبت فلا تُهلِك الناس بذنبي. فقال القاضي لغلامه: يا غلام، هات المِمْطر (أي الرداء المشمّع الذي يدفع المطر)، فإنه إذا خشع جبّار الأرض رحم جبّار السماء. وخرج فاستسقى فنزل المطر (¬1). فيا أيها السامعون، أحيوا سنّة نبيّكم في الاستسقاء، واجتلبوا الأمطار بالدعاء والاستغفار. إنها سنّة من سُنَن الإسلام ولكنها ¬

_ (¬1) القصّة في كتابي «رجال من التاريخ» (واسمها «خطيب الزهراء»).

نُسِيَت في بلاد الشام، فما علمت أن أهل الشام خرجوا يستسقون من مئة سنة أو أكثر. فأحيوها، فإن من أحيا سنّة كان له أجرها وأجر من عمل بها. * * * ومرّ الشتاء كله ولم تنزل الأمطار. بل لقد تجرّأ واحد من الحكام يومئذ فقال في خطبة له ألقاها: "إننا سنتخذ من التكنولوجيا (¬1) وسائل جديدة تُغنينا عن استجداء السحاب وانتظار المطر". وكانت كلمة فاجرة من عبد ضعيف مدّعٍ، لا يستطيع إذا حبس الله الغيث أن يُنزِله ولا إذا غيّض الله العيون أن يُفيضها، ولا يملك لنفسه، فضلاً عن أن يملك لغيره، نفعاً ولا ضراً. واستمرّ الجدب والقحط، فقلت في حديثي الأسبوعي في الإذاعة يوم الجمعة الثلاثين من أيلول (سبتمبر) 1960: بدأَت اليوم في التقويم أيام الشتاء، فإذا أردتم أن يكون شتاء خير، وأن تنفتح السماء بالمطر، وأن ينشقّ الثرى بالثمر، وأن يرحمكم مَن في السماء، فارحموا أنتم مَن في الأرض، أعطوا ممّا تملكون ليُعطيكم الله ما لا تملكون. وحثثت الناس على التوبة وعلى الرجوع إلى الله، ونصحت الحاكمين بالتمسك بشرع الله، وبيّنت أحكام الخروج للاستسقاء وما ينبغي أن يصنع الناس قبلها: ¬

_ (¬1) كلمة التكنولوجيا سَرَت على الألسنة، وهي مؤلَّفة من كلمتين يونانيتين معناهما التقريبي علم الإتقان، وأنا أرى أن نقول «تِقانة» على وزن نِجارة وحدادة وطيانة، وهو شِبه قياسي.

أن ينظر كل واحد منهم في المعاصي التي يقيم عليها هو وأهله والمخالفات التي يعلمون أنهم يرتكبونها، فليتوبوا منها وليعزموا على عدم العودة إليها. ثم ليقُم خطباء المنابر يوم الجمعة الآتية فيحثّوا الناس على الخروج للاستسقاء، ويبيّنوا لهم أحكامه وآدابه وسنّة رسول الله ‘ فيه. فإذا كان يوم الثلاثاء الذي بعد الجمعة القادمة صاموه، وصاموا الأربعاء والخميس، ثم خرجوا يوم الجمعة في الساعة التاسعة إلى سفح جبل قاسيون في آخر خطّ المهاجرين، حيث تُصلّى صلاة العيد كلّ سنة، وقد أخلصوا النيّات لله، ولم يفكّروا في تجارة ولا لهو ولا سياسة ولا مصلحة من المصالح الدنيَوِية، لا يفكّرون إلاّ في التوجه إلى الله ودعائه دعاء المضطرّ، يقولون: يا ربّ، يدعونه وحده لا يُشرِكون معه أحداً، يقولون: اللهمّ اسقِنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ... (إلى أن قلت): فيا أيها السامعون من مسلمين ومن نصارى، ومن كلّ مَن يعتقد بأن لهذا الكون إلهاً منه المبتدأ وإليه المصير: إذا داهمتكم الشدائد وسُدّت في وجوهكم مسالك الأرض وأُغلقَت دونكم أبواب الفرج، وانقطع عنكم المطر من السماء وجفّت الينابيع في الأرض وغارت المياه من الآبار، فارفعوا أيديكم إلى السماء، فإن باب السماء لا يُغلِقه ربّكم أبداً، فاسألوه يعطِكم وادعوه يستجِب لكم. * * * واختلف الناس في كيفية صلاة الاستسقاء: هل تكون معها خطبة؟ وهل تكون الخطبة قبلها أم تكون بعدها؟ وهل يخرج النساء إليها أم يمتنع خروج النساء؟ وكل منهم يريد فتوى على

مذهبه الذي يتبعه. وفوجئ الناس بهذه الدعوة إلى الخروج لأن هذه السنّة قد نُسِيَت في الشام وتُركت من عهد بعيد. وكان ممّن أبى الفكرة ولم يوافق عليها شيخنا المفتي العامّ الشيخ أبو اليسر عابدين، لا رداً للسنّة ولا جهلاً بأحكامها، فمنزلته في العلم وفي التقوى ترفعه عن أن يُظَنّ به هذا الظنّ، ولكن خاف (كما قال لي) أن نخرج فنستسقي فلا نُسقى، فيشمت بنا الأعداء وتنطلق للكلام عنّا ألسنة الملحدين وأعداء الدين. فأجبت على ذلك في الجمعة التي بعدها وقلت: إننا نخرج اتّباعاً للسنّة وندعو لأن الله أمر بالدعاء، فعلينا العمل وعلى الله الإجابة، وليس يضرّنا ألاّ يُستجاب لنا لأن لله حكمة هي أسمى من عقولنا. وذهبت فجئت بفتاوى من المفتين. وعندنا في الشام أربعة مفتين رسميين للمذاهب الأربعة: المفتي الأكبر هو مفتي الحنفية لأنه كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية التي استُحدث على عهدها -فيما أعلم أنا- منصب المفتي الرسمي، وهو الشيخ أبواليسر. ولم يكن من رأيه الخروج، فبيّنت للناس ما أعرف من كيفية الصلاة وأحكامها في المذهب الحنفي، وطلبت من مفتي المالكية، وكان السيد مكي الكتاني، فكتب لي بخطّه أحكامها في المذهب المالكي (وورقته أمامي الآن وأنا أُعِدّ هذه الحلقة). وكتب لي الفقيه الحنبلي الكبير الشيخ حسن الشطي، وهو أعلم من مفتي الحنابلة قريبه الشيخ جميل، أحكامَ الاستسقاء في مذهب الإمام أحمد، وكتب لي فقيه الشافعية في الشام الشيخ صالح

العقّاد بخطّه (وما كتبه أمامي الآن) عن أحكامها في المذهب الشافعي. وكان عندنا جماعة من أهل الحديث لا يأخذون إلاّ ما صحّ منه، فطلبت من صديقنا الشيخ ناصر الألباني فكتب لي ما ورد من الأحاديث في أحكامها، وورقته بخطّه أمامي الآن. كان عندنا مفتون لجميع المذاهب تعيّنهم الحكومة وتختار المفتي في المذهب من أعلم الناس به، ثم تراخى الأمر وانقطع الحبل، وتولّى هذه المناصب الآن من ليس أهلاً لها، وإلى الله المشتكى. وجاءتنا مشكلة أخرى؛ قام جماعة من المشايخ الذين يميلون إلى الصوفية ومعهم أتباع لهم من الشباب يُنكِرون علينا أننا اخترنا سفح قاسيون لصلاة الاستسقاء، بدعوى أن هذا المكان يقيم فيه الوهابية صلاة العيد. وأنتم لا تدرون ما معنى التهمة بالوهابية في الشام في تلك الأيام! كانت الوهابية تهمة خطيرة يثيرون بها العوامّ. وطالما كتبت في «الرسالة» وفي صحف الشام من نحو نصف قرن أقول إنه ليس في الدنيا مذهب اسمه المذهب الوهابي وإن ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة، وإنه كان حنبلي المذهب لم يأتِ بجديد ولم يبتدع بدعة. ولكن المصيبة في إقناع العوامّ. ولَجّ هؤلاء في معارضتهم، فاجتمعنا في دار شيخنا الشيخ أبي الخير الميداني رئيس رابطة العلماء، وكان حاضراً هذه الجلسة جماعة منهم، وحضرها أخي الأستاذ الشيخ مصطفى

الزرقا. فحاولنا أن نأخذهم بالحسنى وأن نقنعهم باللين وأن نقيم لهم الحُجَج والبراهين، ولكن كنا كمن يخاطب صخرة صمّاء لا تعي ولا تفهم، فثار بهم الشيخ مصطفى الزرقا ثورة ما رأيته -على طول صحبتي إياه وصِلَتي به- قد ثار يوماً مثلها، وغضب غضباً شديداً فسكتوا. ولو كان مني أنا هذا الغضب ما كان في ذلك عجب، فأنا أعترف أني حديد المزاج، والشيخ مصطفى معروف بطول الأناة وسعة الصدر، ولكنه رأى منهم ما يُغضِب الحليم. ثم حُلَّت المشكلة بأن تكون الدعوة إلى الاجتماع باسم الشيخين الميداني ونائبه، وهما شيخان جليلان، بل إنهما صوفيّان، لا يجرؤ أحد من الناس على اتهامهما بالوهابية أو رد كلامهما. ونشرنا دعوة هذا نصّها: رابطة العلماء: عملاً بالسنة المطهّرة تدعو الناس إلى الخروج إلى صلاة الاستسقاء في سفح جبل قاسيون، آخر خطّ المهاجرين، صباح يوم الجمعة في 8 جمادى الأولى 1380 الموافق 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1960، وأن يخرج معهم أولادهم، وأن يكون خروجهم بالتخشّع والتذلّل والاستغفار والتضرّع، وذلك بعد التوبة الصادقة، وردّ المظالم، وأداء الحقوق، وصدق الرجوع إلى الله تعالى. وتُقام الصلاة في الساعة التاسعة تماماً، يصلّي بالناس الميداني، ويخطب علي الطنطاوي. الإمضاء: أبو الخير الميداني رئيس رابطة العلماء، مكي الكتاني نائب الرئيس. * * *

لما كان صباح يوم الجمعة (¬1) بدأ الناس يتوافدون على الساحة، وكان فيها مركز للمقاومة الشعبية أو ما لست أدري ما اسمها، فيها شُبّان وبنات يتدرّبون معاً. نسوا أن النصر من عند الله فهم يطلبون نصر الله بمعصية الله! وكان في خروج النساء للاستسقاء خلاف بين العلماء، ولكن منهم من قال بجواز خروجهن متحجّبات الحجاب الكامل الذي لا يُظهِر منهن ما يصرف الأنظار إليهن. وهذا السفح من أجمل متنزَّهات الدنيا، وقد زرت الشرق والغرب ومشيت من شمالي هولندا إلى شرقي جاوة، فما وجدت أجمل منه إلاّ قليلاً. وقد منّ الله عليّ فجعل لي داراً فوقه، ولكنْ حيل بيني وبينها فحُرمتُ منها، وأسأل الله أن يُزيل العقبات دونها ويسهّل لي الوصول إليها. وهنا (في هذا المكان) كان على الأظهر دير مرّان الذي وصفه ياقوت في معجم البلدان، فارجع إليه تعرف خبره. غصّ السفح كله بالناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ¬

_ (¬1) يوم الجمعة الموافق الثامن والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 1960، وقد رأيتم أن الحديث الذي سبقه كان هو حديث الإذاعة الأسبوعي يوم الجمعة الثلاثين من أيلول (سبتمبر). وبينهما كان حديث لم يُشِر إليه جدّي رحمه الله في هذه الذكريات ولم يُنشَر من قبل قط، فمَن شاء الاطّلاع عليه فهو في كتاب «نور وهداية» الذي سيصدر -بإذن الله- في تاريخ مقارب لصدور هذه الطبعة المصحَّحة من الذكريات. عنوان الحديث «يا الله»، وهو العنوان الذي اجتهدت في اختياره لأن الحديث أُذيع أصلاً بلا عنوان (مجاهد).

وصلّينا صلاة الاستسقاء. ثم قمت بعدها فخطبت خطبة لم أتعمّد فيها بلاغة اللفظ ولم أنظر فيها إلى عمق التأثير ولم أطلب إعجاب الناس، بل لقد حاولت بمقدار ما استطعت أن أنساهم وأن أوجّه قلبي كله لله. ثم تكلّم السيد مكي، رحمه الله ورحم شيخنا الميداني، فكان كلامه أعظم من كلامي، لأنه كان من أرباب القلوب وإن لم يكن من كبار العلماء، وكان من أصحاب الأحوال وإن لم يكن ممّن ينمّق الأقوال. فبلغ كلامه من نفوس الناس ما لم يبلغ كلامي، وسيطرَت على الجميع عاطفة إيمانية عجيبة، ليست من صُنعي ولا من صنعه، ولم تكن لخطبته ولا لخطبتي، ولكنها نفحة من نفحات الله، فلم تكن تسمع إلاّ دعاء مختلطاً بنشيج وبكاء يخالطه دعاء، حتى إن بنات المقاومة الشعبية حاولن أن يغطّين أجسادهن بمقدار ما استطعن، ثم انضمَمْن إلى نسائنا ودعون مثل دعائنا وبكين مثل بكائنا! وكان موقفٌ ندر أن يُرى مثله. وإن من الذين حضروا هذا المشهد كثيراً من المتعاقدين الذي يعملون الآن في المملكة، فاسألوهم عنه يحدّثوكم حديثه. إن الإيمان -يا أيها القُرّاء- مستقرّ في قرارة كل نفس، ولكنه مُغطّى. ومن أسرار العربية أن الكفر في أصل معناه هو التغطية والستر. الإيمان موجود ولكن تتراكم فوقه غبار الشبهات وأوزار الشهوات وهموم الحياة، حتى يخفى فلا يراه الناس، بل إن صاحبه لا يكاد يحسّ به، فإن ذُكّر فذكر نفض عنه هذا الغطاء وظهر إيمانه واضحاً جلياً. * * *

خرجنا للاستسقاء فاستجاب رب السماء

-158 - خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء كنت أتكلّم عن صلاة الاستسقاء وأصف ما كنا نشعر به من الدفقة الإيمانية التي ملأت نفوسنا. لقد نظرت فرأيت كثيراً من الأولاد جاؤوا مع آبائهم، فناديتهم ودعوتهم إليّ، فلما اجتمعوا حولي قلت لهم: يا أولاد، هل تعرفون لماذا جئنا؟ جئنا لنطلب من الله المطر. إذا لم ينزل المطر ماتت زروعنا وهلكَت مواشينا، ولا ينزله إلاّ الله. ونحن يا أولاد، نحن الكبار مذنبون، نحن قد خالفنا أوامر الله، نحن قد فعلنا ما نهانا عنه الله، لذلك يؤدّبنا فلا يسمع دعاءنا. أما أنتم فلا ذنب لكم، أنتم ما كلّفكم الله لأنكم صغار. إن الله يحبّكم لأنكم تحبّونه. ألا تحبون الله يا أولاد؟ الله الذي خلقكم، الله الذي يبعث لكم الطعام والشراب، الله الذي يعطيكم الخيرات كلّها، ألا تحبون الله؟ فصاحوا جميعاً: بلى، نحب الله. قلت: والله يحبكم. يحبكم أكثر ممّا يحبكم آباؤكم وأكثر ممّا تحبكم أمهاتكم. الله أرحم بعباده من الآباء والأمهات،

إذا عصى أحدكم أباه حرمه من مصروفه جزاء عصيانه، ولكن الله يُطعِم في الدنيا من خيره الكافرَ كما يطعم المؤمن، فالله يا أولاد أكرم الأكرمين. لو كنتم عطشانين وآباؤكم عندهم الماء أفلا يسقونكم؟ الله يا أولاد أكرم من آبائكم وعنده أكثر ممّا عند آبائكم، فإن سألتموه أعطاكم. فقولوا: يا ربنا اسقِنا. مدّوا يا أولاد أيديكم الصغيرة وافتحوها، فإن الله لا يردّها فارغة. قولوا: يا ربّ اسقنا، يا ربّ ابعث لنا المطر. لا تُعِيدوا كلامي يا أولاد كأنه درس محفوظات. قد عرفتم ماذا نريد فقولوا ما يخطر على بالكم، فإن الله يسمعكم، كل واحد منكم يدعو وحده فالله يسمعه. ودعا الأولاد وصدقوا الدعاء، واختلطَت الأصوات، أصوات الصغار وأصوات الكبار، وعلا البكاء، ونسي كلٌّ مَن يقف معه لأنه لم يعُد ينظر يميناً ولا شمالاً بل ينظر إلى الأعلى، إلى العلوّ المطلَق لا العلوّ المادي، لا يكلّم أحدٌ أحداً، ولكن كل واحد منهم يخاطب ربه رأساً. وكانت ساعة ما وجدت في حياتي مثلها إلاّ مرّات معدودات في التسع والسبعين سنة التي عشتها (إلى يوم كتابة هذه الحلقة). كانت القلوب كمدّخرات (بطاريّات) فارغة، فشحنها هذا الموقف بالطاقة شحناً كاملاً. لقد أحسسنا المذلة أمام الله فجعلَنا نحسّ العزّة بالله. لم نعُد نرجو في تلك الساعة غيره، ولا نخاف غيره، ولا نتوجه إلاّ إليه، ولا نطلب إلاّ منه. ويا ليتني أستطيع أن أجعل أو أصوغ من الكلمات صورة

-ولو ناقصة- لِما كان، ولكنّ من المواقف ما تعجز عن تصويره الكلمات. * * * ورجعنا بنفوس غير التي جئنا بها، ومرت الجمعة، ومرّ السبت والأحد والإثنين والسماءُ على حالها، زرقاء ما فيها مُزْنة سحاب، والمستهزئون يتكلّمون والشامتون لا يسكتون. فلما كان يوم الأربعاء، بعد خمسة أيام من صلاة الاستسقاء، قال الكريم: خذوا. وكان غيث عامّ استمر إلى موعد حديثي الأسبوعي بعد صلاة الجمعة يوم 4/ 11/1960، والحديث مكتوب أمامي. قلت فيه: الحمد لله، الحمد لله، اللهمّ يا ربّنا لك الحمد. كنا قبل ثلاثة أيام فقط ننظر إلى السماء فنراها مُصْحِية زرقاء ما فيها قطعة سحاب، ونبصر بردى فنرى الهرّة إذا خاضت ماءه لم يبلغ ماؤه بطنَها، وباناس الذي يدعونه بانياس (من فروع بردى) عند شارع الجامعة قد تركوا مجراه وشقّوا في جانبه ساقية عرضها شبران، فكان ماء باناس لا يملؤها. وتورا (أكبر فروع بردى) في آخر القَصّاع ليس فيه قطرة ماء وأرضه جافّة كأرض الشارع. ونتلفّت وراءنا فنرى ثلاث سنين توالت بالجدب، حتى يبسَت الأرض، ومات القطيع، وشحّت الينابيع، وغارت الآبار، فكاد اليأس يملأ نفوسنا. كان هذا كلّه قبل ثلاثة أيام فقط. فتعالوا انظروا الآن، تعالوا

انظروا آثار نعمة الله وقولوا: الحمد لله، الحمد لله، اللهمّ يا ربّنا لك الحمد. وتعالوا فاسألوا أنفسكم: كيف تمّت هذه النعمة؟ كيف استنزلنا الأمطار حتى عمّت الديار وشملت العباد فأحيَت البلاد؟ هل استنزلتم المطر بآلات نصبتموها أو حسابات حسبتموها، أو أسباب مادّية اتخذتموها؟ لا، ولكننا استنزلنا المطر بالأمر الذي جعله الله وحده سبباً لنزول الأمطار (كما جعل سبب الإحراق النار) وهو الاستغفار. إن الله الذي خلق الأسباب وخلق المسبَّبات خلق النار وجعلها سبب الإحراق، وخلق الماء وجعله سبب الريّ، وخلق الطعام وجعله سبب الشبع، وخلق العقول وجعلها سبب التفكير والعلم، الله نفسه الذي خلق هذا كله: السبب والمسبَّب، هو الذي أمر بالدعاء والاستغفار وجعل ذلك سبب نزول الأمطار. لقد دعوتكم السنة الماضية وقلت لكم: إن الخروج للاستسقاء من سُنَن الدين التي نسيها الناس في الشام، فليس في دمشق كلّها من رأى خروجاً عاماً للاستسقاء. مع أن هذه السنّة موجودة في بلاد المغرب إلى اليوم، خبّرني السيد المنتصر الكتاني أن أهل فاس كلما كان الجدب وكلما قلّت الأمطار يجتمعون في الجامع الكبير، ثم يخرجون جميعاً معهم الأولاد والضعفاء، يتقدّمهم العلماء والأمراء، وكلهم متذلّل متخشّع يلبس رثّ الثياب، وقد يمشون حفاة، فلا يزالون يَدْعون الطريق كله بهذا الدعاء المأثور: "اللهم اسقِ عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك،

وأحيِ بلدك الميت". ويُعلِنون التوبة والاستغفار، حتى يصلوا إلى المصلّى في خارج البلد فيصلّوا ركعتَي الاستسقاء، ويخطب الخطيب ويدعو ويجهرون بالاستغفار والدعاء. وقلت لكم: أحيوا هذه السنّة في دمشق، فإن من أحيا سنّة ميتة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما أن من سنّ سنّة سيّئة أو أحياها بعد ما ماتت كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ورويت لكم قصّة الاستسقاء على عهد النووي والكتاب الذي كتبه (وذلك كلّه في كتابي عن النووي)، ودعوتكم إلى صيام ثلاثة أيام، وإلى ردّ المظالم وأداء الحقوق وصدق التوبة، والخروج إلى الاستسقاء إلى سفح قاسيون. فاستجاب أكثر العامة وصاموا، وصام أكثر النساء واستعدّوا، ولكن من الناس من سخر منّا وهزئ بنا وقال: نحن في عصر الذرّة وأنتم تعالجون أموركم بالدعاء؟ قلت: لا يا أصحابنا، نحن لا ندَع العلم ولا نهمل الأسباب، ولا نقول للعطشان -والماء أمامَه- اترك الكأس لا تمدّ إليها يداً وقل اللهم اروِني، ولا نقول للرجل اترك مريضك لا تعرضه على الطبيب ولا تشترِ له الدواء وقُل اللهم اشفِه، ولا نترك النار تشبّ في الدار لا نُلقي عليها دلو ماء ونقعد ندعو نقول: اللهمّ أطفئ النار! لا، ولا يقول هذا الشرع. إن الشرع يأمرنا أن نتخذ الأسباب المادّية كلها، أن نُعِدّ للعدوّ عُدّة القتال، أن نستعمل للمريض أحسن الدواء، أن نسعى للرزق أكمل السعي، ثم ندعو الله الذي خلق لنا هذه الأسباب وخلق لنا العقول التي عرفنا بها أسرارها،

وخلق لنا هذه الأسرار وأودعها في مخلوقاته. فخبّروني، هل لاستنزال المطر سبب مادّي عندكم فنتخذه؟ وإذا كنتم تعترفون بأنكم لا تملكون سبباً مادّياً تُنزِلون به الأمطار العامة التي تعمّ البلاد وتروي أرضها، فلماذا لا تَمُدّون أيديكم إلى من يستطيع وحده أن يُنزِل المطر فتسألوه وتدعوه؟ وقال قوم: كيف تستسقون الآن ووقت المطر ما جاء؟ إنكم تخرجون فتدعون فلا ينزل المطر، فيكذّب الناس بالدين ويسخرون بأهله وتكونون أنتم السبب. قلنا: ما للاستسقاء وقت؛ وقته عند الحاجة إلى المطر. وما دون كرم الله حجاب ولا على عطاء الله حساب، وقد نصّ العلماء على أنها إذا اشتدّت الحاجة إلى الماء جاز الاستسقاء ولو في قلب الصيف. وقال قوم: أصلحوا أنفسكم وطهّروها قبل أن تخرجوا للاستسقاء. قلنا: نحن نعرف والله أن قلوبنا في غفلة، وأن الذنوب تُرهِق بثقلها عواتقنا، وأننا خَطّاؤون. وإننا نستحيي لكثرة ذنوبنا أن نمدّ أيدينا فنقول يا ربّ، ولكن خبّروني: لِمَن نمدّ أيدينا إن لم نمدّها إليه؟ ألنا ربّ غيره؟ هل في الوجود إله آخر نفرّ إليه من الله؟ إنه لا رب إلاّ الله، وكل ما في الوجود ملكه، ونحن عبيده، مهما فررنا منه فلا بدّ من رجوعنا إليه، لذلك جئنا مُقِرّين بذنوبنا تائبين من معاصينا، نسأله أن يعيننا على ترك الذنب وعلى صدق التوبة لأنه لا حول لنا ولا قوة إلاّ منه وبه. لقد قلنا: يا رب، إننا نرى المنكَرات الفاشية والمعاصي

المعلَنة، ولكننا والله ما أمرنا بها ولا أقررناها ولا رضيَت بها قلوبنا، وإننا يا ربّ لا نملك إلاّ ألسنتنا وأقلامنا، وقد كلّت ألسنتنا وانبرَت أقلامنا ونحن نقول ونكتب، نقول للناس: الربا حرام، الزنا حرام، الكذب حرام، الغشّ حرام، كشف العورات حرام، الاختلاط بين الرجال والنساء حرام، الحكم بغير ما أنزل الله حرام حرام حرام. فما سمعوا منّا، فما ذنبنا يا ربّ؟ يا ربّ لا تعاملنا بعملنا ولكن برحمتك، ولا تأخذنا بعدلك ولكن بفضلك. وحاربَنا كثيرون وصرفوا الناس عن الخروج معنا، ولكن الناس خرجوا، وقاموا ساعتين كاملتين في وَقْدة الشمس، ومدّوا أكفّ الضراعة وصرخوا من أعماق القلوب. فكّروا في الأسباب البشرية كلها، فلما رأوها لا تستطيع أن تسوق المطر يجلل البلاد ويعمّ البلاد، فتمرع الأرض وتعيش المواشي ويدرّ الضرع وتفيض الينابيع، ولمّا رأوا أن المطر لا يُشترى بمال الأغنياء ولا بقوّة الأقوياء ولا بعلم العلماء ... قطعوا قلوبهم عند ذلك عن الأسباب كلها لأنهم أيِسوا منها، وربطوا قلوبهم بالله وحده، ثم صرخوا: يا الله، يا الله! ولم يعُد أحدٌ ينظر إلى أحد، ولم يعُد أحدٌ يفكّر في مال ولا ينظر إلى جاه ولا سلطان، ولم يعُد للدنيا وجود في تلك الساعة في قلوب الذين اتصلَت قلوبهم بالله وحده، فامتلأَت بالخشوع وفاضت من ذلك العيون بالدموع، وارتجّت تلك السفوح من قاسيون بـ «يا الله»، فردّدَت صداها صخور الجبل، وردّدَت

صداها جوانب الوادي، فأحسسنا كأن كل شيء في الدنيا ينادي معنا: «يا الله». وكانت دقائق أقسم بالله العظيم إني لم أحسّ مثلها في حياتي، وإني ما كنت أظنّ أن أحسّ يوماً مثلها. دقائق فيها من سموّ الروح ومن أخذة الإيمان ومن نشوة القلب ما لا يُوصَف. سلوا مَن كانوا حاضرين ممّن سال بهم السفح وامتلأ الجبل وقدّرَهم المُقِلّ بخمسة عشر ألفاً والمُبصِر قدّرهم بخمسة وعشرين ألفاً، ملؤوا ساحة التدريب والحدائق المُطيفة بها. إنهم أحياء ما مرّ على المشهد الذي شهدوه إلاّ أسبوع واحد فسلوهم: هل أبالغ أو أتزيّد، أو أن الواقع كان أكثر ممّا أقول؟ لقد عمّ الخشوع كل من كان هناك، حتى الذين وقفوا من فوق من الشباب والبنات ليسخروا منّا. كانوا يسخرون، فلما جرفَتهم موجة هذا الخشوع جعلوا يبكون كما كان يبكي كلّ من حضر. ولقد كان فيهم بنت سافرة متكشّفة جاءت لتلهو مع الشباب، فلما ارتجّ الجوّ بكلمة «يا الله» تتجاوب أصداؤها في مداخل الوادي وبين صخور الجبل جعلَت تصرخ مع الناس «ياالله» وتبكي وتستغفر وتتوب، واقتربَت من نسائنا تسألهن كيف يمكن أن ترجع إلى الله وأن تتمسّك بالدين. لقد رجعنا بقلوب غير القلوب التي خرجنا بها، رجعنا ونحن نحسّ أننا قد بدّلنا بنفوسنا نفوساً جديدة. ولكن الناس لبثوا الأيام الأولى التي تلت الصلاة على سُخرهم وشكّهم. قالوا: أين المطر؟ أما قلتم إن الاستغفار سبب الأمطار؟ قلنا: ...

ما قلنا نحن شيئاً، ولكن ربّكم هو الذي قال: {استغفروا ربَّكم إنهُ كانَ غفّاراً، يُرسِلِ السّماءَ عليكم مِدْرَاراً}. ربّنا غفّار، ولكن لمن؟ {لِمَنْ تابَ وآمَنَ وعمِلَ صالحاً}، فهل تُبنا وآمنّا وعملنا صالحاً؟ ومن قال لكم بأن المطر ينزل حتماً إذا أقمنا صلاة الاستسقاء؟ إن النووي الذي خبّرتكم خبره لما استسقى نزل المطر بعد سبعة أيام. فضحكوا وسخروا، وقال قوم: انظروا، أن الصحو قد ازداد ببركة دعاء هؤلاء! واستمرّوا يسخرون. ولكن الله أراد أن ينصر سنّة نبيّه ويحقّق وعده، ويعاملنا بما هو أهل له لا بما نحن له أهل، فما مرّت خمسة أيام حتى تلبّدَت السماء بالسحب تغطّي الشام كله، ثم هطلت الأمطار. وتتابعَت علينا الهواتف بالتهنئة، وعاد إلى الإيمان ناسٌ كاد يزعزعها اليأس، وحسب هؤلاء الإخوان أن هذا الخشوع كان بخطابي أو بخطاب السيد الكتاني وأن هذه الاستجابة إنما كانت لدعائي أنا. وأنا والله ما قلت هذا بلساني ولا اعتقدته بقلبي. ومَن أنا حتى يكون لي هذا الشأن؟ أنا والله عاصٍ خطّاء مستور بِسَتر الله. وما أنا من الصالحين، وإني لأرجو أن يسيّرني ربي بركابهم وأن يُلحِقني بهم. ولكن بدعاء الداعين المخلصين، بنداء هؤلاء الأطفال الذين جئنا بهم فقلنا لهم، قولوا: يا ربّ ابعث المطر. هؤلاء الأطفال الذين لم يَجرِ عليهم القلم ولم يبلغوا سنّ التكليف، ودعاء من لايعرفه الناس. ولَرُبّ أشعثَ أغبر لا ينتبه إليه أحد ليس له مال

ولا جاه ولا منصب، لو أقسم على الله لأبرّه. الله أعلم بدعاء من كانت الاستجابة، فالحمد لله. الحمد لله. اللهمّ يا ربّنا لك الحمد. لقد كان هذا الخير ببركة الدعاء وإحياء سنّة الاستسقاء. إن آلافاً منكم صَدَقُوا التوجّه إلى الله دقائق فكانت هذه النعمة السابغة، فكيف لو توجّهنا إليه جميعاً؟ كيف لو كنا معه دائماً، نُحِلّ الحلال ونحرّم الحرام ولا نخالف الشرع ولا نُعلِن المعاصي؟ فيا أيها الناس، استغفروا ربكم وتوبوا إليه، وكلّما دهمكم خطب أو كان لكم مطلب فمدّوا أيديكم وقولوا «يا الله» فإن باب الله مفتوح دائماً. ما لكم تقصدون أبواب اللئام وهي مُغلَقة في وجوهكم وتَدَعُون باب أكرم الأكرمين وهو لا يُغلَق أبداً؟ يا أيها الناس، إن هذا المطر دليل ظاهر على أن الله يستجيب دعاء من دعاه، فهل بعد هذا الدليل شكّ أو ارتياب؟ * * *

تعليق على مقالة وجواب على رسالة

-159 - تعليق على مقالة وجواب على رسالة أنا أقرأ كلّ مجلّة وكل كتاب يصل إليّ أو أطالعه وأمرّ عليه بنظرة شاملة، إن لم تُحِطْ بتفاصيله فإنها تُلِمّ بمُجمَله، ولكني لا أجد فضل هِمّة أمشي بها إلى حيث تُشترى المجلّة أو الكتاب. وقد حمل إليّ وأنا أُعِدّ هذه الحلقة جارُنا السيد نادر البارودي مجلّة «الوطن العربي» (وأنا قلّما أراها لأنها لا تقع تحت يدي) فوجدت فيها مقالة طويلة كطول ليل المريض الموجع، سوداء مظلمة مثل ظلمته وسواده. وفي فحمة الليل تتشابه المسالك على السالك فيضلّ الطريق، كما ضلّ كاتب هذه المقالة، فجاء فيها بالمتناقضات وهدم في بعضها ما بنى في بعض. وإذا كان المكتوب يُعرَف من عنوانه فإن عنوان هذه المقالة هو «السلفيون خطفوا من الحركات السياسية شباب هذا الجيل». وبدأ الكاتب مقالته بكلمة للدكتور زكي نجيب محمود يقول إنه أوردها بكبرياء العالِم وترفّع المثقّف. ووجدته بعد ذلك يتكلّم عمّا سَمّاه الالتزام الأيدولوجي فيقول (وهذا كلامه): "لأن الالتزام الأيدولوجي جزء لا يتجزّأ من شرف العمل الحزبي ومصداقية

الحِرفة السياسية، ولكن هذا الالتزام عندما يتحوّل إلى انغلاق كامل على الإيمان بالعقيدة والانطواء على المبدأ ينقلب إلى صورة مخيفة من صور الهَوَس والانجذاب قد تكون مقبولة في عالَم الدراويش والصوفيين، إلخ". وضعت خطاً أحمر تحت كلمة «خطفوا» وخطاً تحت كلمة «كبرياء العالم» وخطاً تحت هذه الفقرة لأنتبه إليها فأعلّق عليها، ثم وجدت أنني إذا مشيت إلى آخر المقال امتلأ بالخطوط الحمراء كما يمتلئ بالدم الجسد الذي قُطّع قِطَعاً فصار أشلاء ومِزَقاً، فرفعت القلم وقعدت أفكّر. أليس في هذا العنوان هجاء ظالِم لشباب هذا الجيل، إذ يجعلهم مَتاعاً كبعض المتاع يُسرَق أو يُخطَف فلا يملك منعاً ولا دفعاً، وينسى أن لهم عيوناً تُبصِر الطرق المفتّحة أمامهم، وآذاناً تسمع الدعوات المعروضة عليهم، وعقولاً تختار من الطرق أقوَمَها ومن الدعوات أحسنها، وحقّ الاختيار لهم؟ أليست هذه هي «الديمقراطية» التي توجعون بها آذاننا وتصدّعون بها رؤوسنا؟ أفئن اختار الشباب من بين الدعوات التي تصخب بكثرتها الآذان، بل أئذا نبذها الشباب كلها واختاروا منها الدعوة إلى الإسلام، تنسون ديمقراطيتكم وتسلبونهم في الاختيار حرّيتهم، وتريدون أن تفرضوا رأيكم عليهم؟ وإذا كان الله قد هدى الشباب إلى الحقّ وأراهم طريقه فسلكوه، فلماذا تناقضون أنفسكم وتنسون أن شريعة الديمقراطية التي تؤمنون بها تجعل حقّ الاختيار لهم؟ وإذا رجعوا إلى المساجد فما الذي يضيركم من رجوعهم إلى المساجد؟ هذا نور الله قذفه

في قلوب الشباب، أفتريدون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم؟ والله مُتِمّ نوره ولو كرهتم. وتحت هذا العنوان الكبير للمقالة عنوان آخر هو «لماذا يصبح التلفزيون العربي وقفاً على الشيخين الشعراوي والطنطاوي والسلفيين؟»، ويسأل لماذا لا يأتون إليه بمن سَمّاهم الكاتب المفكّرين والكُتّاب القوميين والعلمانيين؟ هذا هو منطق الكاتب وأمثاله: يُعطون الناس حقّ الاختيار بحكم الديمقراطية، ثم يريدون أن يسلبوهم هذا الحقّ وأن يفرضوا عليهم غير ما يرون! أليس في كلامه عن الالتزام طعن للعقيدة الإسلامية؟ أليس فيه دعوة الشباب إلى الخروج عليها؟ فليست القضية إذن في الالتزام أو ترك الالتزام، ولكنها مسألة كفر وإيمان. إن الذي يُغيظ الكاتب وأمثالَه هو هذه الرجعة إلى الدين، هذه الصحوة الإسلامية، وأن علماء المسلمين ودعاة الإسلام هم الذين صاروا قادة الشباب. وهذا كلامه بحروفه يقول: "فمعظم الذين يمسكون اليوم بزمام هذه الكتلة البشرية هم من المدرسة السلفية ذاتها، مدرسة حصار الإسلام في إطاره السلفي والتاريخي، مدرسة العودة إلى الممارسة التاريخية الأولى بكل بساطتها وعفويّتها، ومحاولة فرضها على العصر". وهذه الممارسة التاريخية الأولى هي عهد الصحابة (كما يدرك ذلك كل من يفهم الكلام). أفيسوء هذا الكاتبَ أن نعود إلى مثل أخلاق أهل الصدر الأول، ومثل عزّتهم، ومثل سموّهم وكرم نفوسهم؟

لو قال هذا الكلامَ خوري أو حاخام لما كان عليه فيه ملام، أمّا أن يقوله رجل يسمّي نفسه غسان إمام؟ إلاّ أن يكون من الأئمة الذين خبّرنا الله عنهم أنهم يدعون إلى النار ويوم القيامة لا يُنصَرون. إنه يصف خطبة الجمعة بأنها "عاطفية اجتيازية ساخنة صاعقة لا حدود لتنديدها بالسلطة الكافرة أو المشركة! لا حدود لتحريكها عواطف المتديّنين البسطاء". ثم يقول (وهذا نصّ كلامه): "التلفزيون أيضاً بات يكمل دور المسجد، هنا أيضاً يصول ويجول علماء الدين والسلفيون، العمّة واللحية والعباءة تزيد هيبتهم هيبة ووقاراً، بعضهم زُرع ليصبح بحق نجماً تلفزيونياً ينتظره بمحبة وخشوع مئاتُ الألوف. الشيخ الشعراوي والشيخ الطنطاوي الذي بلغ من الكِبَر عتياً، انتقل من الإذاعة السورية إلى التلفزيون السعودي منذ عشرين سنة، وهو لا يكتفي بالإطلالة على الشاشة الصغيرة، بل يكتب في الصحف التي تنتقل بين أيدي العرب في مختلف أقطارهم بلا رقيب ولا حسيب، ليزيد تطرّفه وزلاّت لسانه وقلمه، في الفرقة بين المذاهب والطوائف عبر ما يقوله عن المسيحيين والدروز". أنا ما أنشأت هذه الكلمة لأردّ عليه، وليس بيني وبينه ما يُوجِب الردّ، بل أنا لم أسمع باسمه قبل اليوم. ولكني مثّلت بما يقول لطائفة من الناس لتعرفوا كيف ينظر إلى الإسلام ودُعاة الإسلام. وإلا فما دامت الصحف موجودة والمطبعة مفتوحة والنشر سهلاً، فإن كل من شاء أن يقول قال. ولكن ما كل من قال أصغى إليه الناس، ولا كل مَن أصغوا إليه صدّقوه. والوطن العربي

أكبر من أن تدّعي النطق باسمه مجلّة ما بيدها توكيل عنه وليس لها حقّ النطق باسم أهله! والذي بدا لي من هذه المقالة ومن مقالة قبلها وقعت إليّ مصادفة يتكلم فيها صاحب هذه المجلّة عن جريدة «الشرق الأوسط؛ ومجلاّتها الملحَقة بها. لقد جعلني ما قرأته اليوم وما قرأته من قبلُ أوقِن أن أصحاب هذه المجلّة وكُتّابها {يَحسُدُونَ الناسَ على ما آتاهم اللهُ من فضلِهِ}، والحاسد لا يُرضيه منك إلاّ أن تزول النعمة عنك، ولا يُغيظه إلاّ أن تزداد. لذلك اجعلوا أَسَدّ جواب لهم وأكبرَ حجر تسدّون به أفواههم أن يستمرّ الشباب المؤمن في طريقه المستقيم وأن يزداد إقباله على المساجد، وأن تستمرّ «الشرق الأوسط» في تقدّمها المطّرد، ذلك هو الردّ عليهم وفي ذلك عقابهم. على أنني لا أحبّ أن أجد الكاتب وأمثاله في ألم دائم وفي أرق متّصل بسبب مني، فأنا أمتنع لأرضيه عن الحديث في الرائي لأفتح الباب لمن سَمّاهم، ومنهم عفلق والبيطار. ولكن إن امتنعت أنا فهل أمنع الشيخ الشعراوي؟ وإن امتنع الشعراوي فهل يسكت الناس الذين يحرصون على مشاهدته وسماعه ويطالبون به؟ وإن سكتوا ورضوا فمَن يكفل أن يأتي مكانهم البيطار وعفلق، وأن يرضى الناس عن عفلق والبيطار؟ إن البيطار كان رفيقي في الصف، كنا على مقعد واحد، وعفلق بحكم رفيقي، كنا زملاء في الدراسة وإن اختلفَت المدرسة. والبيطار قد مات. وعفلق أصدَقُ من وصف بلاغته وطلاقة لسانه

الرئيس جمال عبد الناصر بعد مفاوضة معه طويلة، قال في خطبة له في جماهير الناس: إن عفلق يحاول أن يأتي بالجملة فلا تجيء واضحة، فيقول: «يعني»، ويحاول توضيحها وصوغها من جديد، فلا يزال في «يعني» و «يعني» وهو، "هو ما يعنيش حاجة"! وهذا تعليق لم يكن مقصوداً وليس من صلب ذكرياتي ولا هو من مقاصدي، ولكنها كلمة جاءت عَرَضاً. * * * أمّا الكتاب الذي جاءني فهو من «مصري» يعمل هنا في المملكة، لم يكتب اسمه ولم يعرّف بنفسه، يحمل عليّ. يقول بأنني أكتب عن عهد الوحدة وعن عبد الناصر كتابة ليس فيها شيء من الحقيقة وليس فيها تسجيل لتاريخ، ولكنها عداوة مستقرّة في نفسي لمصر وللرئيس عبد الناصر، وكره للوحدة وحبّ للانفصال. هذه هي خلاصة الرسالة. على أنها ليست شيئاً جديداً، فإن ما جاء فيها قد قِيل عنّي من ربع قرن، من يوم الانفصال، وأُعلِن ونُشر في الصحف وكُتبت فيه مقالات واشتغل به الناس أمداً، فما أنت بأوّل من كتبه. لقد كشفت أميركا ولكن على الخريطة، فظننت بأنك سبقت بذلك كرستوف كولومبس إلى هذا المجد! إن الصداقة والعداوة إنما تكونان بين الأكْفاء والنظراء، فهل تراني كُفؤاً لعبد الناصر أو نظيراً له حتى أصادقه أو أعاديه؟ وأين أنا منه؟ أمّا قبل أن يفعل فعلته التي فعل فقد كان ضابطاً من آلاف الضبّاط لا يدري به أحد خارج دائرته الصغيرة، وكنت أنا كاتباً معروفاً ومؤلّفاً يقرأ له الناس، فلما صار الرئيس عبد الناصر صار

مالئ الدنيا وشاغل الناس، وغدا اسمه في كل صحيفة وذِكْره على كل لسان، وغدوت أنا واحداً من غمار الناس. فمن أين تدخل الصداقة أو العداوة بيني وبينه، ولا سنّي من سنّه، ولا طريقي على طريقه، ولا أصحابي هم أصحابه؟ أصحابه تيتو ونهرو والملوك والرؤساء وسكناه القصور (¬1)، إنْ حلّ بلداً انتفض البلد فخرج أهله لاستقباله وإن رحل عنه اجتمعوا لوداعه عند ترحاله، يعرف الناس أخباره ويتابعونها، فما الذي يجمعني به أو يقرّبني منه حتى أكون عدواً له أو أكون صديقاً؟ قابلته مرّة مع وفد عربي مشترك من أجل الجزائر كما قابله آلاف من الناس، وقعد معنا وحدّثَنا كما قعد معه وسمع حديثَه آلاف من الناس، ومشى معنا إلى باب داره لمّا خرجنا يودّعنا، وكنت أمشي إلى جنبه، فلما فاجأَتنا عدسة المصوّر تأخّرت أريد الابتعاد حتى لا أظهر في الصورة ولكنني ظهرت فيها معه. ولست أكره الآن ذلك ولا أفتخر به، ولكن أذكر ما كان. فلئن جمعَتني به صورة فإن مئات من الناس جمعتهم به الصور. كان الوسيط بيني وبينه صديقي وأخي ورفيقي في حياتي كلها، القاضي الفاضل الذي صار وزير العدل في الجمهورية العربية المتّحدة، الأستاذ نهاد القاسم رحمة الله على روحه. لقد أحبّه أخي نهاد واعتقده صادقاً وبقي على حبّه واعتقاده حتى بعد موته. وكنا متّفقَين في كل شيء، حتى إذا جاء ذكر عبد الناصر اختلفنا اختلافاً كان يؤدّي بنا أحياناً إلى النزاع، فاتفقنا على أن نترك الحديث عنه جملة واحدة ويحتفظ كل واحد منّا برأيه فيه. ¬

_ (¬1) أي بعد الرئاسة، أما قبلها فكان يسكن حيث تعرفون.

وسأكتب عن نهاد القاسم كما سأكتب إن شاء الله عمّن عرفت في حياتي من الرجال. وكان ينقذني من مواقف كثيرة كادت تؤدّي بي إلى الضرر، منها أنه لما أُلغِيت المحاكم الشرعية في مصر أوفد إلينا الرئيس موظفاً كبيراً نسيت الآن اسمه، فاجتمع بأعضاء لجنة قانون الأحوال الشخصية وهم الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ صبحي الصبار والشيخ الأسطواني وأنا، ليقنعنا بأن نصنع في الشام مثل الذي صنعوا في مصر وأن تُلغى المحاكم الشرعية وتحلّ محلّها محاكم جديدة، تُدعى محاكم الأحوال الشخصية. فناقشناه مناقشة طويلة، وساق له إخواننا الأدلّة والبراهين فلم يقتنع. فضاق صدري وقلت لهم: اسمحوا لي فسأتكلّم باسمي أنا، لا بأني عضو في اللجنة. فسكتوا، والتفَت إليّ ليستمع مني فقلت له: إن المحاكم الشرعية لا يمكن أن تُلغى في الشام، وإذا لم تصدّق هذا الذي أقول فانزل إلى الشارع فاسأل عني، هل أستطيع أن أفتح النافذة أمامك فأخطب فأستوقف الناس وأجمعهم وأخرجهم بمظاهرة تمشي إلى دار الحكومة لتطالب بإبقاء المحاكم الشرعية إذا أردتم إلغاءها أم أنني لا أستطيع؟ فبُهت ونال منه العجب من هذا الذي أقول، ثم استردّ أنفاسه فقال: هل هذا تهديد؟ قلت: نعم، إنه تهديد. لا بالمظاهرة ولا بإثارة الناس، فهذا كلّه هيّن. ولكنه تهديد لكم من الله بجهنّم الحمراء التي يصلاها كلّ من أراد أن ينسخ حُكماً من أحكام الله أو أن يعدّله أو أن يُبطِله. فانتفض الرجل وخرج إلى غرفة الوزير، وكان بيننا وبينه أمتار معدودة لأن الوزارة في القصر العدلي الذي تكون فيه المحاكم.

غاب مدّة قصيرة ثم رجع بغير الوجه الذي ذهب به. ذهب متنمّراً غاضباً وعاد ليّناً راضياً، بل عاد يسترضيني أنا ويحاول أن يُزيل أثر ما كان. فأدركت بالحدس شيئاً ممّا قدرت أن الوزير قاله له، ولِنت معه بالقول حتى انتهينا إلى مسالمة واتفاق ومحونا أثر ذلك الصدام. فلما لقيت الوزير الأستاذ نهاد القاسم رحمه الله قال لي: ما هذا الذي فعلت؟ قلت: وهل عرفت ما الذي كان؟ قال: نعم، لقد عرفته منه، وقلت له: إنك لا تعرف مَن هذا الرجل الذي أثرتَه ولا تعرف أثره في البلاد، فإذا وقع شيء تكون أنت المسؤول عنه أمام سيادة الرئيس لأنك لم تستشِرْني ولم تأخذ رأيي. وساق له من أمثال هذا الكلام ما ملأ نفسه خوفاً من العواقب، حتى سأله: وما العمل الآن؟ قال: تعود إليه فتُصلح الأمر حتى لا يبقى لهذا الجدال أثر ولا ينشأ عنه ضرر. * * * ولهذا الموقف أمثال. وما كنت أريد أن أتكلّم الآن عن عهد الوحدة والانفصال بل كنت أنتظر أن أصل في الذكريات إلى الكلام عنهما، ولكن هذه الرسالة جعلتني أتعجّل القول قبل أوانه. تحت يدي الآن مقالة منشورة في جريدة «الأيام» في الشهر الحادي عشر من سنة 1961 عنوانها «جواب واحد على سبع وأربعين رسالة». لا أعرف رقم العدد الذي نُشرت فيه ولا تاريخه لأنني قصصت المقالة من الصحيفة وتركت سائرها، فليسمح

لي الأخ الذي كتب إليّ أن أقرأ عليه طرفاً منها، فإن فيها جواب رسالته. وهذا نَصّ المقالة: لم أكن كاذباً لمّا قلت في حديثي في الرائي (التلفزيون) أني لم أجد من الأثر الطيّب لكلمة كتبتها أو ألقيتُها (وأنا أكتب وأخطب من سنة 1345هـ) ولم أسمع من الثناء عليها مثل الذي وجدت من الأثر وسمعت من الثناء عن كلمتي الأولى في الإذاعة صبيحة ليلة الانتفاضة (¬1). ولا أكون كاذباً إذا قلت إني تلقّيت كذلك طائفة من ¬

_ (¬1) «الانتفاضة» هي التسمية التي أُطلقت في صحف وإذاعة الشام على ما صار يُدعى بعد ذلك «حركة الانفصال». وفي هذه الفقرة يشير علي الطنطاوي إلى حديث ألقاه في الرائي (التلفزيون) وإلى كلمة أذاعها من الإذاعة صبيحة ليلة الانفصال، وهما سابقتان لهذه المقالة (جواب واحد على 47 رسالة). وقد كان ينبغي أن تؤخَّر هذه المقالة لتأتي في سياقها الطبيعي بعد الحلقة 163 في هذه الذكريات، وقبلها كان ينبغي أن تأتي الأحاديث التالية بالترتيب: (1) خطبة الانفصال، وقد أذيعت من إذاعة دمشق يوم الثلاثاء 3/ 10/1961 (حركة الانفصال تمت يوم الخميس 28/ 9/1961)، ثم نُشرت هذه الكلمة في جريدة «الأيام» في اليوم التالي، الأربعاء 4/ 10، (2) وبعدها خطبة الجمعة التي ألقاها علي الطنطاوي في جامع التوبة يوم الجمعة 6/ 10 وأذاعتها الإذاعة على الهواء، (3) وبعدها الحديث الذي أذيع من الرائي، وهو أول حديث قدّمه علي الطنطاوي في الرائي (التلفزيون) قط، وكان يوم السبت 21/ 10 ونشرته في اليوم التالي جريدة «الوحدة»، وأخيراً هذه المقالة: «جواب واحد على 47 رسالة» التي نُشرت في جريدة «الأيام» يوم الخميس 9/ 11/1961 (مجاهد).

الرسائل بلغ عددها إلى اليوم سبعاً وأربعين رسالة، فيها أشدّ العتب وأقسى النقد وأفظع الشتائم. وهذه الرسائل لا تمثّل رأي الأمّة، فإن الأمّة قد صرّحَت بآرائها في الانفصال بألسِنة علمائها وأدبائها وسياسييها وصحفيّيها ونسائها وتجّارها وصنّاعها وبدوها وحضرها، ولا يُطلَب من أُمّة أن تُجمِع كلها على رأي ولا يمكن ذلك. وإذا جاءني سبع وأربعون رسالة في إنكار كلمتي والردّ عليّ وتقبيح رأيي، مع الذي سمعت وكُتب من الثناء عليها، لا يكون في ذلك ضرر. والذين أثنوا عليها -على كثرتهم- ناس معروفون لهم منزلتهم في هذا البلد، والذين كتبوا هذه الرسائل مجهولون، وأكثرهم شباب ناشئون مخدوعون غرّهم من كان بيده أمر تعليمهم فحشا لهم الكتب المدرسية بالأضاليل التي أرتهم الحقّ باطلاً والقبيح جميلاً ... (إلى أن قلت): لقد سمعوا كلام الرئيس الذي كان يُلقيه في حشود القاهرة. فلما وصفتُ هذه الحشود وقلت إنها لا تُصغي إليه ولا تفهم ما يقول، بل تصيح في موضع الإنصات وتَجمُد في مكان الهتاف وتقطع عليه جملته وتتركه يتكلّم وحده لتهزج وترقص ... لما قلت هذا لم يَعُد يخطب في الحشود (أو لم يعُد يجد حشوداً يخطب فيها)، فصار يتكلّم من الإذاعة كلاماً فيه بكاء بلا دمع، وأرقام بلا وثائق، وأخبار بلا حقائق. سمعوا هذا من بعيد فظنّوا البكاء عاطفة والأرقام صادقة والأخبار واقعة، ولم يروا ما كان عندنا ولم يعرفوا ما أصابنا،

فمالوا معه فحكموا له علينا. فإن سألتهم: ما ذنبنا عندكم؟ كان ذنبنا أنّا كرهنا الوحدة وأعرضنا عن تلك الجنّة وملنا مع المستعمرين. أنحن نكره الوحدة وَيْحَكم؟ أنكره الوحدة وفينا وُلدت، وتحت أيدينا نشأت، ونحن أحقّ بها وأهلُها؟ هل صدّقتم أننا نكره الوحدة؟ هل صدّقتم أننا استجبنا إلى المستعمر؟ أنستجيب إلى المستعمر ونحن كنا أولَ من حاربه ونازله في إبان قُوّته وعنفوان سلطانه؟ أين كان هؤلاء الذين يكتبون عنّا اليوم فيجرائد عبدالناصر في لبنان يوم كنا نحارب فرنسا في الساحل وفي الشمال وفي الجبل وفي الغوطة؟ (إلى أن قلت): أفحاربناها وثرنا عليها، وروينا أرضنا من دمائنا وتركنا نصف دمشق خراباً في قيامنا عليها، لنعود الآن إليها وإلى أخواتها من دول الاستعمار؟ معاذ الله. ولئن كان فينا نفر رُبّوا في مدارسها وعاقروا كؤوس اللذّات في مواخيرها فاستهوتهم بفسوقها، فما هؤلاء هم الأمّة وما هؤلاء من الأمّة، ولا تخلو من أمثال هؤلاء أمّة. فدعوا هذا الكلام المكرّر المُعاد المَمْلول، فلقد عرف الناس جميعاً أنه ليس عندكم ولا عند البوم الناعب من «صوت العرب» (¬1) إلاّ مقطوعة واحدة تردّدونها كلما خالفكم مخالف في رأي، هي التهمة بالرجعية والاستعمارية والصهيونية وأن مخالفكم ¬

_ (¬1) أي في تلك الأيام، وأظنّ أن اسمه أحمد سعيد؛ لم أعرف في عمري مَن هو مثله في صفاقة الوجه ووساخة اللسان وثقل الدم.

عميل مأجور. وهي كلمات صارت من طول التكرار مثل الثوب البالي، وفقدَت معانيها ولم يبقَ لها من أثر في نفس سامعها إلاّ السخرية بقائلها. إنها طريقة كبيركم الذي علّمكم السحر. ولكن سحر فرعون لم يَعُد يَروجُ على أحد. لقد ألقينا عليه عصا موسى: إذا جاءَ مُوسى وألقى العصا ... فقَدْ بَطَلَ السّحرُ والسّاحِرُ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «الأيام» بعد الانفصال بنحو ستة أسابيع كما مرّ بكم، وهي مقطوعة هنا غير تامة، وتجدون تتمتها في آخر الحلقة 163 من هذه الذكريات (مجاهد).

قصة الوحدة والانفصال

-160 - قصّة الوحدة والانفصال وبعد، فما قصّة الانفصال؟ ولماذا كرهنا الوحدة بعدما أحببناها، وأعرضنا عنها وقد رحّبنا بها، وفرحنا لذهابها وقد كنا فرحنا لقدومها؟ هل تغيرَت نفوسنا وتبدّلَت أفكارنا، أم أن الذي رأيناه غير الذي تصوّرناه، والذين ولّيناهم أمرَنا أيام الوحدة هم الذين جعلونا بسوء سياستهم أعداء هذه الوحدة؟ إنّ أصدق كلمة قالها قائل بعد الانفصال هي كلمة صديقنا الأستاذ نصوح بابيل: "إن عبد الناصر لم يفهم طبيعة الشعب السوري". إنه لم يفهم طبيعته، ولو فهمها لعلم أننا لا نؤخَذ بالشدّة ولا نُساق بالعصا، وأننا فتحنا صدورنا كما فتحنا بلدنا للمصريين على أنهم أشقّاء لنا، لا على أنهم مسيطرون علينا يسيرون فينا سيرة المستعمرين لنا. تقول العرب في أمثالها: «شِدّة القُرب حِجاب». أَدْنِ كفّك من عينيك تحجبْ عنك ما بين المشرق والمغرب؛ أي أن الكفّ -على صغرها- أخفَت عنك الدنيا على سعتها! والذين حفّوا بعبدالناصر منّا وتحلّقوا من حوله حتى حالوا بينه وبيننا هم الذين

جعلوه يُخطئ فهمنا ولا يعرف طبيعتنا؛ أوهموه أنه يستطيع أن يستميلنا ويُرضينا بشرعة الاشتراكية التي آمن بها (والإيمان بها يكاد يكون كفراً بإسلامنا) وأنه يقدر أن يستعين علينا بأولادنا وبناتنا إذ يزيّن لهم كشف العورات ويبيح اختلاط البنين والبنات. وقد عرفتم طرفاً من ذلك ممّا سبق من هذه الذكريات. وآذانا في أموالنا، ذلك أن الشعب السوري شعب تجّار، من أيام الفنيقيين إلى هذه الأيام، يصنع الأفراد منه ما تعجز عن صنع مثله الشعوب والدول. والذي عمل بين يوم الجلاء ويوم الوحدة كان عجباً من العجب، ولو استمرّ ولم تأتِ عليه أيام الوحدة بالتأميم لصارت سوريا في الشرق الأدنى كاليابان في الشرق الأقصى: أُقيمت مصانع للغَزْل والنسيج يكفي ما ينتج عنها البلاد والبلدان التي حولها، بل يصمد للمنتجات الأخرى في بلادها. خذوا ابن الدبس مثلاً: جاء بالمال من خارج البلاد، فلم يستثمره خارجها بل عاد به إليها، وافتتح به مصنعاً كبيراً قَلّ أن يوجد مثله في أمثال بلادنا. وحضر افتتاحَه عبدُ الناصر نفسه وخطب فيه، ثم انتزعه من صاحبه باسم «التأميم»! وكان للشركة الخماسية في الشام وشركة الغَزْل والنسيج في حلب مصانع كبار تُنتِج الجيّد الكثير، فلما أصابتها محنة التأميم قلّ إنتاجها وتتالت خسائرها. وكانت الأرض عند بحيرة «العتيبة» و «الهَيجانة» ما فيها نبتة خضراء، وتقول كتب الجغرافيا أن بردى يصبّ في هذه البحيرة ولكنه لا يبلغها في الواقع مرّة كل مئة سنة. فجاء الأَبْش فأحياها وجعلها بساتين متصلات وجنّات عامرات. استنبط من بطنها الماء وحرثها وبذَرَها وحصدها بالآلات الكبار، فأنتجت الكثير الطيّب

من الثمر حتى صار يُباع البطيخ ينادى عليه في دمشق مرغَّباً فيه: "يا مال الأبش يا بطيخ". فلما جاء «التأميم» قسّمها قطعاً صغاراً بين الفلاّحين، فلم يقدر أحد منهم أن يجيء بآلة حرث ولا بَذْر ولا حصاد، وما كانوا ليتّحدوا ليحلّوا باتحادهم محلّ الأبش بانفراده، فعادوا يحرثون بالمحراث الذي كان يُستعمل أيام الفراعنة تجرّه البقر، وعاد الثمر يُكدّس في مكانه أو يُنقَل على الدوابّ والحمير، فما مرّ ربع قرن حتى رأيناها عادت صحراء كما كانت قبل الأبش صحراء. وأنا والله لا أعرف الأبش ولا الدبس ولا أدافع عنهما ولا عن أمثالهما، ولي كتابات كثيرة جداً في جرائد الشام أيام الحرب الثانية وفي «الرسالة»، لا سيما في السنة التي أقمت فيها في مصر مُوفَداً إلى وزارة العدل فيها من وزارة العدل في الشام (سنة 1947)، وطالما حذّرتهم وقلت لهم: كلما اتسعت المسافة بين فقر الفقراء وغِنى الأغنياء فُتح الباب للشيوعية لتدخل من هذا الفراغ، وإنْ كانت الشيوعية لا تُذهِب فقرَ الفقير ولكن تَذهب بغِنى الغنيّ، فتحقّق المساواة ولكن في الحاجة والفقر! كان شعارنا تلك الأيام: «وحدة، حرّية، اشتراكية»، وهو شعار الاتحاديين لمّا قاموا في تركيا قبيل الحرب العالمية الأولى: «حرّيَتْ، أخُوَّتْ، مُساوات"، وهو نفسه شعار الثورة الفرنسية. وهو مِن وَضْع اليهود، وضعوه خداعاً للناس وصرفاً لهم ببريق هذه الألفاظ عن حقيقة معناها. لقد فقدنا حرّيتنا وشعارُنا الحرّية، وصرنا محبوسين مقيّدين

ونحن منفردون في بيوتنا، صار الصديق جاسوساً على صديقه والأخ جاسوساً على أخيه. كان ينتظرني على باب الدار كل صباح أيامَ الوحدة واحد منهم، صرت أعرفه وإنْ بدّل شخصه، فإذا نزلت من داري في الجبل تبعني، فإن ركبت الترام أو الحافلة ركب معي، فإذا وصلت إلى المحكمة انتظرني على بابها حتى أخرج منها. ويوم الجمعة يلحقني إلى المسجد. فخرجت مرّة ضحى في يوم ضَاحٍ مُشمِس من أيام الشتاء فوجدت على الباب واحداً منهم، سميناً عليه دثار من الصوف سميك فوق دثار أسمك منه من الشحم، فمشيت مسرعاً ومشى ورائي. وأنا أسكن في حي اسمه حي المهاجرين على سفح جبل قاسيون، شوارعه متقطاعات، منها المعترض الذي يوازي الشارع الأكبر على السفح وشوارع مستطيلات تصعد في الجبل. وكنت أنزل من الشارع المستطيل الذي يصل بي إلى الجادّة الكبرى فأركب الترام أو السيارة، فمشيت في ذلك اليوم عَرْضاً وهو يمشي ورائي يراقبني ليرى مَن أكلّم وإلى أين أذهب، فلم أقف حتى صرت في آخر حي المهاجرين وأنا متوجّه شرقاً، ودخلت حيّ الصالحية (الذي كان أول من أنشأه آل قدامة، والد صاحب «المغني» وأبناؤه)، فمشيت فيه مشرّقاً حتى وصلت إلى آخره، فلم أنزل إلى الشارع العامّ وإنما مضيت قُدُماً فدخلت حيّ الأكراد (حيّ ركن الدين) إلى أن بلغت آخره حيث ينقطع العمران. وكان فيه موقف للحافلات فدخلت واحدة منها، وبقي واقفاً تحت وأنا أراه يكلّم زميلاً له لا أسمع صوته، ولكن أُدرِك مغزى حديثه من إشارة يده. رأيته وقف مع رفيق له يسائله: ما الذي جاء به إلى هذا

المكان؟ ورأيته كأنه يخبره كيف مشيت وهو يتبعني هذه المسافة كلها ويشكو إليه ما قاسى من التعب، وتترجم قسمات وجهه عمّا في نفسه من الغضب مني والنقمة عليّ، وأتخيل ما يخرج من فمه من ألفاظ السباب والشتائم. فلما هَمّت الحافلة بالمسير أسرع فدخل إليها وقعد فيها وهو يراقبني، حتى انتهى الطريق ونزلت في رأس سوق الحميدية وهو يتبعني، حتى بلغت دار الحديث الأشرفية وفيها مسجد صغير، وقد أذّن الظهر وصعد الخطيب المنبر، فدخلتُ. فلما رآني لم أذهب إلى مسجد كبير ولم أخطب فيه واطمأنّ إلى أنه لن يصدر مني ما يخشاه الحاكمون، انتهت مهمّته فعاد من باب المسجد ولم يصلِّ! * * * وكان صديقنا الشيخ محمد محمود الصوّاف قد نزل الشام لمّا لم يَعُد له في العراق على عهد عبد الكريم قاسم مكان، وأقام في فندق اسمه فندق اليرموك. فكنت كلما زرته وجدت عنده نادلاً (جرسون أو بوي كما يقولون) لا يتبدّل ولا يتغير، إن طلب شيئاً جاءه به وإن سأل عن شيء أجابه عنه، فلما كان الانفصال خبّرَنا مدير الفندق أن هذا الخادم ضابط مصري، جاؤوه به وفرضوه عليه ليشتغل عنده نادلاً، فيلازم الصوّاف ويراقبه ويُحصي عليه حركاته وسكناته. وكنت أعقد في بيتي مجالس أسبوعية مع كثير من أساتذة الديانة في ثانويات دمشق، وكلّهم معروف، من أمثال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والأستاذ محمد القاسمي والدكتور

أديب صالح، نقرأ بعض الكتب في الأصول. فاستدعوهم واحداً واحداً، وكانوا يتعمّدون إزعاج مَن استُدعي منهم بتركه ساعتين أو ثلاثاً لا يفتحون له الباب ليخرج ولا يطلبونه ليدخل ليحطّموا بذلك أعصابه، ثم إذا دخل على المحقّق سأله عن هذا الاجتماع وعمّا نصنع فيه. أما أنا فلم يتعرّض لي أحد ولم يسألني أحد عن شيء. وهذا قليل من كثير، قطرة من بحر ممّا رأينا أيام الوحدة وشاهدنا. فماذا نصنع والدواهي الثلاث نازلة علينا؟ واحدة في ديننا، وواحدة في أموالنا، وواحدة في حرّياتنا؛ كأن ذلك هو التفسير العملي للشعار المعلَن «وحدة، حرّية، اشتراكية»: الوحدة تمزيق، والحرّية سجن، والاشتراكية خراب كامل وفقر شامل. لما كانت الجلسة الأولى التي نتجَت عنها «رابطة العالم الإسلامي» في حج سنة 1381هـ كنت مع الحُجّاج، فأخذني المفتي الشيخ محمد حسنين مخلوف والمفتي الشيخ القلقيلي والصديق الداعية الإسلامي الشيخ الصوّاف، أخذوني بشِبْه الإكراه إلى هذه الجلسة، وأظنّها كانت بحضور الملك سعود رحمه الله. وكان كلام في بدعة الاشتراكية وأنها ليست من الإسلام، فقلت لهم: كيف؟ وقد ذُكرت في القرآن؟ فتعجّبوا وقالوا: أين ذُكرت؟ قلت: في قوله تعالى لإبليس: {وشَارِكْهُم في الأموالِ والأولادِ}! * * * صبرنا حتى ضجّ من صبرنا الصبر، وحملنا حتى ضاق بما

حملنا الصدر. وكنت في مَضايا، المَصِيف المشهور في الجبل، وجاء من يُخبِرنا بخبر الانفصال. أُقسِم أني لم أرَ في عمري فرحة عامة كالتي رأيت ذلك اليوم؛ كان الناس كأنهم خرجوا من سجن، أو كما تقول العرب: قد أُطلِقوا من عقال. كان يهنّئ بعضُهم بعضاً، لم تكن ترى إلاّ باسماً مسروراً. ومن رأى ذلك اليوم فقد علم صدق ما أقول، ومن لم يرَه ربما حسب أني أتخيله أو أتزيّد أو أبالغ. ووالله الذي لا يحلف به كذباً إلاّ فاجر ما بالغت ولا تزيّدتُ، ولكن وصفت ما رأيت. كان الناس يحفّون بالروادّ (الراديوات) الكبار ويعانقون منها الصغار، يستمعون منها البلاغات ويتتبّعون الأخبار. فلما جاء البلاغ رقم 9 وفيه خبر ينبئ عن بعض التراجُع من الضبّاط الذين قاموا بالانفصال علت الوجوهَ قَترة وملأت النفوسَ كآبة وحسرة، فلما توالت البلاغات بعده بأن الانفصال ماضٍ في طريقه عاد البِشْر إلى الوجوه. لمّا انقضت الوحدة وخلا الجوّ للقائلين ذهب مَن شاء يدّعي كما شاء بأنه نقد أساليب الحكام أيام الوحدة وتكلّم عنها. وجلّ ذلك غير صحيح، والناس يعلمون مَن الذي جهر بذلك ولم يُخافِت به، وصرّح القول لم يُجَمجِم فيه ولم يتلعثم، وألقاه من فوق المنابر في دمشق وفي حلب (وسأحدّث القُرّاء عن رحلتي أيام الوحدة إلى حلب وما قلته في جامع السلطان في حماة). كان الناس وكان الضبّاط القائمون بهذه الحركة يعرفونه، لذلك بعثوا

إليّ مَن يطلب مني أن ألقي خطبة الجمعة في جامع بني أميّة لتُبلغها إذاعة دمشق الناس. ولم أكن قد عرفت حقيقة هذا الانفصال ولا القائمين به، فتنصّلت وتملّصت واعتذرت، فلما يئسوا مني كلّفوا بها صديقنا خطيب جامع بني أميّة، الرجل الصالح الشيخ أبا الفرج الخطيب. ثم عادوا إليّ يطلبون مني أن ألقي كلمة في الإذاعة، وكنت قد عرفت أسماء القائمين بهذا الانفصال وتيقّنت أنهم ليسوا عفالقة بعثيّين ولا بكادشة (نسبة إلى بكداش) شيوعيين، وليسوا من الفاسقين المنحرفين، فقبلت أن أقول كلمة من الإذاعة أعلّق بها على الانفصال، وأن أُلقي خطبة الجمعة المقبلة على أن تُذاع من جامع التوبة، وكان ذلك. وهذا هو نصّ كلمتي في الإذاعة (¬1): السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لقد عدت إليكم، عدت بعدما ظننتُ وظنّ الذين منعوني أني لن أعود. لقد قرّروا ألاّ ألقاكم أبداً لأنهم كانوا يظنّون أن السلطان يبقى لهم علينا أبداً. وظنّوا أنهم سَمّروا الفَلَك بمسمار فلا يدور، ونسوا أن الفَلَك دوّار وأن الأيام دُوَل، وأنه لم يَدُم المُلك لمن كان قبلهم حتى يدوم لهم. وما منعوني لأني أجرمت جرماً، ولا لأني أسأت للبلاد ¬

_ (¬1) أُذيعت يوم الثلاثاء 3/ 10/1961، بعد الانتفاضة (حركة الانفصال) بخمسة أيام، ونُشرت في جريدة «الأيام» في اليوم التالي (مجاهد).

ولاللعباد، بل لأن الذي كنت أقوله لهم لم يكن يُعجِبهم؛ لم يُعجِبهم أن أقول لهم إن في الدنيا موتاً، وإن بعد الموت حساباً، وإن بعد الدنيا آخرة، لأنهم لم يكونوا يفكّرون في الآخرة ولا يُدخِلونها في حسابهم. لم يعجبهم أن أقول لهم: عودوا إلى شرع الله فهو أقوم وأقوى من شرع تيتو. لم يعجبهم أن أقول لهم إن طريق الجنّة خير من طريق النار. لم يعجبهم أن أقول لهم: استروا العورات وامنعوا المحرّمات. لذلك أبعدوني وقالوا: لن تعود إلى الإذاعة أبداً. فأبعدهم الله وأعادني! وبعد، فلقد أردت أن أُعِدّ لهذا المقام كلاماً غير هذا الكلام، أُعِدّ خطبة من النمط العالي من البيان، ولكن زميلاً لنا كريماً من إخواننا المصريين الكرام لَقِيَني فقال لي: إيه رأيك فيما حدث؟ فقلت: الحمد لله، اللهم أنعمت فزِدْ. فقال: إيه؟ أتفرح بزوال الوحدة؟ وفكّرتُ: هل أفرح حقاً بزوال الوحدة؟ هذا أقوى ما يحتجّون به علينا، وهي حُجّة دامغة، ولكن هل فرحنا بزوال الوحدة كرهاً بالوحدة؟ هل نحن أعداء الوحدة؟ أنا أعذُر الذي يسمع خطاب سيادة الرئيس من بعيد، وأعذر من يسمع ما تقوله إذاعة القاهرة وهو لا يعرف ماذا قاسينا من الوحدة. لقد أصغيت إلى سيادة الرئيس وهو يخطب من يومين في حشد حاشد، يظهر أنه لا يصغي إلى سيادته ولا يفهم ما يقول، لأن المحتشدين يضجّون ويصخبون في موضع الإنصات والسكون،

ويسكتون في موضع الهتاف والتصفيق، ويقطعون الجملة عليه من وسطها ليهتفوا أو يصيحوا، أو يقوم قائم فيهم فيُلقِي خطبة أخرى قصيرة لا صلة لها بخطبة الرئيس ... ولكنه مع ذلك كان يقول كلاماً يؤثّر فيمن لا يعرف حقيقة ما كان. إنه يمدح الوحدة ويدعو إلى الحفاظ عليها. ونحن نمدح الوحدة وندعو إلى الحفاظ عليها، بل نحن كنا أول من دعا إلى هذا، ونحن معشر العلماء خاصة كنا أصحاب دعوتها لأنها شعبة من شعب ديننا، وحكمها في آية من كتاب ربنا الذي نقرأ به في صلاتنا ونراه دستور دنيانا وديننا، قال تعالى: {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ}. فإذا كان ديني يوجب عليّ أن أَعُدّ آخر مسلم في أقصى الأرض أخي، فهل تراني أجحد أُخُوّة المصري وهو أخي في الدين وفي اللسان وفي الجوار وفي الذكريات في الآلام؟ ولو جحد الناس جميعاً أُخُوّة الشاميين والمصريين، لما استطعت أنا أن أجحدها، لأن مصر أصلي وطنطا بلدي والذي نزح منها جدّي أبو أبي، ولأن لي فيها نسباً وصهراً، ولأن لي فيها إخواناً وصحباً، ولأنني أقمت في مصر سنين طوالاً، ولأني لا أفرّق بين القاهرة ودمشق، وكلاهما بلدي وبغداد بلدي وعمّان بلدي، ومكّة بلدي وبلد كل مسلم. إن الوحدة هي أمل كل واحد منّا، وهي أقصى ما يتمنّاه الكبير فينا والصغير، والرجل في السوق والمرأة في البيت والولد في المدرسة. ولو جاء مَن يقول لنا اكفروا بالوحدة لكفرنا به هو ولم نبالِ به، ولو كان معه دبّابات الدنيا وطياراتها وقنابلها

الذرّية. ولو أن هؤلاء الضبّاط الثائرين أنكروا الوحدة وحاربوها لأنكرناهم وحاربناهم، ولكنهم لم يُنكِروها بل صرّحوا (ولا يزالون يصرّحون) بأنهم يؤمنون بها. لم يحاربوها، بل لقد أيّدوها ولا يزالون يؤيّدونها. فلا تقولوا إننا خصوم الوحدة، فإن الدعوة إلى الوحدة من عندنا خرجت؛ نحن لقّناكم إياها ونحن علّمناكم النطق باسمها. أنا أعرف مصر من سنة 1928، وكنت أول طالب من الشام ذهب بعد البكالوريا ليدرس في مصر. فمتى كانت مصر تنادي بالعربية؟ متى؟ أيوم كان النقاش بيننا وبين الدكتور هيكل وجماعة «السياسة الأسبوعية» الذين كانوا يدعون إلى الفرعونية؟ يوم كانت المناظرة بين كُتّاب الشام ولبنان وبين طه حسين لمّا قال في الباخرة «مارييت باشا» (وهو في طريقه للاصطياف في أوربّا سنة 1937 على ما أذكر) إن مصر لا تعرف إلاّ المصرية وإنها لا تؤمن ولا تستطيع أن تؤمن بالعربية؟ يوم كان سلامة موسى يُعلِن جهراً في جرائد مصر أن الدعوة العربية ضلالة، وأن الرابطة الشرقية سخافة، وأن مصر قطعة من أوربا؟ نحن علّمناكم معنى الوحدة. أعلّمُهُ الرمايةَ كلَّ يومٍ ... فلما استدَّ ساعدُهُ رمانِي وكم علّمتُهُ نظم القوافي ... فلمّا قالَ قافيةً هجاني لا يا سيدي الرئيس؛ نحن لم نكن قطّ ولن نكون أبداً أعداء الوحدة ولا دُعاة الانفصال، ونحن الذين طلبوا الوحدة وأعلنوها في مجلسهم في الشام قبل إعلانها في مصر. أنا يا سيدي لست من أهل السياسة ولا من رجال الحكم.

أنا رجل من رجال العلم والأدب، ولكن إن لم أكن على مسرح السياسة فإني في القاعة أسمع وأرى، لست بحمد الله أصمّ ولا أعشى. إننا لما سمعنا نبأ إعلان الوحدة من نحو أربع سنين ما صدّقنا من فرحنا ما نسمع وفركنا آذاننا وأصغينا كَرّةً أُخرى، حتى وثقنا أن الحلم صار حقيقة، فرقصَت من السرور قلوبُنا في صدورنا. ولمّا جئت الشام أول مرّة -يا سيادة الرئيس- خرجَت الشام كلها لاستقبالك، ولمّا قلت استمعَت لقولك وصفّقَت لك. فما الذي جرى حتى تَبَدّل الأمر؟ كيف أجمعت الأمّة في الشام على الفرح بالوحدة ثم أجمعت على الفرح بالخلاص من الوحدة؟ اسمح لي أن أقول بكل احترام، فما يجدر أن أسيء الأدب معك حين لم يبقَ لك عليّ سلطان، أقول إنك أنت الذي خيّب أملها في الوحدة. إنك لم تفهم طباع هذا الشعب ولا أخلاقه. إن الشعب في الشام أخو الشعب في مصر، ولكن قد تختلف طباع الأخوَين في الدار الواحدة، وما يصلح في مصر لا يصلح في الشام، والثوب الذي يُفصَّل لمصر لا يستطيع أن يلبسه أهل الشام. وأنت أردت أن تُلبِسنا ثوباً لم يُفصَّل علينا. كنا نتألم ولا نستطيع أن نتكلّم. وأنا ألتمس لك المعاذير؛ سأقول إن من الممكن أنك لم تكن تعلم بآلامنا. ولكن لماذا لم تعلم بها؟ وهل المسؤول نحن أم المسؤول أنت يا سيدي؟ لقد تعوّدنا أن يذهب أصغر واحد فينا إلى رئيس الجمهورية أو رئيس الوزارة فيقرع عليه الباب متى شاء ويكلّمه كما يكلّم

جاره وصديقه، فجئت أنت فعملت لنفسك حجاباً كحجاب كسرى أنو شروان في سابق العصر والأوان، فلا يستطيع أن يصل إليك إنسان. ولقد حاولنا -معشر العلماء- أن نقابلك وطلبنا المواعيد مِراراً وسعينا لذلك سعياً وسلكنا له كل سبيل، فما استطعنا أن نظفر بلقائك. مع أننا كنا نراك في الرائي (التلفزيون) تُمضي ليلة كاملة من ليالي رمضان، ليالي الطاعة والعبادة، ترى الراقصات العاريات وتسمع المغنّيات الفاسقات في حفلات «أضواء المدينة»، فهل اتّسع وقتك لهذا وضاق وقتك عن لقاء العلماء؟ لا أقول هذا الكلام الآن، بل لقد علمتَ أنني قلته في جامع تنكز في الليلة التي كنت تحضر فيها هذه الحفلات، قلته علناً لم أكتمه ولم أدارِ به، ولم أخَفْ أحداً في مقالتي لأنها مقالة تُرضي الله. ثم قلّدَك في ذلك أعوانك وحاشيتك، حتى إنّ وفداً من الشام يضمّ رئيس رابطة العلماء ونائبه واثنين من أعضاء هذا المجلس الذي دعوتموه مجلس الأمّة وأستاذاً من أساتذة الجامعة وأنا، ذهبنا إلى مصر وأقمنا عشرة أيام، نقرع الأبواب ونسأل الحُجّاب الوصول إلى وزير المعارف، فما استطعنا أن نحظى بشرف المثول في حضرة وزير المعارف. وكنا نرسل البرقية فلا تصل البرقية، ونبعث الكتاب فلا ينبعث الكتاب. فتعذّر الوصول إليك وانسدّ الطريق، طريق المقابلة وطريق المراسلة! كنا نريد أن نشكو إليك ما نرى من الآثام والمعاصي منك ومن حكومتك، فلم تُرِد أن نشكو إليك، فذهبنا

نشكو منك ونُعلِن الشكوى في المساجد وفي المجامع وحيثما استطعنا. وكنا نعلم أن بيدك السجن والتعذيب، وكنا نخاف منك، ولكنا كنا نذكر عذاب الله إن سكتنا، فنخاف من الله فيذهب خوفنا منك فنتكلّم عليك. فلماذا قلنا ذلك الكلام ولماذا حملنا تلك الحملات؟ كراهية للوحدة؟ نعوذ بالله. إن الوحدة عقيدة من عقائدنا وأمل من آمالنا. بل كراهيةً لهذه الوحدة التي جئتَنا بها، كراهيةً لأسلوب الحكم الذي اتّبعتَه فيها. لم أكرهها أنا وحدي، بل لقد كرهها كلّ شامي. إنك قد تعجب إذ تسمع هذا لأن الذين من حولك خدعوك، خدعوك بالناس الذين كانوا يسوقونهم بالعصا يحشدونهم لك حول قصر الضيافة كلما جئت لتقوم فتقول فيصفّقوا لك ويهتفوا، حسبت هؤلاء هم الشعب مع أن الشعب كلّه كان ناقماً، وهؤلاء أيضاً كانوا ناقمين ولكنها «المباحث» والمكتب الخاصّ والإرهاب والحكم الفرديّ. لقد تركتهم يؤلّهونك من دون الله، وما من إله إلاّ الله! لقد سمعتَهم يقولون: ناصر ناصر ناصر ... كما يقول الذاكرون المؤمنون: الله الله الله. فلم تنهَهم ولم تُنكِر عليهم. تَمُنّ علينا بهذه التقدّمية الفاسقة وبهذه القرارات الاشتراكية؟ إنه ما أغضبنا إلاّ هذه التقدّمية الفاسقة وهذه القرارات الاشتراكية. إننا في بلد مؤمن متمسّك محافظ على عفاف بناته، أفنرضى أن يكون الرقص درساً في المدارس، وأن نأتي بمدرّسيه من

الحانات والخمّارات ليعلّموا بناتنا الرقص بدلاً من تعليمهن الأخلاق والآداب؟ وأن تذهب بناتنا ليقضين شهراً في قرية التلّ في المعسكر مع الرجال الأجانب؟ وأن تقيم الحكومة دائرة رسمية للرقص؟ وأن يوضع تمثال للراقصات أمام جامع الروضة ويبقى سنة كاملة؟ أقامته وزارة الثقافة والإرشاد، وإنها لوزارة السخافة والإفساد. لقد أريته للوزير كمال الدين حسين من الشبّاك لما قابلناه مع العلماء وأسمعناه ما لم يسمع مثله في عمره. قلت له: هل ترى يا مولانا؟ أمام الجامع بالذّات؟ لا دين ولا ذوق! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) قُطع الحديث في هذا الموضع حينما نشرته جريدة «الشرق الأوسط» لأن ضيق المساحة -كما علّقت الجريدة- حال دون نشر الكلمة كاملة، ثم مضت في أول الحلقة التالية تكمل الحديث من حيث انقطع (مجاهد).

نظرة في أسباب الانفصال بين سوريا ومصر

-161 - نظرة في أسباب الانفصال بين سوريا ومصر إننا في بلد حُرّ، كنا نقول ما نريد، كنا نكتب ما نشاء. كنت أكتب والله سنة 1931 في جريدة «الأيام» إلى المسيو بونسو، المفوَّض السامي الفرنسي الذي كان يملك من السلطان ما لم تملكه حكومتا سوريا ولبنان، كنت أكتب إليه ما لم أعُد أستطيع أيام وحدتكم أن أكتب مثله لمدير ناحية، وهو أصغر موظف إداري في البلاد. لقد صار الواحد منّا يخشى أن يتكلّم في السوق لئلاّ يكون جاره من رجال المباحث أو رجال المكتب الخاصّ، أو رجال ما لست أدري ماذا ... ويخشى أن يتكلم في المدرسة لئلاّ يكون تلميذه من رجال المباحث أو من رجال المكتب الخاصّ، ويخشى أن يتكلم في البيت لئلاّ يكون أخوه من رجال المباحث أو من رجال المكتب الخاصّ. لقد كنت أقرأ في مذكّرات أستاذنا كرد علي رحمه الله، أخبار التجسّس والرقابة أيام السلطان عبد الحميد وما كان يُنفِق عليها

وإلى أين بلغَت قوّتها، فوجدت ما كان أيام السلطان عبدالحميد لا يبلغ واحداً من مئة ... أستغفر الله، بل لا يبلغ واحداً في الألف ممّا رأينا في هذه السنين الثلاث الماضيات. لم تكن السلطة التنفيذية أيام الانتداب الفرنسي تستطيع أن توقف أحداً أو أن تسلبه حرّيته إلاّ بحكم من القضاء، فصرنا أيام الوحدة ننام جميعاً، فإذا أصبحنا افتقدنا واحداً منّا ... لقد جاءه في وسط الليل من انتزعه من فراشه وأخذه إلى حيث لا يدري أحد، بلا محاكمة ولا حكم! وأنا أستحلفك يا سيادة الرئيس بالله: هل هذا من شِيَم العرب؟ هل هذا من أحكام الإسلام؟ هل تريد أن يحتمل العرب ذلك؟ هل تريد أن تقابل إسرائيلَ وأن تحارب الاستعمار بشعب ذليل خانع، يبلغ من ذِلّته ومن خنوعه أنه يرضى بهذا ويسكت عليه؟ ولا يُقِيمُ على ضَيمٍ يُرادُ بِهِ ... إلاّ الأذلاّنِ: عِيرُ الحيِّ والوَتَدُ فهل ترضى أن تكون رئيساً لشعب من الجمادات كالأوتاد أو من الحيوانات كالحمير؟ وأنا -مع ذلك- ألتمس لك المعاذير، فأعود فأقول: لعلك لم تعلم بهذا. ولكن لماذا لم تعلم به؟ ولماذا أبَيت أن تعلم به لما جئنا نعرضه عليك ونرفع لك خبره؟ وماذا نصنع نحن إذا لم تعلم به؟ أنبقى مخنوقين حتى تعلم؟ فلماذا لا تلتمس العذر لنا مثلما نلتمس العذر لك، مع أن عذرنا يا سيدي ظاهر واضح وعذرك مقدَّر مستتر؟

"إن هذا البلد -يا سيدي- بلد تاجر أهله بارعون. انظر ما حققناه في عشر سنين من المعامل والمشروعات، فجئت بقراراتك التي سميتها «الاشتراكية»، فلم يعد يأمن أحدٌ على ماله، لم يعد أحدٌ يقيم مشروعاً إلا إذا كان مجنوناً. هذا الدبس جاء بالملايين من الخارج وعرض عليك فكرة إقامة المعمل فشجّعته، وسألك الضمان فضمنت له، وجئت بنفسك فخطبت في يوم افتتاح معمله الذي أقامه بماله. فبأيّ دين يا سيدي، بأيّ دين، بأيّ قانون، بأيّ منطق تأخذ منه معمله؟! أنا والله لا أعرف هذا الرجل ولا صلة لي به ولا بغيره، ولست ممّن يرتشي ولا من الذين تفضّلت فوصفتَهم بأنهم أكَلة لحوم الفراخ" (¬1). العلماء الناصحون أكَلة فراخ؟ أليس عيباً يا سيدي الرئيس أن تهجو علماء بلدك أمام الأجانب بهذا الكلام؟ وهل الذي يُنكِر عليك ويجرؤ على الوقوف في وجهك، وأنت في سلطانك، يكون ممّن يبيع ذمّته بأكْلة فراخ؟ لا والله، ولكن أكَلة الفراخ هم الذين ينافقون لك ويتزلّفون إليك من العلماء ومن غير العلماء، الذين يقومون على منابر الجوامع فيقولون: إن مجدّدي الإسلام ثلاثة: عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، وجمال عبدالناصر! الذين كانوا يقومون على منابر المساجد يوم ذكرى مولد رسول الله عليه الصلاة والسلام فيقول أحدهم (في مسجد الروضة في شارع أبي رمانة أفخم شوارع دمشق): "نحتفل اليوم بمناسبتين عظيمتين، مولد الرسول وأسبوع الجامعات" ... أسبوع ¬

_ (¬1) هذه الفقرة بين الأقواس من أصل الخطبة، لكنها لم تظهر في الطبعات السابقة من «الذكريات» (مجاهد).

الجامعات الذي ارتُكبت فيه المحرّمات وكانت الموبقات من الاختلاط بين البنين والبنات. هؤلاء هم المنافقون، هؤلاء هم الذين باعوا دينهم وذِمَمهم بأكلة فراخ، لا الذين قالوا: إن هذا التأميم حرام مخالف للإسلام. واسمح لي يا سيدي الرئيس أن أقول لك شيئاً آخر: إنك تؤمن بالوحدة لا شكّ في ذلك، وبأن أهل الشام وأهل مصر إخوان، فكيف أصدرت الأمر بعد الانفصال بإرسال الجنود وسَوق الأساطيل لحرب إخوانك في الشام؟ هل تمّ القضاء على إسرائيل وعلى كلّ عدو لنا ولك، واستراح جيشنا وجيشك من عناء القتال، ولم يبقَ أمامه ميدان يحارب فيه ولا عدوّ يهجم عليه إلاّ ميدان الشام وأهل الشام؟ وكيف بعثت يا سيدي بهذه الأموال لشراء الضمائر وقتل الأخلاق؟ إنّ الضمائر والأخلاق أغلى من الأجساد والأرواح، فهل يقتل الأخ ضمير أخيه؟ وما لهذا الرجل الذي يتكلّم من «صوت العرب» (المدعوّ أحمد سعيد) يشتم العرب بالألفاظ والجُمَل نفسها التي كان يشتم بها أعداء العرب؟ إننا إذا كرهنا حُكمَك ولم نعُد نحتمله فتخلّصنا منه، فما كرهْنا واللهِ مصر، ولا كرهنا واللهِ الوحدة، ولا كرهنا شخصك ولا أنكرنا عليك أعمالك الحسنة. وقد التمسنا لك المعاذير، فلماذا لا تلتمس لأخيك عذراً؟ لقد قرأت وأنا صغير في كتاب المدرسة أن صياداً كان يذبح العصافير في يوم بارد ويبكي، فقال عصفور لرفيقه: أما ترى رِقّة

قلبه وانسياب دمعه؟ قال: لا تنظر إلى عينه التي تدمع ولكن إلى يده وما تصنع! لقد ذُبحنا أيام الوحدة. لقد رأينا ما لم نرَ مثله أيام الانتداب. إي والله العظيم؛ لقد رأينا من الفسوق والعصيان ومخالفة الشرع والاختلاط والتكشّف، والحكم بغير ما أنزل الله، وخنق الحرّيات وكَمّ الأفواه وعَقْل الأقلام، وسجن الناس بلا ذنب أذنبوه ولا حكم حُكم به عليهم، ما لم نرَ مثله أيام الفرنسيين، "لا والله ولا أيام الثورة. ولقد صبرنا حتى ضجّ من صبرنا الصبرُ، ولم نعد نحتمل الألمَ فقلنا: آه! فهل كان معنى ذلك أننا أعداء الوحدة؟ " (¬1) إن الوحدة يا سيدي لا توصف بذاتها بأنها خير أو أنها شرّ، والله جمع في آية واحدة بين قوله: {وتَعَاونوا} وقوله: {ولا تَعَاونوا} فقال: {وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتَّقْوى، ولا تَعَاونوا على الإثْمِ والعُدْوانِ}. وإن اتّحد جماعة من المحسنين وتعاونوا على إنشاء جمعية خيرية كان ذلك خيراً، وإن اتحد اللصوص وتعاونوا على تأليف عصابة إجرام كان شراً. ولو جعلتموها وحدة بِرّ وتقوى واتّبعتم فيها شرع الله ولم تتعدّوا حدوده لظللنا كما كنا، مرحّبين بها مُقبِلين عليها. ولكنكم جعلتموها للإثم والعدوان: عدوان على أحكام الشرع، عدوان على أموال الناس وحرّياتهم. أفتبكي عليها بعدما وأدتَها؟ أتبكي على لُبنى وأنتَ ترَكْتَها؟ ... لقد ذهَبَتْ لُبْنى فما أنتَ صانعُ؟ ¬

_ (¬1) الجمل بين الأقواس من أصل الخطبة، لكنها لم تظهر في الطبعات السابقة من «الذكريات» (مجاهد).

ليبكِ عليها من لحس عسلها، لا من لسعَته النحل من حول العسل. ليبكِ عليها من قطف وردها، لا من دَمِيَت أصابعه بشوكها. ليبكِ عليها من أكل لحمها، لا من غُصّ واختنق بعظمها. على أن هذه الدنيا زائلة يا سيادة الرئيس، زائل كلّ ما فيها؛ فلا المُلك يبقى ولا المال ولا السلطان، ولو دامت لمَن كان قبلك لما وصلت إليك. فاتّقِ الله، اتّق الله الذي تقف غداً بين يديه وحدك، ليس معك من يحفّ بك ولا من يهتف لك ولا من يحميك. وسيسألك الله عن كلّ قانون مخالف للشرع أصدرتَه، وعن كل قرش من أموال الأمّة: من أين جمعتَه وأين أنفقتَه، وعن كل عورة كشفتَها أو رضيت بكشفها، وعن كل منكَر أقررتَه أو قدرت على منعه فلم تمنعه ... هنالك الامتحان، فاستعِدّ ليوم الامتحان. وليعدّ الجوابَ كلُّ ملك وكل حاكم وكل رئيس ليوم لا رئيسَ فيه ولا حاكمَ ولا ملك، يومَ ينادي المنادي: لمن المُلك اليوم؟ فيجيب المجيب: لله الواحد القهّار. وأنتم يا أيها الضبّاط الذين أنقذونا من هذا البلاء الذي لم نستطع له بالحسنى دفعاً: لكم الشكر، وأسأل الله أن يوفّقكم إلى ما فيه رضاه، وأن يجنّبكم خطيئات من كان قبلكم، وأن يُلهِمكم إصلاح ما فسد من الأمور وإبطال ما حدث من المنكَرات. وأسأل الله أن يُعيدَ لنا الوحدة التي يرضاها الله، وحدة التعاون على البِرّ والتقوى، وحدة العدالة والحرّية والمساواة. إنه سميع الدعاء. * * *

هذا نَصّ الكلمة التي أُذيعَت، ولكنها ليست التي كتبتها أول مرّة. لقد كتبت كلمة عنيفة فيها هجوم وفيها سخرية، وفيها نار تلتهب وبارود يتفجّر. ولكن صهري زوج بنتي، عصام العطار، وإخوة لنا، رأوا أن أهدّئ من نارها وأن أنقص من بارودها، فكتبت هذه وطلبت إلى الإذاعة ألاّ يُذيعوا الأولى. وكان الموكل بالإذاعة ضابطاً متحمّساً فعزّ عليه ألاّ تُذاع، فكاد يُصِرّ، وأصررت حتى كان ما أردتُ. ذهبت إلى الإذاعة فألقيت هذه الكلمة وسمعها الناس، وعدت إلى داري. وكذلك أنا في حياتي كلّها: أخطب الخطبة أو أذيع الكلمة أو أكتب المقالة تزلزل البلد وربما أثّرَت في مجرى الأحداث، وأنا منفرد بنفسي في داري أو مع نفر من خاصة أصدقائي؛ لا أستثمر ما أقول ولا أجعله وسيلتي إلى لقاء الحكام. ولقد شهد كثير ممّن تُقبَل شهادته ممّن كتب مذكرات عن هذه الحقبة، وقالوا وبيّنوا ما كان لكلمتي من أثر كبير، وبأن مناطق في سوريا ما أيّد أهلها الانفصال إلاّ بعدما سمعوا كلمتي. ارتضاها وأثنى عليها جمهور من الناس، وسخطها وذمّها وذمّ قائلَها جمهورٌ من الناس. وأذاعتها أو أذاعت فقرات منها إذاعات عربية كثيرة، وعلّق عليها الموافق والمخالف والصديق والعدوّ، حتى إذاعة إسرائيل أعادتها مرّات وعلّقَت عليها بما شاءت وشاء لها هواها وبغضها العربَ والمسلمين، وكتبَت عنها الصحف. وهذا هو مقياس النجاح الإعلامي. ولكني أحاسب نفسي الآن فأفكّر وأسأل: هل كنت مصيباً فيها أو مخطئاً؟ لا بالمقياس

الإعلامي بل الإسلامي. هل أُثاب عليها أم أؤاخَذ بها؟ ألا يمكن أن أكون قد أعنت بها على زيادة الفرقة والانقسام؟ إن لي نفساً لوّامة، أعمل العمل ثم أعود فألوم نفسي عليه وأحاسبها به في الدنيا قبل يوم الحساب. فهل أنا المخطئ فيها المَلوم عليها؟ هل يُلام مَن يشتكي وقع السياط عليه ويصرخ أو يشتم، أم يُلام من يضربه بغير حقّ؟ أمّا رأي الناس فلا أزعم أني لا أبالي به أبداً، ولكن أقول صادقاً إنني لا أبالي به كثيراً؛ إن الذي يهمّني ألاّ أُسخِطَ الله عليّ وألاّ أعمل عملاً أعرّض به نفسي لعقابه. فهل يعاقبني الله على هذه الكلمة وعلى موقفي يوم الانفصال؟ الله يوم القيامة لا يسألنا فقط: ماذا عملتم؟ بل يسألنا: لماذا عملتم؟ أي أن الله يحاسب على النيّات مع حسابه على الأفعال. بل إن المعوَّل عليه ما في القلب: {يومَ تُبلَى السرائرُ}، أي تُختبَر النيّات وما تنطوي عليه الضمائر. والله يعلم أنني ما أردت بها جلب منفعة لي (ولا جلبتُها)، ولا أردت دفع مضرّة عني (ولا دفعتُها)، بل أردت بها المشاركة في إقامة الحقّ وفي إنكار المنكَر، وفي ذمّ المسيء وفي مدح المحسن. * * * وجاءت خطبة الجمعة. وكنت قد وعدت أن أتولاّها أنا وأن تكون في جامع التوبة في حيّ العقيبة في طرف دمشق، أو كان يومئذ في طرفها. في هذا الحيّ وُلدت وفيه درجتُ، وفيه فتحت عيني على الدنيا، ولي في جامع التوبة ذكريات جَمّة وتاريخ طويل،

ولهذا الجامع مزايا ربما تحدّثت عنها يوماً في بعض الذكريات. ذهبت إلى المسجد فوجدت حشداً هائلاً وازدحاماً كبيراً كالذي كان فيما سَمّيناه «الأسبوع الثقافي» يوم خطب الصديق العلاّمة الشيخ أبو زهرة رحمة الله عليه، ووجدت الإذاعة قد نقلت آلاتها واستعدّت لإذاعة هذه الخطبة في كل مكان يصل إليه صوتها. وألقيت كلمة مكتوبة، لم تُنشَر كاملة قبل اليوم وإنما نشرت في «الأيام» جزءاً منها. وهذا هو نَصّ الخطبة التي أُلقيَت وأذيعت من جامع التوبة في دمشق يوم الجمعة السادس من الشهر العاشر من سنة 1961: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. أتذكرون ليلة اجتمعنا بكم في هذا المسجد من نحو خمسة أشهر، بعدما افتتحنا الموسم الثقافي الإسلامي في جامع تنكز وأعلنّا فيه كلمة الحقّ؟ لقد جنّدوا يومئذ المئات من رجالهم، ودسّوا بين الناس جواسيسهم ليُوقِعوا الفتنة بينكم، فلم يستجِب لنداء الفتنة أحدٌ منكم. وأطفؤوا الأنوار تسعين دقيقة ليفرّقوكم ويُحِلّوا الاضطراب فيكم، فتكلّم الخطباء في الظلام وسمع الناس في الظلام. ونحن نحبّ النور، ولكنا لسنا أطفالاً يخافون الظلام. وأشعلتم المصابيح فضوّأتم المسجد. أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأبى الله إلاّ أن يُتِمّ نوره. وها هو ذا النور قد تمّ، وها نحن أولاء نجيء في وضح النهار لنعلن كلمة الحقّ كرة أخرى.

الحمد لله، الحمد لله. إننا نخطب في نور الشمس، فمَن يستطيع أن يطفئ علينا نور الشمس؟ مَن يقدر أن يسوّد علينا وجه الظهيرة؟ اللهمّ لك الحمد. {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ المُلكِ، تؤتي المُلكَ مَن تشاءُ، وتنزِعُ المُلكَ ممَّنْ تشَاءُ، وتُعِزُّ مَن تشَاءُ، وتُذِلُّ مَن تشاءُ، بيدِكَ الخيرُ إنّكَ على كلّ شيءٍ قديرٌ}. لقد كان اجتماع تنكز أوّل سطر في مقدّمة كتاب هذه الثورة، كان أولَ زلزال أصاب ذلك الصرح. لقد هزّ تلك الحكومة هِزّة زعزعَت أركانها، ولكن الله كفّ يدها عنّا فلم تستطع أن تؤذينا. وما بقوّتنا وقفنا في وجهها ولا بحَوْلنا، بل بحول الله وقوّته. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. لقد كنت أنظر في وجوه الناس وأنا أتكلّم في تنكز، وأرى العيون تبرق ابتهاجاً وحماسة ودهشة وخوفاً. لقد كان يبدو عليهم كأنهم لا يصدقون أنهم يسمعون ما يسمعون؛ لقد أنسَتهم هذه السنواتُ الثلاث أن في بلدهم مَن يقول مثل هذا الكلام. نسوا من طول الأسر أيام الحرّية، نسوا بطولات أنفسهم، فجئت أذكّرهم بأنفسهم وببطولاتهم. واستمرّت هذه الاجتماعات، ولكن شياطين المباحث والمكتب الخاصّ راحوا يعملون على هدمها. لم يهجموا علينا من أمام في وهج النهار فيضربوا ضربة السبع، بل تسلّلوا إليها من أطرافها يقرضون منها قرض الفأر. دبّوا إليها في الظلام، ولا يحبّ أن يعيش في الظلام إلاّ اللصوص والعقارب والفُسّاق والجواسيس. فاشتدّ الضغط عليها وتفرّق العلماء من حولها، ولكنها

وجدت -على ذلك- من ثبت عليها رغم الضغوط والدسّ والإيذاء. ثم ضعُفَت كما تضعف الموجة العالية التي تضرب الشاطئ ضربة يتطاير رشاشها ويرعب منظرها ثم ترتدّ عنه شيئاً فشيئاً حتى تهمد. همدَت موجة تنكز، ولكن أثرها في البناء الذي تلقّى ضربتها كان واضحاً. واستمرّ حكام ذلك العهد سائرين على طريقهم. ومسّ الألمُ كلّ قلب ومشَت الشكوى على كلّ لسان: صاحب الدين يشكو ما يرى من انتشار المحرّمات، وإعلان المنكَرات، وترك الفرائض والطاعات. وصاحب الأخلاق يشكو من فشو الفسوق وكشف العورات واختلاط البنين والبنات. وأصحاب المال والأعمال يشكون بوار الأسواق وكثرة الضرائب وخُطّة الإفقار، والنهبَ المُعلَن والغصبَ الظاهر باسم التأميم. والمعلّمون والآباء يشكون هزال المناهج وقلّة العلم، وصرف التلاميذ عن دروسهم باللعب في النهار والرائي (التلفزيون) في الليل. والموظف والعامل يشكوان الغلاء الذي لم يعُد يُطاق. والناسُ جميعاً يشكون القحط الذي كتبه الله علينا هذه السنوات، جزاءً لنا على هتك الحرمات وإعلان المحرّمات، وعلى تلك الكلمة الخبيثة التي قالها وزير من وزراء ذلك العهد حين خطب فقال: إننا لا نحتاج بعد اليوم إلى رحمة السماء! فشحّت السماء وغار الماء، وكان الغلاء والبلاء، وعجز ذلك الأحمق المغرور عن أن يُنزِل علينا هو المطر بدلاً من الله. نسوا الله فنسيَهم، وجاهروا بالمعاصي فعاقبهم، ولمّا رجعوا

فاستغفروا غفر الله لمن رجع إليه منهم وأنزل المطر عليهم. وتلفّتنا نفتّش عن المُنقِذ فلم نجده. وأين نجده؟ والشعب الذي ثار في وجه فرنسا يوم كانت فرنسا أقوى دولة برّية في العالَم في أعقاب الحرب الأولى ونكّل بفرنسا -على قوّتها يومئذ وعنفوانها- لم يعُد ينطق ولا يتحرّك؟ لقد هاج الشعب يوماً بالحكومة وضعضع بنيانها لأنها رفعَت ثمن كيل الخبز نصف قرش، فما باله الآن يرى هذا كله فلا يتحرّك ولا يهيج؟ أين الرجال؟ ألم يبقَ في الشام رجال؟ ويئس الناس وقنطوا، ولكني لم أيأس؛ كنت أعيد عليهم ما كتبته عن بردى من أكثر من ثلاثين سنة (صارت الآن، أي يوم كتابة هذه الحلقة، خمساً وخمسين سنة) حين شبّهت أهل الشام ببردى: تلقاه يمشي هادئاً مستكيناً يجرؤ عليه القط فلا يبل ماؤه بطنَ القط ويرميه الصّبية بالحصى فيستقرّ في أرضه الحصى، فما هي إلاّ أن يثور فجأة فيعلو على الضفّتين ويسيح في الأرض، ويهدم ويُغرِق ويفعل الأفاعيل. فلا يغرّكم من بردى لينه واستكانته. وانتظرنا ثورة بردى فطال الانتظار، فداخل القنوطُ نفسي، فخطبت من شهر في مسجد الجامعة، فأبلغت وصرّحتُ ونفضت كل ما كان في صدري. والذين صلّوا يومئذ في الجامعة سمعوا هذا وعلموا أني ما واريت ولا داريت، ثم أعلنت أني ذاهب فمُغلِق عليّ بابي ومنفرد بنفسي وبكتبي. وكدت أمشي في موكب اليائسين. هنالك حينما استحكمَت الأزمة وعمّت الغُمّة، قام هؤلاء

النفر من الضبّاط، قام هؤلاء النفر الذين لا أعرفهم من الضبّاط يقولون للحاكم: مكانك! لا تتقدّم. ارفع يدك عن الشام فإن فيها رجالاً يمنعون عنها الضيم. كان مع أولئك السلطان، وكان معهم الجيش، ومعهم المال. أمّا هؤلاء فلم يكن معهم شيء من هذا، ولكن كان معهم سلاح لا يعرفه مَن يحكم مصر اليوم ولا تعرفه أميركا ولا روسيا. هو سهام الأسحار. هل تعرفون ما سهام الأسحار؟ لما جاء المعتصم بجنود الترك فعاثوا في بغداد وأفسدوا فيها شكا إليه أهل بغداد، فما أشكاهم (أي لم يستجِب لشكواهم ولم يُنصِفهم). فهدّدوه، فقال: بِمَ تهدّدونني والسلطان معي والجند معي والمال معي؟ قالوا نهدّدك بسهام الأسحار. قال: وما سهام الأسحار؟ قالوا: نقوم في الساعة التي تُفتَح فيها أبواب السماء وينادي فيها منادي الله: ألا هل من مستغفِر فأغفر له؟ ألا هل من سائل فأعطيه؟ فنمدّ أيدينا ونقول: يا ربّ عليك بعبدك المعتصم. فجزع المعتصم وقال: ما لي بذلك من طاقة. وبنى مدينة سُرّ مَن رأى ونقل الترك إليها. هذا الذي أعان هؤلاء الضبّاط. هذا لتعلموا أن النصر ليس بالعَدَد وحده ولا بالعُدَد، ولكن الله ينصر من يشاء. ولو كان الأمر بالقُوَى المادّية لكان نصيب الثورة الموت بعد ساعات من ولادتها؛ لقد أعدّ أولئك العُدّةَ لضرب دمشق بأقوى سلاح تفتّقَت عنه عبقرية إبليس، سلاح الصواريخ. وهُيّئت الصواريخ وسِيقَت إلينا، وكانت تقدر أن

تقضي على بلدتنا وثورتنا، فما الذي أوقفها؟ قائد اللواء الذي حضر مصادفة؟ (¬1) لا؛ ليس في الدنيا مصادفات، ولكن الله أخرجه من فراشه وسيّره في الطريق في الوقت المناسب ليقف الرتلَ ويردّ المَرَدة إلى قماقمها قبل أن تنطلق فتُهلِك الحرث والنسل. إنها دعوات المظلومين من أبناء هذا البلد، المظلومين المعتدى عليهم في دينهم وفي أخلاقهم وفي كرامتهم وفي حرّيتهم وحرّية أولادهم وفي أموالهم. فاتقوا دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب. يا أيها الإخوان، لقد كنت أصغي إلى الرادّ (الراديو). وما أنا من عُشّاق الرادّ ولا أنا من العاكفين عليه، ولكن أيام الثورة تُغري بالإصغاء. وكنت أفتح هذا المحطّة التي لست أدري لماذا كذبوا فسمّوها «صوت العرب»، فكنت أسمع منها الكلام على حكام الشام والوقيعة في أهل الشام بلسان هذا الأحمق السفيه الذي اسمه أحمد سعيد، فأحرّك الإبرة شعرة واحدة فأسمع دفاع محطّة الشام والكلام على حكام مصر، فآسى وأتألّم لِما صرنا إليه. ¬

_ (¬1) هذه إشارة إلى ما حدث ليلة الانتفاضة في 28 أيلول (سبتمبر) سنة 1961، عندما تحرّكَت قُوّات مجهَّزة بالصواريخ لضرب الحركة بأمر من الضبّاط المصريين، ولكن هذه القوات التقت في الطريق بقائدها السوري الذي كان يحمل رتبة لواء، فأوقف رتل الدبّابات والمدفعية وأمرها بالعودة لأن تحرُّكها لم يكن نظامياً، فلا بدّ من عودتها لتخرج مرّة أخرى بأمر منه. وهكذا استطاع أن يدرأ وقوع حرب بين قطعات الجيش السوري المختلفة.

أنَسُبّ أنفسنا بدلاً من أن نَسُبّ عدوّنا؟ ونهدم مجدنا بأيدينا ونقتل أنفسنا بسلاحنا؟ وأذكر الذي سَنّ هذه السنّة وعلّمنا الحملة على إخواننا، فأعدّ ذلك ذنباً له جديداً. وأمدّ يدي لأغلق الرادّ إذ لم أُطِق الإصغاء، وإذا بي أسمع الكلام ينتهي من دمشق فيموج الجوّ فجأة بهذا النشيد نفسه يخرج قوياً عاصفاً مجلجلاً. وأسمع من مصر القارئ يتلو كتاب الله فأرجع إلى الشام فأسمع القارئ يتلو كتاب الله. وأسمع من هنا تمجيد الوحدة وذِكْر العرب وذَمّ الاستعمار، وأسمع من هناك ذَمّ الاستعمار وذِكْر العرب وتمجيد الوحدة، حتى إن من المصادفات العجيبة أن الخطبة التي أُذيعت من دمشق الجمعة الماضية لا تكاد تختلف عن التي أُذيعت من القاهرة، والآيات التي استُشهد بها هنا هي الآيات التي استُشهد بها هناك. فما الذي فرّق بيننا وبين إخوتنا في مصر ما دام يجمعنا حبّ الوحدة ونشيد «الله أكبر» وهذا القرآن؟ إذا كان القرآن يجمعنا فما الذي يفرّقنا؟ لقد فرّقَنا الذين حكمونا أيام هذه الوحدة حين لم يُقِيموا فينا حكم القرآن. وصف الله المسلمين فقال: {والذينَ استجابوا لربِّهم وأقامُوا الصّلاةَ وأمْرُهُم شورى بينَهم}، فهل كان الأمر شورى بيننا وبين الذين كانوا يحكمون فينا؟ لقد قال الله لرسوله ‘: {وشَاوِرْهُم في الأمرِ}، فامتثل وهو أفضل الخلق وأكمل البشر. فهل امتثل مَن كان يحكمنا هذا الأمر؟ وهل الشورى أن نحشد العوامّ ونُلقي عليهم كلاماً ضخماً بالمكبّرات الضخمة لا يفهمونه ولا يستمعون إليه، ولو استمعوا إليه وفهموه لما استطاع المخالف منهم الردّ عليه؟

تصوّروا طبيباً في مستشفى أراد أن يلجأ إلى الاستشارة الطبّية في عملية جراحية، فلم يأتِ بناس من كبار الأطبّاء فيغلق عليه وعليهم باب الغرفة ويكلّمهم على مهل، بل جمع كلّ من في المستشفى من مرضى ومريضات وممرّضين وممرّضات وخادمين وخادمات، ثم ذهب يكلّمهم من فوق السطوح يسألهم: هل نخدّر المريض بالإبر أو بالمورفين؟ ونشقّ بطنه من الشّمال أم من اليمين؟ وهم يصيحون وينادون: يعيش الطبيب! فيكون صياحهم وهتافهم موافقة له على ما يريد. والقائد الذي يُعِدّ خُطّة القتال، أيدرسها مع أركان حربه أمام مصوّره (أي الخريطة) أو يقرؤها على الجند كلهم وسط ضجّتهم وهياجهم؟ إن الشورى أن تأتي بأهل الحلّ والعقد وأصحاب الرأي والعلم فتعرض عليهم الأمر. وإن في الشام رجالاً أولي خبرة ورأي، وإن في مصر رجالاً أكثر منهم أولي رأي وخبرة. فما لرجال الشام لم يُسمَع لهم رأي ولا يُحَسّ لهم وجود، وما لرجال مصر، ومصر أم الرجال، لا يزالون متوارين بالأستار؟ إن مَثَلنا ومَثَل هذه الوحدة كمثل خمسة كانوا في زورق في نهر وأمامهم شلال منحدر خَطِر، وكانوا بحّارة بارعين، فرأوا جماعة من إخوانهم في مركب أكبر من زورقهم فقالوا: ما لنا نمشي متباعدين متفرّقين، والطريق واحد والخطر واحد والمقصود واحد؟ فتعالوا نتّحد جميعاً. وربطوا الزورق بالمركب وقالوا لرُبّانه: أنت رُبّاننا جميعاً، فاسلك بنا طريق السلامة وأوصلنا إلى البرّ الآمن. فقال: لكم ذلك عليّ.

ولكنه ما كاد يمشي بهم قليلاً حتى انحرف عن الطريق وابتعد عن الغاية ودنا من الخطر، فحاولوا أن يُرشِدوه فتوارى منهم، فصاحوا به فأعرض عنهم، فتكلّموا فسلّط جنده عليهم، فهمسوا فوشى جواسيسه بهم، وزاد فمدّ يده إلى أموالهم، ثم قيّدهم من أيديهم وأرجلهم، فسكتوا مُكرَهين، حتى أشرفوا على الشلال ورأوا الموت عياناً. هنالك استطاع نفر منهم أن يُطلِقوا أيديهم من القيد، وأن يقطعوا السلسلة التي تربط زورقهم بالمركب، وأن يسارعوا إلى الابتعاد عن الخطر. فهل أجرموا في ذلك جرماً؟ * * *

عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذبحت

-162 - عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت أنا لست هنا في موضع المؤرّخ الذي يجمع أطراف الحوادث ويحقّقها ويحكم لها أو عليها، إنما أنا واحد من الناس أكتب ما رأيت وما سمعت، بل أدوّن ما بقي في ذهني من ذكريات ما رأيت أو سمعت. وأنا في العادة لا أكتب خطب الجمعة التي ألقيها، بل إني منذ خمس عشرة سنة أو تزيد لم أعُد أكتب أحاديثي التي أبثّها من الإذاعة أو أعرضها في الرائي. ولكن خطبة الجمعة التي أُلقِيَت عقب الانفصال وأذاعتها إذاعة دمشق يوم 2/ 5/1381هـ صارت من مصادر التاريخ، ثم إنها لم تُنشَر قبل اليوم لأدلّ من أراد الاطّلاع عليها على مكان وجودها. لذلك استجزت لنفسي أن أنشرها هنا، وأن أصل اليوم ما انقطع منها فأبدأ من حيث وقفت في الحلقة الماضية. * * * قلت: هنالك استطاع نفر منهم أن يُطلِقوا أيديهم من القيد، وأن يقطعوا السلسلة التي تربط زورقهم بالمركب، وأن يسارعوا إلى الابتعاد عن الخطر. فهل أجرموا في ذلك جرماً؟

على أنهم سيبقون إخواناً؛ سيسكت من يتكلّم علينا من «صوت العرب» ويسكت من يدافع عنّا من إذاعة دمشق، ويبقى نشيد «الله أكبر» يدوّي ويجلجل من مصر ومن الشام، ويبقى صوت القارئ في مصر وصوت القارئ في الشام يُذيعان في الدنيا الخير والحقّ والهُدى حين يُذيعان آيَ القرآن. إنها لن تنفصم عُرى أُخُوّتنا ولن تتفرّق وحدتنا، ما دامت تجمعنا كلمة «الله أكبر» ويجمعنا كتاب الله. وستبقى الوحدة غايتنا، إن لم تنجح تجرِبتها الأولى فينا فسنعيدها كرّة أخرى، ومرّة ثالثة، ولا نزال نجرّب حتى يُكتَب لتجرِبتنا النجاح. إنها وحدة قرّرها ربّ العالَمين، ونزل بقراره الوحيُ الأمين على قلب سيد المرسَلين فقال له: {إنّما المؤمنونَ إخوةٌ}، وما قرّره الله لن يُبطِله إنسان، وما أبرمه الله لا تنقضه يد بشر. وبعد، فلقد كدت أثني على القائمين بهذه الثورة وأذكر لهم أنهم اتبعوا فيها طريق العقل وسلكوا سبيل الإخلاص، وأنهم ضربوا للناس مثلاً ما سمعنا به من قبل حين نفضوا أيديهم من الحُكم وعادوا إلى ما كانوا عليه من قبلُ، خاضوا المعركة وعفّوا عن الغنائم. لقد كدت أثني عليهم، ولكني ذكرت أن هذه المنابر ليست للدنيا ولا لأهلها، ولا هي للحكومات ولا لأربابها، وليست للمدح ولا للذّم. لقد طالما اتُّخذت وسيلة إلى الدنيا وسُخّرت لأهواء الحاكمين، وركبها أناس ليسوا خليقين بها وليسوا من أهلها يمدحون من فوقها ويذمّون، يمدحون كل حاكم، فإذا زال وجاء

غيره عادوا فمدحوا مَن ذمّوا وذمّوا من كانوا يمدحون! حتى لقد بلغ بهم الأمر في هذه السنين الثلاث الماضيات أن ذكروا الكَفَرة بأسمائهم وأثنوا عليهم على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكل منبر في كل مسجد منبر رسول الله، لا يُقال من فوقه إلاّ ما يرضاه رسول الله صلّى عليه الله. إنه لا يجوز أن يُسمع من فوق هذه المنابر إلاّ: قال الله وقال رسول الله، وإذا تكلّمنا فيها عن أحداث البلد فإنما نتكلم لنبيّن حُكم الله عليها وقول الشرع فيها. ومن صعد هذا المنبر خرج من شخصه وتَجرّد من آرائه وميوله، وسكت لسانُه لينطق الشرع على لسانه. إنه يقوم مقاماً قامه رسول الله ‘ ليُبلّغ دين الله، وهو مقام تتقطّع دونه أعناق الرجال. ولولا أن الخطبة شعيرة من شعائر الدين وفريضة من فرائض الإسلام وأنه لا بد منها، لفضّلت أن تنكسر رجلي عن أن أزعم لنفسي أني أصلح لهذا المقام. على أني لست أنا الذي يتكلم الآن من فوق هذه الأعواد. أنا حين أكون على الأرض أكون رجلاً من الناس، واحداً من غمار الخلق، ليس لي غِنى الأغنياء ولا علم العلماء ولا سطوة الأمراء ولا وجاهة الوجهاء، ولكني حين أصعد هذه الدرجات أكون شيئاً آخر. ليس علي الطنطاوي هو الذي يكلّمكم الآن. علي الطنطاوي إنسان يرغب ويرهب، ويرضى ويغضب، ويقول فيخطئ ويصيب، وله نفس أمّارة بالسوء مُثقَلة بالأوزار. ولكن الذي يتكلّم الآن هو الشرع، وإذا تكلّم الشرع أصغى كل إنسان، وإذا قال الخطيب

"قال الله وقال رسول الله" فما على الناس إلاّ الطاعة والامتثال، لأنهم جميعاً عبيده. من هو الذي قمنا عليه لمّا رأينا من حكمه؟ عبد الناصر. ومَن أعوانه ووزراؤه؟ عبد الحكيم وعبد اللطيف وإخوانهما. ومَن هو الذي أنقذَنا منه وخلّصنا من حكمه؟ عبد الغني وعبدالكريم وإخوانهما (¬1). ومن يحكم العراق اليوم؟ عبد الكريم. ومن أسّس دولة الأردن؟ عبد الله، ومن أقام المملكة السعودية؟ عبدالعزيز. كلهم عبيد، عبيد لله أعِزّة بين خلق الله. والملوك الأوّلون الذين كان لهم السلطان وكان لهم الجند والأعوان، مَن كان منهم على الحقّ ومن كان منهم على الباطل، ومن قدّم لنفسه خيراً ومن قدّم شراً. ماذا كانوا كلهم؟ كانوا عبيداً لله. كلهم ومن كان قبلهم ومن سيأتي بعدهم؛ كلهم عباد، يملك رقابَنا ورقابَهم وبرغم آنافنا وآنافهم ملك واحد، مالك لا مفر من مُلكه وليس في العبودية له ذِلّة ولا مهانة بل فيها الشرف والفخر، هو الله مالك المُلك ربّ العالَمين. ¬

_ (¬1) الذي قاد الانتفاضة التي انتهت بالانفصال هو المقدّم عبد الكريم النحلاوي، قائد اللواء المدرع في قَطَنا. أما العميد عبد الغني دَهْمان فقد كان قائد القطعة العسكرية التي احتلت مبنى رئاسة الأركان والإذاعة ومقر المشير عبد الحكيم عامر صبيحة الانتفاضة، وهي قطعة من لواء «الضُّمَير» الذي كان يقوده العقيد حيدر الكزبري والذي كان تحركه إلى دمشق هو البداية الفعلية لحركة الانفصال (مجاهد).

كم تداول هذا المنبر من خطباء، وكم ذُكر عليه من ملوك وخلفاء؟ مضوا جميعاً وبقي هذا المنبر. ثم يذهب هذا المنبر وتذهب الأرض ومن عليها، ويبقى الله ذو الجلال والإكرام. فلتعُد هذه المنابر لله وحده، وليعلم الناس أنها ليست لحاكم ولا لأمير، وأنها ليست ملكاً للخطيب ليُعلِن منها آراءه بل ليُعلن منه حكم الشرع: {وأَنّ المسَاجدَ للهِ فلا تَدْعوا مَعَ اللهِ أحَداً}. فليضع الخطيب نصب عينيه رضا الله لا رضا الناس، وليعلم أنه إذا عصى أمر الحاكم في طاعة الله حماه الله من الحاكم، ولكن إن عصى أمر الله في طاعة الحاكم لم يحمِه أحد من الله. هل يضمن هذا الرئيس أو هذا السلطان أن يعيش إلى المساء؟ هل يستطيع أن يدفع عن نفسه الموت؟ هل يقدر أن يُغلِق بابه دون عزرائيل إن جاءه؟ أينما تكونوا يدرِكْكُم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة، ولو وضعتم على أبوابكم لحمايتكم المدافع والدبّابات. وإذا جاءه ملَك الموت فأخذه فمن يذهب معه؟ هل يذهب معه وزراؤه وأعوانه؟ هل يذهب معه جيشه وأجناده؟ هل يذهب معه أصحابه وأحبابه؟ هل يذهب معه حلفاؤه وأصدقاؤه؟ {ولقد جِئْتُمونا فُرادَى كما خلَقْناكُم أوّلَ مَرّةٍ}. إني لأتصوّر الآن ملوك الأرض وقد خرجوا من قبورهم حُفاة عُراة منفردين فأتّعظ، فأقول من فوق هذا المنبر ما ينفعني في ذلك اليوم لا ما يُفيدني اليوم ومن تصوّر هذا لم يعُد يبالي بأحد. وهذه هي العِزّة التي جعلها الله لله ولرسوله وللمؤمنين، ليست العزّة للعرب بأنهم عرب. لقد كان العرب ضُلاّلاً فهداهم

الله بهذا الرسول وأعزّهم بهذا الدين، ولا عِزّة لهم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلاّ بهذا الدين. لا يُفيدكم عند الله أن تقولوا نحن عرب، فإن دخول الجنّة ليس بالبطاقات الشخصية ولا بالجنسيات، بل بالأعمال الصالحات: {أمْ حَسِبتُم أن تَدخُلوا الجَنّةَ ولمّا يعلَمِ اللهُ الذينَ جاهدوا منكم ويعلَمَ الصابرينَ؟}. على أننا ندعو صادقين إلى وحدة العرب، لأنها طريق إلى الوحدة التي أمر بها الله ونطق بها الكتاب. إننا أُمّة أكرمها الله بهذا الدين، فإذا لم تتبعوا -يا أيها المسلمون- أحكامه ولم تُحِلّوا حلاله وتحرّموا حرامه، وإذا لم تجعلوه إمامكم في بيوتكم وأسواقكم ودواوينكم ومدارسكم، لا ينفعكم واللهِ عند الله أنكم عرب. ولو نفعت العروبة وحدها لنفعَت العربي القرشي الهاشمي عمّ النبيّ أبا لهب: {تبَّتْ يدا أبي لهبٍ}. فإذا أردتموها وحدة كاملة فاجعلوا مركزها هذه القِبلة، وقائدها محمداً، ورايتها راية القرآن، ودستورها كتاب الله، وغايتها العزّة في الدنيا والنجاة في الآخرة. واعلموا أنكم مدعوّون لا لإنقاذ أنفسكم وحدها، بل لإنقاذ العالَم. إن قافلة البشرية تائهة، والليل مظلم، والمدى رحيب، والخوف شامل، والرعب قاتل، فمن يتولاّها ويكون مؤيّدها؟ من يُخرِجها من هذا الظلام الذي غمر أرجاءها؟ لقد جاء الجواب في القرآن: {اللهُ وَلِيُّ الذينَ آمنوا يُخرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النّورِ، والذينَ كفَروا أولياؤُهمُ الطّاغُوتُ يُخرِجونَهُمْ مِنَ النّورِ إلى الظّلُماتِ}. من ينصرها إن دهمها الخطر، من يدافع عنها؟ الجواب

في القرآن: {إنّ اللهَ يُدافِعُ عنِ الذينَ آمنوا}، {وكانَ حَقّاً علينا نَصْرُ المُؤمنينَ}. الطرق متشعّبة والمسالك متداخلة، فأيّ طريق هو الموصّل إلى الغاية؟ الجواب في القرآن، الصراط المستقيم: {وأنَّ هذا صِرَاطي مُسْتَقيماً فاتّبِعوهُ ولا تتّبعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكُم عَنْ سَبيلِهِ}. ما الذي يهدينا إليه ويدلّنا عليه؟ الجواب في القرآن: {إنّ هذا القُرآنَ يَهْدي للّتي هِيَ أقْوَمُ}. إننا لا نعرف لنا دستوراً إلاّ القرآن والسنّة التي بيّنت القرآن، وما أُخِذ منهما وبُني عليهما. لا نقبل بما يخالفهما ولا نرضى بغيرهما بديلاً عنهما. ونحن على هذه المنابر متّبعون لا مبتدعون وناقلون لا قائلون، وما قضى الشرع فيه وبيّن حكمه فليس لأحد أن يُبدي فيه رأياً مع رأي الشرع: {ومَا كانَ لِمُؤمِنٍ ولا مُؤمِنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورَسولُهُ أمراً أنْ يكونَ لهُمُ الخِيَرةُ مِنْ أمرِهم}. والفرض المُجمَع عليه لا بدّ من أدائه، ومن قصّر فيه معتقداً أنه فرض فَسَق، ومن أنكر أنه فرض كفر. والحرام المُجمَع عليه لا بدّ من اجتنابه، ومن أتاه معتقداً أنه حرام فَسَق، ومن أنكر حرمته كفر. والحرام يبقى حراماً على كل حال، لا يختلف حكمه باختلاف الأحوال ولا بتبدّل الرجال. ولا نستطيع أن ننكر منكَراً أتاه زيد ونرضى به ونسكت عنه إن أتاه عمرو، لأن الحرام يبقى حراماً. فيا أيها المسلمون، إننا لن نذلّ ولن نضلّ ولن نقلّ ما دمنا مستمسكين بالقرآن: إن الله ما أعزّ أول هذه الأمّة إلاّ بالإسلام ولن يُعِزّ آخرها إلاّ بالإسلام، فإن ابتغينا العزّة في غيره ذَلَلْنا. فعودوا

يا أيها المسلمون إلى دينكم، فإن فيه أسباب قوّتكم وعِزّتكم وسعادتكم. وأعيدوا هذه المنابر إلى الإسلام وحده؛ أبعدوها عن مطامع النفوس وعن منافع الدنيا وعن رغبات الراغبين، واعلموا أنها سلاح لا يقف له عدوّ ولا يثبت أمامه خصم، فأحسنوا استعمال هذا السلاح تدرؤوا به كل خطر وتردّوا كل عدوّ. إن هذه المنابر فيها الدواء لكل ما نشكو من داء في مجتمعنا وفي نفوسنا، فاستفيدوا من هذا الدواء تُبرِئوا نفوسكم ومجتمعكم من كل داء. فاستمعوا لصوت الحقّ من هذه المنابر، واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِما يحييكم، وتوبوا إلى الله جميعاً ياأيها المؤمنون، واتقوا الله وكونوا مع الصابرين. أقول قَولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. * * * أكملت الخطبة ونزلت عن المنبر أمشي إلى المحراب، فسمعت صوتاً كأنه صوت رجل يخطب. ثم كانت ضجّة وشغب، فتلفّتّ فإذا شابّ حاول أن يصعد المنبر وقال شيئاً لم أتبيّنه، وضجّ الناس ومنعوه وأنزلوه. وكنت قد بلغت المحراب فكبّرت ودخلت في الصلاة فسكت الناس كلهم وكبّروا. ولم أعرف إلى الآن من هو ذلك الشابّ ولا الذي كان يريد أن يقوله، ولو سألتم الأستاذ زهير الأيوبي لخبّركم، لأنه كان هو المذيع الذي تولّى إذاعة الخطبة، وكان ذلك في بداية عهده بالعمل الإذاعي وكانت تلك أول مرّة رأيته فيها. هذا الموقف الذي لم يستمرّ أكثر من دقيقتين أو ثلاث أطلق

شائعات ملأَت الجوّ وكلاماً كثيراً وتعليقات في الصحف أكثر، فمن قائل إنه شابّ يريد أن يتكلّم مؤيّداً ما قلت، وقائل إنه ناصري شرع يتكلّم رداً عليّ ونقداً للانفصال، ويدعو إلى الوحدة والعودة إلى ظِلّ جمال. واستغلّت ذلك الجرائدُ الناصرية فألّفَت قصصاً مختلفات ووضعت لها أكبر العناوين. بِيَدي الآن عدد من جريدة «الشرق» رقمه 4730، صادر في 7 جمادى الأولى سنة 1381 في رأسه عنوان كبير جداً في عرض الصفحة كلها فيه: «ذبح الشيخ الطنطاوي في داره». وتحت ذلك قصّة ملفَّقة مكذوبة لا أصل لها. وقد ورد مثلها في الجرائد الأخرى، فبعث الضبّاط إليّ يطلبون مني أن أكذّب الخبر، فقلت: وهل في تكذيبه شيء أبلغ من حياتي وأني لا أزال أعيش ما مِتّ ولا قُتلت؟ وأني كما قال المتنبي: كمْ قد قُتِلتُ وكم قد مِتُّ عندَكمُ ثمّ انتفضتُ فزالَ الموتُ والكفنُ أو لعلّي حرّفت البيت أو صحّفته، فعهدي به بعيد (¬1). قالوا: بل تأتي إلى الرائي حتى يراك الناس ويعلموا أنك لا تزال حياً. ولم نكن نعرف قبل الوحدة ما الرائي (التلفزيون). فلما أدخلوه مصر جاؤوا به إلينا، وعرضت الحكومة على من شاء من موظفي المرتبة الممتازة (وكنت واحداً منهم) أن يأخذ جهازاً ¬

_ (¬1) آخر البيت في الديوان: «فزالَ القَبرُ والكفَنُ» (مجاهد).

للرائي بثمنه، فأخذته أرى ما فيه، فإذا السينما التي كُنّا نتورّع ونترفّع عن دخولها قد دخلَت عن طريقه إلى بيوتنا. وأنا قد حملت الشهادة الثانوية ولم أدخل السينما إلاّ مرّة واحدة، أيام الحرب الأولى سنة 1917 وأنا ولد صغير، فأرونا فِلماً دعائياً عن حرب جناق قلعة، لم أفهم منه شيئاً. ووجدت في الرائي الذي جاؤونا به باباً واسعاً للفتنة قد فُتح لنا، وكانت البرامج -على ذلك- جيّدة مختارة، فيها التاريخي والاجتماعي والبوليسي والقضائي، والفلم الخفيف والمُضحِك، سلاسل كثيرة جداً ليست مترابطة الحلقات ولكلّ حلقة قصّة مستقلّة، يربطها جميعاً عنوان واحد وموضوع متقارب. أذكر أن منها المسلسل القضائي «بيري ميسون»، وهو دروس في المحاماة، و «الكونت دو مونت كريستو»، وقد زادوا على القصّة الأصلية أشياء تماثلها فجعلوا منها سلسلة كثيرة الحلقات. ومسلسل «لوسي» ومسلسل «روبن هود» للأطفال ومثله مسلسل «ويليم تِلْ» ومسلسل «طرزان»، وأفلاماً عن الحيوانات وكيف تشارك الناس في المعارك وفي الانتقام لا تخلو من طرافة ومن فائدة، منها مسلسل عن الكلبة لاسي وعن حصان أسود يُنقِذ صاحبه من المهالك، وأمثال ذلك. كما أنّ فيه مسلسلات عربية مسلّية ومنها ما يصوّر الحياة الاجتماعية ويبيّن نقائصها وعيوبها، مثل مسلسل «عيلة سي جمعة» ومسلسل «عادات وتقاليد» ومسلسل «مع الناس». كما أنهم جعلوا للأطفال مسلسَلات عربية ليست مترجَمة ولكنها موضوعة على نمط المسلسَلات الأجنبية، منها «ديبو الفهمان»، وهو من أفلام العرائس. وسأبين يوماً أن مسرح العرائس

قديم جداً عند العرب، وقد كان يُسمّى خيال الظل، وهو الذي كنا نعرفه ونحن صغار باسم «كراكوز». وترجمة الكلمة الحرفية: «صاحب العين السوداء»، وقد أشار إليه الغزالي في «الإحياء» وكانت توضع له قصص وحوار، واشتهر به الطبيب الكحّال ابن دانيال. وليس هذا موضع الكلام فيه. * * * أعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنت فيه: لما عرضوا عليّ أن أتكلم في الرائي تردّدت وخشيت أن يكون ظهوري فيه دافعاً بعضَ الناس إلى اقتنائه، وربما رأوا فيه ما يضرّهم فأكون أنا السبب في ذلك. ثم لما ألحّوا عليّ ورأيت النفع في ذهابي اشترطت عليهم شرطاً. ولم أكن -أقول لكم الحقّ- من العباد الزاهدين ولا من المتشددين المتزمتين، ولكن أحببت أن ألقّنهم درساً وأن أُظهِر عِزّة العلماء، فاشترطت عليهم ألاّ أرى في طريقي إذا دخلت بناء الرائي امرأة سافرة. فخبّؤوا البنات في الغرف وأغلقوا عليهن الأبواب ومنعوهن من الخروج، وصارت حادثة تُروى ويُتحدَّث بها. وما أدري هل أحسنت بذلك أم أسأت؟ هل طبّقت حكم الشرع فكان خيراً أم وضعت في نفوسهم صورة قبيحة عن تزمّت المشايخ وعن شدّتهم؟ وكانت هذه هي التجرِبة الأولى لي مع الرائي. كنت أحدّث في الإذاعة من قديم، من أكثر من خمسين سنة، من يوم أُنشِئَت محطّة «الشرق الأدنى» في يافا بعد إنشاء

محطّة مصر بسنة واحدة. أمّا الرائي فكانت هذه هي المرّة الأولى التي أتكلّم فيها منه. فتحيّرت ماذا أصنع: هل أكتب الحديث فأقرؤه قراءة، وأقيم الصحيفة بيني وبين الناس أستر بها وجهي فلا يرونني، فأكون كمن يتكلم من وراء جدار؟ وأقبح شيء للمتكلم من الرائي أن يقرأ في ورقة يحجب بها وجهه عن الناس. أم أصنع كما يصنع كثيرون، وهو أن أكتب الكلمة وأن أحفظها؟ وأنا أعلم أني لو حاولت ذلك لما استطعته ولَما قدرت عليه. ولا تعجبوا، فكثير من الخطباء كانوا يصنعون ذلك، ومنهم الخطيب المفوّهَ المشهود له بالبيان وبطلاقة اللسان مكرم عبيد، الزعيم الوفدي القبطي. سمعته مرّة في مصر يخطب خطبة مسجَّعة تنتهي كل جملة فيها براء ممدودة، وقد مضى فيها، فدخل بعض كبار رجال الوفد، فأعاد ما كان قد قاله بحروفه. ولا يكون ذلك إلاّ لمن أَعَدّ الخطبة وحفظها. قلت لكم إني حرت كيف أتكلّم في الرائي، ولم يكن حولي مَن له تجرِبة سابقة فيه فأستأنسُ بتجرِبته، ولم يكن لي به عهد سابق فأسترشد بعهدي السابق. ثم رأيت أن أتصوّر إخواناً لي جالسين أمامي وأني أحدّثهم كما أحدّث إخواني في المجالس. وكانت هذه الأضواء القوية التي تعشي العيون موجّهة إلى عينَيّ تؤذيني وتضايقني، لا سيما وأنا لم أكن قد ألفتها وتعوّدتُها، فحاولت أن أصرف بصري عنها ما استطعت وأن أتكلّم. ألقيت كلمة لم أكن هيّأتها بألفاظها ولكن أعددت في ذهني معانيها. وأكثر ما يضايقني اليوم في أحاديثي في الرائي الوقت

المحدّد، فربما انتهى في وسط الجملة فوقفت بين المبتدأ والخبر أو بين الفعل والفاعل! ولكنهم في هذا الحديث الذي كان مُفتَتَح أحاديثي في الرائي لم يحدّدوا لي وقتاً بل تركوا لي الأمر أقول ما أشاء. قلت ما خطر على بالي ونجحَت التجرِبة الأولى بحمد الله. وأعجب ما في الأمر أني رأيت في اليوم التالي كلمتي التي ألقيتها منشورة في جريدة «الوحدة» وقد قدّم لها المحرّر مقدّمة قال فيها (وأعتذر لكم ممّا فيها من الثناء عليّ أرويه أنا عن نفسي، حتى يُقال لي: مادح نفسه يُقرئك السلام!): "شهد المواطنون الأديب الأستاذ علي الطنطاوي في تلفزيون دمشق يحدّثهم حديثه الساحر المحبّب إلى النفوس، ورأى المواطنون أديب دمشق الكبير أمامهم يكلّمهم بنفسه عن الشائعات التي روّجَتها أبواق الدعاية الناصرية عنه. و «الوحدة» تنشر الحديث (وقد سجّلَته عندما أُذيع) ليطّلع عليه من فاته السماع له (¬1). وقبل أن أنقل إليكم طرفاً ممّا قلت تَتِمّة لقصّة الوحدة والانفصال، أحبّ أن أقول إن هذه الضجّة التي كانت عقب الخطبة في جامع التوبة (والتي لم تستمرّ إلاّ دقيقتين أو ثلاثاً) أثارت شائعات لا حصر لها وذهب كلٌّ يعلّق عليها بما يشتهي وما يوافق هواه. وأنا قد تعوّدت المدح وتعوّدت القدح فلا يهزّني ذمّ ولا هجاء، ولكن آلمَتني كلمة نقلوها عن الشيخ شفيق يَموت ¬

_ (¬1) نُشر الحديث في جريدة «الوحدة» يوم الأحد 22/ 10/1961، وأعادت نشرَه جريدة «الخليج العربي» الصادرة في الخُبَر في عددها 113 بتاريخ 20/ 2/1962 (مجاهد).

في بيروت، وهو رئيس المحكمة الشرعية العليا، قال: "لقد كان الأستاذ علي الطنطاوي أستاذاً لنا في الكلّية الشرعية سنة 1937، فطلبناه ساعة الدرس، وكان درس تفسير، فلم نجده. ووجدنا ورقة مكتوباً فيها أنه ذهب إلى السينما فهو يعتذر عن الدرس"! ولست أحتاج إلى بيان أن هذا غير صحيح، وأنه لو كان صحيحاً لما صرّحت بأنني آثرت فلم السينما على درس التفسير ولاعتذرت ببعض المعاذير. وأسوأ ما في الأمر أن يصدر ذلك من تلميذ لي عليه حقّ الوفاء، وأن يصدر من منتسب إلى سلك العلم والعلماء. * * * وهذا نص الكلمة كما جاءت في جريدة «الوحدة». وسيلحظ مَن يقرؤها بأنها كُتبت كما ألقيتها ارتجالاً، ولو أني كتبتها كتابة لهذّبت حواشيها وأحكمت نسجها، لأن أسلوب المكتوب غير أسلوب المرتجَل: السلام عليكم ورحمة الله. موضوع حديث هذه الليلة ... أقول لكم الصحيح؟ ليس عندي والله موضوع. إنما قالوا لي: تعالَ فتكلم. فجئت لأتكلم. وقد دُعيت مراراً من قبل إلى الرائي (التلفزيون) فكنت أعتذر وأتهرّب؛ أعتذر لِما كان يعرض على لوحة الرائي في العهد الماضي من مناظر يأباها الإسلام وتُنكِرها آداب العرب، ولأمر ثانٍ هو من أسرار المهنة، أقوله لكم: هو أن أكثر الناس

يتصوّرني شيخاً جليل القدر مهيب الطلعة، فكنت أكره أن أبرز لهم على لوحة الرائي فيرونني على حقيقتي ويقولون: هذا علي الطنطاوي؟! ولكنني لم أستطع أن أهرب هذه المرّة لأنهم قالوا لي: لا بدّ أن تتكلم. قلت لهم: ما عندي موضوع. قالوا: قُل أي شيء، قُل: السلام عليكم. قلت لهم: لماذا؟ قالوا: لأن دعاية عبد الناصر قد أشاعت في سوريا وفي لبنان بأنك قد ذُبِحتَ فابرز لهم ليروا أنك لا تزال حياً. أما سمعت هذه الإشاعات؟ قلت: بلى والله سمعتها. وأنا منذ أيام أعاني من رنّة الهاتف في الليل والنهار ما لا يُحتمل، جاءتني الأخبار تسأل عني من كلّ المدن السورية ومن عمّان، يسألون: هل ذُبحت أم لا أزال حياً؟ ذلك لأن صحف بيروت التي تنطق بلسان عبد الناصر نشرَت بالعناوين الكبيرة في رأس صفحاتها أنني قد مِتّ. قالوا: فماذا صنعت لمّا سمعت هذه الإشاعات؟ قلتُ: صدّقت وآمنتُ لأنها نُشرت في الجرائد، وشكرت سيادة الرئيس وأُجَراءَه لأنهم نفعوني منفعتين: منفعة في الدنيا ومنفعة في الآخرة. أما المنفعة التي هي في الآخرة فهي أن الناس لمّا سمعوا أني متّ نسوا أو تناسوا خطيئاتي الكثيرة ونقائصي، وقالوا «الله يرحمه»، فكسبت هذه الرحمات. وأمّا المنفعة التي في الدنيا فهي أني نجوت ثلاثة أيام من مطالب العمل في المحكمة ومن مطالب الأسرة في البيت، تجيئني البنت تقول لي: بابا، بِدّي (أي أريد) الشيء الفلاني. فلا أردّ، فتظنّ بأني لم أنتبه فتعود وتقول: بابا،

بدّي شيء ... فما أردّ. فتظنّ أن الكِبَر قد أثقل سمعي، فتتعلّق برقبتي وتصرخ صرخة تكاد تخرق صماخ أذني، ولكني أتحمل ولا أردّ، فتذهب وتدعو أمها، ويجتمع أهل البيت ويقولون: ما له؟ فلا يبقى مجال للسكوت فأقول: عجيب والله، كيف تنتظرين مني أن أردّ وأنا ميت؟ فتقول: أعوذ بالله! ما هذا الكلام؟ فأقول: ألم تقرئي صحف بيروت؟ ألم تسمعي الشائعات؟ إن صحف بيروت التي تنطق بلسان عبد الناصر قالت إنني متّ، فإمّا أن تكون صحف بيروت قد كذبَت وإما أن أكون قد متّ. ولما كانت الصحف التي تتكلم بلسان عبد الناصر لا تكذب أبداً فأنا إذن ميت. * * *

التفاصيل التي حبكت بها الصحف الناصرية روايتها عن قتلي

-163 - التفاصيل التي حبكت بها الصحف الناصرية روايتها عن قتلي أقدّم بين يدَي هذه الحلقة مقدّمتين. الأولى: أنني لا أحبّ فيما أنشر وما أذيع أن أصل حلقة بحلقة، فلا يفهمها إلاّ من عرف سِباقها (أي ما كان قبلها) وعرف سِياقها، ولكنني قد أُضطرّ أحياناً كما اضطُررت الآن، فأرجو عفو القُرّاء عما دعاني إليه الاضطرار. والمقدّمة الثانية: أنه سألني كثيرون: كيف وصل بك الكلام إلى عهد الوحدة والانفصال وقد تركناك في عشر الأربعين، أي في الأربعينيات؟ والجواب أنني صنعت مثلما صنع المسلمون في فتوح إفريقية، إذ وصل عقبة بن نافع إلى بحر الظلمات (البحر الأطلنطي أو الأطلسي) وقال كلمته الباقية العظيمة: "اللهمّ لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك حتى أفتح الدنيا لنور الإسلام أو أهلك دونه". بلغ البحر، ثم عاد الجيش الإسلامي يسدّ ما ترك من فجوات ويُكمِل ما أجّل من فتوح حتى شمل الفتح الشمال الإفريقي كلّه.

وأنا قد مشيت في ذكرياتي هذه مع مناسبات الكلام، فتركت كثيراً ممّا كان ينبغي بيانه لأنني ابتعدت عن طريقه: بدأت الكلام على عملي في القضاء، وذكرت لما نُقِلت إلى محكمة دمشق ما أحدثت فيها من تعديلات أو أصلحت من إصلاحات (وإن كانت كلمة الإصلاح كبيرة عليّ)، فذكرت ما صنعت في الأعمال الإدارية ولم أكمل حديثي عن القضايا والمحاكمات. وبدأت الكلام عن رحلة المشرق ثم لم أكمله. وتركت حوادث كباراً منها ما يجاوز حدود السيرة الشخصية إلى التاريخ العامّ، فيمسّه مساً ويؤثّر فيه ولو من بعيد، كقصّة دخول الانتخابات سنة 1947 (1366هـ)، وعملي في وضع قانون الأحوال الشخصية ومشاركتي في غيره من القوانين. وأسأل الله أن يوفّقني إلى العودة إليها وإيضاح ما أغفلته منها، هذا إن كان في العودة نفع للناس ولم يضِق به صبر القُرّاء ولا صدر الجريدة التي تنشر هذا المقال الذي طال. * * * كنت أروي لكم في الحلقة الماضية خبر الكلمة التي ألقيتها في الرائي (التلفزيون) سنة 1961، وكانت هي أول عهدي بالتلفزيون الذي ارتبط -من بعد- حبلي بحبله وصرت من أهله. ونقلت إليكم فقرات منها ما كنت لأنقلها لولا أن لها صلة بتاريخ البلد، وأنها لم تُنشَر كاملة من قبل، إنما نُشرت فقرات منها في جريدة «الوحدة» أخذوها ممّا سمعوه مني في الرائي فسجّلوه صوتاً ثم كتبوه كتابة. وقلت لكم إن ذلك الحديث التلفزيوني إنما كان من أجل تكذيب ما زعمَته صحف عبد الناصر اللبنانية من أنني ذُبحت في داري، وذكرت كيف أن أهل بيتي أصبحوا يكلّمونني

فلا أردّ، فلما طال ذلك عليهم وحاروا في أمري قلت لهم إنني قد متّ لأن صحف عبد الناصر في بيروت قالت ذلك. وأُتِمّ الآن الكلام أمشي به من حيث وقفت في الحلقة الماضية. * * * ولمّا كانت صحف عبد الناصر في بيروت لا تكذب أبداً فأنا إذن قد متّ. وأدفع هذه الجرائد إلى زوجتي وأقول لها: خذي اقرئي هذه الصحف. وتأخذ الجرائد فتقرأ التفاصيل بأن المعتدين صعدوا من العمارة المجاورة ونزلوا على سلّم الحريق يوم الإثنين الماضي وطعنوني بالسكاكين في بطني وفي خاصرتي وفي ظهري. فتقول: ولكن هذا كله لا أصل له لأنه ليس إلى جانبنا عمارة، ونحن نسكن (أي كنا في تلك الأيام نسكن) في الجبل، ما حولنا إلاّ منازل فقراء ما فيها إلاّ غرف قليلة من الطين، وكلها من طبقة واحدة مثل دارنا، بل ليس في البنايات المحيطة بنا من دارنا إلى أربعين بيتاً من كل جهة من الجهات الأربع سلّم للحريق! ثم إنك كنت في ذلك اليوم الذي زعموا الاعتداء عليك فيه، كنت في مَضايا ولم تكن في الشام (أي في دمشق). قلت: هذا لتعلمي قيمة هذه الدعاية وهذه الشائعات. إن من الناس من حلف بالطلاق (سمعت ذلك بأذني في الترام والمتكلّم لا يراني، بل ربما لم يكن يعرفني) حلف أنه مشى في جنازتي! وآخر حدّث بالقصّة وزعم أنه هو الذي قبض على الثلاثة الذين اعتدوا عليّ وقتلوني وسلّمهم إلى الشرطة!

على أني لا أفهم: لماذا يكون الاعتداء عليّ؟ وما الذنب الذي أذنبتُه وما الجناية التي جنيتُها؟ ألهذه الكلمة التي كنت قلتها في الإذاعة؟ أنا أخطب وأكتب من أواخر العشرينيات من هذا القرن، فما وجدت لكلمة كتبتها أو لخطبة ألقيتها من الاستحسان عند الناس، ولم يَرِدْ عليّ من التهنئات على مقالة أو محاضرة مثل ما ورد عليّ بعد هذه الكلمة. ولقد أشاعوا أنني أخذت عليها عشرة آلاف، وأنا والله لم آخذ عليها كلها قرشاً واحداً، حتى المكافأة المقرّرة لحديث الإذاعة ولخطبة الجمعة التي تُذاع منها لم آخذها. ثم إنني لم ألقَ إلى الآن أحداً من الضبّاط الذين قاموا بهذا الانقلاب. ثم إنني لم أُسِئ فيها الأدب مع سيادة الرئيس عبد الناصر. لم أكن من الذين مدحوه لمّا كان في سلطانه، فلما زال السلطان عنه عادوا يذمّونه؛ يلبسون جلد الحرباء التي تتلوّن بلون المكان الذي تكون فيه. بل إنني هاجمته لمّا كان في سلطانه، فلما زال السلطان لم أشتمه مع من شتم ولم أهجم عليه فيمن هجم، ولم أذكر إلاّ بعض الوقائع الصحيحة بلهجة مؤدّبة. فلماذا يُعتدى عليّ؟ ثم إنني ... ها أنَذا أمامكم ترونني بأعينكم. فمن هو الذي مات إذا كنت أنا الميت أمامكم؟ لا تكونوا كصاحب البارومتر الذي صدّقه وكذّب المطر! فإن قلتم (على طريقة مؤلّف كليلة ودمنة): وكيف كان ذلك؟ أقول لكم: زعموا أنه كان عند واحد من الناس بارومتر (مقياس للضغط) اشتراه من البسطة المبسوطة

على الأرض، وكان قديماً خَرِباً لا تتحرّك إبرته، ولكنه دأب على النظر فيه كل يوم. فنظر يوماً فإذا البارومتر يشير إلى أن الجوّ صحو، وكان اليوم يوم غيم. فقالت له امرأته: يا أبا فلان خذ المظلّة (¬1) فقال: يا امرأة، الميزان يقول إن اليوم صحو وأنا أصدّق الميزان. وخرج ونزل المطر وهو لا يصدّق، وابتلّ ثوبه ووصل الماء إلى جسده وهو لا يصدق المطر، لأنه صدق الميزان! هذا مثال من يقبل هذه الدعايات ويُنكِر الواقع. ها أنَذا أمامكم. ولكن أرجوكم أن تجيبوا على سؤال خطر الآن على بالي، أرجو أن يكون في طرحه نفع لكم: هل ترونني حقيقة؟ أنا والله لا أرى أحداً منكم. أنا هنا محصور في مكان مُغلَق، حولي آلات تصوّر، في موقف صعب. ولو كنت في مجلس أجد مَن أحدثه ويحدثني لهان الأمر، ولو كنت على منبر أخطب أرى السامعين ويرونني لسهلت القضية، ولكنني في بهو كبير حولي آلات، أمامي أخوان يحدّقان فيّ كأنني في امتحان وهُما من الهيئة الفاحصة، فأنسى نصف ما في ذهني! وهذه الأضواء القوية، أعوذ بالله، مسلّطة على عينَيّ فلا أستطيع أن أفتح عينَيّ. كأنني في موقف الاستجواب الذي نراه في الأفلام الأميركية، فأنسى النصف الباقي ممّا أعددتُه! كيف ترونني؟ إذا كنتم ترونني حقيقة فخافوا من الله، وإذا كنت أنا وراء هذه الأبواب المغلَقة ووراء هذه الجدران الغليظة ¬

_ (¬1) إن كانت للشمس فهي مظلّة أو شمسيّة، وإن كانت لدفع المطر فإن ما يدفع المطر يسمّيه العرب «المِمْطَر».

لم أستطع أن أختفي منكم وأتوارى عنكم، وأنتم بشر مثلي ... وإذا كان العقل البشري المخلوق استطاع أن يكشف هذه الخفايا لكم أنتم حتى إنكم لترون كلّ شعرة في رأسي وتسمعون كل رجفة في صوتي، فكيف تتوارون من الله وتغلقون أبوابكم وتأتون المعاصي، وتحسبون أن الله لا يراكم؟ أُهدِيَ إليّ شريط مسجّل لما ذهبت لألقي محاضراتي في الكويت منذ خمس سنين (أي سنة 1956). وكنت قد تركته لأنه لم يكن عندي يومئذ آلة تسجيل، فاستعرتها أمس من صديق لي ووضعت الشريط فيها وأدرتُه، فسمعت الكلام الذي كنت قلته يومئذ. أفليس ذلك عجيباً؟ لو قيل لأكبر عالِم من علماء الطبيعة قبل مئة سنة إننا نستطيع أن نستبقي صوتَ المغنّي في أغنيته والخطيب في خطبته، ثم نعيد سماعه متى شئنا ولو مات صاحبه، لجُنّ العالِم أو لحسبَنا نحن المجانين. لمّا خطب غامبتا (فيما أذكر) في رثاء لاشو وصف مرافعاته العظيمة وقال: لو كان من الممكن أن نحفظها لتسمعها الأجيال الآتية ليعرفوا سرّ بلاغته وأسباب عظمته. ولكن هيهات ... إن ذلك مستحيل! لقد سمعت في هذا الشريط لحنة وقعت مني ظننت أني نسيتها وأن الناس نسوها، فإذا أنا أسمعها الآن بعد خمس سنين، وربما سُمعت بعد مئة سنة! سجّلها هذا الشريط وهو شريط مخلوق وسُمعت في هذه الدنيا، فكيف يا إخوان، كيف بشريط الملكَين الذي يسجّل عليكم كل همسة وكل كلمة، ولا يضيع من ذلك شيء؟ أحصاه الله ونسيتموه.

كنت أرى في السينما فِلْماً مدرسياً يصوّر التلاميذ الصغار وهم في الامتحان، فإذا تلميذ من التلاميذ راقب غفلة من المعلّم فنظر في ورقة جاره ليسرق منها كلمة، يظنّ أنه لم يرَه أحد، وإذا بالمسكين افتُضح في كل دار سينما يُعرَض فيها هذا الفلم من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. تصوّرت فضيحة هذا الولد فذهب خيالي إلى الفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد عند الله، يوم تُنشر الصحف وتُعرض «الأفلام» التي سَجّلت كل ما عملناه في هذه الحياة الدنيا. تلك الفضيحة، لا فضيحة التلميذ الذي غشّ بين أهله ورفاقه. يوم تشهد علينا أيدينا وأرجلنا وأبصارنا: ما أنكرناه بألسنتنا تُقِرّ به هذه الألسنة، وما اجترحناه بأيدينا تشهد علينا به هذه الأيدي، والرجل الذي يمشي إلى حرام تشهد عليه رجله إن أنكر لسانه. لقد تعجّب الذين نزل عليهم القرآن: كيف تنطق الأيدي والأرجل؟ فجاءهم الجواب: بأنه أنطقها الله الذي أنطق كل شيء. قلت لكم من قبل (لأبيّن لكم أثر المدرّس الصالح في صلاح التلاميذ والمعلّم الفاسد في إفسادهم) إنه جاءنا ونحن صغار في المدرسة الابتدائية في أعقاب الحرب الأولى (سنة 1918) معلّم جعل يسخر من شهادة الأيدي والأرجل، يقول لنا: انظروا، هل لليد لسان حتى تنطق؟ هل للرِّجل فم حتى تتكلم؟ فأدخل واللهِ الشكوك علينا وكاد يؤثّر في إيماننا، ولكن الله سلّم. وعشنا حتى رأينا الشريط الجامد يتكلّم، وهذا الصندوق

الذي لا حياة فيه (أي الرائي) يتكلّم. فهل الذي جعل هذه الجمادات تتكلّم بأفصح لسان يعجز عن إنطاق اليد والرجل يوم القيامة؟ أنا لا أريد أن أجعل هذا الحديث وعظاً فيثقل على نفوسكم، والوعظ ثقيل. الله سَمّاه بذلك حين قال: {إنّا سَنُلقي عليكَ قَولاً ثَقيلاً}، ثقيل لأنه يصرفك عن بعض لذّات نفسك ومطالب هواك. وكل أمر نافع في الدنيا ثقيل؛ كلام الطبيب الذي يدعوك إلى الدواء المُرّ والحمية عن الطعام المشتهى ثقيل، والانصراف إلى الدرس قُبَيل الامتحان وترك الفِلْم المعروض في الرائي والقصّة الدائرة في المجلس ثقيل، وكل أمر فيه جِدّ ثقيل لأن النفوس تميل إلى السهل دون الصعب، والانطلاق دون التقيد، وتحبّ الحرّية. وإن كانت الحرّية المطلقة لا تكون إلاّ للمجانين: المجنون هو الذي يعمل كل ما يخطر على باله، يبسط فراشه في الشارع فينام بين السيارات، ويأخذ ما يريد من مال الغنيّ وما يشتهي من الثمرات من غير أن يدفع الثمن، ويريد النجاح في الامتحان من غير أن يجدّ ويدأب. الجنون هو الحرّية المطلقة، أمّا العاقل فإن عقله يقيّده. أوَليس ««العقال» في اللغة هو القيد؟ و «الحِكْمة»، أليست من حَكَمة الدابة (¬1)؟ والحضارة، أليست قيداً تقف فيه الحقوق عندما تصطدم بالواجبات، وتنتهي فيه حرّيتك في أرضك حين تبدأ حرّية جارك في استعمال أرضه؟ ¬

_ (¬1) أي أن كلمة الحِكْمة مشتقَّة في اللغة من «الحَكَمَة»، وهي الحديدة التي تكون في فم الفرس. وقد يُطلق اسم «اللِّجام» عليها دون السُّيور التي تُشَدّ بها، وقد يكون اللجام هو هذه الحديدة وما يتصل بها من سُيور (مجاهد).

فلا بدّ من الوعظ، فلماذا نهرب منه ونخشاه ونبتعد عنه؟ على أنني إنما أقول لكم كلمة حقّ، من شاء أن يقبلها قبلها ومن شاء أعرض عنها فلم يسمعها: اذكروا ربكم حين تسمعون الحديث من الإذاعة وتُبصِرون المسرحية في الرائي. لقد سجّل علينا في الدنيا العمل والقول، فإذا جاء الممثّل يُنكِر ما قاله أو ما فعله ألزمناه الحُجّة بهذا الشريط. أفلا يذكّركم ذلك بالشريط الذي سُجِّل فيه عليكم كل عمل عملتموه؟ {لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، ووَجَدوا ما عَمِلوا حاضِراً}؛ حاضراً أمامهم يُعاد عليهم فيرون ما صنعوا ويسمعون ما قالوا، فمَن يستطيع يومئذ أن ينكر شيئاً ممّا قال أو فعل؟ على أن هذا الشريط يمكن أن يُمحى. شريط المسجّلة يمكن أن تكبس على زرّ في الآلة فيعود فارغاً لا شيء فيه ويُمحى ما سُجّل عليه، فهل يُمحى شريط أعمالنا قبل يوم القيامة؟ الشريط الذي سجّله علينا المَلَكان؟ نعم، إنه يُمحى ومَحْوُه أسهل. يُمحى -يا أيها الإخوان- بالتوبة الصادقة. فتوبوا إلى الله، توبوا أيها المسلمون. والتوبة أول شرط فيها أن تترك الذنب، فإن التائب من الذنب والمقيم عليه كالمستهزئ بربّه، أستغفر الله. ثم تنوي أن لا تعود إلى مثله. وإن كانت التوبة من حقوق العباد فلا بُدّ من أداء الحقّ إلى صاحبه أو أن يسامحك به صاحبه. ولا يقُل أحد إن ذنوبي كثيرة، فإن التوبة الصادقة تمحو كلّ ذنب ولو كان الكفر. ليس في الذنوب شيء لا يُمكِن التوبة منه. الذين ارتدّوا وكفروا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام لما رجعوا إلى الله رجع عفو الله إليهم. أما قرأتم قوله تعالى: {قُلْ يا عِباديَ

الذينَ أسرفوا على أنفسِهِمْ} لم يقُل أذنبوا بل أسرفوا على أنفسهم في الذنوب وأكثروا منها، ومع ذلك فقد قال لهم: {لاتقنَطوا مِن رحمةِ اللهِ} مهما كثرت الذنوب فإنها تُمحى بالتوبة: {إنّ اللهَ يغفِرُ الذّنوبَ جميعاً}. فيا ناس، لا تغترّوا بالدنيا. اعملوا للدنيا فإن الإسلام يأمر بالعمل، يأمرنا أن نكون أغنياء وأن نكون أقوياء وأن نجمع المجد والعلم من أطرافه كله، على ألاّ ننسى الآخرة: {وابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرةَ ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدّنيا}؛ فلا ننسى الدنيا إذا انصرفنا إلى العبادة ولا ننسى الآخرة إن أقبلنا على الدنيا. تقولون: لقد صار حديثك مواعظ. وما المانع من أن يكون حديثي مواعظ؟ وهل المواعظ مذمومة مرذولة؟ وهل نُمضي الحياة كلها في لهو ولعب؟ وهل نجعل الدنيا أكبر هَمّنا؟ هذه الدنيا لا تدوم، لا يدوم فيها شيء. هل دام على غنيّ غناه؟ هل دام على فقير فقرُه؟ أما يفتقر الأغنياء؟ أما يغتني الفقراء؟ أما يذلّ الأعزّة؟ أما يعزّ الأذلّة؟ بالأمس كان في هذه المدينة رجل جبّار من الجبابرة يتسلّط على كل شيء ويمدّ نظره ويده إلى كل بيت، وكان يظنّ ويظنّ سيّده هناك أنهما شاركا الله في مُلكه. أين هذا الرجل اليوم؟ إنه في السجن، وكان بالأمس على كرسي الحكم (¬1). هذه هي الدنيا، فبئس الرجل الذي يجعلها أكبر هَمّه. ¬

_ (¬1) ذلك هو عبد الحميد السرّاج، الذي كان قبل الوحدة رئيساً للمخابرات وصار بعدها وزيراً للداخلية، فكان الرجل الأول في الإقليم الشمالي =

ثم يمضي كل ذلك ويطويه الموت، ثم يكون بعد الموت نشرٌ وقيام بين يدَي ربّ العالمين، فاذكروا (وأذكر أنا معكم) ذلك اليوم الذي نقوم فيه بين يدَي ربّ العالمين. يا أيها الناس ارجعوا إلى ربّكم. ولربما سألني سائل: ماذا كان شعورك لما سمعت تلك الشائعات؟ هل تظنّون أنني سُررت وفرحت بهذه الشهرة التي حصّلتها إذ يتحدّث الناس كلهم عني ويذكرون اسمي؟ إن الشهرة يطمح إليها الشبّان، بل ربما سُرّ بها كل إنسان. ولقد سعيت إليها من قديم كما سعى لِداتي وإخواني وكما يسعى الناشئون جميعاً، ولكني لما رأيتها زهدت فيها. إنني لا أجد مثلاً لها إلاّ السراب؛ أنتم لا تعرفون هنا السراب ولكنني عرفته لمّا رحلت رحلتي في الصحراء من دمشق إلى مكّة المكرّمة. يبدو من بعيد كأنه بِركة ماء، كأنه بِركة حقيقية، فإذا جاءه الإنسان لم يجد إلاّ التراب. لا يكون ماء إلاّ من بعيد. وكذلك الشهرة، تحسبها من بعيد شيئاً ممتعاً، فإذا وصلت إليها لم تلقَ فيها متعة.

_ = (سوريا) طَوال ذلك العهد. وقد اشتهر بأنه الرجل الذي حوّل سوريا إلى سجن كبير وصنع في الشام ما لم يجرؤ المحتلون الفرنسيون على صنع مثله من قمع وسجن وتعذيب ومطاردة للحريات. بقي الرجلَ القوي في سوريا لمدة ست سنوات حتى قُبض عليه يوم العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1961، بعد الانفصال بأقل من أسبوعين، وأودع في سجن المزة الذي طالما أذاق فيه الناسَ العذاب، ثم هرّبته مخابرات عبد الناصر إلى مصر. وقد مرّ بكم خبر لقاء علي الطنطاوي به في الحلقة 156 من هذه الذكريات (مجاهد).

أنا من سنين طويلة معتزل مغلق عليّ بابي، لا أكاد ألقى أحداً ولا أُزار ولا أزور. فما الذي ينفعني إذا كان يذكرني الملايين؟ وما الذي يضرّني إذا لم يذكروني أو لم يعرفوني ولم يعلموا بوجودي؟ وما الذي يفيدني إذا مدحوني؟ وما الذي يضرّني إن ذمّوني؟ إن شعوري لمّا سمعت هذه الشائعات أنني تمنّيت على الله لو أنها كانت صادقة. كنت أمضي شهيداً، وهل أطمع بشيء أعظم من الشهادة؟ ولكن الله لم يُرِدْها لي. فإذا كنتم تريدون أن تكافئوني على أحاديثي وأحببتم أن تنفعوني فأنا لا أريد أموالكم، فعندي من المال ما يكفيني، ولا أريد من جاهكم، ولكني أريد دعوة صالحة من واحد منكم بظهر الغيب إذا قام في السحَر أو قعد بعد الصلاة وتوجّه قلبه إلى الله، فليدعُ لي دعوة صالحة. هذا الذي أبتغيه منكم، وأسأل الله أن يوفّقني ويوفقكم لِما فيه الخير لي ولكم، والسلام عليكم. * * * وكنت أنشر في جريدة «الأيام» عند صديقنا الأستاذ نصوح بابيل بعنوان: «كل يوم خميس مقالة»، فكان ممّا قلته في مقالة نُشرت في الشهر الحادي عشر من سنة 1961 (وقد قطعت المقالة ولم أقطع معها رقم العدد ولا تاريخ اليوم)، كان ممّا قلت فيها رداً على جرائد عبد الناصر في بيروت (¬1): ¬

_ (¬1) هذا الجزء من الحلقة من هنا إلى آخرها هو تتمة مقالة «جواب واحد على 47 رسالة»، وقد مرّ بكم أكثر المقالة في الحلقة 159، لكنها قُطعت هناك في آخر الحلقة فجاءت تتمتها هنا (مجاهد).

على أني ما أدري ماذا يريد منّا هؤلاء الذين أقاموا من أنفسهم أوصياء علينا؟ ماذا يريد هؤلاء الذين يكتبون في جرائد عبد الناصر في بيروت؟ هل يريدون أن نبقى حتى يُعتقَل كل غنيّ فينا لأنه غنيّ، فيُجرّد من ماله ويُحرَم من حقوقه المدنية وتُنتزَع حُلِيّ نسائه من أيديهن؟ هذا ما وقع في سوريا وفي مصر أيام عبد الناصر، والحبل جرّار، ولسنا ندري ماذا ينزو غداً في رأس الحاكم بأمر الله الذي رجع يحكم مصر مرّة ثانية! أكان هذا ما يريدونه لنا؟ إذا كان هذا في رأيهم خيراً فلماذا لا يختارونه لأنفسهم؟ لينضمّوا إلى عبد الناصر، ونحن نضمن لهم أن يقبلهم وأن يُدخِلهم جنّته الديمقراطية الاشتراكية، التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعَت من التعذيب والإرهاب. أنسيتم يوم كان في كل خمس أُسَر أسرة أُخذ واحد من أبنائها، اعتقلوه سنين وأهله لا يعرفون مكانه ولا يدرون أهو حيّ أو هو ميت؟ يوم كان حكامنا أعداءنا، بل كانوا يعملون بنا ما لا يعمله أعدى أعدائنا. إن أحبّوا ذلك فليختاروه لأنفسهم، أمّا نحن فقد اخترنا لأنفسنا ونحن أعرف بمصالحنا، ما حجر القاضي علينا لنتخذهم أوصياء لنا. أمّا الطلاّب والطالبات الذين كتبوا إليّ فلهم من حفظ دروسهم وكتابة وظائفهم -لئلاّ يتعرّضوا لفَلَق المعلّم (أي فَلَقَته) - شاغل عن السياسة وأهلها. ومتى كان أولاد المدارس يوجّهون سياسة البلد؟ أما الذين ظنوا أني صرت سياسياً وانضممت إلى موكب أهل

الحكم فهم على خطأ؛ فأنا لم أكن من أهل السياسة ولن أكونه إن شاء الله. وما أنا من فئة ولا حزب، أنا من حزب الله وأنا أخو مَن أطاع الله. كل من سلك سبيل الله وعمل على طاعته ونُصرة شريعته من الحاكمين والمحكومين فأنا معه جندي مطيع، لا أبتغي أجراً إلا من الله، وكل من خالف عنها وعمل بالمعاصي وحارب الله ورسوله فأنا عليه فدائي متطوع، لا أخاف -إن شاء الله- إلا الله. وما قابلت -والله- من الحاكمين اليوم ولا من الضباط الثائرين أحداً. ما لقيتهم لقاء فضلاً عن أن آخذ من دنياهم أو أن أنال المكافآت منهم كما زعم هؤلاء المرجفون. وما زرت أحداً منهم لا مهنّئاً ولا طالب حاجة، وما لي بحمد الله حاجة إلى أحد منهم. والذين كانوا وزراء من قبلهم كنت أعرف أكثرهم، وكان فيهم اثنان من أصدقائي وواحد من رفاقي في المدرسة واثنان من تلاميذي، فما زرت واحداً منهم ولا سألته حاجة لنفسي. وذلك دأبي في الحياة كلها، حتى إن وزارة العدل (وهي إلى جنب محكمتي) لا أدخلها إلا نادراً، والبناء الجديد فيها ما دخلته إلى الآن. ولقد تولاها ثلاثة لم يكونوا من أصدقائي فقط بل كانوا عندي بقرب إخوتي من أبي وأمي، هم منير العجلاني ومصطفى الزرقا ونهاد القاسم رحمه الله، رتّبت أسماءهم على ترتيب تولّيهم الوزارة وسمّيتهم بأسمائهم فقط لأنها من الأسماء التي تقوم وحدها، لا تحتاج إلى أن تسندها بالألقاب كما تسند المريض بالعصيّ. فكنت أبتعد عنهم وهم في الوزارة، فإذا زالت عُدت إلى صلتي بهم. ذلك لأني تعوّدت أن أصادق الرجال لا الكراسي. والحاكمون يعلمون أني لا أسكت عن إنكار المنكَر إذا

جاء منهم ولا أقول للحرام إذا فعلوه هو حلال إكراماً لهم. لقد كنت أوّل رجل في سوريا تكلّم جهراً في المجامع في إنكار ما كان أيام الوحدة، أيام الإرهاب، خوفاً من أن نتعرّض بسكوتنا جميعاً إلى عذاب جهنّم. أفأدعُ الآن الإنكار وقد زال الإرهاب؟ إن دين الله أعزّ عليّ من أن أضيعه في المجاملات، والله أكبر في قلبي من أن أُسخِطه لرضا مخلوق مهما بلغ من السلطان. وأسأل الله أن يثبّتني على الحقّ. * * *

عودة إلى رحلة الشرق في الطريق إلى أندونيسيا

-164 - عودة إلى رحلة الشرق في الطريق إلى أندونيسيا لي في جدّة ستة منازل مفتَّحةٌ لي أبوابها، يرحّب بي ويُسَرّ إن جئتها أصحابُها: بيوت ثلاث من بناتي وثلاث من حفيداتي وأزواجهن أبنائي وأحبّائي، وتمرّ -مع هذا كله- الشهور وأنا أستثقل أن أذهب من مكّة إلى جدّة وأراها سفرة أحمل هَمّها. والذي بين مكّة وجدّة لا يزيد إلاّ قليلاً عمّا بين طرفَيها أو طرفَي الرّياض، إن كان بيتك في مشرقها وذهبت تزور قريباً لك في مغربها ورجعت إلى حيث بدأت. هذه هي حالي الآن، فكيف ذهبت يوماً إلى آخر أندونيسيا؟ إلى حيث لم يبقَ بيني وبين سيدني في أستراليا إلا مرحلة واحدة من مراحل سفر الطيارة؟ ثم ذهبت بعدها إلى شمالي أوربا الوسطى، إلى فولندام في هولندا؟ كيف تبدّلَت بي الحال حتى انتهيت إلى هذا المآل؟ إنه الشباب الذي فقدته، الشباب الذي يبكيه الشعراء ولا ينفعهم في ردّه البكاء. وما لذّة العيش إلاّ في الشباب، فهل عرفتم قدره يا من يضيّعه في عبث لا يفيد وفي لهو لا ينفع؟

لقد قطعت الكلام عن الرحلة في الحلقة 146 (التي صدرت يوم 11/ 4/1985)، فهل لي اليوم أن أعود إليها بعدما نسيتموها؟ ومَن من القُرّاء الذي يتابع المقالات المتسلسلة ويعيها ويحفظها؟ على أنه إذا انقطع نظامها واضطرب قوامها، فلعلّي إن شاء الله أعيده حين تصدر الطبعة الثانية من كتابي «الذكريات»، وقد صدر منه الآن جزءان وجزءان سرعان إن شاء الله ما يصدران (¬1). لقد كنت أوّل شامي أَمّ تلك البلاد وبلغ منها ما بلغتُ. وإذا لم أكن أول من زارها فأنا أوّل من كتب عنها وحدّث في الإذاعة فعرّف الناس بها، ولكن الذي حدّثت به قبل ربع قرن كامل وكان جديداً على الناس صار الآن قديماً. وهذه سنّة الله في الكون: إنّ هذا القديمَ كانَ جديداً ... وسيغدو هذا الجديدُ قديما كان ما قلت وصفاً حياً فصار الآن تاريخاً ماضياً؛ تغيّرت البلاد بعدي، مات كثير ممّن كان فيها ووُلد كثير ممّن لم يكن، وذهب حكام وجاء حكام، فسبحان من يغيّر ولا يتغيّر. وإذا كان الناس يومئذ قرؤوا ما كتبت أو سمعوه على أنه وصف أديب فاقرؤوه أنتم الآن على أنه تدوين مؤرّخ. وأرجو ألاّ يخلو في الحالَين من منفعة أو متعة، وأهون منافعه أن يملأ وقتكم عن المعاصي والآثام، والنجاة من الإثم نصف الطريق إلى الفوز بالثواب. * * * ¬

_ (¬1) وقد صدرا وبعدهما الخامس، وهذا هو السادس بحمد الله.

وصلنا كراتشي في أواخر آذار (مارس) من سنة 1954، وخرجنا منها بعد شهرين اثنين. وكانت الدنيا في رمضان (¬1)، وكان السفر قُبَيل المغرب فما هي إلاّ أن أظلم الكون. وكان تحتنا غيوم ثِقال فلم نرَ ونحن في الطيارة إلاّ قليلاً من الأنوار، حتى إذا مضى هزيع من الليل كنا قد قطعنا الهند من غربها إلى شرقها في أعرض بقعة منها، مسافة ألفَي كيل، فوصلنا كَلكُتّا. وربما عدت إلى الكلام عن كلكتا وما رأيت فيها، وربما رجعت فأكملت ذكرياتي عن كراتشي وما بقي في ذهني منها. وكان منظر كلكتا ليلاً من الجوّ من أروع المناظر. رقعة واسعة جداً تسلسلَت فيها أضواء الشوارع خطوطاً مستقيمة ومنحنية ومتقاطعة، لا يُرى طرفاها. وما ظنّك بمدينة كان فيها قبل ربع قرن خمسة ملايين ونصف المليون؟ فنزلنا في مطارها ساعة أكلنا فيها واسترحنا، ثم قامت الطيارة إلى رانغون عاصمة بورما، ولم تنزل بها، ومضت مشرّقة حتى وصلت بانكوك عاصمة سيام (التي دُعيت الآن تايلاند) وبينها وبين كلكتا مسافة ألف وسبعمئة كيل (كيلومتر). وكانت أراضي سيام (تايلاند) تبدو من الجوّ مزروعة، فيها الأنهار الكثيرة على ضفافها البيوت ذات الطراز الآسيوي، سقوفها مائلات مزخرَفات، وحولها الأشجار صفوفاً على أشكال هندسية، وليست فيها بقعة جرداء. ولمّا نزلنا وجدنا في المطار حشداً كأنه كما بدا لنا وداع ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر هذه الحلقة منقول عن كتاب «في أندونيسيا»، انظر فصلَي «من بغداد إلى جاكرتا» و «في الملايا» (مجاهد).

عروسَين مسافرَين في شهر العسل، والعقود الكثيرة من الزهر الفوّاح الأريج معلّقة بالأعناق، فيها زهر كزهر الفُلّ مرصوف رصفاً عجيباً كالسجّاد الملوّن ومربوط بشريط له عُقَد فنية على أشكال الفراشات. ونساؤهم ذوات سِحَن صينية ولكنهن وديعات جذّابات، يلبسن ثياباً ضيّقة مشقوقة من الجانبين تكشف عن السيقان والأفخاذ، وهم مجوس لا يرون في ذلك بأساً، والأيدي مكشوفات إلى المناكب. أما الرجال فباللباس الأوربي حُلَلهم بيضاء. ولم أرَ في المطار -على كثرة مَن كان فيه يومئذ من أهل سيام- إلاّ ضاحكاً أو ضاحكة، يمزحون ويصرخون. ويظهر عليهم أن هذا الانبساط خُلُق دائم فيهم لا يتكلّفونه. هذا ما خُيل إليّ، والله أعلم بحقيقة الحال. وقمنا منها فتركنا الهند الصينية من فيتنام وكمبوديا ولاوُس عن شمائلنا، وأصلَ شبه جزيرة الملايا (ماليزيا) عن أيماننا، وطرنا فوق البحر إلى الجنوب خطاً مستقيماً، سلكنا في آخره على الشاطئ الشرقي للملايا (ماليزيا) حتى انتهينا إلى سنغافورة، وذلك مسافة خمسمئة كيل. ماذا تعرفون عن سنغافورة؟ ما وصفها؟ ما طبيعتها؟ من يسكنها؟ هل تعرفون عن الملايا (ماليزيا) وهي من بلاد المسلمين أهلها من إخوانكم، عُشرَ الذي تعرفونه عن لندن وباريس ونيويورك؟ ذلك لأننا نرى في السينما وفي الرائي (التلفزيون) مشاهد من أوربا وأميركا، ونقرأ في الصحف أخبارها أو نسمعها

ممّن زارها فعاد وحدّثنا عنها، فنعرف الكثير من أنبائها. وهذا الشرق شرقنا، لا نعرف عن أكثر أقطاره إلاّ الأسطر التي قرأناها في درس الجغرافيا فأودعناها أذهاننا ريثما نؤدّي الحساب يوم الامتحان عنها، ثم أغفلناها وأهملناها حتى نسيناها. وكانت طيارتنا تسير بمقدار وتقف بمقدار، فإذا كان موعد طيرانها في الدقيقة الثالثة من الساعة الخامسة -مثلاً- لم تطِر في الدقيقة الثانية ولا الرابعة. وكان مقدَّراً لها أن تقف في سيام (تايلاند) نصف ساعة، وأنا أنظر إليها وأراها جاثمة على الأرض كأنها عمارة مستقرّة ذات أساس. فضاق صدري ونفد صبري، فكنت أسأل وأبحث فلا يُجاب لي سؤال ولا يُثمِر بحث، والركّاب (وكلهم من الإنكليز إلاّ أنا وصاحبي) لا يتحركون ولا يبالون، ولم يقُم واحدٌ منهم يسأل لِمَ وقفت. فعجبت منهم، وازداد عجبي حتى شككت في نفسي وفيهم، وحسبتُني في متحف الشمع في القاهرة لا في مطار بانكوك في سيام. ثم نادى المنادي إن الطيارة ستقوم، فتحرّكَت تماثيل الشمع ومشت على هينتها (والكلمة فصيحة) كأن لم تتأخر الطيارة ولم يُتوقّع حادث ولم يُخشَ خطر. وطارت بنا، حتى إذا اقتربنا من سنغافورة (وأصلها «سنغا بورا»، أي ميناء الأسد) نظرت تحتي فإذا أنا أرى خريطة مجسّمة من شبه جزيرة الملايا (ماليزيا) وفي آخرها جزيرة صغيرة جداً محاذية لها هي سنغافورة. ثم لفّت الطيارة ودنَت لتهبط، فرأيت المدينة في نصف الجزيرة الجنوبي، شوارعها فساح وأبنيتها عالية، وفيها عمارتان رفيعتان كأنهما برجان (ولا تنسوا أنني

أصف ما رأيت سنة 1954 لا الآن) والمرفأ فيها واسع وحياله مستودعات ضخمة جداً، ونصف الجزيرة الشمالي حدائق متصلة وبساتين متسلسلة. * * * وكنا قد أبرقنا إلى وجيه العرب في سنغافورة، وهو السيد إبراهيم السقاف، فلما نزلنا وجدنا وفداً من العرب لاستقبالنا، وكان بينهم واحد وعشرون مندوباً عربياً عن إحدى وعشرين جمعية عربية، فما استطعت أن أنتظر حتى ينقضي الاستقبال بل سألتهم: لماذا لا تكون لهم جمعية واحدة يمثّلها رجل واحد، ما دام الأصل العربي واحداً والدين الإسلامي واحداً؟! ودعَونا إلى حفلة شاي صغيرة في مطعم المطار. ففهمنا منهم أن هذه الجزيرة كانت إلى ما قبل مئة وأربعين سنة (صارت الآن مئة وسبعين) حدائق وبساتين ومتنزَّهات وجنّات، فحلّ بها الوباء البشري الذي اسمه الإنكليز، فاشتراها قائدهم رفلس المشهور من سلطان جوهور لتكون ميناء حُراً، ونصب فيها العلم البريطاني في 29/ 1/1819، وشرع يُقيم فيها المدينة التي بلغ عدد سكانها يوم زرناها مليوناً وربع المليون، منهم ثمانمئة ألف من الصينيين، وفيها جالية كبيرة من العرب الحضارمة. والعجب أن حضرموت، هذه البقعة الصغيرة الفقيرة، قد غزت بأبنائها الشرق كله؛ فما في الملايا ولا في أندونيسيا بلد ليس فيه ناس منهم. وهم تُجّار بارعون وأمناء صادقون ومغامرون شجعان، ولكن عيبهم وعيبنا معشر العرب في كل مكان هو

الانقسام. وما ذاك عن ضعف فينا، بل عن قوّة في نفوسنا وأن كل واحد منّا يرى نفسه رأساً، والرأس يقود ولا ينقاد، لذلك كانت الأعمال الفردية أنجح فينا من الأعمال الجماعية، ولذلك كان في استقبالنا واحد وعشرون مندوباً عربياً عن إحدى وعشرين جمعية عربية. وكان الكهول منهم بأزياء بلادهم، أي بالعمامة الحجازية التي تكون على القلنسوة المطرّزة المزخرَفة (والتي انقرضَت الآن أو كادت) والجبّة يلبسونها فوق ثيابهم، وهم يحافظون على هذا الزيّ في كل بلد ينزلونه. وأخذونا إلى فندق صيني ما كدت أدخله وأنشق ريحه حتى رجعت من فوري أبادر الباب، ووقفت في الشارع تحت المطر. وأي مطر؟ إن أمطار البلاد الحارّة أعجوبة في كثرتها وانسكابها. وأنتم تعرفونها في مكّة وفيما حولها، فما ظنّك بمطر سنغافورة وهي قائمة على خطّ الاستواء؟ وكنا ننتظر وهم يتكلّمون عن الفندق المناسب لنا، فما انتهى كلامهم حتى كان الماء قد اخترق ثيابنا وجلودنا وأحسسنا به في عظمنا! ثم أخذونا إلى الفندق الكبير وهو فندق رفلس. ولم يكن إعراضهم عنه أوّل الأمر جهلاً به، فهو معروف. ثم إن عمارة الفندق هي ملك للسيد إبراهيم السقاف، ولكن صرفونا عنه كرهاً للاسم الذي يحمله وهو اسم القائد رفلس، وكرهاً بالقوم الذين يديرونه وهم من قوم رفلس. والناس في سنغافورة يكرهون «الرفاليس» جميعاً، وحقّ لهم أن يكرهوهم فإنهم أصل

بلائنا، وهم الذين أضاعوا فلسطين علينا، من أيام بلفور الذي وعد وعده الظالم إلى المندوب السامي الذي جاؤونا به وهو من اليهود ليعمل على توطيد أقدام قومه اليهود، إلى تخلّيهم عن فلسطين فجأة بعدما سلّحوا اليهود وجعلوا منهم قوّة عسكرية ومنعونا نحن أن نحمل مسدساً أو سِكّيناً. أعود إلى الفندق. في الفندق حديقة فخمة فيها من غرائب الأشجار ما لا تجد مثله في غير البلاد الاستوائية من ألوان الزهر ومختلف الورد، وتحمله الأشجار الكبار صيفاً وشتاء، وهو شيء لا مثيل له في بلادنا. وهو فخم الردهة واسع الغرف، لكن طعامه من أسوأ الطعام. وقد سرقونا فيه من أول ساعة؛ أعطيتهم البذلة لكيّها، والكيّ وصبغ الحذاء يكون عادة في الفنادق الكبيرة مجّاناً محسوباً مع أجرة الفندق أو يكون بأجر زهيد، فأخذوا مني لكيّ البذلة الواحدة نحواً من الجنيه الإسترليني! وكانت كل ليلة لكل واحد منّا بخمسة جنيهات. وذهبنا ندور في البلدة، فإذا هي جميلة نظيفة بالغة الأناقة، والمواصلات فيها كثيرة وسائلها متعددة أنواعها، من «الركشة» إلى الحافلات (الأوتوبيسات) ذات الطبقتين، والمرفأ فيها من أعظم مرافئ الدنيا وأوسعها. وهو أكبر مركز تجاري وحربي في آسيا أو هو من أكبرها، تقف عليه كل سنة ستّة آلاف سفينة قادمة من عشرين دولة. فإذا تركت المرفأ وسرتَ في الشارع المُفضي إليه وجدت

عمارة المحكمة العليا، وهي بناء فخم له واجهة قائمة على أعمدة عالية، وعلى ظهر البناء قبّة مشمخرّة من أرفع ما رأيت من القباب، ومن حولها الأبنية البارعة. وقد بنى الإنكليز في هذه البلاد بناء من ظنّ أنه سيقيم فيه إلى الأبد. ومن روائع الأبنية في الدنيا قصر نائب الملك في دهلي، ودار البلدية في كراتشي، والمحكمة العليا والعمارات العظيمة في بومباي عروس آسيا. ووراء المدينة من جهة البَرّ البساتين والحدائق، فإذا جُزْتَ بها وجدت بين الجزيرة (أي سنغافورة) وشبه جزيرة الملايا مضيقاً لا يجاوز عرضه عرض نهر دجلة، عليه جسر ثابت يوصل إلى مدينة جوهور. وأكثر سُكّانها من أهل الصين، الأسواق ممتلئة بهم، تعرفهم من الحروف الصينية على مخازنهم ومن هيئاتهم وملامحهم، ونساؤهم يشاركن الرجال في الأعمال كلها، ولباسهن (هذا الإزار الضيّق) كاد يصل مع الأسف إلى بعض نسائنا، وهُنّ يتّخذن له شِقّين من الجانبَين فتبدو منه أفخاذ المرأة أو أكثرها، وهن يمارسن كل عمل، ولست أدري من يتولى عنهن أمر بيوتهن! فإن طلبتَ سيارة وجدت مكان السائق امرأة صينية، وإن أردت أن تحلق شعرك وجدت بدل الحلاّقين حلاّقات صينيات، وفي الدكاكين بائعات من أهل الصين ... والصينيون شعب تجاري بارع، وأولادهم يحملون السلع في الشوارع يعرضونها على السياح والأجانب بأساليب عجيبة. وقد تعلّق بي صبيّ صيني صغير

ليبيعني علاوة للنظارات لا أحتاج إليها، ولم يزَل بي يكلّمني بلغته كلاماً لا أفهمه ويدلّ بإشارات وجهه وحركات يديه على ما يريد، ثم وثب ليصل إلى وجهي ليضع العلاوة على نظّاراتي! فضحكت منه وأعلنت الهزيمة بعدما سار معي دقائق، واشتريت العلاوة على رغم أنفي، ولم يأخذ مني إلاّ ثلاثة أضعاف ثمنها فقط لا غير! وسنغافورة ميناء حُرّ مثل هونغ كونغ، ليس فيها مكوس (جمارك)، لذلك تجد فيها منتجات الدنيا كلها، تُباع البضاعة فيها بأقلّ من سعرها على باب المصنع الذي صنعها. وقد اشتريت منها أشياء برُبع ثمنها في جاكرتا وعُشر ثمنها في كراتشي. وقد اشتريت منها حذاءَين أنيقين لا يزال أحدهما عندي، نعلهما من المطّاط ووجههما من المُخمَل ثمن كل منهما ثلاث ليرات سورية (تساوي اليوم، أي وقت كتابة هذه الحلقة، ريالاً واحداً!). ذلك أن كل شيء فيها رخيص، وأرخص ما فيها مصنوعات المطّاط، ومنها ومن أندونيسيا يأتي ثلاثة أخماس مطّاط العالَم، وشجره يُشبِه شجر الأوكالبتوس الذي كان يملأ شوارع دمشق ونسمّيه شجر الكينا، ولكنه أكبر منه ويكون منه غابات، وهم يشقّون جذع الشجرة فيسيل منها ماء قليل، فيجمعونه في أوانٍ ويحملونه إلى المعامل فيعالجونه فيها. ولم أزُر معامله لأرى ما يصنعون به حتى يصير المطّاطَ الذي نعرفه. وكانت الحركة الوطنية في ماليزيا كلها (وسنغافورة معها) على أشدّها لمّا زرناها، فكان الوطنيون يخرجون ليلاً إلى الغابات يقصدون الشجر ويسيلون ماءها هدراً على رغم ما يتّخذه الإنكليز من وسائل لحراستها، لأن أكثرها ملك لهم أو لمن يلوذ بهم.

والأحزاب الوطنية كثيرة، وأكبرها حزب «أمانو» واسمه الحزب الوطني الاتحادي، ولم يكن يرى التعاون مع الحكومة، يؤيّده الحزب الصيني الكبير وحزب فارتي ناكارا، أي حزب البلاد. وكان رئيس أمانو تنكو عبد الرحمن، وقد لقيته في حفلة فلسطين وسيأتي حديثها. * * * وكنا كلما وصلنا بلداً ألقينا فيه الخطب والمحاضرات للتعريف بقضية فلسطين وشرح أدوارها، ثم عملنا على تأليف لجنة لها. وكانت الحفلة قد أُقيمَت في عاصمة جوهور، وهي بلدة صغيرة ما بينها وبين سنغافورة إلاّ هذا الجسر، ليس لها عَظَمة سنغافورة ولا ضخامة بنيانها، ولكنها بلدة شرقية هادئة أحسست فيها بالأنس والاطمئنان. وكانت الحفلة في نادٍ كبير فيه مسجد واسع، وكانوا قد أوصوني وأنا في الهند أن لا أتكلّم عن الإنكليز في سنغافورة، لأن سنغافورة مستعمَرة إنكليزية وليس من مصلحة القضية -كما قالوا- أن أتكلّم عنهم في بلادٍ الحُكمُ فيها لهم. وسمعت ذلك منهم وكتمت أمراً. فلما كانت الحفلة وقمت لأخطب قلت للحاضرين: لقد أوصوني أن لا أعرض للإنكليز بشيء ولا أذكر شيئاً عمّا عملوه في فلسطين. وما كاد المترجم ينقل هذه الجملة إلى الحاضرين (وهم بضعة آلاف) حتى ضجّوا ضجّة عظيمة، وتكلّموا بكلام تردّدَت فيه كلمة أمانو. وإذا نحن في نادي حزب أمانو، وهو الحزب الذي

يناوئ الإنكليز ويقاومهم ويناضل لاستقلال البلاد، وإذا الضجّة احتجاج منهم على هذه الوصيّة وطلب وإلحاح على أن أقول عن الإنكليز ما أريد. وكنت كالقنبلة المعَدّة التي يمسكها عن أن تنفجر مسمار صغير، فسحبوا المسمار وانطلقَت القنبلة. وألقيت خطبة مجلجلة وصفت فيها نكبة فلسطين ومصاب أهلها، وأصبت ووفّق الله، فتكلّمت من قلبي فوقع كلامي في قلوبهم، وأفلتَت الدموع من العيون وعلا صوت البكاء، ونزعَت السيدات -والله- حليّهنّ وقدَّمْنَها، وألقى الرجال بكل ما معهم. وكان من خطّتنا ألاّ نستلم بأيدينا قرشاً واحداً، فسُلّم ما جمع إلى لجنة انتخبناها فوراً من أهالي البلاد لتُرسِله هي إلى فلسطين. وأذّن المغرب فقام الحاضرون جميعاً إلى الصلاة، ولقيت رئيس الحزب فإذا هو أمير من الأسرة التي تحكم إحدى السلطنات التي كانت تتقاسم ماليزيا بينها، وهو تنكو عبد الرحمن، وكان شقيق السلطان، ولكنه آثر العمل لمصلحة بلاده وخدمة أمته على أبّهة المُلك وألقاب السراب. وكان حزب أمانو قد قرّر يوم الحفلة التي خطبتُ فيها مقاطعة الوظائف الحكومية، وكان هذا الأمير رئيس المجلس التشريعي وله راتب ضخم ومنزلة عالية، وكان نائبه الدكتور إسماعيل وزيراً، فاستقالا وتبعهما كلّ الموظفين من حزب أمانو. * * *

إن الشجى يبعث الشجى لماذا أتحدث عن بنان وأنا أرثي شكري فيصل؟

-165 - إن الشجى يبعث الشجى لماذا أتحدث عن بنان وأنا أرثي شكري فيصل؟ قرأت في جريدة عكاظ نعي الدكتور شكري فيصل. وشكري ليس من لِداتي ولا هو من أقراني في السنّ، ولكنه رفيق أخي عبد الغني في المدرسة الابتدائية. كانوا ثلاثة يدرسون معاً، كلّهم ذكيّ نبيه وكلّهم من سنّ واحدة، وُلدوا سنة 1337هـ أو قريباً منها. وكلّهم كان أبوه أو مَن ربّاه عالِماً يُشار إليه في دمشق ويقصده الطلبة والدارسون، وكلّهم صار أستاذاً كبيراً: أخي عبدالغني، وشكري فيصل، وصلاح الدين المنجّد. اختلف طريقهما وطريق عبد الغني، فاشتغل هو بالرياضيات حتى غدا أقدر وأقدم أستاذ فيها واشتغلا في الأدب حتى صارا من أعلامه. ولكن طبعه لا يشاكل طبعهما؛ عرفا الناس وعرفهما الناس، خرّاجان ولاّجان يدخلان المجتمعات ويخرجان منها، وعبد الغني مثلي مُنْزَوٍ معتزل، بل هو أشدّ مني عزلة وانزواء، فكأنه مصباح قويّ في غرفة مغلَقة، نوره شديد ولكن لا يجاوز جدرانها.

لم أرَ شكري رحمه الله من أربع سنين، من يوم زارني في داري في مكّة، ولكنني أعرفه من أكثر من خمسين سنة. كان أستاذاً في كلية الآداب في جامعة دمشق، فلما بلغ سنّ التقاعد (أو أُحيلَ إلى المعاش كما يقولون في مصر) جاء المملكة فكان أستاذاً في الجامعة في المدينة المنوّرة. كان عصامياً، خاض لُجّة الحياة قبل أن يستكمل عُدّة خوضها، وجرّب الطيران صغيراً قبل أن ينبت ريش جناحَيه، فما زال يضرب بهما، يقوم ويقعد ويرتفع ويقع، حتى قوي الجناحان وامتدّت قوادمهما وقويَت خوافيهما، فَعَلا وحلّق. أصله من حارتنا من حيّ العقيبة، وكان أبوه وعمّه من «زكرتية» الحارة، الذين يُدعى أمثالهم في مصر بالفتوّات وفي لبنان «القبضايات» وفي العراق «أبو جاسم لر». و «لر» علامة الجمع في لغة الترك، وكانوا يعلّموننا على العهد العثماني في الشام اللغة التركية مكتوبة بالحرف العربي كما تكتب الأردية والفارسية، وكما كانت تُكتب لغة أندونيسيا قبل أن يبدّلوها. وأذكر أنه كان عندنا في كتاب القراءة «جوجقلِرْ مكتبه كِدِيور» أي «الأولاد يذهبون إلى المدرسة». وأنا أحفظ ممّا تعلّمناه من التركية في تلك الأيام شيئاً ليس بالكثير ولكنه باقٍ في ذهني إلى اليوم. وكانت أسرة الفتوّات في العقيبة هي أسرة كريّم، فذهب الدهر بالفتوّة منها وكاد يُنسى اسمها، ولم يبقَ فيما أعلم من رجالها إلاّ صديقنا الشيخ عبد الحميد كريم إمام جامع التوبة، وهو أبعد الناس عن النزال وعن القتال، من الذين قيل فيهم: «ليسوا

مِنَ الشرّ في شيءٍ وإنْ هانا». وكان آل كريم لشهرتهم يُنسَب إليهم أسباطهم، أي أبناء بناتهم، حتى إن الشيخ كامل القصاب الذي يعرفه الناس هنا، والذي كان إماماً في التعليم وعَلَماً في الوطنية والنضال للاستقلال، كان يُدعى أول أمره الشيخ كامل الكريم. وكان آل فيصل، أسرة شكري، من أسباط بيت كريم، ولكنهم كانوا فتوّات حقيقة. وكان في صفحة وجه عمّ شكري أو في وجه أبيه (نسيت أنا) أثر ضربة سيف قد التأمت مع الأيام، وسألته يوماً عنها فقال: هوه، هوه! هذا أثر من معركة عظيمة خضناها يوماً. قلت: هل كانت من معارك الحرب العظمى التي ساقوكم جنوداً إليها؟ قال: لا، بل هي معركة بيننا وبين أهل العمارة (وحيّ العمارة معروف في دمشق) حتى تمّ لنا فيها احتلال مصلبة للعمارة (والمصلبة في الشام تقاطع شارعين). والناس الذين يحنّون إلى الأيام الماضية ينسون أننا رأينا بعدها شراً كثيراً كما رأينا خيراً كثيراً. ولو علمتم أن بين العُقيبة والعمارة أقلّ من مئتَي متر، البيوت فيها متصلة لا تفصل بينها ساحة حرب ولا ميدان قتال، ولو عرفتم أن أحياء الشام كانت ونحن صغار (وقبل ذلك) في نزاع وخصام وقتال، لرأيتم أننا صرنا الآن إلى خير ممّا كنا عليه. وكانت أم شكري أخت المربّي المصلح والمعلّم القديم الشيخ محمود ياسين الحمامي. وقد قضى الله أن يفترق الزوجان وشكري صغير، فكانت عليه من المصائب المبكّرات، ولكنها جرّت عليه خيراً كبيراً. وكذلك يقدّر الله بكرمه ما يسوء فيجعل معه

ما يسرّ: {وعَسَى أنْ تكرَهُوا شيئاً ويَجْعَلَ اللهُ فيهِ خَيراً كثيراً}. أما هذا الخير فهو أنه نشأ في كنف خاله الشيخ محمود وفي مكتبته الكبيرة. وأنا حين أذكر دمشق وأحنّ إليها، وتتراءى لي صور الأماكن المحبّبة إلى نفسي فيها، أذكر هذه المكتبة التي طالما كنت أحبّ زيارتها والقعود فيها مع الشيخ ومع تلاميذه: إخواننا الشيخ ياسين عرفة والشيخ محمود الحفّار والشيخ كامل القصّار، وصديقه وصديقنا الشيخ عبد القادر العاني، رحمه الله ورحم من مات منهم. وقد قدر الله أن تمرّ الأيام وأن أشتري هذه المكتبة وأن أُودِعها الكلّية الشرعية في دمشق، وهي باقية فيها إلى الآن. ومن اطّلع على عقد البيع رأى عجباً؛ إذ أن الجهة التي باعت يمثّلها أنا لأنني كنت رئيس مجلس الأيتام، والجهة التي اشترت يمثلها أنا لأنني كنت رئيس مجلس الأوقاف! وكان شكري رحمه الله يحضر مجالس خاله الشيخ محمود ودروسه في البيت ودروسه في جامع التوبة، ويصاحب هذه النخبة من الأفاضل، فألَمّ بشيء كثير من العلوم الإسلامية، كما أخذ الكثير من الثقافة الحديثة من الدراسة. ولكن هذا كله لم يُجدِ عليه مالاً، وكان خاله فقيراً كما كان أكثر مشايخ الشام، فاضطرّته الحياة إلى أن يعمل ويتكسّب مبكّراً كما عملت أنا، وكما عمل كثير من إخواني الذين بلغوا -من بعد- أعلى المراتب في الحياة وأسمى الدرجات في العلم، كالدكتور أحمد السمّان أستاذ الاقتصاد في كلية الحقوق رحمه الله. عمل في المكتبة العربية عند آل عبيد، الأستاذ أحمد وإخوانه، وثابر مع العمل على الدراسة حتى حصل على الدكتوراة

في الأدب العربي من مصر سنة 1951 (على ما أظنّ)، ولم يحصل عليها قبله من الشام إلاّ أسعد طلس وزكي المحاسني. وفي تلك السنة حصل أخي عبد الغني على الدكتوراة في الرياضيات، وكان أوّل من حمل هذه الشهادة في بلاد الشام. وكان يرتقب أن يحصل عليها قبل ذلك بعشر سنين من «السوربون»، ولكن قامت الحرب سنة 1939 فتعذّر رجوعه إلى فرنسا. لم أكن على صلة به في السنين الأخيرة. انقطع الاتصال، لكن لم ينقطع الودّ، حتى قرأت أنه تُوفّي في سويسرا وأنهم نقلوه بعد موته بثلاثة أيام إلى المدينة المنوّرة وصلّوا عليه في المسجد النبوي. وكنت أتمنّى أن يُدفَن حيث توفّاه الله، اخترت له الذي اخترته لبنتي بنان رحمها الله. وهذه أول مرّة أذكر فيها اسمها، أذكره والدمع يملأ عيني والخَفَقان يعصف بقلبي، أذكره أوّل مرّة بلساني، وما غاب عن ذهني لحظة ولا غابت صورتها عن جناني. لما قضى الله فيها ما قضى سألوني في نقلها، قلت: لا، بل توسّد حيث أراد الله لها أن تُستشهَد لأن نقل الميت لا يجوز، وما أحفظ أنه رُوي عن أحد من السلف. قالوا: فكيف إن مات المسلم في بلد ما فيه مقبرة إسلامية؟ قلت: كم هم الذين ماتوا في معارك الفتوح من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم من خيار المسلمين؟ هل أخّروا دفنهم حتى يجدوا لهم مقبرة إسلامية أم واروهم الثرى حيث أدركهم الموت؟ هذا أبو أيوب الأنصاري الذي نزل الرسول عليه الصلاة والسلام داره في المدينة حين هاجر إليها لأن ناقته التي كانت مأمورة وقفت على باب هذه

الدار، لقد دُفن تحت أسوار القسطنطينية في أبعد مكان عن المدينة المنوّرة، فما زال قبره ينادي المسلمين حتى كتب الله فتحها على يد محمد الفاتح، فصارت «إسلام بول»، أي مدينة الإسلام، سَمّاها بذلك السلطان الفاتح كما سَمّوا الآن إسلام أباد في باكستان، و «بول» و «أباد» كلاهما بمعنى المدينة. * * * وقالَ: أتبكي كلَّ قَبرٍ رأيتَهُ ... لقبرٍ ثوى بينَ اللّوى والدَّكَادِكِ؟ فقُلتُ لهُ: إنّ الشَّجَى يبعَثُ الشّجى ... فدعني، فهذا كلُّهُ قبرُ مالكِ أفكان متمّم بن نويرة أشدّ حُباً لأخيه مالك من حُبّي لبنتي؟ وإذا كان يجد في كل قبر يمرّ به قبر مالك، أفتُنكِرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها وفي كل خبر وفاة وفاتها؟ وإذا كان كلّ شجى يُثير شجاه لأخيه، أفلا يُثير شجاي لبنتي؟ إن كل أب يحبّ أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحبّ بناته مثل حُبّي بناتي! ما صدّقت إلى الآن وقد مرّ على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة، وأنا لا أصدّق بعقلي الباطن أنها ماتت؛ إنني أغفل أحياناً فأظنّ إن رنّ جرس الهاتف أنها ستُعْلِمني -على عادتها- بأنها بخير لأطمئنّ عليها. تكلّمني مستعجلة ترصف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائماً كأنها تحسّ أن الردى لن يبطئ عنها وأن هذا المجرم، هذا النذل، هذا ... يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يُطلَق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون

الشرف حتى عند الإجرام. إن في العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة وأمثالها، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس حتى طرقَت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها، فضربها ضرب الجبان. والجبان إذا ضرب أوجع! أطلق عليها خمس رصاصات تلقّتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها، كأن فيها بقيّة من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون: ولسنا على الأعقابِ تَدْمى كُلومُنا ولكنْ على أقدامِنا تقطُرُ الدِّما ثم داس الـ ... لا أدري والله بِمَ أصفه؟ إن قلت «المجرم» فمِن المجرمين مَن فيه بقيّة من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدمَيه النجستين على التي قتلها ظلماً ليتوثّق من موتها، ربما كان في المجرم ذرّة من إنسانية تحجزه عن أن يخوض في هذه الدماء الطاهرة التي أراقها. ولكنه فعل ذلك كما أوصاه مَن بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكّد من نجاح مهمّته، قطع الله يديه ورجلَيه. لا، بل أدعه وأدع مَن بعث به لله، لعذابه، لانتقامه. ولَعذابُ الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر. لقد كلّمتها قبل الحادث بساعة واحدة، قلت: أين عصام؟ قالت: خبّروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت. قلت: فكيف تبقين وحدك؟ قالت: بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير. ثق والله يا بابا أنني بخير. إن الباب لا يُفتَح إلاّ إن فتحته أنا، ولا أفتح إلاّ إن عرفت من الطارق وسمعت صوته. إن هنا

تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة، والمسلّم هو الله. ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان، سيهدّد جارتها بمسدسه حتى تكلّمها هي، فتطمئنّ فتفتح لها الباب. ومرّت الساعة فقُرع جرس الهاتف، وسمعت من يقول لي: كلّم وزارة الخارجية. قلت: نعم؟ فكلّمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردّد، كأنه كُلّف بما تعجز عن الإدلاء به بُلَغاء الرجال، بأن يخبرني ... كيف يخبرني؟ وتردّد، ورأيته بعين خيالي كأنه يتلفّت يطلب منجى من هذا الموقف الذي وَقَفوه فيه، ثم قال: ما عندك أحد أكلّمه؟ وكان عندي أخي، فقلت لأخي: خذ اسمع ما يقول. وسمع ما يقول، ورأيته قد ارتاع ممّا سمع وحار ماذا يقول لي، وكأني أحسست أن المخابرة من ألمانيا وأنه سيُلقي عليّ خبراً لا يسرّني، وكنت أتوقّع أن ينال عصاماً مكروه، فسألتُه: هل أصاب عصاماً شيء؟ قال: لا، ولكن ... قلت: ولكن ماذا؟ عجّل يا عبدُه فإنك بهذا التردّد كمن يبتر اليد التي تَقَرّر بترُها بالتدريج، قطعة بعد قطعة، فيكون الألم مضاعَفاً أضعافاً. فقُل وخلّصني مهما كان سوء الخبر. قال: بنان. قلت: ما لها؟ قال، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبقَ في يده شيء. وفهمت وأحسست كأن سِكّيناً قد غُرس في قلبي، ولكني تجلّدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً والنار تتضرّم في صدري: حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت. فحدّثَني. وثقوا أنني لاأستطيع -مهما أوتيت من طلاقة اللسان ومن نفاذ البيان- أن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعتُ.

وانتشر في الناس الخبر، ولمست فيهم العطف والحبّ والمواساة، من الملك حفظه الله ووفّقه إلى الخير، ومن الأمراء، ومن الأدباء والعلماء، ومن سائر الناس. وقد جمعت بعض ما وصل إليّ منها، وتحت يدي الآن أكثر من مئتَي برقية تفضّل أصحابها فواسوني بها، وأمامي الآن جرائد ومجلاّت كتبَت عن الحادث كتابة صدق وكتابة عطف، وفيها تسلية لو كان مثلي يتسلّى بالمقالات عمّا فقد. حتى الجرائد الأجنبية، وهذه ترجمة مقالة نُشرت في جريدة لا أعرفها لأنني لا أقرأ الإنكليزية، جريدة الأوبزيرفر الأسبوعية بتاريخ 22/ 3/1981 بقلم الكاتب باتريك سيل. حتى الأجانب الذين لا يجمعني بهم دين ولا لسان عطفوا عليّ واهتمّوا بمُصابي وأنكروا هذا الحادث وقالوا فيه كلمة الحقّ، وممّن تربطني بهم روابط الدم واللسان مَن لم يأبهوا لِما كان، بل لقد صنعوه هم بأيديهم، إلى الله أشكوهم. وصلَت هذه البرقيات وجاءتني هذه الصحف، وإنها لَمِنّة ممّن بعث بها وممّن كتب يعجز لسان الشكر عن وفاء حقّها، ولكنني كنت في وادٍ آخر. ما قلّ إدراكي لهذا الفضل ولا تقديري لهذا النبل، ولكني سكتّ فلم أشكرها ولم أذكرها لأن المصيبة عقلت لساني وهدّت أركاني وأضاعت عليّ سبيل الفكر. فعذراً وشكراً للملك والأمراء جزاهم الله خيراً، ولكل من كتب إليّ، وأسأل الله ألاّ يبتلي أحداً منهم بمثل هذا الذي ابتلاني به. كنت أحسبني جَلداً صبوراً أَثبُت للأحداث وأواجه

المصائب، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات. صحيح أنه: ولا بُدَّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يُواسيكَ، أو يُسلِيكَ، أو يَتوجّعُ ولكنْ لا مواساة في الموت، والسلوّ مخدّر أثره سريع الزوال، والتوجّع يُشكَر ولكن لا ينفع شيئاً. وأغلقت عليّ بابي، وكلّما سألوا عني ابتغى أهلي المعاذير يصرفونهم عن المجيء. ومجيئهم فضل منهم، ولكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع؛ لم أُرِد أن تكون مصيبتي مضغة الأفواه ولا مجالاً لإظهار البيان. إنها مصيبتي وحدي فدعوني أتجرّعها وحدي على مهل. ثم فتحت بابي وجعلت أكلّم من جاءني. جاءني كثير ممّن أعرفه ويعرفني وممّن يعرفني ولا أعرفه، وجعلت أتكلم في كل موضوع إلاّ الموضوع الذي جاؤوا من أجله. استبقيت أحزاني لي وحدّثتهم كلّ حديث، حتى لقد أوردت نكتاً ونوادر. أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يُعرَفوا بها؟ لا والله، ولكن الأمر ما قلت لكم. كنت أضحك وأُضحِك القوم، وقلبي وكل خليّة في جسدي تبكي. فما كلّ ضاحك مسرور: لا تحسَبُوا أنّ رقصي بينكمْ طرب ... فالطيرُ يرقصُ مذبوحاً منَ الألمِ كنت أريد أن أصف لكم ما بقلبي، ولكن هل ترك لي الشعراء مجالاً للحديث عن قلبي؟ هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ؟

لقد جمعوا في الباطل، في الخيال، كل صورة للقلب تصنعها الأحزان المتخيَّلة، حتى لم يبقَ شيء لمفجوع صادق مثلي. قالوا: إن الحبيبة سرقَت قلبي، صدعَت قلبي، أخذَت قلبي، سكنَت قلبي، أبكَت قلبي ... حتى لقد جعل ذلك النحويّون مجالاً لإثبات قواعدهم فقالوا في شعرهم السخيف: يا ساكناً قلبِيَ المُعَنّى ... وما لهُ فيهِ قطُّ ثانِ لأيِّ معنىً كسرتَ قلبي ... وما التقى فيهِ ساكنانِ والشعراء الذين رثوا أولادهم، لقد وردوا النبع قبلي فاستقوا وملؤوا حياضهم ولم يدَعوا لي إلاّ الثمالة والعكر: ابن الرومي في رثائه ولده، والتهامي، والشاعرة التي لم يَقُل أحدٌ في وصف مصابه في ولد مثل الذي قالت في بنتها، عائشة التيمورية، أخت العالِم الباحث أحمد تيمور باشا. اقرؤوا قصيدتها فإنها -على ضعف أسلوبها- قد خرجت من القلب لتقع في القلب، وما أحسب أن امرأة استطاعت أن تصوغ عواطفها ألفاظاً وأحزانها كلماتٍ كما فعلَت عائشة (¬1). وابن الزيّات الوزير وما قال في ولده، ¬

_ (¬1) في كتاب «رجال من التاريخ» فصل عن عائشة التيمورية، فيه خبرها وفيه واحدة من قصائدها التي نَظمتها في رثاء بنتها التي ماتت بعد زواجها بشهور قلائل، وهي في الثامنة عشرة. قال فيه: "وروّعت عائشةَ الصدمةُ وشدَهتها، ولم تستطع التصبّر، ونسيت كل شيء إلا ابنتها وتركت كل شيء إلا الانقطاع لرثائها، ولبثت على ذلك سبع سنين كوامل قالت فيها قصائد تبكي الصخر وتحرك الجماد، وأثر طولُ البكاء في عينيها فلم تعد تبصر ... "، والمقالة مؤثّرة والأبيات أشد تأثيراً، فمن شاء قرأها هناك (مجاهد).

والزيات الذي لم يكن وزيراً ولكنه كان أكبر من وزير لما رثى ولده رجاء. والدكتور حسين هيكل لما شغل نفسه عن حزنه بإنتاج كتاب «ولدي»، فاقرؤوا كتاب «ولدي» فإنه وإن لم يصف لكم مدى أحزانه فقد كان أثراً من آثار أحزانه. وما لي أضرب الأمثال وأنسى مصاب سيد الخلق وأحبّ العباد إلى الله، محمد عليه الصلاة والسلام حين أُصيبَ بولده؟ إن في السيرة -يا أيها الإخوان- قصصاً كاملة فيها كل ما يشترط أهل القصص من العناصر الفنية، وفيها فوق ذلك الصدق وفيها العبرة، فاقرؤوا خبر ولد بنته عليه الصلاة والسلام الذي مات أمامه، تُوفّي بين يديه فغسّله بدمعه! إن دمعة رسول الله عليه الصلاة والسلام أغلى عندنا من كل ما اشتملت عليه هذه الأرض. * * * إني لأتصور الآن حياتها كلّها مرحلة مرحلة ويوماً يوماً، تمرّ أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني. لقد ذكرت مولدها وكانت ثانية بناتي. ولقد كنت أتمنى أن يكون بكري ذكراً، وقد أعددت له أحلى الأسماء، ما خطر على بالي أن تكون أنثى. يقولون في أوربّا: «حُكّ جلد الروسي يظهرْ لك من تحته التتري». ونحن مهما صنعنا فإن فينا بقيّة من جاهليتنا الأولى، أخفاها الإسلام ولكن تُظهِر طرفاً منها مصائب الحياة. وكانوا في الجاهلية {إذا بُشِّرَ أحدُهمْ بالأُنثَى ظَلَّ وجهُهُ مُسْوَدّاً وهُوَ كَظيمٌ، يتوارى مِنَ القَومِ مِنْ سوءِ ما بُشِّرَ بهِ: أيُمْسِكُهُ على هونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرابِ؟}. وأنا لم أبلغ أن أدسّ بنتي في التراب،

ولكن أخفيت وجهي من الناس وكأنني أحدثت حدثاً أو اجترحت ذنباً! وسَمّيتها عنان، واحتفل بها الأصدقاء والإخوان، ولمّا بلغ عمرها أربعين يوماً أقنعني صديقي وأستاذي القديم حسني كنعان بأن أحتفل بها. وكان الموسيقيون جميعاً أصدقاءه وإخوانه، فاجتمع في دارنا الأصحاب والأقرباء ورجال «التخت العربي»، وعلى رأسهم علي الكردي، أبو عِزّة، الذي كان يحفظ كل أغنية لقدماء المغنّين في مصر وفي حلب وكل موشحة عرفها الناس، وجاوزَت سنّه الثمانين وصوتُه عذب طريّ رحمه الله. وتوفيق الصباغ الذي كان رفيق سامي الشوّا وأشدّ منه عبقرية في الفنّ، وإن كان سامي أكثر التزاماً لحدوده واتّباعاً لطريقه. والصبّاغ هو الذي جاء بالبدعة التي لا نزال نسمعها من بعض الإذاعات العربية، وهي أداء نغمة الأذان على القيثارة (الكمنجة). وموسيقيّ تركي عجوز اسمه تحسين بك ينفخ في الناي، يستمرّ الصوت خارجاً منها عشر دقائق لا ينقطع ولا يتوقف، لأنه يتنفس من غير أن يقطع نغمته، وهذه براعة لم أرَها في غيره. وفؤاد محفوظ، أستاذ العود. وأنا أرى الآن هذه الحفلة حماقة من حماقات الصّبا، ندمت علها ولا أنوي أن أعود يوماً إلى مثلها. وولدت بعدها بسنتين بنان، اللهم ارحمها. وهذه أول مرّة أو الثانية التي أقول فيها «اللهمّ ارحمها»، وإني لأرجو الرحمة لها ولكني لا أستطيع أن أتصور موتها! ولم أتألّم لأنها جاءت بنتاً كما تألّمت للبنت الأولى، لأنني رجعت لعقلي وذكرت بشارة رسول الله عليه الصلاة والسلام لمن ربّى ثلاث بنات أو أخوات أو بنتين

أو أختين فأحسن تربيتهما. وأنا قد ربّيت أختين وخمس بنات، وأسأل الله بكرمه أن يكون لي نصيب من هذه البشارة. وصرت -من بعد- أتوقع البنات لأني أيقنت أن الله جعلني من الصنف الأول. أتدرون ما الصنف الأول؟ إن للموظفين تصنيفاً ومراتب ودرجات، فلا يملك موظف أن يعلو على مرتبته أو أن يصعد درجة فوق درجته. وكذلك جعل الله الناس أصنافاً؛ فالصنف الأول مَن رُزق البنات، والثاني من رُزق البنين، والثالث من رُزق بنين وبنات، والرابع من كان عقيماً (¬1). فليرضَ كلٌّ بما قُسم له، فالله إن أعطى غيرك في هذا الباب أكثر ممّا أعطاك فإنه يدّخر لك العِوَض من باب آخر، ومَن لم يجد العوض في الدنيا وجده في الآخرة، والآخرة هي الأبقى. ولمّا صار عمرها أربعَ سنوات ونصف السنة أصرّت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها، فسعيت أن تُقبَل من غير أن تُسجَّل رسمياً. فلما كان يوم الامتحان ووُزّعت الصحف والأوراق جاءت بورقة الامتحان وقد كُتبَت لها ظاهرياً لتُسَرّ بها ولم تسجّل عليها. قلت: هيه؟ ماذا حدث؟ فقفزَت مبتهجة مسرورة، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات المتلاحقة الألفاظ: بابا كلها أصفار، أصفار، أصفار ... تحسب الأصفار هي خير ما يُنال! ¬

_ (¬1) كما في سورة الشورى (49 - 50): {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إناثاً ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكورَ، أو يُزَوّجُهم ذُكْراناً وإناثاً ويَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقيماً} (مجاهد).

وماذا يهمّ الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفاراً أم كانت عشرات (والدرجة الكاملة عندنا عشرة)؟ وماذا ينفع المسافر الذي ودّع بيته إلى غير عودة وخلف متاعه وأثاثه، ماذا ينفعه طراز فرش البيت ولونه وشكله؟ * * *

على الطريق إلى أندونيسيا

-166 - على الطريق إلى أندونيسيا قلت لكم إن بين سنغافورة والملايا (ماليزيا) جسراً ممدوداً فوق البحر، فإذا قطعتم هذا الجسر وجُزتم الحدود والمكوس (الجمارك، التي تخلو منها الجزيرة) رأيتم تسع سلطنات فيها تسعة سلاطين، لم يأتِ بها اختلاف جنس ولا لسان ولا دين ولا جاءت بها إرادة الشعب، ولكن مصلحة المستعمر. وأقربها من سنغافورة سلطنة جوهور. وقد قلت لكم إنني ألقيت فيها خطبة هجمت فيها على الإنكليز هجمة الحقّ، وكان الناس بقلوبهم معي وكانوا معي بألسنتهم التي تهتف مؤيّدة لي مؤمنة بما أقول. وذهبنا بعد الحفلة إلى مسجد جوهور. وهو في بقعة لم أرَ -على كثرة ما رأيت من البلدان وزرت من الأقطار- بقعة أجمل منها ولا أهدأ؛ هضبة مستوية كأنها قبّة ضخمة فيها الأشجار الاستوائية البارعة الجمال المتعدّدة الأزهار التي لا نعرف أمثالها في بلادنا، تتخلّلها بقاع مكشوفة أرضها خضراء ليّنة زاهرة كأنها سجّادة فاخرة، في وسطها المسجد. وهو من الرخام الأبيض الناصع، نظيف نظافة قَلّ مثالها، والمكان هادئ حتى ليسمع فيه الإنسان صوت السكون، في عالَم تداخلت فيه الأصوات وامتزجت

وتخالطَت: أصوات السيارات في الشارع، والآلات في المعمل، والناس في السوق، والأولاد في المدرسة ... ضوضاء تتحطم منها الأعصاب حتى ليتمنّى المرء مخلصاً منها. وأين المخلص وأين الهدوء؟ على أنه ليس كل ساكن هادئ مستحَبّ مطلوب، فالسجن الانفرادي فيه الهدوء كلّه ولكن ما فيه من السعادة ولا من الأُنس شيء، والصحراء هادئة ولكن لا راحة فيها ولا هناء لأنه لا ظِلّ فيها ولا ماء. فلما جئت هذا المكان وجدت الهدوء الجميل والسكون المؤنس وأمان النفس واطمئنان القلب، في بقعة جمعت جمال الطبيعة التي طبعها الله عليها، وجلال الدين الذي يعبّر عنه المسجد، وطيب الصحبة مع هؤلاء الإخوة الكرام. وقد صلّينا معهم فيه، ثم ذهبنا إلى دار المفتي السيد علوي بن طاهر الحدّاد، وهي على الهضبة وراء المسجد، وكان مجلس علم ومذاكرة ونكت ونوادر. والمفتي رجل حضرمي عالِم مطّلع حاضر النكتة عذب الحديث، أعلم مَن لقيت منذ خرجت من الهند متجوّلاً في جنوب آسيا إلى أن رجعت إليها. وكانت الهيئات الإسلامية هناك عاملة على تحقيق مشروع عظيم هو إنشاء كلية إسلامية، قُدِّر لبنائها يومئذ مليون دولار ملاوي (أي ماليزي، والدولار أو الروبية الملاوية لم تكن تزيد عن الليرة السورية إلاّ شيئاً قليلاً). وقد كان أول من سعى إلى إنشائها الشيخ عبد العليم الصديقي، الداعية الإسلامي المعروف بمحاربة المدارس التنصيرية الأجنبية، وقد بلغني أنه تم جمع المبلغ بعد سفري وافتُتحَت الكلّية.

وكان قد سبقه مشروع آخر هو بناء مسجد كبير له مدرسة، فتبرّع سلطان برونَيْ يومئذ بخمسة ملايين روبية للجامع وبمليون لمدرسته، وهذا السلطان كان يملك من النفط (البترول) الذي ظهر في بلاده ثروة قالوا إنها لا تحدّها الأرقام. ورأيت المسلمين في الملايا من أكثر المسلمين يقظة وانتباهاً، يقومون بالدعوة إلى الإسلام، وقد رأيت في رئاسة الشؤون الدينية في جوهور دائرة خاصة للدخول في الإسلام، ورأيت الصينيين يزدحمون على بابها ليعلنوا دخولهم فيه. وهم مُقبلون على إنشاء المدارس والمساجد والكليات الإسلامية ويبذلون لذلك الأموال الوفيرة. ولمّا كنت في سنغافورة كانت هنالك معركة الحروف اللاتينية والعربية. واللغة الملاوية (الماليزية) كانت تُكتَب بحروف عربية كما قلت لكم، كاللغة الفارسية واللغة الأردية، فحوّلها الهولنديون في أندونيسيا إلى الحروف اللاتينية، فلم يبقَ مَن يكتبها بالحروف العربية إلاّ الكهول والشيوخ، وأراد الإنكليز أن يصنعوا مثل ذلك في الملايا فأباه المسلمون عليهم. هذا ما كان يوم زرتُها، ولست أدري الآن ما حالها (¬1). واللغة الشعبية في الملايا هي اللغة الملاوية (أي الماليزية)، وهي لغة أندونيسيا. وهي لغة عجيبة سهلٌ تعلّمها، يرى علماء اللغات أنها ستكون في الشرق كالإنكليزية في الغرب لسهولة ¬

_ (¬1) اللغة الملاوية تُكتَب اليوم بالحروف اللاتينية، ولم يعد يعرف الحروفَ العربية إلا طلبةُ العلم في المدارس الدينية (مجاهد).

تعلّمها كما يقول من يعرفها. وهي لغة ليس فيها تصريف وليس فيها ماضٍ ومضارع وأمر، بل يأخذون المصدر فيضمّون إليه الضمائر والظروف، فإذا أراد المرء أن يقول «أُعطي» مثلاً، يقول «أنا إعطاء»، وإن أراد أن يقول «أعطيتُ» يقول «أنا إعطاء أمس»، كما يقول «أنا إعطاء أنت أمس» مكان «أعطيتُك». والجمع يكون بتكرار اللفظ مرّتين، فكلمة «سوادارا» مثلاً معناها «أخ»، فإن قال الخطيب «سوادارا سوادارا» كان معنى ذلك «إخواني». والعدد يكون بالأرقام المُفرَدة، فإن أراد المرء أن يقول «مئة وسبعة وخمسون» قال «واحد سبعة خمسة»، ولفظ الأعداد من واحد إلى تسعة هو: ساتوا، دوا، سيغا، أنبات، ليما، أومان، توجو، دوليان، سانبيلان. كان في الملايا نحو ثلاثة ملايين من المسلمين، كان ذلك عددهم لما زرناهم من خمس وعشرين سنة، والعرب قِلّة وأكثرهم من الحضارمة. والحضارمة طبقات، منهم العلويون الذين يقولون إنهم سادة أشراف، ومنهم من ليس له مثل هذه الدعوى. مع أن قيمة الإنسان في دين الإسلام بعمله وتقواه لا بآبائه وجدوده، والكريم هو التقيّ، والشريف هو الذي يكون شريفاً في معاملته وفي سلوكه. ثم إن أكثر الأنساب التي يُدّعى فيها الاتصال بالرسول عليه الصلاة والسلام ليس لها ما يُثبِتها ويؤكّدها إلاّ قول أصحابها، وأنا لا أتهم أحداً في نسبه ولكن أقرّر حقيقة ثابتة. وللعرب مدارس دينية، زُرت بعضاً منها فحسبتُني في مدرسة شرعية من مدارس دمشق التي عرفناها ونحن صغار، قبل أن تستحدث المدارس هذه الطرق في التدريس وهذه الأساليب

في التعليم التي بُنيت على تجارِب طويلة. ورأيتهم يقرؤون فيها ما كان يُقرَأ في مدارسنا: النحو والصرف والفقه والتجويد والحديث والتفسير. الكتب هي هي، والأساليب هي هي، والأزياء هي هي؛ لا يختلف شيء منها عمّا في مدارس الشام وعن الذي عرفناه من مدارس مصر، لا المدارس الحديثة التي دخل إليها التطوّر ونالها التبديل بل المدارس التي كانت في أوائل هذا القرن الهجري. وليس ينقص هذه البلادَ إلاّ العلماء والدعاة إلى الله. ولو أن البلاد العربية قد أدّت أمانة تبليغ الإسلام في هذا العصر كما أدّتها من قبل حين خرج العرب من صحرائهم يحملون هذا النور، تحت رايات محمد عليه الصلاة والسلام، ينشرونه في الأرض ... لو أننا سلكنا اليوم سبيلهم ومشينا على سَنَنهم وبعثنا بالعلماء إلى أقطار الإسلام كلها لَعاد لنا مجد الماضي، ولرجعَت لنا عِزّة الجدود، ولكتبنا في التاريخ مرّة ثانية هاتيك الصفحات (¬1). * * * يسافر المرء من دمشق إلى حلب أو من القاهرة إلى أسيوط فيشكو بُعد الشقّة وطول السفر، ويقول: متى نحطّ الرحال وينتهي الترحال؟ فكيف بنا وقد سافرنا في رحلة واحدة من كراتشي في غربي القارة الهندية إلى جاكرتا في غربي جزيرة جاوة؟ رحلة لو كانت في أيام ابن بطّوطة لأكلَت من عمره سنة، ولو كانت ¬

_ (¬1) ما سبق من هذه الحلقة من أولها إلى هنا جزء من فصل «في الملايا»، وما يأتي إلى آخرها منقول بتصرف قليل من فصل «في جاكرتا»، وكلا الفصلين منشورٌ في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

من نصف قرن لاستغرقَت شهراً، قطعناها في أقلّ من عشرين ساعة، نرى الأرض تُطوى من تحتنا ونُبصِر البلاد كأنها في مصوَّر (خريطة) مجسّمة موضوعة على المكتب، ونحن مشدودون إلى المقاعد لا نمشي إلاّ هذه الأمتار المعدودة بين المقعد والحمّام. أكلنا ولبثنا بعد الأكل حتى جعنا، ثم أكلنا ولبثنا حتى جعنا، ونمنا حتى شبعنا من النوم، وأفقنا حتى نعسنا فنمنا، وتكلّمنا حتى مللنا فسكتنا، وسكتنا حتى مللنا السكوت فتكلّمنا ... والطيارة ماضية بنا. حتى إذا بلغ السأم منّا قالت المضيفة: اربطوا الأحزمة، هذه جاكرتا. فصحونا وجعلنا ننظر من نوافذ الطيارة كحالنا كلما وردنا بلداً جديداً. وأجمل ما في ركوب الطيارة منظر الأرض حين تدنو منها وتُسِفّ لتحطّ فيها، ننظر فإذا نحن نمشي على ظهور البيوت ونثب على المآذن والمداخن، كأننا نطير في المنام! ونظرنا، فرأينا البلدة بساتين واسعة فيها بيوت صغيرة ملوّنة، وجعلنا نبتدر النزول ونتسابق إليه. والمُسافر يصبر الطريق كلّه، فإذا قرب الوصول وبدا له المنزل ضاق صدره وتصرّم صبره، وهذه طبيعة الإنسان. وأشوَقُ ما يكونُ المرءُ يوماً ... إذا دنَتِ الخيامُ منَ الخيامِ ولمّا مسّت أقدامنا الأرض تشهّدنا وأقبلنا ننظر، فإذا في استقبالنا وجوه القوم: وكيل وزارة الخارجية جاء باسم الحكومة يستقبلنا ويدعونا ليُنزِلنا ضيوفاً عليها ما بقينا في بلدها، وسفير مصر (الذي رأيت من نُبله وفضله وتواضُعه ما لم أنسَهُ إلى الآن ولا أنساه أبداً) الأستاذ علي فهمي العمروسي، والقائم بأعمال

المفوّضية السعودية، الرجل الفاضل الكريم الذي لم أرَه بعد تلك الرحلة الأستاذ عِزّة الكثبي، وهو أخ وفيّ وعربي نبيل. ولم يكن في جاكرتا من ممثّلي الدول العربية يومئذ غيرهما. وزعيم عرب أندونيسيا السيد علي سنكر، وآخرون إذا لم أذكر الآن أسماءهم فإني أذكر دائماً كرمهم وفضلهم. وكان العصر قد أذّن، وكان رفيقي في الرحلة، الشيخ أمجد الزهاوي رحمة الله عليه، إذا دخل وقت الصلاة لا يشتغل إلاّ بالصلاة، سواء لديه أين كان ومع مَن كان. ولقد كان على مائدة الملك حسين في عمّان يوم دعا أعضاء المؤتمر الإسلامي (وقد اعتذرت عنها أنا فلم أحضرها)، فسمع الأذان فترك الطعام وقام. ولا يصنع ذلك تظاهراً وتفاخراً ولا يخطر له التفاخر على بال، بل يفعله لأنه يراه الشيء الطبيعي (كلمة طبيعي فصيحة) لا يفكّر لِمَ يفعله. وإن كان الأفضل غير الذي فعل. فلما وصلنا إلى المستقبلين أقبلوا يسلّمون علينا، وهو يصافحهم مشغول الذهن حاضر كأنه غائب، يتلفّت يسألني: أفندي، أين نصلّي؟ فقلت له: إن الوقت متّسع وسنصل إلى الفندق فنصلّي. فغضب وتركني. وكان رحمه الله سريع الغضب سريع الرضا. وسأل واحداً من المستقبِلين عن القبلة فدلّه عليها، فنزع جبّته فبسطها على أرض المطار وقال: «الله أكبر». وكان يقولها -كما قلت لكم من قبل (أو لم أقُل لكم فلست أدري والله) - يجمع نفسه ثم يُطلِقها كأنها قنبلة تُلقى في وجه إبليس، تخرج من أعماق قلب مؤمن، يستصغر الدنيا كلها حين ينطق بها فلا يَكبُر عليه شيء منها لأنه يقوم بين يدي الله، والله أكبر.

وخشيت أن ينتقد الناس هذا الموقف منه، ولكن أثر الإيمان بدا واضحاً، فإذا وكيل الوزارة والسفير والقائم بالأعمال وأكثر المستقبلين يقفون معه، يصطفّون وراءه ليصلّوا بصلاته. وكانت ساعة خشوع، وكانت خيرَ فاتحة لأيامنا في أندونيسيا إذ ألقى الله محبّة الشيخ وإكباره في نفوسهم. ومَن أحبّ الله بامتثال أمره واتّباع شرعه حبّبه الله إلى الناس وأعلى منزلته فيهم. لقد بقينا في كراتشي أكثر من عشرين يوماً ننتظر سِمَة الدخول إلى أندونيسيا والسفارة هناك تؤجّل وتتعلّل بالعلل، وقد عرفنا الآن سبب ذلك التعلّل والتأجيل. كان السبب أزمة المساكن، فلم يكن في جاكرتا مكان لقادم ينزل فيه إن لم يكن قد حجزه من قبل، وما تأخّروا بإعطائنا سمة الدخول إلاّ ليهيّؤوا لنا مكاناً في الفندق، وقد أخذونا إليه الآن. ومشينا في الشوارع تظلّلها الأشجار الكبار (الكبار جداً) وتكتنفها البساتين، تُخفي البيوت الملوّنة، فتبدو من خلال الغصون والأوراق كأنها فكرة تلوح لكاتب أو صورة حلوة تتراءى من خلال الأحلام لشاعر. أمّا الفندق الذي أخذونا إليه فهو فندق الشركة الهولندية التي جئنا بطياراتها، شركة «ك ل م»، وكانت من أكبر شركات الطيران يومئذ وأقدمها، ولكن فندقها هذا عجب؛ إنه يشبه ثكنة أو شيئاً كالثكنة، ولم أرَ مثله إلاّ الفندق الأميركي الذي نزلنا فيه بعدُ في دهلي الجديدة (نيودلهي). وهو ساحة مربّعة حولها صفوف من الغرف، كل غرفة منها لها شرفة واسعة تُفضي إلى غرفة أخرى للنوم فيها حمّام. ووراء

هذه الساحة ساحة أخرى، وما شئت من ساحات مربعة وغرف محيطة به، وكل ساحة تُفضي إلى الأخرى. فإذا دخلتها ضعت فيها، فكأنك في قصور الجِنّ في حكايات ألف ليلة. وكان علينا إذا أردنا الطعام أن نجتاز ستّ ساحات ونمشي مثل ما بين الحرم المكّي وأجياد! والعجيب أن جاوة أزحم بلاد الدنيا بالسكان، لا أعرف لها مثيلاً إلاّ باكستان الشرقية (التي صارت بنغلاديش)، وكان فيها يوم زرناها ثلاثة وخمسون مليوناً من الناس في جزيرة لا تعادل ثلثَي الجمهورية السورية. وكان فيها أزمة سكن لا شبيه لها، وبيوتها -مع ذلك- من طبقة واحدة أو طبقتين. وقد تفضّلَت علينا الحكومة الأندونيسية فأنزلَتنا ضيوفاً عليها، وربطَت بنا دليلاً موظفاً من وزارة الخارجية يتكلّم العربية كما نتكلمها نحن، لأنه درس في مصر ولأن زوجته مصرية، وجعلَت لنا سيارة. فأفسد هذا الدليل كل ما صنعَته وهدم كل الذي بَنَته؛ دعانا من أول يوم ليدوّرنا في البلد، ولم يكن الشيخ يمشي إلاّ إلى اجتماع فيه منفعة لقضية فلسطين التي جئنا من أجلها أو إلى عمل يفيدها، أما التفرج والتجوال والتمتّع والاطلاع فلا يباليه ولا يلتفت إليه. فذهبت مع الدليل وحدي فأراني البلدة كلها، وذهب بي إلى بنشة في طريق جبلي طويل بلغ الغاية في الجمال، وزاد عليها وأدخلني مطعماً لم أستطع أن آكل من طعامه شيئاً وأكل هو كلّ شيء. ولمّا كان الحساب حلفت أنا فدفعت أجرة السيارة وثمن الطعام، وصار ذلك قانوناً لنا: يأتي هو بالسيارة ويختار هو المطعم، وينتقي أغلى الطعام فيأكل هو وأنظر أنا، فإذا جاء الدفع

دفعت أنا ونظر هو ... قسمة عادلة وشركة مشروعة! ومضَت على ذلك أيام، ثم علمت أن السيارة وضعَتها الحكومة قيد أمري أنا، وأنه يُقدّم حساباً لنفقاتي كلها فيأخذها من المالية، أي أنه يأكل على حسابي، ثم يزعم أني أنا الذي أكلت ويأخذ من الحكومة الثمن! والعجيب أن أمثال هذا الموظف في كل مكان من مشرق الأرض إلى مغربها ومن شماليها إلى جنوبيها. وكانت هذه مزيّة واحدة من مزاياه التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، واسم هذا الموظف الصادق الأمين ... الذي اختاروه ليكون إعلاناً عن بلده وناطقاً بلسانها، اسمه تاج الدين يوسف. على أني أسارع فأشهد أنه لا يصلح مثالاً لإخواننا الأندونيسيين وأنهم أفضل وأجَلّ من أن يكون هذا مثالهم. ولقد رأينا -بعدُ- مَن محا بحسناته سيّئات هذا الرجل، وهو الأستاذ محمد صالح السعيدي، الذي صحبنا إلى شرقي جاوة مبعوثاً من وزارة الشؤون الدينية، فرأيت من استقامته وأمانته وعلمه ما كاد يُنسيني اعوجاج الأول وخيانته وجهله. * * *

جاكرتا وفندقها الكبير

-167 - جاكرتا وفندقها الكبير (¬1) أنا لا أزال في جاكرتا عاصمة أندونيسيا، وكان اسمها قديماً «بتافيا»، فبدلّوه كما بُدِّلت أسماء كثيرة في آسيا وفي إفريقيا بعد أن استقلّ أصحابها وزال الاستعمار عنها. وكان قد ضاق صدري من الفندق الذي أخذونا إليه، فأفهمونا أنهم اختاروه لنا ريثما يفرغ الجناح الفخم الذي أعدّوه لنا في فندق الهند. وهم يلفظون الاسم على الهجاء اللاتيني فيقولون «هوتيل دس إندس». وهو فندق عظيم حقاً، رأينا الجناح الذي أعدّوه لنا فإذا هو منزل ملوك لا فندق واحد من أمثالي من عباد الله الفقراء. والفندق عمارات منفصلة بينها حدائق وبساتين، لا أدري لماذا شبّهته في منظره وفي روعته بالجامعة الأمريكية في بيروت، لولا أنه بعيد عن البحر بنحو ألف متر والجامعة على سِيف البحر. وكان نُزُلنا الذي أعدّوه لنا في أكبر عمارة في هذا الفندق، يُصعَد ¬

_ (¬1) هذه الحلقة منقولة بتصرف يسير عن مقالة «في جاكرتا» المنشورة في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

إليه على درَج عريض من الرخام مفروش بالسجّاد النفيس، وفيه غرفة نوم فيها سرير عرضه ثلاثة أمتار، يكفي لينام عليه العبد الفقير الذي هو أنا وأولاده جميعاً، ويبقى فيه متسَع لثلاثة من أولاد الجيران! وإلى جنبها بهو استقبال فيه الأرائك الفخمة المذهَّبة والأثاث المُلوكيّ (¬1)، وله شرفة لا تقلّ في السعة ولا في الفرش عنه، تطلّ على حديقة من أجمل ما رأيت من الحدائق، تظلّلها أغصان الدَّوْح الباسق المزهر دائماً زهراً ما رأيته إلاّ في تلك المناطق الاستوائية. وأبى الشيخ أن ينزل فيه لأن إدارته أجنبية، وأصرّ على الإباء، فأنزلوه في فندق صاحبه مسلم حضرمي. ليس فندقاً على التحقيق ولكنه دكاكين على الطريق، سَدّوا أبوابها المفضية إلى الطريق وفتحوا نوافذ وأبواباً فيما بينها، ووضعوا فيها مرحاضاً ومغسلة، وجاءها ساحر فقال لها: "يا دكاكين كوني فندقاً"، فكانت -كما زعموا- فندقاً! والذي يقرأ هذا الكلام ويرى أني نزلت في هذا الجناح العظيم وأني كنت ضيف الحكومة يحسب أني عشت فيه في النعيم المقيم، لا يدري أني كنت منه في جحيم؛ ذلك أن من طبعي العزلة والابتعاد عن الناس وأني لا أستريح إلاّ في حضرة النفر القليل من الإخوان والأصدقاء الذين أنطلق معهم على سجيّتي وأمضي على ¬

_ (¬1) القاعدة أن النسبة إلى الجمع لا تجوز، ولكنهم قالوا من القديم: مائدة ملوكيّة ومسألة أصوليّة ورجل أنصاريّ، ونحن نقول: حقوق دولية وقضية عمّالية.

طبعي، هذا في بلدي وبين صحبي، فما بالك بالبلد الغريب بين قوم أنا فيهم كالأخرس لا أفهم عنهم ولا يفهمون عني؟ إنّ الغريبَ مُعذَّبٌ أبداً ... إنْ حَلَّ لم يَسعَدْ وإنْ ظَعَنا صدق خير الدين الزركلي: إن الغريب معذّب أبداً. وكان الدليل الفاضل يهرب بالسيارة من صباح كل يوم، يُركِب بها أهله وأصحابه ويُنفِق عليهم ما خصّصته الحكومة لي ولصاحبي، وأبقي وحدي، فإذا أردت أن أشكوه لم أستطع أن أُفهِمهم ماذا أريد، وجاؤوا بهذا الترجمان لينقل إليهم ما أقول، فكيف ينقل إليهم شكواي منه؟ وأذهب إلى الشيخ وبين فندقي وفندقه مسافة كيلين (أي كيلومترين)، فأجده يقرأ أو يسبّح، فأقعد عنده ساعة، ثم أمشي على غير هدى لا أكلّم أحداً ولا يكلّمني أحد، أمشي في الطرق القريبة من الفندق، ثم أوسّع الدائرة يوماً بعد يوم، حتى صرت أعرف طريقي في هذا الجانب من المدينة الكبيرة. وكان عملنا أن نقابل المسؤولين فنشرح لهم قضية فلسطين أو نخطب في الاجتماعات التي يعقدونها من أجلها، فإذا لم يكن عندنا مقابلة ولا محاضرة بقيت وحدي أمضي الليل كله مع هواجسي وأفكاري، أرى الأسر الهولندية من حولي، وهم يقيمون في الفنادق دائماً وحولهم أولادهم، وبيني وبين أولادي ربع محيط الأرض. ولبثت على ذلك شهراً كانت تمر عليّ فيه ليالٍ أكاد أحسّ فيها بالجنون.

يا رحمةً للغريبِ في البلدِ النّـ ... ـازحِ ماذا بنفسِهِ صنعا فارقَ أحبابَهُ فما انتفعُوا ... بالعيشِ مِن بَعدِهِ وما انتفَعَا * * * لما قلت لكم من حلقتين إنني لا أعرف من يحبّ بناته كما أحبّ بناتي حسب قوم أني أبالغ وأدّعي. فهل تصدّقون إن قلت لكم أنني كنت في أندونيسيا أفكّر في بناتي، أخاف أن ينزلق اللحاف من فوق إحداهن فتتكشّف فتتعرّض للبرد؟ ولمّا كنت في دمشق كنت أفيق من نومي، أحسّ أن إحدى البنات قد أزيحَ عنها الغطاء في ليالي الشتاء، فأذهب إليها لأغطيها. ومضى عليّ عيد لم أجد فيه من يقول لي «السلام عليكم» إلاّ السفير العمروسي والسيد الكتبي جزاهما الله خيراً. ولطالما أمضيت أياماً وأنا بلا طعام، أشتري كعكاً آكله مع الشاي لأن الأجراس في الفندق معطّلة، أو أنهم ألغوها واستعاضوا عنها بالهاتف، فمن أراد شيئاً اتصل بالإدارة فكلّمها. فكيف ترونني أكلّمهم وأنا لا أعرف لسانهم ولا يعرفون لساني، وليسوا أمامي لأخاطبهم بلغة الإشارات كما تفعل القرود في الغابات؟ وإذا نزلت إلى المطعم (وهو سلسلة أبهاء يضلّ الداخل إليها من كثرتها وسعتها) آخذ قائمة الطعام فلا أميز فيها حلواً من حامض ولا حاراً من بارد، فأضع إصبعي كيفما جاءت وأشير إليه أن يأتيني بما تحتها ثم أرى حظي (¬1)، فربما جاء طعام يؤكَل (وهذا أندر ¬

_ (¬1) كذلك كان يصنع فخري البارودي غفر الله له لما ذهب إلى باريس، وكان من أوائل من ذهب إليها من السوريين. فرأى على مائدة =

من النادر) وربما جاء خليط عجيب لا يُساغ ولا يُبتلع، وهذا ما يكون دائماً. وما أذكر أنني فرحت بطعام في عمري كله كما فرحت يوم دعاني السيد الكتبي، القائم بأعمال المفوضية السعودية في جاكرتا تلك الأيام. وأنا في العادة لا أجيب دعوة إلى طعام، لأن الدعوات وإن كان يُقدَّم فيها طعام أجود وألذّ من طعامي المعتاد في بيتي إلاّ أنهم يأخذون مني أكثر ممّا أعطوني؛ يأخذون حرّيتي في اختيار نوع الطعام فيطعمونني في الولائم ما يريدون لا ما أريد، وحرّيتي في اختيار المؤاكلين فيُقعدونني مع من يريدون لا مع من أريد، وحرّيتي في اختيار وقت الطعام فيطعمونني حين يريدون لا حين أريد. أما هذه المرّة فإنني أجبت دعوة السيد الكتبي فرحاً مسرعاً، لأنها كانت قد مرّت عليّ أيام بلا طعام إلاّ الكعك والشاي وما أجد من الفواكه. فوجدت عنده فاصوليا كالتي نعرفها، ووجدت شيئاً رأيته أعجب وأغرب، شيئاً ظننتني لمّا أبصرته في حلم فخفت أن أصحو من حلمي فلا أجده: فولاً مدمّساً! فولاً حقيقياً في جاكرتا، جاءه بالعلب المختومة من مصر. إنكم لا تعرفون مبلغ نعمة الله عليكم إذ تستطيعون أن تلقوا

_ = مجاورة مَن يأكل طعاماً استطابه، فلما فرغ قال للنادل «أنكور» (ومعناها «أيضاً» أو «مثله») فحسب أن اسم الأكلة «أنكور» فقالها للنادر، فجاءه بمثل الأكلة التي كانت أمامه، فقال للنادل: يا ابن الحرام، ليش أنكوري ما هو مثل أنكوره؟!

من تكلمونه وأن تجدوا ما تأكلونه حتى تتغربوا مثلي، فتلبثوا سبعة أشهر لا تسيغون طعاماً ولا تملكون كلاماً. ولما عرف السفير المصري السيد فهمي العمروسي جزاه الله خيراً ما نحن فيه، فتح لنا بيته وأباح لنا مائدته، وأرادنا أن نجيء كل يوم، فكنا نؤم هذه الدار المباركة كلما ضاق بنا الصبر واشتدّ علينا الأمر. وأقام لنا -متفضّلاً- حفلة تعارف كبرى، استعدّ لها ودعا المئات من وجوه القوم ووكّل الدليل المحترم يوسف لتوزيع البطاقات، فأبقاها عنده وأهمل (من أمانته!) توزيعها، فلم يحضر أحد، وضاع التعب والمال كما ضاعت ذمّة الترجمان. وكيف يحضر الناس حفلة لم يُدعوا إليها ولم يسمعوا بها؟ * * * ولم يكن في حمّام الفندق مغتسَل (مغطس، أي بانيو)، ما فيه إلاّ رشّاش، بل هو حمّام حسبت نفسي لما دخلته في واحد من حمامات دمشق القديمة: غرفة رطبة أرضها من الرخام، فيها بحرة صغيرة عميقة تُملأ بالماء، ويغترف منه المستحمّ بالطاس التي يكون مثلها في حمّاماتنا ويُراق الماء على الجسد. وحمّامات الفنادق التي رأيتها في أندونيسيا كلها على هذا المثال، ولست أدري هل جاءهم من الهولنديين أم اتبعوا فيه عادات أهل البلاد؟ ولقد كنا رأينا العجب في الباكستان من تأخّر المواعيد، فلا تبدأ حفلة في موعد افتتاحها ولا يسافر قطار في موعد سيره ومن وعدك بالزيارة الساعة الثامنة جاءك في التاسعة، أما في أندونيسيا فكل ما رأيناه فيها مضبوط وكل شيء يجيء في وقته. ومن عجائب

الضبط أن شاي العصر يأتيك به النادل (الجارسون) الساعة الرابعة تماماً، لا يتأخر دقيقة ولا يتقدم دقيقة. وهم يُلبِسون الإبريق (برّاد الشاي) غطاء كالسدارة العراقية مطرَّزاً منقوشاً، نعرفه عند بعض الأنيقات من ربات البيوت في دمشق، ولكنه يضع الشاي أمام غرفتك ويمضي، لا يؤذنك به ولا يقرع عليك الباب، ولعلك تكون نائماً قد امتدّت بك القيلولة فلم تحسّ به، ولعلك قد شُغلت عنه فلم تنتبه إليه، فتشربه بارداً. ومن عجائبهم أنك إن لم تصرّح أنك تريد الشاي محلّى بالسكّر جاؤوك به بلا سكّر، وإن لم تؤكّد لهم القول بأنك تريده حاراً حملوه إليك بعدما برد. * * * قلت لكم إن جاوة لا تبلغ في مساحتها مساحة الجمهورية السورية، وكان فيها -على ذلك- سنة 1953 لمّا زرناها ثلاثة وخمسون مليوناً، وقالوا إنهم يزيدون كل سنة ثمانمئة ألف، والجزر الأخرى تكاد تكون خالية، فليس في سومطرة (ومساحتها أكثر من ثلاثة أضعاف جاوة) إلاّ اثنا عشر مليوناً، وكلامنتان (التي كانت تُسمّى بورنيو، ومساحتها نحو ضعف سومطرة) ليس فيها إلاّ ثلاثة ملايين. وهذا كان كله لما زرناها من ربع قرن، لذلك كانت الحكومة تعمل دائماً على ترغيب الجاويين بالهجرة إلى إحدى هذه الجزر: تعطيهم الأرض فيها مجّاناً، وتبني لهم قرى ومدناً على أسماء قراهم ومدنهم وتنقلهم إليها على حسابها، والناس يُعرِضون عن هذا كله ويتعلّقون بمساكنهم على شدّة أزمة المساكن في تلك البلاد. لهذا كنت أنصح من يفكّر أن يزورها ألاّ يتوجّه إليها حتى يضمن لنفسه غرفة ينام فيها وإلا نام في الشارع، وهل

يدَعونه ينام في الشارع؟ وهذه نصيحة لم نبالِ بها لما قدّمها إلينا الوزير الأندونيسي المفوَّض في بغداد، ولكنا وجدناها لما جئنا حقاً وأكثر من الحق ... إن كان في الدنيا شيء أكثر من الحق. ولقد أعقبَت الحربَ العالمية الثانية أزمةُ مساكن في كل مكان، من نيويورك إلى أقصى الشرق، ولكن ليس في الدنيا بلد تمكّنت منه هذه الأزمة كجاكرتا، فإنه لم يكن فيها يومئذ -على سعتها وكثرة دورها وكبر فنادقها- مكان لنزيل جديد؛ ذلك أنه كان فيها إلى سنة 1941 ستمئة وثمانون ألفاً فقط، فلما صارت هي العاصمة وانتقلت الحكومة إليها بلغ سكانها سنة 1949 مليوناً ونصف المليون، وسنة 1952 مليونين وربعاً، ثم وصل سكانها لمّا زرناها إلى نحو ثلاثة ملايين. على أن القوم هناك في يقظة وعمل، فقد أُنشئت مدينة جديدة قرب جاكرتا هي كيبا يوران، مساكنها جديدة بعضها تنشئه الحكومة بمالها وموظفيها وبعضٌ ينشئه الناس بأموالهم، بُدئ بها في أواخر سنة 1948، فلم تأتِ سنة 1951 حتى تم بناء ثلاثة آلاف وخمسمئة بيت ألف منها للحكومة، وكان البنيان لما زرناها مستمراً ولكن الأزمة لا تزال ممسكة بالخناق. والأرض رخيصة والفنادق واسعة، ولكن ليس فيها مكان لنزيل، بل إنك لا تلقى في كل مئة غرفة غرفةً واحدة فيها مسافر، وإنما هي أسر تقيم فيها تتخذها منازل لها، ونصفها تستأجره الحكومة لموظفيها. ولقد وجدنا نحن جناحاً فخماً لا ينقصه شيء، ولكن المصيبة في الطعام وفي الكلام. أما الطعام، فإني لما دخلت بغداد قلت: أين مني طعام الشام؟ ويا شوقي إليه!

فلما جئنا كراتشي قلت: واشوقاه إلى طعام بغداد! فلما أوغلنا في الشرق وبلغنا جاكرتا تمنيت أن أجد مثل طعام كراتشي! ولما قعدت إلى العشاء أول يوم وصلت فيه إلى جاكرتا رأيت على طرف المائدة في الفندق طبقين صغيرين، طبقاً فيه زبد وطبقاً فيه شيء أحمر ما شككت في أنه مُربّى. وماذا يكون قد وُضع إلى جنب الزبد إن لم يكن فيه المُربّى؟ فأخذت بطرف السكين شيئاً من هنا وشيئاً من هناك ووضعته في فمي، وإذا بي أضع في فمي -والعياذ بالله- جمرة ملتهبة! وإذا هذا الشيء الأحمر نار حامية: نوع من الفلافل التي لم نسمع بها ولا نقدر على تصوّرها، وإذا القوم الذين يألفونها ويحبّونها يأخذون من هذا الشيء مثل رأس الدبوس بِعيدان دقيقة كالتي تخلّل بها الأسنان، وأنا أخذت منها ما أخذت، فماذا تظنونه فعل بي؟ لقد بقيت يوماً كاملاً لا أستطيع أن أُدخِل فمي شيئاً، وإن كنت قد أخرجت منه من مبتكَرات الشتائم ومن غرائب السباب ما نفّست به عن نفسي وأذهبت به غيظي، ولكنه ذهب كرصاصات تُطلَق في الهواء لا تصيب أحداً، لأنني قلته بالعربية وهم لا يفهمونها، فكانوا ينظرون إليّ وأنا أهدر بهذه الشتائم وأشير إلى فمي وأحرك بأصابعي حركة من يدلّ على أنها النار المحرقة، فكان المهذّب منهم يبتسم وغيره يضحك، لا يدرون ماذا حلّ بي. والعجيب أن الخبز مفقود، وإذا طلبت قطعة من الخبز في الفندق الكبير الذي يقدّم الطعام محسوباً ثمنه مع أجرة المنام فإنك تُضطرّ أن تدفع ثمن الخبز، لأنه ترف ولا يدخل في قائمة الطعام! وإنما يأكلون الرز المسلوق بلا ملح ولا سمن، هذا الرز

الذي لازمنا ملازمة الظلّ حيث سرنا في باكستان والهند والملايا وسيام. وإذا تأنّق الأندونيسيون قدّموه لك في أكلة نسيت اسمها، أكلة وطنية عظيمة كالقوزي عندنا، أو الرز البخاري أو السليق هنا، وهذه الأكلة رز مطبوخ بدهن النارجيل، أي جوز الهند (وما أدري أطعمه أقبح أم ريحه؟ ثم تبيّنَت لي الحقيقة، وهي أن ريحه أقبح من طعمه وأن طعمه أقبح من ريحه) ومعه الفليفلة الحمراء مقطَّعة قطعاً يزيد عددها على عدد حبّات الرز، ومعه اللحم وأشياء أخرى لا أعرف ما هي. وفي أندونيسيا رقاق مثل الجَرادِق، يأكلونه بدل الخبز من الكوخ إلى القصر، طعمه طيّب، وقد حسبته نوعاً من الخبز وإذا هو -كما قالوا- سمك! تعجّبت منه لما رأيته، فلما جئت مكّة وجدته كثيراً فيها له أشكال وأنواع، ثم فقدته فلم أعُد أراه في هذه الأيام. وإذا أردتم أن تعرفوا مناخ بلد فانظروا إلى صحّة أهله. وأنا أشهد أني لم أجد حيثما ذهبت في أندونيسيا مهزولاً ولا أصفر الوجه معروقاً ولا عاجزاً، ولم أجد خلال شهر كامل جُزت فيه جاوة من غربها إلى شرقها إلاّ ستّة شحادين فقط، على حين ترى في الهند وباكستان كل عشرة أمتار شحّاداً. أما الثمار فغريبة عنّا، لا نكاد نعرف منها إلاّ البرتقال والعنب. وكان ثمن كيل (أي كيلو) العنب لما كنا في جاكرتا من ربع قرن ستين روبية، لأنهم يأتون به من أستراليا، مع أن أجرة المغنى (أي الفيلاّ) المتوسطة القدر ستون روبية في الشهر. وعندهم أنواع من البرتقال، منها شيء بحجم البطيخة الكبيرة جداً يوضع على المائدة منه حزّتان أو ثلاث، وعرض الحزّة الواحدة

ثلاث أصابع وطولها شبر ونصف الشبر. وعندهم «البابّايا»، وهي كالبطيخ الأصفر المستطيل (وأنتم تعرفونها هنا في المملكة)، شجرها عال مثل النخل يرتفع عن الأرض نحواً من أربعة أمتار، موجود في كل مكان في الهند والملايا، وأنواع أخرى من الثمار لا أجد لها شبيهاً في ثمارنا. أما الموز فعندهم منه أكثر من ثلاثين نوعاً، منه ما يشوونه ويبيعونه مشوياً، ومن أنواعه ما يفضَّل أكله مطبوخاً، ومنها ما يُعقَد بالسكر كما يُعقد المشمش عندنا. ومن أحلى ثمارها الأناناس، وطعمه وهو طازج غير طعمه الذي تذوقته محفوظاً في العلب. وأشهر الثمار في جاوة النارجيل (جوز الهند)، وأشجاره في كل مكان، لا يختلف شكلها عن أشجار النخل إلاّ بأنها أعلى وأن جذعها أنعم ملمساً. وهم لا يأكلونه في أندونيسيا والهند أكلاً، وإنما يقوّر البائع رأس النارجيلة ويدفعها إليك تشرب ماءها، وتكون وهي رطبة ممتلئة بالماء. أما الذي نأكله منها هنا فإنه لا يتجمد إلاّ بعد أمد طويل، فإن كانت غضّة طازجة كان هشاً كالقشطة، ومن أحبّ أكله أعطاه البائع ملعقة صغيرة فاستخرجه بها وأكله. ولقد عشت هذا الشهر (كما عشت شهوراً قبل ذلك وبعده) لا آكل إلاّ الحليب وبعض الفواكه وقطعة من اللحم، لأن الطعام الإنكليزي لا أسيغه والطعام الوطني فيه هذه النار المحرقة، ولذلك كُتب عليّ أن أعيش بلا طعام. * * *

سويسرا ليست في أوربا

-168 - سويسرا ليست في أورُبّا (¬1) لقد علّمونا في المدرسة أن سويسرا في أوربا، سويسرا التي يرونها مثال الجمال، سويسرا ذات الأودية والخمائل والظلال والبحيرات والغابات، فلما رحلت رحلة الشرق من ثلاثين سنة (سنة 1954) وجدتها قد انتقلت إلى الجنوب الشرقي من آسيا، إلى أندونيسيا، إلى جاوة التي برأها الله يوم خلق السموات والأرض لتكون أجمل بلاد الله وأغناها: ربيع دائم، وخصب عميم، وخضرة لا بداية لها ولا نهاية، وجوّ مقبول، لا حرّ في الساحل ولا قرّ، ولا رطوبة ولا يبس، وعلى الجبال مصايف مالها في الدنيا نظير، وأرض من أغنى الأرض غِنى وأكرمها عطاء، فيها ألوان الذهب: فيها الذهب الأصفر، وفيها الألماس (وهو الذهب الأبيض)، وفيها النفط (وهو الذهب الأسود)، وفيها ما هو أثمن من الذهب وهو المطاط والكينا والسكّر والشاي، وفيها الأذهان المتوقدة والأيدي الصَّناع، وأهلُها أجرأ الناس على ركوب البحار وعلى اقتحام الأهوال، أثبتوا في معركة الاستقلال ¬

_ (¬1) هذه الحلقة منقولة بتصرف يسير عن فصول: «بوغور» و «يوم في الجنة» و «في جوكجا»، وهي كلها في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

ومعركة ردّ الاستعمار الياباني أثناء الحرب الثانية أنهم أقوى الناس على مكافحة الطغاة، ولهم زهو بأوطانهم التي يحتاج إليها كل بلد في الدنيا ولا تحتاج -إن شاءت- إلى أحد. ولقد قلت لكم إن الطيارة لما حوّمت في سمائها لتهبط فيها رأيت شاطئاً متعرجاً تداخل فيه البحر والبرّ، فكان رؤوساً وجزراً صغاراً وخلجاناً وبحيرات وبِرَكاً، ورأيت مدينة واسعة بيوتها مُغطّاة بقباب خضر من ذُرى الأشجار لا تكاد تبين، فإذا وضحت المشاهد واقتربت الطيارة من الأرض لم ترَ فيها بناء ضخماً ولا عمارة عالية (وأنا أصف ما رأيت لمّا زرتها)، ولكنها جميعاً كالبيوت التي تُباع في مخازن لعب الأطفال، جدران من اللبِن والخيزران والخشب الملوّن، وسقوف من القرميد مستطيلات متعارضات مائلات من كل جانب على الأسلوب الهولندي. ذهبنا مرّة في رحلة حول جاكرتا، فأخذنا نعلو في سفوح متصلة وجبال شَجْراء، لا كما تعرفون من جبال لبنان مثلاً، حيث تتناثر أشجار الصنوبر كل عشرة أمتار شجرة، بل هي غابات كغابات إفريقيا التي ترونها في الأفلام، سقوف خضراء فوقها سقوف تحجب عين الشمس أن ترى المكنون من أسرارها؛ طبقات من الخضرة بعضها فوق بعض، كل واحدة بلون، ففي الأعالي أشجار النارجيل (جوز الهند) تكاد تمسّ برؤوسها ذيولَ السحاب، وهي كالنخيل تماماً لا يفرق بينها إلاّ بالثمر، ولكنها أطول. ولم نرَ القِرَدة التي تقول القصّة إنها لا تقطف إلاّ بأيديها، يضربها الناس كما زعموا بالحجارة فتضربهم بالنارجيل! ولم نرَ ما ادّعاه ابن بطوطة أنها شجر يثمر ثمراً كرؤوس بني آدم، ولعلّه

رآه من تحت في ليلة ظلماء فحسبه رؤوس الناس. ومن تحت النارجيل أشجار المطّاط، كثيفة الورق كبيرة طويلة الجذوع كأنها -من بعيد- الصفصاف. وتحتها أشجار لها ألياف كالكتّان، وهي أجمل أشجار رأيتها، لها أغصان يابسة مكلَّلة بفروع دقيقة لها ورق ناعم، منتشرة كالمظلاّت (الشمسيّات) وتحتها أنواع وأنواع من الأشجار كالموز والببّايا، وهو شجر جذعه وشجره كالنخيل وأوراقه تشبه ورقة التين، ويحمل بطيخاً أصفر خلافاً لنظريّة جحا! ودُرنا بسفوح منبسطة مملوءة بنجم أخضر (أي بشُجَيرة خضراء) علوّها علوّ قامة الإنسان، لها ورق كأنه ورق الليمون بشكله لا بريحه. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أشجار الشاي. فدهشت واستوقفت السيارة لأنزل فأراها، لأنني لم أرَ في عمري مثلها. وقطعت منها أوراقاً دقيقة، قالوا إنه يُصنع منها الشاي الأخضر الفاخر، وتركتها تجفّ في الفندق فلم تَصِر شاياً، ولكنْ شيئاً له طعم الملوخيّة والسبانخ! فعجبت، ولكني لمّا زرت مصانع الشاي -بعدُ- رأيت أنه يُعالَج معالجات طويلة قبل أن يصير شاياً، وكل أنواع الشاي الأحمر والأخضر من شجرة واحدة. ورأيت مئات ومئات من البنات في عنق كل واحدة كيس، تقطع من أوراق هذا الشجر وتلقيه في الكيس، تختار الورقة الناضجة. ونظرت فلم أستطع أن أميّز ورقة عن ورقة ولم أعرف ما علامة نضجها. ورأيت شيئاً تفرّدَت به مصايف جاوة، وهو انتشار المسابح الأنيقة البالغة العناية والجمال في رؤوس الجبال. حتى بلغنا قرية

بنشة، وهي في لغتهم بمعنى «الذّروة». بنشة هذه مصيف من آنَق ما رأيت من المصايف، أجمل من لبنان بعشرين مرّة وأجمل من سويسرا بعشر مرات. وكنا في جاكرتا نكاد نشكو الحرّ، فارتجفنا فيها من البرد حتى اضطُررنا إلى الاحتماء بالسيارات. * * * وذهبنا مرة ثانية في رحلة أطول فرأينا في آخرها الجنّة، لست أعني جنّة الآخرة فإن دونها مصاعب وأهوالاً، وإن لم يتداركني ربي برحمته ومغفرته ما استحققت بعملي أن أريح ريحها، ولكن أعني جنّة الدنيا. وليست جنّة الدنيا الشام ولا لبنان، بل ولا سويسرا، ولكن جنّة الدنيا جاوة. جزيرة جاوة، من رآها فقد علم أني أقول حقاً، ومن لم يرَها لم يُغنِه عن مرآها البيان، وليس الخبر كالعيان. أمضيت في هذه السفرة يومين ما رأيت في حياتي يومين كانا أمتع لنفسي متعة وأحلى في عيني منظراً وأبقى في قلبي أثراً منهما. يومان قطعتُ فيهما الجزيرة (أعني جاوة) من مغربها إلى مشرقها بالقطار، من جاكرتا إلى سورابايا، في طريق ما رأيت ولا سمعت ولا أظن أني سأرى أو أسمع أن في الدنيا طريقاً أجمل منه؛ ركبنا القطار الكهربائي من محطّة جاكرتا، فنزح بنا عنها والليل ينزح عن البلد، يمشي متسلّلاً كخيوط النور التي تتسلّل من وراء الأفق الشرقي، فترفع ستار الظلام عن هذه المشاهد كما ترفع الخيوطُ ستارَ المسرح عن مناظر الرواية. والصباح فاتن دائماً، ولكنه يبدو أشدّ فتوناً حينما تراه وأنت مقبل على بلد جديد تتوقّع الكثير من سحره وجماله.

ولمّا أضاء النهار وبدت عين الشمس تضحك للدنيا من نافذة الأفق فتضحك للقائها الدنيا كان القطار قد بَعُد بنا عن البلد، فرأينا عن يسارنا مزارع الأرزّ وعن أيماننا الجبال تلبس فروة خضراء، بادياً صفوها يتزاحم على سفوحها وذُراها عمالقة الأشجار، يمشي في موكبها وبين أرجلها آلاف من أنواع النبات، فمن دخل هذه الغابات لم ترَه عين الشمس ولم يرَ هو وجه السماء، لأنه يكون -كما قلت لكم- تحت سبعة سقوف من الأغصان والأوراق. ورأيت الزهر من خلال الأرز كالشقائق الحُمر خلال خضرة القمح في بلادنا، فلما دنا بنا من ذلك القطار رأينا ما حسبناه زهراً ليس بالزهر وما ظننّاه من النبات ليس من النبات، إنما هو البنات الحاصدات بأُزُرهنّ الملوّنة (أي الفُوَط) التي تحكي الزهرَ بنقشها ولونها، وعلى رؤوسهن قبعات الخوص الكبار كأنها المظلاّت المنقوشة. والقوم هناك يحصدون الأرزّ بالأيدي، ثم يجمعون عيدانه الطوال ويجعلونها كالأهرام (جمع هرم) ويعقدونها من فوق ويضعون لها صُرّة، فيكون منها منظر عجيب كأنها الأكواخ المسحورة في حكايات الجنّ. وليست مزارع الأرزّ سهولاً، فما في جزيرة جاوة سهول، ولكنها جميعاً غابات فيها النبات المثمر النافع كالمطّاط والنارجيل والخيزران والكتّان والموز وقصب السكّر. وما مزارع الأرز إلاّ قطع من الأرض جُرّدت من أشجارها وسُلبت من الغابة، فهي تحاول أن تتوارى مستحيِية كأنها الفتاة العذراء جرّدتَها من ثيابها وتركت المصون من جسدها نهب العيون، تحتمي بالغابة فيحميها دوحها، ويحفّ بها من كل جانب يسترها ويُخفيها، فترى على

جوانب الحقل صفاً من الدَّوح (الأشجار الكبار) يقوم كطلائع الجيش، ومن بعده أشجار الغابات تتّابعُ صفوفها، فإن أنت تغلغلت ببصرك فيها أحسست كأنك تنظر إلى الماضي المجهول من وراء الأطلال. وكانت نافذة القطار كلوحة السينما، ففي كل لحظة منظر جديد لا يشبه الأول، منها مناظر تنقلك إلى الهند فكأنك فيها، ومناظر فيها النارجيل كأنه النخيل، فهي تحملك إلى البصرة، إلى طريق أبي الخصيب التي عدّها ياقوت إحدى متنزَّهات الدنيا الأربعة يوم كانت تُدعى الأُبُلّة، أو إلى بغداد عند الصليخ، ومناظر تجد نفسك إذ تراها في الشام، في العين الخضراء تارة وتارة في زحلة وتارة في صوفر أو بلودان. ثم توسّط بنا القطار «جرادان»، فلما جاوزناها ودخلنا في منطقة الجبال بدت لنا مشاهدُ إن قستَ بها ما كنا فيه من قبلُ فقد قستَ تلال الرمال بذُرى بلودان! ولتلال الرمال سحرها وجمالها، ولكن بلودان هي بلودان. وكنا نسير أحياناً في واد ضيّق كأنه وادي بردى في ضيقه، ثم يتّسع حتى يكون أرحب من وادي صوفر-حمّانا؛ ترى من تحتك جبالاً وأودية لا يُحصيها العدّ، كل جبل بلون وكل وادٍ على صورة، والأنهار تتلاحق نازلة من الذُّرى هادرة متكسّرة، يتدحرج ماؤها على أطراف الصخور هابطاً إلى قرارات الأودية. ولقد عددتُ في ساعة واحدة وأنا في القطار سبعة وعشرين نهراً، ثم مللت العدّ. وكان القطار الكهربائي يقطع في الساعة أكثر من ستين كيلاً، وقد قطعنا ثلاثمئة كيل وما انقطع العمران أبداً؛ فالقرى متّصلات،

لا تعلم أين تنتهي القرية وأين تبدأ جارتها (¬1). والبيوت كلها كبيوت الخشب التي يلعب بها الأولاد: سقوف مائلة من القرميد الملوّن الزاهي على عمد من نوع من الخيزران يُدعى المانجو، وهو في جاوة في كل مكان، والجدران من الحصير الملوّن أو الخشب الرقيق المنقوش. بيوت أنيقة حلوة لا تكلّف إلاّ قليلاً. وما عجب أن يتصل في جاوة العمران، وهي وباكستان الشرقية (بنغلاديش) أزحم بلاد الله بالسكان، كان فيها يوم زرتُها ثلاثة وخمسون مليوناً. وكنا في ضيافة الحكومة الأندونيسية وهي التي أعدّت لنا هذه الرحلة، وكان معنا مرافقان يتكلّمان العربية كأهلها، واحد من وزارة الشؤون الدينية، عالِم فاضل أمين صادق، هو الأستاذ صالح السعيدي، والآخر من وزارة الخارجية، ليس صالحاً ولا سعيداً، رأينا الكثير من شرّه وضرّه، وتعلّمت منه أن الكذب والاحتيال بضاعة موجودة دائماً وأن الرجل الواحد ربما أساء بفعله إلى بلد بكامله. قضينا على الطريق ساعات، وكنا قد خرجنا بلا طعام فزقزقَت عصافير الجوع في بطوننا. والجَمال في الطبيعة وفي الإنسان مهما بلغ رواؤه وبهاؤه ومهما اشتدّ سحره وفتونه يملأ العين مسرّة والقلب بهجة، ولكنه لا يملأ المعدة الخالية الخاوية طعاماً. ولو أن المجنون وليلاه أو أن روميو وجولييت اجتمعا في أزهى الرياض في خلوة غاب عنها الرقيب ونأى العاذل ولم يأكلا، لكفرا بالحبّ ولعنا الغرام، ولآمنا بأن الرغيف الواحد أنفع لهما ¬

_ (¬1) ثم رأيت مثل ذلك في بلجيكا، من بروكسل إلى لييج.

في تلك الساعة من كل ما قال شعراء الغزل في كل لغة ولسان. وكان الرفيق الطيّب إلى جنبي والآخر إلى جنب الشيخ، فقلت لصاحبي: أما جعتَ؟ قال: بلى والله. قلت: أما من طعام؟ قال: لا أدري. قلت: قم بنا ننظر في القطار، فلا بد أن يكون فيه ما يؤكل. وقمنا نقفز من حافلة إلى أخرى، نتخطّى الركاب، ومنهم من يقف عند الأبواب ومنهم من يضع صُرّته وحقيبته على الأرض ويقعد عليها. وكان قطاراً طويلاً، فلم نبلغ آخره حتى بلغَت أرواحنا التراقي، ولكنا اكتشفنا أخيراً عربة الطعام كما كشف كريستوف كولمبوس أميركا، وصحنا كما صاح أرخميدس: أوريكا! وقعدنا لنأكل. وكان الطعام في القطار هو الذي تلقاه في كل مكان في جزيرة جاوة لا يتبدّل ولا يتغيّر، وهو طيّب، ولكني لا أدري كيف لا يملّونه ولا تعافه نفوسهم وهم يأكلونه دائماً؟ ولو أنك أطعمت إنساناً أطيب أكلة يعرفها كل يوم ظهراً وعشيّاً شهراً كاملاً لملّها واجتواها واشتهى خبزاً وبصلاً، وهؤلاء يأكلون دائماً هذا الرز المسلوق المخلوط بالفلفل الأحمر، الذي يشتعل ناراً في الأنبوب الهضمي من الفم إلى المعدة إلى الأمعاء، إلى آخر الطريق، فيحرقها حرقاً، ومعه هذا السمك الذي يعملونه كجَرادق رمضان، والموز المشوي والمقلي والمطبوخ، والشاي البارد بلا سكّر! والمضحك المبكي أننا بعد أن قطعنا هذا الطريق الطويل من عربتنا الفاخرة إلى مطعم القطار، ودسنا على أرجل عشرين إنساناً وشيّعتنا النظرات المتسائلة والمسبّات المستترة، وكدنا نسقط أربع

مرات تحت دواليب القطار فنروح ضحية أكلة رز مسلوق بالفلفل الأحمر ... بعد هذا كله قال لنا نادل المطعم (الجرسون) متعجباً: لماذا لم تقرعوا الجرس ليجيء لكم الطعام؟ ولما رجعنا وجدنا صاحبنا الشاطر (واذكروا أن الشاطر في اللغة هو الخبيث) يأكل وهو في مكانه، لأنه وضع أصبعه الكريمة على زر الجرس الذي لم يبصره صاحبي الطيب، فجاءه النادل بما يريد! وكانت السخرية الثانية بنا أن في القطار طعاماً إنكليزياً مقبولاً على كل حال، ليس فيه من هذه الفلافل التي ألهبت أجوافنا وأشعلتها ناراً، أكل منها صاحبنا الشاطر، وأنا وصاحبي الطيب لم ندرِ به فأكلنا -والعياذ بالله- هذه النار الحامية. ولمّا شبعت البطون من الطعام أحسسنا جوع النفوس إلى الجمال، فعدنا ننظر فإذا القطار الذي يحملنا قد صار في الأعالي يمشي على ذُرى الجبال، نرى من شقّ الوادي ما خلّفنا وراءنا من حقول الرز وغابات المطّاط، وهي أشجار كبار. ومن أعجب ما رأينا في القطار أنه كان يمرّ حيناً على جسر ممدود بين خطمَي جبلين عاليَين (¬1)، فكنا ننظر من النافذة منظراً يدور منه الرأس: ذُرى تحتها ذُرى، وسفوح تليها سفوح، وأودية لا يبلغ البصر إلى أعماقها، والطريق كله ممتلئ بالزارعين وبالأطفال العاملين. ولم نزل نصعد ونصعد حتى بلغنا الذروة، وجزنا بمنطقة «دار ¬

_ (¬1) كالجسور التي أقامتها المملكة هنا على طريق الهَدى وعلى الطريق المدهش الذي يقفز فوق قِمم الجبال ويمشي في بطونها حتى يصل إلى الباحة وما بعدها.

الإسلام» (وكانت يومئذ شبه حكومة مستقلّة أقامها ناس كانوا من الثوار، تُحكَم بشرع الله وتطبق أحكام الإسلام)، ثم أخذنا ننحدر. وما بعد الصعود إلاّ النزول: ما طارَ طيرٌ وارتفَعْ ... إلاّ كما طارَ وقَعْ والطريق على حاله: غابات متصلة وخضرة متسلسلة، حتى بلغنا المساء مدينة الجهاد، مدينة العلم وعاصمة البلاد الروحية: جوكجا. * * * وأنا واثق أن أكثر القُرّاء لم يسمعوا بها. وأنا قد عشت نحواً من خمسين سنة قبل أن أرحل تلك الرحلة وأنا لم أدرِ بها ولم يطرق سمعي اسمُها، بلدة في وسط جزيرة جاوة ليست في جِدّة جاكرتا وسعتها، ولا في كِبَر سورابايا وغناها، ولكنها تفضلهما بأنها كانت أعرق في المجد بالأمس وأنها أعرق بالعلم اليوم. كانت بالأمس عاصمة مملكة متارام التي حكمت البلاد قروناً طوالاً بدءاً من القرن العاشر الميلادي، وامتدّ سلطانها إلى شبه جزيرة الملايا (ماليزيا)، وساقت على هولندا يوماً جيشاً فيه مئة ألف. مملكة تسلسل المُلك في ملوكها وسلاطينها دهراً، من مؤسسها الأول إلى الملك الذي زرناه، وهو: همينكو بوانا (أي صاحب الدولة) السيد حامي ذمار الدين خليفة المسلمين سلطان ماترام السلطان عبد الرحمن العاشر. وهذه ألقابه الرسمية لم آتِ بها من عندي. كل هذه الألقاب له، ولكن ليس له حكم ولا تحت يده أرض يملكها!

كان في مدينة جوكجا الجامعة الحكومية، وكانت تشتمل يوم زرناها على ستّ كلّيات: للطبّ، والحقوق، والإدارة، والعلوم، والهندسة، والزراعة. لا يقلّ طلاب كل واحدة منها عن ألف وخمسمئة، وفيها ما يبلغ ثلاثة آلاف. وفي جوكجا الجامعة الأهلية الإسلامية وتشتمل على ثلاث كلّيات: الحقوق، والاقتصاد، والتربية. وهي تُعنى بالعلوم الشرعية والسلوك الديني، والتعليم فيها مقتبَس عن الأسلوب الهولندي، وهو أسلوب حُرّ رأيته أشبه بأسلوب الأزهر القديم قبل أن تكون فيه صفوف وامتحانات. ولم أحضر الدروس فيها لأني جئتها في عطلة. والمدارس في أندونيسيا تعطل ثلاثة أيام في كل شهر، أما العطلة السنوية فمن آخر شعبان إلى ما بعد عيد الفطر، ولا يدور رمضان في الفصول كما يدور عندنا لأنه ليس في أندونيسيا شتاء ولا صيف، ولا يتعاقب فيها البرد ولا الحر، والسنة كلها فصل واحد لأنها بلاد استوائية. وجوكجا -فوق ذلك- دارة الجهاد ومثابة الأبطال. ولقد عملَت للاستقلال كل جزيرة من الجزر الأندونيسية (التي يبلغ المسكونُ منها ثلاثةَ آلاف جزيرة) وكل بلدة فيها وكل قرية، ولكن ليس فيها كلها ما عمل عمل جوكجا؛ لقد كان فيها قيادة الجهاد وكانت عاصمة البلاد، ولقد خرج مشايخها فيمن خرج، أطبقوا كتبهم وأغلقوا مدارسهم وحملوا السلاح، فخاضوا المعارك وأتوا بالعجائب. لقد كنت في جاكرتا أشكو الوحدة والخمول، تمرّ عليّ الأيام لا أكلّم فيها أحداً لأني لا أجد من أفهمه ويفهمني؛ كنت

أخاطب الناس بالإشارة كأني أخرس، أو كأنما أنا إنسان الغابات الذي عاش قبل اختراع الألسُن واللغات (¬1)، ولطالما بقيتُ ليالي بلا عشاء لأني لا أحبّ ما يُقدَّم في الفندق ولا أستطيع أن أُفهِمهم ماذا أحبّ. ولطالما مرّت عليّ ساعات خشيتُ فيها -من الوحدة أو الضيق- على عقلي! فلما خرجنا في هذه الرحلة إلى داخل البلاد وضعوا لنا برنامجاً لم يتركوا لنا فيه لحظة انفراد أو دقيقة راحة، فانتقلنا من برد الصقيع إلى لهب النار! كنا نتمنى أن نلقى من نكلمه أو أن نجد ما نعمله، فصرنا نتمنى أن يكفّوا عنّا أو أن يدَعونا لأنفسنا ساعة من زمان. ولو أني وصفت لكم كل ما رأيت لزاغت من السرعة أبصاركم كما زاغ بصري ولم تَعُوا من حديثي شيئاً، فدعوني أقصر الحديث على ثلاثة مشاهد في جوكجا: المدينة القديمة، وزيارة الملك، ودار المعلّمين. جوكجا مدينة رحبة الجوانب واسعة الشوارع حديثة العمران، فيها عجائب الصناعات اليدوية، لا سيما الأدوات الفضّية التي لا يُتقِن أحدٌ نقشها والافتنان (¬2) بها إتقان الجاويين إياها. ومن صناعاتهم نسج الأُزُر (الفُوَط) المنقوشة المزخرَفة، وهي اللباس الرسمي للرجال والنساء وطلبة المدارس وموظفي الدولة، وهي عادة قديمة وصفها ابن بطوطة ولا تزال باقية إلى اليوم. أما البلدة القديمة فهي مربعة، عليها سور قائم طول كل ضلع من أضلاعه نحو ألف متر، يكاد قصر الملك يحتلّ ربعها. ¬

_ (¬1) وإن كانت اللغات في الأصل من الأسماء التي علمها الله تعالى آدم. (¬2) مصدر افتنّ يَفتَنّ.

وما هو بالبناء المشمَخِرّ العالي ولكنه دور صغيرة أنيقة، وله باب كبير، وأمامه ساحة واسعة فيها صفوف من عمالقة الأشجار تكاد تظلّلها على سعتها، وعلى جانبَي الباب بيتان من الحجر قالوا إنهما كانا مسكنَي الفيلَين الملكيّين، الفيل الأبيض وهو مركب الحفلات والمواكب، والفيل الأسمر وهو المركب العادي. وكان الفيل يومئذ كالسيارة في أيامنا. والباب يُفضي إلى حدائق فيها من عجائب الشجر ما لا يوصف، ومنازلها في غاية الأناقة ودقة النقش. دخلناها حتى انتهينا إلى قاعة العرش، وهي مشيدة على أسلوب من العمارة فريد، لها جدران سامقة وسقف عالٍ مُغطّى بالنقوش والصور، وفي وسطها سدّة مكشوفة الجوانب الأربعة لها أدراج من كل جانب من الرخام الذي يزري بالمرايا، وأعمدة دقيقة من خشب الساج المنقوش بالنقوش الدقيقة الملوّنة، وفوقه مئات (مئات حقاً) من القباب الصغيرة القائمة على أعمدة دِقاق تؤلّف سقفاً مثل الهرم الرباعي، يبدو للناظر كأنه تاج ملكيّ. هذه هي سدّة الملك التي طالما رأت في سالف الدهر من أبّهة السلطان وزهو النصر ومظاهر الجلال ما رأت، فانتهت ... أتدرون إلامَ انتهت؟ إلى ما هو أجلّ وأعظم من هذا كله؛ لقد أفاض عليها الملك الحالي مجداً وجلالاً لم تُفِضْ عليها مثلَه هاتيك الفتوح كلها وهاتيك الانتصارات، ذلك أنه قدّمها هي والقصر هبة منه للعلم، فصار قصر الملك كلّية الطبّ، وصار عرش الحُكم منبر العلم، وصارت مجالس الوزراء مقاعد الطلاّب، فازدادت بذلك فخراً وشرفاً. * * *

جمال يعجز عن تصويره البيان

-169 - جمال يعجز عن تصويره البيان قلت لكم إني سأقصر الحديث على ثلاثة مشاهد في جوكجا (جوكجاكرتا) وهي: المدينة القديمة، وزيارة الملك، ودار المعلمين. أما المدينة القديمة فقد جلوت لكم صورة مصغّرة لها. وأما زيارة الملك فقد كانت في يوم عطلة، ولكن السلطان تفضّل فنزل إلى مكتبه في ساعة الموعد لنتشرّف بلقائه، وكان المكان كله خالياً فانتظرْنا دقائق في غرفة الناموس (السكرتير)، ثم أخذونا إليه في دار واسعة كأنها إحدى الدور الشامية القديمة، فتلقّانا عندّ الباب شاب صغير السن أسمر اللون ببذلة بيضاء، وقادنا إلى كراسي مصفوفة في رحبة الدار، فقعدنا نتحدّث والمترجم يسفر بيننا. وقدم لنا الشاي فشربناه، وطال المجلس ومللنا الانتظار، فقلت للترجمان: ما هذا التعقيد في مراسم الاستقبال؟ ومتى ندخل على السلطان؟ فابتسم ولم يتكلّم، فاستفهمَه الشابّ، فقال له بعد تردّد كلاماً ضحك منه ضحكة مجلجلة وضحك الحاضرون. ولبثت أنا وصاحبي واجمَين لا ندري ما الحكاية، فأدرك ذلك الشابّ، فقال شيئاً لمّا فهمناه من المترجم عرفنا سرّ الضحك، قال: إنه يأسف

لأنه لم يعرّفنا بنفسه ... وإذا هو السلطان بلحمه ودمه! وقد وقع لنا مثل هذا بالضبط لمّا زرنا سلطان بهاولبور في باكستان. وما ذنبنا نحن إذا كنا نرى صورة السلطان على الجدار وهو مُثقَل بالتاج المرصّع وعقود اللؤلؤ التي تملأ العنق والأوسمة التي تستر الصدر، ثم نرى أمامنا شاباً أسمر صغيراً لا يختلف في مظهره عن واحد منّا نحن عباد الله الصعاليك؟ وثقوا أني لم أدرِ من الخجل كيف أودّع هذا الملك العظيم حقاً، العظيم بإصلاحه ودينه وحبه للعلم. أما قلت لكم إنه أهدى قصره كله وفيه سدة ملكه هدية للعلم، لتكون فيه كلّية الطب؟ العظيم بأصله وتواضعه، هذا التواضع الذي دفعه أن يمشي معنا مودّعاً إلى الباب. أما المشهد الثالث فهو دار المعلّمين التابعة للجمعية المحمدية. هل قلت إنها مدرسة؟ إذن أعتذر، فما هي مدرسة بل هي حي كامل، وليست تابعة لوزارة المعارف بل هي مؤسسة خاصة، أنشأتها «الجمعية المحمدية» لتُخرج معلّمين لمدارسها. الجمعية المحمدية أسسها الحاج أحمد دحلان سنة 1912، وكانت يوم زرنا أندونيسيا أكبر جمعية تعليمية في الشرق كله، بل ربما كانت أكبر جمعية في العالَم للتعليم؛ كان أعضاؤها نحو مئتي ألف، وكان لها ألف وخمسمئة مدرسة وسبعمئة مستشفى وثلاثمئة دار للأيتام، ولها دار لتخريج المعلمين لمدارسها دهشت من سعتها وكثرة طلابها وضخامة بنائها. لقد عملت هذه الجمعية لنشر العلم ما لم تعمله جمعية في الدنيا، وهي تعلّم اللغة العربية، وخرّيجوها يُتقِنون العربية

الفصحى قراءة وكتابة وفهماً، ويُحسِنونها كلاماً باللهجة الحضرمية. وللحضارمة فضل كبير في نشر العربية والإسلام في هذه البقاع. ولهذه المدرسة قصّة فيها قدوة للعاملين وعبرة للمقصّرين، بدأَت سنة 1920 حين عزّ على الجمعية أن تجد ما تريد من المعلمين لمدارسها، ففكّرت في أن تأخذ نفراً من نابهي الطلاّب ونابغيهم فتُعِدّهم ليكونوا معلمين، وفرّغت لهم غرفة في مدرسة من مدارسها، فما زالت الغرفة تلد غرفة والغرف العشر تلد عشراً، حتى صار من ذلك دار معلمين قلّ نظيرها، بقينا فيها ثلاث ساعات نرى قاعاتها ومهاجعها ومكتبتها وملاعبها، ولولا العطلة لرأينا دروسها وطلابها. ولقد هُدمت هذه الدار بعد أن اكتملت، وذلك سنة 1945 عند النكسة، حين خرّب المجاهدون الوطنيون كل بناء كبير لمّا انسحبوا لئلاّ يحتلّه الإنكليز والهولنديون ويتخذوه معقلاً وحصناً. فلما كان الاستقلال وكان الاستقرار أعادتها همم هؤلاء الرجال أعظم ممّا كانت. وزرنا مكتبة في جوكجا تضمّ أربعين ألف كتاب عربي، ومسجدها العظيم مسجد الشهداء الذي بنته أيدي أبناء مدينة جوكجا، مدينة الدين والعلم والأمجاد والبطولات، المدينة التي ملأ قلبي الإعجابُ بها وبملكها وبماضيها وبحاضرها. فعلى ذلك البلد الطيب، وعلى ملكه الشابّ المصلح المتواضع، وعلى أهله المجاهدين الأخيار، سلام الله وبركاته. * * *

وكانت المدينة الثالثة الكبيرة التي زرناها في جاوة هي سورابايا. ركبنا القطار من جوكجا، فمرّ بنا على مشاهد ليست لها روعة المشاهد التي رأيناها بين جاكرتا وجوكجا، وجاز بنا نهر صولو، وهو أوسع نهر رأيته في جاوة، ومدينة صولو وكانت فيها دورة ثقافية من دورات «شركة إسلام» التي سيأتي الحديث عنها. و «شركة إسلام» (أي الجمعية الإسلامية) هي أم الجمعيات والأحزاب الإسلامية كلها في أندونيسيا؛ أنشأها سنة 1910 الأستاذ الأكبر الذي شقّ للناس هذا الطريق والذي قادهم إلى العمل، عمر سعيد شكرو أمينوتو. وصلنا سورابايا العشية، وبدأت سلسلة التعذيب، أعني البرنامج الرسمي الذي وضعوه لرحلتنا، جعلوا وقتنا كله أوزاعاً بين الحفلات والاجتماعات والزيارات والمحاضرات والمؤتمرات الصحفية. تجتمع بالناس وأنت تشتهي العزلة والانفراد، وتُدعى إلى الكلام وأنت تؤثر الصمت، وتبسم لأناس لم تعرفهم عمرك كله ولم ترَهم، وتأكل وأنت شبعان، وتسهر وأنت نعسان ... وأشياء من هذه البابَة (أي من هذا القبيل). فتصوّروا ماذا كانت حالي وأنا الذي عاش عمره بعيداً عن هذه الاجتماعيات كلها، قد حلّ عن نفسه قيودها وأسقط عنه تكاليفها، فلا يستقبل إلاّ من يسرّه استقباله ولا يزور إلاّ من يحبّ زيارته، ولا يجيب دعوة رسمية أبداً ولا يكاد يدعو إلى مثلها أحداً، ولا يأكل إلاّ إذا جاع ولا ينتظر بالطعام أحداً وهو جوعان.

هذا ما عشت عليه، فحفظت به وقتي وأرحت نفسي. وأنا رجل أعرف ربع أهل بلدي ويعرفني نصفهم، فلو أني ألزمت نفسي تهنئة كل مسرور وتعزية كل مصاب، واستقبال كل قادم ووداع كل مسافر والتهنئة بكل عيد، لما بقي لي وقت أكتب فيه ولما كان لي شيء من هذه الكتب وهذه الخطب وهذه المحاضرات. وصار لي ذلك طبعاً لا تطبّعاً، فلما كانت هذه الرحلة واضطُررت إلى القيد بعد الانطلاق وصرت أُقاد بعد أن كنت أنا الذي يقود، أحسست أني في سجن! وصلنا سورابايا العشيّة. وكانت قد مرّت بي ليلتان لم أنَم فيهما كلتيهما خمس ساعات، وكان جسدي محطّماً من هزّ القطار وأثقال الغبار، وأعصابي مرهَقة من طول السفار، فلم أكن أشتهي إلاّ أن أستحمّ ثم أُترك لأنام، ولكن أين مني المنام؟ لقد كان علينا أن نحضر حفلة عشاء بعد ساعة واحدة، فمشينا إليها، وتكلّمت فيها، ثم قمت لأجيب على أسئلة السائلين عن قضية فلسطين التي جئنا من أجلها، ثم شيّعَنا قوم منهم إلى الفندق تكرمة لنا وعناية بنا، فما انصرفوا عنّا حتى كان قد مضى أكثر الليل. وأعيدت القصّة نفسها بفصولها الليلة التي بعدها، وخرجت من غرفتي فوقفت في حديقة الفندق الكبير أنتظر الشيخ، وكانت السيارة ومن فيها بانتظارنا، فوجدت في طرف الحديقة في بقعة مظلمة منها لا تُرى كرسياً مستطيلاً من الخيزران فاستلقيت عليه، وإذا هو قد جُعل على استواء ظهر الإنسان، كأنما قد فُصّل له قالب بالجبس على مقداره ثم صُبّ فيه هذا الكرسي، فله عند العنق مثل الوسادة وله بروز عند الصُّلب وانحناء عند العجيزة،

يستريح عليه كل عضو من الأعضاء، فتمنيت أن أنام ساعتين أدفع ثمنهما ألفين، وكدت أُغفي من اللحظة التي لامس فيها رأسي وقلت: يفتّشون عني فلا يرونني فيمضون ويدعوني. ثم قلت لنفسي: لا يا ولد، اصبر وقم فإنك ما جئت من الشام إلى آخر جاوة، إلى سورابايا، لتنام بل لتعمل. وقمت كالمحكوم يُساق إلى التنفيذ، وطالت الأسئلة تلك الليلة، ومضى هزيع من الليل ولم يعُد في طاقتي القيام على قدمي فاعتذرت وذهبت، وإذا هم يعتبون ويتألمون. والقوم في أندونيسيا أرقّ الناس نفساً وأرهفهم حساً، لا يحتملون شدة ولا عنفاً. ولقد لُمتُ السائق مرّة على ذنب أذنبه ورفعت صوتي عليه فبقي أياماً حزيناً. وما سمعت في أندونيسيا ضجّة أبداً، فالشوارع تكاد تكون هادئة والكلام يكاد يكون همساً، وما رأيت فيها «خناقة». والخناقات في الشوارع مقياس أعصاب الأمم؛ ففي بغداد تبدأ الخناقة فيكون للسبّ والشتم عشرون ثانية فقط ثم يكون سلّ الخناجر، وفي دمشق يستغرق السب دقيقتين ثم يكون اللطم واللكم وضرب الكراسي، وفي القاهرة يستمرّ السبّ والتهديد نصف ساعة ثم لا يكون شيء، وفي أندونيسيا لا يكون سبّ أبداً، لأن لغتهم -كما بدا لي- خالية من ألفاظ السبّ! وجلنا في سورابايا ورأينا كل شيء فيها فإذا آثار التخريب في كل مكان، لا سيما في العمارات الكبيرة التي خّربها الوطنيّون بأيديهم لئلاّ يتخذها المستعمرون معاقل لهم في هجومهم. وقد كانت

سورابايا إلى ما قبل الاستقلال أكبر مدن جاوة، فلما صارت جاكرتا (باتايا) العاصمة وثبت فجأة حتى صارت من مدن العالَم الكبار. والعرب في سورابايا كثيرون ولهم مدارس كثيرة، وفي سورابايا مساجد واسعة عامرة بالمصلّين، ولقد بلغَت المساجد في أندونيسيا قبل زيارتي إياها بسنتين، بالإحصاء الرسمي، مئة وخمسة وسبعين ألفاً ومئة وستة عشر مسجداً، وبلغت المعاهد الدينية أربعة عشر ألفاً وستمئة وستة وتسعين معهداً. * * * كانت أيامنا في سورابايا حركة دائمة كأننا في قطار سريع لا يقف ولا يتمهل. أخذونا يوماً نرى أطراف البلد وداروا بنا حتى دار بي رأسي، فتركتُهم مرّة يصعدون درباً صخرياً في جبل يزورون فيه مسجداً قديماً وتسللت إلى رحبة مكشوفة على جنب الطريق، وكانت أوائل الليل قد غطّت على تلك المشاهد الفواتن، فلم أكن أرى إلاّ ذُرى الأشجار من تحتي تبدو من خلالها سطوح القرية النائمة في حضن الجبل، ووجدت حجارة مصفوفة فقعدت على واحد منها. وكنا في أعقاب العيد، وكانت الرحلة قد امتدّت بي شهوراً طِوالاً، فذكرت بلدي وبناتي، وكان بيني وبين بناتي ربع محيط الأرض، فاستشعرتُ الوحدة والضيق. وتنبّهت فإذا هذه الحجارة التي قعدتُ على أحدها قبور وإذا أنا في مقبرة القرية، فازددت وحشة وضيقاً، وثَقُلَت عليّ هذه الغربة وهذه الوحدة وأحسست كأن قلبي يذوب من الشوق حتى لَيقطر دموعاً من عيني. وإني

لفي هذه الغمرة وإذا بي أسمع الأذان، أذاناً عربياً فصيح اللهجة عذب الصوت، كأنه أذان دمشق، فشعرتُ به -أقسم بالله- يسري في نفسي سرَيان البُرْء في الأجساد المريضة والطرب في القلوب الوَلْهى، فيزيل الوحشة ويُذهِب الضيق. فجعلت أفكّر في هذا النداء كيف خرج من قلب وادٍ بعيد بعيد في زمن بعيد بعيد، فما زال يطوي الأرض ويخوض البحار ويخرق الجبال، حتى وصل من بطن مكّة إلى شرقي جاوة، وما زال يطوي الزمان ويجزع القرون حتى جاء من القرن الأول للهجرة إلى القرن الرابع عشر، ولا يزال غضاً طرياً كأنما نادى به بلال يوم أمس، لا يقف (¬1) مسيرَه حدٌّ على الأرض ولا بُعدٌ في الزمان، ولا تنال منه الشُّقّة ولا يحفّ به النسيان، فهو أبداً في كل مكان وفي كل زمان. فلا يكون المسلم غريباً في بلد يسمع فيه هذا النداء: «الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله». فرجعت إلى نفسي، وعاد إلى قلبي الاطمئنان واستشعرتُ الأمان، وقلت: هذا بلدي. وكل بلد يُسمَع فيه الأذان بلد كل مسلم. (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وقفه يقفه: فعل يتعدّى بنفسه، ولم يرد في اللغة لفظ «أوقفه». (¬2) بداية هذه الحلقة من الذكريات هي تتمة فصل «في جوكجا» الذي بدأ في الحلقة السابقة، وبعده إلى هنا منقول بتصرف من فصلَي «سورابايا» و «هذا النداء»، وما يأتي من الحلقة إلى آخرها من فصلَي «كاراشيك» و «نزهة في أطراف سورابايا»، وكلها في كتاب «صور من الشرق: في أندونيسيا» (مجاهد).

هي قرية أخذونا إليها يسمّونها «كاراشيك»، انبثق منها نور الإسلام على البلاد، وقالوا إن الاسم محرَّف عن العربية وإن أصله «قرأ الشيخ»، قلت: لِمَ لا يكون أصله «مقر الشيخ»؟ قالوا: هذا أَولى. والقرية قديمة قائمة على تلّ عالٍ قرب سورابايا في أقصى الشرق من جاوة، والتلّ مغطّى كله بدَوْح الغاب. وما في جاوة أرض تخلو من النبات إلاّ أن تكون قد قُطعت أشجارها لتُتّخَذ مزارعَ للأرزّ. لقد أحسستُ حين دخلت القرية كأنني عُدت إلى بلدي وأنِسْتُ بأهلي. وكان أول ما زرناه منها المسجد، وهو نظيف جداً وهادئ جداً، فيه طبلان كبيران عليهما تاريخ صنعهما في سنة 1647، أي قبل أكثر من ثلاثمئة سنة. ومن أغرب البدع في شرقي جاوة أن في كل مسجد طبلاً يقرعونه بعد الأذان، يَدْعون الناس به إلى الصلاة على نحو ما ينادون على أبواب المساجد في الشام أحياناً: "الصلاة يا مصلّون"، وهذا هو التثويب، ولم يكن في صدر الإسلام. وهذان الطبلان كالبرميلين العظيمَين منتفخَي الوسط، قُطر كل منهما من وجهه متر ونصف المتر وطوله متران ونصف المتر. ومنبر المسجد على هيئة كرسي مزخرَف قديم مصنوع من خشب الساج، والمسجد مبني سنة 1619، بناه بوسبونوغورو (وناغارا أو نوغورو كلمة معناها دولة، فصار معنى الجملة «زهر الدولة»).

واحتشد أهل القرية في المسجد لرؤيتنا، واصطفّ الجند وتلاميذ المدارس وساروا أمامنا ووراءنا، فتركنا السيارات ومشينا معهم في موكب رسمي، ولحقتنا جموع الأهلين، فسلكنا طرقاً كطرق القرى الشامية الجبلية، حتى وصلنا إلى رحبة مسوَّرة فيها أشجار عالية وفي وسطها درابزين من حديد، فيها ثلاثة قبور من الحجر ليس عليها زُخرُف ولا نقش، أحدها قبر الشيخ إبراهيم المتوفّى سنة 1419 ميلادية، وهو الذي تَشرّف بحمل الإسلام إلى هذه البقاع. وسألت عن تاريخه وعن ترجمته فلم أجد علم ذلك عند أحد، وغاية ما قالوه أنه مغربي الأصل. وقد أخبرت بذلك السيد مكي الكتاني رحمه الله لما رجعت إلى دمشق، فقال إن هذا الشيخ من آل الكتاني، وقرأت مثل ذلك للأستاذ المنتصر في مقال قديم في «الرسالة» وقال إنه سمعه من الناس، والله أعلم بالحقيقة. ثم ذهبنا إلى مدفن السلطان سنان كيري (أي عين اليقين)، وهو من خشب مزخرَف عليه نقش دقيق بارع. وهذا السلطان كان لقيطاً، وجدته امرأة اسمها ونصو، غنية تشتغل بالتجارة ولها سفن، فسلّمته إلى الشيخ إبراهيم فعلّمه وربّاه وجعله خليفته، فنبغ وكتب الله نصر الإسلام في شرقي جاوة على يديه، وكُرّمت المرأة التي وجدته ولُقّبت بالسيدة الواجدة، وقد نسيتُ لقبها بلسانهم. وأذّن الظهر فصلّينا بمسجد بجوار المدفن وصلّى معنا قائد الجنود والتلاميذ والناس، ثم دعونا إلى غرفة في المسجد فشربنا فيها الشاي وتحدّثنا، وفهمنا أن لكل فرقة من الجند ومن الشرطة إماماً وواعظاً، وهم يقيمون الصلاة ويحضرون جميعاً مجالس الوعظ.

قلت: هذا ما كان عند زيارتنا أندونيسيا من ثلاثين سنة، فما هي حالها الآن؟ * * * إذا عددتُ الأيام التي مرت عليّ صفواً بلا كدَر كان من أول ما أعدّ منها يوم نزهة سورابايا، وهي نزهة أعدّتها لنا وأكرمتنا بها الحكومة الأندونيسية، وهاكم بعض خبرها: خرجنا من سورابايا، فما جاوزنا البيوت حتى رأينا على جوانب الطريق حقولاً مغرَقة بالمياه ممتدّة على سيف البحر (¬1)، مقطَّعة قطعاً محدّدة بسدود من التراب على هيئة الجدران، فعجبت منها وسألت عنها، فقالوا إنها أحواض لتفريخ الأسماك. وسلكنا بعدها طريق الجبال وأوغلنا فيها، تدرج بنا السيارات في طريق تحفّ به من جانبَيه الغابات وظلال أشجارها طبقات فوق طبقات، وعلى الطريق سقف من أغصانها المشتبكات يمنع الشمس أن تصل إلينا، إلاّ نظرات تختلسها اختلاساً من فُرَج الأغصان، وتسمح للنسيم أن يمسح وجوهنا بيد لينة معطّرة كأنها مسّ يدَي الحبيب عند غيبة الرقيب. وأخذنا نصعد والطريق يستدير ويلتوي والقرى المنثورة على السفوح تظهر ثم تختفي، كصبيّة تلاعب فتاها، يلحقها فتزوغ منه ويهمّ بأن يدعها فتتراءى له، فهي تُطمِعه ولا تُطعِمه وتُسخِطه ولا تُقنِطه. ثم غاب عنّا الجبل الأعظم، فسرنا على حافّة الوادي الضيق ¬

_ (¬1) سِيف البحر (بكسر السين): شاطئه.

ندور بأكَمة مخضرّة محمرّة كأنها لوحة في بهو. وأين لوحات الأبْهاء ممّا صوّره بارئ الأرض والسماء؟ وأين الصورة الميتة من الحقيقة الحية؟ ولمّا وصلنا إلى قمة الأكَمة وجدنا قرية صغيرة، ذكّرتني بأعشاش الغرام التي نقرأ وصفها في القصص وما عرفناها في الحياة، بيوت ملوّنة أنيقة حولها إطار من غرائب الأوراد والأزهار، تتخلّلها مسارب كأنها مدارج الأحلام، في أعلاها عين ثرّة سُمّيت القرية بها فكان اسمُها بلسانهم «تري نيس» أي «العين الدفّاقة»، تنحدر المياه من كل جانب من جوانبها شلالات صغيرة فتّانة، ثم تتجمّع في ساقية أو جدول صغير يُفضي إلى المسبح. وإذا كانت سويسرا تنفرد ببحيراتها المتربعة في الأعالي المُشرِفة على الدنيا من شرف الجبال، فإن في أندونيسيا ما ليس مثله في سويسرا ولا لبنان ولا فيما عرفت من البلدان، هو المسابح الأنيقة القائمة في رؤوس الجبال، تنصبّ فيها المياه من الينابيع نظيفة ما وسّختها أيدي الناس، جارية دائماً لا تؤثّر فيها أجساد السابحين، تُطِلّ على مناظر لها من الجمال ما لا يصل إليه الخيال، والماء ينزل فيها في صناعة بارعة يتشكّل أشكالاً ويتفجّر نوافير. وفارقناها وتأبى قلوبنا لها فراقاً، وسرنا فمررنا على بساتين مسوَّرة فيها أشجار عالية شديدة الخضرة، فسألنا: ما هذه؟ قالوا: مقابر، وهذه هي أشجار الكَمبوديا ولا تُزرَع إلاّ في المقابر! وكانت المشاهد تمرّ بنا متعاقبة إذ نمرّ بها مسرعين، فننتقل

من نشوة إلى نشوة ومن متعة إلى متعة، فلا أدري أيها أجمل في العين وأحلى في القلب؟ ولكل مشهد قصّة تدور بها الألسنة ويتناقلها الرواة، لو عالجها قلم الأديب لَجعل من كل قصّة منها قطعة من روائع الآداب. هذا جبل عالٍ ذاهب في الجوّ كأنه البرج المشيد، قالوا إن اسمه جبل الغرام (أنجاسمارا)، وقصته أن زوجة الملك اعتكفت فيه لمّا ذهب إلى القتال واعتزلت الناس، وامتنعت -من شوقها إليه- من الطعام والشراب، وظلّت تناجيه على البعد وتعانق خياله حتى زعموا أنها ماتت. وإن لم أرَ في حياتي من يموت من الغرام! ومررنا بتل عظيم قائم وحده كأنه الهرم يسمّونه لاوا (ومعناها الباب) وله قصّة. ومررنا بعده ببلدة قديمة كانت عاصمة جاوة الإسلامية يوماً، اسمها «سنغو ساري» (أي الأسد الشجاع)، ولها قصّة. وكنا نسير بين هضاب متجاورات كلها مكسوّ بالأشجار المثمرة، والبيوتُ قد تناثرت عليها بسقوفها المائلة الملوّنة كأنها بيوت الأطفال عند بيّاع اللعب، وكل منها له قصّة. والأنهار تجري خلالها صغيرة وكبيرة، مستقيمة وملتوية، رائقة وعكرة، هادئة وهادرة، قد اختلفت طبائعها وغاياتها فكأنها أصناف البشر إذ يمشون على طريق الحياة. ولكل وادٍ في العين منظر ولكل بقعة في النفس أثر. وكنت كالطفل المحروم دخل مخزن اللعب، كلّما رأى لعبة ظنّها تحفة التحف فقال: هذه التي أريد، فإن رأى غيرها وجدها أحلى منها فعدل إليها عنها. كنت كلما أبصرت مشهداً قلت: قف بي هنا، إن هذا هو أجمل المشاهد. ثم أجوز إلى غيره فأنسى لروعته الأول،

وهم يقولون لنا: هذا كله ليس بشيء، فأقول: وما هو الشيء؟ فيقولون: أمامكم. ورأينا النساء في كل مكان من جاوة، إلاّ المدن الكبار، يحجبن الرأس بخمار أبيض أو ملوّن، فلا يُظهِرن إلاّ ما أذن الله بإظهاره وهو الوجه والكفان (وإن وجب سترهما إن كانت فتنة بهما). ثم انحدرنا كما صعدنا. وهذه سنّة الحياة؛ ما علا عالٍ إلاّ نزل ولا طار طائر إلاّ هبط. وسلكنا على سهل بين سلسلتين من الجبال: السلسلة التي كنا فيها والأخرى التي كنا نراها من أمامنا، في سهل كأنه سهل البقاع في بلاد الشام لولا أنه أوسع سَعة وأجمل جمالاً. وجزنا ببلدة كبيرة اسمها مدينة باتو (أي الحجر) جالسة على ذيل الجبل الذي نزلنا منه، ممتدّة شوارعها في السفح كأنها فتاة اقتعدت حافّة نهر ودلّت فيه ساقَيها. وفي وسط السهل مدينة مالان، وهي تعدل في سعتها وعدد سكّانها مدينة دمشق، وحولها البساتين فيها الأشجار المثمرة وفيها الرمّان الكثير بزهره الناريّ الأحمر (الجلّنار)، وحولها سور من الجبال الخضراء يطيف بها من بعيد، وهي في وسطه كأنها طفلة في حجر أمها. ورأينا بعدها صونغوريتي (أي النبع الحار)، وهي عيون من المياه المعدنية الحارّة تشبه في وضعها وفي البناء القائم عليها عين حلوان في ضاحية القاهرة. وكنا نمشي في يوم صحو وشمس، فما هي إلاّ لحظات حتى اربدّت السماء بالغيوم وتفتّحَت أبوابها بالمطر، بمطر لا نستطيع

أن نتصور مبلغه، مطر البلاد الاستوائية الذي ينصبّ كأفواه القِرَب (حقيقة لا مجازاً). فرأينا لمّا نزل المطر عجباً، أسرع كل واحد من المارّة إلى أقرب شجرة موز (وأشجارُ الموز تملأ أطراف الغابات الماثلة على الجانبيَن) فتخيّر له ورقة بسعة المظلّة فنشرها على رأسه ومشى. أما الشيء الذي كانت فيه النزهة وكانت إليه الرحلة فهو قهوة أنيقة أمامها مسبح فخم، تنظر إليه من تحت فلا ترى شيئاً، لا ترى أمامك إلاّ جبلاً أخضر مستديراً، فإذا ركبت الطريق الذي يصعد إليه وجدت المسبح في حضنه، قد عطف عليه الجبل وأحاطه بيديه، فإذا احتواك ونظرت وراءك أبصرت مدرّجاً فيه من الشجر المزهر وفيه من غرائب الأوراد والأزهار وعجائب الألوان ما لا يحيط بوصفه قلم ولا لسان، وإذا نظرت أمامك رأيت من فُرجة الجبل السهلَ كله، والجبال حوله والمدن فيه، كأنك ترى الدنيا من كوّة الأحلام، والماء يتجمّع من عشرات العيون، ينبع من وراء صخرات الجبل ثم يسير في سواق صغيرة هدّارة تلفّ وتدور وتتكسر أمواهها في شعاع الشمس، ثم تجتمع في جدول كبير فتمر من شاذروان ينصبّ من علوّ عشرين متراً في البركة التي أُعدّت مسبحاً، وأنت أمامها مستقبلها والشمس تسطع عليها. فتصوّر هذا المنظر! ثم يمرّ هذا الماء إلى حيث يسبحون، وقد دُرّجت البركة وأجيد بناؤها وزُخرفت جدرانها ووُضعت لها السلالم والمعارج، والمقاعد مصفوفة على جانبَيها من فوقها. لا؛ لا أستطيع أن أصف للقراء ما رأيت فيها وما أحسستُ لأن ذلك شيء يجلّ عن الوصف، فاختاروا لكم يوماً من

أيام عطلتكم فاذهبوا إلى ذلك المكان الذي لا يبعد عنكم إلاّ عشرة آلاف كيل (كيلومتر) لتروا بعيونكم ما عجزتُ عن وصفه بلساني. * * *

لوحات حية من حياة أندونيسيا عيد سعدت فيه برغم البعد والوحدة والسفر الطويل

-170 - لوحات حية من حياة أندونيسيا عيد سعدت فيه برغم البعد والوحدة والسفر الطويل وهل عيد أندونيسيا غير عيد المملكة؟ نعم، وغير عيد الشام وعيد مصر. وعيد الأطفال غير عيد الكبار؛ الأطفال عيدهم ثياب جديدة ولعب، ربما وجدهما الطفل موفورَين وربما عزّ عليه وجدانهما. وعيد الموظفين عطلة وراحة من عناء العمل وانطلاق من القيد، وعيد التلميذ بُعد عن مشقّة الدراسة ونظام المدرس، وعيد أكثر النساء مفاخرة ومكاثرة في اللباس وفي الزينة، بل وفي أثاث المنزل ومظاهر الحياة. وعيد كثير من الرجال نفقات تقصر عنها الطاقة وديون يثقل بها العاتق. وجمهورٌ من الناس عيدهم مجرد رقم في التقويم وتهنئات من طرف اللسان. هذا والعيد واحد وإن تعدّدت أشكاله وطعومه، وهذا من أسرار الله في الخلق، إذ يجعل المختلف من المؤتلف والمتعدّد من المتّحد، فلكل إنسان أنف وعينان وفم وأذنان، ولا تجد إنساناً يطابق في خَلْقه غيرَه من بني الإنسان. والسكّر عند أهل الكيمياء

هو السكّر، ولكن طعمه في التفاح غير طعمه في العنب وغير طعمه في الموز والبطيخ. وكذلك الرائحة العطرة، أين رائحة الفل من رائحة الورد؟ وأين الياسمين من النسرين؟ والعيد الحقّ إنما يشعر به من يولي الإحسان، فيرى آثارَ إحسانه بَريقَ شكر في العيون، وبشاشة وانطلاقاً في الوجوه، وحمداً صادقاً على اللسان، ودعاء مخلصاً في الغيبة والحضور. * * * وصلنا جاكرتا في رمضان (¬1). ولرمضان في كل بلد إسلامي بهجة وجمال، لا تكاد تظهر بهجته ولا يبدو جماله في المدن الكبرى التي فتنها بريق الزجاج في حضارة الغرب عن حقيقة الألماس في دينها فأضاعت سجاياها بتقليدها، ولكن يظهر هذا الجمال في المدن الصغار، وفي القرى الأندونيسية حيث يصوم القوم النهار لا تجد فيهم مفطراً معلناً، فإذا كان العشاء أمّوا المساجد فصلّوا التراويح، ثم تجمّعوا للسهرات في بيوت الإخوان والأصدقاء، سهرات قد تطول حتى تصل الفطورَ بالسحور، يكون في بعضها المطالعة في الكتب والمذاكرة في العلم، ويكون في أكثرها البحث في شؤون التجارة وأحوال البلد، ويكون بعضها للتسلية واللهو، ولكنه لهو لا يصل غالباً إلى الحرام ولا يبلغ حدّ العبث. ¬

_ (¬1) هذا القسم من الحلقة مأخوذ من فصل «في جاكرتا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

يقدَّم في هذه السهرات لونان لا تكاد تخلو منهما أو من أحدهما مائدة: الرز بالحليب، لا كما يُصنع في الشام إذ يفتنّ القوم في «تَرقيده» في الصّواني حتى يصير كأنه القشطة، بل يُصنع مخلوطاً بسمن النارجيل (جوز الهند) فيكون له طعم يقولون إنه طيب. أما أنا فلم أستطع أن أسيغ لقمة واحدة منه. والثاني هو «الأبام»، وهو شيء يشبه «القطائف» الشامية. وشتّان ما بين هذا وذاك، فما في الدنيا طعام مثل طعام الشام، وما أكَل الشامي في غير بلده طعاماً فاستطابه ولا أكل أحدٌ من طعام الشام إلاّ فضّله على كل طعام. وأدركَنا عيدُ الفطر ونحن في جاكرتا سنة 1372هـ، وأنا أشهد أنه أنساني أني غريب وأني بعيد عن أهلي وولدي. والغريب لا يحسّ عادة بالعيد ولا بأفراحه لأن العيد لا يراه الإنسان إلاّ في بلده، فلا يمكن أن يوضع في الحقائب ولا أن يُنقل في الطيارات ولا في السيارات. ذكرت في عيد أندونيسيا العيد الذي عرفته في دمشق وأنا صغير من قديم ثم افتقدته ولم أعُد أجده أبداً. أول ما رأينا من مقدّمات العيد في أندونيسيا الاحتفال بليلة السابع عشر من رمضان، ويسمّونه عيد نزول القرآن. ومن أغرب ما وقع لي أني لمّا دنوت من بهو الاحتفال سمعت تلاوة صحيحة بصوت ناعم، كأنه صوت امرأة يقرأ القرآن قراءة صحيحة بنغمة مستحَبّة، فلما سألت علمت أنها زوجة سوكارنو تفتح الحفل بتلاوة عشر من القرآن (¬1). وكان عيد ¬

_ (¬1) وصوت المرأة بالنغَم عورة ولو لقراءة القرآن.

17 رمضان لمّا زرناها أكبر أعياد أندونيسيا. ذلك على ما كنا نأخذه على سوكارنو وحكمه، حتى رأينا ما بعده فإذا الحال كما قال: رُبّ يومٍ بكَيتُ فيهِ فلمّا ... صِرتُ في غيرِهِ بكيتُ عليهِ لما دنا العيد رأينا تباشيره تلوح؛ ففي الأسواق ضجّة وازدحام وفي البيوت حركة واستعداد. فما أهلّ وأصبح صباحه حتى خرج الناس بأبهى الثياب، وثيابهم هذه الأُزُر (الفُوَط) الملوّنة المبرقَشة التي يفتنّون في صنعها وفي تلوينها حتى تحكي ألوانَ الزهر في الروض الأريج. ولبسَت البنات كل زاهٍ من الألوان فاقع وازّيّنَ الأولاد وانتشروا في ساحات جاكرتا كأنهم طاقات من الورد يخطرون في الحدائق إلى جانب الورد، وعُرضت الألاعيب وعلَت في الجوّ طيارات الورق. ولهم فيها صنعة عجيبة، وهي تعلو حتى لتُرى كأنها طيارة حقيقية. وأَمّ الرجال كلهم المصلّى. كان ذلك قبل أن يُفتح الباب لشياطين الإنس، لجماعة المكفّرين الذين يُسمّون بالمبشرين، وما هم إلاّ من المبشّرين بالعذاب الأليم الذين جعلوا همّهم أن يُخرِجوا المسلم من النور إلى الظلمات ومن الإيمان إلى الكفر، نبّهنا الله إلى الاحتراس من شرّهم ودفع عنّا كيدهم. حضر صلاةَ العيد في جاكرتا قومٌ يزيدون على مئات الألوف، يكبّرون معاً، ويركعون معاً، ويسجدون معاً. مشهد عظيم عظيم عظيم، أكرّرها ثلاث مرات لتأكيدها وتثبيتها. مشهد لا يرى الإنسان مثله إلا في بلد عاد إلى هذه السنّة (المتبَعة هنا في المملكة) في صلاة العيد في المصلَّيات. وراح الناس يهنئ بعضهم

بعضاً. وأنا لا أفهم من لسانهم إلاّ الألفاظ العربية الباقية فيه، وهي كثيرة. منها ما هو لأسماء البلدان، فعندهم المدينة المنورة والكوفة والبصرة وخور سليمان (والخور كلمة عربية)، ومنها ما هو من أسماء الناس، فعندهم محمد وأحمد ويوسف وداود وعيسى وناصر وفؤاد وعبد الله وزين العابدين وتاج الدين وسراج الدين وعبد الحكيم ... وربما أضيف الاسم الأندونيسي إلى الاسم العربي، كأحمد سوكارنو وزوجته عائشة ونائبه محمد حتا وزوجته رحمى رحيم، وأحمد سوبارجو وزير الخارجية يومئذ، ومحمد روم وبرهان الدين هاراهاب وشمس الدين سوتن معمور وعلي ساستو ... ومنها ما هو مستعمَل بلفظه ولكن بتحريف لمعناه كلفظ «الشركة» بمعنى الجمعية، و «سؤال» بمعنى قضية، وفائدة وحاصل وأخلاق وعناصر ومسألة وسياسة ... وربما حُرّف اللفظ العربي فقالوا في كلمة ظاهر «لاهر» و «أكال» أي عقل و «نسكه» أي نسخة و «خلاياك» أي خلائق و «سابار» أي صبر. ومن أعجب ما عندهم أنهم يحرّفون لفظ الشعر إلى الشعير، فيشترك فيه إخواننا الشعراء مع إخواننا الحمير! وهذا مشهد رأيته في جاكرتا أيام العيد، وقد أخذونا إلى دار واسعة فيها غرف مصفوفة حول حديقة فسيحة وممرّات تُطيف بها، سمعت لمّا اقتربتُ منها ضجّة أولاد وبكاء أطفال فقدّرت أنها مدرسة للصغار، فلمّا دخلتها لم أجد التلاميذ الذين يتعلمون، بل وجدت أطفالاً منهم من يزحف -لصغره- على الأرض ومنهم من يدرج يقوم ويقعد، ومنهم الكبير ومنهم الصبيان ومنهم البنات. أولاد بالعشرات، في كل غرفة أولاد، وفي الحديقة أولاد،

وحيثما سرت أولاد. أولاد في الأسرّة نائمون، وأولاد أكبر منهم يخدمونهم أو يطعمونهم أو ينظفونهم، والهيئات مختلفات والألوان متباينات، فمن بيض ومن سمر ومن سود، ومَن لهم هيئات صينية أو سمات عربية أو ملامح هولندية، فقلت: ما هذا؟ مستشفى؟ قالوا: لا. قلت: روضة أطفال؟ قالوا: لا. قلت ما هؤلاء؟ قالوا: أُسرة واحدة، لهم أب واحد وأم واحدة. قلت: لكلّ هؤلاء أم واحدة وأب واحد؟ قالوا: نعم ولا. قلت: ما هذه الأحاجي والمعميات؟ قالوا: هاك من يخبرك الخبر اليقين. ونظرت فإذا امرأة أندونيسية في نحو الخمسين أو تزيد ورجل شيخ أندونيسي فوق الستين قد أقبلا علينا، وعرّفوهما بنا فإذا هما صاحبا الدار، وإذا خبرهم العجيب، العجيب حقاً، أن هذه المرأة ورثت من أبيها مالاً كثيراً، وكان قد توفّي وهي صغيرة فربّاها خالها (والخال في أندونيسيا هو الذي يتولّى أمر بنات أخته قبل العَصَبات من أهليهم). فلمّا كبرَت خطبها هذا الرجل وكان من الأغنياء، ووفّق الله بينهما وألقى بينهما المودّة والرحمة فعاشا سعيدَين. اجتمع لهما المال الذي يملأ اليدين والحب الذي يملأ القلبين، ولكنهما اشتهيا الولد فما جاءهما الولد. كانا من الصنف الرابع؛ وقد صنّف الله الناس أصنافاً، فالصنف الأول من يَهَب له البنات، والثاني من يهب له الذكور، والثالث من يزوّجهم ذُكراناً وإناثاً، والرابع من يجعله عقيماً. فكان هذان الزوجان من الصنف الرابع: اشتهيا الولد فما جاءهما الولد، وما نفعهما طِبّ طبيب ولا وصفة مجرّب ولا سحر ساحر ولا شعوذة دجّال. وتفطّر قلبها وكرهت حياتها وضاقت بها، وضيّقت على الرجل حياته وكرّهتها

إليه، وأوشكَت الحال أن تصل بهما إلى أن تُجَنّ هي أو تجنّن الزوج أو أن تُختَم فصول الرواية بالطلاق، لولا أن كانت مصادفة بدّلت حياتهما، كما تبدّل موجةٌ صغيرة مسيرَ الزورق من الشرق إلى الغرب أو تحول لحظةٌ عارضة وجهةَ إنسان من طريق النار إلى طريق الجنان. ذلك أنهما وجدا يوماً ازدحاماً أمام مخفر الشرطة، فسألت: ما الخبر؟ فقالوا: إنه لقيط، ابن حرام، وهو طفل مولَّد. والمولَّد عندهم الذي يجيء من أب جاوي وأم هولندية. فدفعتها غريزة الأمومة المتوثّبة بين جوانحها إلى رؤية الولد، فإذا هي طفلة جميلة فتّانة جمعَت حلاوة أهل جاوة وجمال نساء هولندا. وكان الناس بين مُشفِق على الطفلة، ولاعِن لها غاضب من والدَيها. فلم تتمالك أن أمسكت بها فضمّتها إلى صدرها، فأحسّت كأنها قد ضمّت يديها على كنوز الدنيا. وكان زوجها معها، فلمعت فكرة في ذهن الزوجين معاً، هي أن يأخذا الطفلة فيربّياها، ففعلا وأحسنا القيام عليها وتجدّدت بها حياتهما، وعادت النضارة إلى وجه المرأة ورجعت المسرّة إلى قلبها، ودخلت عليهما السعادة مذ دخلت هذه البنت، وأقاما عليها يُغدقان عليها الخيرات ويلفّانها بالحنان، وكبرت فكانت فتنة الأنظار فزوّجاها. وما فارقتهما حتى أحسّت المرأة كأن شُعبة انشعبَت من قلبها، وكادت ترجع إليها عوارض المرض في نفسها، فوجدت لها بنتاً غيرها. ومرّت الأيام، وانتهى بهما الأمر إلى أن عرف الناس جميعاً خبرهما، فكلّما وجد أحدٌ لقيطاً حمله إليهما، ففتحا

هذه الدار ووقفا عليها رَيعَ أموالهما، وفاضت عليهما العطايا والتبرّعات. ولمّا زرت الدار سنة 1954 (1373هـ) اطّلعتُ على دفاترها فوجدتُهما قد ربّيا إلى تلك السنة مئتين وخمسة وثلاثين ولداً، وكان عندهما لما زرتها ستة وأربعون ولداً، من كل أمّة وجنس ومن كل لون ولسان، يربّيانهم جميعاً على دين الإسلام وعلى حبّ الوطن وعلى الخلق والفضيلة، فنشأ عندهم محامون وأطباء وعلماء وصنّاع وتجّار، وكلهم بقي يتردّد على الدار ويرى في هذا المرأة أماً له وفي هذا الرجل أباً. لقد حُرما ولداً أو ولدين فاتخذا مئات من الأولاد، واتخذا مع ذلك الثواب في الآخرة والمجد في الدنيا، وعلوّ المنزلة وبقاء الذكر. لقد صبرا على ما لا يصبر عليه أحد. وأنا لم أستطع أن أكمل الدورة في غرف هذه الدار إلاّ بصعوبة؛ لقد أحسستُ أن أعصابي قد شُدّت وتوتّرت من بكاء الأطفال وضجيج الأولاد، وسددتُ أنفي وغضضت بصري مرّات لئلاّ أشمّ أو أرى ما يؤذي، وهما يصبران على ذلك كله ويعيشان في هذا البيت مع هؤلاء الأولاد. إن الواحد منّا يكون في بيته خمسة أطفال أو ستة من دمه ولحمه، فلا يطيق القعود معهم ويهرب منهم. فقدّروا مبلغ ما يكابد هذان الإنسانان الكريمان. ولقد سألتهما عن مبلغ وفاء هؤلاء لهما، ففهمت أن منهم قليلاً أنكر الفضل وجحد المعروف، ولكن ذلك لا يزيد على ثلاثة في المئة (ولا عجب، فإن من الناس من يبلغ به اللؤم أن ينكر فضل أمه التي حملته وسط أحشائها وأرضعته من لبن ثديَيها)، والباقون كانوا لهما أبرَّ من أولاد الأصلاب. وسألتهما

إلى متى يقومان على هذه الدار ولِم لا يسلّمانها إلى جمعية أو مؤسسة؟ قالت: لمّا ضممت تلك البنت الأولى إلى صدري كان عمري إحدى وعشرين سنة، وقد نيفت الآن على الخمسين، ولكني لن أدَع هذا العمل حتى يُقعِدني الكبر أو يقطعني الموت، إلاّ أن يملّ فلان (وأشارت إلى زوجها). فنظر إليها نظرة يقطر منها الحب وقال لها: أنا معك حتى الموت. * * * جاءني العيد (¬1) وأنا ضيف الحكومة الأندونيسية؛ أنزلتني في فندق الهند، أكبر فنادق الشرق، في جناح فخم أبهى وأوسع من منازل السادة الكبراء. وكان عندي كل ما يشتهي امرؤ أن يكون له: المال في جيبي والسيارة على بابي والمُرافق قيد أمري، ولكن شيئاً واحداً لم يكن عندي هو بهجة النفس. كنت وحدي، أرى الأسر الهولندية من حولي وشملها جميع وأهلها حاضرون، وأنا بعيد عن أهلي وبناتي، بيني وبينهن -كما قلت لكم- ربع محيط كرة الأرض. كان الناس في عيد وأنا في كرْب، لا أجد من أكلّمه كلمة أو أفهم عنه أو يفهم عني، إلاّ الإخوة الكرام سفير مصر والقائم بالأعمال السعودي وبعض الأصدقاء، فإذا انصرفوا عني بقيت وحيداً مع همومي وضيق صدري واكتئابي. وما العيد إن لم يكن ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر الحلقة من مقالة «صورة في الطريق»، وهي في كتاب «في أندونيسيا». وقد مرّ بكم طرف من هذه المقالة في الحلقة السابعة والسبعين من هذه الذكريات (مجاهد).

معه الأنس ببلدك وأهلك وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن فيه للنفس متعة وللقلب راحة؟ وذهبت أهيم على وجهي أمشي على غير هدى حتى بلغت ساحة كامبير (أي الاستقلال). وكانت قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة ملوّنة في ليلة واحدة، لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت. كان البنات، بنات جاوة (الحلوات لا الجميلات!) وأطفالهن يختلن في الثياب العجيبة الملوّنة بمثل زهر البستان، وكان لهن أفانين من التسليات والألاعيب. ولكني كنت عن ذلك كله في غفلة، كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد بعيد، بعيد في المكان والزمان؛ إنه يهيم في أودية الماضي ويسرح على تلك السفوح الحبيبة من قاسيون، التي حُرمت الآن منها وأُبعدت عنها، وأخشى أن يحين أجلي قبل أن أعود إليها فأراها. مشيت حتى بلغت حديقة لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء لِما يبدو عليهم من آثار الترف والسرف. وكان على باب الحديقة عجوز ظهر عليها الكبر (رغم أن نساء جاوة لا يكدن يَشِخْنَ أبداً!)، عجوز أثقل ظهرَها حمل السنين، وفي يدها بنت كأنها الفلة المتفتحة جمالاً وطهراً، في ثياب قديمة لكنها نظيفة. وكانت تنظر إلى هذا العالَم كأنه غريب عنها، وكأن الله خلقها هي وجدّتها من الطين وخلق أولاد الأغنياء هؤلاء من الزبد والحليب. وكانوا يمرّون بها لا يلتفتون إليها ولا يرونها، ولو كانت هرّة صغيرة أو كانت كلباً في البلاد التي تأنس بالكلاب لوجدَت من يمسح شعرها ويبسم لها.

وكان الأولاد يشترون أكفّ الشُّكَلاطة من بيّاع هناك، وكانت الطفلة تنظر إليهم وهم يمزّقون أوراقها ويأكلونها، تنظر بعيون يلمع فيها بريق الرغبة المحرقة يعقبها خمود اليأس المرير. ثم غلبها الطمع فلكزَت جدتها بمرفقها على استحياء، حتى إذا التفتت إليها أشارت بغمزة من عينيها وحركة سريعة من يديها إلى الشُّكلاطة، فتبسّمَت الجدّة بعينيها ولكن مقلتيها كانتا تبكيان بلا دموع، وقلبت كفّيها إشارة العجز والفقر. هنالك عرضَت لي فكرة حمدتُ الله عليها وأسرعت إلى تحقيقها، هي أنني اشتريت أكبر كفّ من الشُّكَلاطة، وذهبتُ به فوضعته في حِجرها هو وما كان في جيبي من مال. فنظرَت إليه نظرة المشدوه، ثم حوّلت بصرها إلى جدّتها كأنها تستنجد بها، تستشيرها: ماذا تعمل؟ فأشرق وجه العجوز إشراقة سريعة كأنها بريق الشمس يسطع لحظة من خلال الغمام، وأقبلَت عليّ تقول كلاماً طويلاً باللغة الأندونيسية لم أفهم منه إلاّ «تريما كاسي، بنجاوم عمر»، أي: أشكرك، الله يطوّل عمرك. وقامت البنت تجرّ جدتها، تهرب كما تهرب الهرّة أعطيتَها قطعة لحم، تسرع خوفاً أن تندم عليها فتعود فتنزعها منها، حتى عجزَت خطوات الجدّة عن اللحاق بها، وهي تتلفّت إليّ: هل ندمتُ فلحقت بها أستردّ ما أعطيت؟ حتى غابت عن عيني. لقد خسرت مبلغاً لا يجاوز ما أُنفِقه أجرة نزهة في سيارة أو ساعة أقعدها في مقهى، لكني ربحت من اللذّة ما لا أجده في مئة نزهة ولا مئة مقهى. أحسست كأن ما كان في قلبي من الضيق قد انفرج وما كنت فيه من الكرب قد زال، وأن نار الشوق إلى أهلي

قد خمدت، والمنظار الأسود رُفع عن عيني فرأيت بهاء الكون وبياض النهار، ووجدت العيد. لقد تعلّمتُ أن السعادة ليست بالأموال ولا بالقصور ولا بالخدم والحشم، ولكنها بسعادة القلب، وأنّ أقرب طريق إلى سعادة القلب أن تُدخِل السعادة على قلوب الناس، وأن أكبر لذّات الدنيا هي لذّة الإحسان؛ لا أقصد الريال الذي تُلقونه للسائل، ترمونه إليه وأيديكم عالية ووجوهكم مقطّبة ولسان حالكم يقول: انظر هوانَك وعِزَّنا وفقرَك وغنانا، بل إن الإحسان أن تُعطوا من قلوبكم لا من أيديكم وحدها، فيكون المال في اليد، والبسمة على الشفاه، والكلمة الطيبة المواسية على اللسان. إنكم تُرجعون بذلك إلى الفقير كرامته التي أضاعها وإنسانيته التي افتقدها، وتردّون عليه روحه. والروح أثمن من الجسد، والكرامةُ والإنسانية أفضل من أموال الدنيا كلها (¬1). * * * ¬

_ (¬1) اقرأ مقالة «أحسِنْ كما أحسَنَ الله إليك» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

معركة أدبية كانت نتيجتها دعوى قضائية

-171 - معركة أدبية كانت نتيجتها دعوى قضائية بعد سنتين أكون قد أكملت ستين سنة وأنا في الميدان أجاري الفرسان وأقارع الأقران وما ألقيت سلاحي، وما سلاحي إلاّ قلمي ولساني، ولا نزعت لأمتي. بدأتُ من أول يوم أصدرت فيه «رسائل الإصلاح» سنة 1348هـ بخوض المعارك الأدبية، ثم استمررت عليها. ما خضت غمارها ولا صَلِيت نارها غراماً بها واطمئناناً إليها، ولكن أُكرِهت عليها. كنت كما كان فارس النعامة حين قال في حرب البسوس: "لم أكن من جُناتها علم الله". وكان قليل من هذه المعارك لحظّ نفسي ودوافع حب وبغض مني، وأكثرها كان دفاعاً عن الحقّ وذبّاً عن الدين، أرجو أن يُكتب لي ثوابه. وقد جمعت ما قدرت عليه منها (وقد تفرّق وضاع أكثرها) فكان من ذلك كتابٌ أصوله تحت يدي، ربما بلغ أربعمئة صفحة، ولكني لا أنوي نشره. كان عصرنا عصر معارك أدبية. وقد كنت في ميعة الشباب لمّا كانت معركة طه حسين مع جمهرة كتّاب العرب الكبار من

أجل كتابه «الشعر الجاهلي»، وحضرتُ بعدها معارك كثيرة كنت أشاهدها ولا أدخل فيها، لأن فرسانها كانوا أكبر مني ولم يكن لي فيها مجال، ثم جاءت معارك كنت أنا طرفاً فيها وكنت أحمل لواء بعضها. كان أسلوب الكتّاب في هذه المعارك على ضربَين: قليل منهم كان يعرض الفكرة، يبيّن عيوبها ونقائصها ويُقيم الدليل على ما يقوله فيها، وكان أكثره همزاً ولمزاً وهجاء للكاتب وهُزءاً وسخرية به. وكان على هذا الأسلوب كبار الكتّاب كشيخنا الرافعي والأستاذ العقاد، وقد بلغ ذروته (أقصد أنه نزل إلى حضيضه) في كتاب «على السَّفّود»، وفي هذا الكتاب نقد أدبي كثير وفيه حقائق جمّة وفيه فنّ، ولكن هذا كله قد ضاع في غمرة هذا الأسلوب الذي لا أستطيع -على حبي للرافعي- أن أقول إنه أسلوب نظيف أو مقبول. ولكني، مع الأسف، نشأت عليه وبرعت فيه، وإن كنت الآن لا أحبّه ولا أرتضيه. والمعارك التي خضتُها اضطُررت إليها ولم أختَرْها، ولم يدفعني إليها دافع شخصي لأن أكثر مَن قارعتُه فيها ونازلتُه لم يكن بيني وبينه من صِلات الدنيا ما يستدعي حباً ولا بغضاً. من ذلك أني كنت سنة 1947 أُشرف على تحرير مجلّة «الرسالة» بتفويض من أخي الأكبر وأستاذي الزيات رحمة الله عليه، لمرض كان فيه (أو تمارُض كان منه). وكان في «الرسالة» أبواب ثابتة منها باب «الأدب والفنّ في أسبوع»، فنشر محرّره في عدد يوم الاثنين 30 شوال سنة 1366هـ خبراً عنوانه «جدل في الجامعة» قال فيه:

كان الأستاذ محمد أحمد خلف الله، المعيد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (وكذلك كانت تُسمّى جامعة القاهرة في تلك الأيام) قدّم رسالة للحصول على الدكتوراة موضوعها «القصص في القرآن»، وقد أعدّها بإشراف الأستاذ أمين الخولي ومعاونته، وألِّفت لجنة من الأستاذين الشايب وأحمد أمين للنظر في صلاحية الرسالة للمناقشة. وكتب كل من الأستاذين تقريره عنها، أمّا الأستاذ أحمد أمين فقال بأنها لا تصلح لضعف منهجها العلمي، وأما الأستاذ الشايب فرأى أن فيها ما يمسّ الناحية الدينية لأن صاحبها يقول إن القصص القرآني لم يُراعِ الحقيقة التاريخية وإن المقصود منه غرض فني، فلسنا مُلزَمين بتصديق حقائق هذا القصص وإنما نقدّر فيه الغاية الفنية، ويقول إن هذا القصص مستمَدّ من مصادر أخرى غير عربية كالتوراة والأدب اليوناني والأدب الفارسي، وإن فيه أساطير لا أساس لها ... لذلك رأى الأستاذ الشايب أنه لا يجوز أن تُعرَض رسالة تتضمّن هذه الآراء للمناقشة في لجنة الدكتوراة. وعلم الأستاذ الخولي بفحوى تقرير الأستاذ الشايب فردّ عليه بتقرير قال فيه إنه متضامن مع مقدّم الرسالة في كل حرف منها وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرّية الفكر. وهذه التقارير كلها لدى العميد تنتظر اجتماع مجلس الكلية، وتتحدّث الهيئات الجامعية في هذه المسألة، وأقوَم ما يقال فيها أن الدكتوراة إجازة من إجازات الدولة التي دينها الإسلام، فكيف تُمنح لمن يرى هذه الآراء في القرآن؟ * * * لم أكن أعلم قبل أن أقرأ هذا الكلام بشيء عن الرسالة ومقدّمها، ولا يجمعني جامعٌ من صداقة أو عداوة أو صلة من

الصلات الاجتماعية بمقدّم الرسالة وأستاذه المشرف عليها، ولكنني رأيت شيئاً هالني وأثار غضبي لله. وتتبّعتُ الخبر فعلمت أن المسألة أخطر من أن تكون جدلاً في الجامعة، وأنه يومٌ كيوم طه حسين في الشعر الجاهلي. ولكن صاحب هذه الرسالة لم يكن له ذكاء طه حسين ولا اطّلاع طه حسين، وإنما أراد -كما يبدو- أن يبتغي الشهرة من أقرب طرقها. وكنت أقرأ قبل هذا للأستاذ أمين الخولي فأجد عنده اطّلاعاً، ولكنني أنكر منه أشياء يأباها الإسلام. وهذه خلّة في كثير من المشايخ الذين يسلكون طريق التجديد، لذلك نرى أن جلّ مَن خرجوا عن الجادة وجاؤوا بما يُنكِره الإسلام كانوا في الأصل من المشايخ، ولا أستقصيهم ولكن أمثّل لهم بطه حسين وعلي عبد الرزاق، وبعض مَن انحرف ثم عاد إلى الجادة وصار من أهل الخير والصلاح، وهو يكتب الآن في جريدة «الشرق الأوسط». فكتبتُ مقالة في العدد الذي يليه (عدد 7 ذي القعدة 1366) عنوانها: «تعليق مختصَر على خبر»، قلت فيها: هذا الخبر الذي جاء فيه أن معيداً في كلية الآداب أعدّ أطروحة (ونحن في الشام نسمي رسالة الدكتوراة «الأطروحة») ينال بها لقب «دكتور»، فلم يجد لها موضوعاً إلاّ القصص في القرآن، ولم يجد فيه إلاّ أنه أساطيرُ الأوّلين وأنه كذب مفترى وأنه مستمَدّ من التوراة ومن أدب فارس ويونان، وأن الأستاذين الأحمدين الفاضلَين حكما بردّ الأطروحة وإسقاطها واختلفا في تعليل الحكم، فكانت العلّة عند الأستاذ الأمين الجهل وعند الأستاذ الشايب الكفر، وعندنا أنهما معاً، لأن هذا لا يجيء إلاّ من ذاك.

وفي الخبر أن الذي أشرف على إعداد الأطروحة وأعان عليها شيخٌ بعمامة بيضاء من أساتذة الكلية، وأن هذا الشيخ عزّ عليه إسقاط الأطروحة فغضب (والغضب لله وللحقّ من الفضائل!) وقال إنه متضامن مع مقدّم الرسالة في كل حرف منها وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرّية الفكر. ولو انتهت القصّة عند ردّ الأحمدَين ولم يكن صاحب الأطروحة مدرّساً، ولم يُدخِل نفسه فيها هذا الشيخ لينصر الكفرَ ويدفع عن الإلحاد ويؤيّد الجهل، لقلنا: شابّ تعجّل الشهرة قبل أوانها ورأى طريق العلم والتحقيق طويلاً فسلك طريق جهنّم وأراد اجتياز الصراط فسقط، وسكتنا ومرّت الحادثة كما مرّت أحداثٌ أمثالها وشرّ منها ظنّ مُحدِثوها أنهم هدموا الإسلام ونسفوه نسفاً وصرفوا عنه الناس صرفاً، والإسلامُ لم يشعر بها ولم يحسّ بوقعها ولم يزدَد عليها إلاّ قوّة وانتشاراً. ولكن دخول هذا الشيخ في المجادلة على صدق القرآن وكذبه، وكون طالب الأطروحة موظفاً رسمياً ومعيداً في الكلية، أمر لا يُسكَت عنه. وهذا الذي نقوله اليوم أول الغيث. مقالنا اليوم تذكير لهذا الشيخ بأنه ليس من أصحاب العقول الكبيرة والبحث العلمي ليزعم أنه يكفر إذا كفر عن بيّنة، وما له إلاّ أنه رأى أديباً زلّ من عشرين سنة (المقصود طه حسين)، وأي أديب لا يزلّ؟ فقال كلاماً مثل هذا الكلام فملأ اسمه الدنيا وشغل الناس، فأحبّ أن يكون مثله، وشتّان ما بين الرجلين. وإلاّ فهل ثبت له بعد البحث والتحقيق أن قصص القرآن

مأخوذ من التوراة ومن الأدب الفارسي واليوناني وأن فيه أساطير لا أساس لها؟ وهل وقعَت له النسخة المخطوطة بخطّ مؤلف القرآن الذي هو الله -إذا كان فضيلة الشيخ لا يزال يعتقد أن القرآن من عند الله- فعضّ عليها بالنواجذ ليفضح المؤلّف ويكشف عن سرقاته ويشفي غيظه منه؟ أستغفر الله كثيراً، وتعالى عمّا يقوله الكافرون علواً كبيراً. ولتدع الكلام في الدين ما دمتَ -يا مولانا الشيخ- تحسب أن الخروج عليه مدنية وتقدُّم وأن الأخذ به رجعية وتأخُّر، وأنك أعلنت الكفر وجهرت به واخترته والعياذ بالله لنفسك، ولنأخذ هذا العلم والمنطق والتاريخ. فهل في العلم والتاريخ شيء يؤيّد ما جاء في الخبر أن الأطروحة اشتملت عليه وما أعلنتَ أنك مع المؤلف في كل حرف منه؟ وبأي دليل من أدلّة العلم، وفي أي كتاب من كتب التاريخ ثبت لك ولصاحب الأطروحة أن الله قد قبس قرآنه من أدب فارس ويونان ومن هذه الأساطير؟ أستغفر الله، وتعالى عمّا يقول الكافرون علوّاً كبيراً. وإذا لم يكن القرآن كتابَ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا من جهة فارس ولا من جهة يونان، وكان من تصنيف محمد، وكان قد اقتبسه من آداب الأمم ومن أساطيرها، فكيف خفي ذلك على أسلافك من أنصار حرّية الفكر، أعني حرّية الكفر، من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة وكل عدوّ للإسلام خصيم للقرآن، فلم يؤلّف فيه أحد ولم يُثبِته، حتى جاء تلميذك هذا فكتبه لتكافئه الدولة على كفره بدينها الرسمي وطعنه بقرآنها بإعطائه شهادة الدكتوراة، وتسليمه أبناءَ المسلمين

ليلقّنهم هذه الآراء على أنها علم وفضل، وأن الذي لا يحفظها ويُعيدها يوم الامتحان يرسب في صفّه إن طفا الطلاّب (طفا ضد رسب)؟ وحرّية الفكر ... ما حرّية الفكر يا هذا؟ كيف تفهمها؟ أكلما طاف برأسك طائف من هوى أثبتّه على الورق وخرجت به مزهوّاً على الناس، وقلتَ هذه حرية الفكر؟ أما إنه ليجيء في فكري أنا الآن كلام عنك، لولا أني لم أعرض هذه المقالة على الأستاذ الزيات وأني أخاف أن يغضب إن حططتُ بثقلي عليك لقلته، فما تركتك تستطيع أن تمشي في الجامعة أو تتراءى للطلاب. فارتقبه، فكل شيء له أوان، وما أنت بمعجز الله في الجامعة وقد أهلك فرعون وهامان وأبا جهل. وما لك تكره أن أسبك بعلم وتسبّ أنت الله عَدْواً بغير علم؟ ولا تحبّ أن أقول في كتابك الذي ألّفتَه كلمة الحق وتقول أنت في كتاب الله كلمة الباطل؟ وما لك لا تجرؤ أن تقول لواحد من هؤلاء الكتّاب أخرجَ كتاباً تلقّاه الناس بالقبول: إنك تكذب، وتنسب الكذب إلى الله المنتقم الجبّار؟ أغرّك -ويلك- حلمه عنك وأنه مدّ لك حتى صرت تُعطي الدكتوراة وأنت لم تأخذها، وتمنح العلم وأنت لا تملكه، وتؤلّف في البلاغة وما أنت منها في شيء، ولا أُثر عنك بيان غطّى على بيان الجاحظ وأبي حيان ولا الرافعي والزيات، ولا أنت صاحب شعر ولا نثر، وقصارى أمرك أنك أُدخِلتَ على طلاب لا يفهمون من البلاغة شيئاً فمَخْرَقتَ عليهم وزعمت لهم أنك إمامها وأنك مؤذّنها وخطيبها وأنك بوّاب جامعها، ورأيتَ أنهم صدّقوا قولك فادّعيت أنك باني

مسجدها ورافع منارتها؟ ولو أنت ادّعيت النبوّة فيهم ما وجدت منهم من يكذّبك أو يكفر بك ما داموا يأخذون منك الدرجات في الامتحان، ثم يخرجون كما دخلوا، لا أنت علّمتهم ولا هم تعلّموا منك. وكيف يتعلّمون وقد جعلتَ دروس البلاغة عيّاً والفصاحة عامّية، وكانت دروسك ذلك الخزي الذي نشره في «الرسالة» الأستاذُ علي العماري فكان تسلية لقرّاء «الرسالة» وفكاهة، ضحكوا عليك به شهراً؟ لقد كان كفراً مبتكَراً منك حين زعمتَ في تلك الدروس أن الله قال لمحمد: «يا أخي»، فكيف قعدَت بك القريحة اليوم فلم تأتِ إلاّ بكفر عتيق قيل في مصر من عشرين سنة، وقيل في مكّة قبل الهجرة، فكان سخرية الأولين والآخرين؟ ولقد بعثتَ يومئذ مَن يدافع عنك في «الرسالة»، فلم يبلغ به دينه وأدبه مع الله ولا علمه ولا بلاغته ولا معرفته بتصريف الكلام إلاّ أن يحتجّ على جواز زعمك أن الله قال لمحمد «يا أخي» بقول الحمّار لحماره «يا أخي»، ولم أردّ عليه لأني لم أكن أعرف قبل أن أسمع ردّه هذا شيئاً من لغة الحمير والحمّارين ولا قواعد المناظرة في لغاتهم. وبعد، فما أريد اليوم الردّ على هذين الرجلين ولا تأديبهما؛ إنما أردتُ تنبيه رجال المعارف في المملكة (كانت جمهورية مصر مملكة) التي دينها الرسميّ الإسلام وعميد الكلية فيها العربي المسلم الذي اسمه الدكتور عبد الوهاب عزّام، إلى هذين المدرّسَين يُعلِنان الكفر بالله، والطعن في القرآن، والإهانة لكل مسلم يرى في مصر دار الأزهر ومثابة العلم، وهما يأخذان

أموال الأمّة ليلقّنا أبناء مصر وأبناء الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب وكل بلد يبعث بأبنائه إلى هذه الجامعة مثلَ هذه الكُفريّات التي يعتقدانها، ويكتبانها ويُصرّان عليها ولا يخافان فيها الله ولا الحكومة، ولا العلماء ولا العامّة. وأنا أرقب ما تصنع وزارة الأوقاف وما يصنع الأزهر وعلماؤه، لأستخير الله فيما أصنع أنا بعدُ، وما يصنعه هذا القلم الضعيفُ في نفسه القويُّ بالله وبدينه وبقرآنه. وما بسيفي أضرب، ولكن بسيف محمد. * * * أنا أخجل أن أقول (وإن كان الذي أقوله حقيقة يعرفها كل من عاش في مصر في تلك الأيام وكان يهتمّ بالأدب والأدباء) أخجل أن أقول إن هذه المقالة كان لها دويّ عظيم وأثر بالغ، حتى إن الناس كانوا يفتّشون على عدد «الرسالة» ويدفع طالبه فيه عشرة أضعاف ثمنه فلا يلقاه. وقد تبيّن للناس أن أهل مصر تنطوي قلوبهم على الإسلام وأنهم يغضبون لله ولرسوله، ولا سيما في جامع الأزهر، في مدرّسيه وتلاميذه. وصدر عدد «الرسالة» يوم 14 ذي القعدة 1366 وفيه مقالة للأستاذ علي العمّاري يعلّق فيها على مقالة لي عنوانها «مستقبل الأدب» تناولتُ فيها بشيء من الحسرة والألم ضَعف الطلاّب في العربية، والمقالة تتصل بهذا الموضوع. ثم كتب الأستاذ خلف الله نفسه مقالة أرادها دفاعاً عن نفسه فجاءت توريطاً لها وجاءت ذنباً جديداً يؤاخَذ عليه، وردّ عليه مشرف فصل «الأدب والفنّ في

أسبوع» في عدد 21 ذي القعدة. وسعيت حتى وصلت إلى نص التقرير الذي قرّره الأستاذ أحمد أمين في رسالة القصص الفني في القرآن فنشرتُه في «الرسالة»، وهو: حضرة صاحب العزّة عميد كلية الآداب، تحيّة واحتراماً. قرأتُ الرسالة المقدَّمة من محمد أفندي خلف الله لنيل الدكتوراة وموضوعها «الفنّ القصصي في القرآن»، والتي تفضّلتم فأحلتموها عليّ لقراءتها وإبداء الرأي فيها. وقد وجدتُها رسالة ليست عاديّة بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفنّ من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ والواقع، وأن محمداً فنان بهذا المعنى. وعلى هذا الأساس كُتِبت كل الرسالة من أولها إلى آخرها. وأرى أن من الواجب أن أسوق بعض الأمثلة التي توضّح مرامي كاتب الرسالة وكيفية بنائها. يرى أن القصّة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي وإنما تتجه كما يتجه الأدب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد مثل أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته. بل قد تكون القصّة مخلوقة مثل {إذْ قالَ اللهُ يا عيسى بنَ مريمَ أأنتَ قُلتَ للنّاس} ... (الصفحة 14 وما بعدها)، الإجابة على هذه الأسئلة التي كان يوجّهها المشركون للنبي ‘ ليست تاريخية ولا واقعية، وإنما هي تصوير لواقع نفسي عن أحداث مضَت أو أغرقَت في القدم، سواء كان ذلك الواقع النفسي متفقاً مع الحقّ والواقع أم مخالفاً له (ص 28)، والقرآن

يقرّر أن الجن تعلم بعض الشيء، ثم لمّا تقدّم الزمن قرر القرآن أنهم لا يعلمون شيئاً (ص 29) والمفسّرون مخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجدّ (ص 30)، إلخ. وقد سرد الأستاذ أحمد أمين نماذج من هذه الرسالة كلها تفصّل هذا الإجمال الذي أجمله، وتنفي الصدق والأمانة عن القصص القرآني. وعاد صاحب الأطروحة فكتب في «الرسالة» (عدد 28 ذي القعدة 1366) مقالاً يؤكّد فيه ما ذهب إليه وما قاله في أطروحته، فعلّقتُ عليها في باب البريد الأدبي من هذا العدد بكلمة عنوانها: «إلى خلف الله العامري» وقلت في الحاشية: واسمه الربيع الذي قال فيه الشاعر: شهِدتُ بأنَّ اللهَ حقٌّ تُقاؤُهُ ... وأنّ الربيعَ العامريَّ رقيعُ ووضعتُ مكان كلمة «رقيع» كلمة «فهيم»، قلت فيها: يا «أستاذ ... !»، لقد أغمدتُ سيفي ولويت وجهي عن الميدان، لأنك أصبحتَ أعزّ عليّ من أن أجرّد في وجهك سيفاً أو أثير عليك حرباً، وكيف وأنت رجل خيّر فاضل «لستَ منَ الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا»، وأنت تُنصِف من نفسك وتنال منها ما لا يناله منك الخصم العنيد، وتكتب عنها بقلمك ما لا يكتبه العدوّ اللدود. وقد تعلمتُ منك أشياء كنت أجهلها. تعلّمت منك كيف يكون العذر أقبح من الذنب حين قرأتُ لك ما كتبتَ تعتذر له من ذنبك، وتعلّمت كيف يفهم بعض

«العلماء!» من الكلام ما لا تدلّ عليه ألفاظه ولا يفيده نَظْمه ولا يمكن أن يخطر على بال كاتبه، وكيف تبلغ الفطنة (...) ببعض «الأذكياء» أن يريد أحدهم الشيء فينطق بضدّه ويعمد إلى تبرئة نفسه فيوبقها. قلتَ، فضّ الله فمك: "والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجوّ القرآني لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية. وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يُستثار، ذلك أن ما قرّرناه من صلة بين التاريخ والقصّة يعتمد على ظاهرات في القصص لُوحظَت حديثاً وقُرّرت على أنها بعض التقاليد الأدبية. الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد. على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء، إذ لكل قاصّ مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار، ولن يقرّر ما في القرآن من قيم إلاّ واقعٌ أدبي التزمه القرآن نفسه، أو على أقلّ تقدير حرص عليه. وهو قول له وجاهته فيما نعتقد، ثم هو يُلزِمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعه العملي". انتهى بنصّه وفصّه وألفاظه وحروفه. وأحلف لقد قرأته خمس مرات متتاليات فلم أفهم المراد منه، لأنه أرفع من أن يصل إليه فهمي أو يطوله علمي! ولقد كنا في الكفر بالدين وحده فصرنا الآن في الكفر بالدين والكفر بالعربية! أفبمثل هذا الأسلوب تريد أن تكتب عن القرآن؟ أم هذه هي البلاغة الجديدة التي هبط بها الروح «الأمين» على قلب أستاذك نبي البيان في آخر الزمان؟ هذا كلامك لا يفهمه الناس، فهل تفهم أنت كلامهم؟ لنرَه:

نقلت من تفسير «المنار» قولَه إن الله أنزل القرآن هدى وموعظة وجعل قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة، لا تاريخ شعوب ومدائن ولا تحقيق وقائع ومواقع. فلم تفهم من ذلك إلاّ أن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وإذا كان يروي أخبار الماضين ولم يكن تاريخاً فما هو إلاّ قصّة كقصص إسكندر دوماس وتوفيق الحكيم، ودوماس لا يؤخذ من قصصه التاريخ لأنه لم يكتبها له ولم يحرص فيها على حقائق، فقصص القرآن كذلك. أرأيت؟ فلماذا تُتعِب نفسك فيما لم تُخلَق له؟ وهل تظنّ أنك تفهم كلام الله وأنت لم تفهم كلام عبدِه (أي الشيخ محمد عبده)؟ ثم قلت: "على أن هذه المسألة (أي مسألة كون قصص القرآن صحيحاً أو أسطورة) قديمة، ومن أجلها عدّ الأصوليون القصص القرآني من المتشابه. وقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير: طريقة السلف وطريقة الخلف. أمّا الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقعت، وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا (أي لا يقولون أن كل ما ورد في القصص القرآني قد وقع) وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام". مسكين أنت يا أيها الأستاذ الإمام! لقد صرتَ عند هذا العامري إماماً في تكذيب القرآن وفي الكفر بالرحمن. ومساكين أنتم أيها الأصوليون. وكل شيء إلاّ الأصول من فضلك! ما لك وللأصول؟ ولماذا تهرف بما لا تعرف حتى تُطلِق الألسنة بغيبتك؟ ومن قال

لك إن الأصوليين يَعُدّون القصص من المتشابه؟ وهبهم قالوه، أفتدري أنت ما المتشابه؟ وفي أي كتاب رأيت هذا؟ ومن أي عالِم سمعته؟ أما كان خيراً لك لو اشتغلت فيما تُحسِن وتركتَ لغيرك التدليل على أن قصص القرآن أساطير كأساطير هوميروس وروايات كروايات دوماس، ما دام غرضك -كما تقول- غرضاً دينياً، وهو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين؟ لا والله ما غرضك إلاّ الشهرة، ولن أكون عوناً لك عليها بعد اليوم. * * * وامتدّت القضية حتى انتقلت إلى جبهة علماء الأزهر، التي رفعَت مذكرة إلى الملك ورجال دولته وقّع عليها رئيس الجبهة الشيخ محمد الشربيني والأمين العامّ لها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني. وقد جاء فيها أنه مضى على نشر نبأ هذه الرسالة وقت يسمح بتكذيبه لو كان كاذباً، لكن أحداً لم يكذّبه، لا المؤلف ولا المشرف عليه ولا عمادة كلية الآداب التي جاء في الخبر أنها تنتظر حتى ينعقد مجلس الكلية. وذلك يدلّنا على أن الأمر خطير يجب الإسراع بعلاجه، لأنه وباء جديد أشدّ فتكاً وأفزع فتكاً من وباء الكوليرا في هذه الأيام ... (إلى أن قال): وقد أرسل مقدّم الرسالة إلى صحيفة «الإخوان المسلمون» يقول إنه مستعدّ لأن يُشعِل النار بيديه في رسالته على مشهد من الأساتذة والطلاّب إن ثبت أن فيها ما يخالف الدين الذي استمدّت أصوله من القرآن، إلخ. وأرسل السكرتير العامّ للجامع الأزهر والمعاهد الدينية كتاباً

رسمياً إلى سعادة عميد كلية الآداب يسأل فيه عما تم في مسألة رسالة القصص الفني في القرآن، ويقول فيه: وإنه ليهمّني أن أقف على حقيقة هذا الموضوع، لأن من أخطر الأمور أن تتعرض قداسة القرآن وكرامة العقائد لمثل هذه التخرصات. وكتب الأستاذ عبد الرحمن بدوي مقالات قيّمة في هذا الموضوع منشورة في «الرسالة»، وكتب غيره كثير. ثم كتبتُ بعنوان «الكلمة الأخيرة» في «الرسالة» (عدد 30 ذي الحجة 1366)، وهذه هي الكلمة: كتب سكرتير الأزهر إلى عميد كلية الآداب الدكتور عزام يسأله عن حقيقة ما قيل عن رسالة القصص الفني في القرآن، فأجاب العميد بكتاب نُشر في الصحف وأذيع في الناس قال فيه: وحقيقة الأمر أن طالباً قدّم رسالة عن القصص الفني في القرآن لينال درجة دكتور، ردّتها لجنة الفحص، فهي رسالة بين طالب وأساتذته عرض عليهم رأيه فعرّفوه خطأه ... (إلى أن قال): وكاتب الرسالة -فيما أعرف عنه وكما يبدو من كتابته- شابّ مسلم قصد أن يدفع عن القرآن بعض شُبَه الملاحدة أو رجال الأديان الأخرى، فجاز رأيه عن القصد وحاد به اجتهاده عن سواء السبيل ... (إلى أن قال): وأرى الأمر لا يعدو أن يكون غلطة تلميذ اجتهد وأحسن النية، فرُدّ عليه رأيه ولم يؤذَن له أن ينشر هذا الرأي أو يتقدّم بهذا الكتاب إلى الامتحان. قلت: جزى الله صديقنا الجليل الدكتور عزام خيراً، فقد هوّن الخطب علينا حين عرفنا أن صاحب الرسالة ليس إلاّ تلميذاً

مخطئاً، وكنا سمعنا من قبل أنه مدرّس في الكلية، فكبر علينا أن يكون في الجامعة التي نرسل إليها أبناءنا، يقطعون البرّ والبحر ليَرِدوا مَعين علمها، مدرّس غاية جهده مثل هذه الرسالة. ولكني أريد أن أسأل الدكتور عن قوله: "وكاتب الرسالة فيما أعرف عنه وكما يبدو من كتابته شابّ مسلم". هل قرأ كتابته في رسالته فرآه يبدو منها شاباً مسلماً؟ أمّا أنا فقد قرأت الرسالة، وصلَت إليّ كما وصل إليّ تقرير الأستاذ أحمد أمين الذي نشرتُه في «الرسالة» ونقلتُ منها صفحات بحروفها. وأنا أؤكد القول أن ما نقلته منها لو قاله معتقِداً به أبو بكر وعمر لكفر به أبو بكر وعمر وصارا به أبا لهب وأبا جهل. وأنا قاضٍ شرعي أدري إذا تكلّمتُ عن الكفر والإيمان ماذا أقول وأُثبِته بالدلائل وأؤيّده بالنصوص، وأناظر فيه من شاء من أهل العلم أن يناظرني، لست كالأستاذ توفيق الحكيم الذي لبس الجبّة فجأة ولاث العمامة وتصدّر للفتوى في «أخبار اليوم» وما هو منها في شيء. ثم قلت ما خلاصته إني سألت الشيخين الجليلَين عبدالمجيد سليم ومحمود شلتوت عن صحّة ما نُسب إليهما في «أخبار اليوم» عن تبرئة الرسالة وصاحبها من الكفر فبيّنا لي أن ما نُشر عنهما غير صحيح، وقال الشيخ الأكبر الشيخ عبد المجيد إن الأقوال التي عزاها الأستاذ أحمد أمين في تقريره عن الرسالة كفر وإنّ معتقدها كافر، وأذن لي أن أنشر ذلك. * * * والقصة طويلة جداً، وقد اشتركَت فيها أقلام كثيرة وملأت

أعداداً متتالية من «الرسالة» تكاد تعدل ربع أعداد سنة سبع وأربعين. ثم انتهى الأمر أمام المحكمة، إذ رفعه إليها الشيخ أمين الخولي مشتكياً مني مدّعياً عليّ. وجئتُ فوجدت على باب المحكمة محامياً ينتظرني، بعث به إليّ الصديق الجليل مرشد الجيل، الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه. فشكرت المحامي وقلت له: أنا قاضٍ وعملي في المحكمة، وأستطيع أن أدافع عن نفسي، فلك الشكر وللأستاذ البنا جزاكما الله خيراً. وكانت ثلاث جلسات ازدحم عليها الناس كما يزدحمون على مسرحية من المسرحيات، ذلك أنها تحوّلَت إلى مثل «المِرْبَد» في البصرة الذي كان يجتمع فيه الشعراء يتهاجون. والشيخ أمين الخولي واسع الاطلاع كثير المحفوظ يعرف من أين يهجم على خصمه، وأنا -ولا فخر- لا أقِلّ عنه حفظاً وطول لسان واستحضاراً للشواهد والأمثال ... فلم تكن محاكمة ولكن كانت سوقاً أدبية، فيها أشعار تُلقى ونوادر وأمثال. وكان الناس يضحكون فيكفّهم القاضي وهو يستر وجهه بيديه، لأنه لا يملك أن يمسك ضحكه! وانتهت كما ينتهي أمثالها بأن ألزمني الحاكم بأن أنشر بياناً أُصلِح به ما أفسدت وأبرّئ به الشيخ ممّا اتهمتُه به، فكتبت في «الرسالة» (عدد 6 ذي الحجة 1366) هذه الكلمة وعنوانها «بيان»، قلت فيها: "قد يكره الكاتب رجلاً فيستغلّ المناسبات لهجوه والتسميع به، وقد يُنكِر الكاتب رأياً فيكتب في ردّه وينال بالضرورة من

صاحبه؛ أي أن من النقد ما يُراد به هجاء شخص بعينه، ومنه ما يراد به رفع فرية في العلم وردّ أذىً عن الناس. وأنا ما كتبت الذي كتبته لأنال من الشيخ أمين الخولي، الأستاذ في كلية الآداب، وما بيني وبينه صلة ولا معرفة ولم أرَ وجهه إلاّ مرّة واحدة منذ أسبوع، فلا يُعقل أن يكون قصدي تحقيره هو بذاته أو ذمّه والقدح به، فإذا فهم أحدٌ من الذي كتبتُه أنني أرمي إلى هذا فأرجو أن يصحّح فهمه، وأن يعلم أني لا أبخس عالِماً قدرَه ولا أجحد فاضلاً فضله. ولكن قصدي ممّا كتبت الدفاع عن الدين والعلم، قد وقفتُ على هذا قلمي ولساني. وإن كان في الدنيا مَن يخطر على باله أنه يستطيع أن يكفّني عنه أو يمنعني منه، بشكوى أو بدعوى أو بترغيب أو بترهيب أو باستبراء أو بعِداء، فإنه يمنّي نفسَه المُحال". وهكذا انتهت إحدى المعارك الأدبية التي خضتها في حياتي من أربعين سنة كاملة، وما كان أكثرها. * * *

أندونيسيا والإسلام

-172 - أندونيسيا والإسلام هذه الحلقة ليست من صلب الذكريات، ولكنها تجيء معها تأتي على هامشها، ولعلها أنفع للقرّاء وأجدى عليهم ممّا أسرده من ذكرياتي. أكتبها جواباً على أسئلة وردت عليّ لمّا قرأ الناس وصفي لأندونيسيا، أسئلة يقول مرسلوها: متى دخل الإسلام إلى أندونيسيا وما تاريخه فيها؟ وأنا أقول لكم الحقّ: لقد عشت ما عشت من عمري قبل أن أذهب إلى أندونيسيا وأنا لا أعرف شيئاً عن ذلك، لأن المستعمرين أوقعوا الفرقة بيننا حتى صار مَن في شرقيّ الأرض من المسلمين لا يكاد يعرف عمّن في غربيّها، والواجب عليهم أن يكونوا أسرة واحدة، إخوة متعارفين. ولقد جاءني مثل هذا السؤال لما عُدت من أندونيسيا، فأجبت عليه من إذاعة دمشق في حديث أذيعَ قبل أكثر من ثلاثين سنة. ولقد كنت أكتب يومئذ أحاديثي في الإذاعة فصرتُ ألقيها في الإذاعة وفي الرائي ارتجالاً، لا أُعدّها ولا أكتبها. قلت في مطلع ذلك الحديث (¬1): ¬

_ (¬1) انظر فصل «إسلام أندونيسيا» في كتاب «في أندونيسيا»، وهذه الحلقة منقولة عنه ببعض التصرف (مجاهد).

أحبّ اليوم أن تُولُوني المزيد من انتباهكم، فإن هذا الحديث صعب. حاولتُ أن ألخّص فيه حوادث ثلاثمئة سنة في خمس عشرة دقيقة، فما تسمعونه مني في الدقيقة الواحدة صرّم الدهرُ في تأليفه عشرين سنة. ولئن كان صعباً عليكم سماعه وتتبُّعه لقد كانت كتابته أصعبَ عليّ، لأني قرأت أكثر من ألف صفحة وسألت رجالاً كثيرين في تلك البلاد حتى قدرت على كتابة هذه الصفحات العشر. لا أقولها منّاً عليكم، فلكم المنّة إن استمعتم أمثال هذا الحديث وتركتم ما يُطرِب ويسلّي ممّا تذيع الروادّ، ولكن لتعرفوا قدر ما بذلته فيه. هذا الحديث عن دخول الإسلام ودخول الاستعمار إلى أندونيسيا، يتلوه حديثان من جنسه: حديث عن جهاد الأندونيسيين واستقلالهم، وحديث عن الأحزاب والجمعيات في أندونيسيا. على أني لا أستطيع أن أعرض عليكم من هذا كله إلاّ إشارات، لأن التفصيل في الكلام عن أندونيسيا يحتاج إلى كرسي مستقلّ في الجامعة وسنة كاملة ينقطع إليه فيها المدرّس والطلاّب. ويا ليت الجامعات في البلاد الإسلامية تجعل من موادّها تدريس اللسان الأندونيسي الذي يتكلم به أكثر من مئة وخمسين مليوناً من المسلمين في أندونيسيا وفي الملايا (ماليزيا)، واللسان الأردي الذي يتكلم به أكثر من ثمانمئة مليون في الباكستان والهند منهم مئة وخمسون مليوناً من المسلمين. وبعد، فكيف دخل الإسلام إلى هذه الجزر النائية حتى صار منها اليوم أكبرُ دولة إسلامية في الدنيا، وأكثرها ناساً، وأغناها

أرضاً؟ من أين وصل الإسلام إليها؟ ومتى دخلها؟ وكيف انتشر فيها؟ ما كنت أعرف ذلك ولا عرفت من يعرفه، ولقد نظرت في الكتب التي وصلَت إليها يدي فلم أجد فيها عن ذلك الخبر اليقين. ولمّا كنت في أندونيسيا عرضت على الدكتور سوبارجو، مستشار الخارجية الذي كان وزيرها سابقاً، أن يُمدّني بالمصادر الكافية للكتابة عن أندونيسيا، فنسي أن يفعل. وسألت السفارة الأندونيسية في مصر فلم تُجِب، مع أن هذه الدعاية التي قمت بها مجاناً من إذاعة دمشق قبل ثلاثين سنة وفي «الشرق الأوسط» اليوم تُشترى عادة بالأموال الطائلة، ولا أدري ما حُجّة القوم في هذا الإعراض. أقدم نصّ عربي وجدته هو ما كتبه الرحّالة المغربي ابن بطوطة، فقد وصل إلى سومطرة وسمّاها جاوة، جاءها من الهند بعد رحلة في البحر استمرّت أربعين يوماً. ويظهر أن اسم «جاوة» كان يُطلَق على مجموعة من الجزر، لأنه بعد أن تبيّن أنه وصل إلى جاوة صرّح بأن اسم المدينة التي دخلها سومطرة، ويبدو من كلامه أنها كانت في النصف الأول من القرن الثامن الهجري (أي نحو سنة 1350 ميلادية) عريقة في الإسلام؛ فالملك مسلم اسمه السلطان الملك الظاهر، وهو شافعيّ المذهب متفقّه، والعلماء كثيرون، والشعائر الإسلامية مُعلَنة، واللسان العربي منتشر ومفهوم، والشعب كله شافعي المذهب مقيم للصلاة متمسّك بالإسلام.

وقد وصف -على عادته- كيف قابل الملك ووصف ثياب القوم وأنها هذا الإزار (الفوطة) التي نراها اليوم، ووصف العادات والمُواضَعات وأنواع النبات، ولكنه لم يذكر شيئاً عن جغرافية البلاد وتاريخها واسم هذه المملكة وحدودها وصِلاتها بجيرانها. والذي يغلب على ظني أن الإسلام قد دخل إلى هذه الجزائر قبل أن يصل إليها ابن بطوطة بأكثر من قرن ونصف القرن، حمله إليها التجّار المسلمون من طريقَين: من بلاد العرب، ولا سيما من حضرموت (والحضارمة فينيقيّو العصور الحديثة، يضربون في كل لُجّ ويخوضون كل بحر ويوغلون في البلاد، ولا تزال جالياتهم تملأ أندونيسيا والملايا، أي ماليزيا)، ومن بلاد الهند، ولا سيما من كُجُرات على الشاطئ الغربي. بدأ الناس في شمالي سومطرة يدخلون في الإسلام أفراداً، ثم صاروا يدخلون فيه أفواجاً، ثم ألّفوا حكومة قوية هي مملكة أبتشيه التي زارها ابن بطوطة، والتي لبثَت تجاهد المستعمرين البرتغاليين أولاً ثم الهولنديين حتى قُضي عليها سنة 1904، أي بعد زيارة ابن بطوطة بأكثر من خمسمئة وخمسين سنة. واستمرّ هؤلاء التجار يحملون مبادئ الإسلام مع سلعهم وبضائعهم إلى كل مكان يصلون إليه، ثم قفزوا به قفزة واحدة من سومطرة إلى شرق جاوة، وكان الفضل في هذه النقلة لرجل اسمه إبراهيم (وقد مرّ الكلام عنه في هذه الذكريات لمّا زرت قرية كاراشيك) ومنها دخل سورابايا، ثم امتدّ إلى أطراف جزيرة جاوة؛ أي أنه مشى من الطرف البعيد عنّا إلى الطرف القريب منّا.

إن الإسلام كالنبع الصافي؛ كلّما ابتعدتَ عنه مياهه تعكّرَت وتلوّثَت، وقد وصل الإسلام إلى هذه الديار بعد أن ابتعد عن النبع، ابتعد في الزمان وفي المكان، وقد حمله تجّار لم يكونوا قطّ علماء منقطعين إلى العلم ولم يكونوا دُعاة متفرّغين للدعوة، ولم يكن همّهم نشر الإسلام إنّما كان همّهم الكسب والتجارة، ومع ذلك فقد انتشر الإسلام على أيديهم مثل انتشار النار في أكوام القش أو انتشار النور بين طيّات الظلام، حتى عمّ هذه الجزرَ فصار فيها اليوم أكثر من مئة وخمسين مليون مسلم، كانوا -لولا ما حاق بهم- من أكثر المسلمين حماسة للإسلام وحباً له وإقبالاً عليه، ولو كان علمهم بحقائقه كممارستهم له لكانوا خيار مسلمي الأرض. وكان من دواعي انتشار الإسلام إقبال هؤلاء التجّار على الزواج بالجاويّات. وهُنّ من أحلى النساء حلاوة وإن لم يكنّ من أجملهن جمالاً، حلوات كعرائس المولد في مصر التي تُصنَع من السكّر الهشّ الطري! لا تكاد تعمل فيهن الأيام، وهُن ذوات رقّة وطاعة للزوج وإخلاص للعشير، فوُلد من هذا الزواج جيل جديد ما عرف إلاّ الإسلام لأنه وُلد فيه ونشأ عليه، جيل يجمع مزايا الأبوين وسجايا الجنسين، هؤلاء التجّار المغامرين والنساء من أهل البلاد. وفي سنة 1450 ميلادية كان حادث غريب؛ فقد أحبّ الملك كرتا ويجايا، ملك جاوة الوسطى، الأميرةَ المسلمة أتشمبا، وسألها الزواج فأبَت حتى يُسلِم، فأسلم. وكان إسلامه فاتحة عهد جديد انتشر فيه الإسلام في جاوة الوسطى، ونشأت

إمارات إسلامية صغيرة، ثم اتحدت سنة 1511 وأعلنت الانفصال عن إمبراطورية ماجافاهيت، وتوالى عليها الملوك حتى جاء الملك فاني أونس القائد البارع، فقضى على هذه الإمبراطورية العظيمة سنة 1526 ميلادية. وفي السنة التي أسلم فيها ذلك الملك ليتزوج بالأميرة المسلمة نزل البرتغاليون تلك الجزر. جاؤوا تجاراً مُحاسنين، ثم طمعوا في البلاد فتدخّلوا في سياستها، ثم عمدوا إلى المخاشنة بعد المحاسنة. وبدأ عصر الجهاد، وكانت مملكة أبتشيه في قوّتها وعظمتها فلم تدعهم ينالون إلاّ أطراف السواحل والجزائر المُفرَدة البعيدة. ووصل الإسلام إلى جاوة الغربية التي فيها جاكرتا، وانتشر فيها وعمّ أهلَها. وأقام السلطان حسن مملكة بنتام الإسلامية، فصار في سومطرة وجاوة أربع دول مسلمة: أبتشيه في شمال سومطرة، وكراتشيه في شرق جاوة، ومَتارام في وسطها، وبنتام في غربها. وقامت بعد ذلك عشرات من الإمارات المسلمة في هذه الجزر المتباعدة التي يُعَدّ المسكون منها ثلاثة آلاف جزيرة. وما زال الإسلام يمشي إلى أطراف البلاد بلا دعوة داعٍ ولا سيف مجاهد، يمشي على قدميه بقوّته ومزاياه لا يحمله أحد، حتى قامت حكومة متارام، فنشرت راية الجهاد وسلّت السيف وأرادت نشر الإسلام في أطراف البلاد التي لم يكن وصل إليها، فكانت حروب متصلة وغزوات. ولم يكَد ينصرم القرن السادس عشر الميلادي حتى صارت

جاوة كلها مسلمة. بعد ذلك التاريخ -يا سادة- وصلت طلائع الهولنديين، وصلوا والبلاد كلها مسلمة وفيها حكومات قوية، والحروب والمنازعات متصلة بينها وبين البرتغاليين الذين مرّ على وصولهم إلى هذه البلاد نحو من قرن ونصف. وكانت الحرب قائمة في أوربّا بين هولندا وإسبانيا والبرتغال، فرحّب بهم أهل البلاد لمّا أعلنوا أنهم يريدون إنقاذها من المستعمرين البرتغاليين. ولم يعلموا أن الاستعمار كله نار، وأن الذي يفرّ من النار إلى النار لا ينجو من الحريق. نزل الهولنديون ضيوفاً يعتمدون على كرم الشرقي، يبسمون له لا ليسرّوه بل ليسحروه، ويصافحونه لا ليؤكدوا الودّ بل ليختبروا قوّة اليد، ويسألونه لا ليطمئنوا لحسن أخباره بل ليعرفوا المكنون من أسراره ... وهذه مقدّمة كتاب الاستعمار. ثم جاؤوهم بالسلع الأوربية، وما كانوا يحتاجون إليها ولا تقوم حياتهم عليها، ويأخذون ثمنها ثروات أرضهم وخيرات بلادهم ... وهذه هي تَتِمّة المقدّمة. فلما فرغوا منها فتحوا الكتاب، كتاب الاستعمار، وتلوا منه أول باب وهو باب المعاهدات. فعقدوا المعاهدة الأولى سنة 1600، فتعهّدوا لأهل البلاد بتحصين جزيرة أميونيا ودفع المستعمرين البرتغاليين عنها، إيماناً واحتساباً لا يريدون على ذلك جزاء ولا شكوراً، ما يدفعهم إلى ذلك إلاّ الحب للبلاد والرغبة في حفظ استقلالها وإنقاذها من المستعمرين البرتغاليين أعداء الجميع! ثم إنهم -خدمة لأهل البلاد- يَقبلون أن يحملوا على عواتقهم تصريف منتجاتها وشراء حاصلاتها، ينفردون بذلك

وحدهم لئلاّ يشاركهم أحدٌ هذا الشرف العظيم ... وهذا هو نفاق المستعمرين. وتتالت بعد ذلك المعاهدات كما تتالى الحلقات وتترابط، فيكون منها سلسلة طويلة هي قيد الحرّية ورباط الاستعمار. وجرّت الأرباح الطائلة الهائلةُ الشركاتِ الهولنديةَ فتنازعت مثلما تتنازع الضباع على الفريسة، وخاف العقلاء منهم أن يفوتها كلها الربح، وألّفوا منها جميعاً «شركة الهند الشرقية الهولندية»، فسارت على نهج شركة الهند الإنكليزية، وكانت حكومة وسط حكومة. وبدأت فصول جديدة في كتاب الاستعمار. وأعادت الشركة حكاية المعاهدات وحماية البلاد من البرتغاليين: ذئب يحمي النعجة من الذئب ليكون لحمها له وحده دون أخيه في الذئبية! ولكن البلاد لم تصِر في ذلك العهد نعجة بعدُ، بل هي غابة آساد ولكنها متفرقة متنازعة، ثم إن أكثرها نائم يحلم وسط الغاب، وهذه هي علّة العلل في الشرق: النوم والغفلة والانقسام والتنازع، ولولاها ما ملك أجنبيٌّ من أرض الإسلام شبراً واحداً. ومشى الاستعمار في طريقه مرحلة أخرى، فاستأذنَت الشركة أن تقيم على السواحل مخازن لتجارتها لتحميها من المستعمرين البرتغاليين (دائماً الحُجّة هي دفع المستعمرين البرتغاليين). وأذنَت بذلك الممالك الأندونيسية، فامتلأت السواحل بحصون هولندية قوية، فيها الجند والعتاد ولكن اسمها الرسمي مخازن الشركة، وليس فيها رسمياً إلاّ البضائع المعَدّة للشحن.

ومشى الاستعمار مرحلة أخرى، بل مراحل كثيرة في شوط واحد، حين جاء بالقائد الصلب القاسي والسياسي الذكي البارع «كون»، الذي حفر للاستعمار الهولندي في أندونيسيا الأساس وأرسى الدعائم ورفع الأركان، وسار به شوطاً كبيراً لم يصله مَن كان قبله. فقد كان للشركة الفروع الكثيرة والمخازن التي أنشأتها وجعلتها قلاعاً، فاستأذن حكومة بنتام في إقامة مركز عامّ للشركة، فأذنت له ولم تدرِ أن هذا المركز سيكون عاصمة البلاد ومقرّ الاستعمار، ومبعث النار التي تأكل الحرّية والاستقلال. وفي احتفال ضخم أطلق على مدينة جاكترا (جاكرتا اليوم) اسم «بتافيا» الهولندي وفتح للهولنديين باب الهجرة إليها، وأرضى أصحاب الأراضي من الزعماء واستغلّ عمل العمال بما يشبه السخرة المجّانية. وجاء الإنكليز البلد لمّا رأوا هذه الخيرات ينازعون كون هذا، وغلبوه عليه، فعاد بعد شهور واستردّ ما أُخذ منه وطرد الإنكليز. ثم سفرت هولندا عن وجهها وخلعت هاتيك البراقع التي كانت تغطيه والتي رسمَت عليها البسمات الكاذبة، وأقبلت مستعمِرة فأسّست سنة 1617 أول مدرسة هولندية، وفي سنة 1624 أول كنيسة هولندية: تستغلّ العِلم والدين للاستعمار. ووضعَت للبلاد دستوراً غريباً عن معتقداتها وعاداتها هو دستور بتافيا، وبدأ النزاع وقامت الثورات والحروب. وكان ميزان الاستعمار يرجح تارة ويطيش تارة، تبعاً للحالة السياسية في أوربا. فلما احتلّ نابليون هولندا سنة 1795 تألفت

حكومة هولندية باسم «جمهورية بتافيا» بقيَت إلى سنة 1806، أذاقت الأندونيسيين ألوان الأذى وسخّرتهم وأرضَهم لمصالح تجارها. وفي سنة 1811 سيطرَت على البلاد شركة الهند الشرقية البريطانية، وكان بطل الموقف القائد الإنكليزي الشهير رفلس الذي ذكرتُه لمّا تكلمت عن سنغافورة، فأصلح في الإدارة وكان حُكمه أخفّ أذى. ولمّا هُزم نابليون عادت البلاد إلى هولندا، فأصدرَت قانون الزراعة الذي غصبت فيه خيرات البلاد كلها (كما تصنع الآن إسرائيل في فلسطين) لتعوّض ما فقدَته من أموال في حروب نابليون، وكانت مجاعات مات في إحداها مئة ألف في سيمارنج فقط ما بين تشرين الأول (أكتوبر) 1849 وآذار (مارس) 1850. * * * مرّ الاستعمار الهولندي في أندونيسيا بأربع مراحل: فمرحلة امتدّت مئتَي سنة، من 1600 إلى 1816، كان الهولنديون فيها تجاراً مغامرين، يتوسلون بالحيلة أحياناً والقوّة حيناً إلى امتلاك أطراف البلاد والسيطرة على ملوكها بالمعاهدات واستلام خيراتها، وهم يتقدمون خلال ذلك إلى الأمام، كل يوم يدخل عليهم يزيدهم تمكّناً ونفاذاً، حتى ملكوا أكثر جاوة وأطراف سومطرة وكثيراً من الجزر الصغار. ومرحلة من 1850 إلى 1904 كانت مرحلة تأسيس وتوطيد، وجمع المال من كل طريق، والإيقاع بين الملوك والتزلّف بالحيلة إلى قويّهم والسيطرة بالقوة على ضعيفهم.

ومرحلة من 1904 إلى الحرب الأولى، كانت مرحلة تغلّب وظفر، فقد تمّت السيطرة على أكثر الملوك والحكومات، فمنهم من استسلم فبقي له اسم بلا حكم وكيان بلا سلطان، ومنهم من حارب وحده فغُلب. وكان الذي مكّن للمستعمرين أمورٌ فيها عبرة لنا جميعاً، عبرة لمن يريد أن يعتبر بغيره، أولها: هذا التفرّق والانقسام؛ لقد كان في كلّ جزيرة دولة لها علَم ولها جيش، مع أن اللسان واحد والدين واحد والأرض واحدة، وما من داعٍ لهذا التعدّد إلاّ خوف الحاكمين على سلطانهم. والثاني: أن الأرض كان أكثرها ملكاً للزعماء والناسُ يعملون كالدوابّ فيها، تَشبع الدواب وهم لا يكادون يشبعون، فلما استمال المستعمرون هؤلاء الزعماء اتخذوهم سَوطاً فضربوا به الناس، حتى إذا أمنوا الناس عادوا إليهم فضربوهم هم بسوطهم. والثالث: هذه الحرب الاقتصادية المنظَّمة التي لم تكن تعرفها تلك النفوس الطيّبة التي لا تزال على الفطرة. أضرب عليها مثالاً واحداً: لمّا ازدهرت صناعة الدخائن (السجائر) الوطنية سنة 1933 وأقبل الناس عليها، جاءت الشركات الأجنبية فاشترت كل ما أنتجته المصانع الأندونيسية فوضعوه في مخازن أعدّوها له، وأمرّوا عليه غازات كيميائية تُفسِد طعمه ولا تبدّل شكله، ثم عرضوه في الأسواق. فلما أخذه الناس أصابهم منه السعال والمرض فضاعت ثقتهم بالمصنوعات الوطنية وأعرضوا عنها حتى ماتت وأغلقت معاملها.

والرابع: المستشرقون، أو واحد منهم على التخصيص هو أسنوك هورغرونيه، الذي أعلن أن سرّ قوّة هذه الأمّة هو الإسلام وأنه لا يمكن قهرها إلاّ بمعرفة هذا السرّ. وقد حقّق بنفسه ما أعلنه فادّعى الإسلام وتعلّم العربية، ودرس في الأزهر وذهب فجاور في مكّة حتى صار من العلماء في الإسلام والعربية، ثم دخل مملكة أبتشيه عالِماً مسلماً وعاش فيها يدرّس ويعلّم ويخطب ويؤم الناس، وعينه تلحظ كل شيء وقلمه يسجّل، حتى أخرج للناس هذه الكتب التي تُعَدّ المورد الأقرب لكل من يكتب عن هاتيك البلاد والتي كانت لهولندا أكثر من جيش، لأنها صنعت ما لم تصنعه الجيوش حين جعلت منها ومن صاحبها دليلاً في حرب المسلمين في أندونيسيا. والخامس: فتح الباب للمهاجرين الأجانب من هولنديين وصينيين وسيطرتهم على مرافق البلاد وامتلاكهم موارد خيراتها. وهم قوم مستثمرون لا يهمّهم إلاّ الكسب، فهم بذلك عون لأن الاستثمار حلف الاستعمار. وقد بلغت رؤوس أموال الشركات الأجنبية في أندونيسيا سنة 1937 ثلاثمئة وسبعين مليون جنيه، منها مئتان وخمسون مليوناً للهولنديين. ولمّا زرت أندونيسيا سنة 1954 كان أكثر مرافق البلاد من مطّاط وسكّر وغيرهما لا تزال في يد هذه الشركات. * * * على أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شرّ محض، وما من مصيبة لا تجرّ نفعاً. ولقد كان من منافع الاستعمار (وهو شر وضرّ)

أن أدخل في البلاد زراعات جديدة وصناعات، وأنه وحّدها بعد أن كانت متفرّقة، ولقّنها دروساً أحسنَت الاستفادة منها، وأطلعها على سرّ الحضارة الأوربية فذهبَت جِدّتها وبطل سحرها لمّا عُرفت حقيقتها. ولم يهدأ الأندونيسيون سنة واحدة خلال هذا العهد الطويل، ولم يستنيموا إلى الضيم ولم يستريحوا إلى المذلّة، بل كانوا يهبّون أبداً ثائرين في وجه الغاصب مدافعين عن حريتهم مجاهدين في سبيل ربهم ودينهم، ولكنها كانت ثورات فردية، كل يثور وحده ويقاتل وحده والآخرون ينظرون. ولو ثاروا جميعاً وقاتلوا جميعاً كما فعلوا أخيراً لتمّ لهم هذا الظفر بالاستقلال من عهد بعيد. وهذه من عِلَلنا المزمنة: باب مغلق يأتي كل منّا يدفعه فلا ينفتح، فيدعه ويقعد، ويأتي غيره فيجرّب وحده، ولو دفعناه جميعاً دفعة واحدة لانفتح لنا. ثورات وحروب لا أستطيع أن أحصيها، ولكن أذكر منها على سبيل المثال حروب حكومة بنتام من سنة 1619 إلى سنة 1628. هذه الحروب التي كاد أن يُكتب لها النجاح وطرد الواغلين في البلاد لولا تلك العِلّة، العلة ذاتها؛ فإنها لمّا قامت حكومة متارام القوية سنة 1628 تحارب هولندا لم يكن من بنتام إلاّ أن تركَت حرب المستعمرين ووقفت معهم على أختها في الدين والوطن متارام، مخافة أن تقضي عليها وتغلبها على أرضها! ومع ذلك فقد عادت متارام بالجيش الجرّار الذي يُعَدّ مئة ألف والذي لا تقف في وجهه هولندا ولا بنتام، ولكن الهولنديين لمّا

رأوا عجزهم عن حرب السيف عمدوا إلى حرب الغدر والمكر، فأحرقوا مخازن الرز وعنابر المؤن وتركوا هذا الجيش يهلك جوعاً ومرضاً. وفي سنة 1825 كانت الثورة الرائعة، ثورة العالِم المجاهد الصابر الأمير ديبانيكارا، وهو ابن همنوكوبوانا الثالث ملك متارام. وُلد في بلاطه سنة 1785، ولكنه اتصل من مطلع شبابه بشيخ ضاع مني اسمه الآن (لأني كتبته في ورقة فلم أجدها وأنا أكتب هذا الفصل)، فنشّأه على العلم والعبادة، ثم كرّه إليه حياة الفجور فتركها وذهب إلى دار له منعزلة فاعتكف فيها مقبلاً على القراءة والدرس، فحفظ القرآن ونظر في التفسير وقرأ التحفة لابن حجر وكُتُب الغزالي، وأقبل على النظر في التواريخ، فأخذ نفسه بإنكار المنكَر وإزالته بيده، فاعترضه أبوه، فأنكر على أبيه ما كان عليه من المنكَرات وألزمه باتباع سبيل الهدى، ولمّا خلا العرش بوفاة أبيه وأرادوه عليه أباه لأنه لم يرَ نفسه أهلاً لحمل أعباء الحكم. وهذه منقبة لا أعرفها لغيره، ولا أعرف في تاريخ أولياء العهود جميعاً رجلاً آخر رفض عرشاً لأنه لم يرَ نفسه أهلاً له إلاّ معاوية ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. ولمّا اشتدّ عسف الهولنديين وظلمهم لأبناء البلاد الذين كانوا يدعونهم الأقزام رأى الجهادَ واجباً عليه، فنشر رايته ودعا إليه، وكان ابن أربعين سنة. وبدأت المعارك بينه وبين الهولنديين في 20 تموز (يوليو) سنة 1824 واستمرّت خمس سنوات، وكان النصر له في جميعها، وكان قائداً بارعاً وفارساً لا يُشَقّ له غبار. وقتل من الأعداء خمسة عشر ألفاً ثمانية آلاف منهم

من الهولنديين، وعجزت عنه جيوش هولندا في المستعمرات فاستنجدوا بأوربا، فأنجدتهم بقوّة هائلة كسرها كلها، فأثاروا عليه الناس وجعلوا لمن جاء به حياً أو ميتاً مكافأة ضخمة، فما نفعهم ذلك شيئاً لالتفاف الناس حوله وتعلّقهم به، برغم أن أكثر الزعماء كانوا مع المستعمر. فلما ضاقت بهم السبل عمدوا إلى الغدر، فأعلنوا الرغبة في الاستجابة لمطالب الأمير ودعوه إلى المفاوضة، فلما جاء في شهر رمضان (8 شباط 1830) قبضوا عليه وأسروه. ولم يكونوا كراماً في أسرهم ولا نبلاء في ظفرهم، وأي نبل من غادر؟ فلم يرضوا منه بما عرضه عليهم من الانقطاع للعلم والتعليم، ونفوه إلى أقصى الجزر فبقي فيها سجيناً منفياً إلى 8 شباط 1855، أي ربع قرن كامل لا ينقص يوماً ولا يزيد يوماً. وكان في شبابه وفي كهولته وفي مُلكه وفي سجنه مثلاً كاملاً للعالِم العامل والمسلم الكامل، وكان يبدأ بنفسه وأهله في كل خير يدعو إليه؛ لمّا خرج إلى الجهاد قال لزوجته: اذهبي على بركة الله وفرّقي كل ما نملك في أسر المجاهدين. فأطاعت المرأة الوفية الديّنة أمر زوجها، وبدأت بحليّها فقسمتها في زوجات المجاهدين. ولمّا خرج أحرق الهولنديون داره، فرآها من بعيد تتوهج نارُها تأكل ماله وفرشه وكتبه، فقال لعمّه: انظر يا عمّ، إن منزلنا يحترق. لم يبقَ لنا على ظهر الأرض منزل، فلنتّخذ منزلاً في الجنّة.

ومشى يدفع دمه ثمناً لذلك المنزل. كانت ثورة هذا الأمير في أواسط جاوة، على حين كانت في سومطرة الغربية ثورة أخرى، ثورة لله وللإسلام وللحرّية أضرم نارها «قوم بدري» (أي «الجمعية الغرّاء»، لأن «بدري» معناها الأغرّ أو الأبيض باللسان الملاوي (الماليزي)، وقوم أي «جماعة»)، وهم جماعة من طلبة العلم كانوا يتّخذون الثياب البيض فعُرفوا بها، اجتمعوا على إنكار المنكَر والأمر بالمعروف، حتى إذا استجاب لهم الناس ألّفوا «اتحاد الثمانية»، وهم ثمانية علماء من أرباب السطوة والنفوذ. وأعلنوا الجهاد، وكان قائدهم الشيخ مصطفى سحابو يُعرف باسم إمام يونجول، وحاربوا الهولنديين حرباً متصلة ستّ عشرة سنة، من سنة 1831 إلى سنة 1837، لم تنطفئ نارها حتى أُسر هذا الشيخ المجاهد بحيلة احتالوا عليه بها ونُفي إلى أقصى الأرض، وبقي في الأسر سبعاً وعشرين سنة حتى توفّي سنة 1864. أما الحروب الهائلة التي كلفت الهولنديين ملايين الروبيّات وعشرات من آلاف الرجال فهي حرب حكومة أبتشيه العظيمة التي سمعتم خبرها، فقد اتصلَت معاركها الحمر ووقائعها الغرّ واحداً وثلاثين عاماً، من سنة 1873 إلى سنة 1904. أما التشكيلات الحديثة، منذ ألّف الحاجّ عمر سعيد جوكرو آمينوتو أولَ حزب إسلامي، وهو «شركة إسلام»، وما كان من أمر الاحتلال الياباني والجهاد والاستقلال فسيأتي خبره إن شاء الله في الحلقتين التاليتين. * * *

أندونيسيا بين عسف اليابانيين ونكث البريطانيين

-173 - أندونيسيا بين عسف اليابانيين ونكث البريطانيين بعثتُ بالحلقة الماضية إلى الجريدة على خجل واستحياء لأنها ليست من الذكريات بل صفحة من التاريخ، فبدا لي بعد نشرها أنها لقيَت بحمد الله من قَبول القُرّاء أكثر ممّا كانت تلقى الذكريات؛ ذلك لأنها تنشر تاريخاً مطويّاً تذكّر به من نسيه من الناس، وأكثر المسلمين قد نسوا تاريخهم أو هم لم يعرفوه. أرسل إليّ كثير وهتف بي كثير، يطلبون أن أسرد عليهم كل الذي أعرف من تاريخ المسلمين في تلك البلاد، ليكون المسلمون على بينة من تاريخ إخوانهم، وليستعين بما أكتب مدرّسو التاريخ والمتكلّمون في حاضر العالَم الإسلامي. * * * وجدت كلاماً عن الإسلام في أندونيسيا سابقاً لِما جاء في رحلة ابن بطوطة، هو ما ذكره الرحّالة الإيطالي ماركو بولو الذي زار شمالي سومطرة سنة 1292م، إذ قال إن سكان هذه المملكة مسلمون.

وقد اكتُشف حجر في مقاطعة ترنشانو بشبه جزيرة الملايو (وهي تُكتب الملايا تارة والملايو تارة، لأنهم يلفظونها بين الألف والواو)، وعلى هذا الحجر كتابة باللغة الملاوية وبالرسم العربي فيها أن حاكم هذه المقاطعة قد أمر رعاياه باتباع الإسلام، وفيه ذكر لبعض أحكام الإسلام بالاختصار، وتاريخ هذا الحجر «يوم الجمعة ... شهر رجب سنة السرطان بعد عصر الرسول ‘ بسبعمئة واثنين ...» غير أنه لم يُعرف ما هو العدد المكتوب بعد رقم اثنين لأن الجزء الباقي من الحجر مفقود. أي أن تاريخ دخول الإسلام إلى أندونيسيا كان بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلادي. وممّا وجدت عن بداية دخول الإسلام إلى أندونيسيا أن السلطان محمد سلطان ملابار، إحدى الولايات على الساحل الغربي الجنوبي من الهند، تنازل عن العرش لابنه الأكبر ولبس ثياب الزهادة والتصوّف وأبحر على ظهر سفينة إلى ميناء سيمودرا على الشاطئ الشرقي الشمالي من جزيرة سومطرة، فقابل أميرها وعرض عليه الإسلام، فأسلم ونودي به ملكاً عليها باسم «الملك الصالح». هذا الملك، واسمه ميراسيلو، كان أول من نطق بالشهادتين من ملوك تلك البلاد، وبقي إلى أن توفّي سنة 1297م والإسلام لم يتجاوز بعدُ حدود مملكته. وفي الكتب الجاوية أن سلطاناً مسلماً بجاوة هو السلطان عبد الفتاح، كان من خبره أن الملك براويجايا الخامس، آخر ملوك ماجاباهيت، كانت له جارية حملت منه، فخشي أن يُفتضَح أمره فبعث بها إلى ابنه حاكم فيلمبانغ وأهداها إليه، فلما وصلت

الجارية تزوّجها ابنه حاكم فيلمبانغ بعد أن ولدت مولوداً للملك. وترعرع الصبي في كنف هذا الأمير، حتى إذا بلغ أشده أفضى إليه بالسرّ وأن أباه هو ملك ماجاباهيت الجاوي البوذي، وأوصى له بالمُلك بعد وفاته وحفظ الوصية عند أمه، فلما كبر أطلعَته عليها. وقدم البلادَ أحدُ الدعاة السابقين إلى الإسلام في طريقه إلى جاوة، وهو علي بن إبراهيم (الذي عُرف أخيراً باسم سونان أنبيل) فاستقبله أميرها وأكرمه وأسلم على يديه، وأسلم ذلك الشابّ ابن ملك ماجاباهيت، وسمّاه الداعية «عبد الفتاح» راجياً أن يكون الفتح على يديه. وكان الداعية علي بن إبراهيم يمتّ بقرابة إلى ملك ماجاباهيت لأن الملك تزوّج إحدى أميرات كمبوديا (كمبوتشيه) بالهند الصينية، وهي خالته، فأخذ عبدَ الفتاح معه إلى ملك ماجاباهيت فاستقبله استقبالاً حسناً وأكرمه إكراماً عظيماً. وبدأ ينشر الدين فأسلمَت خالته، أي زوجة الملك. وجمع الملك كبار رجال الدين فشاورهم في أمر هذا القادم ودينه الجديد، فقرّروا أن يباحثوه فيما جاء به، وكانت مناظرة هادئة استجاب له بعدها من استجاب وأصرّ على دينه القديم من أصرّ. واهتمّ الملك بالداعية علي بن إبراهيم فولاّه على بلدة أنبيل بسورابايا، فسُمّي بعد ذلك «سونان أنبيل»، وولى الملك ابنه عبد الفتاح على بلدة بنتارة التي أطلق عليها اسم ديمك، بعد أن صارت عاصمة الدولة الإسلامية الأولى في جزيرة جاوة. فكان

عبد الفتاح هذا أولَ ملك مسلم في جاوة، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. وأُسّست في مَلَقة (مَلاقاة) دولة إسلامية كان أول سلطان من سلاطينها هو راجاكنشيل، الذي أسلم وعُرف بعد إسلامه بالسلطان محمد شاه، وهو الذي أسّس الدولة المَلَقية الإسلامية سنة 1409م، وفي عهده كثر مجيء تجار المسلمين من الهنود والعرب والفرس إلى مَلَقة، وبقي إلى أن مات سنة 1411 فتولّى ابنه الأمير قاسم الحكم ولُقّب بالسلطان المظفّر شاه الأول، وكان دائب العمل على مصالح شعبه. وبعد وفاته خَلَفه ابنه المشهور السلطان منصور شاه، الذي اتّسعَت حدود الدولة الإسلامية في عهده حتى وصلت إلى بروناي شمال بورنْيو (التي دُعيَت الآن باسمها القديم كَلامَنْتان). وازداد انتشار الإسلام في البلاد لأن السلطان رغم انشغاله بالفتوحات الحربية لم يهمل نشر الإسلام والدعاية له، وكان مشغوفاً بتعلّم أصول الدين والتشريع الإسلامي، وتوُفّي عام 1477 وتولّى الحكمَ بعده السلطان حسين الذي لُقّب بالسلطان علي الدين رعيت شاه الأول (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من أول هذه الحلقة إلى هنا منقول ببعض التصرف عن الصفحات الأولى من فصل «لمحات من تاريخ الدين والوطنية في أندونيسيا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا»، وهو إجمالٌ أعقبه تفصيل مهم وتطويل مفيد، فمن شاء راجعه في الكتاب. أما القسم الآتي من هذه الحلقة فهو منقول من فصل «الحركة الإسلامية في أندونيسيا» المنشور في الكتاب ذاته (مجاهد).

أما الحركة الإسلامية الجديدة فقد جمعتُ أخبارها من أفواه الرجال ومن أحاديث المجالس، وممّن لقيت من أركان الدعوة الإسلامية في أندونيسيا لمّا زرتها من ثلاثين سنة. قلت لكم إن الفضل كله فيها لرجل واحد، هو الذي شقّ للناس هذا الطريق وهو الذي قادهم إلى العمل، وهو الأستاذ الأكبر عمر سعيد شكرو أمينوتو، الذي أسس أول حزب إسلامي في أندونيسيا سنة 1910 وهو «شركة إسلام». وكانت بدايتها بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب اليابانية الروسية في مطلع هذا القرن الميلادي، إذ أسس الشبان المثقّفون أول اتحاد سياسي هو بودي أوتوهمو، وبعد ذلك تأسست جمعية الشركة الإسلامية التجارية، ثم أصبحَت حزباً بعنوان «شركة إسلام»، وقد عرفتم أن كلمة «شركة» في اللغة الأندونيسية بمعنى «جمعية». كان هذا الحزب هو الساق الذي تفرّعت عنه الأحزاب والجمعيات كلها، وكان موجوداً لا يزال لمّا زُرت أندونيسيا. وكان مؤسسه شكرو أمينوتو شعلة حماسة وكنز إخلاص ومنارة هداية، بذل الهولنديون المستعمرون كل شيء ليصرفوه عن غايته: المناصب والأموال والمتع، فوجدوه جبلاً لا يتزحزح. وكان في جزيرة جاوة رجل صالح مُصلِح هو الشيخ أحمد دحلان، فأسّس «الجمعية المحمدية» سنة 1912، وكانت لمّا زرت أندونيسيا أكبر جمعية تعليمية في الشرق، وربما كانت أكبر جمعية في العالَم للتعليم، أعضاؤها نحو من مئتي ألف ولها ألف وخمسمئة مدرسة ثانوية وسبعمئة مستشفى وثلاثمئة دار

أيتام، ولها دار لتخريج معلّمي مدارسها. وقد زرت هذه الدار وعرضتُ عليكم طرفاً من أخبارها لما كنت في مدينة جوكجا (جوكجاكرتا). وفي هذه السنة، سنة 1912، أسّس أحمد السكرتي الأنصاري (وهو سوداني الأصل) جمعية الإرشاد، وكان لها لمّا زرت أندونيسيا نحو خمسة آلاف مدرسة والتدريس فيها كلها باللغة العربية، ومدرستها الكبرى في سورابايا، فوجدتُ شيئاً عظيماً. وفي سنة 1914 أسّس الشيخ هاشم الأشعري جمعية نهضة العلماء، وهي جمعية سياسية تعليمية، وزرت من مدارسها معهد القرآن في كرافياك قرب جوكجا، وهو مدرسة عربية سلفية. وفي سنة 1930 أسّس كياي عبد الرحمن شهاب جمعيته، وكان لها في كل بلدة وكل قرية من سومطرة مدرسة. وكلمة «كياي» و «الكيا» بمعنى شيخ، وبه سُمّي الكِيَا الهرّاسي، من فقهاء الشافعية المعروفين. وفي سنة 1930 أُسّسَت جمعية وحدة العلماء في أبتشيه في أقصى الشمال من سومطرة، في أعرق منطقة في الإسلام في أندونيسيا وهي التي مرّ بها ابن بطوطة. وفي سنة 1935 انفصل الدكتور سوكيمان بجماعته عن «شركة إسلام» وأسّس الحزب الإسلامي الأندونيسي. وفي سنة 1936 انفصل الحاجّ أوغست سالم وأسّس حزب التنوير الإسلامي وجمعية الشبان المسلمين. وهذه عِلّة من عللنا المزمنة لا نزال نذوق عقابيلها إلى اليوم، هي أنها كلما قامت جماعة ونجحت وسارت في طريقها

انفصلت عنها طائفة منها فألّفت جماعة أخرى مستقلّة عنها. هذا الداء الذي لم نعرف طريق الخلاص منه، مع أن الإسلام إنما دعانا إلى الوفاق لا إلى الفراق، وإلى الاجتماع لا إلى التشتّت المؤدّي إلى الضياع. والحاجّ سالم رحمه الله عالِم سياسي، كان وزيراً للخارجية، زُرتُه في داره في جاكرتا العاصمة فوجدته قوي الشخصية خفيف الروح، فقيهاً مطّلعاً على التاريخ، يتكلّم الفرنسية والإنكليزية. وسألتُه عن اسم أوغست: من أين جاءه؟ فضحك وقال: هو غريب دخل عليّ، ولذلك حبستُه بين اسمَين إسلاميّين (يعني الحاجّ وسالم). * * * ثم جاء الاحتلال الياباني لأندونيسيا والملايا خلال الحرب العالمية الثانية، فكان بلاء هان معه بلاء الاستعمار الهولندي، وخسرت به اليابان من طيب الذكر وما كان معلقاً عليها من كبير الأمل. ولقد سمعتُ في مدن جاوة وفي الملايا العجائب من أعمال اليابانيين. ولكن الاحتلال الياباني كان له فضل واحد، فضل غير مقصود، هو أنهم درّبوا الناس تدريباً عسكرياً وألّفوا منهم فِرَقاً للدفاع الوطني، أرادوا أن تكون عوناً لهم على الحلفاء لتثبيت احتلالهم، فكان منهم العون على الاستقلال. وكان قائد هذه الفرق الجنرال سوديرمان، وهو في الأصل من العلماء، وأكثر ضبّاطه من الجمعية المحمدية. ولم يرضَ أكثر المسلمين مع ذلك عن هذه

الفرق لاتصالها باليابان، وألّفوا «حزب الله» بقيادة زين العابدين، من جمعية نهضة العلماء. ودرّب اليابانيون هذه الفِرَق أيضاً. وكان من نتيجة عسف اليابان أن الشعب الأندونيسي، وهو من أعزّ الشعوب، أبى احتمال المذلّة، فكانت ثورة سنغابارة (ومعناها بلسانهم «الأسد الباسل») في جاوة الغربية بقيادة أحد المشايخ من مدرّسي الفقه، وثورة ريتا في جاوة الوسطى، ثم ثارت فِرَق الدفاع الوطنيّ نفسها وأوقعوا باليابان الوقعة المشهورة في نونيتانا في كلامنتان (بورنيو). وأيام حكم اليابان اجتمعت الجمعيات وكوّنت منها اتحاداً أوثق وأقوى هو مجلس الشورى الإسلامي (ماشومي)، الذي حلّ محلّ المجلس الإسلامي الأعلى (¬1). * * * كانت اليابان ظالمة فوجدت أظلم منها (¬2)، وهم الأمريكيون الذين لبسوا يوماً جلود الشياطين ونسوا الإنسانية والخُلق والدين، وارتكبوا أكبر جريمة منذ جريمة قابيل إلى الآن. أكبر جريمة بلا استثناء، حين ألقوا على هيروشيما وناغازاكي القنبلتين الذرّيتين اللتين دمّرتا مدينتين كاملتين، فسلّمت بذلك اليابان وألقت سلاحها. ¬

_ (¬1) انقطع الكلام هنا عن الحركة الإسلامية في أندونيسيا رغم أنه لم يتم، وتجدون بقيته في آخر الحلقة الآتية (مجاهد). (¬2) هذا القسم من الحلقة منقول بتصرف عن فصل «استقلال أندونيسيا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

إن المحاكم إنما أقيمت لتعاقب المجرم السافل الذي يزهق حياة نفس واحدة بريئة، فكم طفلاً وامرأة وشيخاً، وناسكاً متعبداً وعالِماً مفكّراً وأدبياً عبقرياً، أزهقَت أميركا لمّا ألقت قنبلتَيها على هيروشيما وناغازاكي؟ وما أدافع عن اليابان، فاليابان كانت ظالمة فوجدت أظلم منها، ذلك أن الاحتلال الياباني كان أشدّ وأقسى من احتلال الهولنديين، وكانوا هم (أي اليابانيون) أظلم وأطغى. وكان يوم 17 آب (أغسطس) سنة 1945 واليابانيون لا يزالون يحتلّون أندونيسيا، فطلب الشعب الإذن له للاجتماع في ساحة كامبير في بتافيا (التي سُمّيت اليوم جاكرتا ودُعيت ساحتُها هذه بميدان مرديكا، أي «الاستقلال»)، فأبى المستعمرون اليابانيون. وأصرّ الناس فأقام اليابانيون المتاريس ونصبوا الرشاشات، ولم يكن للشعب من سلاح إلاّ الحِراب التي كانوا يتخذونها من نوع القصب، يشبه الأقلام التي كنا نكتب بها ونحن صغار ولكنه ضخم قويّ تُبنى منه البيوت وقشرته أحدُّ من شفرة السيف. فبرى الشعب حِرابه وواجه بها رشاشات المستعمرين، واقتحم الميدانَ يطأ على أجساد قتلاه ويخوض في دمائهم، حتى اجتمع في الميدان ما يزيد على نصف مليون إنسان. ثم أقبلَت سيارة تحمل علَماً غريباً هو الذي يستظلّ بظله اليوم مئة وخمسون مليوناً من الأندونيسيين، فيه اللون الأبيض رمز السلام واللون الأحمر لون الدم، كأنه يقول: "إنا نريد السلام، ولكننا لا نخشى الحرب". وحول الراية الشبّان المسلّحون، وفيها أحمد سوكارنو ورفيقه محمد حتا. وأقيم منبر على عجل وصعد سوكارنو. وسوكارنو -على ما نُنكِر منه من انحراف عن الإسلام- كان

من أخطب خطباء الدنيا، ولكنه لم يخطب يومئذ خطبة بل سأل سؤالاً؛ قال للناس: هل تريدون الاستقلال؟ فأجابه هزيم الرعد من نصف مليون حنجرة أن نعم، قال: فبماذا تحمونه؟ قالوا: بأرواحنا، قال: إن قُوى العدوّ كبيرة. فقالوا: الله أكبر. «الله أكبر»، خرجت من خمسمئة ألف فم، فارتجّت لها الأرض، ثم خشعت وأصغت الأفلاك ثم صغَت (أي مالت) وأحسّ كل واحد من هؤلاء الناس أنه صار بها وحده جيشاً كاملاً. وكذلك يصنع الإيمان وتصنع «الله أكبر». عند ذلك كتب مسوَّدة الوثيقة الهائلة التي أخرجَت للدنيا دولة مسلمة، كان فيها يومئذ ثمانون مليوناً فصار فيها اليوم نحو من مئة وخمسين مليوناً. ولا تزال المسوَّدة ذاتها محفوظة. ثم تلاها على الناس وأعلن استقلال أندونيسيا بهذه الجملة الواحدة: باسم الله وباسم الشعب الأندونيسي أعلن أنا سوكارنو ورفيقي حتا استقلال أندونيسيا. إلى هنا وكل ما كان مألوف معروف. كلام حلو يُلقى في نوبة حماسة على جمهور ثائر، ثم لا يزيد أثره عن كونه كلاماً. ولكن ما ألقاه سوكارنو في ذلك اليوم لم يكن كلاماً عارضاً يذهب هزّات في الهواء، بل كان بداية عمل في الحياة يستقرّ في الأرض. لقد انتشر هذا الإعلان وقفز من جزيرة إلى جزيرة من جزر أندونيسيا التي يزيد المسكون منها على ثلاثة آلاف، ومشى مشي اللهب في القشّ حتى عمّ البلاد التي يزيد ما بين طرفيها عمّا بين لندن وإسطنبول، فاشتعلَت الثورة فيها كلها.

ولست أستطيع أن أسرد عليكم أخبار القتال، فاكتفوا مني بهذه الحادثة الواحدة، حادثة واحدة فقط سيطر فيها المجاهدون على مطار كامل فيه الجند والمدافع والرشاشات وما معهم إلاّ هذه الحراب المقطوعة من قصب الغاب. عمدوا إلى مكبرات الصوت فأنذروا فيها جند المطار من كل جانب، واستمرّوا في ذلك ليلة كاملة حتى أرهقوا أعصاب الجند، ثم هجموا في الظلمة صفوفاً من الناس وراء صفوف، وكلما سقط صف حلّ محلّه أخوه لا يبالون النار ولا البارود، حتى احتلّوا المطار وأسروا كل من كان فيه وملكوا عتاده. كانت هذه الحراب سلاحهم، أما البنادق فكانت قليلة فكانت تكلّفهم ثمناً غالياً. ماذا؟ أظننتم أنهم يشترون الواحدة منها بمئة دينار مثلاً؟ لا؛ بل كل بندقية تكلف حياة مجاهد، ينتزعها من ياباني فيموت في سبيلها حتى يوصلها إلى يد أندونيسية مسلمة تدافع بها عن حقّها وإسلامها. وأقيمت الجمهورية وأُلّفت الحكومة الوطنية، وذاقت البلاد لأول مرّة بعد ثلاثمئة سنة لذّة السعادة والحرّية. ولكن النعمة لم تستمرّ؛ لقد جاء البلاء، أقبل أبالسة البشر. ألا تعرفونهم؟ ألا تعرفون الذين كانوا سبب كل مصيبة نزلت بنا؟ ألا تعرفون قوم بلفور ووعد بلفور؟ جاؤوا -كما قالوا أولاً- لتجريد اليابان من سلاحهم، وأعطوا عهودهم المكتوبة على أنهم لا يكونون حرباً على الجمهورية ولا عوناً للهولنديين، فما إن وطئوا أرض جاكرتا حتى حنثوا.

وقد يكون للفرد منهم قولة شرف يصدُق بها، أمّا سياسيّوهم فقد أيقن التاريخ من زمان بعيد أن كلمتهم هي الكذبة الحمراء وأن وعودهم وعود عرقوب. اللهم إلاّ وعداً واحداً وفوا به لأنه وعد شيطاني، هو وعد بلفور. وجاؤوا بقواهم الكبرى، القوّة التي حاربت اليابان، أسطول بحري وأسطول جوي وجيش كامل، ووقفوا أمام مدينة سورابايا شرقي جاوة. وكانت سورابايا أجمل مدن الشرق الأقصى وأكبرها، وبعثوا بالإنذار المشهور بأن يسلّم الشعب سلاحه كله ويفتح بلاده للهولنديين ليعودوا إليها، أو يرى التدمير الشامل. شعب كان فيه ثمانون مليوناً يملك أغنى بلاد الدنيا بالثروة الطبيعية، يسلّم نفسه وأرضه لشعب فيه ثمانية ملايين فقط، جاء من بعيد، ليس له في هذه الأرض أصل من الأصول ولا حقّ من الحقوق؟ ونسوا كل ما كانوا يتشدّقون به أيام الحرب من حقوق الإنسان وحرّيات الشعوب. وتردّد الشعب لحظة ودُهش، ثم عاد إلى نفسه فقال: لا. وابتدأت الحرب، الحرب بين الذئب قوي الأنياب وبين الحمَل الوديع. ودُمّرت سورابايا كلها في ساعات معدودة، ولكن الحمَل الوديع انقلب بالإيمان أسداً. لقد صنع الأندونيسيون العجائب؛ لقد عملوا ما لم يُسمَع بمثله إلاّ من المجاهدين الأوّلين من المسلمين: قاتل الرجال جميعاً حتى الشيوخ والمرضى. قاتل الأطفال وأُلّف منهم فِرَق سميت «جيش النمل»، وقاتل النساء. تقولون: وماذا يصنع الأطفال؟ لقد جمع الأطفال الحصى

والحجارة وقِطَع الحديد، ثم هجموا على الدبّابات وهي تسير وتطلق النار فوضعوا ذلك خلال سلاسلها وآلاتها ليمنعوا سيرها ويعطّلوها، وكان الواحد منهم يدوس على بقايا أخيه وهي تسبح في الدم ويقدم لا يبالي. وخرّبوا الطرق وأفسدوها، ومات منهم آلاف وآلاف وآلاف، فما فزّع الموت من أحد ولا أخافت وسائله أطفال أندونيسيا (كما أنها لم تُخِف من قبلُ أطفال دمشق، وقد مرّ بكم الخبر). أما النساء في أندونيسيا فلو كان يجوز لي أن أحني رأسي الذي ما انحنى قط لغير الله لأحنيته إكباراً لنساء أندونيسيا. إنني لا أستطيع أن أذكر لكم ما صنعن دون أن يثب قلبي إلى حلقي حتى يسيل دموعاً من عيني. إن الذي صنعنه شيء يجلّ عن الوصف ويكبر عن التصديق، وإذا أنتم شككتم فيه ولم تصدّقوه فلكم العذر. كانت القنابل التي وصل إليها المجاهدون قليلة وكانت صغيرة لا تدمّر الدبابة إن أُلقيَت عليها، فكانت الفتاة الأندونيسية التي تشبه الوردة اليانعة تأخذ عدداً من القنابل فتربطه حول جسدها، ثم تودّع أمها وأباها وأهلها، ثم تلقي بنفسها على الأرض أمام الدبابة فتتفجر القنابل، فتطير هي والدبابة معاً. هذا ما كان فعلاً. فهل سمعتم أو قرأتم في أخبار الأمم كلها قديمها وحديثها مثل هذا الخبر؟ إنه مشهد يخرس لسان أبلغ شاعر بشري عن وصفه. إنني مرّة ثانية أحاول أن أحني رأسي لنساء أندونيسيا. كان هذا هو الدرس الأول الذي تلقّته نساء لبنان الآن، فيما يصنعن أمام قوى الشرّ التي جاءت من إسرائيل.

لقد مشى الغاصبون تحميهم نيرانهم ويحميهم حديدهم، ولكنهم كانوا يخوضون الدم ويمشون على الجثث، كل خطوة يخطوها جنديّ منهم بنفس زكيّة يجود بها مجاهد منّا. وكانت الحرب المقدَّسة وكان الجهاد في سبيل الله، وترك العلماء كتبهم ومساجدهم ومشوا على رؤوس المجاهدين، وكان منهم أبطال كبار، وحسبُكم أن تعرفوا أن سوديرمان القائد العامّ لقوّات المجاهدين كلها كان من المشايخ المدرّسين في مدارس الجمعية المحمدية. لقد مرض وأُجريَت له عملية جراحية بُترت فيها إحدى رئتيه وحُمل بعدها على المحفّة، ولكن لا إلى بيته ولا إلى مصيف هادئ يستريح فيه حتى ينقه، لا بل إلى ساحة الجهاد ليعاود القتال! وكانت كل هجمة تبدأ بـ «الله أكبر» وكان كل بيان يُذاع يُشرع فيه بـ «الله أكبر». واستمرّ الجهاد سنين، وبلغ عدد المصابين من قتلى وجرحى ومفقودين أكثر من مئتَي ألف، واعتُقل سوكارنو وحتا ورجال الحكومة بعدما احتُلّت أكثر المدن، فأُقيمت الحكومة مؤقتاً وسط الغابات وثابرت على القتال. وكانت تظهر كل يوم بطولات تحيّر العقول: حوصرَت فرقة من المجاهدين وانقطعت عنها النجدات، ولم يكن بينها وبين مركز الجهاد من سبيل إلاّ بخوض نهر فيه تماسيح مفترسة، فتطوّع قوم ليُلقوا بأنفسهم فيه لتفترسهم التماسيح فتشتغل بهم فيمرّ غيرهم ويأتي بالنجدة! وكذلك كان. لم يعُد للحياة قيمة، وصارت الشهادة هي الأمنيّة الكبرى

التي يستبق إليها الرجال والنساء والأطفال على السواء. ولم يعُد النساء يقبلن المال مهراً، فصارت مهور العرائس رؤوس الإنكليز والهولنديين، فمن كانت أبهى جمالاً وأعزّ نفراً كان مهرها عدداً أكبر من الرؤوس. ورأوا أن الإنكليز يستفيدون من العمارات الكبار فأحرقوا بأيديهم كل عمارة كبيرة، ولقد رأيت بعيني آثار هذا الخراب في سورابايا ومالان. حتى باندونغ، باريس الشرق، أحرقوها وهجروها وهم يغنّون هذه الأغنية التي يمتزج فيها دمع العاطفة بدم البطولة، والتي اشتهرت في أندونيسيا شهرة المارسيلييز في فرنسا: «هلو هلو ... باندونغ»، يخاطبونها فيها كما يخاطب العاشق حبيبته، يَعِدونها أنهم سيعودون حتماً إلى أحضانها. وقد عادوا، عادوا ظافرين. لقد بذلوا الشهداء في أرض الوطن وسقوها الدم الأحمر القاني، فأنبتَت، أنبتت الحرّية والظفر والاستقلال: «مارديكا». * * * كان هذا الجهاد كله لله، فلن تكون الثمرة لأعداء الله. كان للإسلام الخالد الباقي الذي حفظه الله بحفظه، فلن تكون الغنائم لـ «بنغاسيلا» ولا لشريعة أخرى أوحى بها إلى أوليائه إبليس، ولا للملحدين ولا للمكفّرين المنصّرين وإن سمّوا أنفسهم بالمبشّرين. إن الإسلام ما دخل بلداً فخالط قلوب أهله، فعاشوا به وعاشوا له، ثم خرج من هذا البلد. وسيبقى الإسلام في أندونيسيا وتبقى أندونيسيا للإسلام إلى يوم القيامة.

فيا أيها الإخوان الأندونيسيون، يا إخواننا في الله، في الكعبة، في القرآن، في «الله أكبر»: هذه يدي عن بَني العُرْب تصافحكم، وإنها لشمال صافحت يمينها. ويا أيها المستعمرون، اعلموا أن الشيخ العاجز الذي يمشي على العكاكيز ليس كالشابّ الأيّد القوي. لقد صارت دُولكم دولاً هرمة عاجزة فقدت أطرافها وخرّفَت وضيّعت عقلها، فلا تغترّوا ببقايا القوّة، فأنتم في ضياء ولكنه كضياء الأصيل ما بعده إلاّ الليل، ونحن في سَدفة ولكنها كغَبشة السّحَر، والنهار أمامنا. * * *

بدأت أندونيسيا إسلامية، فمن أين يأتيها البلاء؟

-174 - بدأت أندونيسيا إسلامية، فمن أين يأتيها البلاء؟ إلى الأستاذ الذي تلطّف فكتب إليّ معلّقاً على ذكرياتي: يادكتور، أشكر لك ثناءك عليّ ثناء لا أستحقه، وتشجيعك إياي على عرض ما أعرف من تاريخ أندونيسيا. أما ما تقول من جهلك وأنت أستاذ التاريخ بتاريخ المسلمين في الشرق الأقصى فشيء -كما قلتَ- معيب حقاً، ولكن العيب ليس فيك وحدك، كلّنا فيه سواء. وأنا قبل أن أرحل من ثلاثين سنة هذه الرحلة التي أحدّثكم الآن بعض حديثها لم أكن أعرف من ذلك شيئاً، بل لم أكن أدري إلاّ أقلّ من القليل عن الدول الإسلامية التي قامت في الهند واستمرّت أكثر من ثمانمئة سنة، ولم أكن أدري شيئاً عن الإسلام في روسيا إلاّ ما عرض ابن بطوطة، حتى نشر المجمع العلمي في دمشق «رحلة ابن فضلان». وكم من دول إسلامية قامت في بقاع الأرض لا يكاد يعرف عنها المسلمون شيئاً. أمّا الإفاضة بسرد أخبار الدول الإسلامية في الشرق الأقصى فما منعني منه إلاّ أنني أكتب ذكريات، خشيت

أن أخرج عن جادتها أو أتعدّى حدودها فأجعل ما أكتب تاريخاً محضاً. أما وهذه رغبتك، ورغبة مثلِك لا يمكن أن يُعرَض عنها. أما وقد جاءتني رسائل وسألني إخوان، ثم خبّرني الأستاذ عادل صلاحي أن الجريدة تفضّل أن أتوسّع في عرض هذه الصفحات من التاريخ ... أمَا وقد كان ذلك كله فإنني أعود إلى ما قطعتُ الكلام فيه. ضعوا الخريطة أمامكم: هذه جزيرة جاوة، وإلى يسارك وأنت تراها إلى الغرب منها جزيرة أكبر منها تزيد أضعافاً عليها، هي سومطرة، التي كانت مهد الإسلام في تلك الأقطار وكان منها شروق أنواره عليها. وإلى الشمال منها شبه جزيرة الملايا، وفي آخرها سنغافورة، بينهما مضيق مستطيل هو مضيق مَلَقة، وإلى الشمال من جاوة جزيرة من أكبر جزائر الدنيا هي كَلامَنْتان (التي كانت تُسمّى بورنيو). إلى يميننا، أي إلى الشرق منها أرخبيل فيه جزر كثيرة، تأتي بعدها جزيرة إيريان التي كانت تُدعى من قبل غينيا الجديدة، وإلى الشمال من ذلك كله أرخبيل الفلبين. الفلبين التي أغرقت البلاد ببناتها ممرّضات وخادمات، وبأبنائها خادمين وعاملين، وجُناة أحياناً مجرمين، وقد عرضوا عليكم هنا في الرائي (التلفزيون) بعض خبرهم منذ حين. وفي جنوب أرخبيل الفلبين جزيرة كبيرة هي جزيرة مَنْدَناو التي يسكنها مسلمون، يقاتَلون في دينهم ويُجنى عليهم ويضايَقون لأنهم مسلمون، ولأن من يضايقهم من الحكّام نصارى صليبيون. * * *

من سومطرة سطع نور الإسلام على هاتيك البلاد، ولعلّ سَبْقها إليه لأنها على الطريق التجاري بين الهند وفارس وجزيرة العرب من جهة الغرب، وبين الصين وما وراءها من جهة الشرق. ما حمل الإسلامَ إليها جيشٌ مقاتل ولا قائد فاتح، بل حمله -كما سبق القول- تجّار، ما دعوا إليه بخطبهم ومحاضراتهم بل بأخلاقهم وحسن معاملاتهم. ولبث الإسلام يمشي خطوة خطوة ونوره يتسرب شعاعاً بعد شعاع كما يتنفس الصبح عن نهار يمحو سواد الليل، فما أهلّ القرن الخامس عشر الميلادي حتى صارت له قوّة وصار لأهله منعة وسلطان. وقد عرفتم خبر الملك الذي ترك أبّهة المُلك في الهند ولبس مسوح الزهّاد وسمّى نفسه الفقير محمد، والذي أسلم على يديه ذلك الأمير ولُقِّب «الملك الصالح»، وتزوّج بأميرة ولاية برلاك وخلّف منها الظاهر والمنصور، وأنشأ مدينة فاسي، وأقام مملكة انتشر الإسلام منها إلى جميع جزر أندونيسيا، ومات رحمه الله سنة 1297م. وعرفتم أن مَلقة لمّا دخل الإسلام إليها تأسّس فيها (أي في الملايا) دولة إسلامية سنة 1409، وكان ملكها ملكاً صالحاً استمرّ المُلك بعده، حتى ولي السلطان عليّ الدين رعيت شاه الأول (ملك الرعية) وكان صالحاً مصلحاً، أقام حدود الله وعبّد الطرق وبنى في مفارقها دوراً كاملة يأوي إليها المسافرون، وأقام من يحفظ ما يُعثَر عليه من المتاع المسروق أو المفقود حتى يُوصَّل إلى أصحابه، فساد الأمن ربوع البلاد وعظم شأن مدينة ملقة حتى أمّها الأمراء والتجّار من جميع أنحاء البلاد.

وقامت في سومطرة الدولة العظيمة التي عاشت طويلاً وناضلَت البرتغاليين المستعمرين طويلاً، وتوالى عليها الملوك، حتى تسنّمَت ذروة مجدها وقمّة قوتها سنة 1606 لمّا تولّى عرشَها إسكندر موده، وهو رجل مسلم وإن كان اسمه إسكندر. وكان قوياً نشيطاً طَموحاً عمل على توسيع مملكته فامتدّ نفوذها إلى شبه جزيرة الملايا، وفي سنة 1613 أعدّ حملة حربية لمحاربة البرتغاليين وطردهم من ملقة، ولكن هذه الحملة لم تستطع التغلّب على قوات البرتغاليين، فأدركها داء المسلمين المتأخّرين وهو الانقسام وأن يقاتل بعضهم بعضاً، وهم إخوة في الدين آخى بينهم ربّ العالَمين! فتحوّلت هذه الجيوش إلى جوهور فحاربتها واستولت عليها، وأسرت سلطانها المسلم عليّ الدين رعيت شاه الثالث وأخاه الأمير عبد الله وبعض رجال القصر، ونُقلوا إلى أبتشيه. ولكنه كان مؤمناً، والمؤمنون إذا مسّهم طائف من الشيطان وانحرفوا وعصوا تذكّروا فإذا هم مبصرون وإذا هم تائبون، فلما صحا وذكر أخوّة الإسلام أكرم ملك جوهور فزوّج أخاه الأمير عبد الله بأخته. وفي 25 آب (أغسطس) سنة 1614 أعاد السلطان عليّ الدين إلى جوهور، ولكنها بقيَت بحكم التابعة لمملكة أبتشيه، إلى أن وَلِي مُلكَها السلطان عبد الجليل الثالث سنة 1637، فأحسّ بالضعف قد تسرب إلى دولة أبتشيه فانتهز الفرصة وأعلن استقلال جوهور. وهذه أيضاً عِلّة أخرى من عِلل المسلمين. وتعاقب عليها الملوك حتى جاء السلطان محمود شاه الثالث، فعقد (أو أُجبر على عقد) معاهدة مع الهولنديين. واستمرت إلى سنة 1819،

إلى أن جاء القائد الإنكليزي رفلس إلى مدينة ريو وسأل سلطان جوهور منحه جزيرة سنغافورة ليجعلها ميناء تجارياً، وقد مرّ بكم الخبر. من ذلك التاريخ بدأ الإنكليز يتدخلون في جوهور عن طريق السلطان حسين الذي نصبوه سلطاناً وهو عميل لهم، كما أقام الهولنديون السلطان عبد الرحمن وهو يعمل لمصلحتهم، فكان مقرّ الأول مدينة سنغافورة ومقرّ الثاني مدينة ريو. استمرّ ذلك إلى سنة 1862 التي تولّى فيها الملك السلطان أبو بكر، فدبّت في جوهور حياة جديدة شملت المرافق كلها، فأُنشئت المدارس والمستشفيات وبُنيت المساجد وأُصلحت طرق المواصلات، وعمل على تحسين حال الزراعة في البلاد. وفي أواخر حياته سنة 1895 أقرّ الدستور وجعل الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للبلاد. وكان هذا السلطان بعيد النظر بارع السياسة عالي الهمّة، عمل على تحسين صلاته بالدول المجاورة له، ثم ساح في بلاد الله، فذهب في آذار (مارس) سنة 1866 إلى أوربا وقابل الملكة فكتوريا ودرس الحياة الإنكليزية والأنظمة القائمة فيها، ثم سافر في شباط (فبراير) سنة 1893 إلى أوربا مرّة أخرى وطاف بإنكلترا وألمانيا وإيطاليا ودول البلقان، وزار تركيا وقابل السلطان عبدالحميد فأكرمه وأنعم عليه بوشاح من الدرجة الأولى. وكان قد سافر قبل ذلك سنة 1883 إلى الشرق لزيارة الصين واليابان، وقابل «الميكادو» إمبراطور اليابان، وأسلم على يديه في هذه الرحلة خمسة من وجوه اليابانيين.

كما قامت في جاوة دول إسلامية أولاها الدولة الدمكية لمّا قُتل إمبراطور الإمبراطورية الكبيرة ماجاباهيت. وكانت ولاية دمك من الولايات التي استقلّت، وتمكّن ملكها سنة 1515 من إسقاط إمبراطورية ماجاباهيت ونقل شعارها إلى دمك عاصمة الدولة الإسلامية. ثم قامت (كما مرّ بكم) دولة بنتام سنة 1568، ثم قامت دولة ماتارام سنة 1579 حين تجمّعت جيوش الدولة البوذية في جاوة وانضمّت إليها الدولة البوذية في جزيرة بالي، وهي جزيرة صغيرة شرقي جاوة، يقصدها السياح ليروا نساءها المجوسيات اللواتي كنّ يخرجن (إلى الوقت الذي زرت فيه أندونيسيا) عاريات الصدور، وهي بلد الرقص فيها من أشكاله وأنواعه ما يُعَدّ بالعشرات وبلد المتعة واللهو، ولم يبقَ بيننا وبينها إلاّ مسيرة ساعتين بالسيارة، ولم أمشِ إليها ولم أرَ شيئاً منها. هذه الجيوش التي تجمّعَت أغارت على الدولة الإسلامية بقُوى هائلة وأنزلَت بها خسائر فادحة، ولكن المسلمين ثبتوا ثبات الإيمان أمام الهجمات فأمدّهم الله بالنصر، وما النصر إلاّ من عند الله (¬1). * * * حاولت أن أجلو لكم صورة مُجمَلة عن الدول الإسلامية التي قامت في هذه المناطق البعيدة من الشرق الأقصى، فكتبتُ ¬

_ (¬1) ما سبق من هذه الحلقة إلى هنا منقول باختصار من فصل «لمحات من تاريخ الدين والوطنية في أندونيسيا»، وهو منشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

خلاصات، رؤوس أقلام كما يقولون. فجاءت هذه الخلاصات في بضع صفحات، إن شُرحَت وفُصّلَت (ولا بدّ لها من شرح وتفصيل) كان منها منهج سنة كاملة في الجامعة. فحاولتُ أن ألخّصها وأن أوجزها، فكان هذا الموجز قائمة أسماء وتواريخ جافة تصدّع رأس القارئ ولا يكاد يستفيد منها إلاّ القليل. وسجّلتها -على عادتي- في شريط أرسله إلى الجريدة، فيطبعه ولدي الكريم السيد طاهر أبو بكر (وهو أمهر من عرفت ممّن يعمل على الطابعة، أي الآلة الكاتبة) ونِمتُ بعد موهن من الليل (أي بعد نصف الليل) وأنا مطمئنّ إلى أن الشريط مُعَدّ جاهز. فلما أصبحتُ أدرته فلم يَدُر، واستنطقتُه فلم ينطق، فإذا هو قد انقطع وتجمّع في داخل العلبة (أي الكاسيت)، فصنعتُ ما صنع القرد الذي قلّد النجار في كتاب «كليلة ودمنة» فعلق ذنَبه في شقّ الخشبة؛ ذلك أني حاولت فتح العلبة، فظهر الشريط وانفلت، وإذا هو شريط طويل جداً لم أستطع أن أعيد لفّه، ولو أعدتُه لم أقدر أن أرجعه إلى مكانه. فكنت كالذي زعموا أنه أخرج العفاريت من القمقم وأراد أن يُعيدها فما عادت (¬1)! فصُدمت والله كأني كنت أعدو فلطمني جذع شجرة على وجهي، فشجّ جبيني وكسر حماستي وقطع جريي. وقعدتُ متألماً ¬

_ (¬1) وبعد أن أعدتُ كتابة الحلقة مرّة ثانية جاء ابن بنتي المهندس مجاهد ديرانية فأعاد العفاريت إلى القمقم وأرجع الشريط كما كان حتى جعله ينطق، فصار عندي نسختان مختلفتان من هذه الحلقة الواحدة.

منزعجاً، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: الحمد لله، لعلّ الذي كان هو الخير، فالأمر أكثر من أن تتّسع له حلقة من ذكريات، ولا ينفع فيه إلاّ أن يتطوع أستاذ من أساتذة التاريخ (كالذي كتب إليّ وافتتحتُ بكتابه هذه الحلقة) فيجمع الأخبار ويستقصي المصادر، وأكثرها مكتوب بغير اللغة العربية، وينشئ من ذلك كتاباً في تاريخ المسلمين في الشرق الأقصى. وخير من ذلك هو أن تجعل الجامعات أو إحداها كرسياً لهذا التاريخ، ليعرف أبناء المسلمين أخبار إخوانهم، فإن من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم. * * * أتمّ الكلام على الحقبة الإسلامية الجديدة. قلت لكم إن الجمعيات والأحزاب الإسلامية كوّنت منها بين الحربين شبه اتحاد باسم المجلس الإسلامي الأعلى، وعقد هذا المجلس مؤتمرات عامّة واشتغل بمسألة الخلافة، وأسّس «جمعية الخلافة في الهند الشرقية» (وكلمة «الهند الشرقية» هي الترجمة العربية لكلمة أندونيسيا). وكانت هذه الجمعية فرعاً لجمعية الخلافة في الهند، وكان من أعمالها أن أوفدَت وفداً إلى الملك عبد العزيز رحمه الله، من رئيس شركة إسلام وسلطان منصور عن الجمعية المحمدية. واهتمّ هذا المجلس بقضايا العرب في فلسطين وبرقة وعمل على مقاطعة إيطاليا. وكذلك ترون أن المسلمين في كل بقعة من الأرض يجعلون قضية فلسطين قضيتهم، ونحن العرب نجعلها

قضية عربية، فكأننا نُبعِدهم عنها ونأبى معاونتهم فيها! وأنشأ هذا المجلس فرعاً للصحافة يردّ مفترَيات المجلاّت الأوربية والصينية، ولا سيما الحملة التي أثارها المبشّر جاندير والمجلاّت الإلحادية مثل «صوت العموم»، وجاهد جهاداً رائعاً لإبطال القوانين الاستعمارية، ومنها قانون الزواج المدني المخالف للإسلام، وقانون التدريس الديني، وقانون تمليك الأراضي جبراً للشركات الأجنبية بحُجّة النفع العامّ (كما تصنع إسرائيل في فلسطين). ثم قلت لكم إنها اجتمعت مرّة أخرى أيام حُكم اليابان وكوّنت اتحاداً أوثق وأقوى هو مجلس الشورى الإسلامي الذي يُدعى اختصاراً باسم «ماشومي». ولمّا كان الاستقلال وصارت فرق الدفاع الوطني هي الجيش بقي حزب الله معتزلاً، وألّف شبه حكومة داخلية باسم «دار الإسلام»، ولمّا زرت جاوة الزيارة التي أحدّثكم حديثها كانت هذه الحكومة موجودة في بقعة جبلية تضمّ ملايين من السكان وتقيم حكم الله. ولمّا كنت في رحلتي من غربي جاوة إلى شرقيها ووصل بنا القطار إلى أعالي الجبال، وكنا نسير في شبه نفق بين أشجار الغابات الكثيفة من الجهتين كأننا نمشي منهما بين جبلين، رأينا الجند قد احتلّوا عربات القطار كلها ووضعوا فيها الرشاشات ووجّهوها إلى النوافذ، فسألت فإذا نحن في منطقة «دار الإسلام». وكان فيها -كما قلت لكم- حكومة في حكومة، وعاصمتها يدعوها أصحابها «المدينة المنورة»، وسمعت أنه كان لها يومئذ

جيش فيه عشرة آلاف، وهي تحكم منطقة جبلية واسعة (¬1). وقصة هذه الحكومة أنه لمّا ثار الشيوعيون في ماريون سنة 1948 وأضعفوا الجمهورية رجع الهولنديون فاغتنموا هذه الفرصة -كما عرفتم- وهجموا على جوكجا واعتقلوا سوكارنو وحتا وسالم ونفوهم وعادوا لاحتلال البلاد، فتألّفت حكومة وطنية في سومطرة، وأشعلوها حرباً على الهولنديين سرعان ما امتدّت نيرانها إلى كل مكان، فقرّروا مواصلة الجهاد باتباع أسلوب حرب العصابات وسلّموا قيادتها إلى كارتو سويريو، وعاهدوه على أن تُقام بعد الظفر حكومة إسلامية تحكم بما أنزل الله، تُحِلّ الحلال وتحرّم الحرام وتُقيم الحدود وتنفّذ أحكام الإسلام كلها. وأبلى كارتو سويريو في الجهاد أعظم بلاء وكان له الأثر الكبير في طرد المستعمرين وتحقيق الاستقلال، فلمّا استقلّت البلاد لم يفوا له بما وعدوه، فاعتزل بجنوده ومن تبعه واعتصم في هذه المنطقة الجبلية وأقام فيها حكومة إسلامية، وضع لها دستوراً مستمَداً من أحكام الشرع وسمّى عاصمتها «المدينة المنورة». وهذا الذي أصفه هو ما رأيته أيام زيارتي لأندونيسيا سنة 1954، ولست أدري ما حالها اليوم لأن القوم لا يتحدّثون عنها ولا يُحبّون الكلام فيها، والأخبار العامّة لا تشير إليها. * * * وعقدَت الأحزاب الإسلامية والجمعيات الإسلامية مؤتمراً ¬

_ (¬1) انظر فصل «نثار من المشاهدات والأخبار» في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

جمعها كلها (¬1)، وقرّر توحيد الصفوف بحزب ماشومي وانتخب لرياسته أول الأمر سوكيمان، وكان السكرتير الأول (أي الناموس) آبي كوشنو، وهو أخو شكري أمينوتو (ولعلّ هذا الاسم محرف عن شكري أمين) والثاني كارتو سويريو الذي كنت أتكلم عنه، والسكرتير العامّ ولي الفتاح. ثم عاودَتنا علّة الانقسامات والانفصالات، ففي منتصف عام 1947 انشقّت جماعة «شركة إسلام» وأعادوا تشكيل حزبهم القديم ودخلوا الوزارة يومئذٍ، ثم انشقّت بعدهم «التربية الإسلامية» سنة 1949 وكوّنت حزباً مستقلاًّ رئيسه سراج الدين عباس. ثم كان مؤتمر جوكجا في 25 كانون الأول (ديسمبر) 1949 ودام خمسة أيام بلياليها، وكان أعظم مؤتمر إسلامي في تلك البلاد، شهده سبعمئة مندوب وكان من مقرراته: (1) تثبيت ماشومي وتكوين مكتب تنفيذي له، واعتبار جميع الأحزاب والجمعيات أعضاء فيه. (2) أن يكون للحزب أقسام: للدعاية والنشر، وللنساء، والاقتصاد والتربية والثقافة. (3) تأليف جبهة تضمّ جمعيات الشباب كلها باسم جبهة الشباب الأندونيسي. (4) تأليف لجنة دائمة للحَجّ. ¬

_ (¬1) سبق الحديث عن الأحزاب والجمعيات الإسلامية في الحلقة الماضية لكنه قُطع ولم يتم، وهذه تتمته هنا، وهي من فصل «الحركة الإسلامية في أندونيسيا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

(5) توحيد الصحافة الإسلامية في أندونيسيا. (6) إعداد لجنة من العلماء لوضع الدستور الإسلامي. (7) المطالبة بحلّ الخلاف مع «دار الإسلام» حلاًّ سلمياً. (8) تأييد فلسطين وتونس والجزائر ومرّاكش عملياً ومالياً (لأنها لم تكن يومئذ قد نالت استقلالها). (9) إنشاء وقف بخمسين مليون روبية لافتتاح مدارس إسلامية. ولكن هذا الاتحاد لم يدُم وعاد إلى الانقسامات، وانشقّت جمعية نهضة العلماء، وعقدت هي وشركة إسلام والتربية الإسلامية مؤتمراً في فلمبان في سومطرة الجنوبية وأعلنت انفصالها عن ماشومي، وشكّلت حزباً واحداً منها هو «مسلم ليغ» (أي الجماعة الإسلامية) وقرّرت اعتبار الخلاف بينها وبين ماشومي خلافاً شكلياً، خلافاً في الطريقة فقط لا في المبدأ ولا في الغاية، وانتخب الكياي دحلان رئيساً لها. فصار في أندونيسيا جبهتان إسلاميتان: ماشومي ورئيسها محمد ناصر الذي رأس مؤتمر القدس في دورته الثانية في دمشق، وهو رجل عالِم فاضل متواضع يحبّه ويحترمه كل من يلقاه، وكان يقدَّر عدد المنتسبين إلى ماشومي لمّا كنت في تلك البلاد بأكثر من أحد عشر مليوناً. و «مسلم ليغ» ورئيسه دحلان. كما أن فيها «دار الإسلام» ورئيسها كارتو سويريو. وفي نيسان (أبريل) سنة 1953 عُقد مؤتمر العلماء في ميدان عاصمة سومطرة، حضره ستمئة عالِم وقرّروا مقرَّرات منها:

(1) أن يكون الحكم شورياً انتخابياً مقيَّداً بأحكام الشرع. (2) وأن يُعتبر الانتخاب واجباً شرعياً، ولا يجوز انتخاب غير المسلم. قلت: لأن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فلا يجوز لغير المسلم أن يضع قوانين تُطبَّق على المسلمين وتقيد حرّياتهم وتتحكّم فيهم. وهذه الحقيقة -على ظهورها وبيانها- غفل عنها أو تغافل علماء المسلمين. وأنا أحمد الله على أنني كنت من نحو أكثر من ربع قرن أولَ من جهر بها على منابر المساجد والجمعيات والنوادي، قلت ذلك تصريحاً وتوضيحاً، وعرضت له في إذاعة دمشق تلويحاً وتلميحاً. * * * هذا ما رأيته وسمعته في رحلتي إلى أندونيسيا. أما الذي انتهت إليه الدعوة الإسلامية الآن، وأما حال الإسلام والمسلمين فيها في هذه الأيام فلست أعرف عنه إلاّ القليل الذي يُنشر في الصحف أو يُشار إليه في الإذاعات. ولكن العجيب والله الذي ما ينقضي منه العجب أن من كان معه الحقّ ينام عن حقّه وصاحب الباطل يجدّ لنصرة باطله؛ الذي يقول إن الواحد يساوي واحداً (وتلك حقيقة الحقائق) لا يدعو لها ولا ينصح الناس بها، والذي يزعم أن الثلاثة تساوي واحداً (وذلك باطل الأباطيل) يحشد الرجال ويجمع الأموال لإقناع الناس بهذا المحال، وهو أن الثلاثة الريالات تعدل الريال الواحد! والذي معه كتاب يدّعي أنه من عند الله وليس في الوجود دليل واحد يثبت مدّعاه يعمل على

نشره ودعوة الناس إليه، والذي معه كتاب الله الذي يقوم كل دليل في الوجود على أنه من عند الله، ما نقص منه حرف ولا زيد عليه حرف ولا تبدّل فيه حرف، يقعد عن دعوة الناس إليه. لقد أفلس هؤلاء المكفّرون المنصّرون الذين يقولون إنهم المبشّرون، يبشرون بالعذاب الأليم، أفلسوا في أوربا وافترق عنهم عقلاء الناس. ولقد رأيت بعيني كثيراً من الكنائس في أوربا الغربية قد أقفرَت من روّادها، ومنها التي أغلقت أبوابها، ومنها ما عُرض للإيجار أو البيع بالمزاد! بل لقد شهدت في ألمانيا مسجداً صغيراً له متوضّأ يتطهّر فيه الناس في زاوية من الكنيسة، فلما سألت علمت أنهم فضّلوا أن يدخلها الناس ولو من غير دينهم، على أن تبقى خلاء ما فيها إلاّ الهواء! أفلسوا في بلادهم فجاؤوا إلينا. وإذا كان الذي يسرق مالك من كيسك ومتاعك من دارك يُسمّى لصاً، فماذا يُسمى الذي يسرق عقيدتك من قلبك؟ والعقيدةُ أثمن من أموال الدنيا. لكن الحكومات تحمي الناس من لصوص الأموال والمحاكم تعاقب السارقين والسجون مأوى اللصوص والمجرمين، وهؤلاء المساكين غدوا في تلك البلاد كقطيع بلا راعٍ، قد سُلّط عليهم عدوّ يملك المال ويملك الحيلة ويملك القوّة، ولو كان عند جمهورهم من العلم بالإسلام مثل الذي عندهم من الحماسة للإسلام لردّوا عدوهم. الإسلام عقيدة وعلم وعمل، ومسلمو أندونيسيا جاءهم الإسلام حينما جاءهم الاستعمار البرتغالي. ما حمله إليهم علماء

يعلّمونهم ولا فقهاء يفقّهونهم، بل حمله تجار كانوا صادقين في دعوتهم فدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا. فيا أيها المسلمون، كيف تتركون مئة وخمسين مليوناً من إخوانكم لهؤلاء المكفّرين المنصّرين الذي تؤيّدهم قوى الشرّ كلها، وكثير من هؤلاء الإخوان فقراء وأكثرهم ليسوا علماء، فإذا تركتموهم وحدهم أمام هذه الحملة القوية الظالمة صارت أندونيسيا -لا سمح الله- أندلساً أخرى، وصرتم تقرعون الأكُفّ ندماً وتَنْظمون القصائد أسفاً وتُريقون الدموع عبثاً على أنكم أضعتم بقعودكم عن نصرتهم وعن الذود عن دينكم ودينهم، أضعتم أكبر دولة إسلامية. ولن يكون هذا إن شاء الله أبداً، لأن للباطل دولة ثم يضمحل، ولا يكسب الجولة الأخيرة إلاّ الحقّ ولا يكون الظفر إلاّ للحقّ. إن بلاء أندونيسيا بمن يُسمَّون بالمبشّرين قديم؛ فالهولنديون عملوا على تأييدهم وسخّروا لذلك مناهج المدارس وأعدّوا لتلقّيه الصغار. وهذا ما تَنبّه إليه أعداؤنا وغفلنا نحن عنه، هو الاهتمام بالأطفال. الأطفال هم أمّة المستقبل، نفوسهم صفحة بيضاء تنقش عليها ما تشاء، وقلوبهم عجينة طرية، إنهم كالأرض الخلاء تُقيم عليها البناء بلا تعب ولا عناء. والكبار كالبيت القديم، عليك -إذا أردت تجديده- أن تهدمه وأن تنقل أنقاضه وأن تُخلي أرضه ثم تقيم البناء الجديد عليه. فتداركوا أطفالكم، انظروا المربّين والمربّيات الذين تسلّمونهم إياهم، انظروا المدارس التي تبعثون إليها بهم، انظروا

المعلّمين الذين تُقعِدونهم بين أيديهم ... تَنبّهوا فإن كل كلمة تُلقى في أذن الطفل وكل بذرة عقيدة تُغرس في قلبه سيكون لها أثر ظاهر في مُقبل أيامه، في دينه وفي خلقه وفي سلوكه. لقد طالما قلت وأعدت وكرّرت القول: إن بذور الخير والشرّ والإيمان والكفر تُغرَس في نفوس الأطفال في السنوات الخمس أو الست الأولى من أعمارهم، فاللهَ اللهَ في أطفالكم، واللهَ اللهَ في إخوانكم في أندونيسيا، فإن مَن نجا منهم من حملة التنصير والتكفير (التي تُسمّى كذباً دعوة التبشير) وقع في «البنغاسيلا» التي أوحى بها إلى أوليائه الشيطانُ، زخرف القول غروراً، لتجرّ عليهم هلكة وثبوراً. أتدرون ما «بنغاسيلا» التي يتخذها بعض المسلمين ديناً بدلاً من دين الله؟ «بنغا» كلمة فارسية الأصل معناها خمسة، يستعملها الذين يلعبون النرد، و «سيلا» بمعنى ركن أو دعامة؛ فالبنغاسيلا هي «الأركان الخمسة». بُني الإسلام على خمس، وهم يدعون إلى دين جديد يُبنى على خمس بدلاً من الخمس التي بُني عليها الإسلام. خَمسُنا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت. وخَمسُهم الإيمان بالله الواحد الأحد، والإنسانية العادلة المتحضرة، ووحدة أندونيسيا القومية، وسيادة الشعب، والعدالة الاجتماعية. كلام إن فهمه المؤمن بالإسلام يستطيع أن يفسّره تفسيراً لا اعتراض عليه، ولكن الذين وضعوه والذين سمعوه ففهموه يفسّرونه على وجوه تناقض الإسلام. خذوا قولهم «سيادة الشعب». أيّ شعب في أندونيسيا إلاّ الشعب المسلم الذي تبلغ نسبته في

السكان خمسة وتسعين في كل مئة منهم؟ أفيرضى المسلم بغير ما جاء به الإسلام؟ في أندونيسيا ثلاثة عشر ألف جزيرة المسكون منها ثلاثة آلاف، يُنادى فيها كل يوم خمس مرات: «أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة»، فأين الإيمان بمحمد في «بنغاسيلا» هذه التي ابتدعوها؟ وأين فيها الصلاة؟ وما الإيمان إن لم يكن معه عمل؟ والله ما ذكر الذين آمنوا إلاّ وصفهم بالذين عملوا الصالحات. لقد أقرّت هذه «البنغاسيلا» لجنةُ استقلال أندونيسيا يوم 18 آب (أغسطس) سنة 1945، ولكن المبادئ التي بُني عليها الإسلام ما أقرّتها لجنة من البشر، بل أنزلها الله الذي أنزل القرآن، حين هبط به مقدّم الملائكة جبريل على مقدّم البشر محمد، صلّى الله على محمد وعلى جبريل، ليكون هو الدين الباقي إلى يوم القيامة. فمَن يُنزِل غير ما أنزل الله؟ كلاّ، لا بنغاسيلا، ولا تبشير بالكفر، ولا نترك شعيرة من شعائر الإسلام، ولا ندع شيئاً منه إلى غيره، مهما زيّنه لنا جمهور المنصّرين من أعوان الشياطين. {لا جَرَمَ أنّ ما تَدْعونَني إليهِ ليْسَ لهُ دَعْوَةٌ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ، وأنّ مَرَدَّنا إلى الله، وأنّ المُسْرِفينَ هُمْ أصْحَابُ النّارِ. فَسَتَذْكرونَ ما أقولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أمري إلى اللهِ إنّ اللهَ بَصيرٌ بِالعِبَاد}. * * *

خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

-175 - خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم لمّا كنا ندرُس الفلسفة سنة 1347هـ قرأت لهنري بوان كاره، العالِم الرياضي الفرنسي، وصفاً لمراحل تكوّن الفكرة في رأس العالِم أو القطعة الأدبية في ذهن الأديب، فقال إنه يتصوّر أولاً صورة مبهَمة يسمّيها هو «شيما» ثم يحاول أن يُظهرها في نظرية علمية أو قصّة أو قصيدة. وأنا لمّا اقترحوا عليّ كتابة هذه الذكريات لم يكن لها في ذهني صورة، ولم يكن تحت يدي أوراق مكتوبة أعتمد عليها، وكنت أغبط من يكتب ذكرياته ويرجع إلى مذكرات كتبها في حينها، لذلك جاءت ذكرياتي غريبة عن كل أسلوب تبعه كتّاب الذكريات؛ فلا هي مرتَّبة على السنين تمشي مع التاريخ ككتاب «حياتي» لأحمد أمين، ولا هي سرد قصصي لوقائع الحياة ككتاب «الأيام» لطه حسين، ولا هي أفكار يربطها رباط قصصي كالذي كتب العقاد. فما هي إذن؟ هي ما ترون وتقرؤون. وأنا أشكر لكم أن صبرتم عليها فقرأتموها، وأشكر لكما يا أخوَيّ الكريمَين الأستاذَين هشام ومحمد علي حافظ أن نشرتماها.

أكتب والله الحلقة ولا أكاد أذكر ما قلت قبلها، ولا أدري شيئاً عمّا سأكتب بعدها. وكلما جاء يوم السبت تلفّتُّ حولي لعلّي أجد مهرباً منها أو عذراً أعتذر به عنها، كالتلميذ الخائف أو المعلّم الكسول الذي يحاول أن يفرّ من المدرسة بأوهى الأسباب. ولكن ما يبدو لي من حرص الناشرَين الكريمَين عليها (ولعلّ هذا الحرص مجاملة لي وحياء مني أن يقولا لي: لقد طوّلتَها وعرّضتها، فخلِّصنا منها وكُفّ أذى قلمك عنّا) وما أسمع من القُرّاء وعنهم من الاستراحة إليها والمسرّة بها، هذا كله يدفعني إلى المضيّ فيها. وأنا أعترف أني بدأت ذكر أحداث لم أكملها بل انتقلت إلى غيرها، وأعترف أني أستطردُ وأتبع مناسبات المعاني، كما يتبع الراعي بغنمه مساقط القطر ومنابت الكلأ، فيضلّ السبيل ويضيع عن القصد. وكثيراً ما بدّلَت طريقي رسالةٌ وردت إليّ أو اقتراحٌ طُرح عليّ، فحوّل مسيري من اليمين إلى اليسار ومن الشرق إلى الغرب. وهذه رسالة كريمة جاءتني من يومين، من مرسل يبدو أنه أستاذ كريم، يقول لي فيها: لقد اشتغلتَ بالتربية والتعليم -كما علمنا منك وسمعنا عنك- من زمن طويل، ولقد عرضتَ بعض ذكرياتك في التعليم، أفليس عندك ذكريات في علم التربية؟ ويا ليتك تعرّف من لا يعرف بهذا العلم وبتجارِبك بتطبيقاته، فتكتب حلقات إن لم يجئ فيها علم ينفع صغار المربّين فلا بدّ أن يكون فيها أدب وفنّ يُمتع جمهور القارئين.

هذا خلاصة ما جاء في الرسالة، كتبتُها بقلمي وعرضتها بأسلوبي. أما الكلام في معنى العلم والتربية فليس ذكرى من ذكرياتي التي لا يعرفها غيري لأنها جزء من حياتي فيحقّ بذلك لي وحدي الكلام فيها، بل هي قدْر مشترَك بين كل المفكّرين، ومن قرّاء الجريدة من هو أقدر عليه وأعرَف به مني. وأنا لم أدرس التربية كما يدرسها المختصّون فيها المنقطعون إليها، وليس في يدي شهادة من أساتذتها على أني من أهلها، ولكني شاركت في تربية إخوتي، وربّيت بناتي، وأشرفت على تربية أحفادي وحفيداتي. وقد بلغ عدد مَن ذكرت إلى الآن واحداً وأربعين، أفلا تكفيني هذه التجارِب وتكون شهادة لي على أن لي معرفة ببعض طرائق التربية؟ وقد بدأت التعليم من إحدى وستين سنة، من سنة 1345، وقرأت من كتب التربية كل ما وصلت إليه يدي، ولا أدّعي مع ذلك أني صرت من كبار المربّين ولا أني من صغارهم. أما تعريف التربية، كما أرى، تعريفاً قريباً من الأفهام بعيداً عمّا أودعَته في الكتب الأقلام، التعريف المنبثق من فكري أنا لا المنقول من الكتب التي ألّفها مؤلّفوها فهو: إن سلوك الإنسان مجموعة عادات، وإن كل عمل جديد هو بداية عادة جديدة، إما أن يستمر فيها وإما أن يرجع عنها. فالتربية هي غرس العادات النافعة والصرف عن العادات الضارّة. أما العلم فلا أعرّفه لأن توضيح الواضحات من أشكل

المشكلات. العلم كما يعرف الناس جميعاً هو نفي الجهل. وليس هذا من قبيل تفسير الماء بالماء، كالذي زعموا أن رجلاً ادّعى الشعر، فامتحنوه أن يصف مجلسهم عند الغدير فقال: فكأنّنا والماءُ مِن حَولِنا ... قومٌ جُلوسٌ حَولَهم ماءُ فقالوا: فسّرَ الماء بالماء! ... إن ما قلت هو المعنى الذي يُسرِع إلى الذهن إن ذُكرت كلمة العلم، فمَن عرف قضية كان يجهلها صار عالِماً بها. لكن للعلم معنى غير هذا؛ ذلك هو الذي يقابل الشكّ ثم الظنّ، أي أنه يأتي بمعنى اليقين، فالشكّ خمسون بالمئة نعم وخمسون لا، والظنّ ستون بالمئة نعم، وغلبة الظن سبعون بالمئة، والعلم مئة على مئة. ومن أراد تفصيل هذا الإجمال وجده في أول كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام»، الذي صدر الجزء الأول منه من سنوات طوال يعرض العقيدة بشكل جديد، ثم لم يوفّق الله إلى إتمامه، مع أن المعلومات كلها في ذهني والقلم في يدي، ولكن الهمّة ليست عندي. فالعلم -إذن- قد يأتي بمعنى اليقين. فإن قلنا «عين اليقين» أردنا ما تيقّنه الإنسان عن طريق العين والحواسّ، و «حقّ اليقين» ما جاء بالدليل القطعي الذي يكاد يصل إلى حدّ البديهيات. وعندنا العلم الذي يقابل الفنّ. وقد سبق مني القول فيه مراراً، وبيانه أن مطامح البشر تقف عند ثلاث هي: الحقّ والخير

والجمال. تلك هي المُثُل العليا للبشر، فما كانت غايته الحقّ وسبيله الفكر وأداته المحاكمة فهو «العلم»، وما كانت غايته الجمال وسبيله الشعور وأداته الذوق فهو «الفنّ». أما العلم (بمعنى science) كعلم الطبّ والفيزياء فله عند علمائنا الأولين تعريفات كثيرة جداً، ولكن أجود تعريف سمعت به وأقربه إلى الوضوح ما قاله سارطون، ولا يضرّنا أن نأخذه منه فإن الحكمة ضالّة المؤمن (أي أنها مُلك له ضاع منه وندّ عنه) فهو يلتقطها حيث وجدها. قال سارطون: «العلم مجموعة معارف محقَّقة ومرتَّبة». لمّا قال «معارف» أخرج المشاعر، ولمّا قال «محقّقة» أبعد النظريات، ولمّا قال «مرتّبة» نفى الحقائق المفرَدة المنثورة التي تبدأ بها العلوم عادة قبل استكمال تكوينها. * * * أما التعليم، فليس كل من عَلِم شيئاً استطاع أن يعلّمه وما كل عالِم يصير معلّماً؛ فالتعليم أن تختار الأسلوب الذي توصل به هذه المعارف إلى أذهان المتعلمين. وذلك يقتضي معرفة بمدى إدراك الطالب فلا تكلّفه بما هو فوق إدراكه، وبمدى قبوله ما تلقيه عليه وإلا أغلق ذهنه دونك فقرعت باباً لا يُفتَح أبداً، وأن تزيح من طريقه العوائق التي تُعيق فهمه عنك وينشغل بها عمّا تقول، ومن هذه العوائق ما يكون فيك أنت أيها المدرس: فلا ينبغي أن يكون في هيئتك ولا في لهجتك ولا في أسلوب معاملتك شيء غريب يقف فكره عنده فلا تستطيع أن توصل إليه ما عندك.

وأنا أحمد الله على أني كنت معلّماً ناجحاً. لا أقول ذلك عن نفسي وحدي، بل يشهد به تلاميذي على مدى إحدى وستين سنة، منذ بدأت التعليم. علّمت في المدارس الأولية في القرى والابتدائية في المدن، والمتوسطة والثانوية، وعلّمت في الجامعات، وفي أقسام الدراسات العليا فيها، وعلّمت شباناً وعلمت في مدارس البنات (وإن كنت أستغفر الله ممّا فعلت ولا أُجيز مثله)، وعلّمت في مدارس المشايخ كما علّمت في مدارس الشباب. وكان من أسباب توفيقي ثلاث، أوصي بها من أراد أن يكون معلّماً ناجحاً: أولها: استيعاب المادّة التي يدرّسها والإحاطة بها، والرجوع إلى كلّ كتاب يصل إليه من كتبها، لا يقتصر على الكتاب المقرَّر. أما في الجامعة فلا يجوز أبداً أن يُقرَّر للطلاب كتاب بعينه لا يرجعون إلاّ إليه ولا يأخذون إلاّ منه، ومن يفعل ذلك من الأساتذة يكن معلّم مدرسة ابتدائية لا أستاذاً في جامعة. الثاني: أن يسلك إلى إفهام الطلاّب كل سبيل، فإن ساق المسألة بعبارة لم يفهموها بدّل العبارات حتى يصل إلى العبارة التي يستطيعون أن يفهموها، وما دامت مسائل العلم في ذهنه وكلمات اللغة بين يديه سَهُلَ ذلك عليه. لمّا جاءتنا هذه الرياضيات الحديثة نقل بعضُ الأساتذة منّا ما قاله فيها غيرنا، فما فهمنا عنهم وما أحسب أنهم هم فهموا ما نقلوا، فجاء أخي الدكتور عبد الغني فشرحها في كتابه الذي وضعه لطلابه في جامعة دمشق من أكثر من عشرين سنة، فإذا هي

مفهومة واضحة. أحسب أني بَعُدتُ عن موضوع الذكريات، وهذا دائي؛ أذهب يميناً وشمالاً، ولكن آتيكم حيثما ذهبت بما ينفعكم أو يُمتِعكم. * * * أمّا الشرط الثالث فهو أن يكون طبيعياً، فإن لم يعرف المسألة قال للطلاب: إني لا أعرفها، وإن أخطأ قال لهم: إني أخطأت فيها. لمّا جئت مكّة أدرّس في كلّية التربية سنة 1384هـ جاء ذكر مسألة فقهية ذكرتُ فيها الحكم في مذهب الإمام أحمد، فقام أحد الطلاّب يردّ علي بأدب بأن المذهب ليس على هذا وأن المسألة ليست كما ذكرتُ. فأطَلتُ لساني عليه وقلت له: لقد درستَ اثنتي عشرة سنة حتى وصلت الجامعة وأنت لا تعرف الحكم في المذهب الذي يمشي عليه أكثر الناس في هذه البلاد ... وكلاماً من أمثال هذا، ما كان لي حقّ فيه وما كان بيدي مسوّغ له، وهو ساكت لا يُجيب. فلما رجعت إلى الدار فتحت كتب الفقه الحنبلي، فإذا المسألة كما قال الطالب لا كما قلت أنا. أفتدرون ماذا صنعت؟ جئت في الغد فقلت للطالب: أنا أعتذر إليك، لقد كنت أنا المخطئ وأنت المصيب، وأعتذر إليك مرّة أخرى لأنك كنت مهذّباً ولأنني لم أكن في التهذيب على ما يُطلَب من العلماء، فسامحني.

هل تظنون أن هذا الموقف نقص احترام الطلاّب لي أو تقديرهم إياي؟ لا؛ بل أؤكد لكم أنهم زادوني تقديراً وأنهم استفادوا منه درساً لعلّه أكبر من الدروس التي تُستفاد من الكتب. وممّا وقع لي أنني كنت في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي أدرّس -مع اشتغالي بالقضاء- في ثانوية البنات الأولى في دمشق، فكلّفت الطالبات في درس الإنشاء الذي يَدْعونه الآن «التعبير» الكتابة في موضوع يخترنه بأنفسهن لا أفرضه عليهن. وكانت عندي بنت أحسبها شركسية الأصل، صارت الآن كاتبة معروفة في سوريا اسمها نادية خوست، فقالت: أتسمح أن أكتب عنك؟ قلت: نعم. فقالت بمكر ظاهر: ولو كتبت عنك ما لا يُرضيك؟ قلت: اكتبي ما شئت، لكن التزمي الصدق وحدود الأدب. فكتبت قطعة لا تزال عندي بخطها، وقد مرّ عليها الآن أكثر من ثلث قرن، تصفني فيها وصفاً يُضحِك عليّ كل من قرأه، تسخر مني وتهزأ بزيّي وشكلي وحركاتي، ولكن القطعة مكتوبة كتابة جيدة. فماذا صنعت بها؟ أعطيتُها الدرجة العالية على أسلوبها لأنه كان في الحقّ أسلوباً أدبياً ممتازاً، وأحلتُها على لجنة التأديب في المدرسة. فاحتجّت، فقلت لها: إنك تحسنين الكتابة، لذلك أعطيتك العلامة الكاملة كما يُعطى الذي يصيب الهدف في مباراة الرماية، لكن مَن يحسن الرماية لا يجوز له أن يرمي الأبرياء وأن يعتدي على الناس. ولمّا أوقعوا عليها العقوبة عفوت عنها. وما كان في نفسي شيء منها لأنني من تلك الأيام، بل من أطول منها، قد تعوّدت

النقد وألِفت الهجاء، فلو كتب الآن عني كاتب ورماني بكل موبقة ومزّق أديمي كل ممزَّق ونسب إليّ كل رزيّة ما حرّك ذلك من جسمي شعرة واحدة، وقرأت ما كتب كما أقرأ هجاء جرير أو بشار أو ابن الرومي، أقرؤه على أنه أدب مجرد. * * * والصدق أقرب طريق، لا سيما مع الأطفال، إلى بلوغ المرام وكسب الاحترام. وقد وقعت لي حوادث كثيرة لي فيها كتابات متناثرة في كتبي، لو جُمعت لجاءت منها رسالة كبيرة فيها تجارِب في التربية تنفع من يقرؤها؛ من ذلك أن صفوان ابن أخي ناجي، وكان صغيراً، وهو اليوم فوق الأربعين وله قلم بليغ، أرادوا أن يُسقوه دواء كريهاً فأبى أن يشربه، فأحاطوا به يقولون له: إنه طيّب وإنه لذيذ فذُقه، ذُق منه قليلاً، إنه طيّب ... وهو يأبى ويبكي. فقلت لهم: دعوني معه. فأخذته جانباً فكلّمته بحيث لا يسمعون، قلت: يا صفوان، هذا الدواء واللهِ كريه جداً وطعمه لا يُحتمَل ولا تستطيع أن تشربه، ولكنني إذا مرضت مثل مرضك شربتُه وأنا كاره له. فتعجب وقال: كيف تشربه إذا كان كريهاً؟ فضحكت وقلت: لأنني كبير، والكبير يقدّر المنفعة، فإذا كان الدواء على سوء طعمه نافعاً شرِبَه ولو كان كارهاً، أما أنت فلا تشربه لأنك صغير. قال: بل أنا كبير. قلت: ياابني أنت صغير لا تستطيع أن تشربه، وأنا لمّا كنت صغيراً مثلك كنت أرفض الدواء مثل رفضك، أو أصنع شيئاً لم تصنعه أنت لأنك أحسن مني. ففتح عينيه وقال: ماذا كنت تصنع؟ قلت: كنت

آخذ كأس الدواء وألقيه وراء المخدّة (وكنا نقعد على وسائد على الأرض ونستند إلى مخدات وراء ظهورنا). فضحك وقال: أنت تفعل هذا؟ قلت: نعم، وأمّا الآن فأنا أشربه لأنني كبير. قال: وأنا كبير. قلت: لا، أنت لست كبيراً. وتركته وهممت بالانصراف، قال: يا عمو أنا كبير، أشربُه. فالتفتّ إليه وقلت له: إنك لا تستطيع أن تشربه، الله يرضى عليك، الصغار لا يشربون الدواء الكريه. قال: أنا لست صغيراً، أشربه، انظر شوف كيف أشربه. والتفتّ ببعض جسدي فرأيته قد شرب الدواء. فالصدق مع الصغار خير من أن نكذب عليهم وأن نوهمهم ما يكذّبه الواقع. جاءني مرّة أحد أحفادي وهو يكره المدرسة لا رغبة له فيها. فقلت له: الحقّ معك إذا كرهت المدرسة ولم تحبّها، فأنا أيضاً لم أكن أحبها وكنت أحاول الابتعاد عنها، وإذا كانت عطلة أو غاب المدرس، ولو في غير يوم العطلة، كنت أفرح لغيابه. فتعجب وقال: لماذا لم تكن تحب المدرسة؟ قلت ما معناه: إنها قصّة قديمة جداً، وأقول لكم يا أيها القُرّاء: إنها عقدة نفسية عمرها أكثر من خمس وسبعين سنة، أُصِبت بها وأنا صغير ولكني كبرت ولم أستطع الخلاص منها. كان ذلك سنة 1332هـ قبل إعلان الحرب العامّة الأولى، وكان جدي يأخذني معه إلى جامع التوبة في أكثر الصلوات، فذهبت معه يوماً إلى صلاة الفجر، فلما قُضيَت أدخلني باباً يقابل المسجد، فوجدت ضجّة ودوياً ورائحة ليست مستحَبّة، وكان

المكان مظلماً وأنا داخل إليه من الشارع المشرق، فلم أرَ شيئاً، فأمسكتُ من الخوف بيد جدي حتى ألفَت عيناي الظلمة، فرأيت غرفة واسعة جداً نصفها عليه دكة واطية من ألواح الخشب وتحتها فراغ وسخ، كما يكون في كثير من بيوت البلد في تلك الأيام، وهذا الفراغ تملؤه أمم من الحشرات والهوام، يقعد عليه صِبية قد اصطفّوا صفوفاً بأيديهم «الصبرة» (أي كتاب التهجية) وإن كانوا أكبر حملوا جزء عمّ، وهم يهتزّون مع كل كلمة ولهم صخب يُصِمّ الآذان، وأمام هذه الدكّة عشرات من الأحذية والقباقيب يركب بعضها بعضاً، وفي وسط الصفوف شيخ على كرسيّ عالٍ أمامه عِصيّ، عصا قصيرة وعصا طويلة وعصا أطول منها، فمن رآه قصر في الهزّ أو وقف عن القراءة أو عن الضجيج خفقه بالعصا القصيرة إن كان قريباً منه، أو بالمتوسطة إن كان وسط القاعة، وبالطويلة إن كان في آخرها. فلما رأى الشيخ جدي، وكان مهيباً موقَّراً، نهض إليه فاستقبله وأشار إليه ليجلس، فبقي جدي واقفاً وكلّمه وهو يشير إليّ، ثم تركني وحدي مشدوهاً وذهب. لقد كتبت في وصف هذا الموقف كثيراً وحدّثت به بالإذاعة كثيراً وجعلته مدار قصص كتبتها، ولم أوفِّه حقّه، ولم أستطع أن أعبّر فيما كتبت وما حدّثت عن مبلغ ما أحسست به يومئذ من الذعر والألم. مرّ عليه الآن ثلاثة أرباع القرن ولا أزال كلما ذكرته أذكر ذلك الرعب والخوف والذعر، وأشياء أخرى أفظع ممّا ذكرت لم أكن أعرف لها اسماً ولا أجد لها اليوم وصفاً. كان هذا الكتّاب بداية عهدي بالمدرسة. فهل تنتظرون مني

أن أحبها وكانت هذه بدايتها؟ لقد قرأتم في هذه الذكريات ما مرّ بي بعدها في المدرسة الكبيرة التي كان أبي مديرها العامّ، وكنت ابنه الوحيد المدلَّل. وعرفتم أني لم أكن فيها أحسن حالاً ولا أروَح بالاً. أين هذا الذي كان في أيامنا ممّا يجده الأطفال اليوم في رياض الأطفال وفي أكثر المدارس الابتدائية؟ في سنة 1959 (1378هـ) كانت لي أحاديث مستمرّة في إذاعة دمشق كالذي تسمعونه لي اليوم من إذاعة الرياض، وقلت في حديث منها (¬1): نويت أن أجعل هذا الحديث ليوم الطفل، فصحّت النية ولكن لم يتمّ المراد. أردت أن أتكلم فيه عن مشكلات الطفولة اليوم فكان الحديث عن ذكريات الطفولة لي أنا بالأمس، وأردته موعظة وعبرة فجاء قصّة وذكرى. والقلم قد يجمح بيد الكاتب أحياناً كما يجمح الفرس بالفارس، فيمشي حيث يريد هو لا حيث يريد صاحبه. ذلك أنني قعدت لأُعدّ هذا الحديث (وكنت يومئذ أكتب أحاديثي) وأنا لم أهيّئ أفكاره لأن الوقت قد ضاق بي وأعجلني الموعد، فشرعت وما ركّزت أُسُس الفكرة ولا تبيّنتُ مسالك القول، وأخذت القلم أنتظر ما يفتح به علي، فما فُتح عليّ باب القول، ولكن فُتح باب الغرفة ودخل مؤمن الصغير، ابن بنتي ¬

_ (¬1) انظر مقالة «في الكتّاب»، وهي منشورة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

(وهو اليوم طبيب في مستشفى الملك فهد في جدة) دخل وهو محمرّ العين سائل الدمع على الخدّين ينشج نشيجاً مؤلماً، فظننت أنْ قد أصابه شيء ووثبت أسأله: ما لك؟ هل وقعت؟ فهزّ رأسه. قلت: هل ضربوك؟ فهزّ رأسه. قلت: ما لك؟ فقال بصوت مختنق بالبكاء تقطّعه الزفرات، قال: إدّو، إدّو (أي جدّو)! قلت: نعم؟ قال: لوح ... قلت: لوح؟ لوح شُكَلاطة؟ قال: لوح دسِهْ أمان. فلم أفهم. فجاءت خالته الصغيرة يمان (وهي اليوم أم لأربعة أولاد) تترجم عنه، قالت بلسانها الناقص: بدّو لوح دسة مع أمان. قلت للمدرسة مع أمان؟ فأشرق وجهه وسكت، وقال: لوح دسة أمان. قلت: وتبكي من أجل المدرسة؟ أقعد هنا أحسن بلا مدرسة. فلما سمع ذلك صرخ من كلمتي وعاد يبكي ويعول، فهدّأته ووعدته حتى سكت. وجعلت أعجب منه إذ يبكي شوقاً إلى المدرسة، وأذكر كيف كنا نبكي نحن خوفاً منها، وكرهاً لها. وكرّت بي الذكرى إلى أول خطب من خطوب الدهر نزل بي؛ لست أعني الحرب العامّة، فلم تكن الحرب قد أُعلنت وما كنت يومئذ لأفقه لها معنى أو أبالي بها، ولكن أعني ما هو أشدّ وأفظع، أشدّ عليّ أنا، ذلك هو أول دخولي المدرسة. لقد كان يوماً أسود لا تُمحى من نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم كلما ذكرته أتصور روعه وشدّته. لقد كرّه إليّ المدرسة وترك في نفسي من بغضها ذخيرة لا تنفد، ولقد صرت من بعدُ معلّماً في الابتدائية ومدرساً في الثانوية وأستاذاً في الجامعة، وما ذهب من نفسي

الضيق بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبت إلى المدرسة أو إلى الجامعة مرّة إلاّ تمنيت أن أجدها مغلَقة أو أجد الطلاّب قد انصرفوا منها والدروس معطلة فيها! (إلى أن قلت): لقد كان التلاميذ يبقون في هذا الكتّاب الذي أخذني جدي إليه من بُعَيد مطلع الشمس إلى قُبَيل الغروب، قاعدين لا يتكلمون ولا يستريحون ولا يلعبون، ولا يكفّون عن القراءة والاهتزاز، يحملون أكلهم معهم فيأكلون وهم قاعدون، وإذا عطشوا قاموا إلى البِركة فوضعوا أفواههم في مائها الملوّث وعبّوا مثلما تعبّ الجمال، وإذا كانت لهم حاجة ذهبوا إلى مراحيض المسجد. والكتّاب مغلَق دائماً مظلم دائماً، لا يُفتَح له باب ولا نافذة ولا يُجدَّد له هواء، ولا يمضي على الولد فيه يوم لا تصيبه من الشيخ بليّة: خفقة بالعصا على رأسه من بعيد أو ضربات على رجلَيه بالفلق من قريب، أو «مونولوج» كامل من أقذع الهجاء يقرع أذنيه. ولقد كان من المناظر المألوفة كل صباح منظر الولد العاصي (العَصْيان) وأهله يجرّونه، والمارّة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسّك بكل شيء يجده ويلتبط بالأرض ويتمرّغ بالوحل، وبكاؤه يقرح عينيه وصياحه يجرح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يُساق كأنه مُجرم عاتٍ، يرى نفسه مظلوماً ويرى الناس كلهم عليه حتى أبوَيه. فتصوروا أثر ذلك في نفسه في مقبل أيامه.

فلا عجب -يا أولادي- أن تبكوا رغبة في المدرسة وقد صارت لكم جنّات، وما عجب أن نبكي منها وقد كانت علينا جحيماً. هي لكم مائدة عليها الطعام اللذيذ الخفيف في أجمل الأواني، وحولها الزهر والورد ومن ورائها الموسيقى والنغم، وقد كانت لنا طعاماً دسماً ثقيلاً في أوسخ آنية وأقذع منظر. ولكن مَن استطاع منّا أن يأكل أكثر وأن يهضم ما أكل وأن ينتفع به؟ أنتم على كل هذه المشهّيات، أم نحن على كل تلك المنفّرات؟ أنتم تلبسون للمدرسة أبهى الثياب، ونحن كنا نجيء واللهِ بثوب النوم (السّركس) الذي لا يصل لأكثر من نصف الساق وفوقه رداء (جاكيت) الأب الذي رثّ وبلي فحوّلَته الأم وصيّرته لنا، وفي الأرجل القبقاب أو الكندرة المصنوعة في المناخلية. ولقد صرت في الثانوية وما عرفت دكّان الخياط، إنما ألبس ما تخيط أمي رحمها الله، وما كان فينا من اتخذ عقدة (كرافتة) حتى بلغنا البكالوريا فأين هذه العناية التي تلقونها ممّا كنا فيه؟ * * *

ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثر رسوخا رغم مساوئه؟

-176 - ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثر رسوخاً رغم مساوئه؟ أُتِمّ اليومَ الذي بدأتُه في الحلقة الماضية. ذكريات ممّا مرّ بي في تربية الأولاد، ليست بحثاً جامعياً (أكاديمياً) وليس فيها جديد لا يعرفه القرّاء ولم آتِ فيها بما عجزَت عنه الأوائل، لم أصل إلى قبر توت عنخ آمون ولا كشفت البنسلين، وإنما هي وقائع يقع مثلها لكل أب، ينتفع منها من شاء الانتفاع وربما استمتع بها من أراد الاستمتاع، ومن لم يُرِدهما أو لم يجدهما أضاع ربع ساعة من عمره الذي يحرص أكثرنا على إضاعته فيما لا نفع فيه ولا جدوى منه، كأن أعمارنا -وهي رأس مالنا- عبء على عواتقنا علينا أن نتخفّف منه ما استطعنا! وبعد، فهل استطعتُ بهذه المقدمة أن أقي نفسي نقد الناقدين، الذين سيقولون إذا قرؤوا ما كتبت: ما له يعلّمنا ما نَعْلمه، ويذكّرنا بما لم ننسَه، ويضيع أوقاتنا في كلام مُعاد مكرور؟ * * * قلت لكم إن التربية كما أفهمها هي غرس العادات الحسنة،

وإن العادة تثبت بمرّة واحدة كما يقول بعض الفقهاء: فمن لم يدخل في عمره ملهى يصعب عليه دخوله، وإن قدّرنا هذه الصعوبة بالرقم وقلنا بأنها مئة مثلاً، فإن دخله مرّة كانت صعوبة الثانية عشرين بالمئة فقط، وإذا دخل المرّة الثانية قعد في المكان الذي اقتعده أول مرّة. من تجارِبي أنني كنت أحاول تصحيح عادات بنتي من الصغر، فكان الأهل يعجبون مني حين أقول للطفلة التي لم تكمل الأربع: لا تفتحي فمك عند المضغ، وأحرّك فكّي أمامها كأني آكل وفمي مُغلَق أو آكل أمامها فعلاً من غير أن أفتح فمي. أعلّمها بالقول وبالفعل، وهذه هي سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، المعلّم الأعظم، حين علّم المسلمين أحكام الصلاة ثم صلّى أمامهم وقال «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، وحجّ معهم أو حجّوا معه، وقال لهم بعد أن لقّنهم أحكام الحجّ: «خُذوا عني مناسكَكم». وأعلّم البنت كيف تغسل يدها بالصابون، فما كانت تعرف كيف تمسكها وكلما أمسكَت بها أفلتت منها، فقلت لها: أمسكيها باليمين وحرّكي أصابعك قليلاً، ثم انقليها إلى الشمال فحرّكي أصابعك، وكرّري ذلك. فتعلّمَت كيف تغسل يدها بالصابون. وكنت من حين تظهر أسنان الطفلة آتيها بفرشاة صغيرة وأعلّمها كيف تستعملها من فوق لتحت ومن تحت لفوق، لا أشرح ذلك باللسان فأجعل منه معادلة كيمائية أو قاعدة نحوية لا نفع منها ولا داعي إليها، بل أصنعه أمامها وأقول لها: اعملي مثلي. وخيرٌ من ذلك أن أعمله من غير أن آمرها صراحة بعمله، بل أجعلها هي تقلّدني فيه. ثم لمّا كبرَت قليلاً علّمتُها كيف تستعمل

الشوكة والسكين، لا حباً بالعادات الإفرنجية بل تدريباً لها على ما سيواجهها في حياتها، حتى إذا اضطُرّت يوماً إليها كانت قادرة عليها. وليس في هذا مخالفة للسنّة كما قد يتوهم بعض القارئين، فالرسول ‘ استعمل السكين لقطع اللحم، ودينُنا لا يمنعنا من أن نأخذ كل ما فيه مصلحة لنا من عادات غيرنا إن لم يكن قد نهانا عنها ربنا ولم تكن مخالفة لشرعنا. ونحن في حياتنا اليوم أقرب إلى طرائق الحياة الأجنبية منّا إلى ما كان عليه أجدادنا قبل مئة سنة، في طعامنا وشرابنا وفرش بيوتنا ووسائل انتقالنا وأوضاع مدارسنا ووسائل دفاعنا، يستوي في ذلك إمام المسجد وشيخ القبيلة ومن درس من أولادنا في أوربا وأميركا. لقد داخلَتنا مظاهر هذه الحضارة وغلبت علينا، شئنا أم أبينا. فإذا فتحنا أعيُننا وحكّمنا عقولنا وأخذنا الصالح منها باختيارنا وتركنا السيئ بإرادتنا، خيرٌ لنا من أن نصنع مثل الذي صنعنا يوم واجهَتنا ودخلَت فجأة علينا في أعقاب الحرب الأولى، لمّا كنت أنا في آخر مرحلة من الدراسة الابتدائية، فحاول فريق من مشايخنا نبذها كلها والإعراض عنها ومحاربتها، فما استطاعوا، وفريق من مجدّدينا ومقلّدينا أراد أخذها كلها بخيرها وشرّها، فما أفلحوا. * * * وكنت -مع هذه العناية بأكل بنتي وسلوكها ونظافتها- أهتمّ بما هو أولى من ذلك كله وأسمى، وهو غرس بذور الإيمان في قلبها. ولي تجرِبة مع بناتي ذكرتها في الرائي وفي الإذاعة مرات، ولعلكم سمعتموها. وأنا أعلم أن أثقل الكلام الحديث المُعاد،

ولكن عذري إذا أعدت الكلام في الجريدة أو في الرائي أو في الإذاعة أن القارئين والمشاهدين ليسوا نفراً محدودين، ولست أتكلّم في مجلس مغلَق ولكنني أخاطب أقواماً يتبدّلون، يذهب منهم ناس ويأتي ناس. وكنت أظن أني لم أُسبَق إلى هذه التجرِبة حتى عرفت الصديق النبيل فعلاً، السيد عبد الحميد الخطيب رحمة الله عليه، وعندي عنه ذكريات كثيرة ربما جمعتُها في فصل أكتبه، عرفته في المفوضية السعودية في كراتشي (ولم تكن قد صارت سفارة)، وعرفته في قصره في دُمّر في أوائل الوادي، دمر التي تبعد عن دمشق سبعة أكيال فقط. هذا الرجل الذي جمع الله له الأمرين اللذين بيّن عليه الصلاة والسلام أنه لا حسد (أي لا غبطة) إلاّ فيهما: علم يُنتفَع به وينفع به الناس، فهو يكتب ويؤلّف ويوزع كتبه توزيعاً، ومال ينفق منه على ما يُرضي مَن منحه هذا المال. سمعت منه أن أباه الشيخ أحمد الخطيب كان يقول له بعضاً ممّا كنت أقوله لبناتي، وكنت أظنّ أني لم أُسبَق إليه. وأقول -بالمناسبة- إنني لمّا كنت أكتب عن أندونيسيا بقيَت عندي بقايا، منها فصل عن الرجال المصلحين الذين ظهروا فيها، ومنهم الشيخ أحمد الخطيب العالِم الأندونيسي الجليل الذي قدم مكّة فاتخذها له موطناً، وأقبل التلاميذ عليه وسعوا إليه وأخذوا من علمه (¬1). ¬

_ (¬1) انظروا قصته في فصل «لمحات من تاريخ الدين والوطنية في أندونيسيا» في كتاب «في أندونيسيا»، والفصل طويل فانظروا الحديث عن الشيخ أحمد هذا تحت عنوان «الإصلاح الديني في أندونيسيا وأثره في الحياة الاجتماعية» (مجاهد).

فهل الشيخ أحمد هذا هو والد السيد عبد الحميد؟ لست أدري. كنت أجيء بنتي ببعض الحلوى أو بعض اللُّعَب فأقول لها: "شوفي شو بعث لك الله، الله بعث لك هذا". فلا تنتبه إليّ، يشغلها فرحها بما جئتها به عن التفكير بما أقول لها، حتى إذا كثر ذلك مني ومنها سألَتني يوماً: الله عنده لعب كثير؟ فقلت لها: عنده كثير كثير، عنده أشياء ما لها آخر. عنده لعب وعنده حلوى وعنده كل شيء، فإذا طلبت منه فإنه يعطيك. قالت: أين هو؟ قلت: إنك لا يمكن أن تريه بعينك، ولكنه يسمع كلامك إذا طلبتِ منه، فقولي: يا الله ابعث لي كذا فإنه يبعث لك. وصرت كلما سمعتها تدعو تطلب شيئاً جئتها به، ففاجأتني يوماً فقالت: بابا، لقد طلبت من الله لعبة فما جاءتني! فقلت لها: الله يعطي الأولاد الذين يحبّهم، والله يحبّ البنت التي تُطيع أمها والتي لا تكذب والتي تكون نظيفة ... (وعددت لها بعضاً من الصفات التي تقدر على مثلها) فإذا طلبتِ شيئاً فلم يُعطِك فمعنى ذلك أنك عملت عملاً لا يحبه الله. وانتقلتُ بها وبأخواتها من بعدها خطوة خطوة، فكنت إذا أحسنَت الواحدة منهن لا أقول لها: أنا سآتيك بشيء جميل أو أجلب لك لعبة ظريفة، بل أقول لها: إن الله سيُدخِلك الجنّة. وإذا عملَت عملاً سيئاً لا أهدّدها بالضرب أو العقوبة مني، بل أقول لها إن الذي يعمل مثل هذا ربنا يحرقه بالنار. وسألَتني يوماً: ما هي الجنّة؟ قلت لها: الجنّة دار كبيرة جداً وحولها حديقة عظيمة فيها أنواع من اللعب ومن الأُكول الطيّبة

ومن كل شيء تريدينه، وكله بلا ثمن، تأخذين ما شئت، فالأولاد الذين يسمعون كلام أمهاتهم وآبائهم ولا يكذبون ولا يعملون الأعمال القبيحة يُدخِلهم ربنا الجنّة، والكفار الذين لا يعبدون الله ولا يصلّون ولا يصومون يُدخِلهم النار. ومشيتُ مع الأولاد على هذا الطريق، وكنت أُلقي عليهم النصائح أو المواعظ في كلمة عارضة؛ كنت إذا سمعتها تقول كلاماً سيئاً أقول لها لمّا كبرَت قليلاً: رحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت عن شرّ فسلم. فإذا أمرتها بشيء أقرنه بثواب الله الذي يُعطيه لمن يعمل مثل هذا الشيء الحسن، فنشأَت من الصغر على خوف الله وعلى مراقبته. ولقد قبستُ هذا عن شيخنا الشيخ عيد السفرجلاني رحمه الله، الذي مرّ خبره في هذه الذكريات وكان مدير مدرسة ابتدائية تخرّج فيها أكثر من نعرف من مشايخنا ومعلّمينا، هذا الرجل الذي لبث سبعين سنة وهو يعلّم، كان يلقي علينا الموعظة بكلمة عابرة تدخل آذاننا فتستقرّ في قلوبنا ولا تخرج منها. وأنا إلى الآن أحفظ كثيراً من الحكم والأحكام التي أخذتها منه، حتى وهو يؤدّبنا بالضرب. وإذا رأت البنت في دار إحدى صديقات الأسرة عندما تزورها مع أمها، إذا رأت امرأة سافرة مثلاً أقول لها: لا تعملي مثلها، هذه لا تسمع كلام الله؛ الله خلقها وأعطاها كل ما تريد وقال لها لا تكشفي جسمك أمام الرجال الأجانب فعصت. فتقول البنت: لماذا لا يعاقبها الله؟ فأقول لها: متى ترتقين يابنتي بالمدرسة من صف إلى صف؟ تقول: بعد الامتحان. أقول لها: نعم، عند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان، وهذا الامتحان في المدرسة امتحان صغير،

التي ترسب في صفها تتألّم أياماً وتُفتضَح أمام أهلها ورفيقاتها، ولكن أمامنا الامتحان الأكبر، امتحان يدخل فيه الناس كلهم تلاميذ، الصغار والكبار والمعلّم والمتعلّم والحاكم والمحكوم، كل مَن مات ودُفن من عهد آدم إلى آخر البشر، فيُحييهم ربهم ويجمعهم في مكان واحد وتُوزَن أعمالهم: فمَن عمل خيراً ومات مؤمناً ذهب إلى الجنّة، ومن كان كافراً أو عمل سيئاً يُعاقَب بالنار، وهنالك الفضيحة تكون أمام البشر كلهم لا أمام الرفاق والأهل فقط، إلخ. كذلك كنت أُلقي على البنات أصول العقائد وأغرس في قلوبهم بذور الإيمان، بكلمات عارضة تأتي خلال الكلام وبأسلوب يفهمه الصغار، فما كلّ كلام يفهمه الصغار، وأكثر الأحاديث التي تُلقى في الإذاعة على أنها أحاديث أطفال وأكثر الكتب التي تُؤلَّف للأطفال لا يفهمها الأطفال. ذهب حفيدي عمرو مرّة مع أبيه إلى الشركة، وكان صغيراً، فلما رجع سألته: ماذا يعمل أبوك في الشركة؟ قال: عنده ثلاجة كبيرة يضع فيها الأوراق. ثلاجة يضع فيها الأوراق؟! ما هي هذه الثلاجة؟ هي صندوق الحديد. صندوق الحديد كلمة ليست داخلة في معجم الطفل، لذلك حوّلها إلى ما يعرف. فإذا أردتم أن تكتبوا للأطفال فاجمعوا من أولادكم وأولاد الجيران والأقرباء جماعة منهم، وليتكلّم مَن يريد أن يحدّث الأطفال، فإن تركوا ما هم فيه وانصرفوا عمّا يشغلهم وأقبلوا عليه يستمعون منه يكون قد نجح في حديثه، وإذا تركوه يتكلّم وأقبلوا على ما هم فيه يكون محدّثاً خائباً. والدليل على

ذلك أن أحاديث الأطفال التي تُعرض في الرائي، إذا نظرتَ إليهم وجدتهم بين غافل عن الحديث أو منشغل بغيره أو متحدث مع رفيقه، ذلك لأنهم لا يفهمون ما يُلقى عليهم وما يُقال لهم. * * * ولي تجارِب صغيرة أسرد طائفة منها، لعلّ في سردها ما ينفع الآباء أو صغار المربّين. لقد بكّرتُ في تعليم الأولاد حمل التبعات، فلما كانت بنتي الأولى تدرج، أي تتعلّم المشي ولا تُحسِنه، وكنا نأكل في صحن الدار، أخذتُ طبقاً فيه بقية طعام وقلت لها: لقد صرتِ كبيرة فاحملي هذا إلى المطبخ. فصاحوا جميعاً: إنها تكسره، فقلت: إنها كبيرة. ووضعتُه في يدها ووضعت الثقة في نفسها، فحملَته ومشت وعيني عليها، وكنت متأهّباً، حتى إذا رأيتها مالت إلى السقوط وثبتُ إليها فأمسكت بها. وكانت هذه البنت تحب السهر، فلا تستطيع أن تأوي إلى فراشها حتى يدخل كل من في الدار في فراشه، ولا تقدر أن تُغمِض عينيها وفي المنزل واحد مفتوحة عيناه. وقد جرّبنا فيها الأساليب وبلونا معها الحيل، فلم ينفع معها ترغيب ولا ترهيب، حتى أخذ السهر من لون خدّيها ومن بريق عينيها ونال من صحّتها. وسألت إخواني فوجدت أكثرهم يلقى من أولادهم من كرههم للنوم وحبهم للسهر مثل الذي ألقى منها، ولم أجد عندهم دواء لهذا الداء. ففكّرت، فخطر لي خاطر. فقلت لأم البنت: أنا أستطيع أن أحبّب إلى بنتك المنام وأكرّه

إليها السهر، ولكن الدواء مرّ، فهل تعدينني أن لا تأخذك بها رأفة إذا أنا جرّعتها هذا الدواء؟ قالت: نعم. فقلت: عنان! قالت: نعم؟ قلت: سنسهر الليلة، فهل تحبين أن تسهري معنا؟ ففرحت وأشرق وجهها وجعلَت تقفر من الابتهاج وتقول: إي، إي يا بابا. قلت: ولا تتأخرين في القيام إلى المدرسة صباحاً؟ قالت: لا، لا، لا والله، جرّبني. قلت: أسمح لك بالسهر ولكن بشرط واحد. فجزعَت قليلاً وقالت: ما هو؟ قلت: أن لا تنامي حتى أنام أنا. فعاودها الفرح لِما تتصور من مسرّات السهر ومباهجه وقالت: قبلت. وامتدّت السهرة، وتعمّدت أن أحشد فيها كل ما تحبه البنت من قصص حلوة وألاعيب وأنقال (¬1)، حتى نعسَت وكادت تنام في مكانها، ثم نامت. فقالت أمها: لقد نامت، أفأحملها إلى سريرها؟ قلت: هيهات، الآن بدأ العلاج، فشدي أعصابك. وعمدتُ إلى البنت وهززتها حتى أيقظتها، فاستيقظَت مُكرَهة. ومرّت ربع ساعة فعادت إلى المنام، وعُدت إلى إيقاظها. وتكرّر ذلك حتى صارت تتوسل إلي وتقبّل يدي أن أدعها تنام، وأنا أقول لها بدم بارد: لا، السهر أحلى. ألا تحبين السهر؟ حتى قالت: لا، لا أحبه، بدّي أنام ... وانطلقت تبكي. وبرئت من علّة السهر من تلك الليلة. تجرِبة أخرى: كنت أطالع يوماً في غرفتي فسمعت حواراً بين ابنتي الصغرى بيان (وهي الآن محاضِرة في الجامعة بجدّة، ¬

_ (¬1) النّقُل: من العامّي الفصيح، وهو كل ما يُتسلّى به من المكسَّرات وأشباهها.

وكان عمرها أربع سنوات) وبين أمها. قالت البنت: ماما، في غرفة بابا ضبع. قالت لها أمها: ضبع؟! قالت: إي والله تحت كومة المجلاّت. قالت: حرام الكذب يا بنت. قالت: والله، والله، في غرفة باب ضبع. قالت بَسْ (كلمة «بَسْ» فصيحة) يا بنت، لا تكذبي. فبكت البنت وهُرعت إليّ تستشهدني، فضحكت وقلت لأمها: اسأليها ما هو حجم الضبع الذي رأته وما لونه؟ قالت: هو أسود بقدر الأصبع. فغضبَت الأم وقالت لي: كيف تقول إن الأطفال لا يكذبون وهذه البنت تكذب وتُصرّ على الكذب؟ قلت: إنها لم تكذب، فتعالي حتى أريك هذا الضبع. وذهبنا فإذا هو صرصور، فقلت لها: الأولاد مفطورون على الصدق، فإذا كذب الطفل فإنما يكذب لسوء التقدير كما قدّرَت أن الصرصور ضبع، ذلك أنها تسمع أن الضبع حيوان مخيف قبيح ولا تعرف ما هو، فلما رأت الصرصور فخافت منه واستقبحته ظنّته هو الضبع. أو يكذب الأطفال (وذلك هو الغالب) خوفاً من عقوبة الآباء والأمهات، فلينتبه المربّون والأهلون الذين يقسون على أولادهم: إنهم يدفعونهم إلى الكذب. أما الولد بفطرته فلا يكون إلاّ صادقاً، وما قاله المتنبي: والظّلمُ مِن شِيَمِ النفوسِ فإنْ تَجِدْ ... ذا عفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ هذا الذي قاله كذب، لأن من شيم النفوس العدل لا الظلم، والخير لا الشر، والإيمان لا الكفر؛ هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ورُبّ بيت قاله الشاعر أفسد به أخلاق أمة؛ هذا أبوفراس، أما أفسد الناس حين قال: «إذا بِتُّ ظَمآناً فلا نزلَ

القَطرُ»؟ أليست هذه هي الأثَرة، أو ما يسمّونه الأنانية؟ أين هذا من قول المعري: فلا هَطلَتْ عَليَّ ولا بأرضي ... سَحَائِبُ ليسَ تَنْتَظِمُ البلادا أوَ لم يُفسِد أبو فراس بقوله: «لنا الصّدرُ دونَ العالَمينَ أوِ القبرُ»؟ إما أن يأخذ الطالب في الامتحان مئة على مئة أو الصفر؟ إما أن ينجح بدرجة ممتاز أو أن يختار الرسوب؟! أليس بين الصدر والقبر منزلة يمكن أن نأوي إليها وأن نُقبِل عليها؟ والذي قال: «وداوِني بالّتي كانَت هيَ الدّاءُ»، هل كان صادقاً؟ ومتى كان الداء دواءً؟ لقد كذب الفاسق أبو نواس فما يكون الداء دواء أبداً. * * * ومن تجارِبي مع بناتي أن إحداهن كانت تخشى الخروج إلى الحديقة ليلاً، وكنا نسكن في سفح قاسيون. وأين مني الآن قاسيون؟ حرم الله الجنّةَ ونعيمَها مَن حرمني من جواره، حتى إنني لأخشى أن أموت قبل أن تكتحل عيناي برؤية قاسيون. كنا نسكن في دار لها حديقة، فإذا جنّ الظلام وأظلمَت خافت البنت أن تخرج إليها. فأعطيتها مرّة كشّافاً كهربائياً، وخرجتُ بها إلى الحديقة وهي ممسكة بيدي وبيدها الأخرى الكشّاف، فلما توسطنا الحديقة قلت لها: أضيئي نور الكشاف. فأضاءت، وقلت لها: ألا ترين؟ هذه هي الشجرة التي كنا نراها في النهار، وهذه البِركة الصغيرة؛ ما تغيّر شيء، كل شيء في

مكانه. فلماذا تخافين الخروج؟ ألا تخرجين في النهار؟ قالت: نعم. قلت: ما الذي تغيّر؟ والخوف إن كان له سبب معقول كان طبيعياً، فمن كان له طفل يخاف من الظلام وأمثاله فدواؤه أنه يهجم به على ما يخاف منه، فإذا اطمأنّ إليه زال خوفه. أما الخوف الذي هو انحراف سلوكيّ قد يحتاج إلى طبيب نفسي وإذا ازداد صار مرضاً نفسياً، فهو الخوف بلا سبب معقول، ذلك الذي يجب أن نهتمّ به وأن نحرص على مداواته. * * * أعود إلى تجارِبي في المدرسة. وقفتُ بكم في الحلقة الماضية عند مقابلة ما كنا عليه نحن تلاميذ الأمس بما عليه تلاميذ اليوم، فقلت لكم إننا كنا نجيء المدرسة بثوب البيت، ومن تقدّمَت سِنّه ووصل إلى الصفوف العالية جاء ببذلة فصّلَتها له أمه من قديم ثياب أبيه. لم نكن نعرف هذه الثياب الجاهزة، ولم يكن أكثرنا يتردّد على الخيّاطين ولا يعرف تطوّر الأزياء. وكنا نمشي إلى المدرسة في حارات البلد، ولم أقُل في شوارعها لأنه لم يكن في دمشق ونحن صغار إلاّ شارع واحد، هو الذي فتحه جمال باشا سنة 1916. كنا نخوض غبار الصيف ووحل الشتاء، يتناثر من أعقابنا على ذيول ثيابنا حتى يصل إلى رُبع الثوب ممّا يلي الأرض، والمطر يهطل فوق رؤوسنا وميازيب الماء (أي المزاريب) التي كانت تنزل على الطريق ينصبّ ماؤها علينا. كانت تلك حالنا أو حال أمثالنا من أوساط الناس

وفقرائهم، أما الأغنياء، وهم أولاد البشوات والأكابر، فكان يوصلهم الخدم على الدواب، وأحياناً بالعربات. وهؤلاء قِلّة قليلة وحالتهم نادرة، والنادر لا حُكمَ له. فكيف يأتي التلاميذ اليوم إلى المدارس؟ سلوا السيارات التي تسدّ الطريق عند أبوابها. وماذا يلبسون للمدارس؟ سلوا باعة الثياب وخيّاطيها. وانظروا حال الشوارع المزفَّتة (ولا تقُل المسفلَتة) التي لم يعرف مجتازوها ما معنى الوحل الذي كنا نغوص فيه. وفي المدرسة من كان أرفه عيشاً ومن يجد معاملة ألطف وعطفاً أكثر، نحن أم أنتم؟ هل من أبناء اليوم من يعرف ما هو «الفلق» (أي الفلقة) الذي كانت تُربط به أرجلنا، وينقع بعض القساة من المعلّمين (وأكثرهم كانوا قساة جبارين) ينقعون قضبان الرمّان بالماء حتى يشدّها الماء ويَزيد منها البلاء، أو يأتون بأعواد الخيزران، فيضربون بذلك الأولاد حتى تحمرّ الأرجل وتتورّم، وربما انبثق منها الدم! يضرب بعضهم ضرب موتور منتقم لا ضرب مربٍّ رحيم. والسجن في أقبية المدارس أو في غرفة منها مظلمة؟ والأب يُعين المعلّم على هذا الظلم، يحسب أنه طريق التربية والتهذيب، يقول للمعلم: هذا ولدي استلمه، اللحم لك والعظم لي! هذه كانت حالنا، وهذه حالكم يا تلاميذ اليوم. ولكن أعود فأسأل مرّة ثانية: مَن منّا كان أكثر جِداً وإقبالاً على الدرس واستفادة من العلم؟

لقد تقدّم اليومَ العلم وارتقى الفكر، وقطعت البشريّة في طريق الحضارة في هذه السنين الخمسين، منذ أكملتُ دراستي إلى الآن، أكثر ممّا قطعَت في الخمسمئة سنة التي سبقَتها، في الفكر، في فروع العلم، في الفيزياء، في الطب، في علوم الفضاء ... ولكن ما درسناه (أو ما درسته أنا إذا قصرتُ الكلام على نفسي) في الثانوية التي خرجت منها سنة 1347هـ، ما درسته لا أزال أحفظ أكثره، لا في علوم الدين والعربية وحدهما، بل في علوم الطبيعة وفي الجغرافيا وفي علوم كنا ندرسها فأعرض الناس عنها: المحاسبة (وكنا نسمّيها مسك الدفاتر) والموسيقى العربية بمقاماتها والإفرنجية بسلّمها وعلاماتها وشاراتها، والطوبوغرافيا، وتحسين الخطّ بأنواعه: الرقعة والفارسيّ والثلُث والنسخي والكوفي، وعلوم أخرى، لماذا تُركت وأُهملت ولطالما أفادت ونفعَت؟ لا أقول -كما يقول الشيوخ من أمثالي- أن زماننا كان خيراً من هذا الزمان ولا أن أهله كانوا أحسن من أهله، ولا أن العلم في أيامنا أرقى من العلم في هذه الأيام ولا أن المدرّسين كانوا في الجملة أكثر علماً وأوسع اطّلاعاً ... بل أقول إن الشواغل التي ازدحمَت على الطالب اليوم والمُلهيات التي حفّت به، من الرائي والسينما وكرة القدم وأنواع الفنون، وأمثال هذا ممّا لم يكن على عهدنا منه شيء أو كان منه شيء لا يكاد يُعَدّ شيئاً، هذا الذي جعلنا أحرص على دروسنا وأوعى لها. علّمت -كما قلت لكم- من ستين سنة، وشهدت مسيرة القافلة وعرفت طريقها، ورأيت ما فيه من هضبات تعلو بسالكها

وأودية تهبط بمن يمرّ بها، وكذلك الدنيا صعود وهبوط. وأنا أؤكّد بعد هذا أن تلاميذ الأمس ليسوا في الجملة أذكى من تلاميذ اليوم، وأؤكّد أن أساليب التدريس اليوم أحسن منها بالأمس، وأن أكثر الأساتذة يعلمون من فروع العلوم الكونية والعقلية ما لم يكن يعرفه معلّمونا، ولكن التلاميذ -على هذا كله- صاروا أضعف. خذوا كتبنا المدرسية وكتب الطلاّب في هذه الأيام: في كتبهم من العلم ما لم يكن في كتبنا مثله، بل إن فيها ما لم يكن يعرفه على عهدنا العلماء الكبار فضلاً عن التلاميذ الصغار. نعم، وهذه حقيقة لا يُنكِرها أحد، بل إنها لم تكن على أيامنا كتب وكنا نخطّ المقرَّر بأيدينا. ولكن هل يقرأ تلاميذ اليوم كل ما في هذه الكتب؟ وإذا قرؤوه فهل يفهمونه كله؟ وإذا فهموه فهل يهضمونه حتى تستقرّ خلاصته في أذهانهم، كما يتمثّل الجسمُ الطعامَ المهضوم حتى يمشي في دمه ويكون منه بناء جسده؟ أمامي هنا بعض الكتب التي كنت أقرأ فيها سنة 1338هـ وأنا في الصف الخامس الابتدائي، فهل يحتفظ التلاميذ اليوم بكتب المدرسة، أم يُفرغون ما فيها في رؤوسهم لتحفظها إلى يوم الامتحان، فإذا خرجوا منه ضربوا عنها صفحاً، كأن في هذه الكُرات المركَّبة بين أكتافهم شرائط تسجيل لا عقولاً واعية وأدمغة مفكّرة؟ لقد طالما سألتُ طلاب الجامعة عن بعض ما درسوه في الثانوية أو المتوسطة، فلا أجد عندهم منه ذكراً. ولو كان السؤال في التاريخ أو الجغرافية لعذرتهم؛ إن الطالب يستطيع أن

يقرأ تاريخ العباسيّين وهو لا يعرف تاريخ الأمويّين، أو أن يقرأ جغرافية آسيا وهو لم يقرأ جغرافية أوربا، لأن ذلك مستقلّ بعضه عن بعض. أما اللغات والرياضيات فلا يمكن أن تفصل بعضها عن بعض؛ التاريخ والجغرافية كدارات (فيلاّت) صغار في أرض واسعة، أمّا اللغات والرياضيات فطبقات من بناء واحد تقوم كل طبقة منها على الطبقة التي تحتها، فإن انهدمَت انهدم ما فوقها. * * *

من ذكرياتي في تعليم التلاميذ وتربية البنات

-177 - من ذكرياتي في تعليم التلاميذ وتربية البنات هذه حلقة أنا أعلم أنه سيضيق بأولها ويستثقلها أكثر القراء لأن فيها كلاماً عن النحو. والنحو ثقيل على قلوب التلاميذ، وقد لبثتُ سنين من عمري أدرّسه، فوجدت الجهد المبذول فيه كثيراً والثمرة المحصَّلة منه قليلة، فذهبتُ أقلب النظر وأُجهِد الفكر لتحديد أسباب ذلك، فوجدته بكتب النحو وفي طريقة تدريسه. وإن كنت أشهد أن يد الإصلاح قد امتدّت إليها، وأنها قد ظهرت كتب جديدة كثيرة خلت من بعض العيوب القديمة. وما عيب النحو؟ عيبه أنه يُبعد عن الملَكة ويشغل بالوسيلة عن الغاية. كان الطفل العربي قبل فساد اللغة يتلقّاها بالتقليد والمحاكاة، فينشأ بليغ القول فصيح اللسان بعيداً عن اللحن، لأن أبويه من أهل البلاغة والفصاحة ولأن اللسان الذي يتكلمون به قريب من لسان الكتابة ولسان الأدب. فصرنا نعلّم (أو صار أكثرنا يعلّم) قواعد اللغة العربية باللغة العامّية، كما كان معلّمنا التركي على

عهد العثمانيين يوم كنت صغيراً في المدرسة الابتدائية أيام الحرب الأولى يسألنا: فاعل ندر؟ أي: ما هو الفاعل؟ لا أستطيع أن أُحصي الأمثلة ولكن أعرض واحداً منها. لما كنت أعلم في الابتدائية كان الكتاب المقرَّر يُعرّف الاسم بأنه «اللفظ الدالّ على معنى مستقلّ بالذهن وليس الزمن جزءاً منه»، وكان عليّ أن أُفهِم هذا التعريف تلاميذ السنة الرابعة الابتدائية وكان عليهم أن يحفظوه. فناشدتكم الله: أهذا ممّا يعقله عاقل يقدّر مدى إدراك التلاميذ ويعرف حدود ما يمكن أن يفهموه؟ ولماذا أُفهِمهم هذا التعريف ولماذا أُلزِمهم بحفظه؟ إن البلاد العربية كلها تشكو من الضعف في العربية، ولعلّ من أسباب هذا الضعف طريقة تدريس النحو، ولعلّ من أسوأ ما في هذه الطريقة التعريفات. لماذا التعريفات من أصلها؟ إن العرب الأولين الذين أخذنا قواعد العربية عنهم ما كانوا يَعْرفونها. ولقد نقل أحمد بن فارس في كتاب «الصاحبي» (وهو من أوائل الكتب التي وقعت في يدي وأنا صغير، فقرأته وكدت أحفظ كل ما فيه، وكان من أوائل ما انتفعتُ به من الكتب)، نقل أحمد بن فارس عن أعرابي أنه سُئل: أتجرّ فلسطين؟ فلم يفهم من معنى الجرّ إلاّ السحب، وعجب كيف يسحب فلسطين وقال متعجّباً: إني إذن لقويّ! وأنا لا أذهب مذهب مَن يدعو إلى تسهيل النحو ليُفسد بذلك اللغة، لست كهذا العدوّ الذي يأتي بثياب صديق، ولا أدعو إلى إهمال القواعد ولا إلى ترك الإعراب وتسكين أواخر الكلمات،

فإذا قلتَ: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} من غير تحريك أواخر الكلم ربما رفعتَ لفظ الجلالة فوقعت في الكفر حين تجعل الله يخشى العلماء! والله لا يخشى أحداً وإنما يخشاه الجميع. في النحو أمور ينبغي أن نصلحها؛ لا أبدّل لسان العرب ولا آتي ببدع جديدة منكَرة تقطع ما بيننا وما بين كتاب الله، ولكن أقترح أموراً لا تجاوز المظهر ولا تصل إلى الجوهر. أمثّل لها بـ «أن» الناصبة المضمَرة بعد «أو» و «حتى» ولام الجحود. إنها مضمَرة وجوباً، أي أنه ما رآها أحدٌ أبداً وإنما قدّر النحاة وجودها. والنحو إنما هو وسيلة لإقامة اللسان في الكلام واجتناب اللحن فيه، فعلينا أن نُفهِم التلميذ أن الفعل يُنصَب إذا جاءت قبله «حتى» أو جاءت قبله لام الجحود. فلماذا لا نقول إنها هي الناصبة وندع هذه الأحجية (الفزّورة) التي تزعم أن «أن» مُضمَرة بعدها، وأن هذا الإضمار مستمرّ دائماً فلا تظهر «أن» أبداً ولا يراها أحد؟ لماذا لا نعلّم الطالب أن ينصب الفعل كلما اقترن بلام الجحود، وكفى الله المؤمنين القتال وكسْرَ أدمغة الأطفال بهذا الذي يُشبِه المحال؟ المهمّ أن يأتي الفعل هنا منصوباً، أمّا العامل في نصبه فلا أثر له في صحة الكلام، فسواء لدينا أكان عامل النصب لام الجحود نفسها أم «أن» التي قالوا إنها مُضمَرة بعدها. ومثال آخر: الاسم الذي يأتي بعد «إذا» في مثل قوله تعالى: {إذا السّماءُ انْشَقّتْ}. لماذا نعلّم الطلاّب أن كلمة «السماء» فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور؟ فيكون تقدير الكلام عندهم: "إذا

انشقّت السماءُ انشقّت". أفهذا الكلام من لغة العرب أم هو من كلام الأعاجم؟ وهل سمعتم عربياً يقول مثله؟ إن كلام العرب مبنيّ على الإيجاز، فما كان يُفهَم من غير تلفُّظ به ما لفظوه أبداً، لذلك ستروا ضمير المتكلم «أنا» في قولك "أقوم وأقعد" لأنه لا يُتصوَّر أن تقول "أقوم" وتقصد أن الذي يقوم هو جارك أو ابن عمّك. فلماذا لا نُعرب السماء في قوله تعالى {إذا السّماءُ انشقّت} مبتدأ وجملة "انشقّت" هي الخبر؟ يقولون في الجواب إن «إذا» لا تدخل على الاسم. وجعلوا ذلك قاعدة قعّدوها، ثم جاؤوا فبنوا عليها واستندوا إليها. لكني أسأل: من أين جاءت قواعد النحو؟ إنها جاءت من استقراء كلام العرب وتتبُّع ما أُثِر عن بلغائهم، فما نطقوا به فهو الصحيح وما جانبوه وأبَوه فهو الغلط. وأول ما يُعتمَد عليه في لغة العرب هو كلام الله، القرآن الذي أنزله الله والذي هو كتاب العربية يُرجَع فيها إليه، وكتاب الإسلام يُعتمَد فيه عليه. حتى إن غير المؤمنين بأن القرآن من عند الله لم ينكروا أن ما في المصحف الذي هو بين أيدينا، والذي نقرؤه في صلواتنا، هو الذي كان يقرؤه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فهو -باعتباره نصاً عربياً يُحتَجّ به- أوثق من كل ما يُنقَل من الشعر الجاهلي والإسلامي. وما جاء في القرآن لا يمكن أن يكون غير عربي أو غير فصيح، وفي القرآن {إذا السماءُ انشقّت} و {إذا السماء انفطرَت} وفيه من ذلك الكثير، وفي شعر العرب في جاهليتهم أمثال ذلك: «إذا القَومُ قالوا: مَن فتىً؟ خِلْتُ أنّني ...» وكثير من أمثال ذلك في أشعار الجاهليين من أصحاب المعلقات وغيرهم، فمَن الذي قال لكم

إن كلمة «إذا» لا تدخل على الاسم وقد دخلَت عليه في كتاب الله وفي كلام بلغاء العرب؟ * * * أنا لا أدعو إلى نبذ النحو ولا إلى تبديله، ولكن أدعو إلى اعتباره وسيلة لا غاية؛ فالنحو إنما وُضع -من يوم وُضع- لإقامة اللسان وتجنُّب اللحن، وأقصرُ طريق يوصل إلى هذه الغاية يكون هو الطريق الصحيح. ولي تجرِبة مع إخوان لي من رفاق المدرسة ذهب أكثرهم إلى رحمة الله، بلغوا مراتب عالية في مناصب الدولة وفي مراتب العلماء، منهم الدكتور صبري القباني الطبيب المعروف، ومنهم الأستاذ سامي الحكيم الذي صار النائب العامّ في سوريا، وجماعة من أمثالهم من إخواننا، خرجوا من المدرسة ولم يتمكّنوا من قواعد اللغة العربية، فأحبوا أن نجتمع على أن نُعيد دراسة النحو، فسرتُ معهم على طريق جديد: أخذتُ كتاب «رنّات المثالث والمثاني في روايات الأغاني» وجعلت كل واحد منهم يقرأ منه فقرة، فإذا قرأ قراءة صحيحة لم أعرض له، وإذا لحن لحنة قوّمتها له وشرحت شرحاً موجَزاً (هو أشبه بالإيماء والإشارة) القاعدةَ التي يعتمد التصحيح عليها. وكنا في كل مجلس نعمد إلى باب من أبواب النحو لا نجاوزه، واستمررنا على ذلك نحواً من سنة، قالوا إنهم استفادوا فيها أكثر ممّا استفادوا في السنين الماضيات. واتفقت مرّة مع صديق لنا كان أقوى مَن عرفت من الطلاّب في اللغة الفرنسية، حتى إنه يدرّس أو كان يدرّس إلى عهد قريب

(ولست أعرف هل مات أم هو حيّ) الأدب الفرنسي في إحدى جامعات فرنسا، وأحسبها جامعة ليون، هو الدكتور أنور حاتم الذي صار يوماً الأمين العامّ لرئاسة الجمهورية. اتفقنا على أن أعلّمه العربية وأن يعلمني الفرنسية، فكنا نأخذ من كل لغة أسهلَ الطرق إلى الوصول إلى الصواب فيها. واتبعت ذلك فيما بعد، فإذا أردت أن أُرشِد التلاميذ إلى معرفة الفاعل أقول لهم: من فعل؟ فالجواب هو الفاعل. فإذا قلنا: "أحبّ زيد عَمْراً" أقول: من الذي أحبّ؟ فيقولون: زيد، فأقول: إن زيداً هو الفاعل، ثم أسأل: من الذي أحبه زيد؟ فيكون الجواب: عمرو، فيكون لفظ عمرو هو المفعول به. ولو أن هذه الطريقة عُمّمت واستفدنا ممّا وصلَت إليه الأمم من غيرنا في تدريس لغاتها وطبّقناه على تدريس لغتنا لكان من ذلك نفع كبير. ثم إنني لمّا اتخذت التعليم مهنة لي وأحببتها وسرت بها كان يعترض طريقي فيها منغّصات، منها ما أحيد عنه وأفرّ منه ومنها ما يفرضه عليّ مَن بيدهم أمر التعليم، يُلزِمونني به ويمنعوني من الخروج عليه، وأشدّه هذه المختارات الأدبية التي نضعها أمام أنظار الطلاّب لتكون لهم نماذج في البلاغة يحذون حذوها ويحاولون أن يأتوا بمثلها. لقد كان معلّمونا يختارون لنا دُرر الكلام ممّا أنتجت الألسنة البليغة والأقلام، فانظروا إلى أين هبطنا وماذا نختار اليوم لتلاميذنا من الآثار الأدبية ليكون لهم قدوة وإماماً. جاءنا الأستاذ الجندي -رحمه الله- مرّة بقصيدة المتنبي

«وا حَرَّ قلباه» التي يودّع بها سيف الدولة، فشرحها لنا وألزمَنا حفظها. فلمّا جئنا في الحصة التي بعدها وقد حفظناها قال لنا: دعوها واضربوا صفحاً عنها، فإن المتنبي شاعر مولَّد لا يُحتَجّ بشعره، وسألزمكم بما هو صحيح من أشعار العرب وما يُحتجّ به ويُقاس عليه. وحفّظنا المعلَّقات وأشهر قصائد الجاهلية وقصائد الشعراء الإسلاميين. وأنا لا أزال إلى الآن أحفظ قصائد كاملة من ذلك كله، من شعر الجاهلية وصدر الإسلام وممّن جاء بعدهم من عباقرة البيان وملوك الكلام، كما أحفظ بعض ما هو خير من ذلك كله وما لا يقاس به شيء منها، لأنه في الثريا وهذا كله في الثرى، هو كتاب الله. تلك كانت هي المختارات التي نحفظها، فانظروا كيف صارت كتب المحفوظات اليوم وما فيها من المختارات. لا أقول لكم ماذا صارت، فخذوها من أيدي أبنائكم وانظروا ماذا فيها. أحفظ من كلام المنفلوطي في نظراته (التي كنا نعكف عليها ونستفيد منها) أن أحد العلماء سأل ابنه من هو مثله الأعلى الذي يأمل أن يكون مثله، قال الولد: أنت. قال الأب: يا مسكين، لقد كان مثلي الأعلى أن أكون مثل أحد الصحابة أو الأئمة الكبار، فبلغتُ ما ترى. وذلك حقّ، فمَن أعدّ عدّته وهيّأ نفسه ليمشي إلى عرفات فإنه يبلغ مِنى، ومن كان أقصى همّه مِنى لم يكَد يبلغ الحُجون! ومن أشدّ الذكريات التي لا أزال كلما خطرت على بالي أحس أنها تحزّ في قلبي، أنني اضطُررت في آخر عهدي بالتدريس

أن أشرح للطلاب بعض المختارات من الشعر العربي المعاصر، بل الذي يسمّونه شعراً وما هو بالشعر. وكنت أحسّ كأنني أحتقر نفسي حين أهبط إلى هذا الحضيض فأُضطرّ إلى العناية به وشرحه، وأني أخدع الطلاّب حين أُوهِمهم أن هذا من بليغ القول وفصيح الكلام وأنه أدب رفيع، وما هو إلاّ هذيان وضيع وهذر أحمق رقيع، وأصحابه كالثعلب الذي أراد أن يقطف عنقود العنب فوثب إليه فما استطاع أن يصل، فعزّى نفسه قائلاً لها: إنه حصرم حامض، وذهب يذمّه. هذا مثال دعاة الشعر الجديد: المنثور منه والمشعور والمحطَّم المكسور. ومثله ما دُعي الآن بشعر الحداثة. ولست أدري لماذا لا يُساق أصحابه إلى إصلاحيات الأحداث التي تعالج جنايات الحداثة! ولست أدري: متى يجاوزونها ويبلغون سنّ الرشد؟ * * * وفي نفسي كلام كثير منبثق عن ألم كبير من ذكرياتي في تعليم العربية، قواعدها وأدبها، أمسك القلم عن الإفاضة فيه، ولا بدّ بإذن الله أن أعود إليه وأبيّن الحقّ الذي عندي فيه، ومَن شاء بعده فليؤمن ومن شاء فليكفر. وأقول -بالمناسبة- قبل أن أنتقل إلى الشقّ الثاني من حلقة اليوم، أقول كلمة عن مناهج الدين وعن كتب الدين. إن في بعض البلاد الإسلامية خمس ساعات في الأسبوع لتدريس القرآن وعلوم الدين، ولكن هذه الساعات يذهب أكثرها هدراً فلا يُستفاد منه

ولانصل إلى الثمرة المقصودة؛ ذلك أن التلميذ يأخذ كتاب التاريخ وكتاب الجغرافية وكتاب العلوم فيجد لغة سهلة واضحة مفهومة، ثم يأخذ كتاب الدين المقرَّر فيجد كلاماً بعيداً عمّا يألف وعمّا يعرف. ذلك أننا ننقل من كتبٍ مؤلَّفة قبل مئات من السنين فنُثبِت ما فيها في كتب المدارس. وأنا أعلم أن حقائق الدين لا تتبدّل وأن تبديلها كفر بها وخروج عليها، فلا يفهم أحدٌ أنني أدعو إلى تغيير أحكام الدين وحقائقه. إنّ الذي أدعو إليه هو تجديد الأسلوب وأن تكون كتب الدين مكتوبة بلغة العصر، فإنّ لكل عصر لغة يفهم بها أبناؤه: {ومَا أرْسَلْنا مِن رَسولٍ إلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لهُم}. ومن مقتضى ما أطلبه من تبديل الأسلوب أن نبدّل المقاييس مثلاً، فلا نقيس بالقلّتين لأنه لم يعُد يعرف أحدٌ ما هي «القُلّة»، حتى ولا أهل هَجَر التي يقولون إنهم يعتمدون فيها على قِلال هجر. بل لم يعُد يعرف أكثر الناس أين هجر: أهي القطيف أم هي البحرين؟ والناس يقيسون المسافات بالأكيال لا بالفرسخ ولا بالبُرد، فلماذا نعلّم الطلاّب مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم إن شاء بهذه المقاييس القديمة؟ والناس إنما يزِنون بالكيل (الكيلو، وهي كلمة يونانية معناها ألف) والغرام، ونحن نزن بالقيراط وبالمثقال وبحبّة الشعير. ومَن من الناس يعرف ما هو «الوسق» ويعرف ما مقدار الخمسة الأوسُق؟! وأن تراعى في الكتب حالة التلاميذ الذين توضع لهم. جاءتني مرّة بنت صغيرة في الصف الرابع الابتدائي وسألتني: ما هي الحشفة؟ فقلت: لا أدري، فمن أين سمعتِ بها؟ قالت: هي في كتابنا. فأخذت الكتاب فإذ فهي بيان موجِبات الغسل وأن منها

«أن تتوارى الحشفة في الفرج». فناشدتُكم الله مرّة ثانية: أهذا ممّا يُكتَب في كتاب للبنات الصغيرات؟ فلو أنهن كُنّ كبيرات بالغات وعلّمناهن مثل هذا فلا يُنكِره أحد لأنه دين ينبغي أن يُعرف، وإن كان علينا أن نعرّف به بأيسر عبارة تُفيد المقصود ولا توقع فيما هو محذور. والبنات الكبيرات: ما لنا نعلمهن تفصيلات مسائل البيع والشراء وهنّ مقصورات في البيوت لا يبعن ولا يشترين؟ أنا أعلم أنها من أحكام الدين، لكن كل امرئ يُعلَّم ما يحتاج إليه. وفي كتب التلاميذ أنواع من البيع ما بقي في الدنيا من يتعامل بها، بل من يعرفها، كبيع المُنابذة وبيع الملامسة وأمثال ذلك من البيوع التي تركها الناس وانصرفوا عنها، حتى إنك لو ذكرت أسماءها أمام التجار الكبار لما عرفوها. * * * وبعد، فهذه طائفة من ذكرياتي في التعليم، لعلّ من القرّاء من ضاق بها أو مَن ملّ من سردها، وعندي منها الكثير، ينتفع به بعض المدرّسين إذا عُدت يوماً إلى سرد بعضه. فهل تسمحون لي الآن أن أعود إلى تربية الأولاد؟ وإذا غلبَت الأفكار التي أوردها على الحوادث التي أسردها فسامحوني. لقد قلت من قديم إن الإسلام اليوم أمام هجوم ما عرفه أهله أيام حملات الصليبيين ولا هجمات المغول والتتر، وهو أشدّ من الاستعمار الذي طالما قاسينا منه وبذلنا من مُهَجنا وأرواحنا، وأرقنا من دمائنا، وحملنا من تخريب بلادنا وخسران خيراتنا

الكثيرَ الكثير لندفع شرّه عنّا. فهذا الاستعمار العسكري انتهى، ولكن بُلينا باستعمار شرّ منه هو الاستعمار الفكري والاجتماعي؛ إن أعداءنا يدخلون علينا من بابين: باب يأتي منه مرض يقتل وهو الكفر، ولكنه مرض بطيء الانتشار ضعيف العدوى، ومرض دونه خطراً وهو أقلّ منه ضرراً، ولكن عدواه سريعة وانتشاره عاجل. الأول هو مرض الشُّبُهات والثاني مرض الشّهَوات. وأول ما يتمثّل المرض الثاني في هتك حجاب المسلمات، واختلاط البنين بالبنات، وتمهيد طريق الفاحشة للشبّان والشابّات. وقد سُخّرت له قوى هائلة لا طاقة لنا اليوم بدفعها مجتمعة، إلاّ أن يحفظ كلُّ أب منّا بنتَه، وكل زوج زوجتَه، وكل أخ أختَه. أنا أقيم في مكّة، وصيف مكّة أتون متّقد الحرارة فيه قد تقارب الخمسين، فماذا أعمل؟ هل أستطيع أن أنصب على جبل «أبيقُبَيس» مكيّفاً (كونديشن) ضخماً وعلى قُعَيْقِعان (جبل الهندي) مثله لأبرّد جوّ مكّة؟ وإن جاء البرد في جبال الشام ولبنان فهل أضع في ذُراها مدافئ كبيرة تدفع البرد وتعدّل الجوّ؟ أم آتي في الصيف بمكيّف صغير أضعه في بيتي وأغلق بابه عليّ، وأضع مدفأة في داري في الجبل فأدفئ بيتي؟ علينا أن نحفظ أنفسنا وأن نحفظ من استرعانا الله أمره من أهلنا وأولادنا. فكيف أعمل على تعليم بناتي الحجاب؟ أنا لا أريد أن أُجبِر بنتي عليه إجباراً، فتتخذه وهي كارهة له ضائقة به حتى إذا استطاعت نبذه نبذَته، بل أريد أن تتخذه مقتنعة به مطمئنّة إليه محبّة له. ففكّرتُ وطلبت العون من الله لمّا جاوزَت بنتي الأولى

التاسعة ومشت في طريق العاشرة، أو قبل ذلك بقليل، لقد نسيتُ الآن. قلت لأمها: اذهبي فاشتري لها خماراً (إيشارب) غالياً نفيساً. وكان الخمار العادي يُباع بليرتين اثنتين وإن ارتفع ثمنه فبثلاث، قالت: إنها صغيرة تسخر منها رفيقاتها إن غطّت شعرها ويهزأن منها. قلت: لقد قدّرتُ هذا وفكّرت فيه، فاشتري لها أغلى خمار تجدينه في السوق مهما بلغ ثمنه. فكلّمتني بالهاتف من السوق وقالت: لقد وجدت خماراً نفيساً جداً من الحرير الخالص ولكن ثمنه أربعون ليرة. وكان هذا المبلغ يعدل يومئذ أكثر من ثلث راتبي في الشهر كله، فقلت لها: اشتريه. فتعجّبَت وحاولت أن تثنيني عن شرائه فأصررت، فلمّا جاءت به ولبسَته البنت وذهبَت به إلى المدرسة كان إعجاب التلميذات به أكثر من عجبهن منها بارتدائه، وجعلن يثنين عليه، وقد حسدها أكثرهن على امتلاكه. فاقترن اتخاذها الحجاب وهي صغيرة بهذا الإعجاب وهذا الذي رأته من الرفيقات، وذهب بعضهن في اليوم التالي فاشترين ما يقدرن عليه من أمثاله، وإن لم تشترِ واحدة منهنّ خماراً في مثل نفاسته وارتفاع سعره. بدأَت اتخاذ الحجاب فخورة به محبّة له، لم تُكرَه عليه ولم تلبسه جبراً. وإذا كان العامّة يقولون «الشيء الغالي ثمنه فيه» فإن هذا الخمار بقي على بهائه وعلى جِدّته حتى لبسه بعدها بعض أخواتها وهو لا يزال جديداً، فنشأن جميعاً بحمد الله متمسّكات بالحجاب تمسُّك اقتناع به وحرص عليه. حتى إن بنتي الشهيدة السعيدة إن شاء الله، التي قتلها أعداء الله غدراً فكسروا قلبي كسراً لا أظنّ أنه سيُجبَر بعده في الدنيا أبداً، وإن كان الإيمان يخفّف

الحزن ويهوّن الألم، عاشت هي وبنتها في أوربا سنين طوالاً جداً، فما بدّلَت حجابها ولا غيّرت ثيابها. بل إن بنتها هادية وكانت في مدرسة ألمانية (وهي آخر مدرسة في ألمانيا بقيَت -بفضل مديرة متمسكة عجوز- خالية من الاختلاط ومقصورة على البنات) فدخلَت المعلمة الفصل فوجدت حفيدتي في نقاش مع رفيقاتها، وعلَت أصواتهن يتناقشن في أمر الحجاب الذي تتخذه، فسألَت المعلمة ما الخبر، فقلن لها إنهن يتناقشن في الحجاب، فقالت لهادية: إنني أعطيك عشر دقائق لتقومي فتشرحي للطالبات سبب اتخاذك هذا الحجاب. وكانت تُحسِن النطق بالألمانية، حتى إنها أخذت فيها الدرجة الأولى وسبقت بنات الألمان أنفسهن، فشرحت ما تعرف من أمر الحجاب، وبيّنت حكمه في الإسلام وفوائده وما يدفع عن البنت من ضرر، حتى اقتنعنَ وسكتنَ ولم تعُد واحدةٌ منهن بعد ذلك إلى التعرّض لها. وقدمَت بنتي في إحدى الإجازات إلى عمان، وكنا فيها، فاجتمعَت عند طبيب أسنان في غرفة الانتظار بجماعة من النساء المتكشّفات السافرات، اللواتي يحسبن التقدّم والرقيّ بتقليد الأجانب عنهن واتباعهن في سلوكهن. فلما رأينها متحجبة أحببن أن يسخرن منها فقُلن لها: من أي قرية جاءت الستّ؟ فقالت: من قرية تُدعى جنيف. وكانت تُقيم فيها يومئذ مع زوجها وأولادها، وحدّثَتهن عن حياتها فيها فخجلن من أنفسهن وسكتن عنها وأكبرنها. وكانت لطول بقائها في تلك الديار تُحسن الألمانية وتكاد تُحسن الفرنسية وتعرف كثيراً من الإنكليزية، فكان ذلك درساً لهؤلاء المقلّدات المتحذلقات.

وعندي من هذه التجارِب شيء كثير ربما عُدت إليه يوماً. ولن أستمرّ الآن فيه لأنني أريد أن أعود بكم إلى حيث قطعت الكلام عند انتقالي إلى محكمة الشام، فأسرد عليكم بعض ذكريات القضاء وذهابي إلى مصر ووضع قانون الأحوال الشخصية ودخول انتخابات سنة 1947 التي أشار إليها صديقنا الأستاذ نصوح بابيل، وكان قد دخلها أيضاً، فإلى اللقاء في تلك الأحاديث إن شاء الله. * * *

ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (1)

-178 - ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (1) يقول المعري: أمسِ الذي مرَّ، على قُربِهِ ... يَعجِزُ أهلُ الأرضِ عن ردِّهِ فكيف أردّ أيامي في محكمة دمشق لأكمل -كما وعدتكم- حديثي عنها؟ كيف وقد مرّ عليها أكثر من أربعين سنة، وما كان فيها من أحداث مضى ولن يعود، ومن كان فيها من ناس ذهب أكثرهم ولا يرجعون، بل إن صورها مُحيَت من الذاكرة إلاّ أقلّها؟ لبثتُ في محكمة دمشق عشر سنين، من يوم جئتها منتدَباً إليها وأنا قاضٍ في دوما في سنة 1943 إلى أن فارقتها صاعداً منها إلى محكمة النقض سنة 1953. وما كانت هذه الأيام خالصة لها وحدها، بل كنت أعمل معها أعمالاً سيعجب مني الآن من سيقرأ الذي سأكتبه (صادقاً) عنها ويقول: كيف كان يتسع وقتي لها وتقوى طاقتي عليها؟

كان عندي كل يوم ثلاثون قضية (أي دعوى)، أسمع مرافعاتها وأحكم فيها، وأُشرِف على مجالس التحكيم، وأعمل رئيساً لثلاثة مجالس: مجلس الأوقاف، ومجلس الأيتام، والمجلس الأعلى للكليّات الشرعية في سوريا التي تتبع وزارة الأوقاف. وأُلقي دروساً في الكلّية الشرعية في دمشق، وفي الثانوية الأولى للبنين والثانوية الأولى للبنات، وأخطب الجمعة في جامع المرابط أو في مسجد الجامعة، وأحاضر في النوادي والجمعيات، وأحدّث من إذاعة دمشق (وأنا أقدَم محدّث يسمعه الناس، مرّ عليّ الآن أكثر من خمسين سنة وأنا أحدّث ما انقطعتُ عن الحديث)، وأكتب كل يوم كلمة صغيرة في جريدة «النصر» أولاً ثم في جريدة «الأيام» عند الصديق نصوح بابيل. كلمة صغيرة ولكنها كصغر القنبلة اليدوية، لها مثل دويّها ومثل أثرها في تدمير الباطل. كنت أصنع هذا كله، ثم أجد وقتاً أجلس فيه في المكتبة العربية عند الأستاذ الصديق الشاعر أحمد عبيد، أو في المدرسة الأمينية عند الشيخ شريف الخطيب، أو في البيوت التي أعتادها وأواظب على زيارتها، كدار شيخنا الشيخ بهجة البيطار ودور أساتذتنا وإخواننا: محمد كرد علي وفارس الخوري وعزّ الدين التّنوخي والدكتور حمدي الخيّاط والشيخ عبد القادر العاني والشيخ ياسين عَرَفة والشيخ عبد القادر المبارك والشيخ عبدالقادر المغربي، وبيوت أمثالهم. وهذه كلها من مواطن ذكرياتي التي طالما شهدَت مجالسنا ووعَت أحاديثنا ورأت أطوار حياتنا، فهي محطّات دائمة في

طريق العمر، وقفتُ عليها شاباً في مطلع الشباب وكهلاً في وسط الكهولة وشيخاً في أوائل الشيخوخة، ثم حِيل بيني وبينها فلم أعُد أراها، وذهب أصحابها إلاّ أفراداً منهم، منهم مَن سمّيتُ، ومنه آخرون ما ذهبَت ذكراهم في قلبي ولكن غابت أسماؤهم الآن عن خاطري. ولي في بغداد وفي بيروت وفي القاهرة مواطن مثلها لذكرياتي، لو جمعتُ ذهني لكتبت عن كل واحد منها فصولاً لا فصلاً واحداً، ومنها ما أستطيع أن أكتب عنه كتاباً. ولكن ما الجدوى وقد بقي المكان وذهب السكان؟ ولئن ذهبت إلى الشام أو إلى العراق أو إلى مصر فمَن سألقى من هؤلاء؟ لو ذهبت إلى الشام التي نِيطَت عليّ فيها تمائمي وفيها نشأت وعلى ثراها درجت، والتي أهلها أهلي، هل أجد الشام التي فارقتها؟ هيهات! فلا الدنيا هي الدنيا ولا الناس هم الناس، وسأبدو غريباً في وطني. وما أقسى أن يكون المرء غريباً في وطنه! ولطالما لقيتُ في هذه المجالس أفاضل الناس، قلت لهم وسمعت منهم وأخذت منهم وأعطيتهم، وكان فيها منفعة أو كان فيها متعة لي ولهم، ثم قطع الدهر (أو قطعت أنا لا الدهر) ما بيني وبين الناس، فلا أزور اليوم ولا أُزار، وانتهت بي الحال إلى عزلة كاملة، ربما ضقت بها حيناً ولم أعُد أحتملها ولكن لا أُطيق الخلاص منها، كحمار السانية (التي يسمّونها في مصر «الساقية») يُربط بذراعها فيدور مضطراً معها، فإذا أطلقتَه عاد يدور طليقاً كما كان يدور مربوطاً. وعفوكم إذا ضربت المثل بالحمار، فإنما شبّهت به نفسي وأنا حرّ في نفسي!

وكنت -مع ذلك- أقرأ كل يوم مئتين أو ثلاثمئة صفحة، وأنا مستمرّ على ذلك من يوم تعلّمت القراءة وأنا صغير، أي من نحو سبعين سنة إلاّ قليلاً؛ أصرف فضل وقتي كله في القراءة، لأنني ما كنت ألعب مع الأولاد في الشارع ولا أذهب مع الشباب إلى ملهى، ولست امرءاً اجتماعياً يُضيع وقته في استقبال القادمين ووداع المسافرين وتهنئة الفرِحين وتعزية المصابين، ولا أجيب دعوة، لا سيما إن كانت إلى طعام. وأستغفر الله من ذلك إن كان فيه مخالفة لِما هو أكمل في نظر الإسلام، ولا أدعو أحداً إلى أن يفعل مثلي. ولا أستقبل زائراً إلاّ عن موعد سابق ولا أزور أحداً إلاّ في الحالات النادرة، فحفظت بذلك وقتي وأرحت نفسي. تقولون: كيف قدرت على هذا كله وكيف اتسع له وقتك؟ والجواب أنني لم أكن أقسم نفسي ولكن أقسم وقتي، وهذا ما يُسمّى عند الفقهاء «المُهايَأة». هل سمعتم بالمُهايأة؟ إذا كان للدار مالكان لا تتّسع لهما ولا يمكن أن تُقسَّم بينهما فإنهما يقسمان الوقت، فيستعملها كل واحد منهما شهراً أو سنة، ويستعملها الآخر مثل ذلك. وأنا حين أكون في المحكمة أوليها انتباهي كله ولا أفكر في الجريدة ولا في المدرسة، وإن كتبت أكتب للجريدة أُبعِد ذهني عن المحكمة، وحين أكون في المدرسة لا أفكّر في غير دروس المدرسة. ثم إن ذلك كان على عهد الشباب. «روائحُ الجنّةِ في الشبابِ» كما قال أبو العتاهية، ولو أن الشبّان من قراء هذا الفصل أنفقوا قواهم وصرفوا وقتهم في الجِدّ وفي المنتج النافع لصنعوا أكثر ممّا صنعت.

بل إن الشيوخ يقدرون على مثل ذلك؛ أنا الآن في الثمانين أكتب هذه الذكريات من ذهني لا أرجع فيها إلى شيء مكتوب، ولي برنامج يوميّ في الإذاعة وبرنامج أسبوعي في الرائي (التلفزيون) يرد فيهما في الشهر ما بين خمسمئة إلى تسعمئة رسالة، وأُسأل كل يوم في الهاتف أربعين أو خمسين سؤالاً أو أكثر من ذلك فأجيب على ما أقدر على جوابه منها، وأجد وقتاً وأجد -بحمد الله- طاقة على أكثر من ذلك. * * * كنت أحاول في المحكمة أن أتحرى الحقّ وأسلك طريق العدل، على مقدار ضعفي وعجزي، وكنت أرجو رضا الله. ولكني شعرت في هذا اليوم الذي أُعدّ فيه هذه الحلقة بالخوف من عواقب دخول القضاء وتمنيت لو أني لم أكن دخلته؛ ذلك أن بنتي المحاضرة في الجامعة في جدة خبّرتني اليوم أن إحدى الطالبات راجعتها تقول إنها تستحقّ درجة أعلى ممّا قدّرَت لها، فعادت إلى أوراقها فرأت أنها قد أخطأت في الحساب، وخشيَت أن تكون قد أخطأت مع غيرها من الطالبات، فسهرَت ليلها كلّه لم تنَم تعيد الجمع والتقسيم. وتسألني: ماذا تعمل؟ فأجبتها، ثم رجعتُ إلى نفسي فساءلتُها فقلت: ويحك يا نفس، ماذا تصنعين إذا كنتِ قد أخطأت الصواب في بعض ما أصدرت من أحكام؟ وطار النوم من عيني أنا أيضاً وخفت الله حقاً، وفهمت لماذا كان أكابر العلماء يفرّون من القضاء. لقد فر أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري، وكثير من أمثالهم ومَن هو قريب منهم،

إذا رجعتم إلى كتاب «تاريخ قضاة الأندلس» لوجدتم طائفة من أخبارهم. فكيف أقدمت أنا عليه؟ هؤلاء بحور العلم وأنا بِركة صغيرة قليلة الماء، فكيف وسعَت بركة صغيرة ما ضاقت عنه البحور والمحيطات؟ لقد حكمتُ في أكثر من خمسين ألف قضية، فإن أخطأتُ في واحد من الألف منها لَتعلّق خمسون مسلماً بعنقي يوم القيامة يريدون أن يأخذوا من حسناتي، وما أقلّ ما أدخرت لذلك اليوم من حسنات! لذلك تمنيت لو أني ما دخلت القضاء ولا ذبحت نفسي بغير سكّين. فاللهمّ تدارَكْني بعفوك ورحمتك، وإن أكن أخطأت فظلمت أحداً فأرضِه يا ربي عني بفضلك، فإنك تعلم أني ما تعمّدت ظلم أحد. * * * لو أردت أن أجمع ذكرياتي في المحكمة (ولا أستطيع) لضاقت عنها حلقات كثيرة، لا سيما عن أخباري مع المحامين. ولقد كنت مرّة في مقابلة إذاعية مع أحد رجال الإعلام (وكلمة «الإعلام» وضعها صديقنا الدكتور مصطفى البارودي لمّا كان وزيراً في الشام) فسألني: ما رأيك في المحاماة والمحامين؟ قلت: بل سل ما رأي المحامي في القُضاة، كما تسأل عن رأي القاضي في المحامين. أنا اشتغلت في المحاماة مدّة قصيرة لم تتجاوز ستة أشهر، وفي القضاء مدّة طويلة تزيد على ربع قرن، وأستطيع أن أجيب على السؤالين ولكن بجوابين مختلفَين؛ ذلك أن حُكمك على

الشيء يختلف باختلاف زاوية نظرك إليه. خذ قطعة من الورق وانظر إليها من الأمام، ترَ مستطيلاً واسعاً، فإن أبصرتها من طرفها رأيت خطاً دقيقاً. وذلك شيء مُشاهَد. هل ينظر الطلاّب إلى المدرّس والمستمعون إلى المحاضر كما ينظر هو إليهم؟ لمّا كنت محامياً كان يُغيظني القاضي الذي أُلقي بين يديه مرافعة تعبتُ في إعدادها وحشدت الأدلة الشرعية والقانونية عليها، أو أقدّمها إليه مكتوبة، فيسمعها إن سمعها بطرف أذنه، ويقرؤها إن قرأها بزاوية عينه، ثم إذا صدر الحكم تبيّنتُ أنه لم يدقّقها أو لم يُحِط بها. وأشدُّ منه القاضي الذي يميل عن الحقّ ويلتزم جانب الخصم، فيردّ عليّ كأنه هو خصمي أو كأنه المحامي عن خصمي. أمّا حكمي على المحامين وأنا قاضٍ من فوق قوس المحكمة فإني وجدت أن الدعوى التي لا محامي فيها ينطق فيها الخصمان غالباً بما هو الحقّ، فإن حادوا عنه رددتهم إليه بأيسر جهد، لأن سواد الناس تغلب عليهم الفطرة ويسود قلوبَهم الصفاء، فإن مكروا فمكرهم غير عميق، وتُفصل الدعوى بعد جلستين أو ثلاث. فإن دخل المحاميان طوّلا الطريق ووعّرا السهل، هذا يُقيم صخرة يسدّ بها السبيل على خصمه وذاك يزيحها فيضعها حيث يسلك الخصم، فيطول أمد المحاكمة، وربما أضاع أحدهما الحقّ فخلطه بالباطل أو جعل الباطل حقاً والحقّ باطلاً. وليس هذا حكماً على المحامين جميعاً، فإن التعميم يلازمه الخطأ، وإن من المحامين من أعرفه لا يقبل الوكالة في دعوى حتى يتحقّق من صحّتها ومن صدق من يريد توكيله فيها. كان

على ذلك جماعة في الشام منهم الأستاذ بدر الصفدي رحمة الله عليه. ومنهم من يعاون القاضي على تحقيق العدل بدراسة الأوراق وتمحيص الأدلّة، كما يفعل (أو يُفترَض أن يفعل) القاضي، لكن الفارق بينهما أن المحامي ينظر بعين واحدة هي عين موكّله فقط، والقاضي ينظر بعينين إلى الخصمين، نظرة لا تميز أحدهما عن صاحبه. والمحاماة ليست حِمىً مستباحاً ولا عمارة مفتَّحة الأبواب ما لها بوّاب فمن رغب فيها دخل إليها، بل هي الأخت الصغرى للقضاء، ولا بدّ فيها من علم تؤيّده شهادة جامعية وتدريب تعترف به نقابة المحاماة. وما كل من حمل الشهادة ورشّحَته للمهنة النقابةُ صار محامياً ناجحاً؛ فالدعاوى شتى وموضوعاتها وأشكالها كثيرة، ورُبّ دعوى تسمُّم مثلاً لا بدّ للمحامي فيها من معرفة شيء من الكيمياء، ودعوى تحتاج إلى العلم بشيء من الطب، ودعوى تحتاج إلى اطلاع على علم النفس. ولا أعني أن يكون المحامي عالماً بهذا كله، بل أن يُلمّ به بعض الإلمام ويعرف كيف يرجع إلى كتبه أو يستعين بعلمائه، وأن يكون -مع ذلك كله- حاضر البديهة بليغ اللسان، عارفاً بأحوال القضاة (أو المحلّفين في البلاد التي تأخذ بأسلوب المحلّفين، وبأحوال المجتمع الذين هم صورة مصغّرة له وعلى علم بأعرافه ومواضعاته، وإن كان الإسلام يأبى الأخذ بأسلوب المحلّفين). والمحاماة علم وفنّ: علم بالفقه وبالقانون، وفنّ في حسن العرض وبراعة الأسلوب. فإن خلا من العلم كان إناء ثميناً جميلاً

لكنه فارغ، وهل يُشبِع الجائعَ إناء فارغ؟ وإن كان الطعام لذيذاً طيباً ولكنه قُدِّم في طبق صدئ وسخ عافته النفس وانصرف عنه الجائعون. وأكثر ما تظهر براعة المحامي وبلاغته في الدعاوى الجنائية التي تشغل الناس، يتابعون مراحلها وينتظرون الحكم فيها، لا سيما ما كان منها متصلاً بسياسة البلد والرأي العام، كقضية مقتل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في الشام، التي ألّف لها الفرنسيون مجلساً عدلياً واستعاروا قاعة المجلس النيابي، ورافع فيها محامون كبار من الشام ومن لبنان (وإن كانت المحكمة وكان المترافعون ينطقون الفرنسية لا العربية)، وقضية مقتل أنور السادات، والقضية التي تشغل الآن الناس وتملأ أخبارها الجرائد، قضية الجندي الذي ثأر لدير ياسين وتلّ الزعتر، ولكل من عدا عليه خنازير الشرّ وحثالة الناس، اليهود، فقتل سبعة منهم، فسمّاه القانون مجرماً ودعته الصحف ودعاه الناس بطلاً. وأعاظم المحامين الذين قرأت لهم أو عنهم وعرفت أخبارهم كانوا من الفرنسيين، وفي البلاد العربية من المصريين. لقد ظهر في مصر محامون عظام، كما أن فيها وفي غيرها من البلاد العربية قضاة عظاماً. ولقد كنت قلت كلمة من قديم عُلّقت عليها تعليقات كثيرة بأقلام أدباء كبار، منهم من أيّدها ومنهم من ضعّفها ورد عليها، هي أن أبلغ الألسن واللغات لغة العرب، فهي في الدرجة الأولى، والثانية والثالثة شاغر مكانها، وفي الرابعة اللغة الفرنسية والفارسية والأرديّة، أما الإنكليزية فلا يحقّ لي أن أقول فيها شيئاً لأنني لا أعرف منها إلاّ ثلاث كلمات: إذا أردتَ أن ترجو أحداً

قلت «بليس»، لعنة الله على إبليس، وإذا أردت أن ترحّب به قلت له «ويلكم» بدلاً من قولك أهلاً وسهلاً، وإذا سألت بيّاعاً عن ثمن شيء قلت له: «هَمج»؟ وفهمت أنها لغة سماعية، لا تكاد تضبطها قاعدة ولا يمسكها قياس، ففيها حروف تُكتَب ولا تُقرأ وحروف تُقرَأ وهي غير مكتوبة، وحروف تُقرأ تارة على صورة وتُقرأ هي نفسها تارة أخرى على صورة غيرها؛ أي أن الناس كلهم يتعلمون الكتابة ليقرؤوا قراءة صحيحة، والإنكليز يتعلمون القراءة الصحيحة ليعرفوا كيف يكتبون! وهذا هو «الدور والتسلسل» الذي عدّه العقلاء من باب المُحال: لولا مَشيبي ما جَفَا ... لولا جَفاهُ لم أَشِبْ ومع ذلك فقد فرض الإنكليز هذه اللغة العرجاء على سدس أهل الأرض ينطقون بها، وأضعنا نحن لغتنا وأهملناها حتى كدنا، نحن أبناءها، نصير من الجاهلين بها، وأضعنا في تعلم الإنكليزية خمس ساعات من دروس أبنائنا ثم لا يكادون يخرجون منها بطائل. * * * وربما سحر المحامي ببيانه القضاة والحاضرين فأوهمهم ما لا يمكن أن يقع، فإذا انتهت الجلسة وبطُل السحر ومضى الساحر صحوا حين لا يفيدهم صحو، لأن الحكم قد صدر والمحامي قد وصل إلى ما يريد. كان أحد المحامين (وكنت أعرف اسمه وقد نسيته الآن)

يدافع عن رجل قتل زوجته، فوصف حبهما حتى جعلهما قيساً وليلى أو روميو وجولييت، وصفاً شعرياً مؤثّراً، وبيّن اتفاق مشاعرهما حتى كأنهما روح واحدة نُفخت في جسدين، وأنه لم يكن يعدل بها أحداً ولا ترضى عنه بديلاً، وقال إنهما من حبهما وخشية أن تفرّق الأيام بينهما وليبقيا دائماً معاً اتفقا على الموت، بأن يقتل نفسه ثم يقتلها، وكانت ساعة وداع صبّا فيها رحيقَ حبهما، فلما جاءا ينفّذان الاتفاق بدأ فقتلها وقلبه معها وفكره فيها، ولكن من سمع طلقة المسدس هجم عليه وأمسك به فلم يستطع أن يقتل نفسه. وبلغ من براعة وصفه وبلاغة دفاعه أن استمطر الدمع من عيون القضاة قبل الحاضرين، وصدر الحكم ببراءته. فلما خرجوا عادت إليهم عقولهم: كيف يقتل نفسه ثم يقتلها؟ ولا تعجبوا أن يدفع العاشقَ حبُّه المعشوقَ إلى قتله، فلقد صنع هذا ديك الجنّ، الشاعر المعروف الذي مات سنة 235هـ. ولعلّ ذلك نوع من «الساديّة» (نسبة إلى الماركيز دوساد) التي لا يبلغ أصحابها لذّتهم إلاّ بتعذيب مَن معهم تعذيباً يصل إلى حدّ الجريمة، وضدّها «المازوخيّة» (أو المازوكية، نسبة إلى المؤلف الألماني ساشر مازوخ الذي أكثر من وصف المُصابين بها) ولعلّ منهم جان جاك روسو كما أقرّ على نفسه في اعترافاته المشهورة. فالمازوخي لا يحسّ المتعة إلاّ بأن يُعذَّب ويُهان. تقولون: هل هؤلاء مجانين؟ وأقول: وهل في الدنيا عاشق غير مجنون؟ * * *

ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (2)

-179 - ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (2) ختمتُ الحلقة الماضية بخبر المحامي الذي دافع عن قاتل زوجته فزعم للمحكمة أنهما اتفقا على أن يقتل نفسه ثم يقتلها، وسحرهم بيانه وبلاغة لسانه فلم ينتبهوا إلى أن ذلك مستحيل، وقلت بأنني نسيت اسمه. لقد ذكرت اسمه الآن، وهو هنري روبير، وهو أحد المحامين العظام في فرنسا، وهو تلميذ المحامي لاشو الذي كان يقول عن نفسه «أنا الدفاع»، والذي أنصح كل راغب في المحاماة يريد الصورة الكاملة للمحامي الناجح أن يقرأ وصفه الذي كتبه المحامي السياسي الخطيب غامبتا. ولكن روبير لم يكن يتبع أسلوب لاشو الذي كان دفاعه شيئاً بين التمثيل المسرحي والتقرير القضائي، فيه المنطق ومعه الدليل، ولكنه يأتي به في ثوب من العبارات الطنّانة والجمل المدوّية، يتصرف بصوته فيشدّه حتى يصير كأنه مناجاة الأحبّة ومناغاة العُشّاق. أما روبير فكان يعرض الحقيقة عارية بلا أثواب، يُلقي دفاعه إلقاء سريعاً متتابع الجمل متلاحق الألفاظ، كأنه يخشى ألاّ

يتسع له وقته فهو يتدارك أكثر القول بأقلّ الزمان. ولاشو تلميذ هوغو، فكتور هوغو الذي قال عنه شاعر النيل حافظ إبراهيم: أعجميٌّ كادَ يعلو نجمُه ... في سماءِ الشّعرِ نجمَ العَرَبِ ولم يكن هوغو محامياً له مكتب محاماة وعلى باب مكتبه لوحة تدلّ عليه وتُرشِد إليه، ولا كان اسمه مسجَّلاً في نقابة المحامين، ولكن له -على ذلك- مرافعات تصعد حتى تقف على ذروة البلاغة، كدفاعه عن ولده شارل أمام محكمة الجنايات. ولقد خطر لي وأنا أكتب هذه الذكريات أن أعود إلى هذا الدفاع فأقرأه من جديد، فوجدتُه في الصفحة 439 من كتابه «قبل المنفى»، واستنجدتُ بما بقي عندي من المعرفة باللغة الفرنسية، فوجدتُ ما بقي قليلاً، لأنني لم أفتح كتاباً فرنسياً منذ نلت البكالوريا سنة 1927، بعد أن درسنا تلك اللغة قواعدها وأدبها كدراسة أبنائها، وعرفنا من أدبها، من أخبار كتّابها وشعرائها، مثل الذي كانوا يعرفون. ولكنّ مرّ الأيام وكرّ الليالي يُنسي المرءَ ما كان يحفظه. وجدتها مرافعة رائعة وإن لم أكن معه في موضوعها، لأن موضوعها طلب إلغاء عقوبة القتل (التي يدعوها الناس «الإعدام»، مع أن الإعدام هو الفقر). والدول التي ألغت هذه العقوبة عادت فأقرّتها، أو هي تعمل على إقرارها، لأن «القتل أنفى للقتل»، {وَلَكُم في القِصَاصِ حَياةٌ يا أولي الألْبابِ}. وأين أولو الألباب؟

وتمنّيت أن يأتي من يترجم هذه المرافعات العظيمة (كما نُقلت معاني تأبين فولتير للمنفلوطي فكتبها بقلمه، فكانت قطعة أدبية فيها نموذج كامل للأسلوب الخطابي)، كمرافعات برييه الذي يكاد يكون أكبر محامٍ في تاريخ القضاء الفرنسي، وهو الذي دافع عن شاتوبريان ضدّ الملك لويس فيليب، وهو الذي أنقذ من الموت لويس نابليون الذي صار من بعدُ نابليون الثالث، ثم دفن مجده على يد بسمارك في حرب السبعين. ومرافعات باربو ولابوري الذي دافع عن الكاتب الفرنسي إميل زولا في قصّة اليهودي دريغوس، القضية التي شغلت فرنسا يومئذ مدّة من الزمان، ذلك لمّا كتب زولا مقاله المشهور «أنا أتّهم». ومرافعات والدكروسو وتوريز وشارل شني، والمحامين الذين وصلوا إلى كرسي رئاسة الجمهورية مثل بوانكاره وفيفاني. وأن يسمع مرافعات المحامين العظام في مصر، وكان منهم يوماً مكرم عبيد وعبد العزيز فهمي ولطفي جمعة، ومنهم المحامي الكبير الهلباوي، وإن لم تستطع أمجاده الكثيرة أن تمحو اللطخة التي تركتها في صحيفته «دنشواي»، كما أن قضية دنشواي نفسها لطخة عار في التاريخ البريطاني. * * * وأنا لو دخلت باب الكلام عن المحاماة وأهلها لم أستطع الخروج منه ولا العودة إلى ذكرياتي. فلماذا إذن قلت ما قلت، وما أنا من المحامين ولا كنت قاضياً في محكمة جنائية ولا في دعوى سياسية أسمع فيها مرافعات هؤلاء المحامين؟ لماذا صنعت ذلك؟

صنعته لأمرين: الأول أني كنت أتمنّى أن أكون محامياً في إحدى تلك القضايا، إذن لَجئتُ بالعجب العجاب ولتركت فيها قطعاً من الآداب الخوالد، لأني أملك بحمد الله كل أسباب النجاح فيها. ولا تعجبوا مني ولا تلوموني إن أشرتُ إليها، فإنما أذكرها تحدّثاً بنعم الله لا تعالياً على عباد الله، وإني لأملك بحمد الله سرعة البادرة والجواب الحاضر، وصوتاً قوياً مؤثراً أستطيع أن أتصرف به، وكل ذلك من شروط النجاح في المحاماة. على أنها أمنيّة من الأماني، وقد تختلط الأمنيات بالذكريات. والثاني أن يكون فيما أكتب درس نافع للمحامين المبتدئين، لأن المحاماة إن كانت دفاعاً عن محقّ وردعاً لمُبطِل واقترنت بنية الثواب كانت من صالح الأعمال. وأنا أُقرّ آسفاً أني اختصمت مع طائفة من المحامين لمّا كنت قاضياً في محكمة دمشق. من ذلك أنه كان عندنا محام معروف، شيخ أنيق الثياب قويّ جداً في المادة الفقهية والقانونية، ثقيل جداً على قلوب القضاة، لا يرعى لهم حرمتهم بل ربما ردّ عليهم رداً غير كريم، هو «خ. ق.»، ثم يُملي هذا الردّ على كاتب الضبط فيسجّله في صفحاته! وكان الذي جرأه على ذلك أن بعض مَن كان يقف أمامهم من القضاة كانوا ضعافاً في نفوسهم وفي اطّلاعهم، وكان هو على اطّلاع واسع، وكان يدرس قضاياه درساً حسناً ويُعدّ دفاعه إعداداً جيداً. ولقد عرفتُ خبره قبل أن أقابله فحاربته بمثل سلاحه؛ فدرست الدعوى التي يرافع فيها دراسة شاملة كاملة، حتى إنني لم أدَع فيها ورقة لم أنظر فيها. وأعددتُ قراراتي وأيّدتها بالنصوص القانونية والنقول الشرعية، فلما سمع أول واحد منها

لم يستطع أن يقول شيئاً، وأراد حفظاً لمكانته واتّباعاً لعادته أن يُملي على كاتب الضبط شيئاً، فقلت له: لا، إن ضبط المحاكمة ملك للقاضي لا يدوَّن فيه إلاّ ما يمليه هو أو يأذن بتدوينه، فإن كان عندك شيء فقله شفاهاً أو اكتبه كتابة. وواضح أن هذا كله في غير القرار النهائي، لأن القرار النهائي الذي يفصل في الدعوى لا يستطيع أحد من الخصوم أن يردّ عليه بل يرفع الدعوى إلى محكمة أعلى. ومحامٍ آخر هو «ف. م.»، وكان سليط اللسان غير مهذّب اللفظ، وكان أحد اثنين في مجلس النوّاب أقامهما الحزب الوطني ليردّا بسفاهتهما وبذاءة منطقهما وصفاقة وجهيهما الهجوم عليه. جاء يقف أمامي، وشرع يجرّب أسلوبه معي يريد أن يُخيفني، وفتح الحاضرون آذانهم ينتظرون نتائج هذه المعركة بينه وبيني. فقلت في نفسي: إن كان سفيهاً فأنا أحفظ نصف أهاجي الشعراء، فإن كانت مباراة بالسباب فأنا أقدَر عليها منه، وإن كانت مناقشة قانونية فأنا أعرَف بالقانون منه، وإن كان يعتزّ بأنصاره من شباب الحزب فأنا عندي من بقايا الشباب الذين كانوا يعملون معي لمّا كنت رئيس اللجنة العليا للطلاب من يأكلهم بلا ملح، ولي بحمد الله من الشعبية ومن نصرة كبار المشايخ والعلماء ما يقوّيني عليه. وإن قابلته في المكان المنقطع كنت أقوى منه جسداً واستطعت أن أدفع أذاه عني، فعلامَ أدعه يجرب فيّ سفاهته؟ وكان لي معه موقف لم أخالف به القانون ولم أخرج به عن حدود الأدب، ولكن أرَيتُه كيف يكون تأديب السفهاء وصغّرتُ إليه نفسه حتى صار هو يخجل بها، ولم يعُد بعدها إلى شيء ممّا يُنكِره عليه غيري.

وجاءنا لمّا سقطَت فلسطين سنة 1948 محامٍ فلسطيني قوي اسمه «س. ع.» يمشي على طريق المحامي الأول الذي حدّثتكم عنه. حضر في دعوى لامرأة من دمشق متزوجة بأفغاني في كابول، وكلّفته أثناء المحاكمة أن يأتي بشهود، فأبرز قائمة بأربعة شهود وطلب استنابة قُضاة بلادهم لسماع شهاداتهم: واحد في كابول في الأفغان وآخر في البرازيل والثالث في بومباي بالهند والرابع في اليمن. فأحسست ببوادر الغضب، ولكنني فكرت: ماذا أستفيد أو تستفيد المدّعية إن أغلظتُ له القول أو أسمعته ما يكره؟ إنه يقصد المماطلة والتطويل لأن وصول الاستنابة إلى البرازيل والأفغان والهند وعودة الجواب منها تستغرق شهراً. وكنت في المواقف الصعبة أتجه بقلبي إلى الله أن يساعدني وأن يُعينني، وجاء العون من الله، فهدَأ الثائرُ من أعصابي واستراحت نفسي، واتخذتُ هذا القرار: لمّا كانت الشهادة لا تكون إلاّ بحضور المشهود عليه وكانت نفقات السفر على طالب الشهادة فقد تَقرّر سؤال المحامي: هل موكِّله مستعدّ لدفع النفقات؟ فقال: إذا وافقَت الجهة المدّعية على السفر فنحن مستعدّون لدفعها. فقررتُ سؤال وكيل المدّعية عن ذلك، وخفت أن يقول لا، وجعلت أفكّر ماذا أفعل إن قالها؟ ففهم عني وقال: نعم، نحن مستعدّون. فقررتُ سؤال غرفة التجارة عن أجور السفر إلى تلك البلاد والإقامة فيها في فندق متوسط المدّةَ التي تستلزمها الشهادة، وتأجيل المحاكمة حتى يَرِد الجواب. وجاء جواب غرفة التجارة فأعلنته في الجلسة التي بعدها، وإذا هو مبلغ كبير جداً، فكلّفت هذا المحامي إيداعه في صندوق

المحكمة ورفعتُ الجلسة. فجاءني بغير الوجه الذي كان يلقاني به في المحكمة، جاء خاضعاً متذلّلاً يطلب أن أخلّصه من هذه الورطة لأن موكّله حمّله التبعة، فعرضتُ عليه أن يُرضي المدّعية وأن تؤدّى إليها حقوقها وأن يضمن لها ألاّ يعود إلى إيذائها. وكان ذلك، وخرج الخصمان متّفقَين. وهذا ممّا يُحمَد الله عليه. * * * وكنت أحرص على النظام وعلى ظهور هيبة القضاء، ولا أدع أحداً مهما علَت منزلته أن يقطع النظام، فاتفق مرّة أن اثنين من أكبر المحامين، كلاهما اسمه سعيد وكلاهما علَم من الأعلام في ديار الشام، الأول كان أستاذاً لنا في كلية الحقوق وكان مرّة وزيراً، وهو أقدر محام مدني في بلادنا ولولا حبسة في لسانه لَما قام له أحد، والثاني صار وزيراً مرات كثيرة وصار رئيساً للوزراء، وكان حسن الهيئة حلو اللسان، ولكنه على استعداد ليمشي مع كل إنسان أو ليمشي ضدّ أي إنسان! فكان من مزاياه أنه يترك الوزارة أو تتركه هي، فيعود في اليوم التالي إلى مكانه في المحكمة محامياً من المحامين كأنه لم يكن أمس وزيراً أو رئيساً للوزراء. رأيتهما يتهامسان ويضحكان، فقرعتُ خشب القوس أمامي وقلت لهما: هل نسيتما القراءة؟ فتعجّبا، فقلت: هل كتبنا على باب العمارة «القصر العدلي» أم «قهوة الكمال»؟ وتجرّأ مرّة محام فلسطيني أصله من الشام اسمه «ب. س.» وقال كلاماً لا يليق، فأمرتُه بالسكوت، فزاد في صفاقته وفي جرأته وفي استطالته على المحكمة، فرفعت الجلسة وأمرته

بالخروج فأبى. ورأيت أن الموقف لم يعُد يتحمّل، فلا هو يكفّ عن بذاءته ولا أنا أستطيع أن أُسكِته. وأعترف الآن أن الغضب تملّكني، وإذا غضب القاضي حاد عن طريق الصواب، فأمرت الآذن (الفرّاش) أن يُمسِكه من ربطة عنقه وأن يجرّه جراً حتى يلقيه خارج الباب. ووجم المحامون، وانتشر الخبر وكبرَت المسألة، وقرّرَت نقابة المحامين (أو كادت تقرّر، نسيت الآن) مقاطعة المحكمة ما دمت أنا فيها. واهتمّت الوزارة واستدعاني الوزير بحضور الأمين العامّ، أي وكيل الوزارة، وهو القاضي الكبير العادل الأستاذ عبد الرؤوف سلطان الذي كنا نسهر عنده ليلة الأربعاء من كل أسبوع. وكان الوزير هو الزعيم الوطني الأستاذ زكي الخطيب، فقال لي بعد كلام طويل: هل ترضى أن أكون أنا الحكَم؟ فقلت له: يا سيدي، إن زكي بك الخطيب هو وزير العدل، وزكي بك الخطيب هو محام واسمه مسجَّل في سجلّ النقابة، وخصومتي أنا مع المحامين. وزكي بك الخطيب هو زعيمنا وأحد قادتنا الذين كنا نمشي وراءهم ونأتمر بأمرهم، وزكي بك الخطيب هو ابن عمّ أمي (لحّاً)، فأيهم الذي يريد أن يكون حكَماً؟ إذا كان القريب أو الزعيم فله أن يأمر وعليّ أن أطيع، وإذا كان الوزير فله كلّ حقّ يمنحه القانون وعليّ كل واجب يُلزِمني به القانون، وإن كان المحامي فليسمح لي أن أقول إن خصومتي مع نقابة المحاماة، أي مع المحامين وهو واحد منهم، فكيف يكون خصماً ويكون حكَماً؟ ولا أريد أن أسرد بقية القصّة، بل يكفي أن أقول إنها انتهت

باعتذار منه وتراجع مني ومصالحة بيني وبين النقابة، وعادت المياه -كما يقولون- إلى مجاريها. وكانوا يأخذون عليّ أنني لا أدع الخصوم يقولون كل ما يريدون. وعذري أني أسمع كل ما يقال ثم ألخّصه بكلمات، وأصنع مثل ذلك مع المحامين: أثبت بالضبط ما يُفيد الدعوى وأدع ما عداه. فإن ادّعت امرأة مثلاً أنه طلّقها أسأله، فيبدأ قصّة ربما تستمرّ -لو تركتُه- عشر دقائق، يقول: كنا يا سيدي في الدار، وقد تعشّينا رزاً بالفول واللحم وشربنا الشاي، وكان في زيارة دارنا أبو، أبو ... أبو إيش؟ الله يلعن الشيطان، نسيت، هذا الذي كان ولده يعمل في وزارة المالية وكانت له دكان في سوق الحميدية ... وأمثال هذا الكلام، يُبدئ فيه ويُعيد وهو لا ينفع ولا يُفيد، فأصرخ به: أجب على السؤال فقط: هل طلّقتَ كما تدّعي أم لا؟ ذلك أنه إن قال «نعم» فقد أقرّ وانتهت الدعوى، وإن قال «لا» كلّفتها أن تُثبِت دعواها، وهذا الكلام كله الذي يريد أن يقوله لا أثر له في الدعوى إلاّ أنه يُضيع وقت المحكمة ويؤخّر رؤية الدعاوى. * * * وكنا أحياناً نقرّر انتقال المحكمة إلى موضع الخلاف، للكشف على المسكن أو لتقدير القيمة في القضايا الوقفية. وكانت العادة المتّبَعة أن يُعِدّ طالب الكشف طعاماً كثيراً، وأن يجمع وجوهَ القرية إذا كان الكشف في إحدى القرى أو وجوهَ الحيّ إذا كان في

البلد، ويجعلها وليمة للقاضي ولمن معه. فأبطلتُ هذه العادة، وكنت إذا أردت الخروج من المدينة وقفتُ السيارة عند أحد الأفران فأخذت رغيفاً سخناً وقلت لمن معي: لن نأكل شيئاً حتى نرجع ولن نحضر دعوة ولن ندخل داراً لطعام، فمَن خاف منكم الجوع فليصنع مثلي. وآكل الرغيف، ثم أقف على أحد السبل المبثوثة في أرجاء البلد (من أيام الوالي التركي ناظم باشا رحمه الله، يأتي ماؤها من نبع «الفيجة» بارداً ناعشاً كأنه الماء المثلَّج، أو كأنه الثلج المموَّه، ولم أجد مثل ذلك في مدينة من المدن التي مشيت إليها في شرقي الأرض وغربيها) فأشرب منه بكفّي. وإذا كان بعض المحامين يريد حضور الوليمة فإنني أدَعه وأعود بالسيارة. أما الأجرة المقرَّرة قانوناً على هذا الكشف فكانت أربع ليرات سورية في البلد وعشراً خارجها، والعَشر تعدل بأسعار هذه الأيام ثلاثة ريالات ونصف الريال؛ هذا ما يأخذه القاضي عندما يخرج للكشف. ولقد وقعَت لي في هذه الكشوف حوادث طريفة فيها تسلية للقارئ، منها أننا ذهبنا يوماً إلى كشف على مسكن في طرف دمشق، وكان معي في السيارة كاتب المحكمة والزوجة وزوجها. فلما وصلنا جاء عسكري قريب للزوجة فأراد أن يتدخّل فمنعته، وكان للعسكري أيام الفرنسيين بعض الرهبة في قلوب الناس، فلما ابتعدنا راجعين قال الزوج: أنا سكتُّ عنه إكراماً لكَ (أي لي أنا) ولولاك لَمصعتُ رقبته. فقلت للسائق: قف. فوقف، وقلت للزوج: أنا لم أرَ في عمري رجلاً «يَمْصع» رقبة آخر وأحب أن أرى هذا المشهد، ولا يضرّني أن أنتظر، فسأدعوه لك حتى

تصنع به ما تريد. وفتحتُ نافذة السيارة ومددتُ رأسي فناديت العسكري. هنالك تبخّرَت حماسة هذا الرجل، وضاعت جرأته وهربَت شجاعته وجعل يقول: أرجوك أرجوك يا سيدي، أقبّل يدك سامحني، لا توقِعني معه. وأنا ساكت لا أقول شيئاً حتى وصل العسكري، وصار لون وجه الرجل بلون قشرة الليمون، فقلت: يبدو عليك أنك رجل خير ومَن يعمل خيراً يكافئه الله، فاذهب فحاول أن تصلح بينهما، أو الحقنا إلى المحكمة لعلك توفَّق بإقناع قريبتك وزوجها بإزالة الخلاف بينهما. ولحقَنا وتم الصلح بينهما. أمّا الرجل فما صدّق أنه خلص من هذه الورطة، وأحسب أنه لم يعُد بعدها إلى هذه العنترية الفارغة. والعوامّ عندنا في الشام يقولون إن من يهدّد لا يفعل، والذي يفعل حقيقة لا يهدّد. وقد وقعت لي أخرى مثلها؛ كنا ذاهبين إلى كشف فاعترضنا سائق «كميون»، والكميون في لغة أهل الشام عربة طويلة لها ستّة دواليب تحمل عليها وتجرّها ثلاثة من البغال القوية، ويسوقها غالباً ناس لهم ألسنة طويلة لا يتحاشون فاحش القول. فسدّ الطريقَ على سيارتنا، فقلت للسائق: «زَمِّرْ له»، فالتفت إلينا وبدأ معزوفة (مونولوج) له أول ما له آخر ضمّنه من أنواع الشتائم كل مبتكَر وكل بذيء، والسائق ساكت، حتى إذا بلغ الماء حافة الكأس ولم يعُد للصبر مكان نزل إليه فأمره بأن يسكت، فعاد يسبّ ويشتم، فلكمه تحت فكه لكمة ألقته كومة واحدة على الأرض، فقام

متخاذلاً متذلّلاً وساق أصحابه الثلاثة البغال ومشى من طريقنا. ومن أعجب ما لقيت أن عندنا قريتين عُرف أهلهما بالقوة والشدة، قرية رَنْكوس التابعة لدوما وقرية سَرْغايا التي تتبع الزَّبَداني، في الأولى أسرة آل سرسق وفي الثانية أسرة الشمّاط. وليس العجب أن يكون في هذه الأسر رجال أقوياء أو أبطال شجعان، ولكن العجب أنها كانت تأتينا امرأة كاشفة الوجه على عادة تلك القرى، ما أظنها قد جاوزت الخامسة والثلاثين، بارعة الجمال، وهي زعيمة فرقة من هذه الفرق والدعاوى بينها وبين خصومها مستمرّة، وهي تحمل السلاح وتستعمله، فكنا نعجب منها. فجاءتنا يوماً ابنة أخ لها ما جاوزت العشرين أجمل منها جمالاً وأشجع شجاعة، فذهب معها قاضي الصلح (وكان صديقنا وابن شيخنا الأستاذ المغربي رئيس المجمع العلمي) فلما بلغا الموضع وقع النزاع وبدأ إطلاق الرصاص، فاختبأ هو رحمه الله تحت السيارة وبرزَت هذه البنت التي لم تُكمِل العشرين وسلاحها بيدها تخوض المعركة، تطلب النزال ومواجهة الرجال، وكانت هي الظافرة بهم الغالبة عليهم! وطرائف أخرى وقعت لنا لا أريد أن أفيض الآن بذكرها، ولعلّ المناسبة تأتي بها يوماً من الأيام. * * *

أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

-180 - أخبار غير قضائية في محكمة دمشق جاءتني يوماً معاملة لحصر الإرث، من أصحابها شيخ عجوز كبير السنّ محنيّ الظهر، ترتجف يداه من الكبَر يسيل ريقه من فمه من المرض، فرأفت به وقلت لهم: لماذا كلّفتموه المجيء؟ أنا كنت أذهب إليه. قالوا: ما معنا أجرة السيارة ولا بد من الكشف. قلت: سبحان الله، هل سمعتم من أحد أني أكلّف الناس ما لا يطيقون. إنني أذهب إليكم كما أذهب إلى كثير من أمثالكم لا أرزؤكم شيئاً، وأدفع أجرة السيارة من جيبي. وأقعدتُه وسألته عن اسمه فقال: مسـ ... مسـ ... مسلم. قلت: لا أسألك عن دينك بل عن اسمك. فنطق بحروف مقطعة جاء منها اسم «مسلم وردة». فدُهشت وقلت: مسلم وردة؟! قال: نعم؛ مسـ ... مسـ ... مسلم وردة. قلت: أنت الذي كان ... واستحييت أن أكمل الجملة. قال: نعم، أنا الذي كان. فقلت في نفسي: لا إله إلا الله. إنكم لم تعرفوا إلى الآن لماذا دهشت ولماذا تشهّدت. أنا أقول لكم، ليعتبر المغترّ بقوّته المعتزّ بسطوته، وليعلم أنه لا يدوم

في هذه الدنيا غِنى ولا فقر ولا تبقى قوة ولا ضعف، وأنها تُذِلّ العزيز وتُعِزّ الذليل، وتُفقِر الغني وتُغني الفقير، وتُنزِل العالي وتعلو بالذي نزل. مسلم وردة -يا أيها القراء- اسم كان أهلونا ونحن صغار يخوّفوننا به، فنكفّ عن الحركة ونقف عن الضجيج ونفعل ما نؤمر. كان أحدَ العصاة أيام الأتراك، يعتصم برؤوس الجبال: جبل قاسيون، ومن خلفه جبال مَعْرَبة والتلّ ومن أمامه جبال المِزّة ودُمّر، فيبعثون إليه بالفرقة من الجند فيكسرها وحده ويردّها على أعقابها، وكان يفرض الإتاوة على الأغنياء فلا يملكون منه امتناعاً. انتهت به الحال إلى ما قرأتم. ولقد أبصرت مرة في الرائي رجلاً ضخم الجسم مُقعَداً على كرسي ذي دواليب، لا يستطيع أن يقف على قدميه ولا يمشي برجليه، قالوا: إنه «طرزان». طرزان الأصلي الذي كان يراه الناس في الأفلام، يعيش في الغابات مع الوحش يصارع السبع بسكّينه فيغلب السبع، يتخذ حبلاً طويلاً يعلّقه بهَام الأشجار، فيمسك به ثم ينتقل من شجرة إلى شجرة، انتهى به الأمر أن يُربَط بكرسي ذي دواليب! فمَن لم يعتبر بغيره صار هو العبرةَ لغيره. * * * ومن الأخبار غير القضائية أنه كان عندنا في المحكمة دركيّ حمويّ قوي (والدّرَك بين الشرطة ورجال الجيش)، شجاع أمين

متديّن. كان يأتي كل عَشيّة فينام في المحكمة يحرسها ويذهب حين يذهب الليل. جاءني مرة يطلب نقله من المحكمة، فقلت: لماذا؟ قال: يا سيدي أعفِني من ذكر السبب، إني أطلب النقل. قلت: لا بد لهذا الطلب من سبب، فإذا كنتُ أسأت إليك أنا أو أساء إليك أحدٌ بالمحكمة فخبّرني. قال: ما أساء إليّ أحد. قلت: إذن تبقى. قال: لا أستطيع. وما زلت به أحاوره وأداوره، أفتله بالذروة والغارب كما كان يقول الأولون، حتى أخبرني أنه لا يستطيع البقاء في هذه الدار لأنها «مسكونة». ومعنى أنها «مسكونة» في اصطلاح أهل الشام أن الجنّ تسكنها. قلت: خبّرني، ما الذي رأيته؟ قال: كلما مشيت في الليل أو صعدت درجاً أو نزلت أسمع جرساً يقرع من خلفي. فضحكت وقلت: يا أبا فلان، ما هو عيب عليك، وأنت أنت بطولك وعرضك وشجاعتك المعروفة تقول هذا؟ فانصرف يرحمك الله ودع عنك هذه الأوهام. وكانت دار المحكمة -كما عرفتم- من أكبر الدور الشامية القديمة، فيها صحن واسع يُفضي إلى صحن، ومداخل ومخارج ومصاعد وأدراج وممرات مستقيمة وملتوية. وكنت أتغدى في المحكمة لأن داري بعيدة، فقد كنت أسكن في الجبل، فإذا انصرف الموظفون بقيت وحدي، وربما اضطجعت على الأريكة بعد الغداء ساعة أو بعض ساعة، وربما بقيت حتى يؤذّن المغرب فأصلّي وأنصرف. لبثت يوماً حتى أظلم الليل وتأخّر وصول الدركي الحارس،

فسمعت ورائي جرساً، وفي نفسي أنه وهم صوّره لي حديث الدركي. ونزلت الدرَج فسمعت الجرس، وتنبّهت وفتحت أذني فإذا هو جرس حقيقة يُقرَع من خلفي ليس وهماً. فخفت قليلاً، ثم شجّعت نفسي وثبَتّ، ووقفت مكاني ساكناً لا أتحرّك، وجعلت أنظر ورائي فلا أرى شيئاً، فقلت أبقى واقفاً حتى أعرف ما الحكاية. وطال وقوفي، فسمعت الجرس من مكان قريب، فتتبّعت الصوت، وإذا ... وإذا ماذا؟ هل تحزرون؟ وإذا هي قطة صغيرة لجيران المحكمة في عنقها جرس صغير، تشمّ بقايا الطعام من أثر المراجعين الذين يدخلون المحكمة كل يوم بالمئات، فإذا أحسّت بي هربت وتوارت فلم أعُد أراها. هذه هي قصة الجنّي الذي أفزع الدركي! وكنا أيام الأتراك نسمّي الدرك «الجِنْدِرْمَة»، وهي محرَّفة عن الكلمة الفرنسية «جان دارم» أي رجال السلاح. فهل رأيتم كيف أفزعت قطة صغيرة رجلَ السلاح فخاف منها وسلاحه معه؟ * * * وتأخّرتُ يوماً فقعدت أمام البِركة، وكانت لها نافورة ضخمة يتفجر منها الماء عموداً من البلّور، تتكسر عليه أشعة الشمس حتى كأن فيه -كما قلت من قبل- عشرة آلاف قطعة من الألماس (ولا تقُل: من الماس) تنكسر مياهه وتتمايل، ويكون له خرير شجيّ أحلى في الآذان من المعازف والألحان. فاشتهيت أن تمتلئ البِركة وأن تفيض، فما كانت لتمتلئ، فقمت أنظر أين يذهب هذا الماء

كله، فإذا «الهارب» مفتوح. والهارب كلمة شامية معناها مصرف الماء من البِركة. وكنت أكتب «كل يوم كلمة صغيرة»، فجعلت هذا المشهد موضوع كلمة الغد، وكتبت أقول إنها ليست العبرة بكثرة ما يَرِد عليك بل بقلّة ما يخرج منك؛ فمَن كان مورده عشرة آلاف وهو ينفق مثلها لم يبقَ معه شيء، وإن أنفق خمسة بقي معه خمسة، وإن أنفق أحد عشر ألفاً خرج مَديناً بألف. وقد قرأنا في كتاب المطالعة ونحن صغار هذه الحكمة: «لاتشترِ ما لا تحتاج إليه مهما رَخُص، ولا تدَع ما أنت بحاجة إليه ولو غلا». * * * ووُفّقت مرة إلى صنع شيء ما أظنّ أنه صنعه قبلي أحد، ولعلّه لا يصنعه أحد بعدي. ذلك أن الشكوى قد كَثُرَت من قلة القضاة الشرعيين ومن ضَعف بعضهم، وأن حملة شهادة الحقوق يُعرِضون عن القضاء الشرعي ولا يُقبِلون عليه. فقلت للوزير (وكان صديقاً لي): أنا أضمن لك قضاة أولي علم ونزاهة ودين وخلق، بشرط. قال ضاحكاً: وما هو هذا الشرط؟ قلت: أن تدع لي اختيارهم وأن يُعيَّن مَن أختار بلا مسابقة ولا تعقيد. قال: هذا يحتاج إلى قانون. قلت: يا سيدي هذا عملك. ولم يمضِ وقت طويل حتى استدعاني ودفع إليّ تكليفاً

رسمياً باختيار قضاة للشرع على ما طلبتُ وشرطت. وذهبت أسأل وأستقري (ولا تقُل «أستقرئ» بالهمزة). وذكرتُ أنه كان عندي في الثانوية لمّا كنت أدرّس فيها أخوان من آل سلطان، أخوهما الكبير رفيقي الشاعر جميل سلطان رحمه الله، هما نشأة وعبد القادر، كلاهما يصلح للقضاء. فعرضته عليهما، فاستجاب عبد القادر وأبى أخوه. وذهبت وفتّشت عن أمثالهم، أدقّ عليهم أبوابهم دقاً وأعرض عليهم المنصب عرضاً، أسعى إليهم بدلاً من أن يسعوا هم إليّ، حتى جمعت طائفة صالحة، لا أذكر منهم الآن إلاّ الأستاذ عبد القادر سلطان الذي صار مستشاراً في محكمة النقض والأستاذ هشام الخُجَة الذي سمعت أنه صار عضواً في المحكمة العليا. نجحوا جميعا، لأني عملت على اختيارهم باذلاً جهدي كله لا أبتغي إلاّ ثواب الله، وعملوا هم جادّين مخلصين لا يريدون إلاّ رضا الله، فكتب الله لهم التوفيق. * * * لقد عملت في القضاء أكثر من ربع قرن، فما تدخّل يوماً في قضائي رئيسٌ ولا وزير ولا نائب من النوّاب، ولا فتحت لصديق أو قريب باب التدخّل فيه. وقد وقع لي مرة واحدة على عهد رياسة الشيشكلي أن هتف بي (هتف بي: أي كلّمني بالهاتف، أي التلفون) أخوه يوماً يوصيني برجل له دعوى عندي، فحاولت إفهامه بالحسنى أني لا أقبل وساطة ولا تدخّلاً في دعوى من غير طرفَيها أو المحاميَين فيها. فحسب لطفي ضعفاً وجرّب تخويفي بالرئيس الذي هو أخوه، فثار بي الغضب فأغلظت له القول وأغلقت

الهاتف من غير سلام. وذهبت من فوري إلى الوزارة فأعلنت لهم أني مستقيل وأني سأعلن أسباب استقالتي على الناس. وكان الأمين العامّ للوزارة، أي وكيلها، صديقاً للشيشكلي، فلم أكَد أعود إلى المحكمة حتى فتح عليّ أخو الرئيس مرة أخرى، فهممت أن أقطع المخابرة، وإذا هو يبادرني بالاعتذار ويطلب أن أعتبر الأمر كأن لم يكن. وفهمت من بعدُ أن الأمين العامّ، أي وكيل الوزارة، رفع الأمر فوراً إلى الشيشكلي. وكان الشيشكلي رجلاً عاقلاً، عرفتُه من قرب وقابلته مرات، وكان يملك أعصابه ويحكّم عقله ولا يريد أن يُثير عليه رجلاً له قلم وله لسان، فلام أخاه لوماً شديداً وألزمه أن يعتذر إليّ فوراً. ورُفعَت إليّ قبل ذلك دعوى لأخت الرئيس شكري بك القوّتلي، أيام كان في ذروة عزّه وقمّة سلطانه، وجاء المدّعى عليه، وهو رجل من آل العطّار، ووجهه منتفخ مُزرَقّ وأثر التعذيب ظاهر عليه والشرطة تحيط به. فقرّرتُ أولاً إخراج الشرطة من قاعة المحاكمة، وطَمْأنتُه إلى أن المحكمة لن تفرّق بين هذه الدعوى وبين غيرها من الدعاوى وأنه لن يجد منها إن شاء الله إلاّ العدالة والمساواة بين الخصمين. وكان ذلك، وسرت فيها كما أسير في الدعاوى كلها، واستعنت بالله فلم أميز دعوى أخت الرئيس عن دعوى أضعف امرأة قروية، فما نظرت فيها إلاّ في موعدها ولا جعلت لها فضلاً على غيرها، وعيّنت لها (وكانت دعوى تفريق) حكمين اثنين من وجهاء البلد ومن علماء التجار (أو من التجار العلماء) لهما منزلة عند الناس، يثق الجميع بهما ويُثنُون عليهما، هما الشيخ موسى الطويل، وسيأتي إن شاء الله كلام كثير عنه،

والشيخ عبد الحميد القَنَواتي، الأستاذ بالكلية الشرعية والعالِم النحوي المعروف. وانتهت الدعوى كما ينتهي غيرها. * * * وكنت أمنع النساء السافرات من دخول المحكمة، فوجدت يوماً في مقاعد المحامين امرأة سافرة مكشوفة الشعر بادية النحر وأعالي الصدر، فقلت لها: أما يكفيك أنك خالفت الشرع فتكشّفتِ، وأمرَ المحكمة ألاّ تدخلي فدخلتِ، ثم لم يسَعْك إلاّ أن قعدت في مقاعد المحامين؟ قالت: إنني محامية. وأبرزت بطاقتها، فلما قرأت اسمها وجدت أنها شقيقة أحد أصدقائي القدماء، من الأدباء المعروفين والوزراء الذين ولوا الوزارة مرات كثيرة، جاءت للوكالة عن أخت زميل قديم لنا، كنا معاً ندرس في مدرسة واحدة فاختلف طريقانا، فسلك هو طريقاً غير طريقي وأسّس حزباً كبر ونما حتى صار له الحكم في الشام وفي العراق. ولا أريد أن أزيد في وصفه عما قلت فأكون قد سمّيته، وأنا لا أريد تسميته. ففتحتُ الجلسة وأثبتّ بالضبط حضورَها بالنيابة عن المدّعية، ثم قرّرتُ هذا القرار: لمّا كان للمحكمة حرمة، وكان من الإخلال بحرمتها أن يأتيها المتقاضون أو وكلاؤهم بثياب يُنكِرها العرف ويراها منافية للآداب العامّة، كأن يجيء المحامي بالتُّبّان (أو بسراويل السباحة) وكأنْ تتكشف المحامية المسلمة، وإبداؤها ما أمر الله بستره أشد من حضور المحامي بالتبان، لذلك تَقرّر إفهامُ الأستاذة المحامية (فلانة) لزومَ حضورها الجلسةَ القادمة

بثياب ساترة يرتضيها الإسلام، وتَقرّر رفع الجلسة وتأجيلها إلى يوم كذا. فذهبَت ولم تعُد. * * * وكنت إذا رأيت بين الحاضرين من تبدو عليه علائم الشرّ أو يُخشى منه الشغب أمرت شرطي المحكمة أن يكون قريباً. فجاءتني يوماً امرأتان مدّعيتان ملفوفتان بالملاءة، صغيرتا الحجم قصيرتا القامة طويلتا اللسان، إحداهما المدّعية والأخرى أمها جاءت معها. وكان زوج المدّعية رجلاً ضخماً تبدو القوة من وجهه ومن عضلاته ومن شواربه المبرومة القائمة كسارية المركب ومن طربوشه المائل زهواً واعتزازاً، فأشرت للشرطي أن يكون قريباً منه. وشرعت في المحاكمة، فسألت المدّعية الأسئلة المعتادة، ثم تلفّتُّ إليه أسأله عن اسمه فأجاب، فكلّفته أن يُبرِز بطاقته الشخصية، فقال: معها. قلت: وكيف تكون معها وهي بطاقتك؟ قال: شوف يا سيدي. ورفع كمّه عن ساعد ضخم لو لوى به قضيباً من الحديد لالتوى، وإذا عليه أثر ظاهر لعَضّة! قلت: من فعل بك هذا؟ قال: هي وأمها، ضربتني وعضّتني وأخذت مني البطاقة. فقلت لها: لماذا فعلت ذلك؟ فانفتح فمها عن سيل من الشتائم القذرة المنتنة ملأت رائحتها المكان كله واشمأز منها الحاضرون. وإذا هي امرأة سليطة اللسان بذيئة القول عالية الصوت،

وإذا شيء ما رأيت في عمري مثله. فأشرت للشرطي أن يقف إلى جانبها هي لأن الخطر منها لا منه. ومضيت في المحاكمة حتى انتهت الجلسة، وخرجَت هي وأمها وبقي هو واقفاً، فلم أمنعه لأن المحاكمة علنيّة لمن شاء من الناس أن يدخل فيقف ويستمع، حتى إذا انتهت القضايا كلها ولم يبقَ عندنا شيء وهممت بالقيام قلت له: ماذا تريد؟ قال: لا أريد شيئاً. قلت: لماذا لا تذهب إذن؟ قال: يا سيدي، إنها تربط لي هي وأمها تحت القنطرة. وكانت المحكمة في حيّ القنوات، ومن بعدها جسر قصير يمرّ فوق النهر وينزل الماشون تحته دركات (أي درجات) ثم يصعدون من الطرف الآخر. وهو يخاف أن يخرج فتهجم عليه المرأتان تحت الجسر فتبطشا به. فضحكت في سرّي ولم أظهر له، وأمرت الشرطي أن يمشي معه حتى يكفّ أذى المرأتين عنه. وجعلت أعجب من هذا المشهد الذي ما رأيت مثله، لأن المعروف أن النساء ضعيفات وأن الرجل هو القوي وأنهن يَحتَجْنَ إلى حمايته، فإذا أنا أرى رجلاً بطوله وعرضه وعمقه وارتفاعه وعضلاته وشنباته يفزع من امرأتين ضئيلتين! * * * وكانت سوريا كلما جاء موسم الحجّ اهتمّ الناس به، وكتبت صحفها عن قضية نقل الحجّاج، وبحثت الحكومة عن ماخرة (بالميم) صالحة لنقلهم وعن متعهد أمين يضمن راحتهم في السفر. وكان لقاضي دمشق الممتاز الرأي الأول في اختيار الباخرة (أو الماخرة) وانتقاء المتعهد. فلما كان الموسم الذي كنت فيه

القاضي الممتاز في دمشق رجع الحجّاج يشكون شكاوى كثيرة من المتعهدين وسوء معاملتهم وإخلالهم بشروط الاتفاق بينهم وبين الحكومة. وكان من هذه الشروط أنه يرجع عند الاختلاف إلى مجلس تحكيم مؤلَّف من خمسة أعضاء رئيسهم قاضي دمشق، ينتخب المتعهدون اثنين. فاختاروا اثنين من دُهاة الرجال وممن له منزلة وشأن، وهما الشيخ أحمد القاسمي مدير الأوقاف، والمحامي سعيد الغزي الذي ولي -كما قلت- الوزارة مراراً وصار رئيسها مرة أو مرتين، لم أعُد أدري. ففكّرت مَن أختار أنا وأين أجد اثنين من وزنهما ليقفا أمامهما، فهداني الله إلى اختيار اثنين من مستشاري محكمة النقض، قاضيَين من أنزه القُضاة الثقة بهما عامّة، هما الأستاذ عبد الوهاب الطيب والأستاذ منير المالح، وقد ذهبا إلى رحمة الله. ووكّل المتعهّدون عنهم أبرع محامٍ في دمشق في الأمور المدنية، وهو أستاذنا في كلية الحقوق وهو شارح «المجلة» يوم كانت هي القانون المدني في الشام قبل أن يقوم حسني الزعيم بانقلابه المشؤوم وأن يستبدل بالمجلة المستنبطة من شريعة الله القانونَ المدني الذي وضعه عباد الله، لم يستندوا فيه إلى كتاب منزَل ولا إلى سنّة نبي مرسَل. وعقد مجلس التحكيم سبع عشرة جلسة كل منها في ساعتين أو ثلاث ساعات، سمعنا فيها عشرات من الشهود ممن ذهبوا في تلك السنة إلى الحج وركبوا السفينة، منهم مشايخ وعلماء ومنهم تجار ووجهاء ومنهم جماعة من عامّة الناس، ثم أعلنّا ختام الجلسات وانتظار صدور الحكم.

وقد ظهر لنا كما ظهر لمن كان معنا من جهة المتعهد، أن المخالفة ظاهرة وإن التقصير بَيّن. فلم يكن من العضوين في المجلس اللذين جاء بهما المتعهدون (وهما الأستاذان القاسمي والغزي) إلا أن ينسحبا، ظناً منهما أن انسحابهما يعطّل التحكيم ويمنع صدور الحكم. فقرّرنا القرار الآتي: لمّا كانت الجلسة قد فُتحت بصورة قانونية، وكان انسحاب العضوين بعد انتهاء المحاكمة وسماع الشهود لا يؤثّر في إصدار الحكم، وكان صدور الحكم بالأكثرية كافياً لسريانه بمقتضى الاتفاق بين الحكومة وبين المتعهدين، فقد قرّرنا السير في المحاكمة وإصدار الحكم. وصدر القرار بإلزام المتعهدين بما ثبت عليهم. وكان مبلغاً كبيراً بحساب تلك الأيام، وخفنا أن يتهربوا من دفعه فأبلغنا صورة القرار لوزارة المالية، ووزارة المالية لا تردّ مالاً يدخل إلى الخزينة ولا تُخرِج مالاً منها إلا بمستند قانوني صحيح. فحُصّل منهم المبلغ ولم يقدروا بعون الله على شيء. * * * وطلبني مرة في الهاتف وأنا في المحكمة الوزير البريطاني المفوَّض في دمشق، وكلّمني رجل بالعربية يطلب مني باسم الوزير موعداً ليزورني هو أو الملحق الثقافي نيابة عنه. فقلت لمن يكلّمني: إن المحكمة ليست لها صلة رسمية بالوزير البريطاني، فإن كان له شيء فليرجع إلى وزارة الخارجية. فقال: إنه لا يريد أن يجيء لأمر رسمي بل زيارة خاصّة ليسألني بعض الأسئلة الدينية. فلم أجد بداً من الموافقة، فحدّدتُ له موعداً يزورني فيه.

وقال لي إخواني في المحكمة: عليك أن تقدّم له مع شراب الليمون مثلاً قطعة من الشكلاطة. وسحروني بقولهم فغرّموني ثمن علبة منها دلّوني على نوعها، أذكر أن اسمها «بلاك ماجيك»، ولم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل. وفهمتُ أن معنى الكلمة «السحر الأسود»، أي أن سحرهم إياي كان أسود والعياذ بالله لأنني دفعت فيها ثمناً كان ثقيلاً على كيسي لذلك اليوم. وجاء في الموعد رجل إنجليزي ومعه ترجمان له، لأني لا أفهم عنه ولا يفهم عني. فسلّم وسلّمت، ثم تكلّم فشرّق في الحديث وغرّب، وأنا أستمع إليه على حذر أحاول أن أدرك ما الذي يريد أن يصل إليه، وإذا هو يريد أن يسألني عن حكم الإسلام في الشيوعية، ففهمت عندئذ ماذا يريد. وكان قد صدر قبل ذلك فتوى من بعض علماء الأزهر بأن الشيوعية مخالفة للإسلام، وكتبت في «الرسالة» أعلّق عليها وأقول إنها فتوى صحيحة، ولكن محاربة الشيوعية لا تكون بإصدار الفتاوى بل بتحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية التي تسدّ الطريق على الشيوعية وعلى غيرها (¬1). فقلت له إن الشيوعية والرأسمالية والروس والإنكليز والأمريكان كلهم عدو للإسلام. وترجم له الترجمان هذا الكلام، وختمت الجلسة فانصرف غير مسرور. وكلمني بعد ذلك بيوم واحد رجل كنت أعرفه في العراق ¬

_ (¬1) انظر مقالة «محاربة الشيوعية» في كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

معلّم رسم، فقال لي إن الملحق الثقافي الروسي يريد هو الآخر أن يزورني. فأخبرته أنه لا شأن لي به ولا بالآخرين وأنهم كلهم عدو، فانصرف عني غير مسرور. وجعلت أفكر في هذا الحال التي لا يمكن أن تصل إلى أسوأ منها أمة ذات كرامة واستقلال، فجعلت موضع كلمتي الصغيرة في اليوم التالي هذه القصة، ذكرت فيها ما قصصته عليكم ثم قلت: أين الحكومة لتفتح عينيها لترى ما يصنع هؤلاء الناس وكيف يتصلون برجال منا؟ يزورني أحدهم أول مرة فيكون التعارف، ثم يدعوني فتكون المودة، ثم يتصل الود فتكون الصداقة، ثم أصير جاسوساً وأنا لا أشعر. وإلاّ فما هو الجاسوس وماذا يصنع أكثر من هذا؟ وهؤلاء الوسطاء، أليسوا منا؟ ألا يُعَدّ عملهم هذا خيانة لنا وعوناً لعدونا علينا؟ ألا تمتدّ إليهم يد القانون. لقد تخلّصت أنا من الرجلين بأني قد تعوّدتُ أن أقول ما يجب أن يُقال ولو خالفت هذه الآداب المايعة التي يسمّونها آداب المجاملة، ولأن الناس قد عرفوا ذلك عني فصاروا يقبلونه مني، ولكن ما كل واحد يستطيع أن يصنع ما صنعت. فأين الحكومة والعلماء؟ ألا يشعرون أن عليهم واجباً ثقيلاً هو أن يُفهِموا الشباب أن النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي ليسا هما كل شيء، ولا يجب حتماً أن نتبع واحداً منهما وأن نكون مطايا لأصحابه، وأن لنا طريقاً مستقلاً، نظاماً كاملاً شاملاً يحلّ مشكلاتنا كلها على طريقتنا نحن، وهو الإسلام. لقد قام من عهد

قريب جداً مسلم فصرح بهذه الحقيقة وسط الكونغرس الأمريكي، هو لياقت علي خان، قبل أن يقوم العلماء المسلمون فيصرّحوا بها في المساجد. فأين العلماء؟ ومتى نشعر بكرامتنا فلا يطمع فيها كل راغب ولا يستامُنا كل طالب؟ ومتى نعرف ثروتنا فلا نمدّ أيدينا لنشحد (¬1) المبادئ الاجتماعية ونشحد الأساليب الأدبية كما نشحد الموضات وأدوات الزينة؟ متى نكون رجالاً نأخذ النافع ونرفض الضارّ، ونرى الحقّ حقاً ولو كان مصدره الشرق ونرى الباطل باطلاً ولو كان عليه دمغة أوربا وأميركا؟ متى نعرف قيمة أنفسنا، فلا نذوب ونُمحى إذا وقفنا أمام «المسيو» ولا تنعقد ألسنتنا إذا قال لنا «المستر»، بل نواجههم مواجهة الرجال نأخذ منهم ونردّ عليهم؟ ومتى تتنبّه الحكومة فتمنع الدبلوماسيين الأجانب ووسطاءهم من الوصول إلى قُضاتها وإلى موظفيها، ومتى تُلزِمهم الاتصال بها من الباب المفتوح وهو وزارة الخارجية، لا الدخول من النوافذ على الموظفين وعلى القضاة وعلى العلماء؟ (إلى آخر الكلمة). * * * ¬

_ (¬1) استعملت كلمة «شحد» كما يستعملها الناس.

صور ومشاهد من ساحات القضاء

-181 - صور ومشاهد من ساحات القضاء إن أشدّ ما يلقى المتقاضون من المحاكم هو التسويف والتأجيل وطول أمد المحاكمة، حتى إن دعوى كانت بين أسرتنا وبين آل الصلاحي، أعني الشيخ عبد الوهاب وأباه وجدّهم رحمهم الله لا آل الصلاحي الذين منهم الأستاذ عادل. لبثَت هذه الدعوى في المحاكم على عهد العثمانيين ثلاثاً وثمانين سنة، ذهب من أقام الدعوى وأولاده من بعده وبقيَت هي حتى نشأنا نحن، وكنت وأنا صغير أتجرّأ بالمزاح على عمّي (أعني خال أبي، وكنت أدعوه عمّي) العالِم الفلكي المعروف الشيخ عبدالقادر الطنطاوي، فأقول له: انتظر يا عمي حتى أكبر أنا وأدرس الحقوق وأصير محامياً وأرافع فيها. فكان يضحك ويسبّني ويقول الكلمة العامية: «فال الله ولا فالك»، أتريد أن تبقى في المحاكم حتى تصير محامياً؟ ولقد بقيَت فعلاً، وكبرتُ وصرت محامياً ثم صرت قاضياً والدعوى لم يُفصَل فيها، وكدنا نربحها مرة وكانت في الاستئناف فتبدّل المستشارون وجاء غيرهم، وكانت الدعوى قد زادت صفحات ضبطها على ثلاثة آلاف، ففصلوا فيها لمصلحة

خصومنا. وما أدري هل درسوها أم حكموا فيها من غير أن يستوفوا دراستها، لكن الذي أدريه أني لم أحزن لخسارتها كثيراً، ولا أظنّ أن خصومنا فرحوا كثيراً لربحها، لأنهم كانوا كالذي تدعوه إلى الإفطار في رمضان فتؤخّر الطعام حتى يأكل من جوعه خبزاً وزيتوناً، فإذا ملأ بذلك بطنه دعوته إلى المائدة عليها من كل ما لذّ وطاب، من الحارّ والبارد والحلو والحامض ... مائدة حافلة، ولكن ما الفائدة منها وقد امتلأت معدته وذهبت شهوته؟ لقد كانت هذه القضية دائماً في ذهني وكانت قِيدَ بصري (¬1) فلم أكن أجعل للتطويل والتأجيل مجالاً في الدعاوى التي تُعرَض عليّ. إن كانت الدعوى بين المتقاضين أنفسهم لم أؤجّلها إلاّ إلى الغد، فإن طال التأجيل فإلى ما بعد الغد. وإن كانت بين المحامين جعلتُ أقصى حدّ للتأجيل خمسة أيام، والحدّ الذي لا حدّ بعده أسبوع. فإن احتجّ المحامي أن لديه دعاوى في محاكم أخرى قلت له: اطلب من تلك المحاكم أن تؤجّل النظر في دعاواك لأن من طبيعة قضايا الأحوال الشخصية أنها لا تحتمل طول التأجيل. وكثيراً ما كان أحد الطرفين يدّعي المرض ويبعث من يُبرِز تقريراً طبياً بما يدّعيه، فشكوت ذلك إلى الدكتور جَودة الكيال الذي كان أستاذنا في مكتب عنبر، فتعهّد أن يذهب كلما دعوتُه إلى دار المريض أو المتمارض، فيفحص عن أمره ويرى ما به، ولا يأخذ على ذلك أجراً لا مني ولا من أصحاب القضية، بل يطلب الأجر من الله. وقد مضى الآن للقاء الله، وسيجد ما عمل ¬

_ (¬1) «قيد» بكسر القاف.

من خير مُحضَراً قد سبقه على الدار الآخرة، لأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً. وإن تبيّن لي أن ادّعاء المرض كان باطلاً وأن التقرير أُعطيَ زوراً أحلتُ الطبيب الذي وقّعه على النيابة العامّة، فلقي عندها جزاءه في الدنيا عاجلاً، ولَعقاب الآخرة أشدّ وأبقى. * * * ومن طرائف أخباري في القضاء أنه كان من رفاقنا في المدرسة الابتدائية سنة 1918 تلميذ اسمه عبد الحكيم مراد، أبوه الشيخ سعيد مراد الذي كان أستاذاً في كلية الحقوق في دمشق. وكنا أصغر تلميذين في الفصل، نتكلم العربية الفصحى، فيضحك رفاقنا منا وربما أساؤوا إلينا، ورأى ذلك أبي فكان السبب في نقلي إلى مدرسة أهلية هي المدرسة الجقمقية التي سبق الكلام عليها. ومرّت الأيام وصار الأستاذ عبد الحكيم محامياً وصار شاعراً أديباً، ولكنه يكتب بأسلوب عجيب. ألّف كتاباً كبيراً سمّاه «جبر القيمة» كنا نمضي سهرات في قراءته، أنا ورفاقي سعيد الأفغاني وأنور العطار وحسني كنعان ومَن كان معنا يومئذ من الإخوان، نقرؤه فلا نفهم منه شيئاً، ونتخذه وسيلة إلى التسلية وملء الوقت الفارغ، ونعمل من فقراته نوادر نتفكّه بروايتها. جاءني مرة محامياً في دعوى فأبرز دفاعاً مكتوباً، أقول لكم الحقّ: لقد قرأته فما فهمت منه شيئاً، فقرأته جاهراً به بعض الجهر ليسمعه من كان حولي، ثم سألته أن يوضح ما فيه بدفاع شفهي فقال كلاماً طويلاً أعقد مما جاء في الدفاع المكتوب.

ونظرت في وجوه الحاضرين من المحامين والمتداعين، فإذا هم يغالبون الضحك يحبسونه ولا يُطيقون حبسه، فكتبتُ في ضبط المحاكمة هذه الجملة: أبرز الأستاذ محامي المدّعية دفاعاً مكتوباً ضُمّ إلى أوراق الدعوى وأعقبه ببيان شفهي لم تفهم المحكمة منهما شيئاً. وقد رشح نفسه مرة للمجلس النيابي ونشر -على عادة المرشَّحين- بياناً مطبوعاً كان أعجوبة البيانات، وصار الناس يتخطّفونه ومنهم من اشتراه بالمال؛ بياناً ما كُتِب قبله مثلُه من يوم بدأ البشر يرشّحون أنفسهم في الانتخابات، فكأنه هذا الشعر الحديث أو الجديد أو ما لست أدري ما اسمه الذي لا يفهمه ولا يتذوقه إلاّ صاحبه وجلساؤه في مقهاه أو زملاؤه في ناديه ... والأستاذ أكرم زعيتر يحاول كل يوم أن يضع له اسماً جديداً فيجد أصحابَ هذا الشعر قد ارتكبوا به إثماً جديداً! * * * ومن أخبار المحكمة أننا ذهبنا مرة للكشف على مسكن، فوجدته مناسباً في موقعه وفي فرشه لا ينقصه شيء، ولكني رأيت الرجل فتحه بالمفتاح لمّا دخل وأغلقه على المرأة لمّا خرج. قلت: ما هذا؟ قال: زوجتي، عِرضي، أخاف عليها. قلت: ما تظنها تفعل والباب مغلَق عليها إن انفجر موقد الغاز، أو شبّ في الدار حريق، أو خرجت عليها حية، أو أُغمي عليها واستنجدت بالجيران ... من أين يدخل عليها مِن النساء مَن يريد إسعافها؟ لا، لا أقبل هذا المسكن ولا أوافق عليه؛ المسكن حصن للمرأة وهذا

سجن لها، ولم تكن دار رسول الله ‘ مغلَقة على نسائه بالمفتاح ولا دور الصحابة ولا التابعين، ولقد أمرنا عليه الصلاة والسلام أن نستوصي بالنساء خيراً، ما قال لنا احكموا عليهنّ بالسجن الدائم، وما هن بالمجرمات ولا نحن بالقضاة. وكنت مرة أنظر في دعوى، الزوج فيها من كبار الموسرين والزوجة أبوها من أغنياء الحرب الذين أثْرَوا منها ثراء فاحشاً. فأعدّ الزوج داراً جديدة واسعة في حي محترَم، فيها كل ما يُحتاج إليه من الفرش ومن الأثاث ومن أدوات المطبخ والحمّام. فاعترض محامي الزوجة بأنه ليس مسكن أمثالها من أخواتها وبنات عمّها ولا يليق بالزوج الذي يملك الملايين، فاتخذت هذا القرار: قلت: لمّا كانت مطالب الإنسان منها ما هو ضروري لا يُعاش إلا به، ومنها ما هو كماليّ لتمام الراحة ومسرّة النفس ورفاه العيش ولم يكن فيه محرَّم، ومنها ما لا يُحتاج إليه أبداً وما هو إلا للمكاثرة والمفاخرة. ولمّا كان ذلك يدخل في باب التبذير وكان التبذير مما يأباه شرع الله الذي جعل المبذّرين إخوان الشياطين، وكان التسابق فيه لا يقف عند حدّ، لذلك تقرّر اعتبار هذا المسكن وأمثالَه صالحاً ولو كان أبو الزوجة أو كان الزوج من أصحاب الملايين. وكانت لديّ مرة دعوى على رجل غني جداً ولكنه بخيل جداً، فأعدّ لزوجته المدّعية مسكناً لا يسكنه إلا الفقراء: بساط على الأرض وطبق من القشّ يوضع عليه الطعام وفراش يُبسَط في الليل ويُطوى في النهار. فقلت: ما هذا؟ قال: أهي خير من عائشة أم المؤمنين؟ ألم يكن مسكن عائشة مثل هذا أو أقلّ منه؟ قلت: لا والله ما هي خير منها ولا هي مثلها، ولكن خبّرني: أكان

رسول الله عليه الصلاة والسلام يكنز المال في الصناديق أو يضعه في المصارف أو يشتري به الأسهم، ثم يبخل به على السيدة عائشة فلا يُعِدّ لها إلاّ هذا المسكن؟ حينما تقتدي أنت برسول الله وتقف موقفه من المال طالبها أن تكون مثل عائشة. ورفضتُ المسكن. * * * لقد قلت في مقدّمة هذه الذكريات إنها قد تأتي مناسبةُ ذِكر حادثة فأنسى أن أضعها موضعها، فإذا ذكرتُها أثبتّها حيث ذكرتها. لقد هممت الآن أن أسرد حوادث وقعت لي في محكمة دمشق تتجلّى فيها عواقب انحراف الشباب وسلوكهم في تلبية نداء الغريزة غير الطريق القويم، ثم ذكرت حادثة رأيتها في محكمة النبك نسيت أن أضعها في موضعها تصلح مثالاً لما هممت بسرده. ذلك أن عندنا سكان منطقتين عُرف نساؤهما بالجمال: منطقة القَلَمون (أي النَّبْك ويَبْرود) ومنطقة الجولان فكّ الله إسارها، لا سيما القرى المنثورة على سفوح جبل الشيخ. ونساء المنطقتين كنساء البدو عندنا، وأكثر الفلاّحات لا يسترن وجوههن، مع أن كشف الوجه إن جرّ إلى فتنة بالمرأة أو عليها فقد وجب عليها ستره. فجاءتني مرة بنتٌ لم تبلغ العشرين تدّعي على زوجها. لمّا دخلَت المحكمة ثبتَت عليها أنظار الحاضرين من محامين ومتقاضين، وتركوا كلهم ما كان بأيديهم من الأوراق وعلقت عيونهم بها فلم يستطيعوا أن يرفعوها عنها، جمال ينضج صحّة

وطهراً وينشر حوله كهرباء وسحراً، لو أن صاحبته هبطَت إلى الدرك الأدنى الذي فيه مسابقات الجمال (أعاذها الله وأعاذ نساء المسلمين منها)، لو فعلت لانتُخبت ملكة جمال العالَم بالإجماع. وكان معها زوجها، وهو شابّ بادي القوة مستكمل الشباب، إن جمعت هي الجمال الأنثوي فقد أوتي كل جمال الرجال. فلما سألتها عن دعواها تردّدَت واستحيَت، فقرّرتُ جعل المحاكمة سرّية ولم أُبقِ في القاعة إلا الطرفين والشهود والمحامين. وأعدت سؤالها، فأجابت بصوت خافت على استحياء بهذه العبارة النظيفة الألفاظ المهذّبة الحواشي، قالت إنها متزوجة من أربعة أشهر وزوجها لم يرفع لها ذيل ثوب! فذكّرني أدبها بالتي جاءت رسول الله عليه الصلاة والسلام تشتكي مثل شكواها بكناية مثل كنايتها، قالت: يا رسول الله إن الذي معه كهدبة الثوب. ونحن في مثل هذه الدعاوى نُحيل الأمر على الطبيب الشرعي. وكان رئيس مؤسسة الطب الشرعي يومئذ صديقنا الدكتور عارف الطّرَقْجي الذي كان أستاذاً في كلية الطب، وهو الوحيد الذي جمع بين شهادتَي الدكتوراة في الطب والدكتوراة في الحقوق، وله كتاب في الطب الشرعي في خمسة مجلدات. فكانت نتيجة خبرته أن الرجل لا يصلح للنساء، لا لضعف فيه بل لأنه في مطلع بلوغه كان في الحقل، وكان «يقارب» ما يجد أمامه من الحيوانات، فألِفَت ذلك نفسُه، وصارت أنثى الدوابّ تثيره وهذه البنت التي كادت تفتن كل من في المحكمة لا تحرّك منه ساكناً! وانتهت الدعوى بالتفريق بينهما. * * *

وجاءت مرة امرأة تدّعي على رجل أنه زوجها وأبو ولدها وتطلب منه نفقتها ونفقة ابنه منها، فسألتُه فأنكر الدعوى وادّعى بأنه لا يعرفها وأنه لم يرَها إلاّ الآن. فسألتها عن بيّنتها على دعواها، فظهر أن الزواج قد عُقد خارج المحكمة، زوّجها منه أبوها وشهد شاهدان على زواجها، وكان زواجاً شرعياً كاملاً ولكن لم تُكتب به وثيقة، ومات أحد الشاهدين فلا تستطيع إثبات دعواها بالشهادة. وشممتُ رائحة الصدق في كل كلمة قالتها، وللصدق رائحة لا تُشَمّ بالأنوف ولكن تُحَسّ بالقلوب. فحاولتُ أن أنبّه ضميره فما انتبه، وأن أرقّق قلبه فما رقّ، وأن أخوّفه اللهَ وعقابَه فما خاف. ولم يبقَ إلاّ أن أحلّفه إن طلبت اليمين، وبدا لي من حاله أنه سيُقدِم على حلف اليمين الكاذبة من غير أن تهتزّ عضلة واحدة في جسده. فماذا أعمل؟ أرى الحقّ يضيع أمامي ولا أملك لصاحبته شيئاً؟ وكنت في مثل هذه الحالة ألجأ بقلبي إلى الله أستمدّ منه العون، ففعلتُ، وسرعان ما جاء عون الله، وكان مشهد من أعجب المشاهد التي رأتها ساحات القضاء. ذلك أننا سمعنا من خارج المحكمة صوت امرأة كبيرة تزجر صبياً، والصبي يرفع صوته لا يبالي بها كأنه يطلب منها شيئاً وهي لا تُعطيه ما يطلب، فلما ضايقها صاحت به بصوت سمعه كل من في المحكمة: اذهب عني، هل أنا مكلَّفة بك؟ هذا أبوك وهذه أمك فاذهب إليهما قبّحك الله وقبّحهما. ولطمَته على وجهه، فعلا صوته ونادى من خلال نشيجه ودموعه: بابا تيتا ضربتني ... واقتحم الباب يدفع الناس بيديه الصغيرتين ينادي: بابا، ماما، وينك يا بابا؟

وإذا بالمرأة تُسرع إليه، والرجل ينسى ما كان يقوله ويتلقّاه بذراعيه، ويلتقي من حوله الذراعان ذراع أمه وأبيه، ويتقاربان ويتلامسان، وأسمعها تقول له معاتبة: هيك يا فلان؟ تُنكِر أني زوجتك؟ وتغلبهما العاطفة فيدعان الولد بين أرجلهما وكانا جالسَين من حوله، ويقفان متعانقَين قد نسيا القاضي ومَن معه والمحكمة ومن فيها. ويتأثر الناس وتنسكب مدامعهم، وأتصنّع الغضب فأقول: ما هذا يا قليل الأدب؟ تعانق امرأة أجنبية عنك علناً وفي المحكمة؟ فيقول: أجنبية؟ إنها زوجتي! فأقول: فلماذا كنت تنكرها؟ قال: ساعة غضب، الله يلعن الشيطان. كله من أمها، ومن طول لسانها هي؛ فكُفّ يا سيدي أذى أمها عنا وانصحها بأن تكون مطيعة مهذّبة الألفاظ وعرّفها بحقوق زوجها عليها. هذه قصة واقعة أستطيع أن أجعل منها قصة أدبية أضمّها إلى كتابي «قصص من الحياة»، ويستطيع غيري أن يجعل منها فلماً يُعرَض في الرائي، وأنا أضمن أنه يكون فِلماً (¬1) ناجحاً. * * * كانت المحاكم ودوائر القضاء في دمشق منثورة نثراً في ¬

_ (¬1) «الفِلم» من غير ياء (أي: فاء لام ميم)، وهي كلمة أجنبية عرّبها المجمع العلمي في دمشق من قديم، لمّا نشر الشيخ عبد القادر المغربي استفتاءه المشهور في الكلمات غير القاموسية (أي التي وردت في شعر يُحتَجّ به ولم تثبت في المعاجم) والكلمات الجديدة.

أرجاء البلد؛ بعضها في العَدْليّة، وهي بناء من الخشب واللبِن من طبقتين مما بناه العثمانيون كانت في المرجة التي سُمّيَت بعدُ ساحة الشهداء، يعنون بالشهداء الذين شنقهم جمال باشا أيام الحرب الأولى، وقليل منهم كانوا بُرآء (¬1) ما جنوا ذنباً، صالحين مظلومين، وأكثرهم ثبت من الأوراق التي ضُبطت في القنصلية الإنكليزية والقنصلية الفرنسية أنهم كانوا جواسيس على حكومتهم العثمانية. وبعض هذه الدوائر في بناية العابد التي بناها أحمد عِزّة باشا العابد، الذي كان أعلى عربي مرتبة وأمضاهم نفوذاً وأوسعهم سلطة أيام السلطان عبد الحميد، ولا تزال إلى الآن أضخم بناء حجري في دمشق، وقد أُنشئت عمارات عالية من الإسمنت والحديد وبقيَت لها مكانتها. وكانت المحكمة الشرعية في سوق الخيّاطين ثم انتقلت إلى القَنَوات. وكانت محاكم أخرى، فكان المحامون والمراجعون يجدون مشقّة ويلقون عَنَتاً في التنقل بينها، ففكّروا بإقامة بناء يجمعها كلها، وتَردّد الرأي بين أن يُقام في صدر شارع بغداد عند «البحرات السبع» أو في موضع المُشيريّة في رأس سوق الحميدية في لبّ البلد. ولا بد من توضيح ما ذكرت لمن لم يَزُر دمشق توضيحاً موجزاً يكون فيه زيادة وصف لمن شاء الوصف وتاريخاً لمن أراد معرفة التاريخ. كان الحكم في الشام أيام العثمانيين مردّه إلى اثنين: الوالي ¬

_ (¬1) بُرآء جمع.

والمشير؛ أما المشير فللأمور العسكرية، وأما الوالي فلغيرها من الأمور المدنية. وكان مقر المشير عمارة من الخشب كبيرة جميلة، لمّا فتح جمال باشا أولَ شارع في دمشق سنة 1916 (على ما أذكر، وقد كنت يومئذ صغيراً في المدرسة الابتدائية) وقعَت في أوله. وكان لأهل الشام فيه يوم من أيامهم المعدودة، ذلك هو يوم العيد، إذ يجتمع في «المشيرية» الجند، ثم يقومون بعرض ضخم بشاراتهم وراياتهم وطبلهم وزمرهم، وكان أحدَ مشهدين يحتشد لهما الناس، هذا ويومُ خروج المَحْمِل إلى الحجّ. ولمّا جاء الفرنسيون يحكمون الشام واغلين غاصبين، لا يستندون إلى عدل ولا قانون ولا دين، وإنما هو عدوان القوي على الضعيف وقاطع الطريق على المسافر، كانت حالنا يومئذ كحال فلسطين وكشمير وأرتيريا في هذه الأيام، وأمثالهن في الأرض كثير. أقول إنه لمّا جاء الفرنسيون جعلوها مقرّ مندوب المفوض السامي، أي وكيله أو نائبه في دمشق، فسُمّيت «المندوبية». وأمّا الوالي فكان مقرّه في «سراي» المرجة. وهي بناء جميل يشبه القصور الصغيرة في أوربا في أواخر القرون الوسطى، لا يزال إلى الآن معدوداً من مظاهر العمران. أمّا شارع بغداد الذي اقترح كثيرون (وأنا منهم) إنشاء القصر العدلي فيه فقد كان ثاني شارع في دمشق، فتحه الفرنسيون أيام الثورة الكبرى سنة 1926 بعد شارع النصر بعشر سنين. ما فتحوه رغبة بعمارة البلد ولا حباً بأهلها. كيف وهم أعداؤها الذين أحرقوها وخربوها وتركوا ربوعها أطلالاً؟ إنما فتحوه ليسهل عليهم

نقل جنودهم ودباباتهم إلى الغوطة، لمحاربة أهل البلد وأصحاب الأرض الذين ثاروا كما يثور ربّ الدار على الحرامي، يدافع عن عياله ويحامي عن ماله، وكما يصنع الفلسطينيون اليوم في فلسطين والسود في جنوب إفريقيا والمجاهدون في الأفغان. وكانت مناقشات ومجادلات في اختيار المكان للقصر العدلي. وكنت أكتب وأخطب، فكتبت مقالات في إقامة القصر في شارع بغداد لأن المكان فسيح، إذا ضاق البناء بمن فيه وجدوا أرضاً لتوسعته، وزدت فاقترحت بأن يُسمّى «دار العدل» لا القصر العدلي، إحياء لمنقبة نور الدين زنكي لمّا أنشأ دار العدل في دمشق، وقصّته معروفة وهي في كتابي «رجال من التاريخ» (¬1). وغلب الرأي الآخر، وأقيم البناء في موضع المشيرية (أو المندوبية كما سُمّيت من بعد)؛ أنشؤوه من ثلاث طبقات من الأمام واثنتين من الخلف، لكل طبقة سقف عالٍ يقرب من سقوف المساجد، لا كسقوف البيوت الجديدة التي يقف الرجل الطويل فيمدّ يده فيبلغ بيده سقفها، وجعلوا لها قوساً يكاد (يكاد أو تكاد كلاهما صحيح، فالقوس مؤنثة ولكنها تُذكَّر) يقارب بعلوّه سقف البناء كله، وجعلوه على شكل الأقواس الأندلسية وهي غالباً ثلثا دائرة، بينما نجد الأقواس التركية نصف دائرة، ومن الأقواس ما هو أقلّ من نصفها. ومن شاء أن يرى الأقواس وأشكالها في الأبنية الأثرية وجد علم ذلك في كتب كثيرة فيها صورها وتاريخها، وليس هذا مجال الكلام عنها. وجعلوا للقصر واجهة من الخلف ¬

_ (¬1) في مقالة «السلطان الشهيد» (مجاهد).

من جهة الجنوب فيها قوس أصغر، وجعلوا طبقتها العليا لوزارة العدل. وكنت -كما عرفتم- وثيق الصلة يومئذ بالقائمين على الوزارة، وهم سامي العظم وكيلها ورشدي الحكيم رئيس ديوانها، وهما من أصدقاء أبي وخالي مُحِبّ الدين ومن رفاقه في صحبة الشيخ طاهر الجزائري. وعارف النكدي، المفتّش العامّ الذي عملت معه لمّا كان رئيس تحرير «الأيام» وكانت صلتي به صلة التلميذ بأستاذه، وقد شرّفني فوقها بصداقته مع صديقه أستاذنا عزّ الدين التنوخي. ومحاسب الوزارة زيوار بك الجابي. فاستطعت بذلك أن أختار المكان الذي أريده في القصر العدلي، فاخترت الجناح الأرضي في الواجهة الجنوبية، أي ما تحت الوزارة، ونقلت المحكمة إليها، فكانت المحكمة الشرعية أول محكمة تدخل القصر. وكان للمحكمة الشرعية لمّا كانت في سوق الخياطين مسجد إمامُه الرسميّ الشيخ صادق أبو قورة، وفي المشيرية حتى لمّا صارت المندوبية أيام الفرنسيين مسجدٌ إمامُه الرسمي الشيخ يحيى المكتبي، وكلاهما من تلاميذ الشيخ بدر الدين ومن الذين يتولون خدمته. وكان الشيخ يحيى أقربَ الناس إليه، كان وكيله في أعماله ورسوله إلى الوزراء والرؤساء في حاجات البلد التي يرفعونها للشيخ، وأشهد أنْ طالما أنقذ الشيخ يحيى ناساً من الثوار وغيرهم من أيدي الفرنسيين، نجّاهم -بعون الله ثم بجاه الشيخ بدر الدين وبسعيه هو- من القتل. أما الشيخ صادق فهو رجل يغلب عليه صفاء القلب، يقول

أحياناً كلاماً مغطّى عجيباً لا يكاد يُفهم. ومن العجائب ما أخبرني به أخي أنور العطار رحمه الله ورحم الشيخ صادقاً، أن للشيخ صادق أخوين أحدهما اسمه الشيخ عمر المسالخي والثاني اسمه الشيخ علي المستوي! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) قارئ هذه الفقرات الأخيرة من هذه الحلقة يدرك أن الشيخ بدأ كلاماً لم يتمّه. والظاهر أن نيته كانت أن يكمل في أول الحلقة الآتية ما بدأه هنا، ثم صرفه عن ذلك تشعّبُ أحاديث الذكريات في طرق شتى كما سترون. فمَن أراد أن يصل هذا الحديثَ بتتمّته فليقفز إلى وسط الحلقة 215 (في الجزء الأخير من هذه الذكريات) فثَمّة خبرُ ما انتهى إليه مسجد المحكمة في موقعها الجديد (مجاهد).

يوم أغر من أيام دمشق

-182 - يوم أغرّ من أيام دمشق كلما قلت: كلما انفتح الطريق ونويت أن أمشي في ذكرياتي كما يمشي الناس، يسوقونها متسلسلة متصلة، عرض لي في مسيرتي ما يصرفني عن وجهتي. وكان العارض هذه المرة رسالة. كنت على عادتي أكتب رؤوس المسائل التي أريد أن أضمّنها حلقة اليوم، فورد عليّ البريد، وجعلت أفتح ظروفه فوجدت رسالة لم يكتب مرسلُها اسمَه في ذيلها، ولكن كل كلمة منها تدلّ على أنه يعرفني وأنه شاركني في بعض ذكرياتي وصحبني في مرحلة من طريق حياتي، فهو يذكّرني بأشياء لا يعرفها إلاّ من كان معي. فسرّني برسالته، ولكن أتعبني بمحاولة معرفته وأضاع عليّ في هذه المحاولة ساعات، كنت أشتغل فيها عنها ثم أعود إليها لأن ذهني قد تعلّق بها. فما الذي كان عليه لو أنه أتمّ لي فرحتي بذكر اسمه؟ إنه يسألني فيها عن بعض الأيام الغُرّ في تاريخ الشام الحديث، لماذا لم أتحدث عن دوري فيها؟ عن يوم التسلّح الذي

الذي عشته بكل جوارحي وحفظت ذكراه بين جوانحي، عمّا صنعَت فيه دمشق وأهلها. ويقول لي: اسأل صديقك الأستاذ نصوح بابيل إن كنتَ نسيت أنباء بلدك، يذكّرك بها، بمقالتك «إلى بلدي الحبيب» التي قرأتُها وأنا في المدرسة الابتدائية من أكثر من أربعين سنة في كتاب المطالعة، ونقشتها على ظهر قلبي مع الكثير من كتاباتك التي لم يكن يخلو منها كتاب من كتب المطالعة المدرسية وكتب المختارات. أنا نسيت؟ كيف أنسى بلدي وصورتُه أبداً أمام عيني وحبُّه في فؤادي؟ ألم أبذل له قوّتي وأقِفْ عليه لساني وقلمي؟ هل قصّرتُ في بِرّه حتى يأتي من يتّهمني بعقوقه وقد كنت به أبرّ الأولاد؟ ألم أكتب في وصف جماله وفي عصف نضاله مقالات حملَتها الصحف والمجلات وأعلنَتها المنابر والإذاعات فسارت مسير الشمس إلى كل مكان، يوم لم يكن قد وُلد إلاّ واحد من كل ألف من أهل الشام الآن؟ ألم أعرّف الناسَ ببلاد الشام وأغرس حبَّها في كل نفس وصلَت إليها مقالاتي عنها، ممن لم يكن يعرفها، عرّفته بمجتمعها وجامعها، وربوتها ومزتها، وغوطتها وواديها، بقاسيونها وشاذروانها ... وتلك أسماء أماكن مَن عرفها عرف مستقرّ الجمال في هذه الدنيا، ومن لم يعرفها فقد فاته اجتلاء أحلى مشاهد هذا الوجود. لقد جعلت كل قارئ لها يهيم قلبه على البعد بحبها، ويعشقها على السماع لوصفها، ويتوق لرؤيتها توق المحب

إلى وصال المحبوب. ولكن سلوا بلدي ما الذي صنعه بي. ماذا صنعتَ بي يا بلدي الحبيب؟ أنا لا أشكوك بعد الله إلاّ إليك، وإن كان الأمل بإنصافك أبعد من النجوم. لقد جفوتني وما جفوتُك، وأنأيتني عنك ومُناي كلها القرب منك، ورميتني بالرصاص يخترق صدري حين اخترق ظلماً وغدراً صدر أحب الناس إليّ: بنتي؛ ما رحمت طُهرها ولا رعيت غربتها ولا تورّعت عن مبارزتها في وحدتها، رميتني بالرصاص وأنا لم أسمح لنفسي أن ترميك بزرّ ورد لئلاّ يجرح الورد خدّيك. أقول هذا ولو كان مشتعلاً بنار الألم لأنفّس به عن نفسي كما يتنفس البركان بإلقاء الحمم. ولكن لماذا أقوله الآن؟ وما نفع الشكوى لقويّ لا يرحم أو لضعيف لا يُعين؟ الشكوى لله، فلماذا أبثّ غيره شكواي؟ وهل فقدتُ إيماني فحسبت الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون؟ إنه {إنّمَا يُؤخِّرُهُم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الأَبْصارُ}. * * * لا يا مرسل الرسالة، لم أنسَ موطني ولن أنساه. بلادي وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزةٌ ... وأهلي وإنْ ضَنّوا عَلَيّ كِرامُ لم أنسَ أسبوع التسلّح ولكن كنت أُرجئ الحديث عنه حتى أصل إليه، فلقد كان تاريخه سنة خمس وخمسين وأنا لا أزال في ذكرياتي في عشر الأربعين. ولكن رسالتك عجّلت بموعد الكلام، فعفوكم يا أيها القراء الكرام. ولست أكتب الآن صفحة من تاريخ

البلد، بل أدوّن قطعة من ذكرياتي أنا، أذكر القليل الذي قمت به وأدع للمؤرّخين بيان الكثير الذي قام به غيري. كان الجيش على عهد الفرنسيين في الشام علينا لا لنا، وكانت قيادته بيد عدوّنا غاصب أرضنا، فلم يكن يدخل فيه أحد من أولادنا. فلما كان الاستقلال وتمّ جلاء المستعمرين عن بلادنا اشتجرت الآراء: هل نأخذ هذا الجيش فنستفيد من تدريبه وننظّفه من أدرانه ونُصلِح من شأنه ونجعله جيشاً وطنياً، أم نسرّح جنده وننشئ جيشاً جديداً؟ وكنت في سنة 1943 اقترحت على الصديق الكبير جميل بك الدهان مدير الأوقاف العامّ (ولم تكن الأوقاف قد صارت وزارة) أن يدع هذا الاحتفال الذي يُقام في الجامع الأموي يوم المولد، فيُتلى فيه كلام مكذوب على رسول الله عليه الصلاة والسلام وتُنشَد فيه أناشيد أيسر ما فيها الغزَل بالرسول ووصف جماله وذكر وصاله، وأشياء من هذه البَابَة كلها سوء أدب مع الرسول وقلّة حياء، لا يُقال مثلها لشيخ الضيعة فما بالك بسيد البشر وأفضل ولد آدم؟ وفيها ما هو أشدّ من هذا، وهو الشرك الظاهر من دعاء الرسول وإطرائه حتى نَصِفه بما لا يُوصَف به إلاّ الله! وكل ذلك بحضور كبار الفرنسيين، الذين يصعدون السلّم الدوّار ويقعدون في السدة العليا من الجامع ويسمعون هذا كله، ثم يرون هجوم الناس على قراطيس الفستق (الملبّس)، يتخاطفونها ويتزاحمون عليها، في منظر لا يستطيع أعدى عدوّ لنا أن يهجونا هجاءً عمَلياً بأكثر من وصفه، وهم يصوّرون ما يرون.

فأخذت صديقي أنور العطار رحمه الله (وكان يمشي معي حيثما مشيت) وذهبنا إلى جميل بك رحمة الله عليه، فقلت له: أتحبّ أن تعمل عملاً يرضى به عنك الله ويحمدك به الناس؟ قال: نعم. وكنت أعرفه من قديم عن طريق خالي مُحِبّ الدين الخطيب لمّا كان متصرفاً (أي محافظاً) لمنطقة حمص، أعرفه مسلماً متمسكاً بإسلامه. فلما قال نعم قلت: تُبطِل هذا كله، وتأتي بشيخ القرّاء يفتتح الاحتفال بآيات من كتاب الله، ثم أُلقي أنا كلمة وأنور قصيدة، فيكون من ذلك احتفالٌ خالٍ من تلك المنكَرات. قال: إن الناس لا يرضون بغير قراءة المولد. وأنا أريد الإصلاح ولكن لا أستطيع أن أثير الناس وأن أُغضِب الرئيس. قلت: فليقرأ الشيخ الكزبري التعطيرة الأخيرة من المولد المعتاد، ثم يُنشِد السيد توفيق المنجّد قصيدة نختارها نحن له في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لا يكون فيها شيء يخالف الإسلام. ولست أريد الآن أن أتكلم عن هذه الحفلة وما كان فيها، ولعلّي أعود إليها فأتكلم عنها. وقلت في آخر خطبتي في هذه الحفلة (وقد نُشرَت في الرسالة): لقد بدا لنا النور ودنَت الأماني، ولاحت أعلام الوحدة ودُقّت طبولها. وقد طالما هجعنا ومرّت بنا ليالٍ حوالك طِوال فترت فيها الهمم وخَبَت العقول، ولكن وقت النوم انقضى وأذّن مؤذّن النهضة: حي على الفلاح، فنفضنا عن أنفسنا غبار الأحلام ونهضنا.

لقد كُتب على المسلمين أن يذلّوا، ولكنها مرة واحدة، وقد مرّت ولن تعود إن شاء الله. لقد انبلج الفجر وانتهى الليل، وبدا نور النهضة، نور الاستقلال والوحدة؛ فأقسموا في هذا البيت الأطهر في هذا اليوم الأنور أنكم لن تناموا ولن تضعفوا، فما ينال المجدَ نائمٌ ولا وانٍ ولا ضعيف. إن محمداً، صلّى الله على محمد، علّمنا معنى العزة والكرامة، وعرّفنا قيمة العقل والعلم، وشرع لنا شرعة الإيمان والعدل والإحسان؛ فلنعُد إلى ما شرع الله لنا على لسان محمد نبيّنا، لنفتح في التاريخ صفحة مجد وسموّ ونبل كالتي كتبها أجدادنا. فيا أيها الرئيس (وهنا رأيت الرئيس -وكان في السدة الصغيرة- يرفع رأسه وينظر إليّ) يا أيها الرئيس، ارفع راية القرآن، ثم ادعُنا إلى العمل شيوخاً لهم عزيمة الشباب وشباباً لهم حكمة الشيوخ، تُجِبْك من جنود الحقّ جحافل تصل يوم القادسية ويوم اليرموك بأيام الغوطة ونابلس التي فيها جبل النار. اعمل للوحدة الكبرى فإنها حياتنا لا حياة لنا إلاّ بها، أقِمْها على صخرة الإسلام، فلا تعبث بها الزعازع ولا تزلزلها الأعاصير. إنك القائد الحكيم، ولكنها ضجّت في العروق الدماءُ وتلوَّتْ في الأغماد السيوفُ، فانشر اللواء وسُق الجيش، ليعلم الإنس والجنّ أنه لا يزال في عروقنا ذلك الدم الذي نضح الأرض من بواتيه في فرنسا إلى أبواب الصين، وفي قلوبنا ذلك النور الذي أضاء الدنيا من المشرق إلى المغرب، وفي سواعدنا ذلك العزم الذي هدّ بروج الطغيان وتهاوت له التيجان، وفي أفواهنا ذلك النشيد الذي علا في كل مكان، فكانت تخشع له

الرواسي وتطأطئ الشامخات: لا إله إلاّ الله والله أكبر. * * * وكنت قبل ذلك نشرت سلسلة من المقالات كان عنوانها «إلى السلاح يا عرب»، قلت في أول مقالة منها (¬1): يا أيها القرّاء، إني ما جئت أصبّ في أعصابكم قوة ليست فيها ولكن جئت أوقظ القوة التي نامت في أعصابكم، وما جئت لأجعلكم خيراً مما أنتم عليه ولكن جئت لأُفهمكم أنكم خيرٌ مما أنتم عليه؛ جئت أضرم جمرة الحماسة التي غطّاها في نفوسكم رماد الكسل، فأعينوني عليها باستعادة الثقة بالله، ثم الثقة بها وبسلائق العروبة التي ورثتها وبعزة الإسلام التي كانت لها. واعلموا أنكم إن فقدتم عزّتكم وأضعتم سلائقكم وابتعدتم عن دينكم لم تكونوا جديرين بمحمد، ولم يكن لكم الحقّ في الاجتماع هنا في يوم مولد محمد، صلّى الله على محمد وعلى آل محمد. يا سادة، إن الأمم كالأفراد؛ ألا يكون الرجل منكم رائحاً من عمله خائر الجسم واني العزم، كل أمانيه أن يصل إلى الدار فيُلقي بنفسه على أول مقعد يلقاه قبل أن يستنفد الجهد قواه، فيجد في الدار إشارة بأنه رُفع درجة أو نال جائزة أو هبط عليه إرث ضخم من قريب منسيّ، فيحسّ أنه انتفض كما ينتفض العصفور بلّله ¬

_ (¬1) انظر في كتاب «هُتاف المجد» مقالة «إلى السلاح يا عرب» بجزأيها الأول والثاني (مجاهد).

القطر، وانتعش كما ينتعش النبات أرواه الماء، ونشط كما ينشط الجمل أُطلِق من عقال؟ ألا يكون أحدكم مرخيّ الأعصاب خامل الجسد، قد خدّره النعاس حتى ما يقدر أن يفتح عينيه، فيعدو عليه عادٍ أو يطرقه لصّ، أو يحقره إنسان فيشعل الغضب في دمه ناراً ويشدّ من أعصابه أوتاراً، فيثب يريد أن يعلو الجدار أو أن يخوض النار؟ ألا يكون أحدكم تعبان كسلان، يجرّ قدميه من الوَنَى جرّاً يظنّ أنه سيسقط على الأرض، فيلحقه عدوّ فاجر أو يطارده وحش كاسر، فإذا هو ينطلق انطلاق القذيفة من فم المدفع ويعدو عدوَ الغزال المروَّع؟ هذه -يا أيها الناس- القوّةُ المدّخَرة في أعصاب الإنسان، يُظهِرها الأمل ويُبديها الغضب ويبعثها الخوف. وفي الأمم قوة كهذه القوة، وما الأمة إلاّ الأفراد. أفلا تحسّ إن غضبتَ أو فرحت أو جزعت أن نبضك يسرع، وقلبك يخفق، ووجهك يحمرّ أو يصفرّ، وجسدك كله يتبدّل ويتغيّر؟ فكذلك الأمم: تكون الأمّة نائمة آمنة قد غلب عليها الخمول وشملها الاسترخاء، فما هي إلا أن يبعث الله لها القائد العبقري، يصرخ فيها ينذرها خطراً أو يحذّرها عدواً أو يَعِدها نصراً مؤزّراً، حتى تثب كما يثب الجندي المستريح إلى سلاحه، فتعمل العجائب وتصنع المعجزات، وتدع التاريخ حائراً من فعلها مشدوهاً. وهذه هي الأمثلة تملأ العصور وتُترِع صفحات التاريخ، الأمثلة من الشرق والغرب، من القديم والحديث، حيثما تلفّتّم وجدتم مثالاً.

وهذا هو المثل الأغرّ الذي لا تدانيه الأمثلة ولا تضارعه في سموه النهضات؛ هذه القرية التي كانت متمددة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والجدب فوق ظلمات، لا تدري بها المدن الكبار ولم يسمع بها التاريخ، فلما هزّها بيمينه سيد العبقريين وأعظم العظماء، ومن كان في الأرض سفير السماء وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء، محمد ‘، صارت «المدينة المنورة» التي غدت يوماً عاصمة الأرض. هزّها فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة تُنبت السهولَ الخِصاب والرياض والجنّات في الشام والعراق، وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والقيروان، وإذا هذه القبائل المتفرقة تُخرِج الجيشَ الذي فتح الشرق والغرب وملك ثلث العالَم المتمدّن في ثلث قرن، وإذا هذه الأمّة الجاهلة تُنجِب الأساتذة الذين علّموا الدنيا وأرشدوا أهلها وأقاموا أعظم حضارة عرفها البشر: حضارة الخير والحقّ والجمال، لا حضارة القتل والتدمير والمصائب واليهود والبارود (والإيدز) والقنبلة الذرية! إنه لا ينقصنا لنعزّ ونسود ونسير على سنن الجدود إلاّ حرب تنبّه أو زعيم عبقري يقود. إننا لا نريد إلاّ أن يتحمّس العرب أو أن يغضب العرب أو أن يخاف العرب، فتوقظهم الحماسة أو يثيرهم الغضب أو يحرّكهم الخوف، فيرجعوا إلى ما كان سببَ عزّهم وسيادتهم وسعادتهم وصدارتهم بين الأمم، وهو القرآن. * * *

والمقالة طويلة. وكتبت بعدها بهذا العنوان فقلت: «إلى السلاح يا عرب». هل تذكرون يوم ناديتكم من هذا المذياع (أعني إذاعة دمشق) وهتفت بكم: إلى السلاح يا عرب؟ لقد نقد كلامي يومئذ أقوام لأنه جاء في غير أوانه فكان صرخة في وادٍ مقفر. وكان الحقّ مع هؤلاء الناقدين؛ كان الحقّ معهم لأنني يوم ناديت هذا النداء (وكان ذلك من ثلاث سنوات) لم يكن قد طلع هذا الفجر، ولم يكن قد أشرق الأفق بالنور، وكنا لا نزال في بقية من سواد الليل، نتخبّط على غير هُدى ونمشي على غير الطريق. كنا نظنّ أن الطريق إلى المجد والظفر وإلى غسل الهزيمة ومحو العار هو طريق مجلس الأمن وهيئة الأمم، ذلك الطريق الطويل الملتوي الذي يكمن في جنباته قُطّاع الطرق واللصوص من اليهود. وقد عصينا الشيخ دُرَيداً (أعني دريدبن الصِّمّة) لمّا نصحنا فقال: أمرتُهمو أمري بمُنْعَرجِ اللَّوى ... فلم يَستبينوا النّصحَ إلاّ ضُحى الغَدِ وكان دريد العصر هو فارس الخوري، الذي رأى الجادة حين ضلّ عنها السارون فقال لنا: إن قضية فلسطين لا تُحَلّ في أروقة هيئة الأمم، ولكن تُحَلّ على سفوح الكرمل وشواطئ يافا وهضاب القدس، ولا تُحَلّ بالخطب والأشعار ولكن بالحديد والنار. وأشهد للحقّ وللتاريخ أنه قد قالها قبله رجل أعظم منه، قالها قبله عبقري العصر الذي بنى لأمته من الأمجاد ما لم يَبنِ

مثلَه لأمته عظيمٌ في هذه العصور، هو عبد العزيزبن عبد الرحمن الفيصل آل سعود. إن من الحقّ أن أسجّل أنه كان أول من عرف الطريق، الطريق الذي رأيناه الآن جميعاً. الطريق الذي يوصل وحده إلى استعادة الحقّ المسلوب والنصر الضائع؛ طريق المعركة الحمراء التي لا يظفر فيها إلاّ من حمل سلاحين: سلاح الإيمان في قلبه وسلاح البارود في يده. لذلك أعود اليوم لأنادي مرة ثانية: «إلى السلاح يا عرب». أنادي أمة لم تعُد تحتاج إلى ندائي لأنه لم يبقَ فيها نائم فأوقظه، ولا ذاهل فأنبهه، ولا ناسٍ فأذكّره، ولا شحيح يضنّ بالقليل من ماله على أمّته وشرفه ودينه حتى أسخّيه وأرغّبه في البذل والعطاء. أنادي شعباً دعاه ربّه وهتف به قلبه، فلبّى قبل أن يسمع ندائي، فعلامَ إذن أعود فأصيح: إلى السلاح يا عرب؟ (إلى أن قلت): إن اليهود لديهم سلاح، ولكن اليهودي يقاتل حينما يكون في قلعة حصينة أو دبابة متينة، يستر جُبنَه بالحجارة والحديد. ولقد نبّهنا إلى هذه الظاهرة التي رآها كل من شهد معارك فلسطين قائدٌ كبير، وأفاض فيها وافتخر بأنه أول من انتبه لها، وهو طه باشا الهاشمي، وكان الحديث في فندق شط العرب في البصرة، فقلنا له (أنا والأستاذ الصواف): إنك يا باشا لم تكشف شيئاً مستوراً؛ إنها ظاهرة في اليهود، ظاهرة معروفة من قديم من نحو ألف وأربعمئة سنة، حين أنزل الله في كتابه قوله: {لا يُقاتِلونكُم جَميعاً إلاّ في قُرىً مُحَصَّنةٍ أو مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، بأسُهُم بينَهم شديدٌ}. فدُهش وقال: آمنت بالله، لقد نسيت هذه الآية من كتاب الله.

ولو كان يتسع الوقت أو كان يجوز لي الكلام لعرضتُ عليكم من وقائع الحوادث ما تمتلئون منه عجباً مما يجري في هذه الأيام، لا في أيام الحرب، ولكنني مع الأسف لا أستطيع. ومع ذلك سأغامر وأروي لكم حادثة واحدة رأيناها في القرى الأمامية: رأينا (أنا والشيخ الصواف وفريق من أعضاء مؤتمر القدس سنة 1953) رأينا عربياً محبوساً في مخفر عند ضابط إنكليزي، فسألناه ما شأنه؟ قال: إنه شوهد يجرّ بقرة عند الحدود، فسألوه من أين جاء بها، فتردّد وتلعثم، ثم تبيّن أنه جاء بها من الجزء الذي تحتلّه إسرائيل من فلسطين (ولا تنسوا أنني أتكلم في هذه المقالة عن فلسطين قبل ثلاثين سنة) فعجبوا منه وقال له الضابط الإنكليزي: هل تستطيع أن تأتي بغيرها؟ قال: نعم، وإن أعطيتني هذا المسدس جئت بالحارس اليهودي. فأعطاه المسدس، وغاب الرجل ساعات وحسبوه قد فرّ به، فإذا هو يطلع عليهم وأمامه بقرتان وأمامه الحارس اليهودي مكتوفاً. (وأقول الآن: إذا شككتم في هذه الحادثة التي أرويها لكم -ولديّ من أمثالها كثير- فاسألوا الأستاذ الصواف عنها وعمّن كان حاضراً هذا الحديث من أعضاء المؤتمر الإسلامي، فإنني قد شخت وصرت أنسى الأسماء، والصواف لا ينسى اسماً أبداً. أعود إلى ما قلته في هذه المقالة، قلت فيها): يجب أن تعرفوا وأن تؤمنوا أنه لم يغلبنا اليهود على فلسطين. ومتى كان اليهود يغلبون المسلمين؟ ولكن غلبتنا الدول القوية التي تحمي اليهود، الدول التي أكرهتنا على الهدنة ولم نكن نريدها. لم ننهزم نحن، وهل حاربنا حتى ننهزم؟ إنما انهزمَت فينا الأخلاق

التي استوردناها من بلاد غيرنا وتركنا لأجلها سلائق عروبتنا وأخلاق ديننا. ولولا الهدنة لقذفنا بإسرائيل إلى البحر. ونحن قادرون على ذلك بعون الله، قادرون إن جدّدنا إيماننا وصدقنا إرادتنا وعدنا إلى وحدتنا واستظللنا براية قرآننا وتسلّحنا؛ فإلى السلاح يا عرب. إلى السلاح، فإن كل استقلال لا يحميه السلاح قلعة مبنية على تلّ من الملح في مجرى السيل. إلى السلاح، فإن كل حقّ لا يؤيّده فم المدفع حقّ معرَّض للاغتصاب. إلى السلاح لتحموا به إيمانكم وأوطانكم، وتدافعوا به عن أرضكم وعن عرضكم، ولتذودوا به عن أجداث أجدادكم وآثار أمجادكم. لقد كنا من عشرين سنة (ولا تنسوا أن المقالة مكتوبة من ثلاثين سنة) إذا دعونا إلى السلاح ألقت بنا الحكومة في السجن، وكان في الشام وفي لبنان وفي الساحل حكومات يتنزّل عليها الوحي من قصر الصنوبر في بيروت، وكان في كل وزارة مستشار فرنسي، والمستشار هو الوزير والوزير كاتب عند المستشار، وعلى كل رابية قلعة فيها جنود أعدّوا بنادقهم ليُفرِغوا رصاصها في صدور كل من يهتف بالاستقلال، وفي كل قلعة مدافع موجهة إلى بلدنا تترقّب همسة بالحرّية لترمي بلدنا بصواعق من بارود فتهدمه على رؤوسنا. فاحمدوا الله على أن فيها اليوم حكومات منا وإلينا إذا نادت وجدَت أبداً ملبّياً منا، وأن هذه القلاع صارت لنا بعدما كانت علينا، وأن الرجل الذي كان قائد الشعب في معركة الاستقلال في الشوارع وفي الساحات وفي المضايق والأودية أيام الثورة وكنت

يوماً على رأس جماعة الطلاب نأتمر بأمره ونمشي وراءه هو رئيس جمهوريتنا اليوم (أعني شكري بك القوّتلي رحمه الله). فكيف كان هذا كله؟ كيف ذهبت فرنسا من هذه الديار وما كنا نظنّ أنها ستذهب؟ كيف جاءنا هذا الاستقلال؟ كلاّ، لم يكن هدية جادت بها علينا إنكلترا؛ ولكن نحن زرعناه في روابي ميسلون، وفي جنات الغوطة، وفي شعاب الجبل، وفي سهول حماة، وعلى ضفاف الفرات، وفي سفوح حلب، زرعناه بأيدينا وسقيناه بالماء الأحمر من دمائنا، وغذّيناه بمهج إخواننا وأبنائنا وأحبائنا وأجساد الآلاف من شهدائنا. وإلاّ فهل تظنونه جاء سهلاً سائغاً بلا كدّ ولا تعب؟ فأين إذن ثوراتنا، وأين صَبْرُنا عن الكسب والعمل وإضرابنا ستين يوماً متتاليات (وكان ذلك سنة 1936 وقد سبق الكلام عنه) وأين تلك البطولات في مدن الشام كله؟ أنسيتم مقالتي «أطفال دمشق» التي تناقلَتها سنة 1936 أربع وعشرون جريدة، وتُرجمَت إلى الفرنسية والإنكليزية فعجب مما فيها الإنكليز والفرنسيون (¬1)، المقالة التي لم أُبدِع فيها ولم أسمُ إلى سماء الخيال لآتي بالصور الأدبية، ولكنْ وصفتُ مشهداً كان على الأرض من بطولة أطفال دمشق، مشهد الطفل الذي هجم بالمسطرة على الدبابة وتسلّقها وهي تُطلِق النار، المشهد الذي بلغ من روعته أن الوحش الفرنسي الذي كان في الدبابة -يسوقها ليقتل بها أهل البلد ويهدم بها دورهم على رؤوسهم- تأثّر به حتى اضطُرّ أن يذكر إنسانيته التي نسيها ويفتح ¬

_ (¬1) وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).

برجه ويقبّل الصبي ويقدّم له قطعة شكلاطة (¬1)؟ فهل تظنّون أن أمةً هؤلاء أطفالُها تعجز عن أن تنال استقلالها بأيديها، أو تظنّون أنها بعدما نالت استقلالها من فرنسا تعجز عن قتال هذه الحفنة من كلاب الأرض: اليهود؟ أتعجز عنهم وقد حاربنا فرنسا لمّا كانت أقوى دولة برّية في العالَم، ولم تستطع فرنسا أن تجتاز النهر الذي كان عرضه أربعة أمتار، نهر تورا، إلا بعد ثمانية عشر شهراً؟ لقد غلبنا فرنسا في معارك استمرّت سنتين، فهل نجزع من حرب اليهود؟ يا أيها الناس، إننا لم ننهزم أمام اليهود في فلسطين، ولكن انهزمَت أخلاقنا المستعارة لا أخلاقنا الأصيلة؛ انهزمنا أمام ضغط الأقوياء الذين يحمون ظهور اليهود ويمدّون بالمال وبالقوة اليهود، فإلى السلاح يا عرب؛ إلى السلاح، ابذلوا في سبيله الغالي والرخيص، إلى السلاح، بيعوا الصحن والكرسي واشتروا السلاح، وامنعوا عن أفواهكم وابذلوا للسلاح، فإنه إن كان معكم السلاح استرجعتم كل ما بذلتم، وإن لم يكن معكم سلاح لن ينفعكم كل ما ادّخرتموه. إلى السلاح، اشتروه من الشرق والغرب، اطلبوه من الإنس والجنّ. إلى السلاح يا عرب، سلاح الحديد في أيديكم، وسلاح الإيمان في قلوبكم، وسلاح الأخلاق والعلم والمال، والله معكم: إن تنصروا الله بأموالكم وأنفسكم ينصركم ويثبّت أقدامكم. * * * ¬

_ (¬1) الشّكلاطة بتسكين الكاف وبالطاء تعريب كلمة «شوكولاته».

أسبوع التسلح في الشام

-183 - أسبوع التسلّح في الشام إلى الأستاذ «س. ق. م.»: نعم، لقد كانت لي صلات بالرئيس شكري بك القوتلي رحمه الله؛ كنت أزوره في داره، على موعد غالباً، وأحياناً أذهب إليه بلا موعد إن دعا إلى ذلك داعٍ. وكنت قد عرفته في جريدة «الأيام» لمّا أنشأَتها الكتلة الوطنية وكان شكري بك من أعضائها الظاهرين. ولمّا عدت من دير الزور سنة 1940 متحمّساً أريد أن أعمل، وكانت لجنة الطلاب التي كنت رئيسها سنة 1931 قد تفرّقَت وتبدّلت حالها، لم أجد في الساحة من الوطنيين العاملين من رجال الكتلة إلاّ شكري بك، ولقد كتبت خبر ذلك فيما مرّ من هذه الذكريات. عرفتُه مناضلاً، وعرفته وزيراً، وعرفته رئيساً، فما تغيّر عليّ قليلاً ولا كثيراً، وإن كان غيره من زعماء الكتلة قد غيّرتهم المناصب. وكانت لي صلات قبله بالرئيس محمد علي بك العابد، والرئيس هاشم بك الأتاسي، والرئيس الشيخ تاج الدين الحسني، وجماعة من رؤساء الوزارات ومن الوزراء لا أستطيع أن أحصيهم. وكثير من الوزراء، بل ومن بعض رؤساء الوزارات، كان من إخواني أو من تلاميذي، ولعلّي أجمع ذكرياتي عنهم في حلقة أو حلقات من هذه الذكريات.

فما وجه العجب في هذا؟ وهل تصدّق أنني عجبت من عجبك، ثم ذكرت أن الحالة في مصر غيرها في الشام وفي السعودية. وأقطار العرب كلها أخوات، ومصر أختنا الكبرى، ولكن الطباع تختلف بين الأشقاء، ومصر تُغلِق غالباً على الحاكم الأبواب وتُقيم دونه الحُجّاب فلا يوصل إليه إلاّ بمشقة أو بكتاب، وأبواب رؤسائنا في الشام كانت مفتوحة، ولا تزال أبواب الملوك والأمراء في المملكة هنا مفتوحة لكل داخل. لقد كنا نزور الرئيس وربما زارنا، ونكلّمه ويكلّمنا، فإذا جاءت الرسميات وقفنا معه عند حدّ القانون والأعراف. وكانت في دارنا لوحة مكتوبة بخطّ فارسيّ جميل لها إطار ثمين، فيها حكمة حفظتُها وأنا صغير ولا أزال دائماً أراها أمامي، هي: «أحسِنْ إلى مَن شئتَ تكن أميرَه، واحتَجْ إلى مَن شئتَ تكن أسيرَه، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره». فإذا كنت في غير حاجة إلى الرئيس وإلى الاستفادة من منصبه فأنت مثله. ولقد كنت أرى في زيارتي الأولى للمملكة من ثلاث وخمسين سنة (¬1)، أرى البدوي القادم من باديته يدخل على الملك المؤسّس العظيم عبد العزيز، فيقعد بين يديه يكلّمه كما يكلّم صديقه ويطلب منه حاجته، بل يناديه باسمه يقول له: يا عبدالعزيز! ولقد مشى على ذلك أبناؤه جميعاً، فإذا جاء موعد الطعام بُسطت الموائد ووُضعت الأطباق، وقعدوا مع الملك يأكلون معه مما يأكل منه. ¬

_ (¬1) نُشرت هذه الحلقة سنة 1406هـ.

وهذا الملك فهد على سنّة أبيه وإخوته يلبس مثل ما يلبس الناس، واتخذ العقال الأسود الذي يتخذه الناس، وزاد على أبيه وإخوته رحمهم الله فاستحدث شيئاً جديداً هو هذه اللقاءات مع طلاّب الجامعات، يكلّمهم كما يكلّم الأب أولاده ويجاوبهم كما يجاوب المعلّم تلاميذه، يخاطبهم مخاطبة عفوية فيها اطّلاع وفيها نكتة وفيها فائدة ومتعة. يا أيها الأستاذ الذي كتب إليّ: أما تعلم أن قلمي ولساني مريضان، وأن مرضي هو الاستطراد؟ فلماذا فتحتَ لي الباب حتى خرجتُ عن الموضوع؟ عندي كلام كثير كثير عن الرئيس شكري بك وعن الرؤساء من قبله، ولكنني ما أنشأت هذا الفصل للقول فيه، بل للكلام عن أسبوع التسلّح الذي أبعدتَني برسالتك عنه. وسيرى قرّاء الجريدة من خبر هذا الأسبوع ما يملؤهم دهشة ويدنو بهم من غرابته إلى حد إنكار ما يقرؤون، ولكن إياكم أن تُنكِروا شيئاً منه، فإنه حقّ وصدق ما زدت فيه على ما وقع، بل نقصت منه. إن الذي صنعه الناس في هذا الأسبوع من البذل في شراء السلاح ما رأيت مثله ولا سمعته ولا قرأته، وإنه لَيخطر على بالي الآن سؤال عجيب: لو كشف الله لهؤلاء المتبرّعين طرف الستار عن المستقبَل المحجوب، ورأوا أين سيذهب هذا السلاح وأيّ يد ستحمله وإلى أيّ صدر توجّهه، أفكانوا يتسابقون إلى العطاء ويتزاحمون على البذل كما يتزاحم على الأخذ الناس؟ ولكن لماذا أقول هذا الكلام وأنا أعلم أن الأعمال بالنيات

وأن لكل امرئ ما نوى؟ وهم ما نووا إلاّ أخيراً فلن يجدوا عند الله إلاّ الخير، والله عنده الميزان الحسّاس الذي تتحرّك إبرته بمثقال ذرّة تقع عليه، لا يضيع عنه شيء. لا أعني الذرّة كما فسّرها الأولون بالنملة الصغيرة أو بالهباءة التي تراها في الهواء عندما يدخل شعاع الشمس من الطاقة إلى الغرفة المظلمة، بل أعني الذرة بالمعنى العلمي (الأتوم)، بل أجزاء الذرّة من الكهارب (الإلكترونات)، وما هو أقل منها إن وصل إلى علمنا وجود شيء هو أقل منها. * * * أعود إلى الموضوع الذي قطعتني رسالتك عنه. لمّا تتالت الطلبات وتعالت الأصوات تطلب تقوية الجيش وتسليحه، وكان ذلك هو مقصد الرئيس شكري بك ومُناه، وكان في تلك الأيام رجلَ الساعة، وجد أن الخزانة تكاد تكون فارغة ليس فيها ما يفي بثمن السلاح، والميزانية ضعيفة لا تتحمل أثقال التسليح. وكان باب شراء السلاح مفتوحاً، وكان الدكتور معروف الدواليبي أول من كسر احتكار الغرب بيعَه (¬1) وجعلنا نهدّد أولاً بأننا سنشتريه من كل مكان ثم نحقّق ما هدّدنا به. عندئذ فكّر الرئيس بهذا الشعب الكريم، الكريم النفس واليد. لا أعني الشعب الشامي وحده بل الشعب العربي في كل بلد من بلدان العروبة، وأخصّ منهم المسلمين الذين يعلمون أن من يُنفِق واحداً سيأخذ بدله -إن أخلص النية وصدق الإيمان- سبعمئة. كان الرئيس يعلم ¬

_ (¬1) كلمة «بيعه» مفعول به لاحتكار.

أن هذا الشعب يُنجِده إذا استنجده، ويُمِدّه إن استمدّه، ويكون معه أبناؤه جميعاً حين يدعوهم: لا يسألونَ أخاهم حينَ يندُبُهم ... في النّائباتِ على ما قالَ بُرهانا لقد جرّبنا ذلك منهم مرات فكانت التجرِبة ناجحة دائماً، وأحسبكم لم تنسوا حديث يوم الفقير أيام الرئيس تاج الدين الحسني الذي أوردتُ عليكم خبره، وما فعلت فيه لمّا كنت قاضي النبك سنة 1942. أعود إلى الحديث عن شكري بك وعن أسبوع التسلّح. لقد دعانا يومئذ في جملة من العاملين الذين أقاموا من أنفسهم جنوداً لهذا الوطن، يأتمرون بأمر شكري بك لا لأنه رئيس الجمهورية بل لأنه الزعيم المناضل. فبدأتُ أذيع سلسلة من الأحاديث من إذاعة دمشق، وكان لي فيها حديث دائم بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع. وعندي بحمد الله صورة مكتوبة من هذا الحديث لأنني كنت أكتب أحاديثي، وقد أدركت لمّا وجدت هذه الصورة مبلغ الخسارة بترك الكتابة وارتجال الأحاديث. ولكن ما فائدة الأسف؟ إن لي في المملكة الآن إحدى وعشرين سنة (¬1)، أحدّث فيها كل يوم من الإذاعة وكل أسبوع من الرائي، وأُلقي خلال ذلك محاضرات وخطباً، فكم مجلَّداً يخرج منها لو أنها كُتبت؟ وأنبّه قبل أن تقرؤوا هذا الحديث أنه أُذيع قبل أن تذهب ¬

_ (¬1) من سنة 1383 (1963).

منا بقية فلسطين، التي أعنّا اليهود على طمس اسمها فدعوناها «الضفّة». ما الضفّة يا أيها العرب؟ قولوا: «فلسطين»، وأرغموا آناف اليهود بـ «الاسم» حتى يقدّركم الله على إرغامهم بـ «الفعل». * * * وهذا نصّ الحديث الأول من الأحاديث التي أُذيعت تمهيداً لأسبوع التسلّح، أختار منه ولا أعرضه كله (¬1). قلت: الحديث اليوم عن أسبوع التسلّح، ولست أحدّثكم فيه استرضاء للّجنة العليا (وأذكر أنه كان من أعضائها صديقنا الأستاذ نصوح بابيل فلعلّه يكتب عنها) ولا لأن الموجّه له المعنيّ به فخامةُ الرئيس، بل لأني معتقد بأن العمل له والمشاركة فيه واجب شرعيّ وعقليّ ووطنيّ. يدعو الديّنَ إلى ذلك دينُه، والعاقلَ عقلُه، والوطنيَّ وطنيتُه، ولولا ذلك ما قلت فيه كلمة، وأنتم تعرفونني وتسمعون لي من أكثر من خمس وعشرين سنة وتقرؤون لي من ثلاثين سنة، فهل وجدتموني بعت قلمي يوماً لأحد، أو دفعَتني منفعة أرجوها أو مضرّة أخشاها إلى أن أقول بلساني ما لا يؤمن به قلبي؟ ولست أقول هذا تمدّحاً وفخراً، بل لأحملكم على تصديق ما أقوله اليوم لكم. وماذا أقول لكم؟ وهل ترونني أحتاج إلى أن أوضّح الواضحات، وأقنعكم بوجود الشمس في رابعة النهار، وأثبت لكم أن العمل على التسلّح ضرورة لازب؟ ¬

_ (¬1) انظر مقالة «أسبوع التسلح وفلسطين»، وهي في كتاب «هُتاف المجد»، وقد أذيع هذا الحديث سنة 1955 (مجاهد).

وهل في هذا البلد كله، وهل في بلاد العرب، وهل في ديار المسلمين جميعاً رجل واحد يشكّ في هذه الحقيقة الظاهرة التي يراها كل من في وجهه عينان، وهي أن سلاح الخطب والتصريحات والبيانات والشكاوى لم يعُد يُفيد ولا يُجدي، وأن اللغة الوحيدة التي تفهم بها إسرائيل هي لغة المدفع، وأننا عرفنا الآن كيف نكلّم إسرائيل بهذا اللسان؟ هذا يا أيها السامعون أول قرار ستتخذه الحكومة (أعني قرار التسلّح)، فيقول لها الشعب صدقت، ونحن معك. هذا هو القرار الذي يترجم عن أفكار الناس جميعاً ويعبّر عن آرائهم جميعاً، من رجل السوق إلى موظف الديوان، إلى تلميذ المدرسة، إلى عامل المعمل وفلاح الحقل. لقد استطعت الآن أن أرفع رأسي الذي طالما أحناه الخجل في هذه السنين السبع الماضيات، الخجل من ديننا الذي يأمرنا أن نُعِدّ للعدوّ ما نستطيع من القوة من الحديد والبارود والطيارات والدبابات، فأعددنا كلاماً حرّكنا به المنابر وزلزلنا به الصحف وهززنا به أسلاك البرق! الخجل من سلائق العروبة أن تدنّسها بالعار أخلاق الهزيمة، الخجل من الله أن يرانا نبتعد نحن المسلمين عن قتال كلاب يهود بعدما قاتل أجدادنا الإمبراطوريتين اللتين ورثتا العالَم: فارس والروم. لا نقاتلهم ونحن في قلب بلادنا مدافعين عنها وقد قاتل أجدادنا فاتحين في أقصى الأرض! قصّرنا وأهملنا فكانت النتيجة هي التي ترونها في القدس وفي القرى الأمامية.

هل تدرون ما حديث القرى الأمامية (وأقول لكم بأسف إن حديث القرى الأمامية صار الآن تاريخاً يُروى)؟ لقد وقفتُ في قَلْقيليَة فإذا البلدة على صخرة مقفرة، وبساتينها أمامها يضحك فيها النبت وترقص الأشجار وتغنّي السواقي. أمّا البلدة فبقيَت للعرب، وأمّا البساتين فأُعطيَت لليهود (وأقول مرة ثانية إن البساتين أيضاً أُعطيت لليهود ولا أقول أخذها اليهود). ولقد كان أهل قلقيلية يقفون معنا لمّا كنا في المؤتمر سنة 1953 وذهبنا نزورها، كانوا يشيرون بأيديهم إلى الشجرة يقولون: أترون هذه الشجرة؟ لقد زرعتها بيدي في أرضي وتعهّدتها وسقيتها، فلما كبرَت وأثمرَت أكل ثمرَها اليهود! أترون هذه الساقية؟ لقد شققتها وأجريتها، فلما سال ماؤها عذباً سائغاً شربه اليهود! وبيوتنا التي عمّرناها بأيدينا أقام فيها اليهود، وفُرُشنا التي فرشها لنا نساؤنا نام عليها اليهود. وفي كل شبر من فلسطين بقعة حمراء من أثر الدم الزكي، دم الشهداء الذين سقطوا صرعى دفاعاً عن بيوتهم وقريتهم وعن شرفهم وعن دينهم، ودم النساء والأطفال الذين ذبحهم اليهود. لقد وقفنا في قَبْيَة على أنقاض المدرسة التي ضربها اليهود بالقنابل من سنتين فمات المعلّم والتلاميذ، ونبشنا الأنقاض، ورأينا هيكل طفل صغير يشير بيد من عظم قد فني من حوله اللحم، يفتش في الأرض عن عربي من الثمانين مليوناً، عن مسلم من الستمئة مليون (صاروا اليوم ألف مليون) ينقذه من هذه الحفنة من شُذّاذ الآفاق من اليهود، فلم يجد.

لم يوجد يومئذ ولكن أرجو أن يكون قد وُجد الآن، وُجد من ينتقم لتلميذ مدرسة قبية، من يثأر للحبالى اللاتي بقر بطونَهن خنازيرُ البشر اليهود، للنساء اللائي قطع أثداءهن اليهود، للأطفال الذين ذبحهم اليهود على أعيُن أمهاتهم، لقبية ودير ياسين (ولم تكن جريمة صبرا وشاتيلا قد وقعت)، للمسجد الأقصى الذي ضربه اليهود بالبارود وأراقوا على ثراه دم الأبرياء من المصلّين، للكرامة العربية، ولعزّة الإسلام. فهل في السامعين من يشكّ أو يتردّد أو يحتاج إلى أن أرغّبه في البذل لأسبوع التسلّح؟ هل فيهم من يحتاج إلى أن أُثير في نفسه الحماسة أو أوقظ فيها الإيمان؟ هل فيهم من يُعوِزه أن أبيّن له أن ما يدفعه الآن هو الذي يبقى له يوم القيامة، وأنه بهذا العطاء سيكون من المجاهدين لأن الجهاد درجات: جهاد باللسان، وجهاد بالمال، وجهاد بالنفس؟ هل أحتاج أن أقول لكم إن الأمّة التي تكون مثلنا مهدَّدة بالعدو الغادر الجاثم على أبوابها، ولا تبذل من مالها الشيء القليل للتسلّح وللاستعداد، تذهب بذلك القليل والكثير؟ فأعطوا من أرباحكم قبل أن يذهب الربح ورأس المال. أعطوا من أجور أملاككم قبل أن تخرج من أيديكم هذه الأملاك. أعطوا من ثمرات أرضكم قبل أن تخسروا الأرض والثمرات. أعطوا من رواتبكم قبل أن تبقوا بلا رواتب. أعطوا من وفر ما تتخلّون عنه من الكماليات، فإن من لا يستغني عن الكماليات في مثل هذا المقام يُضطرّ يوماً أن يستغني مُكرَهاً عن الضروريات. من كان عنده عرس فليدع ثمن علب السكاكر ونفقات العرس التي

لاداعي إليها للجان التسلّح ويُعلِن ذلك للمدعوّين، يشكره الناس ويكن قدوةً لهم في الخير. ومن كان له مأتم فليترك الآس والحنّاء وحفلات الثلاثة الأيام والأربعين وهاتيك البدع التي لا يرضاها الشرع ولا يقرّها الدين، وليدفع تكاليف ذلك للجان التسلّح، وليُعلِن ذلك للناس. ومن كان يريد أن يشتري ثوباً جديداً يمكن أن يستغني عنه أو تحفة أو لوحة فليدعها وليدفع ذلك للجنة التسلّح، وليجعل للإيصال إطاراً يعلّقه في غرفة الاستقبال مكان الصورة، وليثق أنه يكون أجمل من كل صورة فنّية. ومن كان يذهب إلى السينما ثلاث مرات في الأسبوع فليذهب مرتين وليدفع أجرة الثالثة إلى لجان التسلّح، أو فليرجع إلى عقله ودينه ويدع السينما ويَتُب منها ويجعل نفقاتها لأسبوع التسلّح. وكل ما يمكن الاستغناء عنه فلنستغنِ عنه لنجعل ثمنه سلاحاً ندافع به عن بلادنا، ونسترجع به أرضنا من عدوّنا، ونُخلِص النية فنُرضي بذلك ربنا. ويستمرّ ذلك دائماً، لا أسبوعاً واحداً، لأن الكماليات لا مكان لها في بلد مهدَّد بالعدوّ الجاثم على الأبواب. إن من حقّ الرجل أن يستريح في بيت ويستمتع بعد انتهاء عمله ويستلقي ويأخذ جريدته وقهوته، ولكن إن شبّت النار في الدار لا يبقى للمتعة والراحة مجال؛ كلاّ، ولا للطعام ولا للمنام. إن الطعام والماء من الضروريات، ولكن في حالة الخطر نترك الضروريات فكيف بالكماليات؟ إن أهل فلسطين اضطُرّوا إلى الدفاع عن أنفسهم، كل يدافع بسلاحه عن بيته وعن حريمه وعن أولاده، فاحمدوا الله أنتم على أن لكم جيشاً يدافع عنكم ولا يدع العدو يصل إلى أبواب بيوتكم، وادعوا الله أن يجعل هذا الجيش

بأيدي من هو منكم مخلص لكم، لئلا يُضطرّ كل واحد منكم أن يدافع عن بيته بنفسه أو أن يهرب منه تاركاً ماله وأثاثه فيه. لا يريد منكم هذا الجيش إلاّ قليلاً من المال، قليلاً لا يزعجكم ولا يبقيكم دفعه بلا طعام. فإذا شحّت نفوسكم وغلب عليكم حبّ المال -وحبُّ المال فطرة في النفوس- فاذكروا إخوانكم من أهل فلسطين؛ مَن كان أكثر مالاً فخرج على وجهه لا يملك شيئاً. أفليس خيراً لكم أن تُعطوا قليلا ليبقى لكم الكثير، من أن لا تعطوا شيئاً ولا يبقى لكم شيء؟ وانووا عند العطاء رضا الله لا التفاخر ولا التظاهر، ولا رضا الحُكّام ولا ثناء الناس. قولوا: هذا ندفعه يا رب ابتغاء وجهك، فاخلفه علينا واكتبنا به مع المجاهدين بأموالهم في سبيلك. يا أيها السامعون والسامعات من أهل الشام: إن أرواح الشهداء تناديكم من كل بقعة في فلسطين، والدماء تصرخ بكم، وصخرة الأقصى وأمجاد الماضي والعروبة والإسلام والقرآن، كل ذلك يهتف اليوم بكم: {ها أنتُمْ هؤلاءِ تُدْعَونَ لتُنفِقوا في سبيلِ اللهِ، فمنكمْ مَن يَبخَلُ، ومَنْ يبخَلْ فإنّما يبخَلُ عَنْ نفسِهِ، واللهُ الغنيُّ وأنتمُ الفقراءُ، وإن تتولَّوا يَستبدلْ قوماً غيرَكمْ ثم لا يكونوا أمثالَكُم}. * * * وفي يوم السبت 10/ 12/1955 كان الاجتماع الكبير في مدرَّج الجامعة السورية (جامعة دمشق الآن)، فامتلأت مقاعدها والممرات بين المقاعد، واحتشد الناس من حولها، وسُدّت الشوارع المفضية إليها، وكان يوم كأنه يوم المحشر، وحضر

شكري بك والعلماء والوجهاء ورجال الحكومة ولجنة الأسبوع، حتى كأنه لم يبقَ في الشام أحد لم يحضر حفلة الافتتاح. وأخجل أن أقول (وإن كان الذي أقوله حقاً) إن خطبتي كانت هي عماد هذه الحفلة. والخطبة مكتوبة عندي، لا أنقلها كلها إلى هذه الحلقة من الذكريات لأنها طويلة، ولكن أنقل منها ما يتسع لنقله المكان (¬1). قلت: أنا أمتطي صهوات هذه المنابر وأقارع الفرسان في حلبات البيان من ثلاثين سنة إلى الآن، فلم تحرن عليّ هذه الأعواد ولم تتعسّر عليّ الخطب إلاّ هذه العشيّة؛ لا لأن الأحاديث الأربعة التي ألقيتها في التسلّح (وقد نقلت إليكم واحداً منها) قد استنفدَت كل ما لديّ من صور وأفكار، بل لأن سلاح الخطيب الحماسة التي يهزّ بها أوتار القلوب والعاطفة التي يستدرّ بها دموع العيون، وأنا أنزل الليلة إلى الميدان بلا سلاح. والخطيب يُسكِر السامعين بخمرة البلاغة ويجيئهم وقد أذهب السكْر قُواهم فيُدعَون فيلبّون، وأنا أواجه الليلة سامعين صاحين لم تلعب بألبابهم نشوة البيان. وما لي وللخيال؟ ما لي وللشعر وعندي من الحقائق الواقعة ما يُغني عن حيك الأساطير؟ ذهبتُ سنة ستّ وأربعين إلى مصر، وكان الطريق على فلسطين فأقمت فيها عشرة أيام، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين، فلُمتُهم على قعودهم وقيام اليهود، على قعودهم ¬

_ (¬1) الخطبة كلها في كتاب «هُتاف المجد»، وهي بعنوان «في افتتاح أسبوع التسلح» (مجاهد).

وإهمالهم جمعَ المال وشراء السلاح، فقالوا إن الأيدي منقبضة والنفوس شحيحة. قلت: لا، بل أنتم المقصّرون. قالوا: هذا تاجر من أغنى التجار، فهلمّ بنا إليه تنظر ماذا نأخذ منه. وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين، وحوله ولدان له شابّان يتفجّران صحّة ورجولة وجمالاً. وكلّمناه، وحشدتُ له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين وأدلّة المنطق ومثيرات الشعور، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية، ما أحسّت بها فضلاً عن أن ترتجّ منها. وقال: أنا لا أقصّر، أعرف واجبي وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه. قلت: وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود؟ قال: وهل تمثّلني بتجار اليهود؟ قلت: وهل أعطيت مرة مالك كله؟ فشُده وفتح عينيه، وظنّ أن الذي يخاطبه مجنون وقال: مالي كله؟! ولماذا أعطي مالي كله؟ قلت: إن أبا بكر لمّا سُئل التبرّع للتسلّح أعطى ماله كله. قال: ذاك أبو بكر، وهل أنا مثل أبي بكر؟ قلت: عمر أعطى نصف ماله، وعثمان جهّز ألفاً ... فلم يدَعْني أكمل وقال: يا أخي، أولئك صحابة رسول الله، الله يرضى عنهم. أين نحن منهم؟ قلت: ألا ترى أن البلاد في خطر وأننا إذا لم نُعطِ القليل ذهب القليل والكثير؟ قال: يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي. أنا رجل بيّاع شرّاء لا أفهم في السياسة وليس لي بها صلة، وهذا مالي حصّلته بعرق جبيني وكدّ يميني، ما سرقته سرقة، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء؟ قلت: ما نطلب مالك كله ولكن نطلب عُشره.

قال: دفعت ما عليّ، ما قصّرت. وأعرضَ عنا وأقبل على عمله. يا سادة، هذه حادثة أرويها لكم كما وقعَت، ولو كان يجوز لي لعيّنتُ البلد والتاجر، ولولا أني قرأت في جريدة من الجرائد إشارة إلى قصة مثلها ما عرضت لها. ومرّت سبع سنوات، وذهبت من سنتين (أي سنة 1953) إلى المؤتمر الإسلامي في القدس، ومررنا في الطريق بمخيَّم اللاجئين وأقبل الناس يسلّمون علينا، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية محنيّ الظهر غائر الصدغين رثّ الثياب، أحسستُ لمّا التقت العينان كأن قد برقَت عيناه برقة خاطفة وكاد يفتح فمه بالتحية، ثم تماسك وأغضى وارتبك كأنه يريد الفرار. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس. ولبثت أفكّر فيه من هو وأين قابلته، فما لبثت أن ذكرته، وتكشّف لي المنسيّ فجأة كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور. إنه هو، هو يا سادة. وكلّمته فتجاهلني، فلما ألححتُ عليه اعترف. ولم أشمت به، ومعاذ الله أن يراني أنحدر إلى هذه الدرك. ولم أُزعِجه بلوم أو عتاب، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام، لذلك استبقني فقال: لا تقُل شيئاً، هذا هو القدَر، ولو كان لله إرادة لألهمني وألهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك. قلت: أوَلم يبقَ لك شيء؟ فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع وقال: بلى، بقي الكثير؛ بقيَت الصحّة والثقة في الله، وبقي هؤلاء. وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير. قلت: لا تيأس من رحمة الله. قال: الحمد لله أن جعلنا عبرة،

ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا. ونظرت إلى الطفل فسمعت العجوز تقول له: قبّل يد عمّك. فجاء وجسده المحمارّ من البرد يبدو من ثقوب الثوب كزرّ من الورد أخذَت تتفتّح عنه الأكمام. كان بثوب رقيق ممزَّق، وأنا في المعطف الثقيل والعباءة من فوقي وأُحِسّ البرد يقرص عظامي! وأحسست بقلبي يتمزّق كتمزّق هذه الأسمال، ولم يكن معي ما أساعده به إلاّ أن نزعت العباءة فلففته بها، وقلت لنفسي: فليُسعَدِ النطقُ إن لم يسعَدِ الحالُ. ورحت أكلّمه فلم أجد إلاّ أن قلت له: أتحبّ بابا؟ أحسب أن الشيخ أبوه، فقالت العجوز للولد: قول له: بابا في الجنة. قال: بابا في الجنة. أعادها بلهجته كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول، فسكتُّ حائراً ملتاعاً. ثم أردتُ أن أقطع حبل الصمت بأيّ كلام فقلت: فماذا تصنع الآن؟ قال: إنني أوفّر لأشتري السكّين لأذبح اليهود كما ذبحوا بابا. وسكت اللسان ونطقَت العيون؛ لقد بكيت وبكى الحاضرون جميعاً، ومشيت وأنا لا أبصر من الدموع طريقي. * * * وقبل أن أختم هذه الحلقة لأكملها في التي تليها أسارع فأقول إن هذا التاجر لا يمثّل الفلسطينيين، وإنما هو البقعة السوداء في الثوب الأبيض، كان هو الشاذّ بينهم وليس هو القاعدة لهم. وأشهد أن لقد بذل الفلسطينيون (إلاّ قليلاً منهم) من دمائهم ومن أموالهم ما لا يبذل أكثرَ منه قومٌ مثلهم. * * *

إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

المحتويات الحلقة (156) كيف قابلت عبد الحميد السراج بعد الخطبة التي هزّت دمشق ... 5 الحلقة (157) صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام ... 19 الحلقة (158) خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء ... 33 الحلقة (159) تعليق على مقالة وجواب على رسالة ... 43 الحلقة (160) قصّة الوحدة والانفصال ... 57 الحلقة (161) نظرة في أسباب الانفصال ... 73 الحلقة (162) عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت ... 91 الحلقة (163) التفاصيل التي حبكت بها الصحف الناصرية روايتها عن قتلي ... 107 الحلقة (164) عودة إلى رحلة الشرق ... 123 الحلقة (165) إن الشجى يبعث الشجى. لماذا أتحدث عن بنان وأنا أرثي شكري فيصل؟ ... 135 الحلقة (166) على الطريق إلى أندونيسيا ... 151 الحلقة (167) جاكرتا وفندقها الكبير ... 161 الحلقة (168) سويسرا ليست في أورُبّا ... 173 الحلقة (169) جمال يعجز عن تصويره البيان ... 187 الحلقة (170) لوحات حية من حياة أندونيسيا ... 203

الحلقة (171) معركة أدبية كانت نتيجتها دعوى قضائية ... 215 الحلقة (172) أندونيسيا والإسلام ... 233 الحلقة (173) أندونيسيا بين عسف اليابانيين ونكث البريطانيين ... 249 الحلقة (174) بدأت أندونيسيا إسلامية، فمن أين يأتيها البلاء؟ ... 265 الحلقة (175) خواطر وصور عن التربية والمدارس ... 283 الحلقة (176) ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثر رسوخاً رغم مساوئه؟ ... 299 الحلقة (177) من ذكرياتي في التعليم وتربية البنات ... 315 الحلقة (178) ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (1) ... 329 الحلقة (179) ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (2) ... 341 الحلقة (180) أخبار غير قضائية في محكمة دمشق ... 353 الحلقة (181) صور ومشاهد من ساحات القضاء ... 369 الحلقة (182) يوم أغرّ من أيام دمشق ... 383 الحلقة (183) أسبوع التسلّح في الشام ... 399

الجزء السابع

ذكريات علي الطنطاوي الجزء السابع طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

افتتاح أسبوع التسلح في دمشق

-184 - افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق يوم 2/ 4/ 1375هـ مرّ على هذا اليوم ثلاثمئة وخمسة وسبعون شهراً، ولكنه ماثل أمام ناظري أراه الآن كما رأيته يوم كان؛ لا لأن لي ذاكرة قوية لا تنسى، بل لأنه كان يوماً عظيماً لا يُنسى. والذي ميّزه أمران: الأول أنه واحد من الأيام التي ظهر فيها الجوهر الثمين المكنون في صدور هذه الأمّة، أمّة محمد ‘. والثاني: أنه كان في عهد (قصير) من العهود القليلة التي كان فيها الشعب والحكومة يمشيان في طريق واحد إلى غاية واحدة، أو كانا -كما يقولون في هذه الأيام- في خندق واحد. وبيان ذلك أنني (وقد أكملتُ من أيام التاسعة والسبعين من عمري) (¬1) لم أكَد أجد في بلدي إلاّ حكومات لا يراها أهل البلد منه، بل يعدّونها بعيدة عنه عدوّة له، متربّصة به تكيد له، من عهد الاتحاديّين الأتراك: جمال وأنور وطلعت ووزير المالية اليهودي دافيد الذي سمّى نفسه جاويد، وأصولهم من الدونمة من اليهود ¬

_ (¬1) كتبت هذه الحلقة سنة 1406هـ.

الذين أظهروا الإسلام. ثم جاء غورو وخلفاؤه من المفوّضين الفرنسيين الذين حكموا بلادنا وهم غرباء عنا، لا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا ولا نحن منهم ولا هم منا. ثم جاءت عهود بكينا في أكثرها منها، ثم بكينا بعدها عليها لمّا ابتُلينا بما هو أشدّ منها. لم أشعر بأن الحكومة حكومتنا إلاّ في أيام معدودات، منها أيام الشريف فيصلبن الحسين في الشام (وإن كان لي وكان للإسلام في ثورة أبيه الحسين كلام)، ومنها هذا العهد مِن حُكم شكري بك القوتلي، العهد الذي كان فيه أسبوع التسلّح. وأنا هنا أمثّل ولا أستقصي. والثانية: أني كتبت من قديم أقول (ولست أحفظ الألفاظ ولكن أسوق المعاني): إن لكل أمة يوماً تنشط فيه روحها وتظهر فيه شمائلها وتبدو عظمتها، ولكن هذا اليوم يستفرغ طاقتها ويستنفد ذخيرتها، فلا ترى بعده مثله: مقدونيا لمّا قادها الإسكندر المقدوني، القائد العظيم الذي يُخطئ ناسٌ فيحسبونه ذا القرنين الذي شرّفه فذكره القرآن. الإسكندر الذي مشى بجيشه إلى أقصى الشرق فاتحاً، وامتدّ ظلّ رايته على هذا الركن من الدنيا قروناً، ثم لم يُذكَر اسم مقدونيا في تاريخ المعالي والأمجاد بعده كما لم يُذكَر قبله. وكذلك اليونان، ملكت يوماً زمام الفكر البشري ثم فقدته ولم تمسكه مرة أخرى. حتى روما التي أقامت مُلكاً قلّ ما يسامقه من الممالك، لم يعُد لها مثل ذلك الملك ولم يعُد يظهر فيها أولئك القُوّاد العظام: يوليوس وأوغسطوس. وعدوّة روما التي

نازلتها وكانت يوماً قريعتها وأوشكت أن تظفر بها، وما هي إلاّ مستعمَرة فينيقية صغيرة قادها القائد البطل «هاني بعل» فجعلها تنازل روما، هي قرطاجة التي تقع اليوم في أرض تونس، برق لها بارق مجد ثم اختفى. ونابليون وهتلر، ومن قبلهما شارلمان وشارلكان، ومن بعدهما الإمبراطورية النمساوية، وبريطانيا العظمى التي لم تعُد عظمى والتي غابت عنها الشمس وما كانت تغيب من قبلُ عن أملاكها، وما ترون الآن من سلطان الروس والأمريكان ... لكلّ أمّة يوم تنهض فيه، تكون قبله نائمة وترجع بعده إلى المنام، إلاّ أمّة محمد ‘؛ فإن البطولة سجيّة فيها، تجري في عروقها، تخالط روحها، فكلما أدركها ليلٌ وظنّ الناس أنها قد انتهت أرجعها صفاءُ الليل إلى نفسها فحاسبَتها، وسدّت الثلمات في قلعتها، وجدّدَت من عتادها، وأصلحت ما بينها وبين ربها، فطلع عليها بعد الليل فجرُ نهار جديد. وهذا الذي ورد من أن الله يبعث لهذه الأمة كلما طال عليها الأمد وقسَت منها القلوب مَن يجدّد لها دينها، لا يأتيها بدين جديد فإن محمداً ‘ خاتم الرسل ودينه آخر الأديان، ولكن يُزيل عنه ما علق به من البدع والأدران، فيعود جديداً كما يعود الثوب الوسخ إن مسّته يد الغسّال ومشت عليه كف الكوّاء. * * * أعود الآن لأصل ما قطعتُ في الحلقة الماضية، ولن أروي لكم خطبتي كلها بل أنقل فقرات أخرى منها. حدّثتكم حديث

الطفل الذي هَدَته فطرته إلى التفكير في توفير الفلوس القليلة التي تقع في يده ليشتري بها سكّيناً ينتقم به لأبيه (¬1). فهل هدتنا عقولنا إلى شراء السلاح لنثأر به للوطن المسلوب، والعرض المستباح، والدم المُهراق؟ لقد كنت أرانا نتلقّى بوجوهنا ضربات اليهود فلا نملك إلاّ أن نذهب إلى مجلس الأمن، كما يذهب الولد المدلَّل الناعم إلى المعلّم يقول: أستاذ هذا ضربني! ويكون المعلم مشغولاً عنه فيصرفه بحركة من يده ويقول له: اذهب أنا سأؤدبّه، وهوى المعلم مع الضارب لا مع المضروب. نحن العرب، نحن المسلمين، نحن أبناءَ مَن فتح الدنيا، نحن سلائل الأبطال الأماجيد، يكون أقصى جهدنا أن نشكو إلى مجلس الأمن: يا مجلس الأمن أدركنا، إن اليهود اعتدوا علينا؟! ويبحث مجلس الأمن ويناقش، ثم إذا أدرنا ظهورنا وانصرفنا مدّوا ألسنتهم لنا ساخرين بنا. كنت أحني رأسي حياء وأفتّش عن قبر أواري فيه وجهي، ثم أرتدّ حياء من رُفات الجدود أن تطّلع عليّ من جوانب القبر. وكنت أتحرّق وأقول: متى نذكر رجولتنا؟ متى نستعدّ للمعركة الحمراء بالحديد والنار؟ متى نُثبِت للدنيا أننا لا نزال أبناء المعامع وفرسان الحروب؟ متى نقف على أرجلنا ونعتمد بعد الله على أنفسنا، ونعلم أنه لا ينفعنا إلا السلاح؟ ¬

_ (¬1) السكّين لفظة تؤنَّث وتُذكَّر.

لقد كنت أخاف أن أموت قبل أن أرى ذلك اليوم، فالحمد لله لقد رأيته. هذا اليوم السعيد، هذا العيد المجيد، عيد يقظة العرب. اليوم استيقظ العرب حقاً وفارقت عيونَهم آخرُ بقية للنعاس، وإذا استيقظ العرب فقط استيقظ المسلمون. اليوم كتبنا السطر الأول من تاريخ أمجادنا الحديث. اليوم استبشر الكبير والصغير، والغني والفقير، والمالك والأجير، وأجمعت الأمة كلها برجالها ونسائها على تأييد أسبوع التسلّح. إن في المصائب ما هو أكبر من مصيبتنا في فلسطين، وإن كان حديث مصيبتنا في فلسطين أشدّ صحائف تاريخ العدوان البشري سواداً. هل تعرفون ما هو؟ هو أن تجهلوا أقداركم وتحقروا نفوسكم، وألاّ تعرفوا تحت الشمس مكانكم. * * * والخطبة طويلة لا أريد أن أُعيد الآن روايتها، لكن أريد أن أذكر لكم شيئاً من أثرها. لقد كتبتُ عنه مقالة هي الآن أمامي قلت فيها (¬1): أما والله لولا أنني أصف مشاهد لم يمرّ عليها أسبوع، ولا تزال في عيون الناس وأسماعهم، ولا يزال حديثها على ألسنتهم، ولا تزال روعتها في قلوبهم، لحسبوا أني أتخيّل ولقال القائلون ¬

_ (¬1) وهي مقالة «شعب لن يموت» المنشورة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

منهم: نحن نستحبّ صور الخيال ولكن إن بلغَت في الغلو هذا المبلغ صارت من المُحال. ولو رُويَت لي ولم أكن رأيتها بعينَي رأسي لم أصدقها ولو كان راويها أصدق الناس! لقد كنا في حفلة الافتتاح كالمساجين، لا نملك خروجاً من المدرَّج لأن الأبواب كلها قد سدّتها أجساد الناس، والطرق المُفضية إليها قد سدّتها أجساد الناس، كنا محبوسين من رئيس الجمهورية والعلماء والرؤساء والوزراء إلى آخر من كان حاضراً معنا فيها، وامتدّت الحفلة خمس ساعات متتاليات والناس يقاتلون ليدخلوا إليها. كنت أعلم وأنا أخطب في بداية الحفلة أن هذا الشعب سيستجيب وأنه سيلبّي وأنه سيُقبِل على البذل والعطاء، ولكني كنت أقلّب النظر في وجوه الحاضرين فلا أرى من أهل المال إلاّ عشرين أو ثلاثين، فكان أقصى أملي أن يُعطي هؤلاء وحدهم ثم ينتهي الفصل ويُرخى الستار. فلم تكَد تنتهي الخطب ويبدأ العشرة الكبار من رجال المال بالتبرّع، وتُذكر عشرات الآلاف، بل تُذكر مئة الألف أحياناً، ويترقّب الناس أمثال هذه الأرقام الكبار، حتى كانت مفاجأة ما كان يتوقّعها أحد وما استطاع أن ينجو من دهشتها أحد: رجل عامّي يبدو عليه الفقر، يقوم من غمار الناس ليصل إلى لجنة الجمع، فيمنعه الشرطة فلا يمتنع، بل يغامر ويتقدم حتى رآه الرئيس فأشار إليهم أن يتركوه، فتركوه فوصل، فإذا هو يُقسِم أن بنته مريضة في الدار وأنه لا يملك إلا الليرات الخمس التي استقرضها ليشتري بها لبنته الدواء، فلما رأى الاجتماع دخل ومدّ يده به ليتبرّع بها ليوم التسلّح.

ففتح بذلك الباب لهذه المكرمات التي زادت هذا الوطن شرفاً إلى شرفه، ورفعته في عيون أهله وعيون الناس فوق رفعته. وجاء جندي من جنود الدرك (الشرطة) مرتَّبه مئة وخمسون ليرة في الشهر كله، فوقف أمام الرئيس وضرب قدماً بقدم، وسلّم السلام العسكري، ثم قدم مئة ليرة. ويأتي طفل صغير بمطمورته التي يجمع فيها قروشه فيقدّمها كلها متبرّعاً بها! وأنا قاعد على المنصّة أرى هذا كله بعيني، ويتزاحم الناس على منصّة اللجنة ويتدافعون، والرابح من استطاع أن يصل إليها وأن يُعطي ما بيده، كأنه يحمل جمرة يريد أن يُسرِع بالتخلّص منها. وتتوالى مشاهد لم يرَ الناس ولم يسمعوا، ولم يقرؤوا في كتب التاريخ ما يماثلها أو يدانيها. ولا أسجّل هذه المشاهد كلها. وأنّى؟ وليست عشراً ولا عشرين ولكنها بلغت المئات. صدّقوني فإنني أكتب لكم بقلم المُخبِر الصادق لا بقلم الشاعر المبالغ. إنها مشاهد هؤلاء الذين لم يمنعهم المطر المنهمر في تلك الليلة كأفواه القِرَب، ولم تمنعهم الريح الباردة التي كانت تلسع الوجوه بأمثال السياط، من أن يزدحموا على الباب يبتغون الوصول. وقد حسبهم الشرطة قد جاؤوا للتفرّج فجعلوا يدفعونهم، لم يدروا (ولم يكن أحد ليدري) أنهم ما خرجوا من بيوتهم في هذا الليل البارد ولا وقفوا على الباب تحت المطر المنهمر ولا زاحموا إلاّ ليعطوا ويبذلوا. لقد كان هذا الأسبوع امتحاناً لهذا الشعب وسلائقه واستعداده

للتضحية والجهاد، فنجح كما ينجح -لو كان في مكانه- كل شعب عربي مسلم. نجح فقراؤه وأوساطه نجاحاً مُفرَداً ليس له نظير. لقد ضربوا -كما يقول الرياضيون- كل رقم قياسي وسبقوا كل سابق، حتى كان منهم من فعل مثل فعل الصحابة الأوّلين. نجح فقراؤه وأوساطه، أما الأغنياء فقد سقط أكثرهم في هذا الامتحان. وهل يتصوّر إنسان أن يكون في روائع البذل والكرم أعجب مِن صُنع هذا الحمّال العجوز، الذي كدح حياته كلها يحمل الأثقال على ظهره والهموم في قلبه حتى جمع عشرة آلاف ليرة، جمعها في ستّين سنة فجاء يبذلها كلها للتسلّح. صدقوني فإنني أدوّن وقائع لا أضرب في متاهات الخيال. لقد بذل راضياً في لحظة واحدة ثمرة تعب ستّين سنة. وهاتان العجوزان اللتان لا تملكان من الدنيا إلاّ الدار التي تسكنان فيها، فلما سمعتا بالدعوة إلى البذل للتسلّح جاءتا بسند التمليك. بسند التمليك يا ناس! تبرّعتا بالدار التي لا تملكان غيرها. أرجو أن تقفوا قليلاً لتتصوّروا مبلغ هذه التضحية. إنكم تعرفون أن النساء في العادة أكثر إمساكاً وأقبض يداً من الرجال، فإن كُنّ عجائز (والعفو من سيداتي القارئات العجائز) ازداد إمساكهن وحرصهن. وجرّب -إن شئتَ الدليل- أن تُقنع عجوزاً غنية أن تنزل لك عن مئة ليرة. إنك تجد صعوبة في إقناعها وربما عجزت عنه، فكيف جادت هاتان المرأتان بكل شيء؟ أيّ حماسة بالغة دفعَتهما إليه؟ إنه الإيمان يا سادة. إنهما ما بذلتا الدار،

ولابذل الحمّال ثمرة جهد العمر، ولا أعطى كل من أعطى إلاّ ابتغاء ثواب الله. إنها لغة الدين، فإن خاطبتم المسلمين بغيرها لم يفهموا عنكم ولم تصلوا إلى ما تريدون منهم. والعشرات من الفتيات. العشرات؟ بل المئات والله، اللواتي نزعن أساورهن من أيديهن وأقراطَهنّ من آذانهن وجُدْنَ بها. ولقد رأيت بعيني ورأى أعضاء اللجنة بعض هذه المشاهد من الحاضرات في المدرَّج. وأنتم تعلمون أن المرأة قد تقطع الخبز عن فمها لتجعل الذهب في يدها، فكيف جادت به وبذلت راضية؟ إنها جادت به لتأخذه أضعافاً مضاعفة: سبعمئة ضعف، وربما زاد ما أخذت عن السبعمئة: {كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبتَتْ سَبْعَ سَنابلَ، في كلِّ سُنْبُلةٍ مئةُ حبّةٍ، واللهُ يُضاعفُ لِمَنْ يشاءُ}. وهذه الفلسطينية التي جاءت يومئذ لاجئة لم تجد ما تجود به، فحملت قِدرها التي تطبخ بها وثلاثة أثواب لها وثلاثين ليرة لا تملك غيرها، ووضعت ذلك بين أيدي لجنة التبرّع. وليست في ذلك وحدها؛ لقد أعطى كثيرون كل ما يملكون. هذا بائع النفط مرّ «الكشّافون» الذين يجمعون التبرّعات على عربته التي تجرّها دابّته، يبيع منها ليعشّي أهله وأولاده، فسألوه التبرّع، فأخرج درجه وفيه حصيلة يومه كله وصبّه بين أيديهم. لا تحسبوها خيالات شاعر ولا صناعة روائي أديب، إنها والله حقائق رأيت شيئاً منها ورأى المئاتُ سائرَها. أعطاهم كل ما كان في الدرج، كل ما كان يملك في الدنيا من مال. وهل لهذا البيّاع من مال إلاّ ما يجمع في يومه؟

والموسيقيّ الفقير الذي لم يكن يملك من دنياه إلا قيثارته، يناجيها ويسارّها ويُلقي بصدره على صدرها يبثّها شكوى نفسه ويُفرِغ فيها أحزان فؤاده. جاء بها فوضعها على المنصّة (وأنا أرى) ومشى. وأحسستُ -من غير أن أكلّمه- أنه مشى كما يمشي المُحبّ الذي ينصرف من جنازة حبيبته بعدما واراها التراب! وبطل الدرّاجات الذي جاء بدرّاجته وهي له كالآلة للموسيقيّ، هي خليلته ونجيّته وشقيقة روحه، فتنازل عنها لأسبوع التسلّح. وهذا المثل الرائع -في إنكار النفس والإخلاص لله وابتغاء ثوابه وحده- مَثَل ضربه تاجرٌ من دمشق، تبرّع بخمسين ألف ليرة وحلّف اللجنة الأَيْمان الغِلاظ ألاّ تبوح باسمه (فما باحت باسمه، وإن كنتُ عرفته من ذلك اليوم وامتثلت لرغبته فلم أذكره لأحد، أمّا الآن وقد مضى على الحادثة ثلاثون سنة يجوز فيها إعلان الأسرار وكشف المخبّآت -كما تصنع الآن بريطانيا بوثائقها- الآن أستطيع أن أبوح باسمه رحمة الله عليه؛ إنه الحاجّ مسلم دياب). تصوّروا هذا الرجل يسمع الثناء على هذا المتبرّع المجهول فيملك نفسه، لا تحرّكه الأثرة حتى يقول: أنا ذلك المجهول. ويجد آخرين ينتحلون هذه المزيّة لأنفسهم أو لأصحابهم فيُعلنون أن هذا المجهول هو فلان أو فلان، لناس ما دفعوا شيئاً، وهو الذي دفع خمسين ألفاً (كانت في تلك الأيام أكثر من خمسة ملايين في أيامنا)، كان يسمع ويسكت ولا يقول شيئاً، ويلقى من يلومه على أنه لم يُعطِ عطاء الكرام فلا يقول لهم: لقد أعطيت وأنا صاحب تلكم الخمسين. (رحمة الله عليك يا أيها الحاجّ مسلم دياب، وما أكثر في

عامّة هذه الأمة من لا يعرفه أحد من أمثالك وأشباهك). ماذا أصف وماذا أعدّد، وهذه المواقف قد جلّت عن الحصر؟ هذا مشهد ما أظنّ أن في المشاهد ما هو أروع منه: رجل ضرير شحّاد جاء هو وابنه الطفل المشلول يتلمّس طريقه، يُرشِده هذا الولد المسكين الذي كان يجمع نفسه ثم يقفز على ساقَين نحيلتين مقوَّستين تحسبهما عَصَوَين (مثنّى عصا)، حتى إذا بلغ المنصّة وضع عليها سبع ليرات. سبع ليرات فقط، ولكنها أعظم بسبع مرات، بسبعين مرة، من كل ما دفع الأغنياء وما أعطت المصارف والشركات. سبع ليرات هي طعامه ولباسه ودواؤه، هي حياته وحياة ولده جاد بها. لقد كانت جماهير الناس كلما شاهدت واحدة من هذه الروائع صفّقَت وهتفت حتى تحمرّ الأكُفّ من التصفيق وتُبَحّ الأصوات من الهتاف، ولكنها صمتت حيال هذا المشهد. صمتت حتى ليُسمَع في المكان الرحيب وَجيبُ القلوب، صمتت لأن الصمت هنا أدلّ على الإعجاب من كل هتاف. وهذه أرملة لم يبقَ لها من زوجها الضابط في الجيش العثماني إلاّ سيفه العسكريّ، فلما كان أسبوع التسلّح جاءت به، فقطعت آخر ذكرى تربطها بمواضي أيامها، بعهد العزّ والغنى إذ الشمل مجتمع والدهر بسّام والعيش رغيد، وولّت مُدبرة تستقبل وحدها ليالي الفقر السوداء. وهؤلاء المرضى الذين جاؤوا من أسرّتهم في مستشفى

الجامعة إلى القاعة القريبة التي فيها الاجتماع وفيها منصة التبرّع، يحملون ما وصلت إليه أيديهم من مال أو متاع، لم تشغلهم أوجاعهم عن تلبية داعي الله لمّا دعاهم إلى الجهاد بالمال. ومرضى مستشفى ابن النفيس (مستشفى السلّ) الذين تبرّعوا بثمن البيض مدة أسبوع التسلّح، ولم يستطع الطبيب أن يُقنِعهم بالاكتفاء بيوم واحد إلاّ بجفاف الريق وشقّ النفس. وأنتم تعرفون أن البيض هو حياة أولئك المسلولين شفاهم الله، هو حياتهم وقد جادوا بها. لا، لا أستطيع أن أعلّق على هذا الخبر. إني قد عجزت، وأنا مُقِرّ بعجزي، ولن أدّعي بعد اليوم أنني من فرسان الكلام وأنني من أرباب الأقلام. لقد تكوّمَت على المنصة أكوام من ساعات اليد ومن الأقلام ومن الأساور، ولقد قُدّمت مئات من آلات التصوير والرّوَادّ (جمع رادّ أي راديو) والدرّاجات والمسدسات والأحذية وأنواع الثياب وكل ما في البيوت من غالٍ ورخيص حتى ملأت كل فراغ على المنصّة وحولها. لقد خلع كثيرون من الشباب أرديتهم لأنهم لم يجدوا ما يُعطونه غيرها وخرجوا يستقبلون برد الليل. وكان شيء لا يوصف، وإن وُصف لا يكاد يُصدَّق. ومن أعجب ما رأينا في هذا الأسبوع (وكل ما رأينا عجب) ما صنع السجناء. نزلاء السجون لم تحُلْ الأسوار ولا الأبواب بينهم وبين المشاركة في هذا الواجب، ولم تدفعهم كراهة الجند الذين يسدّون عليهم منافذ الحرية من أن يُعطوا ما عندهم لمساعدة الجند على التسلّح. وماذا ترونهم أعطوا؟ أعطوا -والله- لُحُفهَم

وأرديتهم لأنهم لا يملكون غيرها وناموا على أرض السجن بلا غطاء. اللهمّ إن هذا شيء يكبر عن التعليق. وما هم وحدهم، لقد قُدّمت مئات من الفُرُش واللحُف ومن ثياب العرس ومن خواتم الزواج. وطالت حفلة الافتتاح ساعات، وكان المذياع يحمل إلى البيوت كل ما كان فيها من أصوات، وسرَت الحماسة من هذا البهو إلى أطراف دمشق كلها، فجفا الرجالُ والنساء والأطفال بيوتَهم في هذه الليلة الشاتية العاصفة وتسابقوا إلى منصة التبرّع، وسرت إلى البلاد البعيدة، فتعاقبَت الهواتف من مَرْجِعْيون ومن حلب تُؤذِن بتبرّع مَن فيها. وأنا أحلف أن لو كان يُوزَّع عند هذه المنصّة المال يُعطى جزافاً لما كان الناسُ أسرعَ إليها وأزحمَ عليها ممّا كان في تلك الليلة. وكان يُسمع من المذياع صوت أعضاء اللجنة يرجون الناس أن ينتظروا دورهم ولا يتزاحموا فلا يستجيب أحد ولا ينتظر، فلما طالت صاح عريف الحفلة يرجو راحة خمس دقائق، خمس دقائق فقط ليستريح فيها أعضاء اللجنة من تعب الأخذ، لا ليستريح الناس من تعب البذل فما تعب من البذل أحد. ورُفض الرجاء وتتابعت التبرّعات، فهل سمع أحد بمثل هذا؟ أنا أعرَف الناس بطيب عنصر هذا الشعب، وأنا الذي يكتب من أكثر من ربع قرن (المقالة مكتوبة سنة 1955) أمجّد سلائقه ومزاياه، وأنا الذي جعل هذا موضوع خطبته في حفلة افتتاح الأسبوع، ومع ذلك دُهشتُ. دُهشت واللهِ ممّا رأيت. فكيف كان

هذا كله؟ كيف اندفع الناس إليه وما كانت الدعاية لهذا الأسبوع كافية؟ لا والله ولا كان ترهيب ولا إكراه، ولو كان إكراه لكان على الأغنياء الذين قصّروا، وقصّروا، وقصّروا ... أعيدها ثلاثاً للتوكيد. ما كان هذا بفعل بشر ولكنه بدافع إلهيّ. وأعجب الحوادث كلها (وما أدري أيها أعجب) أن غنياً معروفاً ضنّ إلاّ بالقليل، فقدم ثلاثة آلاف وهو يقدر أن يدفع ثلاثة ملايين، فقام موظف صغير من بين الناس فذهب إلى اللجنة وقال: إن مرتّبي في الشهر مئتان وخمسون ليرة فقط، وهاكم تنازلاً عنه لمدّة سنة، أتنازل عن ثلاثة آلاف هي موردي في العام كله أصبر عنها أنا وأهلي ولو عشنا على الخبز القفار، بشرط أن تردّوا على هذا الغني آلافه الثلاثة وأن ترموا بها في وجهه! * * * بيدي الآن قطعة من جريدة قد اصفرّت من القِدَم، أحسبها جريدة «الأيام»، على وجهها قطعة من خطبتي وعلى قفاها بيان من لجنة الأسبوع (وأظن أنه كان من أعضائها الصديق الأستاذ نصوح بابيل) فيه أن حصيلة حفلة الافتتاح مليون وسبعمئة ألف وستمئة وثلاثون ليرة، عدا الحليّ والساعات وأسناد التمليك ومختلف المتاع. يا سقى الله الشام وتلك الأيام! * * *

من أخبار العلم والعلماء في دمشق قبل نصف قرن

-185 - من أخبار العلم والعلماء في دمشق قبل نصف قرن أنا أغبط (ولا أحسد، فما الحسد من شأني)، أغبط الذين يرجعون في ذكرياتهم إلى مذكّرات مكتوبة (كما يفعل الأستاذ أكرم زعيتر، ويشير إلى ذلك في بعض مقالاته) أو إلى صحف مطبوعة (كما يفعل الأستاذ نصوح بابيل، إذ يرجع إلى جريدته ومجموعتها تحت يده)، وأتمنى لو كنت مثلهم ولم أُضطرّ إلى الاعتماد على الذاكرة وحدها. ولو رجعتُ إليها أيام قوّتها وحِدّتها لأسعفتني وما خذلتني، ولكن جئتها بعدما شابت وشاخت وكلّت وعجزت، كما كَلّ صاحبُها وعجز: جاءَ الزّمانَ بنوهُ في شَبيبتِهِ ... فَسَرَّهُمْ وأتيناهُ على الكِبَرِ من أجل هذا أفرح إن وجدت بطاقة أو كتاباً رسمياً أو قيداً لحادثة يفتح عليّ باباً للذكريات التي أُغلقت في وجهي أبوابُها وانقطعت في يدي أسبابها، وليس حولي مَن يُعينني عليها ويذكّرني بها. وقد وجدت اليوم كتابين كنت ربطتهما معاً، أنقلهما بما فيهما من عبارات، لا تؤاخذوني إن كان فيها ما يُشبِه المدح لي.

الأول: "دار العلوم في بغداد رقم 488، حضرة الأستاذ علي الطنطاوي مدرس تاريخ الأدب في دار العلوم. يُرجى تشريفكم دار العلوم مساء الأحد 31 كانون الثاني سنة 1937 (20 ذي القعدة سنة 1355هـ) في الساعة الرابعة والنصف زوالي، لحضور مجلس المدرسين الذي سينعقد للنظر في لائحة النظام. الإمضاء: فهمي المدرس، مدير دار العلوم". والكتاب مكتوب بخطّ الأستاذ الكبير فهمي المدرس رحمه الله، وهو خطّ رقعيّ جميل. وكان يكتب رسائله كلها بخطه لا يُحيلها على الطابعة لتطبعها. والكتاب الثاني: "الكلية الشرعية الإسلامية بدمشق، رقم 37/ 8، لفضيلة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي. قرّرَت عمدة الكلية الشرعية إسناد درس الثقافة للصفّين الخامس والسادس لعهدتكم، فأرجو تشريفكم للكلية الشرعية يوم السبت الآتي الواقع 1 ربيع الثاني سنة 1363هـ (25 آذار سنة 1944م) للمذاكرة مع حضرتكم لتعيين الوقت، ودمتم باحترام. الإمضاء: مدير الكلية الشرعية محمد حسن الشطي". ولست أتكلم عن الكتاب الأول فقد سبق ذكره عندما سردتُ ذكرياتي في بغداد، لكنني أقف عند الكتاب الثاني الذي أجعله مدخلاً إلى حلقة اليوم. لقد فتح عليّ باباً لا أستطيع أن أدخله حتى أجوز دهليزاً طويلاً جداً، فسيروا معي فيه، ولا تقولوا خرجتَ عن الموضوع فكلها ذكريات، وفي كل ذكرى صورة من الماضي، وفي بعضها صفحة لم تُكتَب من التاريخ. * * *

كنا وأنا صغير نسكن في دار ما فيها إلاّ غرفتان علويتان تحتهما مجلس، وساحة صغيرة ليست كصحون الدور الكبيرة التي يغطّي أرضَها المرمرُ ويزيّن جدرانَها الرخامُ تعرش عليه الدوالي وأغصان الياسمين في وسطه البِركة يفور ماؤها ... لم يكن في دارنا شيء من ذلك، بل كانت داراً صغيرة من دور الفقراء هي من أوقاف جامع التوبة. سكنّاها ثلاثين سنة، وسكنها بعدنا لمّا انتقلنا منها الشيخ الكافي التونسي ثلاثين أخرى. كنت كلما نزلت صباحاً من الغرفة وجدت في مجلس أبي جماعة من المشايخ يحفّون به في أيديهم الكتب؛ يشرح هو ويستمعون هم. أذكر منهم الشيخ الفقيه الحنفي والقارئ المجوّد الشيخ عبد الوهاب الملقّب «دبس وزيت»، والشيخ الفقيه عبد الرزاق الحَفّار، وأخاه الأكبر الشيخ محمود الحفار، والشيخ محمود العَقّاد، والشيخ الداعية هاشم الخطيب، وأخاه الشيخ عبد الرحمن خطيب جامع بني أميّة، وإخواناً لهم ذهبوا كلهم إلى رحمة الله ولم يبقَ منهم إلاّ رجل في المدينة المنورة هتف بي من قريب ولم يُكتب لي لقاؤه، هو الشيخ عبد الحكيم عثمان، وأحسب أنه صاحب فندق في المدينة المنورة. أقول إنني كلما صحوت وجدتهم، فأبكّر فأجدهم مهما بكرتُ حاضرين، لا أدري متى يجتمعون. فكنت أقول لنفسي: لعلّهم ينامون عندنا، يأتون بعد أن آوي إلى الفراش ويُمضون الليل كله، فإذا صحوت وجدتهم مجتمعين. كانوا يقرؤون عليه هذا الدرس في الصباح، ثم يذهب طائفة منهم معه إلى جامع التوبة ويأتي آخرون ينضمّون إليهم، فيكون لهم درس آخر. ولست أحقّق الآن موضوع ذلك الدرس

لأنني كنت أذهب إلى مدرستي فلا أحضره. وكان له درس آخر في جامع التوبة بين العشاءين يبدأ بعد صلاة المغرب وينتهي قبل صلاة العشاء. ولم يكن ذلك شأن أبي وحده، فلقد عرفتُ -بعدُ- أن جملة من العلماء كانت لهم في منازلهم وفي مساجدهم مثل هذه الدروس. كانت مدارس، لكن ليس لمدرسيها رواتب يقبضونها ولا على طلابها أجور يدفعونها. منهم جارنا الشيخ أبو الخير الميداني، وهو شيخي ورفيق أبي في الطلب وزميله في القراءة على الشيخ سليم المسوتي (الألباني). وعندي للشيخ أبي الخير الميداني ولبعض مَن سأذكر في هذه الحلقة ذكريات تملأ حلقة أو حلقتين عن كل واحد منهم، ومنهم مَن أستطيع أن أُملي في سيرته وفي أخباره مما هو عالق بذهني ومرويّ عن الثقات الصادقين ما يملأ أربع صفحات إلى أربعين، ولعلّي -إن قدّر الله- أعود إليها فأكتبها أو أكتب بعضها. ولمّا مات أبي ونزلنا من الصالحية على سفح قاسيون وعدنا إلى حارتنا هذه الأولى، قرأت على الشيخ الميداني الكتب التي كانوا يقرؤونها في النحو، وهي شرح الشيخ خالد الأزهري، والقَطْر، والشُّذور، وشرح ابن عقيل. أمضينا فيها سنوات طوالاً، وكانت للشيخ أبي الخير الميداني طريقة في تدريس النحو يُفهم بها الغبي ويُنطق العيِيّ، أحسب أني أشرتُ إليها. ومن عيوبي في هذه الذكريات أنني أكتب الحلقة وليس أمامي صورة مما كتبت قبلها، لأن أوراقي مشوّشة مختلطة، فإن قمت أفتّش فيها حتى أصل سلسلة الكلام انقطعَت -كما يقولون-

سلسلة الأفكار ونضب مني مَعين القول، ونسيت ما أعددت في ذهني. حتى إن القلم لينكسر في يدي (وأنا في العادة أكتب بقلم الرصاص) فإذا ذهبت أبريه أو أطلب قلماً غيره طار ما كان في رأسي! وممن كانت لهم دروس من جيراننا (وما كان أكثر العلماء والمدرسين في حارتنا!) الشيخ محمود ياسين رحمه الله ورحمهم جميعاً، وفي الطبعة التي ستصدرها قريباً دار المنارة في جدة من كتابي «رجال من التاريخ» كلام عنه. ومنهم شيخنا مفتي الشام وأستاذنا في كلية الحقوق، الطبيب المتخرج في كلية الطبّ، حمل شهادتها وتعلّم الفرنسية من أجلها على كبر، وهو شيخنا الشيخ أبو اليسر عابدين، الذي كان أبوه من قبله الشيخ أبو الخير عابدين مفتي الشام، وكان أبي أمينَ الفتوى (أو من أمناء الفتوى) عنده، وهو الذي أشرف على طبع «رسائل ابن عابدين»، وأحسب أنه كان عمَّ أبيه. ولقد ظهر في هذه القرون الثلاثة علماء لا يُحصيهم العدّ، ألّفوا مؤلّفات لا يُحيط بها الحصر، ولم يكن في هؤلاء جميعاً -على أغلب الظنّ- من هو أوثق في الفقه وأنفذ فيه فكراً من ابن عابدين، الذي كتب الله لمؤلّفاته أن تكون أكثر الكتب ذيوعاً وأعمّها نفعاً، وأن تكون حاشيته المشهورة عمدةَ المُفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، لا يضارعها في تحقيق مسائلها وفي إقبال الناس عليها كتابٌ من كتب الفقهاء المتأخرين في المذهب الحنفي، على بعض العُجمة في أسلوبها وبُعده عن الأسلوب العربي النيّر الذي تجدون مثاله في كتاب «المبسوط»

للسَّرَخْسِيّ الحنفي أو في كتاب «الأم» للإمام الشافعي. كان الشيخ أبو اليسر فقيهاً حنفياً متمكناً وكان نموذجاً كاملاً لعلماء القرن الماضي. وإن قلت «علماء القرن الماضي» عنيت أنهم في الغالب علماء رواية، يعرفون ما في الكتب فإن سألتَهم عن مسألة فيها دلّوك عليها لأنهم قتلوها بحثاً، وقد سمعتُ منه أنه قرأ الحاشية وأقرأها أكثر من ثلاثين مرة. والحاشية في خمس مجلّدات كبيرة (جمع مجلّدة). ووجدت مصداق ذلك لمّا كنت مستشاراً في محكمة النقض في سوريا ثم محكمة القاهرة أيام الوحدة؛ كنا في الجلسات التي تعقدها المحكمة في دمشق تعرض لنا مسألة فقهية، فأستأذن الرئيس بأن أهتف بالشيخ أبياليسر، وكان مفتي الشام، فإذا سألته عنها أجابني فوراً ودلّني على المرجع، أو استمهل مدة لم تكن تزيد أبداً عن ربع ساعة ودلّنا على الكتاب الذي نجدها فيه. فكان الرئيس والمستشارون يُدهَشون من ذلك ويُكبِرونه. وكان للشيخ أبي اليسر مكتبة من نوادر المكتبات الخاصّة في الشام، فيها نُسَخ مُفرَدة لا ثاني لها من المخطوطات، منها ما استخرجه صديقنا بل أستاذنا الأستاذ عزّ الدين التنوخي من كتب في اللغة لأبي الطيّب اللغوي، نشرها -على ما أظن- المجمع العلمي في دمشق. وكانت للشيخ أبي اليسر دروس لا تقلّ عن الأربعة أو الخمسة كل يوم: دروس في الصباح قبل الشمس في جامع الورد في سوق صاروجا، ودروس بين العشاءين، ودروس في الليل.

وكان كثير التأليف؛ طبع له ولده (وهو عالِم فاضل، وهو الآن مدير دائرة الإفتاء في الشام) كتاباً واحداً منها هو «أغاليط المؤرّخين». وعلى رأس من يُلقي هذه الدروس، ومن كان مجلسه مدرسة دائمة، شيخ دار الحديث وشيخ علماء الشام الشيخ بدر الدين الحسني. وعلى هذه الطريقة شيخُنا الشيخ محمد بهجة البيطار، الذي لم يكن يردّ سائلاً إذا سأله من ماله أو سأله من علمه. وكان يُلقي كل يوم دروساً في جامع الدقّاق، وهو المسجد الجامع لحيّ المَيدان، أحد الأحياء الكبيرة في الشام، وفي المسجد الصغير الذي يواجه داره. وقد سار في ذلك على طريقة شيخه عالِم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي. ومن فقهاء الحنفية الذين كانوا يُلقون أمثال هذه الدروس الشيخ نجيب كيوان، وكثيرون لست أستطيع الآن أن أجمع ذهني لإحصائهم. ومن فقهاء الشافعية الذين كانوا يُقرئون التلاميذ ويُلقون الدروس الشيخ الجوبري، الذي كان يُعَدّ في عصره أفقه شافعي في الشام. ثم الشيخ العالِم العامل الواعي الشيخ صالح العقّاد، وهو عارف بأحوال الناس مطّلع على المعاملات المالية الجديدة كاطّلاع الشيخ عارف الجويجاتي، لأنه كان من التجار، وكان من الذين استغنوا عن رواتب الدولة. وأعرف من هؤلاء جماعة أمثّل لهم بالشيخ عبد الحميد القنواتي قبل أن يترك التجارة ويتفرّغ للتدريس بالكلية الشرعية، والشيخ موسى الطويل، والشيخ أحمد القَشْلان، والشيخ شريف النّص، الذي كانت له مكتبة خاصّة تُعَدّ من أكبر المكتبات في

دمشق أودت بها نيران الفرنسيين لمّا ضربوا الشام أيام الثورة السورية. وقد سمعت أنه جدّد -رحمه الله- أكثرها. وولده شاعر سطع نجمه حيناً ثم انقطع عني خبره، وولده الأكبر من صدور التجار ومن طلبة العلم. ومن فقهاء الشافعية الذين كانت لهم دروس منظَّمة ثم تحوّلت إلى مدرسة أنشأها هو، الشيخ حسن حَبَنّكة. وكان له تلاميذ عُني بأوائلهم أكثر العناية وعكف معهم على الجِدّ الذي ما بعده في العلم جدّ، فنبغ منهم جماعة أمثّل لهم ولا أعدّهم، منهم ولده الشيخ عبد الرحمن، والشيخ الدكتور مصطفى الخن، والشيخ القارئ الجامع حسين خطاب، ومن أنبغ مَن قرأ عليه الدكتور سعيد رمضان البوطي. وممن كان لهم في الصحوة الإسلامية وفي النشاط العلمي في الشام أعظم الأثر الشيخ عبد الكريم الرّفاعي. وهو رجل مخلص متواضع منكر لذاته عامل لله، وهو الذي بدأ بما دُعي اليوم «إحياء رسالة المسجد». وأظنّ أني قد عرضتُ لخبره في بعض أحاديثي في الإذاعة أو في الرائي؛ ذلك أنه رأى يوماً واحداً من طلاّبه يُعين اثنين من تلامذة المدارس على استذكار دروسهما، فسُرّ به وأعجبه صنيعه وسأله: هل ترضى أن تُلقي مثل هذا الدرس على عدد أكبر من التلاميذ ابتغاء ثواب الله، بلا أجرة تأخذها مني ولا منهم؟ قال: نعم. قال له: فاجتهد أن تجعل موعد الصلاة منتصف الدرس، حتى إذا أذّن المؤذّن قمت أنت إلى الصلاة، فمَن كان منهم مواظباً عليها استعدّ لها وقام معك إليها، ومَن لم يقُم فلا تقُل له شيئاً، ولا تُجبِره على الصلاة إجباراً ربما فتح

للشيطان سبيلاً إليه فنفّره منها. فإذا قمتم أنتم وبقي قاعداً ورأى الناس ينظرون إليه استحيا منهم ومن الله فصلّى. وسأل طلاّبه (وكان كثير منهم من المدرّسين في المدارس المتوسطة والثانوية) هل يقبلون أن يُلقوا دروساً خاصّة مجّانية، والطلاب دائماً يرغبون فيها ومنهم من يعجز عن دفع أجرتها، فقالوا: نعم. فصار في المسجد مدرسة تُلقى فيه العلوم التي تُدرَّس في المتوسطات والثانويات، من بعد صلاة العصر إلى المغرب. وكان من ذلك أن أقبلوا كلهم على صلاة الجماعة، وأطالوا البقاء في المسجد فحضروا بعض الحلقات التي تُقام فيه، فتعلّموا علوم الدنيا وعلوم الدين ونشؤوا جميعاً من الصالحين المصلحين. وممن كان له عمل في تعليم الدين ثم أنشأ مدرسة لها منهج وفيها طلاّب الشيخُ صالح فَرْفور، وقد مرّ ذكره لمّا وكّلتُه عني وأنا معلم في مدرسة سَقْبا الأولية في الغوطة وذهبتُ لأداء امتحان كلية الحقوق، ولمّا مرضت وأنا مدرس في الكلية الشرعية في بيروت فناب عني فيها. وهو رجل عصامي كان على طريقة علماء السلف، يعمل بالنجارة ويتكسّب منها ولا يمدّ يده إلى رواتب الدولة ولا عينه إلى أموال الأغنياء. ولو راجعتم كتاب «صناعات الأشراف» لوجدتم له أمثالاً كُثراً كانوا مصابيح هداية لسالكي هذا الطريق الذي أتمنى أن يكثر سالكوه، فيستغنوا بكسب أيديهم من صناعاتهم أو تجاراتهم عن خزانة الدولة وعن أموال الأغنياء. ولولا حاجة العلماء لهذه الأموال ما زال ناس منهم عن أماكنهم ولا نزلوا عن منازلهم.

وقد نبغ من تلاميذه جماعة منهم الشيخ عبد الرزاق الحلبي، والشيخ رمزي البزم الذي كان عندنا في المدرسة الأمينية الابتدائية تلميذاً ما كنا نرجو منه خيراً فكتب الله له الخير، وأرجو أن يكتبه الله لولده عبد اللطيف فيمشي على هذا الطريق السويّ، فيعتني بالجوهر قبل المظهر ولا يتسرّع بنيل المشيخة قبل أوانها. والشيخ عبد الكريم الرفاعي والشيخ حسن حبنكة وغيرهم كلّهم مِن غَرْس يد الشيخ علي الدقر، وكلهم من تلاميذه. ومنهم الفقيه الشافعي الشيخ البصروي والمؤرّخ الشيخ نايف. والشيخ علي من تلاميذ الشيخ بدر الدين شيخ علماء الشام رحمهم الله جميعاً. أمّا فقه الحنابلة فمن تبع سِيَر علمائه وجد أن أربعة أخماسهم من ديار الشام، هم الذين نشروا المذهب وهم الذين وطّدوا أركانه وهم الذين ألّفوا كتبه، وعلى رأسهم آل قُدامة، ومنهم الشيخ الموفَّق صاحب «المغني». انتهى فقه الحنابلة على أيامي إلى المشايخ من آل الشَّطّي، فكان أجلّهم الشيخ حسن الشطي، وهو الذي فتحتُ هذه الحلقة بكتابه إليّ لمّا كان مدير الكلية الشرعية في دمشق. وكان قبل ذلك قاضياً في النّبْك، ثم صار قاضياً لدوما، ثم صار قاضي الشام. وقد قلت لكم من قبل أن الله شرّفني بأن جعلني خلفاً له في هذه المحاكم الثلاث. ومنهم مفتي الحنابلة العالِم المخلص الجريء الأديب الشيخ جميل الشطي. أما المذهب المالكي فكان فقهاؤه في الشام قلّة، وكان أوثقهم وأكثرهم عليه اطّلاعاً هو الشيخ الكافي التونسي، وإن

كان يستعمل ذاكرته في نقل النص ولا يعمل عقله في الاستنباط منه، رحمه الله. والأستاذ عبد الغني الباجِقْني، وكان مدير مدرسة ابتدائية ولكنه عالِم أديب لم أعرف إلاّ قلة من الناس -على كثرة مَن عرفت في البلدان التي مشيت إليها- يقاربونه في بيانه وفي فصاحة لسانه وفي سعة اطّلاعه وفي سرعة استحضاره. وهو ثاني إخوة سبعة كلهم كان معلّماً عاملاً، أبوهم من طرابلس الغرب، ليبيا (أو هي كما كانوا يدعونها «لوبيا»)، وكانت له حلقة درس في جامع الشيخ مُحيي الدين، كنت أحضرها أحياناً فأجد فيها فائدة ولكن لا أجد شيئاً جديداً. وكان من العلماء من انقطع للقرآن قراءة وإقراء وكان مجلسه مدرسة للقرآن، على رأسهم الشيخ محمد الحلواني شيخ القرّاء. ولقد سمعت في الشام وفي مصر وفي الحجاز وفي البلاد التي مشيت إليها قرّاء للقرآن لا يُحصَون، فلم أكَد أجد فيهم من هو أصحّ مخارج للحروف وأضبط أداء وأعرَفَ بالأحكام من الشيخ الحلواني هذا. وكان له أولاد كلهم نشأ قارئاً مجوّداً، حتى إن منهم طبيباً كانت له عيادة ناجحة وكان يقرأ القرآن ويُقرئه. وما أجمل أن يجمع العالِم بين الطب والقراءة أو بين المنصب وبين التجويد. وقد عرفتُ هنا الشيخ حسن الشاعر، شيخ القرّاء في الحجاز، الذي أخذ عنه واقتبس منه أكثر مَن يقرؤون، وقد بلغني (ولست أدري ما مدى صحّة الخبر) أن ولده، وزير الإعلام، قارئ مجوّد تلقّى القراءة عن أبيه فأحسن التلقّي، وهذا مما يفتخر به ويحمد الله عليه.

والشيخ الحلواني جمع القراءات على طريقة الشاطبية. كما جمعها الشيخ عبد الله المنجّد (والد صديقنا الأديب المؤلّف الدكتور صلاح الدين) على طريقة الطيّبة، وخلفه فيها تلميذه الشيخ عبده العربيلي. * * * هذا والله العمل، وهذا هو أساس بناء الأمة المسلمة؛ إنه البذرة التي تُلقى في الأرض الخصبة. والبذرةُ لا يبدو غصنها ولا يظهر ولا تُخرِج ورقها ولا تؤتي ثمرها من أول يوم، ولكن لا بد منها. فإذا أردتم أن تروا أمة مسلمة تنحو منحى الأجداد وتسلك سبيل المسلمين الأولين الأمجاد فعليكم بالصغار. لقّنوهم من صغرهم الإسلام، بلا ضجّة ولا إعلان ولا طبل ولا زمر. اهدوا الواحد والاثنين بلا خطب ولا دعاية، فلأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من كل ما في الدنيا. الواحد يجرّ الواحد فيصيران اثنين، والاثنان يأتيان باثنين. أليس هذا هو الطريق الذي سلكه رسول الله عليه الصلاة والسلام لنشر الإسلام؟ فقد دعا إلى ما يشبه المحاضرة مرة واحدة يوم جمعهم عند الصفا، فردّ عليه أبو لهب بتلك الكلمة الفاجرة، فقمعه الله بسورة لا نزال نتلوها في صلاتنا ندعو بها عليه إلى يوم القيامة: {تبَّتْ يدا أبي لهبٍ وتَبَّ}. من الواحد والاثنين ينتشر الدين ويسود الخير. إن الذين يدعون إلى الله بلا ضجّة ولا إعلان هم المجاهدون، هم الجنود المجهولون، هم الذين بنوا هذا الصرح العلمي الذي ردّ عنا

أمداً طويلاً هجمة الإلحاد والفساد. لقد كانوا يعملون وحدهم لا يريدون أن يراهم الناس ليهتفوا لهم، بل أن يراهم الله فيثيبهم ويُدخلهم الجنّة عرّفها لهم. إنهم لم يكونوا يعرفون الأساليب التي جدّت في الدراسة ليتبعوها ولا الغزوات الفكرية الأجنبية ليردّوها، ولكنهم عملوا كل ما قدروا عليه. إن العلوم التي أخذناها منهم كانت عدّة لنا، لنا نحن الذين عرفوا هذه الأساليب فطبقناها عليها وهذه الغزوات فاستعملناها في ردّها. كانوا يعملون لله، فجزاهم الله في الدنيا رفعة ومجداً وجعل الناس يُقبِلون عليهم ويرجعون في أمورهم إليهم. إن الأمة الخاملة صفّ من الأصفار. ما قيمة صفّ من الأصفار؟ ولكن إنْ بعث الله لها «واحداً» مؤمناً صادق الإيمان داعياً إلى الله خبيراً بأساليب هذه الدعوة، صار صفّ الأصفار مع الواحد مئة مليون، والتاريخ مليء بالشواهد على ما أقول. لقد كان العاملون بالعلم من العلماء كثيرين، ولكنهم كانوا مختلفين لا يكادون يتّحدون. وحين عاد الشيخ كامل القصاب من منفاه سنة 1937 (لمّا صدر العفو العامّ عنه وعن إخوانه) جمع العلماء ودعاهم إلى نبذ الاختلاف، فمشت معه الجمعيات الإسلامية والدعاة والمشايخ، ولكن شذّت عنه «الجمعية الغرّاء» وكان بينهم الخلاف. هل تعرفون ما سبب هذا الخلاف؟ الشجرة يظهر ساقها وتبدو فروعها، ولكنها تُخفي في الأرض مثلَها جذوراً ممتدّة لولاها لما قام الساق ولا امتدّت الفروع. كذلك نجد للأحداث

أسباباً بادية لعلّها تكون أحياناً تافهة، وأسباباً حقيقية خفية لولاها لما كان هذا الحدث. السبب الظاهر في الخلاف قضية تافهة لا تقدّم ولا تؤخر، تلك قضية الإطعامية في التكيّة السُّليمانية. والتكية السليمانية (التي تُعَدّ اليوم من أجمل الآثار في دمشق) بناها السلطان سليمان القانوني على أنقاض القصر الأبلق الذي كان للملك الظاهر بيبرس، أما التكية الصغرى المجاورة لها فقد بناها أبوه السلطان سليم، الذي دخل الشام ونقل الخلافة إلى الترك في إسطنبول. وقف السلطان سليمان على التكية أوقافاً جليلة كان موردها أيام الرخص أكثر من ألف ليرة عثمانية من الذهب. أكتب هذا من حفظي، ولا تثقوا به كثيراً ولعلّ المبلغ كان أكثر من ذلك. والوقفية مصدَّقة أيام الفرنسيين من أعلى مرجع قضائي هو محكمة التمييز، ومن جملة هذا الوقف طعام (حساء) يُوزَّع على طلبة العلم، لا يسيغونه ولا يألفونه ويتعبون في الحصول عليه، ففكّر (¬1) في توزيع ثمنه بدلاً منه، فيأكل الطلاّب ما يشتهون يحصلون عليه بلا تعب ويوفّر على الدولة أجور إعداد الطعام ومتاعب توزيعه، وأبت الجمعية الغرّاء إلاّ التمسّك بحرفية الوقفية وتوزيع الطعام مطبوخاً. هذا هو السبب الظاهر للخلاف، أما السبب الخفي الحقيقي ففي الحلقة الآتية إن شاء الله. * * * ¬

_ (¬1) أي الشيخ كامل القصاب (مجاهد).

فتنة التجانية في الشام

-186 - فتنة التجانية في الشام السبب الحقيقي هو قضية التّجانية (¬1). بل إن هذه القضية ثمرةٌ لاختلاف العقليات كما يقولون في التعبير الحديث، عقلية الشيخ كامل القصاب وعقلية الشيخ علي الدقر. الشيخ كامل سياسي، مارس السياسة وعرف ظواهرها وبواطنها، وخبر الحياة حلوها ومرّها، وعاش في مصر وفي فلسطين وفي الحجاز وخالط الناس، ثم إنه سلفي العقيدة واقعي التفكير، يقرأ كل كتاب ويطّلع على كل جريدة أو مجلة تصل إليه، وله مشاركة في الأدب ويحفظ كثيراً من الشعر. والشيخ علي الدقر صوفي مثالي، لا يُكثِر مخالطة الناس ولا يكاد يعرف واقع حياتهم، يعيش في دائرة ضيّقة لا تجاوز ¬

_ (¬1) ظهر اسم «التِّجانيّة» في طبعات الذكريات السابقة بياء بعد التاء في أولها (التيجانية)، والصواب هو ما أثبتُّه هنا، وهو ما صحّحه جدي بخطه في النسخة المنشورة في الجريدة. وقد نشر أصلاً مقالة عنوانها «فتنة التجانية بالشام» في مجلة «الفتح» في رمضان سنة 1353، وهي في تلك المقالة كما هي هنا (التِّجانية، بالكسر لا بالياء) (مجاهد).

بيته ومسجده وكتبه التي قرأها وأقرأَها لا ينظر ولا يحبّذ النظر في غيرها، بين أصحابه وتلاميذه الذين يستمعون منه ما يلقيه عليهم ولا يحدّثونه في غيره، إلاّ أن يسألهم فيجيبوه جواب التلميذ المؤدَّب الذي لا يُفيض في الحديث إلاّ فيما يُعجِب الشيخ. لايهتمّ بالأدب ولا يُقِرّ تلاميذه على الاهتمام به خشية أن يصرفهم عن الكتب العلمية التي يراها أنفع لهم، حتى إن ولده الأديب اللغوي الشيخ عبد الغني الدقر قرأ المعلَّقات وشرحها و «كامل» المبرّد كله على الأستاذ عزّ الدين التنوخي في سنين متعاقبة خفية عنه. ولمّا خبره ولده الأكبر الشيخ أحمد أن أخاه عبد الغني قد اشترى «النظرات» للمنفلوطي غضب عليه وعدّ ذلك انحرافاً منه عن الطريق السويّ! كان يخشى على تلاميذه كل جديد ويخاف عليهم المزالق ويودّ لو حصرهم معه في دائرته. وكلا الشيخين: الشيخ علي الدقر والشيخ كامل القصاب، من العلماء الدعاة إلى الله ومن أركان التعليم والإرشاد في الشام رحمهما الله. أما الطريقة التّجانية فقد عرفنا -بعد أن أطّلعنا على كتبها واستقرينا (ولا تقُل استقرأنا) أخبارها- أن موقعها من الفرنسيين في الشمال الإفريقي مثل موقع القاديانية في الهند من البريطانيين. كانوا أعواناً للاستعمار، والعهدة على الراوي. أما قصة التّجانية في الشام فأنا أروي منها ما رأيت وما سمعت. الطلاب اليوم يفتتحون نهارهم في كثير من البلاد بتحية العلَم أو بنشيد الوطن، ولم يكن معروفاً في تلك الأيام أو كان معروفاً

ولكنه لم يبلغ أن يكون عرفاً عاماً، لذلك كانت كل مدرسة تلقّن طلابها ما تختاره لهم ليجهروا به جماعة قبل الدخول إلى الصفوف (الفصول)، أو لا تلقّنهم شيئاً وتدعهم يدخلون غرف دروسهم صامتين. وكان للجمعية الغرّاء مدارس يفتتح طلابها يومَهم بتلاوة وذكر ودعاء يحفظونه ويجهرون به جماعة، وكان من ذلك صلاة الفاتح، وهي «اللهم صلِّ على سيدنا محمد الفاتح لِما أُغلِق، والخاتم لِما سبق، ناصر الحقّ بالحقّ والهادي إلى صراطك المستقيم». والذي أعرفه أنهم لم يكونوا يرون فيها إلاّ صيغة من صيغ الصلاة على الرسول، وكل هذه الصيغ جائزة ما لم يبلغ حدّ الإطراء المنهيّ عنه وما لم يكن فيه مخالفة لشرع الله، وإنْ كان أفضل هذه الصيغ بلا خلاف هي صيغة الصلاة الإبراهيمية، لأنها هي التي علّمها رسول الله ‘ أصحابَه لمّا سألوه: كيف نصلّي عليك؟ وغيرُها من الصيغ ممّا علمه المشايخ تلاميذَهم، ولا يعدل مسلم بالمأثور عن رسول الله ما أُثر عن غيره من الناس. وكان أول من نبّه إلى ما يحفّ بهذه الصيغة (أعني صلاة الفاتح) وبيّن مصدرها وكشف خفاياها هو الشيخ محمد الخضر الشنقيطي، الذي كان من قبلُ مفتي المدينة المنورة ثم نزل الأردن. وشنقيط التي خرّجت طائفة من العلماء وعُرف أهلها بالحفظ حتى نُقلت عنهم فيه وقائع تحسب من العجائب، شنقيط هذه هي التي يدعونها اليوم موريتانيا. وممن عرفنا من علمائها صاحب «أضواء البيان» رحمه الله، ومنهم الصديق الذي كان سفير الملكة الأردنية، ومنهم رجل سمعت عنه ولم أدركه وهو التركزي الشنقيطي الذي

كان نادرة في حفظ الشعر، حتى لقد طُبعت دواوين كاملة مقابَلةً على ما تحويه ذاكرته العجيبة. * * * والرسائل التي كتبها الشنقيطي من الأردن يبيّن فيها حقيقة هذه الطريقة كان يطبعها ويوزّعها في الشام السيد كامل البني، وكان شاباً عالي الهمّة جمّ النشاط سريع الحركة، يدور بها على العلماء والمفتين ويحمل إليهم نسخاً من كتب الطريقة التجانية، ويستفتيهم فيها، وينشر فتاواهم في رسائل متتابعة كانت تُوزَّع مجّاناً في المدارس والمساجد ومجامع الناس وتُرسَل في البريد. وليست هذه الرسائل تحت يدي الآن بل بقيَت في مكتبتي في الشام، ليس أمامي وأنا أكتب هذه الحلقة إلاّ الرسالة الخامسة منها. وقد كانت تُصدرها وتتولى الإنفاق عليها جماعة من الغُيُر (جمع غَيور) على الإسلام سمّوا أنفسهم «الهيئة الإدارية لنصرة الشريعة المحمدية». وهذه الرسالة الخامسة مؤرَّخة في 21 ربيع الأول سنة 1353هـ، فيها إشارات إلى الفتاوى التي اشتملت عليها الرسائل الأربع التي قبلها، ومنها فتوى مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي، وقاضي شنقيط (أي موريتانيا)، والخطبة التي ألقاها شيخنا الشيخ بهجة البيطار والتي لخّصتها وعلّقَت عليها الصحف والمجلات الإسلامية، كـ «الفتح» للأستاذ محب الدين الخطيب و «المنار» للسيد رشيد رضا و «الجامعة الإسلامية» و «التقوى»، وروت أخبارها جريدة «النهار» ومجلة «كل شيء»

التي كانت تُصدِرها دار الهلال. وفيها ذكر أن هذه الرسائل توقّفت شهراً ونصف الشهر أملاً في أن تعود «الجمعية الغرّاء» عن التّجانية بعدما نشرَت فتاوى المفتين في المحافظات السورية، ولكن الجمعية الغرّاء أصرّت عليها ولم ترجع عنها. وجمع الأمير خالد الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر، أقوالاً نقلها من الكتب المعتمَدة عند أصحاب هذه الطريقة، وسأل مفتي الجمهورية السورية (وكان شيخَنا الشيخ عطا الكسم رحمه الله) عن الحكم الشرعي فيها وفيمن يعتقدها. وقبل أن أنقل لكم طرفاً من هذه الأقوال أروي لكم كلمة قيلت من قديم في كتب الجاحظ، وأحسب أن قائلها ابن العميد، هي "أن كتب الجاحظ تعلّم العقل أولاً والأدب ثانياً". وأنا أستعير اليوم هذه الكلمة لأقول إن هذه الأقوال وأمثالها التي تفيض بها الكتب المنسوبة إلى الصوفية (كـ «الطبقات الكبرى» للشعراني و «السلسل المعين في الطرائق الأربعين» للشيخ السنوسي الكبير و «الفتوحات المكّية» و «الفصوص» لابن عربي)، هذه الكتب تورث الجنون أولاً والكفر ثانياً. من هذه الأقوال المنقولة من الكتب المعتمَدة عند التجانية والمعدودة من أُسُس طريقتهم كـ «جواهر المعاني» و «بغية المستفيد» و «الإفادة الأحمدية» (وهذه الكتب الثلاثة تُعتبر من المراجع الموثوق بها عند أصحاب هذه الطريقة). ففي «الجواهر» (صفحة 103) أن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعادل ستة آلاف مرة من كل ذكر وتسبيح وتهليل، ومن كل دعاء كبير أو صغير (كذا!) وقع في هذا الكون!

والقرآن ذِكر، فإذا عدلَت المرة الواحدة من صلاة الفاتح ستّة آلاف ختمة كانت أفضل من خمسة آلاف وتسعمئة وتسع وتسعين! ويزعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام خبّره بذلك، كما ورد في صفحة 4 أنه أخذ الطريقة منه ‘ من غير واسطة يَقَظة لا مناماً. ألا يُذهِب هذا الكلام العقلَ والدين؟ كيف أخذه منه وقد مات النبي ‘؟ أم يدّعي بأنه لا يزال حياً كما يقول بعض الجهلة في خطب الجمعة، يزعمون أنه حيّ في قبره مثل حياته في هذه الدنيا وحياتنا نحن فيها، أي أنه يأكل ويشرب ويتنفس؟! أفلا يذهب هذا الكلام بالعقل والدين؟ وهل يحتاج إثبات وفاته عليه الصلاة والسلام إلى دليل؟ وكيفَ يصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ ... إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ؟ وإذا لم يمُت فكيف غسّلوه وصلّوا عليه ودفنوه ونصبوا أبابكر خليفة له؟ هل يحتاج هذا إلى إثبات إلاّ عند المجانين؟ لقد كان بعض الصوفية يكذبون على رسول الله عليه الصلاة والسلام بحجّة أنهم رووا عن الخضر (صاحب موسى) والخضر روى عنه، فجاء هذا التجاني فجاوز المدى وسبق هؤلاء الكذابين على رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ذلك أن دعوى حياة الخضر التي يعتمدون عليها كاذبة، والمحقَّق أن الخضر مات، والله يقول: {وما جَعَلْنا لبشرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلدَ}. أفلم يكن الخضر بشراً؟ ولا تقولوا عيسى، فعيسى له شأن آخر. وفي الحديث الصحيح أنه

لا يبقى على رأس مئة سنة ممن كان حياً يومئذ أحد، فكيف بقي الخضر؟ والرسول عليه الصلاة والسلام بُعث إلى الإنس والجنّ، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعه، فلماذا لم يتبعه الخضر إن كان حياً؟ ولماذا لم يشهد معه المشاهد ولم ينصره على عدوه؟ كلاّ؛ إن الخضر قد مات كما يموت كل حيّ، ومن ادّعى أنه رآه وسمع منه وروى عنه فهو كاذب. وفي «الإفادة» (صفحة 80) أن صلاة الفاتح من كلام الله. فخبِّروني: أيقول هذا مسلم؟ وإن كانت من كلام الله فكيف وصلت إلى التجاني هذا؟ أوَحيٌ بعد رسول الله أم افتراء على الله؟ وفي «الإفادة» (صفحة 63) هذه الكلمة الوقحة الآثمة، وهي قوله: قدماي هاتان على رقبة كل وليّ لله، من يوم أنشأ العالَم إلى يوم النفخ في الصور. وأولياء الله هم بنصّ القرآن {الذينَ آمنوا وكانوا يتّقونَ}، وفي أوائل صفوف الأولياء الرسل والأنبياء، فما حُكم من يقول هذه المقالة؟ ما مبلغه من الدين، ومن الأدب، ومن حسن الخلق، ومن الحياء من الله ومن الناس؟ وأشياء أخر من أمثال هذه جمعها الأمير خالد ورفعها إلى المفتي الشيخ عطا الكسم، فأجاب بأن كل ما في هذه الكتب وأي كتاب من هذا النوع باطل ومخالف للشرع، ولا تجوز قراءتها ولا تداولها. * * *

وهبّ العلماء والمفتون في محافظات سوريا كلها للردّ على هذه الأقوال التي لا شكّ أنها مخالفة للإسلام وأن معتقدها كافر. وجمع السيد كامل البنّي هذه الفتاوى ونشرها في الرسائل التي أشرتُ إليها، والتي كان يطبعها له أهل الخير ويوزّعها في الناس، حتى صارت هذه المسألة شاغلة للناس جميعاً وموضوع أحاديثهم في مجالسهم ولم يبقَ أحد لم يسمع بها، ولكن «الجمعية الغرّاء» بقيَت على حسن رأيها في الطريقة وصاحبها. لمّا كثرَت الردود والمقالات نشرت الجمعية الغرّاء بياناً قالت فيه إن هذه الأقوال مدسوسة على الشيخ التجاني، قولاً بلا دليل، ولم يقُل مثله أحد من أتباع هذه الطريقة من لدن أولها إلى يوم صدور هذا البيان. وهذا يُشبِه ما ادّعى قوم من أن ما جاء في كتب ابن عربي مدسوس عليه، مع أن الجملة أو الفقرة المدسوسة كالرقعة في الثوب، تُعرف باختلاف قماشها ومنظرها وملمسها. ثم إن أقصى ما يمكن أن يُدَسّ في الكلام جملة أو جمل معدودة أو صفحة، أما أن يكون الكلام كله مؤتلفاً متشابه الأسلوب متماسك الأفكار متّحد الوجهة، ثم يُدّعى أنه دُسّ فيه وأُدخِلَ عليه ما ليس منه، فدعوى يصعب إثباتها. لمّا قرأتُ هذه الأقوال ووثقت أنها من صلب الطريقة التجانية تمثّلت بالكلمة التي تُنسَب إلى أمير المؤمنين عليبن أبيطالب، ابن عم رسول الله ‘: لمّا رأيتُ الأمرَ أمراً مُنكَراً ... أجّجتُ ناري ودعوتُ قَمْبَرا ولم يكن عندي نار أؤجّجها ولا غلام مثل قَمبَر، مولى

عليّ، أدعوه. ما عندي إلاّ هذه الأداة التي لا تُسيل دماً ولا تقتل عدواً ولا تحرق داراً، ولكنها تستطيع أن تصنع ما هو أكبر من ذلك وأعظم خطراً وأكبر نفعاً أو ضرراً، هذا القلم. فجرّدت القلم ودخلت المعركة بكلمة حامية تشتعل حروفها ناراً، فاطّلع عليها بعض إخواننا الناصحين، فرأوا بأنه أنفعُ للناس وأوصلُ إلى الغاية أن أكتبها بغير هذا القلم، فنبذتها وأعدت كتابتها بقلم ليّن سهل، وبعثتها إلى السيد كامل البني فنشرها في هذه الرسالة الخامسة، وجعل لها عنواناً من عنده هو: «الكلمة الحاسمة في الموضوع». قلت فيها: لم تشغل مسألةٌ من المسائل الجمهورَ في دمشق -على اختلاف طبقاته وأفكاره- كما شغلَته مسألة التجانية هذه، ولم يُجمِع الرأي العامّ الإسلامي على مسألة من المسائل كما أجمع على البراءة من هذه الطريقة، وعلى تكفير مَن يعتقد هذه الأقوال المنسوبة إليها، وعلى لوم طائفة من خيار المسلمين في دمشق أحسنوا الظنّ بأصحابها واقتبسوا بعضاً من أذكارها. والمسلم لا يكلَّف (ولا يجوز أن يكلّف نفسه) إلاّ بما صحّ عن النبي ‘ أنه أمر به أو فعله أو أقرّه. وليس في الإسلام شارع بعد رسول الله لأن الدين قد كمل، وما بعد الكمال إلاّ النقص، وكل بدعة في الدين مردودة على من جاء بها. لم أقُل في هذه المسألة كلمة واحدة على رغم هذه الضجّة التي قامت لها، ولا يزال دويّها يملأ المجالس والمجامع والأسواق وصداها يتردّد في القرى وفي المدن، لأني لم أتثبّت من صحّة نسبة هذه الأقوال إلى شيخ الطريقة المدعوّ أحمد

التجاني، ولأن العلماء الكرام الذين وقّعوا المنشور الأخير قالوا إنها مدسوسة على الشيخ، أي أنها ليست في كتبه ولا في كتب طريقته المعتمَدة، حتى تفضّل الشيخ الشنقيطي فبعث إليّ كتب الطريقة التي يعتمدونها ويستندون إليها، فإذا كل هذا الكلام موجود فيها، وإذا هو من أُسُس طريقتهم. ولم يرتفع صوت واحد بإنكار نسبته إلى شيخهم وادّعاء براءته منه، بل هم معترفون به مُقرّون بما فيه، ولم ينكره ويرتفع بالشيخ عن أن يُنسَب إليه ويدّعِ أنه مدسوس عليه إلاّ هؤلاء العلماء الأجلاّء. فعمدتُ بعد أن تثبّتُّ منها ووثقت بصحّة نسبتها إلى هذا التجاني، الذي لقّبه الأستاذ الشنقيطي بالتجاني الجاني، ووُفِّق في هذا اللقب لأن من أكبر الجنايات في الإسلام الكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولأن أصحّ حديث على الإطلاق هو حديث «من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار». هذا فيمن كذب مرة، فما بالكم فيمن كذب عليه عشرين مرة وطبع هذا الكذب ونشره في الناس، ولقّنه تلاميذه حتى اعتقدوه وصدّقوه؟ على أن العجيب ليس هذا التجاني ولا هذه الأقوال السخيفة التي صدرت عنه، ففي الدنيا كثير من السخفاء ومن ذوي الأغراض ومن الأعداء في ثياب الأصدقاء، وفيها كثير من الكفار ومن الزنادقة ومن الذين آثروا اتباع الشيطان على اتباع سبيل الرحمن، ولكن العجيب فيمن يصدّقه ويعظّمه ويحسبه من أئمة الدين ومن علماء المسلمين. الدين الإسلامي -يا إخوان- هو دين العقل والمنطق

والمناظرة والدليل في ضوء كتاب الله وسنّة رسول الله، فإذا أخطأ واحد مهما جلّ قدره أو علت منزلته (كالشيخ علي الدقر أو الشيخ بدر الدين أو شيخ الأزهر) وكان يعرف الصوابَ واحدٌ مثلي أو أصغر مني، أو يعرفه طفل أو تعرفه امرأة، فإن على مَن عرف الصواب أن يبيّنه وأن يدلّ عليه، وعلى من أخطأ أن يعود إلى الحقّ. ولا شكّ أن عمر أفضل وأعلم بالدين من الشيخ علي الدقر وشيخ الأزهر والشيخ بدر الدين. وهذا المبدأ الصوفي الذي يمنح الشيخ ما يُشبِه العصمة، ويمنع تلميذه أن يردّ عليه مهما سمع منه ومهما رأى من أعماله المخالفة للدين، هذا المبدأ يخالف الإسلام ويجانب ما كان عليه السلف الصالح والصحابة الكرام. والحُجّة في الإسلام لا تكون إلاّ في واحد من أربعة: الكتاب، والسنة الثابتة الصحيحة، والإجماع، والقياس. فإن كان لدى التجانيين ومن يتبعهم حجّة من هذه الحجج فليأتوا بها. فهل صحّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يزعمونه؟ هل نزل به قرآن أو ورد به حديث صحيح، أو هو من الابتداع؟ والابتداع في الدين مردود كله. وهل في الدنيا مسلم واحد يزعم أن صلاة الفاتح تعدل القرآن؟ وهل في الدنيا مسلم واحد يصدّق أن وِرْد التجانية يُدخل قائلَه ووالديه وأزواجه وذريته الجنّة بلا حساب، كما جاء في بعض كتبهم؟ (إلى أن قلت في آخر المقالة): أما بعد، فإما أن تقرعوا الحجّة بالحجّة وتردوا الدليل بالدليل، وإما أن تتوبوا إلى الله وترجعوا إليه، وإما أن تسكتوا

وتُقِرّوا بالضعف والعجز. وأنا على قلة علمي أدعو التجانيين كلهم، من أكبر واحد فيهم إلى أصغر مَن ينتسب إليهم، أدعوهم إلى مناظرة عامة على ملأ من الناس، ليظهر هل الحقّ معهم أو مع جمهور المسلمين. وبعد، فالكلمة الأخيرة في هذه التجانية أنها كُفرٌ وضلال، فاختاروا لأنفسكم: إما المناظرة المُعلَنة أو السكوت المخزي. واختاروا لأنفسكم: إما أن تكونوا تجانيين وإما أن تكونوا مسلمين! * * * والشيخ علي الدقر أحد المشايخ الكبار في الشام الذين كان لهم أكبر الأثر في نشر العلم، وكان أجلّ الشيخين اللذين قاما بما دُعي بنهضة العلماء سنة 1343هـ، ولم ينسَ الناس ما صنع في حوران والبلقاء (شرقي الأردن) حين ردّهما الله به إلى الدين والعلم بعدما أوشكت أن تغرقَهما جاهليةٌ كالجاهلية الأولى. ولم ينسوا مَن تخرّج عنده من علماء ومدرسين وخطباء وما فتح من مدراس، وما كانت تصنع دروسه التي كان الناس يزدحمون عليها ويتسابقون إليها، فتخشع منها القلوب وتفيض العيون. فهل كان الشيخ علي -على علمه وتقواه وصلاحه- يعتقد هذه الأقوال التي لا يشكّ عالِم ولا طالب علم ولا عامّي من غمار الناس بأن اعتقادها كفر وضلال؟ إني لأفكر الآن في هذا فلا أستطيع أن أتصوّر أن الشيخ علي الدقر رحمه الله كان يعتقدها. ولمّا أصدر البيان الذي أشرت إليه

لم يدافع عنها، وإنما ادّعى (دعوى بلا دليل) إنها مدسوسة على الشيخ التجاني. فهو إذن لا يقول بها ولا يدافع عنها، وإنما ينازع في نسبتها إلى التجاني. والله لا يسألنا عن التجاني ولا عن الشيخ ابن عربي ولا عن غيره؛ إنما يسألنا عمّا نقول وما نفعل. والذي نقوله أن هذه الأقوال كفر لا شكّ فيه، والله أعلم بحال من نُسبت إليه. فلماذا إذن أصرّ على موقفه ولم يتزحزح عنه؟ إنه «لغز» أعلن أنني عاجز عن حلّه. وأنا إنما أدون حادثاً مرّ عليه الآن أربع وخمسون سنة، والدول تنشر المطويّ من وثائقها وتُبدي المكنون من أسرارها بعد ثلاثين سنة فقط، كما تفعل بريطانيا الآن. ثم إنه موقف واحد للشيخ علي رحمه الله، أنا أوقن أنه رجع عنه، ودليل ذلك أنه لمّا انطفأت هذه الفتنة لم نعُد نسمع منه ما يدلّ على انتسابه إلى التجانية أو دفاعه عنها، بل هو لم يعُد يذكرها. * * * إنما هي صفحات من التاريخ يُراد بها ذكر الماضي لا وصله بالحاضر. ولعلّنا نعتبر بها وبأمثالها فنعمل دائماً على جمع الشمل ونبذ الخلاف، وألاّ نجعل اختلافنا في الفروع مفرّقاً لنا بعد اتفاقنا على الأصول. إن الشعوب الإسلامية لا تنقاد للزعيم السياسي مثلما تنقاد للعالِم الديّن، ولو أن العلماء جميعاً راقبوا الله وأخلصوا النية

له وعملوا له وحده لما استطاع أحد أن ينازعهم القيادة أو أن يزاحمهم على الصدارة، ولبقي الأمر في أيديهم، ولما وثقت الشعوب إلاّ بهم وما سمعت إلاّ منهم، ولغدوا هم المرجع لهم، لا رأيَ لأحد مع رأيهم ولا منزلةَ لأحد فوق منزلتهم. ولوْ أنّ أهلَ العلمِ صانُوهُ صانَهم ... ولوْ عظّموهُ في النفوسِ لعُظّما ولكنْ أهانُوهُ فهانَ، ودنّسُوا ... مُحيّاهُ بالأطماعِ حتّى تَجَهّما * * *

في الكلية الشرعية في دمشق

-187 - في الكلية الشرعية في دمشق الآن وصلتُ إلى الباب الذي أدخله إلى الكلام عن الكلية الشرعية، التي افتتحتُ الفصل بكتاب مديرها الشيخ حسن الشطي رحمه الله. وقد اجتزت إليه هذا الدهليز الطويل لأبيّن لكم أن إنشاء هذه الكلية لم يكن بداية العناية بالعلوم الشرعية، وأنه كان قبلها علماء، دارُ كل واحد منهم ومسجدُه مدرسةٌ مفتّحةُ الأبواب حافلة بالطلاّب، يُقبِلون عليها لا يرجون منها شهادة ولا يطلبون بعد الشهادة وظيفة، بل يطلبون العلم لله، والمشايخ يعلّمونهم لله، يبتغون في ذلك سنّة السلف من هذه الأمة. بل سنّة متأخّري السلف، حين صارت الحركة العلمية مثل النوافير الصناعية، تعلو كعمود من النور، يتدفّق ماؤها ظاهراً كأنه نوافير دمشق القديمة، وكأنه النافورة الأثرية المشهورة عند باب الأموي الشرقي التي سُمّي الحيّ باسمها، يجري ماؤها أبداً، لا يجري منها في الحقيقة ماء ولا يتبدّل، إنما هو محرّك وسطل ماء يدفعه المحرّك فيعلو ثم يدعه فيعود إلى مستقَرّه، يتردّد ولا يتجدّد. وكذلك كانت الحركة العلمية: وقَفَ الابتكار وكلّت الأذهان وضَعُفَ البيان، وعُدنا نجترّ ما غذّانا به الأولون

مثل اجترار الإبل، نقرأ ولا يكاد أكثرنا يجاوز القراءة والفهم، ومنا من يقرأ ولا يحاول أن يفهم. حتى إن أحد قدماء طلبة العلم في دمشق -وقد ذُكر الشيخ بدر الدين الحسني- فقال لي: ولكن عنده رحمه الله غرائب. فسألته: ما غرائبه؟ فقال: قرأنا عليه كتاباً، فلما أكملناه قال لنا: يابا (وكانت تلك كلمته يخاطب بها الكبير والصغير)، شو فهمتهم؟ (أي ماذا فهمتم؟) فلما لم نُجِبه كما يريد قال: "يابا، باسم الله"، واستأنف قراءة الكتاب. هذا هو الشيء الذي رآه غريباً، استغرب أن يهتمّ الشيخ بما فهم الطلاّب، والعهد بأكثر العلماء أنهم يكتفون بالقراءة. وكان أقصى ما يتبعه الدارسون أن يفهموا قول المصنّف رحمه الله. ولقد خبّرني الشيخ عبد المحسن الأسطواني، الشيخ العالِم المعمَّر الذي سبق الحديث عنه، وكان من تلاميذ جدّنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من طنطا سنة 1255هـ، أنهم كانوا يقرؤون على أحد المشايخ كتاباً في نسخة مخطوطة، فاستعجمَت عليهم عبارة فلم يفهموها، فذهبوا إليه، فتبسّم وأخذ القلم فصحّح العبارة. فعجبوا من ذلك، أي من جرأته على الكتاب يصحّحه من عند نفسه. ثم وجدوا نسخة أخرى مخطوطة صحيحة، فلما رجعوا إليها وجدوا العبارة كما صحّحها. جملة فيها تحريف ظاهر من ناسخ من النسّاخ، ربما عرف صوابَه تلميذ صغير، ولكن لم يكونوا يجرؤون على مثل ما فعل الشيخ؛ ذلك لأننا كنا نقدّر السلف، وربما زدنا في تقديرهم عن الحدّ. ولا أزال أحفظ كلمة تلقّيناها من مشايخنا: وكلُّ خيرٍ في اتّباعِ مَن سَلَفْ ... وكلُّ شرٍّ في ابتداعِ مَن خَلَفْ

الاتباع وترك الابتداع في العقائد وفي أصول الدين لا في أمور الدنيا؛ فأمور الدنيا لنا، نأخذ منها كل حقّ وندع كل باطل ونتمسّك بكل نافع وننبذ كل ضارّ، جديداً أم قديماً، فما العبرة بالجِدّة ولا بالقِدَم. شرقياً كان أم غربياً، فالحقّ يُعرَف بأنه حقّ لا بالجهة التي جاء منها. ولقد كان عندنا في الشام قديماً مدارس للقرآن وللحديث ولفقه كل إمام من الأئمة الأربعة، ومدارس جامعة كالمدرسة العمرية التي أنشأها الشيخ أبو عمرابن قُدامة، أخو صاحب «المغني». وآل قدامة هم الذين أقاموا حيّ الصالحية، وكان أول حي يُقام على سفح قاسيون. وفي كتابي «دمشق» المطبوع مراراً فصل عن إنشاء حي الصالحية. وقد أُولِعتُ مرة بتتبّع أخبار هذه الأسرة فوجدت من نسائها العالِمات بضعاً وعشرين، كلهن كانت تُعَدّ إذا عُدّ مشايخ البلد. ثم فترت هِمّتي ووقفت عن العمل، وضاعت الأصول، وذهب الكتاب الذي كنت أنوي إصداره عن آل قدامة. ومن عيوبي التي أعترف بها هنا (ولولا أن انتظار الأجل يسدّ عليّ طريق الأمل لطلبت دعوة منكم لخلاصي منها) من عيوبي أنني أمشي دائماً مشي الأرنب في قصّة لافونتين لا مشي السلحفاة. فأنا أجمع قوّتي وأثب وثبة واحدة، فإما أن أصل وإما أن أقعد فلا أحاول بعدها؛ أي أنني على مذهب أبي فراس في بيته المشهور: «لنا الصدرُ دونَ العالَمين أو القبرُ». ورُبّ بيت أضلّ وما هدى وأفسد وما أصلح، كقوله: «إذا مِتُّ ظمآناً فلا نزَلَ القَطْرُ»، وبيت المتنبي: «والظلمُ مِن شِيَمِ النفوسِ»، وما صدق المتنبّي ولا برّ، فما الظلم من شيم النفوس ولكن العدل، لأن الله فطر النفوس

على الخير لا على الشرّ، وعلى العدل لا على الظلم، وعلى الإيمان لا على الكفر. عفوكم يا أيها القراء. أرأيتم ماذا يصنع بي الاستطراد وكيف أتنكّب الطريق؟ كالراعي يرى بقعة فيها كلأ كثير فيسوق قطيعه إليها، فيحيد عن وجهته ويبتعد عن غايته. إنها علّتي وعلّة كل من نشأ على كتب الأدب العربي القديم. * * * قلت إن المدارس كانت تملأ حارات الشام (كما كانت تملأ المدارس حارات مصر ومسالكها)، وفي كثير من بلاد الإسلام مثلها. ومن قرأ «الدارس في المدارس» (¬1) أو «منادمة الأطلال» للشيخ عبد القادر بدران (وهو مقتبَس من «الدارس») ومَنمشى في طرق دمشق القديمة رأى العشرات من المدارس (وقد صار كثير منها بيوتاً مملوكة بأسناد رسمية!) وعلى بابها الحجرُ المنقوشُ عليه أنه وقَفَ هذه المدرسةَ فلانٌ الفلاني، ووقف عليها كذا وكذا من البساتين ومن المباني. ومَن مشى مِن حيث يمشي نهر يزيد (وهو أحد أبناء بردى) على سفح الجبل من تحت قبّة السَّيّار إلى آخر حيّ ركن الدين، رأى أنقاض المدارس قائمة يأخذ بعضها بأيدي بعض كأنها صفّ النوادب في المآتم يبكين ما مضى. والعجب العجيب أن أكثر هذه ¬

_ (¬1) اسمه الكامل «الدارس في تاريخ المدارس»، تأليف عبد القادر النّعيمي (مجاهد).

المدارس أنشئ في عهد المماليك في مصر وفي الشام، بل وفي دهلي في الهند. ولقد أقيمت من نحو ستين سنة مدرسة دينية حديثة افتتحَتها إدارة الأوقاف في المدرسة السميساطية الأثرية القائمة عند باب الأموي الشمالي، والتي كانت يوماً دار عمربن عبد العزيز، وجعلوا مديرها العالِم الوجيه الشيخ توفيق الأيوبي، رحمه الله ورحم كل من ذكرت وأذكر من الصالحين. كما كانت دار هشامبن عبد الملك عند المدرسة النورية التي دُفن فيها الملك البطل المجاهد نور الدين زنكي، أما المقرّ الرسمي للخلفاء من بني أمية ففي الدار الخضراء، دار معاوية، وراء جدار القبلة في الجامع الأموي، ولا يزال الباب الذي كان يدخل منه إلى المقصورة ظاهراً أعلاه تسدّه الدكاكين التي أنشئت هناك. وقد سمعت الآن أنهم أزالوا ما حول الأموي وكشفوه كما كُشف الحرم المكّي والمسجد النبوي، وتلك أمنية كنا نتمناها، وقد سُررت بهذا الخبر إن صحّ. * * * أعود إلى حديثي عن الكلية الشرعية، وأقول قبل أن أدخل فيه أن لاسم «الكلية» اليوم معنى محدداً يقابل كلمة «فاكولته» بالفرنسية. ففي كل جامعة كليات، أي مدارس عالية تتبع الجامعة، وفي فرنسا مدارس عالية لا تتبعها، كالمدرسة المركزية للهندسة (إيكول سنترال) ومدرسة بولي تكنيك والمدرسة العسكرية. هذا الاصطلاح لم يكن عاماً في الأيام التي أتحدّث عنها، فلقد كان

في دمشق الكلية العلمية الوطنية التي انتهى أمرها إلى الدكتور منيف العائدي فكان صاحبها ومديرها، وكان في بيروت الكلية الإسلامية قديماً، والكلية الشرعية التي أنشأها مفتي لبنان الشيخ توفيق خالد وكنت أدرّس فيها. بل لقد مرّ في هذه الذكريات اسم «الجامعة العربية» التي افتتحها سليمان سعد. وهذه الجامعة وتلك الكليات لم تكن إلاّ مدارس ثانوية. والعجيب أن الكليتين اللتين كانتا في الجامعة السورية كانت كل منهما تُسمّى معهداً: المعهد الطبي، ومعهد الحقوق الذي تخرّجت فيه سنة 1933. فالكلمات يتبدّل مدلولها ثم يستقرّ الاصطلاح على واحد منها. حتى كلمة «الدكتوراة» يختلف مدلولها باختلاف الجهة التي تمنحها، فلها في فرنسا نوعان: دكتوراة الدولة والدكتوراة التي تعطيها الجامعة، والأولى هي التي تنفرد بالتقدير. والدكتوراة في ألمانيا لا تكاد ترتفع إلاّ قليلاً عن الإجازة (الليسانس أو البكالوريس)، وأعلى منها عندهم لقب «دكتور هابيل» أي الدكتور الماهر. والدكتوراة المجلوبة من أمريكا ألوان وأصناف، تختلف أقدارها باختلاف الجامعة التي نالها حاملها منها، وما كل جامعة في أمريكا هارفارد. * * * كانت الكلية الشرعية هي الثمرة الباقية لمؤتمر العلماء، والفضل فيها بعد الله الذي منه كل فضل للشيخ كامل القصاب. والشيخ كامل من أعظم رجال التعليم في الشام، وكانت مدرسته

«الكاملية» تُدعى أيام العثمانيين بالمدرسة العثمانية، وقد بنى لها بناء حديثاً من ثلاث طبقات في البزوريّة قرب الجامع الأموي، بين دار أسعد باشا العظم (التي تُعَدّ من أكبر الدور الشامية، والتي ملكَتها الحكومة وأقامت فيها متحف الفنون الشعبية، والدارُ نفسها من الفنون الشعبية) وبين الخان العظيم الذي بناه ولا يزال يُنسب إليه، فيقال خان أسعد باشا، وهو أجمل الآثار العثمانية الباقية في دمشق وأعظم الخانات التي كانت منتشرة في بلاد الإسلام، تقوم مقام الفنادق ومقام الأسواق المركزية. افتتح فيها الشيخ كامل مدرسته الشرعية سنة 1937. وقد كنت أعمل يومئذ مدرّساً في العراق كما عرفتم، ثم انتقلتُ إلى بيروت، فلما رجعت إلى الشام درّست عند الشيخ كامل في الكلية التي أنشأها مدّة يسيرة بين العراق وبيروت. وقد نسيت بعض خبرها، فرجعت إلى أخي الأستاذ الدكتور عبد الحميد الهاشمي (وقد كان من تلاميذها الصغار وهو اليوم من أساتذة الجامعة الكبار) ليُعينني على تذكّر أخبارها، كما رجعت إلى أخي الآخر الشيخ محمد القاسمي الذي كان زميله فيها، لكن بعد أن صارت رسمية تابعة لمديرية الأوقاف العامّة وانتقلت إلى زقاق النقيب، إلى الدار التي كان يُقيم فيها الأمير عبد القادر الجزائري والتي آلت إلى السيد مكي الكتاني، رحمة الله عليهم جميعاً. والذين كانوا طلاّباً في الكلية الشرعية وكنت أدرّس لهم كبروا وصاروا زملاء لي في التدريس، ثم جازني كثير منهم وفاقني

علماً وفضلاً وسبقني في كثرة المؤلَّفات وطيبها، كالأخوين اللذين ذكرت الهاشمي والقاسمي، والدكتور أديب صالح، والأستاذ أحمد الأحمد، والدكتور وهبة الزحيلي، الذي لا أذكره تماماً لأنه لم يكن في صف من سمّيت ولكن كان -كما أظنّ- بين من هو أصغر منهم من الطلاّب، ثم صار من كبار المؤلّفين في الفقه والباحثين فيه. لمّا افتتح هذه الكلية دعا جماعة من أجلّ علماء الشام ليدرّسوا فيها، كان منهم الشيخ عبد القادر الإسكندراني، وهو مصري نزل دمشق وأقام فيها، وصار من أهلها ولم يدع لهجته المصرية، وكان جميل الصورة مَهيب الطلعة، بليغ اللسان نيّر الذهن، له مؤلَّفات صغيرة في البلاغة لا تدلّ على فضله. ومنهم الشيخ محمود العطار، وهو نموذج لعلماء تلك الأيام، وقد كانت قراءته على الشيخ بدر الدين. وهو متمكن من العلوم الإسلامية مطّلع على كتبها عارف بما حوت هذه الكتب، ولكنه لم يكن يجاوزها ولم يكن يبحث في غير ما جاء فيها، ولم يؤتِه الله مع هذا العلم الكثير لساناً بليغاً فلم يكن خطيباً ولا محدّثاً. وكان منهم رجل على الضدّ منه: خطيب طَلق اللسان قوي البيان، يخطب في كل مناسبة خطباً فنّية يشدّ فيها الحروف ويحسن إيقاع الجمل، وليس وراء ذلك علم كثير ولا اطّلاع واسع. ومنهم الشيخ محمود ياسين، وقد مرّت الإشارة إليه. والشيخ محمود من العلماء المتمكنين الذين يدأبون على العمل. ومنهم أستاذ لا يزال حياً، وقد قارب المئة مدّ الله في عمره، هو الأستاذ

درويش القصّاص، أقدم مدرّس للرياضيات (الحساب والهندسة) في دمشق، وكانت له براعة عجيبة في الإفهام، فهو يُدخِل العلم في الأدمغة التي يُظَنّ أنها أُغلقَت أبوابها وسُدّت مسالكها دون العلم فلا يدخلها. وقد خبّرني الدكتور عبد الحميد الهاشمي أنه هو الذي دفعه إلى الإعداد لشهادة الكفاية (الكفاءة) ثم الشهادة الثانوية، ثم وفّقه الله حتى أكمل الدراسة العالية ونال الدكتوراة. فهو، أي الهاشمي، من الذين جمعوا بين الدراسة الشرعية والدراسة الحديثة. وكان المراقب الذي يُشرف على الطلاب، على إدخالهم وإخراجهم وصفّهم ويتولّى شؤونهم هو الشيخ رضا الحلو. وهو رجل له في تاريخ الرياضة في الشام ذِكر، ذلك أنه كان من تلاميذ البطل القديم صائب بك العظم (الذي مرّ ذكره)، وكان يوماً بطل العالَم في المصارعة الحرّة، وخبّرني أخي ورفيقي محمود البحرة رحمه الله أن الشيخ رضا كان يمتلك جسماً يُعَدّ في مقاييس كمال الأجسام نادراً. بلغ الثمانين وهو مستمرّ على التدرُّب وعلى التمرين، لم يُثِنه الكبر عنها ولم يَقِفْه دونها. ثم انتقلَت الكلية إلى الإدارة العامة للأوقاف، ولم تكن قد صارت وزارة، فغدت كلية رسمية فيها خمسة صفوف، كما كانت أختها في حلب (المدرسة الخسروية)، وأنشأت الأوقاف في كل من حمص وحماة مدرسة شرعية فيها ثلاثة صفوف (أي أنها من ثلاث سنوات). ولا بد لي إن شاء الله من عودة للكلام عن الكلية وأهلها. وربما جاء الخير مما يبدو لك أنه شر. فهذا الخلاف الذي

كان بين الشيخ كامل القصاب والشيخ علي الدقر، لمّا حَسُنت النيات وصفت القلوب، آلَ إلى تنافس شريف؛ فأنشأ الشيخ علي مدرسة مثل الكلية الشرعية، افتتحها في جامع تنكز (وتنكز كان نائب الشام على عهد المماليك) بعد أن جمع له أهل الخير ما جدد به بناءه. وكانت لجامع تنكز واجهتان على أكبر شارعين في دمشق، الواجهة الأصلية على شارع النصر الذي افتتحه جمال باشا سنة 1916 كما أذكر، وكان يُدعى باسمه، وعلى ساحة المرجة التي كانت لبّ دمشق. * * * قرأتم في كتاب الشيخ حسن الشطي الذي افتتحتُ به الكلام على الكلية الشرعية أنهم كلفوني بأن أدرّس فيها الثقافة الإسلامية. وكان درساً جديداً، وليس في العلوم المقرَّرة المعروفة ما يُدعى «الثقافة الإسلامية»، ولم يكن في مثله بُدّ من شيء من الفوضى والبعد عن التبويب أحياناً واختلاط مسائله بمسائل غيره من العلوم، لذلك يبقى أمداً تعتوِره الزيادة والنقصان والتعديل والتبديل، حتى يستقرّ وتَضِح (أي تتّضح) معالمه ويصبح علماً من العلوم. والذين اخترعوا هذه العلوم الجديدة أرادوا أن يخرجوا بها عن الأسلوب النمطي وعن اجترار ما كتب الأولون، يُبدئون فيه ويُعيدون ولا يأتون فيه بجديد. وقد أرادوا الخير كل الخير من اختراعها، ولكن لم يوضّحوا سبيلها ولم يحدّدوا غايتها، لأنه لم يكن في أذهانهم -كما أظنّ- صورة واضحة لها؛ لذلك كان

المنهج الذي رسموه لها متداخل الحدود خفيّ المعالم. وكان أول من كُلِّف بتدريس هذه المادة الجديدة الأستاذ الشيخ دهمان، درّسها مدّة قصيرة جداً، ثم كُلّفت أنا بها أدرّسها في دمشق، ويدرّسها في الكلية الخسروية في حلب العالِم المؤلف الشيخ راغب الطبّاخ. فاختلف طريقانا في الفروع، وإن كنا اتفقنا على الأصول وأخذنا من مراجع واحدة. ولكن الشيخ الطبّاخ أُعطيَ -على كبَر سنّه- هِمّة لم أُعطَ أنا مثلها، ويسّر الله له أسباباً لم يتيسّر لي ما يشبهها، فكان على علمه وفضله يعمل على طبع الكتب ونشرها، وأظنّ أنه كان يملك مطبعة. وكان أمثاله من الناشرين العلماء كثيرين، منهم السيد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وخير الدين الزركلي حيناً، والأستاذ أحمد عبيد، والشيخ منير الدمشقي، وحسام الدين القدسي. فطبع الشيخ الطبّاخ ما أعدّه في كتاب بقي في الأرض ينفع الناس، وذهب ما أعددتُ أنا جفاء، وأسأل الله أن يجعله زبدة لا زَبَداً. كما أنني ألقيت في أحاديثي في الإذاعة وفي الرائي من سنين طويلة مسائل في أصول الشريعة وفي نظام الحكم والنظام المالي والاجتماعي في الإسلام كانت أكثر مما أعدّ الأستاذ المبارك رحمه الله، ولكنه أسرع فجمع ما هيّأه في كتاب فبقي، وما أعددته أنا ضاع ولم يبقَ عندي إلاّ مذكّرات لا تُغني ولا تُفيد. ولعلّ الله يرزقني الإخلاص فيه فلا يضيع عند الله ثوابه. بدأت أنا دروسي بتعريف الثقافة وبيان أصل الكلمة. ولقد كتب في ذلك جملة من العلماء والأدباء، ولكنهم أخذوا غصن الشجرة ولم يمسكوا بساقها، فجعلوا أصلها «ثَقِفَ يَثْقَف»،

وكذلك صنعت المعاجم من القاموس المحيط إلى المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية في مصر، وبينهما المعاجم كلها، حتى المعجم الذي لم يؤلَّف مثله وهو «مقاييس اللغة» للإمام أحمدبن فارس. وهذا من عيوب معاجمنا (أي قواميسنا)، فإنها لا تراعي التسلسل التاريخي لمعاني الكلمات. بل ينسى الأساتذة العصريّون ممن كتب في موضوع الثقافة إن الاسم يوضع قبل الفعل، فهو الأصل والفعل مشتَقّ منه ومتفرّع عنه. ولي تعليقات كثيرة على المعاجم، منها بحث في المعنى الأصلي من معاني الكلمة التي توردها، ولكنني -على عادتي في إضاعة ما أكتب وما أُعِدّ- لم أجمعها، وإنما تركتها في ذهني تأتي بها المناسبة ويذهب بها النسيان. ومما لاحظته على المعاجم أنها أساءت في شيء كانت تستطيع الإحسان فيه؛ وهو أنها تسرد المعاني المتعددة للكلمة الواحدة، أو اختلاف وزنها الصرفي، تحشدها كلها حشداً. ولو أنها بيّنَت أن كل واحدة منها لغةُ قبيلة من قبائل العرب، فنسبَتها إليها وعَزَتها إلى مصدرها، لأفاد الناس من ذلك أكبر الفائدة. ذلك أن قبائل العرب لم تكن في منزلة واحدة من الفصاحة، وأن المعاني المختلفة أو الأوزان المتعددة بعضُها مثل الحديث الصحيح، وبعضها مثل الحديث الحسن، وبعضها مثل الحديث الضعيف. فلو أن علماء اللغة الذين دوّنوها وألّفوا معاجمها ميّزوا بينها وفعلوا فعل المحدّثين لكان من ذلك نفعٌ كبير. فأصل مادّة الثقافة من «الثِّقاف»، وهو اسم لخشبة مثقوبة،

فإذا أرادوا أن يقوّموا قناة الرمح قطعوا الغصن الذي يصلح لذلك ثم أحموه على النار ثم أدخلوه في هذا الثقب المثقوب في الخشبة وقوّموه وأزالوا اعوجاجه. هذا هو الأصل في مادّة الثقافة، ثم اشتقّوا من هذا الاسم فعلاً فقالوا: رمحٌ مُثقَّف، أي مقوَّم. ولمّا كانت الألفاظ توضَع للموجودات المدرَكة بالحسّ ثم تنتقل إلى ما وراء الحسّ من الصور المعنوية والمعاني المجردة، فقد نقلوا معنى «المثقَّف» من القناة التي قوّمنا عِوَجها بالثّقاف إلى الإنسان الذي قوّمنا طباعه وفكره بالثقافة. وكذلك نجد معناها في الفرنسية، فهو فيها معنى مجرّد لا حقيقي، فهم يدعونها «كولتور»، وهي كلمة تدلّ في حقيقتها على الحرث والزرع. ويقولون للرجل «كولتيفه»، أي محروث أو مزروع. ولا يقتصر معنى الثقافة على تلقّي العلوم، بل تشمل سلوك الإنسان في كلامه وفي طعامه وفي يقظته ومنامه. * * *

حلقة خاصة في تصنيف العلوم

-188 - حلقة خاصّة في تصنيف العلوم أنبّه قراء هذه الحلقة إلى أمور. الأول: أن فيها بحثاً علمياً جافاً ليس فيها طرفة نادرة ولا حادثة مشوّقة. فهل رأيتم أحداً يبدأ كلامه بالتنفير من كلامه؟ والثاني: أنها كالصلة لِما قبلها، لا تُفهَم إلاّ معها مقرونة بها، فأرجو أن تضعوا سابقتها أمامكم أو أن تُحضروها أذهانكم. والثالث: أنكم ستقرؤون هنا كلاماً كالذي تجدونه في مدخل كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام» (الذي طُبع بإذني وبلا إذني أكثر من عشرين طبعة)، فالذي تقرؤونه هنا هو ما ألقيته على الطلاب في دمشق سنة 1363هـ، وسبق أن ألقيتُ مثله على طلاب العراق سنة 1356، أي قبل ذلك بسبع سنين، ونشرتُ طرفاً منه في «الرسالة» في عدد 9 جمادى الآخرة سنة 1356، ثم ألقيته على طلاب كلية التربية في مكة سنة 1384 وما بعدها، وطبعوه وكانوا يتداولونه. كرّرته وأعدته، لكنني كنت أبدّل فيه وأُعدّل حتى نضج في ذهني واختمر، وجاء في كتاب «التعريف» خميراً ناضجاً. * * *

أنا أقدَم (أو مِن أقدم) مَن درّس هذه المادة المحدَثة: مادة الثقافة الإسلامية، في دمشق أولاً ثم في مكة. ولم أكن مقيَّداً بمنهج محدَّد لأنه لم يكن أمامي مثل ذلك المنهج، فكنت أبدّل موضوعاتها تبعاً لما أجد من حال الطلاب وحاجتهم إلى ما يُلقى عليهم. والغريب أني وجدت في عدد «المسلمون» الصادر يوم 13 جمادى الآخرة سنة 1406، أي بعد ثلاث وأربعين سنة من شروعي في تدريسها، خبراً بأن اللجنة العليا للدعوة الإسلامية في الأزهر انتهت من إعداد منهج متكامل (يقصدون أنه كامل) للثقافة الإسلامية التي تَقرّر تدريسها في الجامعات المصرية اعتباراً من العام الجامعي المقبل. وشيء آخر أنبّه إليه، هو أنه ليس من عادتي في هذه الذكريات أن أفيض في الكلام على المسائل العلمية ولا أن أضمّنها مباحث أو خلاصة عن هذه المباحث، ولكني خالفت عادتي هذه المرة فتكلمت عن تصنيف العلوم عند علمائنا، لأنني لم أجده مجموعاً في كتاب، بل نقّبت عنه حتى وفّق الله فجمعتُه (¬1)، فهو جزء من عملي لذلك ساغ أن أضمّه إلى ذكرياتي، ثم إنه يُفيد قارئ الجريدة كما يُفيد طالب الجامعة. قلت إن الثقافة تشمل عادات المرء كلها: في شرابه وطعامه، وفي مشيه وقيامه، وفي صوته وكلامه، وفي لبسه وهندامه (¬2). ومن ¬

_ (¬1) سنة 1363، أي قبل ستّ وأربعين سنة. (¬2) الهندام كلمة فصيحة.

الثقافة نظافة الثياب وأناقتها ولو رخص ثمنها، وأن يشرب الماء مصّاً بلا صوت لا يَشرقه شَرقاً، وألاّ يفتح فمه والطعام في فيه، وألاّ يمضغه مضغ الجمل عند الاجترار، وأن يلبس ما يلبس الناس ما لم يكن مخالفاً للشرع لئلاّ يكون موضع سخريتهم أو ازدرائهم، والمسلم يترفّع عن أن يضع نفسه موضع السخرية والازدراء. ولو قرأتم وصف الحياة الاجتماعية أيام العباسيين في الكتب القليلة التي عرضَت لها، ككتب القاضي التنوخي (مثل «الفرج بعد الشدة») وبعض ما كتب الجاحظ، وهو قليل جداً، لرأيتم أن للمائدة عندهم آداباً متّبَعة وأساليب مقرَّرة كالذي عند الإفرنج اليوم، ومنها أن الطعام إما أن يُقدَّم جملة واحدة فيختار الضيف ما يعجبه، أو أن يُقدَّم صنفاً بعد صنف. وكان لكل طعام أسلوب في تناوله، وفي «البخلاء» للجاحظ نقد لمن يأكل أكلة على غير أسلوبها. ووجدتُ أرجوزة في بيان آداب المائدة. ولا تعجبوا منها، فإن أول مَن وضع آداب المائدة هو المعلم الأعظم ‘، حين أمر بغسل اليد قبل الطعام، وقال: «كل بيمينك وكل مما يليك»، وأمر بتصغير اللقم، وألاّ نستعمل أكثر من ثلاثة أصابع، وبيّن ما يؤخذ منه واحدة واحدة وما يؤخذ اثنتان، ووضع لتقديم الشراب قواعد، أولاً لكبير القوم ثم مَن على يمينه، واستعمل السكّين في قطع اللحم، وأحسب أنه لو كانت الملعقة والشوكة في أيامه لغلب على الظنّ أنه يستعملها، لأن الإسلام لا يعارض الأوضاع المدنية ولا ينافي الأعراف الاجتماعية التي ليس فيها مخالفة ظاهرة لشرع الله.

ولكن الثقافة المقصودة ليست في شيء من هذا وإن كان هذا كله معدوداً منها. وهي لا تقتصر على أسلوب المرء في التفكير ولا على مبلغه في العلم، وإن كان ذلك أكبر مظاهرها وأكثر ما يدلّ عليها، لذلك اقتصرتُ هنا عليه، فبدأت دروسي في الكلية الشرعية التي أحدّثكم عنها بالكلام على مصادر الثقافة. مصادر الثقافة: للثقافة أو العلوم مصدران: كسبي وتوقيفي. وعند الكلام على العلم المكتسَب لا بدّ من تصوّر العالِم الذي هو الإنسان، والمعلوم الذي هو الكون، وطريق العلم. ومصادر العلم المكتسَب وطرقه هي الحواسّ والخيال والعقل. فالحواسّ هي منافذ النفس التي تطلّ منها على العالَم الخارجي، والحسّ يُفيد العلم حتماً، فإذا مارى الإنسان فيما يسمع خبره فلا يستطيع أن يماري فيما يراه أو يلمسه. غير أن الحواسّ لا تُطلِعنا على كل شيء في الوجود؛ أنا لا أدرك ببصري نملة تمشي على بعد أميال ولا أسمع لها صوتاً، مع أن لها وجوداً وصوتاً. والحواسّ ربما تُخطئ، كأن ترى بعينك القلم المستقيم الموضوع في الماء منكسراً أو ترى السراب ماء. والحواسّ ليست كاملة، بدليل أنهم اكتشفوا حواسّ غير الخمس المعروفة، كحاسّة البرودة والحرارة، وحسّ التوازن، والحسّ الداخلي. فالحواسّ إذن تُفيد العلم ولكنها لا تُطلعنا على كل الموجودات، فلا يحقّ لنا أن نُنكِر أشياء (كالجنّ أو الملائكة مثلاً) لمجرَّد أننا لا نراها ولا نحسّ بها. ثم يأتي بعد الحواسّ الخيال. والخيال هو القوة التي

تستحضر بها النفس المُحَسّات (أي المحسوسات) عند غيابها، فأنا أستطيع أن أتخيّل داري في دمشق وأنا في مكة، أي أنني أرى بعين الخيال كل ما كنت أراه فيها بعين الحقيقة. والخيال أحد طرق العلم، وإن لم يكن يُفيد العلم وحده، فالرياضي يتخيّل نتيجة المعادلة قبل حلّها، والشاعر يتخيّل القصيدة قبل أن يُتمّ نَظْمها، والعالِم يتخيّل ثمرة البحث قبل أن يكمله. غير أن الخيال له حدود، فنحن لا نستطيع أن نتخيّل إلاّ ما أدركناه أو أدركنا أجزاءه من طريق الحواسّ. وإن أبعد الخيال (كتخيّل رائحة حمراء مثلاً، أو ما يقوله المذيع كل يوم: تسمعون تلاوة عطرة من سورة كذا ...) هذا كله مأخوذ من الواقع، ولكننا وضعنا الرائحة حيث يجب وضع اللون والصوت. لذلك يستحيل أن نتخيّل شيئاً من أمور الآخرة على حقيقته، وهذا مصداق قول ابن عباس: «ما في الدنيا ممّا في الآخرة إلاّ الأسماء». ثم يأتي العقل. والعقل هو القوة المميّزة في الإنسان وهو طريق العلم الصحيح، غير أن العقل لا يستقلّ بإدراك الموجودات كلها لأنه مقيَّد بالزمان والمكان فلا يدرك ما وراء المادّة، ولأن عمله لا يزيد على ترتيب وتحقيق المعلومات التي جاءته من طريق الحواسّ، ولأنه محدود لا يتصوّر غيرَ المحدود (أي اللانهاية)؛ ولذلك يبقى الإنسان على جهل بما وراء المادة حتى يمنحه الله طريقاً آخر للعلم هو «المصدر التوقيفي»، أي طريق الوحي. لا الوحي الذي يفهمه الكتّاب والشعراء ويعنون به الإلهام النفسي، بل الوحي الذي هو نزول الملَك بمعلومات ليست من عند العقل.

هذا المصدر هو المصدر الأهمّ، لا في رأي علمائنا فقط بل في رأي أعلام الفلاسفة الغربيين كديكارت ولايبنتز ودوركايم. وتفصيل هذا كله في كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام» الذي أُلّف وطبع بعد إلقاء هذه الدروس بسنين طويلة (¬1). * * * ثم بحثت في دروسي التي ألقيتها في مادة «الثقافة الإسلامية» في العلم: ما هو وما حقيقته؟ ثم تذكّرت ما درَسناه في شعبة الفلسفة (وقد نلتُ شهادتها سنة 1929) من تصنيفات العلوم لبعض فلاسفة اليونان وبعض أعلام الغرب، فحاولت أن أجد مثلها لعلمائنا. وعكفت على الكتب وحبست نفسي في المكتبة أياماً، فوجدت الكثير، فوضعته إلى جنب ما كنا درسناه في علم المنطق التجريبي وجعلت منه فصلاً طويلاً يصلح أن يُطبع في رسالة أو كُتيّب، ولكني فقدته فضاع. والمنطق التجريبي، أو المنطق العلمي، هو غير المنطق الصوري، منطق أرسطو الذي عُني به علماؤنا وأولَوه ما لا يستحقّ من هذه العناية، وأدخلوه في البلاغة وفي النحو، بل وفي العقائد (أي في علم الكلام) فأفسد كل علم دخل فيه. لمّا بحثت عن أوراقي فلم أجدها سألت عنها من هو في المملكة ممن كان يومئذ من الطلاب، وكلهم الآن من الأساتذة الكبار، فما وجدتها عند أحد منهم. ولو أني تعودت أن أكتب كل ¬

_ (¬1) انظر فصل «قواعد العقائد» في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام»، ومقالة «العقيدة بين العقل والعاطفة» في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

ما أُعِدّه من محاضرات ومن أحاديث ومن دروس، ونشرتها يومئذ في مجلة أو طبعتها في رسالة، لانتفعت بها وانتفع بها الناس. ولكن «لو» تفتح عمل الشيطان. ما وجدت إلا مسوَّدات فيها رؤوس المسائل التي ألقيتها، بل فيها إشارات إلى رؤوس المسائل مكتوبة على عجل، قرأت بعضها ولم أستطع -لسوء الخط- قراءة بعضها وأنا كاتبها! وكثيراً ما يقع لي مثل هذا: أُعِدّ محاضرة أو مقالة علمية، فأكبّ على المراجع وأغرق في صفحات المجلَّدات وبيدي قلم وورق أدوّن ما أجده نافعاً لي في مقالتي أو محاضرتي، أشير إليه ولا أدلّ عليه، أُجمِل ولا أفصّل وألمّح ولا أصرّح، وفي ظني حينئذ أن الإشارة والإجمال والتلميح بلا تصريح يكفي. فإذا مر الزمان وعُدت إليها -كما أعود الآن- لم أستطع أن أحلّ رموزها ولا أن أدرك المُراد منها، فضلاً عن أن أكتفي بها. ولقد أضعت على نفسي وعلى الناس بهذه الخطة الحمقاء مقالات وفصولاً ومباحث لو أنها كُتبت في حينها لكان منها الكثير الطيب. وجدت مسوَّدات أرجو أن تأذنوا لي أن أُثبِتها هنا كما وجدتها. تكلمت أولاً عن العلم: ما هو العلم؟ فوجدت أن العلم بالمعنى اللغوي هو ما يقابل الجهل، وأن العلم بالمعنى الأصولي المنطقي هو الذي يقابل الظنّ، أي أن مراتب الوجود الذهني عند علمائنا ثلاث: «الشكّ»، وهو تَساوي جانبَي الإثبات والنفي. فإن سُئلتَ وأنت في المدينة: هل في القرية مطر؟ قلتَ: لا أدري. لأن احتمال نزول المطر كاحتمال عدمه، وليس لديك دليل لنفيه ولا

لإثباته. فإن لمحت في الأفق من جهة القرية سحاباً رجح عندك جانب الإثبات رجحاناً قليلاً، 55 بالمئة مثلاً، فقلت: «أظنّ» أن فيها مطراً. فإن تراكب السحاب وتراكم واسودّ ولمعت خلاله البروق صار عندك «غلبة الظنّ». فإن ذهبت إلى القرية فرأيت المطر، أو تواتر به إليك الخبر، فهذا هو «العلم». فالعلم هنا بمعنى اليقين، ولذلك قال جمهور العلماء إن حديث الآحاد لا يُفيد العلم ولو صحّ، وإنما يُعمَل به بغلبة الظنّ. وقال أهل الحديث وكثير من فقهاء الحنابلة إنه إن صحّ أفاده. فمن أنكر -على رأي الجمهور- عقيدةً جاءت في حديث آحاد لم نحكم بكفره، لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن الرسول ‘ قاله كما نجزم بأن القرآن هو كلام الله، وإن كان المحدّثون بذلوا من الجهد في تحقيق الأسانيد غاية ما في طاقة البشر. أقسام العلم والعلم بمعنى اليقين قسّمه علماؤنا إلى «علم ضروري»، وهو اليقين الذي يجيء من طريق الحسّ، و «علم نظري»، وهو ما يحتاج إلى دليل. ثم إن عندنا «العلم» الذي يقابل «الفنّ»، ومن هنا قلنا «علم الكيمياء» و «علم النحو»، وقلنا «فنّ التصوير» و «فنّ الإنشاء». والعلم يمتاز من الفنّ بالغاية وبالوسيلة وبالأداة. فالعلم غايته الحقيقة والفنُّ غايته الجمال، والعلم وسيلته المحاكمة والفنّ وسيلته الشعور، والعلم أداته العقل والفنّ أداته العاطفة أو القلب كما يقولون. ومما يلاحَظ أن الأمم كلها قديمها وحديثها تخصّ القلبَ

بالعاطفة والعقلَ بالفكر، ولعلّ منشأ ذلك أن الإنسان الأول كان يجد أنه إذا فكّر أصابه الصداع وإذا رأى الجمال أو هاج به الغرام أحسّ الخفقان، فظنّ أن هذا من ذاك وأن الفكرَ بالعقل والعاطفةَ بالقلب. على أنه إذا أُطلق القلب في القرآن أريدَ به مُطلَق اللبّ، لا هذا القلب المادي الذي يضخّ الدم، فكأن المُراد بالقلب في القرآن الفكر والشعور ولو خصّه بأنه الذي في الصدور، والله أعلم. ومن العلماء المحدَثين مَن يضيّق دائرة العلم حتى لا تتّسع إلاّ للعلوم التجريبية، وليس ذلك بمسلَّم لهم. وكان علماؤنا يفرّقون بين العلم والأدب، فالعلم تخصُّصٌ وتعمُّق في علم واحد، والأدب أخذٌ من كل شيء بطرف؛ فكان معنى كلمة «الأديب» قديماً كمعنى كلمة «المثقَّف فكرياً» الآن. وقد جعل الصوفية العلم عِلمَين: علم الظاهر وعلم الباطن، فجاؤوا فيما سمّوه بعلم الباطن بطامّات وبلايا يُنكِرها العقل ويردّها النقل. تصنيف العلوم أمّا تصنيفات العلوم فهي كثيرة متعددة بتعدّد الأسس التي يمكن بناؤها عليها، فمن العلماء مَن صنّفها تبعاً لحكمها في الشرع كالغزالي تارة، وتبعاً لغير ذلك تارات أخرى. ومنهم من صنّفها باعتبار أصلها كابن خلدون والحفيد (¬1)، ومنهم من صنّفها ¬

_ (¬1) لعله ابن رشد الحفيد، صاحب «بداية المجتهد» في الفقه و «تهافت التهافت» في الفلسفة (الذي ردّ فيه على الغزالي في «تهافت =

بحسب طبيعة موضوعها كطاشْكُبْري زاده، ومن صنّفها بغايتها كأرسطو، أو بالملَكة البشرية المتعلقة بها مثل بيكون ودروكايم، أو بموضوعها مثل مُلاّ كاتب جَلَبي (¬1) وأوغست كونت. والتصنيف يختلف باختلاف الأزمنة، إذ قد تظهر علوم جديدة ويتبدّل محتوى بعض العلوم بازدياد موضوعاتها أو نقصها، أو اندماجها في علوم أخرى. وقد وجدتُ خلال مطالعاتي تصنيفات أخرى كثيرة اخترت منها كالمثال عليها بعض هذه التصنيفات. تصنيف الغزالي: صنّفها الغزالي باعتبار حكمها في الشرع إلى مُهمّة وغير مُهمّة. وقسّم المُهمّة إلى ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، أي أنه فرض على المجموع لا على كل فرد منه فإذا قام به بعض سقط الإثم عن الباقين. وقسّم غير المُهمّة إلى ما هو مُباح وما هو مذموم. وشرح اختلاف العلماء في العلم الذي هو فرض عين في حديث «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وذهب فيه مذهباً وسطاً، وقال بأن العلم المفروض يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأزمنة والأحوال، فمَن أسلم ضُحى من نهار وجب عليه أن يعرف ما يصحّ به إيمانه، فإذا كان ¬

_ = الفلاسفة»)، وهو ليس من المشهورين بالكتابة في هذا الموضوع (أي تصنيف العلوم). ولعل في كتابه «فصل المقال» شيئاً من ذلك، أقوله ظانّاً غير واثق، والله أعلم (مجاهد). (¬1) هو المعروف باسم «حاجي خليفة»، وكتابه الذي صنّف فيه العلوم وعرّف بكتبها تعريفاً بِبْليوغْرافيّاً هو «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» (مجاهد).

الظهر وجب عليه معرفة الوضوء والصلاة، فإن أدركه رمضان وجب عليه معرفة أحكام الصيام، فإن امتلك النصاب وجب عليه معرفة أحكام الزكاة ... ومن أراد زيادة الوقوف على رأيه فليرجع إلى كتبه: «الإحياء» و «فاتحة العلوم» (¬1) وكتاب «ميزان العمل». وقسّم العلوم باعتبار أصلها إلى شرعية وغير شرعية، فغير الشرعية منها ما هو عقليّ كالرياضيات، أو تجريبي كالطب، أو سماعي كاللغة. والشرعية تقسم عنده إلى أصول وفروع ومقدّمات ومتمّمات. تصنيف ابن خلدون: قسّمها إلى «طبيعية» يهتدي إليها الإنسان بفكره، و «نقلية» يأخذها عمّن وضعها. فالطبيعية هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي عامّة لجميع البشر. ويلاحَظ أن الفلسفة على عهد ابن خلدون كانت تنتظم العلومَ كلها، أي أنها كانت لها كالأم الحاضنة للأولاد الصغار، فكلما كبر علم استقلّ عنها، وآخر علم استقلّ (أو كاد) هو علم النفس. وصارت الفلسفة في أيامنا قاصرة على مسائل المغيَّبات (الميتافيزيقا). وقال إن العلوم النقلية مستمَدّة من الخبر إلى الواضع الشرعي، وهي خاصّة بالمسلمين ولا مجال للعقل فيها إلاّ في إلحاق الفروع بالأصول، وأصلها الكتاب والسنة. تصنيف ابن النديم: أمّا ابن النديم المتوفّى سنة 385 صاحب «الفهرست» فليس له تصنيف كامل للعلوم، وإنما يُستنبَط من كتابه ¬

_ (¬1) ورد باسم «فاتحة العيون» في الطبعات السابقة من الذكريات، وهو خطأ صوابه ما أثبتُّه هنا (مجاهد).

الذي جعله عشرة فصول (أو عشر مقالات كما سمّاها) وجعل كل طائفة من العلوم في مقالة منها، وتكلّم عن لغات الأمم وخصائصها، ثم عن كتب الشرائع المنزلة، ثم النحو واللغة، ثم التاريخ، ثم الشعر، ثم علم الكلام، ثم الفقه والحديث، ثم الفلسفة والعلوم القديمة، ثم الأسمار والخرافات والسحر والشعوذة، ثم المذاهب والاعتقادات (انظر مقدّمة الفهرست). تصنيف شمس الدين السنجاري المتوفى سنة 749: قسّم العلوم إلى مقصودة في ذاتها ومقصودة لغيرها. فالأولى هي العلوم الحكمية، وهي عنده إما نظرية كالفلسفة والطبيعيات والهندسة، وإما عملية كالسياسة والأخلاق وتدبير المنزل. والثانية علوم الأدب، فهي عشرة: اللغة والتصريف والمعاني والبيان والبديع والعَروض والقوافي والنحو والخط والقراءة. ثم العلوم الشرعية وهي ثمانية: القراءات ورواية الحديث ودرايته والتفسير وأصول الدين وأصول الفقه والجدل وعلم الخلاف. ثم العلوم العقلية وهي الطب والبيطرة والبيزرة (وهو طب البُزاة، وقد كتبت عنه في مجلة الرسالة من أكثر من خمسين سنة (¬1)) والفراسة وتعبير الرؤيا (والحقيقة أن تعبير الرؤيا ليس بعلم) والنجوم والسحر والطلّسْمات (وهذه كلها ليست من العلوم) والكيمياء والسيمياء ¬

_ (¬1) في مقالة عنوانها «كتاب في البَيْزَرة»، نُشرت في «الرسالة» سنة 1935، وفي مطلعها أنها وصف لنسخة فريدة من كتاب مفقود في هذا العلم. وهي ضمن مجموعة من المقالات جمعتها لتصدر في كتاب جعلت عنوانه «فصول في الثقافة والأدب»، وأرجو أن يصدر غيرَ بعيد بإذن الله (مجاهد).

والفلاحة والمرايا المحرقة والمساحة والمياه (راجع كتابه «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد»). تصنيف طاشْكُبْري زاده: قال في كتابه العظيم «مفتاح السعادة» إن الأشياء لها وجود في أربع: في الكتابة، وفي الألفاظ، وفي الأذهان، وفي الأعيان (وأقول أنا إن هذا التقسيم مأخوذ من الغزالي في كتابه «المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»). وصنّف طاشكبري زاده العلوم تبعاً لذلك، فجعل من القسم الأول الكتابة وعلم الخط والإملاء. ومن الثاني اللغة وعلم الوضع (أقول: وقد كان يُدرَّس على أيامنا ثم أهملَته المدارس) والاشتقاق والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعَروض والقافية والإنشاء وقرض الشعر والشروط والسجلاّت والأحاجي (أي الفوازير) والأغلوطات والتاريخ والمغازي. ومن الثالث المنطق والجدل والمناظرة والخلاف (وهو ما نسمّيه اليوم «الفقه المقارن»). وقسّم الرابع إلى: «إلهيّ» ومنه علم النفس (وهو غير ما ندرسه باسم السيكُلوجي) وعلم المَعاد (أي الآخرة) ومقالات الفِرَق. و «رياضيّ»، كالعدد (أي الحساب) والهندسة والهيئة (أي علم الفلك) والموسيقى. و «طبيعي»، وهو الطب والبيطرة والبيزرة والنبات والحيوان والفِلاحة (أي الزراعة) والمعادن والفراسة وتعبير الرؤيا والنجوم والسحر (وهذه ليست علوماً) والكيمياء والكحالة (أي طب العيون) والصيدلة والجراحة.

وقد جمعتُ تصنيفات أُخَر، ولكنني أجتزئ هنا بالذي كتبته وأعتذر إلى القارئ بأنني جعلت هذه الحلقة من الذكريات بحثاً علمياً قد ينفع ولكنه لا يمتع. * * * إن لذكرياتي في الكلية الشرعية صفحات أربعاً: صفحة تدريسي فيها. وقد درّست الثقافة الإسلامية كما بيّنت لكم، ثم درّست لطلاب القسم العالي في الكلية لمّا أُنشئ الجزءَ الثاني من أمالي القالي. وصفحة عملي في رياسة مجلس العمدة، الذي كان المرجع الأعلى للكلّيات الشرعية (أو الثانويات الشرعية كما سُمّيت بعدُ) في سوريا كلها. والثالثة أنهم لمّا وحّدوا المدرستين، كليتنا هذه ومعهد العلوم الشرعية الذي أنشأته الجمعية الغرّاء، كنت رئيس هذه العمدة الموحَّدة بحكم كوني القاضي الممتاز في دمشق، أي لوظيفتي الرسمية لا لعلمي ولا لفضلي. وصفحة رابعة هي لمّا كلّفني السرّاج (وزير الأوقاف أيام الوحدة مع مصر) بوضع مناهج الكليات الشرعية، فوضعتُها كلها وحدي بعد أن استشرت علماء الشام وحاورتهم، ثم ذهبت إلى مصر وقابلت الشيخ شلتوت شيخ الأزهر، الذي عرفته قديماً في مجلس الشيخ عبد المجيد سليم وفي إدارة «الرسالة» وشرّفني حقاً بصداقته، وإن أنكرتُ عليه ما ذهب إليه في آخر عمره -رحمه

الله- في مسألة الربا. قابلت الشيخ شلتوت والدكتور البهي وفريقاً من علماء الأزهر، ثم وضعت هذه المناهج التي تسير عليها المدارس الشرعية اليوم. ولكل واحدة من هذه الصفحات الأربع قصة أرجو أن أوفَّق إلى روايتها إن شاء الله. وسأكتب إن وفّق الله عمّن عرفت من الرجال في الكلية؛ أروي أخبارهم وألخّص سِيَرهم، وفي بعض أخبارهم ما يُفيد وفي بعضها ما يسرّ ويسلّي. * * *

في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

-189 - في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية أحاول في هذه الذكريات ألاّ أقصر القول على ما كان مني أو ما وقع لي، بل أن أضمّنها شيئاً من الأدب يلذّ ويمتع أو قليلاً من العلم يفيد وينفع. وقد تعلّمت هذا الأسلوب من الإمام السبكي في «طبقات الشافعية»، فإنه إن ذكر مناظرة بين عالِمين لخّصها وبيّن وجهة كل منهما، وإن عرض لذكر مسألة عرّف بها ولم يكتفِ بالإشارة إليها؛ كما صنع عند الكلام عن محنة خَلق القرآن وموقف الإمام أحمد منها، فقد فصّل القول فيها -على بُعد عهده من عهدها- فكان كتابه أوفى مرجع للباحث فيها، وامتاز من كتب التراجم الكثيرة جداً بأنه كان كتاب علم وأدب فوق أنه كتاب تاريخ وخبر. وما أنا مثله ولكن أتشبّه به: فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهمْ ... إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ وكان ذلك مزيّة لذكرياتي عند قوم من القراء، كما كان عيباً عند آخرين يأخذونه عليّ، كما يأخذون عليّ أني أشرع في موضوع ثم أنتقل عنه إلى غيره قبل أن أحيط بخبره، ثم أعود إليه. وهذه سنّة الحياة. والذين يكتبون القصص التي يدعونها

«واقعية» لا يروون حوادثها كما وقعت، بل يجمعون الشيء إلى ما يماثله ويقاربه، فيكون من هذه الأشباه والنظائر ما يُظَنّ واقعاً. وما وقع (¬1)؛ ما وقع ولكن وقعَت أجزاؤه متناثرة، فجمعها الكاتب فنظمها في سلك فكانت قصة واقعية. ولعلّي عندما أعيد طبع الذكريات (التي صدر منها جزءان، وجزءان على الطريق قد صدرا ولم يصلا، وثلاثة مُعَدّة للطبع، ولا أزال فيها كلها قبل أكثر من أربعين سنة من يوم الناس هذا) لعلّي حين أُعيد طبعها أبدّل تنسيقها وترتيبها، أو تتولّى ذلك إحدى بناتي أو بعض أحفادي بعد موتي (¬2). * * * أبدأ هذه الحلقة بإنذار، لا أُنذِركم خطراً محقَّقاً ولكن مللاً متوقَّعاً وسآمة وضيقاً؛ ذلك أن هذه الحلقة جاءت أيضاً علمية فقهية. إنها كطعام كله لحم ودهن وبروتينات ومغذِّيات، ولكن ليس معه ¬

_ (¬1) ما هنا نافية، ليست موصولة كالتي قبلها (مجاهد). (¬2) صنعت ذلك، فاستللت من الكتاب ذكريات علي الطنطاوي مرتَّبة متسلسلة، لكنني فقدت عندئذ جزءاً كبيراً من مادة «الذكريات» المنشورة لأنني وجدته بعيداً عن الذكريات الحقيقية (كهذه الحلقة والتي قبلها مثلاً). ثم إنني أضفت إلى هذه «الذكريات» الجديدة ما يكمّلها، مما استخرجته من بطون بعض الكتب المنشورة الأخرى أو من مادة مخطوطة، بعضها لم يُنشَر من قبل قط وبعضها نُشِر في بعض الصحف ولم يضمّه أي من الكتب المنشورة، ومن ذلك كله جاء كتاب كبير سمّيته «قصة حياة علي الطنطاوي بقلمه»، ولا أدري أيُنشَر هذا الكتاب ذات يوم أم يبقى حبيس الأدراج (مجاهد).

أبازير ولا مشهّيات، فمَن صبر عليه استفاد إن شاء الله منه، ومن لا يصبر فليبتعد عنه وسيجد العوض في الحلقات المقبلات. الفقه الإسلامي -يا أيها القراء- شيء عظيم ليس لأمّة في الدنيا مثله، لا أمس ولا اليوم. ولقد كان لروما قوانين وأبحاث حقوقية مدوَّنة، وفي الدنيا اليوم كلّيات حقوق وعلماء في الشرع (ولا تقُل في التشريع)، وفيه كتب لا تُحصى، ومحاكم فيها قضاة وفيها محامون علوا في منازل السموّ الفكري البشري، وتعمّقوا في البحوث وغاصوا فيها حتى استخرجوا الجواهر من أعماق الفكر ومن زوايا المجتمع ومن خفايا الضمائر. ولكن ذلك كله لا يشبه الفقه الإسلامي ولا يقاربه. هذا كله للصلات المالية والحقوقية المادّية بين الناس. وإذا قلنا «الفقه الروماني» أو «الحقوق الرومانية» أو قلنا «الفقه القانوني الحديث» فإنما نقوله على نوع من التجوّز الواسع والتشابه البعيد؛ فالفقه الروماني والحديث غايته أن يكون موافقاً للقانون ليكون صواباً، والمؤيِّد له: الشُّرطي والضمير البشري، والشرطي قد يغيب فلا يَرى والضمير قد يغفل فلا يراقب. ومؤيِّد الفقه الإسلامي خوفُ الله الذي لا يغفل ولا يغيب ولا يخفى عليه شيء مما تصنع الجوارح وما يعتلج في القلوب والأفكار. والفقه الإسلامي يشمل العبادات والمعاملات والمناكحات وأحكام الجنايات والعقوبات، أي أنه يبيّن لنا كيف تكون علاقة المرء بربّه وبأهله وبمن يعامله ومن يعيش معه؛ فهو دين بالمعنى الذي يفهمه غير المسلمين من كلمة الدين، وهو قانون مدني،

وقانون للأحوال الشخصية، وقانون للجنايات، وقانون إداري، ثم إنه -فوق ذلك- أخلاق. وهذا كله صار اليوم معروفاً وصار القول فيه من الكلام المُعاد، ولكنه لم يكن كذلك من نحو ستين سنة لمّا أصدرتُ رسائل الإصلاح سنة 1348هـ، التي كانت أول ما نشرتُ من الكتب، والتي أحمد الله على أن جعلني فيها من أوائل من عرّف من الشبان في هذا العصر بهذا الذي صار اليوم معروفاً، ومن أوائل من نشره في الناس بوسائل النشر الحديثة مكتوباً بالأسلوب الذي يفهمونه. وإن دار المنارة في جدة تستحثّني الآن على أن أكتب مثل تلك الرسائل وأجدّدها لأصل بها ما انقطع من نحو ستين سنة. ومباحث الفقه منها ما يهمّ طائفة من الناس كالمعاملات المالية، ومنها ما يهتمّون به جميعاً ويحتاجون إلى معرفته جميعاً كأحكام العبادات: الصلاة والزكاة والحجّ (أعني كيفية أدائها لا تفصيل أحكامها) وأحكام الأحوال الشخصية الإجمالية، لأنها تعرض لكل زوج وزوجة وكل عازم على الزواج من الرجال ومن النساء. لذلك جعلتُ هذه الحلقة للكلام عن الأحوال الشخصية والقانون الذي وضعتُ مشروعه، كما هو مصرَّح به في مذكّرته الإيضاحية التي تُعتبَر جزءاً منه، والذي كان أولَ قانون جامع للأحوال الشخصية في البلاد العربية، صدر سنة 1953 (1372هـ) ولا يزال العمل به في الشام إلى الآن. وفي كل كتاب من كتب الفقه بيان أحكام الزواج والطلاق

والمخالعة والتفريق والعدّة والنفقات والنسب والحضانة والرضاعة وأحكام الأولياء والأوصياء وأحكام الوصايا والمواريث، ولكن لم يكن يجمعها هذا الاسم المحدَث، اسم «الأحوال الشخصية». وكان المشايخ يقرؤونها ويُقرئونها تلاميذهم، لكنهم يقتصرون غالباً على الكتب المتأخرة التي تبيّن الحكم ولا تذكر دليله، أي أنها كانت كنصوص القوانين. وكانوا يُقبِلون عليها ويحيطون بما فيها ويحفظونه، وقد سلك بعض لِداتي وإخواني هذا الطريق فكانوا فقهاء فقه رواية وإحاطة بالمذهب، وبعضٌ سلك طريق الدراسة الحديثة في المدارس وعرف كثيراً من الجديد الذي لم يكن يعرفه المشايخ، وإن كان قد جهل كثيراً مما كانوا يعرفون. وقدّر الله لي أن أسلك الطريقين، من غير أن أتمكّن من إحدى الحسنيَين، فلم أستوعب فروع الفقه ولم أحفظها كما استوعبها وحفظها إخواننا هؤلاء، ولم أُحِط بالجديد مثل إحاطة الآخرين، ولكن لم أهبط إلى الدرك الذي قيل في صاحبه: هوَ في الفقهِ شاعرٌ لا يُبارى ... وهْوَ في الشعرِ أفقهُ الفقهاءِ لا إلى هؤلاءِ -إن نسبوهُ- ... وجدُوهُ، ولا إلى هؤلاءِ لا، لم أصل إلى هذا. ولماذا أنسى فضل الله عليّ فأُنكِر ما كرّمني به؟ ولماذا لا أحمده على أن وفّقني فأخذت حظاً من الفقه وحظاً من الأدب؟ أنا لا أتواضع حتى أسلب نفسي حقّها ولا أستكبر حتى أدّعي لها ما ليس فيها.

أقول إني قرأت من الفقه على المشايخ أكثر ما كانوا يُقرؤون، وإن لم أقرأ كل ما قرؤوا. وفهمت والحمد لله كل ما قرأت وحفظته، ورُبّ قارئ لا يفهم وفاهم لا يحفظ. قرأت ما يُدعى اليوم بالأحوال الشخصية في كتب الفقه على أبي وأنا صغير مع تلاميذه الكبار، فلما مات من ثلاث وستين سنة (أي سنة 1343هـ، وكنت أناهز السابعة عشرة) وذهبوا يقرؤون على الفقيه الكبير المفتي الشيخ عطا الكَسْم ذهبت معهم، فحضرت أكثر «فتح القدير» لابن الهُمام، وقرأت على جماعة من المشايخ كشيخنا الشيخ أبي الخير الميداني وغيره رحمة الله عليهم جميعاً. ولكن جلّ انتفاعي كان بمجالسة العلماء والرجوع إلى الكتب، فما أسمعه منهم يُنقَش في ذهني فلا أنساه (وهذه المنّة من الله باقية عندي إلى الآن) وإن سمعت باسم كتاب أو قرأت شيئاً منقولاً عنه أو معزوّاً إليه بحثتُ عنه حتى وجدته فقرأته. وقد اطّلعت على مذهب أحمد لمّا طبع ولدي الفاضل النابغة الأستاذ زهير الشاويش كتبَه كلها بأمر الشيخ علي آل ثاني رحمه الله وعلى نفقته، واستفدت من إدمان النظر في كتب الفقه غير المذهبي مثل «نيل الأوطار» و «سبل السلام» و «فتح الباري»، واستفدت الفائدة الكبرى من مجموع الفتاوى لابن تيمية رحمه الله وجزاه خيراً وجزى مَن جمعها ومن طبعها. وكان مكتب عنبر هو الثانوية الرسمية الوحيدة في دمشق، وإن كان فيها ثانويات أكثر أهلية ونصرانية. وكان عندنا في المكتب دروس في الفقه، وستعجبون إن علمتم أن كتاب «مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح» كان مقرَّراً تدريسُه والامتحان فيه لتلاميذ

الصف السابع، أي السنة الأولى من المدرسة المتوسطة! وهو كتاب مُغلَق الأسلوب صعب الفهم كثير التفريعات والاستطرادات، وربما يعسر فهمه اليوم على بعض المدرّسين. وبعد ذلك بسنتين (أي في سنة شهادة «الكفاية» التي يسمّيها الناس «الكفاءة») كان مقرَّراً علينا كتاب «الأحكام الشرعية» لقدري باشا، الوزير المصري الفقيه المتمكّن. وهو كتاب جامع لأحكام الأحوال الشخصية في المذهب الحنفي، يأخذ بأصحّ الأقوال في المذهب. ولا يستطيع كل من تفقّه أن يختار الأصحّ عند تعدُّد الأقوال، ولا كان ذلك بالأمر السهل، بل إن عندنا علماً ألّف فيه ابن عابدين إحدى رسائله، هو علم «رسم المفتي» الذي يعلّم قارئه كيف يميّز القول الأصحّ والقول الصحيح عند ازدحام الأقوال. وكان يدرّسه لنا الشيخ عبد القادر المبارك. وما عرفت بين أساتذتي في الدراسة وبين زملائي في التدريس أقدرَ منه على الشرح والإيضاح؛ يرفع صوته ويخفضه، ويبدّل لهجته وإيقاعه، ويشير بيديه ويمثّل بوجهه، ويكتب بالخط الثُّلُث على اللوح الأسود، ويضرب الأمثال، فلا نخرج من الفصل ولا تمرّ الساعة حتى تُنقَش المعلومات على ظهور قلوبنا نقشَ الإزميل الحادّ على الصخر فلا تُمحى أبداً. وكنا نرجع بعد الدرس وأحياناً قبله إلى الشروح والحواشي، كحاشية ابن عابدين، والفتاوى الهندية العالِمْكيرية التي أمر بوضعها وشارك في تأليفها إمبراطور الهند المسلم الذي حكم

شبه الجزيرة كلها، أورانك زيب عالمكير، وانظر الكلام عنه في كتابي «رجال من التاريخ» (¬1). وكنا نضيع بين التفريعات الكثيرة جداً، ما وقع من أحداثها وما تصوّر الفقهاءُ وقوعَه ليبيّنوا للناس الحكم فيه. وهذا الذي نقدتُه في رسائل الإصلاح التي كانت أول ما نشرتُ من كتب وقد سبق الكلام عنها. * * * وأشير هنا إلى أمر فيه فائدة للقارئ، تنبّهتُ إليه لمّا كنت مشغولاً بوضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي عقدت هذه الحلقة للحديث عنه؛ هو أن أكثر المذاهب تفريعاً المذهبُ الحنفي، ثم المذهب المالكي، ثم الشافعي، ثم الحنبلي. وقد علّلت ذلك بأن المذهب الذي تتخذه الدولة مذهباً رسمياً لها: الفتوى عليه والقضاء وفق أحكامه، تكثر فروعه لأنه يواجه مشكلات الناس. والمذهب الذي صار شبه رسمي للدولة العباسية -منذ تولّى الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة منصب قاضي القضاة، وهو بمثابة منصب وزير العدل أو رئيس مجلس القضاء الأعلى اليوم- ثم غدا المذهب الرسمي للدولة العثمانية هو المذهب الحنفي. ¬

_ (¬1) انظر مقالة «بقية الخلفاء الراشدين» في كتاب «رجال من التاريخ»، وفيها أن أورانك زيب ألّف كتاباً في الحديث وشرحِه وترجَمَه إلى الفارسية، وأمر بوضع الفتاوى التي نُسِبت إليه فسُمّيت «الفتاوى العالمكيرية» وأشرف عليها وشارك فيها. قال: "وهي من أشهر كتب الأحكام في الفقه الإسلامي وأجودها ترتيباً وتصنيفاً" (مجاهد).

والمذهب المالكي صار مذهب الدولة في الشمال الإفريقي كله من الزمن القديم إلى الآن. والمذهب الشافعي لا أعرف أنه صار مذهباً رسمياً إلاّ في عهد الأيوبيين، ولمّا جعل الملك الظاهر المذاهب الأربعة رسمية وأنشأ لكل واحد منها محاكم يتولاها قضاة يحكمون به، وصار لها في المدارس -على أيامه وبعده- فروع، كالذي ترونه في مدرسة السلطان حسن في القاهرة في أواوينها الأربعة وفي أروقة الأزهر وغيره من المدارس. أما المذهب الحنبلي فلا أعرف أنه صار مذهباً رسمياً للإفتاء والقضاء، أو كالمذهب الرسمي، إلاّ بعد قيام الدولة السعودية. وإن كان القضاة والمفتون هنا لا يلتزمون بالمذهب الحنبلي بل يبحثون عن الدليل الصحيح، فحيثما وقفوا عليه وقفوا عنده وأفتوا به (¬1). ¬

_ (¬1) يقسّمون الفقهاء إلى أصحاب الرأي وأهل الحديث. وليس المراد الرأي المجرَّد، فالرأي وحده لا يُعتبر دليلاً شرعياً، والدليل قول الله وما صحّ من قول رسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن أهل الرأي ينظرون -كما يُقال اليوم- إلى مقصد الشارع، وأهل الحديث يقفون عند حرفية النص أو قريباً منها. وبعبارة أخرى: إن أصحاب الرأي يأخذون بالأدلّة مجتمعة ويفهمونها معاً، فإن وجدوها تجتمع على شيء جعلوه قاعدة، فإن ورد حديث على خلافها قلّبوا الوجوه في فهمه حتى يوافق القاعدة المستنبَطة من مجموع الأدلة. والآخرون يأخذون به ولو خالف القاعدة، أي ولو جاء على خلاف القياس. وهاكم حديث المُصرّاة مثلاً، وهي الدابّة (الشاة مثلاً) التي يُربَط ضرعها حتى يجتمع فيه اللبن فيحسبها المشتري كثيرة الحلب، فإذا حلبها رجع ضرعها إلى ما كان عليه. لقد رُفعت هذه القضية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على المشتري الذي يريد ردّها بعد حلبها بأن يردّها =

فلما دخلت كلية الحقوق كان يدرّس لنا الأحوالَ الشخصية الشيخُ أبو اليسر عابدين، وهو عالِم واسع الاطّلاع عالي الهمّة كان يعيش للعلم، يقرأ ويُقرئ نهاره وليله، يكتب كل ما يجد في الكتب من غرائب المسائل، في الفقه وفي الاجتماع وفي الأدب وفي التاريخ، ويدوّن كل ما يخطر على باله مما ينفع الناس. ولم تكن العوائق لتعوقه عن طلب العلم مهما طال الطريق وتوعّرت المسالك؛ أراد -وهو كبير- أن يدرس الطب فاقتضاه ذلك تعلّم اللغة الفرنسية، فتعلّمها ودخل كلية الطب مع تلاميذه ومَن هم في سنّ أبنائه، وثبت على الدراسة فيها حتى خرج منها طبيباً. وكانت له عيادة يطبّب فيها المرضى كما كان يُفتي المستفتين، ثم صار مفتي الشام، أي مفتي الجمهورية السورية. وكان أبوه من قبله

_ = وصاعاً من تمر (وأنا أكتب الحديث من حفظي لم أراجعه). فهل يكون الصاع من التمر بدلاً دائماً للحليب، أم أن المشتري حين جاز له ردّها كان عليه أن يردّها على الحالة التي كانت عليها، وقد أخذ الحليب بغير حقّ، فكان هذا بدله (أي ما يعادله)؟ فقال أصحاب الرأي بأن عليه ما يعدل ثمن الحليب، والرسول صلى الله عليه وسلم حدّد الصاع من التمر لأنه كان يومئذ معادلاً لِما حلبه. وقال الآخرون: بل الصاع هو الواجب عليه في كل حال. في هذا وأمثاله نجد المذهب الحنفي والمذهب المالكي يتفقان، كاتفاق الشافعي والحنبلي. ومن تتبّع فروع المذاهب وجد أمثلة كثيرة على هذا، فلماذا عدّوا مالكاً على رأس أهل الحديث مع أنه أقرب إلى أهل الرأي؟ هذا ما عجبتُ منه ولم أفهمه، بل إنني كلما زاد اطلاعي على فروع المذهبَين وجدت مالكاً أقرب إلى أصحاب الرأي، فما قول السادة العلماء؟

الشيخ أبو الخير مفتي الشام، وعمّ أبيه هو صاحب الحاشية ابن عابدين، أفقه حنفي ظهر من نحو مئة وخمسين سنة. كان يُقرئنا الأحكامَ على المذهب الحنفي من كتاب الأحكام الشرعية لقدري باشا، الذي ألّفه نحو سنة 1328هـ وصاغه على أسلوب القوانين، مادّة بعد مادّة، صياغة عربية صحيحة فصيحة (لا كصياغة القوانين التي أخذناها من غيرنا فما وُفِّقنا في اختيار أحكامها ولا في أسلوبها ورصف كلامها) وضمّنها أصحَّ الأقوال في المذهب الحنفي. وكان الشيخ أبو اليسر مُحيطاً بالمذهب الحنفي إحاطة عجيبة مطّلعاً على كتبه كلها، ولولا أنني عرفته بملازمتي إياه سنين طوالاً لشككت إن حدّثني محدّثٌ بما أعرفه عنه. ولقد أرسلَت إليّ إحدى المكتبات العامّة هنا من سنين صورة عن كراس مخطوط في الفقه ما له عنوان وما عليه اسم المؤلف ولا تاريخ النسخ، فلم أعرفه، فكلمتُ شيخَنا بالهاتف من مكة وتلوت عليه فقرات من الكتاب، فعرفه وسمّى مؤلّفه! ثم تحققت أن ما قاله الشيخ هو الصحيح. ولكن عيبه (وما خلا من العيوب إلاّ ملَك مقرَّب أو نبيّ مُرسَل، أو عبد من عباد الله المخلَصين) عيبه أنه كان يختار لنا ونحن طلاّب في كلية الحقوق نقولاً من أغرب كتب المذهب وأقلّها ذيوعاً وأكثرها تعقيداً، لنَأْلف -كما يقول- أسلوبها، ولا سيما في أصول الفقه. ولست أكتمكم أني خرجت من كلية الحقوق وأنا لم أستوعب علم الأصول، حتى قرأته في كتاب الشيخ محمد الخضري أولاً ثم في كتاب الشيخ عبد الوهاب خلاّف ثانياً، ثم درسته على أستاذنا الأديب اللغوي الأستاذ سليم

الجندي. ثم رأيت أن أقرب الطرق إلى إتقان علم هو أن تعلّمه الطلاب، فجمعت في سنين متتاليات كثيراً من مدرّسي الدين في المدارس الرسمية، وبينهم علماء أفاضل، فدرسته معهم ووزعنا كتبه بيننا حتى وفق الله ففهمته. ثم قرأنا في كلية الحقوق قرار حقوق العائلة، وهو القانون الذي كان معمولاً به في المحاكم الشرعية أيام العثمانيين واستمرّ العمل به إلى أن وفّق الله فصدر قانون الأحوال الشخصية سنة 1373هـ (1953). وقرارُ حقوق العائلة أصدرته الدولة العثمانية سنة 1336هـ وأخذَت غالب أحكامه من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد انصرفتُ وأنا طالب في الحقوق سنة 1350هـ إلى المقابلة بين أحكام المذهب وبين هذا القرار، وأحصيت المسائل التي وردَت فيه مخالفة للمذهب فبلغَت سبع عشرة مسألة، أكثرها اعتمد على بقية المذاهب الأربعة فلم يكن عليه اعتراض. وجاء فيها ما يخالف المذاهب كلها وما لم يقُل به فقيه من الفقهاء، بل ما يخالف السنّة الثابتة وصريح القرآن، وهو اعتبار زواج مَن كانت دون التاسعة من العمر زواجاً فاسداً. وقد زعم واضعو هذا القانون أنهم استندوا إلى قول لابن أبي ليلى الذي كان معاصراً لأبي حنيفة. ولم تصحّ نسبة هذا القول إليه، ولو صحّت لما التُفت إليه ولما عُوّل عليه، لأنه مخالف للدليل القطعي وهو كتاب الله وما صحّ من سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومخالف لإجماع المسلمين الذين اتفقوا على أن للأب أن يزوّج ابنته الصغيرة مهما كانت سنّها، ومخالف لصريح القرآن في قوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ منَ المَحيضِ مِن نِسائِكُم

إنِ ارْتَبْتُمْ فعِدّتُهُنَّ ثَلاثةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ}. ويكون عقد رسول الله عليه الصلاة والسلام على الصدّيقة بنت الصدّيق عقداً فاسداً بموجب هذا القانون الأحمق، لأنه عليه الصلاة والسلام عقد عليها وهي بنت سبع سنين! ولطالما حملتُ على هذا القانون بقلمي ولساني أكتب فيه وأخطب وأحاضر، حتى وفق الله فصدر القانون الجديد خالياً منه. * * * أنا إلى هنا كالمحارب الذي يتعلّم رسم الخطط وأساليب الهجوم والدفاع، يقرؤها في الكتب ويسمعها من المدرّسين، لم يخُض المعارك ولم يواجه العدوّ، يقاتل بالمنظار من فوق الجبل. فلما وليتُ القضاء نزلت إلى ميدان المعركة وواجهت مشكلات الناس، فوجدت حقاً ما قيل من قديم من أن النصوص -مهما كَثُرَت وطالت- محدودة ووقائع الحياة لا حدّ لها، والشريعة القويمة التي تصلح لكل زمان ومكان هي التي يكون في عموم نصوصها المحدودة وشمولها مبادئُ يُستنبَط منها حكم كل واقعة من الوقائع التي لا تُحَدّ. وهذا هو شأن الإسلام. وكنت أجتهد رأيي في هذه الوقائع فأجد في الإسلام حلّ كل عقدة ودواء كل داء، ولكن يحول بيني وبين الحلّ ويمنعني من الوصول إلى الدواء القانونُ الذي أوجبوا علينا الحكم به، أو المذهب الذي ألزمونا الاقتصار عليه. فكنت أبعث بالرسائل تترا (¬1) ¬

_ (¬1) تترا أي متواترة، اسمٌ يظنّها كثير من الناس فعلاً من الأفعال، في مثل قوله تعالى: {ثمَّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا}، وما هي بفعل.

إلى وزارة العدل، أضمّنها اقتراحات أرجو العمل بها أو تعديلات للقوانين أطلب تحقيقها، أو أحكاماً في المذاهب الثلاثة أقوى دليلاً من الحكم في المذهب الحنفي وأرفق بالناس وأضمن للمصلحة، استأذن بالعدول إليها. حتى إذا كثر ذلك مني بدأت الوزارة تفكّر بجمع هذه المقترَحات وبأن تضمّنها مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية. وسألخّص إن شاء الله في الحلقة الآتية مراحل وضع هذا المشروع. * * *

كيف وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية؟

-190 - كيف وُضع مشروع قانون الأحوال الشخصية؟ كان في قديم الزمان في بلد من البلدان شعب برع في صناعة الأدوية والعقاقير التي تداوي كل مرض يُصيب الجسد أو يعتري النفس، وكان عندهم العناصر (أي الموادّ الأولى) التي يتركب منها الدواء، وعندهم كتاب قديم عظيم يُرشِدهم إلى طريق ترتيبها، فلم يبقَ لدى ذلك الشعب داء إلاّ له دواء. وكانوا يجمعون ما يصنعون من هذه الأدوية في صيدليات مبثوثة في كل مكان، يجدها كل من احتاج إليها، ثم صارت الصيدليات شركات ومؤسسات قوية بمالها وبكثرة أعضائها، فاستولت على السوق وصرفت الناس عن الصيدليات الصِّغار. ثم ظهر الدُّخلاء على صناعة الدواء، وكَثُرَ فيها الأدعياء ممّن حاولها من غير أن يقرأ كتابها أو قرأه ولكن لم يفهمه لأنه لم يفهم اللسان الذي كُتب به، فمَنعوا (ولست أدري مَن الذي منع) الناسَ من صنع دواء جديد واقتصروا على ما صُنع من قبل، ثم بالغوا فحصروا تجارة الأدوية بهذه الشركات والمؤسسات ومنعوا ارتياد الصيدليات التي يملكها آحاد، ثم بالغوا في التضييق على الناس وحصروا التجارة في

شركات أربع، وألزموا كل واحد من الناس بأن يكون من زبائن واحدة منها لا يجاوزها إلى غيرها، ولو كان الذي يطلبه مفقوداً فيها وموجوداً في التي تليها. هذا مَثَل المسلمين في القرون السبعة الماضية، من أول القرن السابع الهجري إلى أوائل الرابع عشر. أما الأدوية والعقاقير فهي أحكام الإسلام التي تصلح لكل زمان ومكان، بل تُصلِح هي فسادَ كل زمان ومكان وترفع أهلَه إلى المُثُل العليا وتجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً سليماً نظيفاً خيّراً، كما كان أول مرة على عهد الصحابة، العهد الذي تحققَت فيه (أو كادت تتحقق) آمال الفلاسفة والمصلحين في المجتمع المثالي. وأمّا صناعة الأدوية فهي «الاجتهاد». وأمّا الكتاب الذي يرشد إليها ويدلّ عليها فهو القرآن والسنّة المُبيِّنة له، التي تفصل مُجمَله وتجلو مقاصده. وأمّا الصيدليات الأربع فهي المذاهب الأربعة، أما الصيدليات التي أعرض الناس عنها ولم يعودوا يقفون عليها فهي مذاهب الأئمة السابقين. وقد كان في عصر كل من الأربعة وكان قبلَه مَن هو مثله ومَن هو أعلم منه، ولكنْ نُسِيَ مذهبه على حين دُوّنت مذاهب الأربعة وحُفظت. وحسبكم شاهداً واحداً على هذا هو الشافعي، ألا تقبلون شهادة الإمام الشافعي؟ إنه يقول: الليث (ابن سعد) أفقه من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا به (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر الخضري في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» أمثلة على ما سمّاه «المذاهب البائدة»، فمنها مذهب الليثبن سعد هذا في مصر، =

وأول الأربعة وأقدمهم زماناً وأسبقهم إلى الصناعة الفقهية الخالصة هو أبو حنيفة، وتلميذُه الإمام محمد هو أول من صنّف في الفقه. و «الموطّأ» كان قبله، ولكنه لم يكن فقهاً خالصاً بل كان -على علوّ شأنه وجلالة قدره- كتاب رواية واستنباط، أي كتاب حديث وفقه. ولمّا قدم أسدبن الفرات من تونس قرأ الموطّأ على مالك، ثم ذهب إلى العراق فقرأ على محمد كتبه، ثم دوّن مسائل مالك على أسلوبها، فكان من ذلك «المدوَّنة» التي صارت عماد مذهب مالك (واقرأ تفصيل هذا الخبر في كتابي «رجال من التاريخ» (¬1)). والشافعي قرأ على محمد كتبه الفقهية، فكان شبه تلميذ له. ¬

_ = ومنها مذهب داود الظاهري الذي نبذ القياس وبقي مذهبه حياً إلى أواسط القرن الخامس، ومذهب ابن جرير الطبري الذي استمر معروفاً معمولاً به إلى القرن الخامس أيضاً، ومذهب الأوزاعي في الشام. وكان الأوزاعي من رجال الحديث الذين يكرهون القياس، وكان أهل الشام يعملون بمذهبه، ثم انتقل مذهبه إلى الأندلس وبقي معمولاً به حتى منتصف القرن الثالث. وللأوزاعي موقف مشهود عظيم مع عبداللهبن علي العباسي لمّا قدم الشام متتبعاً بني أمية بالقتل، فمَن شاء قرأ خبره في كتب التاريخ (مجاهد). (¬1) انظر مقالة «الفقيه الأميرال» في الكتاب. و «المدوَّنة» هي العمدة في الفقه المالكي، وهي منقولة من طريقين؛ أولهما طريق أسدبن الفرات هذا، والثاني طريق سحنون، وهو عبد السلامبن سعيد التنوخي وأصله من حمص. ويُستفاد من وصف النسختين أن نسخة سحنون أضبط وأحسن تبويباً، وهي التي كان الاعتماد عليها حينما طُبعت «المدوَّنة» في مصر قبل قرن ميلادي كامل (مجاهد).

وأحمد تلميذ الشافعي، فمن هنا كان أبو حنيفة «الإمام الأعظم» وكان الناس -كما قيل- عيالاً في الفقه عليه. وأرجو أن لا يفهم أحدٌ من هذا الذي أقول إني أفاضل بين الأئمة وأصنّفهم أصنافاً وأمنحهم درجات النجاح في الامتحان. من أنا وما مكاني من أئمة الدين؟ ولكن أقرّر الحقيقة التي أعرفها. * * * وقد مرّ بي شطر من عمري كنت فيه حنفياً متعصّباً، لا أقبل بما يخالف المذهب ولا أرى الحقّ في غيره، حتى إنني كنت أسمع الحديث الصحيح على خلاف مذهبي فأجادل فيه، أقول: هل اطّلع فقهاء المذهب خلال ألف ومئتَي سنة على هذا الحديث أم لا؟ فإن قلتم «لا» قلت: إن هذا بعيد، بل يكاد يكون مستحيلاً. فإن اطّلعوا عليه فلماذا لم يعملوا به؟ هل تعمّدوا مخالفته واتفقوا جميعاً على هذا المنكَر الذي لا يرتضيه عوامّ المسلمين لأنفسهم، فكيف بعلمائهم، على امتداد الزمان وتباعُد الأقطار التي وصل إليها المذهب الحنفي؟ فإن كانوا اطلعوا عليه ولم يعملوا به، ولم يكن ممكناً أن يتعمّدوا جميعاً مخالفته، فلم يبقَ إلاّ أن يكون عندهم دليل لم يصل إلينا علمه. بهذه الحُجَج الجدلية كنت أدافع عن مذهبي. ثم وجدت أن فقهاء المذاهب الأربعة (لا الحنفي فقط) يحرصون على التثبّت من صحّة الرواية عن إمامهم، فإن ثبتَت الرواية عنه لم يلتفتوا بعدها إلى دليل، مع أن قول الإمام وحده -وهو غير معصوم- لا يصلح دليلاً في الدين. الدليلُ الآية الصريحة والحديث الصحيح

الصريح، أو الإجماع الثابت أو القياس الظاهر؛ ذلك هو العلم. «العلم قال الله وقال رسوله» كما قال الشافعي أو نُقل عنه أنه قاله. على أنه لا يجوز لمسلم إن صحّ له الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يردّه بقول قائل غير معصوم، وهذا ما كانوا يصرّحون به حتى في أشدّ عصور التقليد المذهبي (راجع حاشية ابن عابدين وما قال في أولها). وهذا كله للعالِم الذي يستطيع أن يميز الأدلة صحيحها من سقيمها، ثم يفهم الصحيح إن وصل إليه ويقدر أن يستنبط منه، ليس هذا للناس جميعاً، العالِم منهم والجاهل والعاقل والأحمق. ولا بُدّ من بيان أن الأحاديث ليست في هذا سواء؛ فمن الأحاديث ما لا يحتاج إلى فقه كبير في فهمه كجهر الإمام بالبسملة أو الإسرار بها، هذه مسألة يدركها كل من سمع الحديث الصحيح لأنه إما أن يكون قد جهر بها أو أسرّ. ولكن من الأحاديث ما لا يفهمه إلا عالِم أو طالب علم متمكّن، ولو ضربتُ الأمثلة لذلك لخرجتُ عن الموضوع ثم لم أستطع أن أعود فأدخل فيه. ولمّا كنت صغيراً أطلب العلم من نحو سبعين سنة كان التقليد هو الأصل، بل لقد صار الاجتهاد خروجاً على الأصل وذنباً يُحاكَم من يُتّهَم به، كما اتُّهم شيخ مشايخنا في دمشق الشيخ جمال الدين القاسمي. وأوجبوا على المسلمين اتّباع مذهب من المذاهب الأربعة، وكانوا يحفّظوننا: «وواجبٌ تقليدُ حَبْرٍ منهُمُ». ولست أدري مَن أوجبه؟ وعلّمونا أن الاجتهاد قد سُدّ بابه. ولست أعلم مَن سدّه؟

ومن أين له أن يسدّه وهو ما فتحه، بل فتحه الله وهو -إن شاء- سدَّه وحده. ووجدنا في المذهب الحنفي مسائل اجتهادية لم تَعُد تُقبَل ولا تُستساغ، منها: أن المرأة التي تبدأ عدّتها بالحيضات ثم ينقطع عنها الحيض تلبث معتدّة حتى تدرك سنّ اليأس ثم تعتدّ بثلاثة أشهر؛ أي أننا نوجب عليها أن تبقى في العدّة أربعين سنة أو أكثر منها! وأن المشرقيّ الذي يتزوّج مغربية فتلد ولداً يُنسَب إليه ولو ادّعى الزوج عدم التلاقي وأثبت ما ادّعاه. وأن طلاق السكران يقع إن شرب الخمر طائعاً مختاراً، وقالوا: إننا نوقع الطلاق عليه عقوبة به. فقلنا: إنه أذنب فعوقب كما تقولون، فما بال زوجته وولده وأثر الطلاق فيهم أشدّ وأنكى من أثره في الزوج، وهذه العقوبة تسقط على رؤوسهم وهم ما جنوا ذنباً ولا أحدثوا حدثاً؟ ومنها أن النفقة تُقدَّر بحسب حال الزوجة، فإن كان له زوجتان إحداهما بنت أغنياء نفقة مثلها مئة والأخرى نفقتُها تبعاً لحال أهلها عشرون، فإن اتبعنا ما ذهبوا إليه فأين العدل بين الزوجات؟ ومن هذه المسائل أن الحمل أقصى مدّته سنتان. والله قد وضع لهذا الكون قانوناً ثابتاً وحدّد لكل أنثى (حتى من الدوابّ والحيوان) مدّة معلومة لحملها، وما سمعنا بشاة أو ناقة زادت مدّة حملها عن حدّها، فكيف يستمرّ حمل المرأة سنتين؟ وإن كانت السنتان في المذهب الحنفي أرحمَ من المذاهب التي تجعل أكثر مدة الحمل أربع سنين! وسأتعجّل فأروي لكم حادثة وإن لم يأتِ أوان روايتها. ذلك أنني لمّا استكملت وضع المشروع (وكان ذلك أيام انقلاب حسني

الزعيم، وهو جبّار مجنون عرفته مرتين في مجلس أخيه الأكبر، الداعية الصالح العابد الشيخ صلاح الدين الزعيم)، لمّا انتهى وضع المشروع أبَيتُ إلاّ أن أعرضه العَرْضةَ الأخيرة على العلماء، فكلّمت أستاذنا الأمير مصطفى الشهابي الذي كان وزير العدل، فخاف من الزعيم وراح يجادلني ليصرفني عن هذا، وأنا مُصِرّ عليه تبرئة لذمّتي وطلب الوصول إلى الحقّ. فلما أعجزه إقناعي قال لي (وأنا اذكر كلمته): "ما شُفتني ولا شُفتك، فاعمل ما تريد". فجمعتُ علماء دمشق جميعاً في دار الشيخ عبد القادر العاني (وكانت داره وقفاً على مصالح المسلمين)، وكان فيهم الفقيه الشافعي الكبير الشيخ صالح العقاد، فعرضت عليه اقتراحنا في المشروع أن نجعل أكثر مدّة الحمل سنة كما صنعوا في مصر. ونحن نعلم أن الحمل لا يمتدّ سنة، ولكن احتياطاً وأسوة بما ذهب إليه علماء مصر. فأبى وأصرّ على مذهبه بأن الحمل يمتدّ أربع سنين، فقلت له: أنت تعلم يا سيدي أني أُجِلّك وأقدّرك، وأنا أقبّل يدك على أن تسمح لي بسؤال أوجّهه إليك، وأن يتّسع له صدرك فلا تغضب منه. قال: تفضل. قلت: ولا تؤاخذني إذا كان السؤال شائكاً؟ قال: تفضل. قلت: هَبْ أنك -لا سمح الله- طلّقت امرأتك، وذهبَت من بيتك وغابت ثلاث سنين ونصف السنة، ثم جاءت إليك وقد ولدت ولداً من أسبوع وقالت: هذا ابنك. فهل تعتقد أنه ولدك؟ فضاق بالسؤال، ولكنه لم يجد مجالاً للعنف في الجواب بعدما مهّدت إليه ذلك التمهيد، وقال: هذا هو الحكم في المذهب الشافعي. قلت: يا سيدي، إن الطفل ينمو، فإن بلغَت سنّه أربع

سنين وهو لا يزال جنيناً فكيف يتّسع له بطن أمه؟ وكيف ينزل منه؟ إلاّ أن يولد واقفاً ثم يمشي على رجليه فيمضي رأساً إلى المدرسة؟ وسكت مغضَباً، ولم يجد جواباً لأن الذي أوردتُه لا جواب عليه، ثم إني قدّمت له مقدّمات تمنع غضبه. وكان في المجلس أبو مصطفى النحلاوي رحمه الله ورحم كل من ذكرتُ، وهو رجل كبير السنّ أحد الزكرتية المعروفين في الشام، فتكلّم ساخراً من هذا الحكم الذي يعتبر الحمل مستمراً أربع سنين. فقام الشيخ عليه وأفرغ رصاص غضبه في صدره، وقال له: أنت تطعن بالإمام الشافعي يا كذا وكذا؟ وسكتُّ أسمع ولم أقُل شيئاً. ربما قال قائل منكم: وكيف قرّر الفقهاء ذلك وما دليله؟ ما له يا سادة دليل شرعي، وإنما هي استقراءات قالوا بأنهم استقرَوْها (ولا تقُل استقرؤوها) وأخبارٌ قالوا بأنهم سمعوها فوثقوا بها. فلما درسنا الطبّ الشرعي ومرّ بنا هذا البحث رأينا المحدَثين يعتمدون على استقراءات كاملة لم يكن مثلها تحت أيدي الفقهاء الأوّلين، فقد ارتقى العلم وتقاربت البلدان واتصل الناس بعضهم ببعض، فلو أن حادثة من هذا القبيل حدثت لملأت أخبارُها المجلات العلمية وتحدّثوا بها في النوادي والمجامع، ودُرست في كليات الطبّ ودخلَت في أبحاث الطب الشرعي. * * * كانت بداية تكليفي بوضع مشروع هذا القانون بكتاب وزارة العدل رقم 12299 وتاريخ 22/ 10/1945 على عهد الوزير

صبري العسَلي. فعملت فيه سنة، أنظر في النص الوارد في قرار حقوق العائلة الذي كان العمل به والرجوع إليه، فإن وجدته مخالفاً لمذهب رجعت إلى مطوَّلات المذهب. ثم نظرت في كتب المذاهب الأخرى وسألت علماءها، وكان العلماء كثيراً عددُهم في الشام، وأعانني على ذلك مكتبة حافلة بأكثر كتب الفقه المطبوعة، مكتبة جدي وكان مولَعاً بالكتب يمضي جلّ وقته بمطالعتها، ثم مكتبة أبي الذي كان أميناً للفتوى في الشام وكان من فقهاء الحنفية الكبار. ثم رجعتُ إلى كتب الحديث، إلى مثل شروح البخاري، وكان عندنا في مكتبة الدار ثلاثة منها: فتح الباري، وشرح العيني الحنفي، وشرح القسطلاّني. وإلى سبل السلام ونيل الأوطار، وإلى كتب الفتاوى الكثيرة جداً. واستفدت كثيراً من مجلة «المنار» للسيد رشيد رضا أراجعها في مكتبة شيخنا الشيخ بهجة البيطار، وكانت مجموعتها عنده كاملة. ثم اقترحت أن أُوفَد إلى مصر، ففي مصر الأزهر ولم يكن في الدنيا مثل الأزهر، وفي مصر علماء ليس في أمصار المسلمين من هو في طبقتهم. فاستصدرَت وزارة العدل مرسوماً جمهورياً وقرّرَت بناء عليه القرار 516 بتاريخ 2/ 12/1946 وهذا نصّه: يوفَد السيد علي الطنطاوي القاضي الشرعي في وزارة العدلية إلى مصر مدّة سنة واحدة عملاً بأحكام المرسوم ذي الرقم 710 المؤرَّخ 11/ 2/1946. المادّة الثانية: يتوجّب على السيد علي الطنطاوي خلال مدّة بقائه في مصر الأمور التالية:

أ- دراسة تشكيلات المحاكم الشرعية وأصول المرافعات فيها. ب- دراسة نظام الإشهاد والتوثيق وأنظمة حفظ الوثائق والسجلاّت. ج- دراسة أسلوب التفتيش في المحاكم الشرعية. د- دراسة تطوُّر قانون الأحوال الشخصية. هـ- دراسة نظام المواريث والوصايا. و- دراسة أنظمة المجالس الحسبية ومقارنتها بالأحكام المتبَعة في سوريا لإدارة أموال الأيتام. ز- دراسة سلطات المحاكم الشرعية في شؤون الأوقاف. المادة الثالثة: يتقاضى السيد علي الطنطاوي: أ- راتبه الشهري غير الصافي كاملاً خلال مدّة إيفاده. ب- نفقات الانتقال المنصوص عليها في القانون، إلخ. المادة الرابعة: يتمتّع السيد علي الطنطاوي بجميع الميزات المحفوظة للموفَدين بمهمة رسمية وتُقدَّم إليه جميع التسهيلات التي تُقدَّم للبعثات الحكومية. المادة الخامسة: يمكن لوزارة العدلية أن تطبع على نفقتها ماتوافق عليه من الأبحاث والدراسات والتقارير التي يقدّمها السيد علي الطنطاوي. المادة السادسة: يُنشر هذا القرار في الجريدة الرسمية ويُبلّغ لمن يُلزَم بتنفيذ أحكامه. * * *

وسافرتُ السفرة الرابعة إلى مصر. وكانت الأولى سنة 1346هـ، وأقمتُ في مصر شهرين ثم رجعت. والثانية سنة 1347 وقد دخلت فيها دار العلوم العليا في حيّ المنيرة، ولم أكملها بل رجعت فجأة إلى دمشق فدرست الفلسفة ونلت شهادتها. والثالثة سنة 1364 (1945)، وفيها عرفت الشيخ حسن البنا من قريب، ولقيت الأستاذ الزيات أول مرة وكنت أكتب عنده وأراسله من سنة 1933 (1351)، وقد عرفته قبل ذلك في دمشق لمّا مرّ بها وألقى فيها محاضرته عن كتاب ألف ليلة ولكني لم أقابله. وهذه هي المرة الرابعة. وكان الذهاب إلى مصر برّاً كما عرفتم: نركب السيارة أو القطار إلى حيفا، ثم نغدو منها في الساعة الثامنة صباحاً فنقف عند القنطرة ونجتاز قناة السويس في عبّارة، ثم نركب قطار مصر فنصل محطة باب الحديد في القاهرة الساعة العاشرة والنصف ليلاً. وقد كنت أسافر وحدي، فأنا اليوم أسافر مع زوجتي وبناتي الصغيرات. واستأجرت سيارة كبيرة تتّسع لسبعة رُكّاب وتركت مقاعدها خالية حتى يستريح فيها البنات وأمّهن. ثم وقعت لي واقعة لا أزال كلما تذكرتها أغضب منها وقد مضى عليها الآن أكثر من أربعين سنة قمرية، أغضب من الناس الذين خدعوني، وأغضب من نفسي حين انخدعت لهم، وأغضب من الثقيل الذي نغّص علينا سفرنا. وهو أحد أخوين تاجرَين في البزورية بدمشق، قصير القامة صورته أمام ناظري، جعلني أندم على عمل الخير (فهل سمعتم بمن يندم على عمل الخير؟) وأنوي أن لا أعود إلى مثله! وأستغفر الله من مثل هذه النيّة.

ذلك أن أصحاب المرأب (الكراج) وهم في العادة من أكذب الناس، وأنا أعلم ذلك عنهم ولكنني انخدعت لهم حين قالوا إن هذا الرجل قد مشت سيارته وهو يريد أن يلحق بها ويطلبون مني أن أُركِبه معي إلى الكسوة (وهي قرية على طرف دمشق الجنوبي)، وجعلوا يرقّقون قلبي ويتزلّفون إليّ ويثيرون فيّ مروءتي ونخوتي ويُقسِمون لي أنه لن يركب معنا أكثر من هذه الأكيال المعدودة، فقبلتُ، ولست أدري كيف قبلت. وحلّ بيننا، وحال بيني وبين أهلي وبناتي، وقيّدني وأمسك بلساني فلم أعُد أستطيع أن أتحدّث معهن كما أريد، واستلبَنا حريتَنا وضايقنا أشدّ الضيق. فلما بلغنا الكسوة علمت أن المسألة كلها كذبة مدبَّرة وأنه لا سيارة له وأنه سيبقى معنا، فأصررتُ على إنزاله. ولم يكن له حقّ عليّ، ولكن زوجتي أخذتها الرأفة به وذهبَت تطلب مني أن أبقيه، وقالت إنها تصبر ويصبر البنات. فبقي راكباً معنا إلى حيفا، وتستطيعون أن تتصوّروا مبلغ ما أصابنا من هذا الضيف الثقيل الذي ركب معنا مجّاناً. ولم أكن أريد منه مالاً بل كنت أرضى أن أعطيه عشرة أضعاف أجرة السفر ولا يكون معنا! وخاتمة القصة أننا لمّا بلغنا القنطرة وذهبنا ننتقل من قطار فلسطين إلى قطار مصر، وكان معي حقائب كثيرة ومعي البنات وكنت في ضيق، مرّ بي فما سلّم عليّ ولا التفت إليّ ولا عرض عليّ مساعدة. صدّقوني إن مثل هذا العمل يصرف الناس عن المعروف! بقيتُ في حيفا يومَين. وكنت قد عرفتها من قبل، فاستطعت بهذه المعرفة أن أُريها أهلي وأولادي، فأخذت سيّارة دارت بهنّ البلد كلها، أريتُهن أحياءها. وصعدت بهنّ جبل الكرمل، ولم

يكن قد سُكن ولا شُقّت فيه هذه الشوارع ولا أُنشئَت فيه هذه البيوت. وجاءني بعد الظهر في الفندق شابّ يسلّم عليّ يرحّب بي، يحمل إليّ ثلاث طاقات من الورد وثلاثة دواوين من الشعر كانت أجمل وأحفل بالشذى والعطر من طاقات الزهر، دواوين له هو مطبوعة طبعاً أنيقاً جداً على ورق صقيل جداً، فتصفّحتها أقرأ ما فيها، فوجدت من النظرة الأولى شعراً فيه طبع وفيه جمال، تجري في أبياته روح وطنية في حس شعريّ مرهف. وكان اسمه حسن البحيري، وعجبتُ كيف لم أسمع به من قبل. ولازمَنا ما يفارقنا، يُرينا كل ربع ساعة لوناً جديداً من كرم خلقه وطيب نفسه وأصالة أدبه. وأخذني أزوره في بيته، وأنا قلما أزور ناساً لا أعرفهم في بيوتهم، فرأيت داراً فقيرة ولكنها نظيفة، وأمّاً له فيها ما له غيرها، عامية ولكنها ذكية، وودّعتُه وأنا لا أدري كيف أكافئ كرمه ولطفه بمثله. ثم قدم دمشق فأقام فيها واشتغل بالإذاعة فكان من أحسن مذيعيها، ثم صار خبير العربية فيها، ينظر في الأحاديث التي تُلقى وفي الأخبار فيصحّح خطأها وينبّه أصحابها، وكانت الإذاعة جديدة. ثم سافرتُ سفرات باعدَت ما بيني وبينه، ثم علمت (وإن لم أتوثّق) أنه قد مات رحمة الله عليه. * * * وبلغنا مصر، وخرجنا من محطة باب الحديد فأخذتُ سيارة، وكانت سيارات الأجرة يومئذ في مصر كثيرة وكانت رخيصة، وكانت الشوارع نظيفة، وذهبت أؤمّ بيت خالي. وكان

قد نقل بيته ومطبعته من شارع الاستئناف في ميدان باب الخلق إلى الروضة، في بناء أقامه لها، في واجهته كلمة «الفتح» كبيرة تكاد تملأ واجهة العمارة الصغيرة كلها. فسلكنا طريق مصر القديمة (الفسطاط) حتى قاربنا جسر (كُبري) الملك الصالح، بعد الشجرات الكبيرات التي جمعت الجلال والجمال، فاتّسقَت فروعها وامتدّ ظلّها، وكانت تخرج منها أشباه الأغصان فتنزل بدلاً من أن تصعد، حتى تبلغ الأرض فتمدّ فيها جذوراً ويكون من هذه الجذور شجرات جُدُد. ولست أدري ما حال هذه الشجرات اليوم: هل بقيَت أم بدّلها الزمان الذي يبدّل كل شيء؟ فإذا اجتزنا الجسر على فرع النيل الصغير لم نذهب قدماً إلى الجسر الآخر على فرع النيل الكبير فنبلغ الجيزة، بل ننعطف فتكون الدارات (أي الفيلات) عن إيماننا والنيل الصغير عن شمائلنا حتى نبلغ «المندورة»، وهي شجرة ضخمة من تلك الأشجار التي وصفتُها ولكنها منفردة وحدها نائية عنها قائمة على الشطّ الآخر، كلها خرق معقودة على أغصانها. ذلك أنها مقدسة عند العامّة، يَنذرون لها النذور ويطلبون منها المطالب، كأن لم ينزل جبريل بالتوحيد الخالص على محمد عليه الصلاة والسلام وكأن لم تنتهِ أيام الجاهلية الأولى! حتى بلغنا دار مجلة «الفتح» والمطبعة السلفية، وفوقهما دار خالي. * * *

مصر قبل أربعين سنة

-191 - مصر قبل أربعين سنة أتكلم اليوم عن رحلتي الرابعة إلى مصر، وكانت قبل أربعين سنة كاملة، وقد وصلتُ معكم في الحلقة الماضية إليها ووقفنا في الروضة عند مقياس النيل الأثري. مصر التي كانت أم الدنيا، كانت الأم ومدائنُ العرب بناتُها، كانت العروس وهنّ وصيفاتها، كانت أوسعَها سعة وأنظفها نظافة وأحسنها ترتيباً وأزهاها رونقاً، ليس للعرب جامعة إلاّ جامعتها، أمّا جامعها الأزهر فكان فحل الجامعات وكان مثابة العلم وكان كعبة الطلاّب، وكان يحمل على عاتقه أمجاد ألف سنة. الأزهر كان فيها، والمطابع الكبرى مطابعها، والجرائد جرائدها، وأعلام الأدب وأئمة العلم فيها. كانت كبغداد أيام عزّ بني العباس التي قلت فيها (في «الرسالة» عدد 17 رمضان سنة 1358): "يا بلد العلم والتقى واللهو والفسوق، والمجد والغنى والفقر والخمول، يا موئل العربية ويا قبّة الإسلام، يابلداً فيه من كل شيء". كان في مصر المساجد فيها الأئمة القرّاء وفيها المدرّسون الخطباء، وفي المساجد قبور عندها البدع

والمخالفات. وفي مصر الملاهي، وفي الملاهي تكشُّف واختلاط ورقص ومحرَّمات وآفات. فيها دار الكتب والمكتبات الكبار: في الأزهر وفي الجامعة وعند تيمور باشا وأحمد زكي باشا ومحب الدين الخطيب، وفيها آلاف وآلاف لا يقرؤون وليس لهم في عالَم الكتب مكان. وكانت مع ذلك أم الدنيا (أعني دنيا العرب) في سعتها وكبرها، في حدائقها التي لم يكن لها في بلاد العرب نظير: حديقة الحيوان يوم كانت متعة الناظرين وكانت فرجة الزائرين، مَن دخلها أمضى فيها اليوم كله ولم يستطع أن يُحيط بكل ما فيها. والقناطر الخيرية والأزبكية. خبّروني اليوم ما حال الأزبكية؟ هل باقٍ لها رونقها وجمالها؟ هل هي على أناقتها ونظافتها؟ هل الكتب القديمة لا تزال معروضة على سورها كما تُعرَض أمثالها على السور الواطي عند نهر السين؟ كنت أجد بين هذه الكتب نفائس نزل بها الدهر فأذلّها حتى قعدَت هنا، ومكانها المكتبات الكبيرة في الشوارع الواسعة. لقد طالما رأيت أدباء وعلماء يفتّشون بينها عن كتاب يشترونه بالقروش وثمنه الحقّ في المكتبات بالجنيهات! وكذلك كان يفعل أناتول فرانس بالكتب المعروضة على كتف نهر السين. خبّروني عن حديقة الأورمان، عن حديقة المتحف الزراعي التي كانت لنا متنزَّهاً يوم كانت مصر بلد المتاحف: المتحف المصري، ومتحف الآثار العربية في باب الخلق، ومتحف الشمع في طريق قصر العيني، والمتحف الزراعي نفسه وما فيه من تحف نادرة المثال. يوم كانت مصر أرخص المدن، حتى إننا ونحن ثلاث أسر: أسرة خالي وأسرتي وأسرة أخي عبد الغني (وكنا

في دار واحدة) نشتري في الصباح فولاً بثلاث تعريفات (بقرش ونصف) فيُشبِعنا جميعاً وربما فضلَت منه فضلة عنا. يوم كان الجنية المصري يعدل ليرة إنكليزية من الذهب (أمّ حصان) وفوقها قرش ونصف، لأن الجنيه المصري كان أغلى من الذهب. يوم كانت مصر أغنى بلاد العرب، فما الذي هبط بها وبه؟ ما الذي أذهب بَرَكته؟ إنها اللفحة الماركسية التي لم تدخل بلداً إلاّ أخرجَت منه البَرَكة وأذهبَت منه الرخاء، وأحلّت بأهله الضنك والضيق والشقاء. * * * أقمت في مصر سنة 1947 (1366) بطولها وطرفَي السنتين قبلها وبعدها، وكان وقتي كله بين ثلاث: إدارة التشريع في وزارة العدل التي فيها عملي، ودار «الرسالة» التي فيها هواي وإليها يميل قلبي وفيها تحطّ بي الأماني، و «السلفية» وفوقها دار خالي التي كانت المنزل وكان فيها المقام. وكان رفيقي في هذه الرحلة الأستاذ نهاد القاسم رحمة الله عليه، الذي كان يومئذ مستشاراً في محكمة الاستئناف ثم صار أيام الوحدة وزير العدل المركزي لمصر وللشام، وهو أحد رفاق العمر الذين لم يبقَ منهم إلاّ قليل من كثير، مدّ الله في آجالهم وزادهم حسناً في أعمالهم، كالأستاذ سعيد الأفغاني والشيخ ياسين عَرَفة والأستاذ الشيخ مصطفى الزّرقا والدكتور معروف الدواليبي، وغيرهم ممّن إن نسيت أسماءهم هنا فإن ذكرياتهم ثابتة في القلب لا تُمحى ولا تزول.

أما المطبعة السلفية فالعهد بها قديم والحديث عنها طويل، ولعلّي أوفَّق إلى الكتابة عنها وعن صاحبها، عن سَبْقه في الدعوة إلى إحياء العربية التي أراد الاتحاديون (الدولْمَة) قتلها، عن سبقه إلى تعميم الدعوة الإسلامية في مصر، عن سعيه في تأليف جمعية الشبّان المسلمين التي ضمّت إليها الشبّان الأدباء من أهل التمسّك بالدين. ولعلّي أوفَّق إلى سرد كل ما له عندي، فما يتّسع له استطراد في مقالة. ولقد كتبت عن محب الدين في المجلة التي أسميتُها «البعث» قبل أن يؤلَّف حزب البعث ويسرق مني هذا الاسم بسنين، وكانت أول مجلة إسلامية في الشام، أصدرت منها خمسة أعداد من أكثر من خمسين سنة. وكان مجلس السلفية -لمّا كانت في شارع الاستئناف في باب الخلق- يجمع جلّة من علماء مصر وأدبائها ومن علماء الأقطار الإسلامية الذين يفدون عليها، منهم أحمد تيمور باشا والسيد الخضر حسين والأستاذ أحمد إبراهيم بك والشيخ عبد الوهاب النجّار والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، وإخواننا الذين كانوا يومئذ شباباً فصاروا شيوخ الأدب وأعلام العرب: محمود محمد شاكر وعبد السلام هارون وعبد المنعم خلاّف والدكتور الخضيري وأبو شادي الشاعر (الذي كانت السلفية في دار أبيه، المحامي الأشهر على أيامه) والشيخ أطفيش الفقيه الأباضي والأستاذ الغمراوي (أول من جمع جمعاً مُحكَماً بين علوم الدين وعلوم الكون) والأستاذ محمد علي الطاهر صاحب جريدة «الشورى» وكثير من أمثالهم. وأمّا دار «الرسالة» فكان منزلُها أقربَ المنازل إلى قلبي وجوُّها أبردَ الأجواء على كبدي، قضيت مع الزيات سنة كاملة،

أكون معه فيها في المكتب وأصحبه -بإلحاح منه- إلى الدار، وأراه في مباذله وأعرف جميع أحواله ودواخله. وأشهد ما رأيت منه إلاّ فضلاً ونبلاً، وإذا كان لكل رجل صفة تطغى على الصفات حتى ليُعرف بها أو تكون له -كما يقول العقّاد- مفتاح شخصيته، فمفتاح الزيات الرفق والحياء؛ إن تكلّم فعلى مهل، وإن كتب فعلى مهل. وقد راعه مني أول الأمر صراحتي وثورتي، ثم ظننتُ أنه تعوّدها وإن كان أحياناً كثيرة يضيق بها. جاء مصرَ رجلٌ اسمه القُمّي، إيراني شيعي حاذق ذكي داهية من الدواهي، ففتح «دار التقريب»، يدعو فيها إلى التقارب بين الفريقين السنة والشيعة وهو في الحقيقة داعية إلى التشيّع. وفي مصر ميل إلى آل البيت لعلّه باقٍ من أيام العبيديّين (الذين تسمّوا كذباً بالفاطميّين، وما لهم بفاطمة رضي الله عنها صلة ولا يربطهم بها نسب ولا لهم إليها سبب، برئت فاطمة الزهراء منهم ومن كفرهم). أهل مصر يحبّون آل البيت حباً قد يصل أحياناً إلى الغلوّ، تراه عند قبر الحسين وما يصنعون عنده وما يصنعون عند قبر السيدة زينب وما في مصر من مشاهد منسوبة إلى أهل البيت. والحسين رأسه في المشهد المعروف باسمه في جامع بني أمية في دمشق وجسده موسّد ثرى كربلاء في العراق، وما منه في مصر شيء. ولست أنا قائل هذا الكلام فتُوجَّه إليّ السهام ويُلقى على عاتقي الملام ويجرَّد في وجهي الحسام، ولكن قائله، بل كاتبه الذي أيّده بالدلائل وأقام عليه البينات، هو شيخ الإسلام ابن تيمية. فمَن غضب منه فليردّ على الشيخ لا عليّ، فما لي في الأمر ناقة ولا جمل ولا لي فيه سخلة ولا حمل.

وكلنا يحبّ أهل البيت الذين قال الله لهم: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرِّجْسَ أهْلَ البيتِ ويُطهّرَكمْ تَطهيراً}، وإن كان المراد الأول هنا بأهل البيت أمهات المؤمنين اللائي وُجِّهت الآية إليهن وصُدِّرت بندائهن: {يا نساءَ النبيِّ}. وهذا الكلام أيضاً ليس من عندي، بل هو كلام ابن حزم العظيم الذي كان -لولا ظاهريته- المُفرَد العلَم. أراد الزيات أن نزور هذا القمي أنا وهو وأخي الأستاذ سعيد الأفغاني. وكان ينويها زيارة مطارحة ومجاملة ونويناها (أنا وسعيد) زيارة مصارحة ومجادلة. وكان عنده العالِم الأزهري الكبير الشيخ محمد عرفة، فخرقنا جدار الصمت (على وزن قولهم عن الطيارة خرقت حجاب الصوت) وسألنا القمّي لماذا جاء إلى مصر ففتح دار التقريب فيها، وكان أولى به أن يفتحها في طهران لأن الفرع الذي أنبت يُرَدّ إلى الأصل، ومن خرج عن الجماعة يعود إلى الجماعة، والقمر الصغير الذي انفصل عن الجرم الكبير إن لم يرجع إليه دنا منه فدار حواليه، وما عهدنا في الفضاء قمراً صغيراً يجذب جرماً كبيراً. فأراد الشيخ عرفة أن يرشّ الماء البارد على الجمرة التي بدأت تتّقد وأن يلطّف الجو فقال: إن الخلاف على مسائل من الفقه أمرها هين. قلت: بل الخلاف يا سيدي على أمور من أصول الدين، وأنت تكلّم رجلاً عاش في العراق سنين مدرّساً في ثانويّاتها، من سنة 1936 إلى سنة 1939، تنقّل من البصرة في جنوبي العراق إلى شماليها، فقرأ كتب القوم وناظر مشايخهم وعرف ما عندهم. وسردتُ له بعض أوجه الخلاف مما لانفع

للقراء الآن من سرده هنا (¬1). وطالما عُقِدت في دار الرسالة، في هذه الغرفة الصغيرة، بحضور الأستاذ الزيات غالباً وغيابه أحياناً، ندوات ودارت أحاديث في الأدب وفي العلم حضرها أدباء كبار وعلماء أجلاّء. وكانت الأحاديث تنساب هادئة كالنهر الرائق الماء الهادئ المجرى، فيها نفع ولا تخلو من نكتة تُضحِك أو طريفة تسلّي، وربما اضطرب الماء وقذف بالزبَد حين تشتدّ المناقشة حتى تكون مُهاوَشة، وكثيراً ما كنت أنا الذي يصنع هذا كله، أعترف الآن به وأرجو من الله أن يسامحني فيما أخطأت فيه. وأنا أناظر أولاً برفق وأدب، أحاول أن لا أقول كلمة تخدش الخصم أو تجرحه، فإذا صدر منه ما يمسّ ديني أو كرامتي لبستُ جلد النمر ونكّبت عن ذكر العواقب جانباً، ولم أعُد أبصر من غضبي لديني أو لكرامتي مَن الذي هو أمامي، لا أبالي أن يكون كبيراً أو خطيراً. ولقد كان صِدام مرة بيني وبين الدكتور زكي مبارك، وكانت لي به صلة حسنة وأُقِرّ له أنه يملك أجمل أسلوب في هذا العصر. فنطق مرة بكلمة فيها كفر ظاهر وعدوان على الدين أثيم، فنبّهته فما انتبه وحذّرته فما بالى، فزاغ بصري ولم أعُد أرى أمامي الأستاذ ¬

_ (¬1) القصة الكاملة للقاء علي الطنطاوي مع القُمّي هذا منشورة في العدد 844 من مجلة «الفتح» الصادر في جمادى الآخرة سنة 1366هـ في مقالة عنوانها: «كيف قابلت هذا القمّي»، وقد سبقتها بأسبوع واحد مقالة بعنوان «إلى علماء الشيعة» نُشرت في «الرسالة» في الخامس من أيار (مايو) سنة 1947 (وهي في كتاب «فصول في الدعوة والإصلاح» الذي وفقني الله إلى إصداره من قريب) (مجاهد).

زكي مبارك بل رجلاً ينال من ديني ومن عقيدتي، فهجمت عليه هجمة مفاجئة بجُمَل تتلاحق كلماتها كرصاص المدفع الرشاش ضعضعَت أركانه، ثم استفاق من دهشته وتمالك بعض نفسه، وقال لي في بعض ما قال: من أنت وبأيّ سلاح تنازلني؟ قلت: بسلاحَين، أولهما أن الحقّ معي وأني أستنصر الله لأني أناضل عن دينه وأحامي عن شرعه، والثاني أني أعرفك في مصر وأعرف سلوكك في العراق ومجالسك بين كاسك وطاسك، فما الذي تظنّه يُخيفني منك ويمنعني من منازلتك: دينك وتقواك؟ سلوكك واستقامتك؟ علمك؟ وقد حقّقتَ كتاب «زهر الآداب» للحصري وكنا ندرسه مع تلاميذنا في دمشق فما تمرّ صفحة تخلو من زلّة لك تسقط منها فيُشَجّ رأسك أو تُلوى قدمك، أم هذا الكتاب الذي صدّعتَ بذكره الأسماع وجعلتَه معجزة العصر وآية الدهر، «النثر الفني»؟ إن فيه سقطات لمّا أمسك الدكتور الغمراوي ببعضها وقيّدك بمنطقه وحجّته بقيد من حديد لم تملك معه حراكاً، جعلتَ تقفز من حوله تصرخ وتهدّد ولا تستطيع أن تتحلل من القيد ولا أن تبرّر الغلط؟ وهل تعتصم إلاّ بستار من سبّ الناس إذ تصول وتجول وحدك وتتوعّد وتهدّد (زعمَ الفرزدقُ أنْ سيقتُلُ مِرْبعاً!) ولو كانت معركة أدبية بيني وبينك لتردّدتُ، وربما خفتك أو تَهيّبتُ لقاءك أو آثرت السلامة من قلمك، ولكنها معركة لله أدافع فيها عن دين الله، واللهُ يدافع عن الذين آمنوا، ومن كان الله معه كان هو الغالب. واشتدّ الأمر وتعالت الأصوات ولم يبقَ إلاّ المواثبة والنقاش بالأيدي، فدخل الزيات بيننا وأخذه جانباً يناجيه. وسمعته يقول له:

ما تشوف اسمه طنطاوي، إنه شامي دماغه ناشف وأسلوبك لايفيد معه، والأزهريون من مدرّسين وطلبة يقرؤون له ويحبّونه، ولمّا كان الخلاف بينه وبين الشيخ أمين الخولي كانوا كلهم معه. وهو يحاربك الآن بسلاح الدين، فما لك ولخصومة أهل الدين؟ فليّن منه بعض اللين، ثم أقبل عليّ يكلّمني فقلت: أنا أحب الأستاذ وأقدّر له سنّه وسبقه وهو أستاذ معروف، وما بيني وبينه خلاف شخصي إلاّ هذه الكلمة التي قالها وسمعتموها، إن فيها كفراً لا يجوز لمسلم أن يسكت عن إنكاره، فإن رجع عنها وتبرّأ منها قمت إليه الآن فقبّلت رأسه، وإن أصرّ عليها فسأتوكل على الله وأخوض معركة معه ربما أنست القرّاء معاركه الأولى مع الأدباء. وما بسيفي أضرب ولكن بسيف الشرع. فاعتذر من تلك الكلمة وقال إنها كلمة سبق بها لسانه، وراح يؤكّد أنه مؤمن صادق الإيمان وأنه طالما جرّد قلمه للدفاع عن الإسلام وأمثال هذا الكلام، فقلت له: تسمح الآن أن أقوم فأقبّل رأسك، ولكن بعد أن تسرّح شعرك المنفوش! فضحك وضحك القوم وانتهت المعركة بسلام. وأنا أعترف بأن زكي مبارك أقدم مني في الأدب قِدَماً وأثبت فيه قَدَماً، ولكن إذا جاء الدين بطلَت المجاملات وعزّ منَ كان معه وذلّ من كان عليه. * * * وكنا نحضر في مصر مجالس كثيرة كانت في حقيقتها مدارس بغير نظام ولا منهاج، وكانت نوادي علمية وأدبية بلا

موعد ولا إعلان، وكانت بما يدور فيها من نافع الأحاديث أنفع من الجامعات. منها: مجلس لجنة التأليف والترجمة والنشر، الذي كان فيه الأستاذ أحمد أمين وكان معه جلّة من أكابر أساتذة مصر وعلمائها. ودار المفتي الشيخ عبد المجيد سليم، العالِم الجليل الذي كان من جلسائه الشيخ شلتوت والشيخ محمد المدني. لقد جئته مرة في الشتاء وأنا متلفّع مُرْتَدٍ المعطف الثقيل وهو حاسر جالس بين نافذتين مفتوحتين يجري بينهما الهواء، فقلت: ياسيدي ... فضحك ولم يدَعْني أُتمّ وقال: الله الله، أنتم الشباب وتخافون الهواء؟! ومن تلك المجالس مجلس العالِم الجليل السيد الخضر حسين، رئيس جمعية الهداية الإسلامية والذي صار شيخ الأزهر. ومجلس الأستاذ محمد علي الطاهر، وهو ندوة سياسية قومية عربية. ومن أوائل هذه المجالس مجلس لأستاذ كان إذا تكلّم بذّ القائلين ولم يدع لأحد منهم مجالاً، على تجويد منه في الحديث ورغبة صادقة منهم في سماعه، يتمنّون لو أفاض وزاد، هو الأستاذ العقّاد. وهو في مجلسه مع جلسائه غيره مع مقالته مع قرّائه، تقرأ فتتصوّره مدرّساً عالِماً نافعاً ولكنه متجهّم الوجه قاسي النظرات يلوّح فوق رأسك بالعصا، وتراه في بيته منبسطاً مبتسماً يضمّ مجلسُه أصنافاً من الناس فيحدّث كلَّ صنف بما يفهمون، يخوض في كل موضوع ويتكلّم في كل مجال، حيثما اتجه الحديث اتجه معه فكان سابقاً فيه. حتى لقد ذكرتُ مرة أمامه الشيخ عثمان الموصلّي، وهو شاعر موسيقي معروف عندنا في

الشام والعراق كان من أذكى العميان، كان إذا صافح إنساناً ولمس يده ثم صافحه بعد عشر سنين أو عشرين عرفه من مصافحته وسمّاه باسمه. وإذا الأستاذ العقاد يعرفه ويروي عنه خبراً لم أسمع به وأنا أجمع أخباره! ما أعرف مثل العقّاد في هذا إلاّ اثنين: فارس الخوري، وآخر لم تسمعوا به كان شيخ القضاة في الشام وكان آخذاً من كل علم بطرف، وإن كان عمله الأصلي هو القضاء، أعاد فيه للناس سِيَر القضاة الأولين، ولم يكن يقضي إلاّ بما يعلم أنه يُرضي الله ويطمئنّ له ضميره المؤمن ويوافق ما علم من شرع الله، لا يميل مع لذّة ينالها أو منفعة يحصل عليها أو مضرّة من قوي إذا قضى عليها يخشاها، ولا يطمح أحد أن يكلّمه في قضية ينظر فيها، هو مصطفى بَرْمَدا. وكان مجلسه في موعد مجلس العقاد من صدر يوم الجمعة، ولكنه كان إذا دنا موعد الصلاة تقوّض المجلس وذهب أهله كلهم إلى المسجد، فكان رجلاً آمن قلبه وآمن لسانه، وآمنَت جوارحه فظهر عليها أثر إيمان قلبه: امتثالاً لأمر الله وابتعاد عمّا نهى عنه الله. ورُبّ كاتب يكتب بقلمه أو يقول بلسانه ما لا يترجم عنه فعلُه ولا يوافقه سلوكه، يُرضي الناس ولا يسعى لما يُرضي الله. * * * أمّا إدارة التشريع في وزارة العدل فهي التي قدّمنا لها وأُوفِدنا للعمل فيها.

وكنا نظنّ أن لقاء الوزير سهل كالذي عرفناه في الشام؛ فنحن نذهب إلى الوزير عن موعد أو بغير موعد فندخل عليه رأساً أو ننتظر قليلاً إن كان مشغولاً، بل إن هذه كانت سنّتنا مع رئيس الجمهورية: محمد علي بك العابد (وهو ابن أحمد عزة باشا العابد، أقرب العرب منزلة من السلطان عبد الحميد) ومع هاشم بك الأتاسي الرجل الجليل الذي كان شيخ الوطنيين، والشيخ تاج الدين الحسني وهو ابن شيخ علماء الشام، مَن كان اسمه أكبر من كل صفة يوصف بها وهو الشيخ بدر الدين، ثم مع الزعيم المناضل شكري بك القوّتلي. وكان السّنْهوري باشا في الشام مدعواً للمشاركة بوضع القانون المدني. وليته ما وُضع، وليتنا بقينا على «المجلة» المنبثقة عن ديننا والموافقة لشرع ربنا والمكتوبة بالعربية لساننا، ولم يأتِنا هذا القانون المدني الذي طالما كتبتُ عنه وعن لغته وكتب أخي الأستاذ الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا، الذي هو الآن ركن كل لجنة تنعقد لوضع القانون المدني الإسلامي. وكان زميلنا الأستاذ نهاد القاسم مع السنهوري في اللجنة وكنت أنا في لجنة قانونية أخرى، فلم يكن يوم لا نلتقي فيه بالسنهوري، في المكتب أو في أحد المقاهي الخلوية على سِيف الغوطة أو على سفح قاسيون، فنشأت بيننا وبينه مودّة أزالت الكلفة لأن الرجل، أي السنهوري -كما بدا لنا في الشام- سمح الطبع حسن العشرة غير مترفع ولا متكبر، فظننّا أن الوزراء في مصر كلهم من هذا الطراز.

وذهبنا (أنا والأستاذ نهاد القاسم) إلى وزارة العدل، وكان الوزير يومئذ خشبة باشا، فسألنا عن غرفته فأخذونا إلى مدير مكتبه، ومدير مكتبه استأذن لنا عليه. وكان معنا كتاب رسمي موجَّه إليه من وزير العدل في سوريا تاريخه 21 جمادى الآخرة 1366 (11/ 5/1947) فحملناه إليه ودخلنا عليه، فهشّ لنا وبشّ في وجوهنا وأحسن استقبالنا، وتهيّأتُ أكلّمه فيما جئنا من أجله فلم يدعْني أتكلّم، بل فاجأني بسؤال ما كنت أقدّر أو أتخيّل أنه سيسألني عنه، قال: الشيخ أبو الخير الفرّا هل تعرفه؟ قلت: نعم، وقد كان جارنا وقد تُوُفّي رحمه الله من عهد قريب. قال: ألا تزال داره آخرَ دار في حيّ المهاجرين تُشرِف على دمشق وغوطتيها؟ قلت: نعم، ولكنها لم تعُد آخر دار، لقد أُنشئَ حيّ كامل إلى الغرب منها حتى بلغ فم الوادي المفضي إلى دمر وصعد فوقها حتى وصل إلى الصخرات الكبار في قمة الجبل. فسكت متعجباً، فقلت له: تسمح لي ياسيدي أن أسأل معاليك، من أين تعرفه؟ فقص علينا قصّة عجيبة. * * *

في إدارة التشريع في وزارة العدل

-192 - في إدارة التشريع في وزارة العدل أنا منذ بدأت الكلام على الكلية الشرعية وقانون الأحوال الشخصية أحسست أني مشيت بالقراء في طريق وعر، لأني كلّفتهم قراءة مباحث فقهية ليس لأكثرهم حرص عليها ولا اهتمام بها، لذلك بدأت أوجز: أمرّ بالكثير منها فأشير إليه ولا أطيل الوقوف عليه، لأن الناس لا يأخذون الجريدة اليومية ليتعلّموا منها الفقه ولا ليأخذوا منها العلم. قلت إننا وصلنا أخيراً إلى الوزير، وكان وزير العدل يومئذ خشبة باشا. وما أخذ منا الكتاب الرسمي الذي حملناه إليه من وزير العدل في سوريا ولا كلّمنا في المهمة التي جئنا من أجلها، بل واجهَنا بسؤال وجدناه غريباً لا نتوقع مثله من مثله؛ سألَنا عن الشيخ أبي الخير الفرّا. والشيخ أبو الخير من الوجهاء الأغنياء في الشام، ليس من رجال السياسة ولا من أرباب المناصب ولا من أهل الصحافة والأدب، وليس من طراز الوزير ولا من أشباهه، لذلك عجبنا من سؤاله عنه. وقلت لكم إنني سألته من أين يعرفه، فقصّ علينا قصّته (¬1). ¬

_ (¬1) وقد مرت بكم مختصَرة في الجزء الثالث من هذه الذكريات، في الحلقة الثامنة والسبعين (مجاهد).

قال: إنه جاء دمشق من نحو أربعين سنة قبل أن تنشب نار الحرب الأولى، يوم كانت دمشق البلد الوادع الساكن وكانت في شبه عزلة، أقرب مدينة إليها بيروت، يصل إليها القطار ولكنه يُمضي بينهما وقتاً يزيد على ما تُمضيه الطيارة اليوم بالمسافرين من بيروت إلى لندن. ولقد أخذتُ أنا إخوتي إلى بيروت بهذا القطار فقضى بنا على الطريق إحدى عشرة ساعة، ولا يزيد ما بينها وبين دمشق عمّا بين مكة وجدّة إلاّ قليلاً! وهذا القطار باقٍ إلى اليوم، ولكنه لا يمشي إلاّ إلى الزبداني أو المصايف الشامية، وهو قطار أثري ما أظنّ أنه بقي مثله في الدنيا. قال الوزير إنه وصل دمشق ولم يكن قد زارها من قبل وهو لا يعرف فيها أحداً، فذهب إلى الجامع الأموي فزاره وزار قبور الفرسان الثلاثة: نور الدين وصلاح الدين والملك الظاهر، الذين طهّر الله بهم بلاد الشام من الصليبيين، الذين كانوا أكثرَ عدداً وأقوى قوة من الواغلين الغاصبين الذين أقاموا دولة إسرائيل، فلم يدُم لهم ملك ولم يستقرّ لهم قرار. ودخل المكتبة الظاهرية وزار المدارس الأثرية، ثم أحب أن يرى البلد فاستأجر عربة (ولم تكن السيارات قد وصلت إليها) فمشت به العربة في طريق الصالحية الذي يجري فيه الترام، يستقبل جبل قاسيون يراه ماثلاً أمامه، في ذروته قبّة النصر التي كانت شعار دمشق وكانت لها كبرج إيفل في باريس، يُعرف قاسيون بها بين الجبال كما تُعرف ببرج إيفل باريس بين المدن. وإذا كان في الجبال الجميل والقبيح فقاسيون أجمل الجبال، هو

بينها كالفتى الغُرانِق (¬1) بين الرجال، وكلما دنونا من سفحه (يقول الوزير) صعدَت بنا العربة قليلاً وتَكشّف لنا من البلد ومن البساتين التي تحفّ به منظر أكبر، حتى وصلنا آخر حيّ المهاجرين حيث ينتهي خطّ الترام، فرأيت منظراً عجيباً. ولقد سافرت إلى بلاد الشرق والغرب فما رأيت مثله: تنظر من ورائك فترى قاسيون الفتي الذي يشبه بين الجبال أدونيس في أساطير اليونان، وتتلفّت إلى يمينك فتُبصِر مدخل الطريق الجبلي إلى دُمّر بادياً بين صخرتين عظيمتين، وكان قديماً هو مدخل البلد. وتُطِلّ بعده على أجمل وادٍ في الدنيا أو هو من أجملها: ضيّق لا يتّسع إلاّ للطريق ولنهر بردى الذي يجري فيه، أمّا أبناء بردى فتمشي في الجبلين عن يمين وشمال واحدٌ فوق واحد لتسقي أعالي البلد وأسافله، والماء يخرج من الأعلى إلى الأدنى في شلاّلات دائمة، إذا نظرت إليها وإلى الأنهار والجبل من ورائها رأيت صورة صفوف من عقود اللؤلؤ في جيد غادة حسناء. ولا أقول هذا على طريقة علم البلاغة الميتة التي تُدرَّس في المدارس فلا تنشئ بليغاً، لكن أصف الحقيقة الحيّة المشاهَدة. فإن اجتزت بنظرك الوادي إلى اليمين رأيت جبال المزة، وتحتها وتحت قاسيون أشجار الغوطة التي تبدأ من هنا وتنتهي شرقي دمشق بعد عشرين كيلاً. فمَن رأى بستاناً واحداً طوله عشرون ألف متر فيه من كل فاكهة زوجان ومن كل الثمار أشكال وألوان؟ والبلد وسط هذا البستان، وفي وسطها الجامع الأموي بقبّته ¬

_ (¬1) الغُرانِق: الشاب الأبيض الناعم الجميل (مجاهد).

المشمَخِرّة التي كانت تُدعى قبّة النسر، ومآذنه الثلاث الكبار. قال الوزير إنه لمّا رأى هذا المنظر تمنى أن يجد هنا فندقاً ينزل فيه، وتلفّت حوله فرأى رجلاً حسن الزيّ مَهيب الطلعة أمام دار مفتوح بابُها يلجها الناس ويخرجون منها. فسأله: أليس ها هنا فندق ينزل فيه الغريب؟ قال: بلى، ألا ترى الباب مفتوحاً؟ فتفضّل. قال: أريد غرفة تُطِلّ على هذا المنظر. قال: حباً وكرامة. يافلان (ونادى خادماً كان في الدار)، قُل لهم أن يُعِدّوا الغرفة الفلانية للأستاذ. قال الوزير: ونزلتُ عنده، ووجدته فندقاً مريحاً والنزلاء قليلاً والخدمة جيدة، وكان يسألني كل عشية: ماذا تريد أن تأكل غداً؟ ويعدّد لي الألوان الشامية فاختار منها ما أريد. وطاب لي المقام ولم يكن لي في مصر عمل يستعجلني، فلبثت عنده خمسة وعشرين يوماً، أطلب فأجد، ما وجدت تقصيراً ولا احتجت إلى شكوى. ثم قررت السفر فقلت له: أنا مسافر غداً. قال: بالسلامة إن شاء الله، وإن كنا نؤثر أن تطيل الإقامة عندنا. قلت: أتمنى ولكن آن أوان الرحيل. قال: كما تريد. قلت: أين قائمة الحساب؟ فضحك وقال: الحساب يوم القيامة، ونسأل الله أن يجعله يسيراً. قلت: إنما أعني حساب الفندق. فضحك وقال: أي فندق؟ أتراني من أصحاب الفنادق؟ إنما هي داري، وقد نزلتَ عليّ ضيفاً كريماً، فهل تأخذون مني إن زرتكم أجرة المبيت وثمن القِرى؟ فجرّبت معه كل وسيلة فما أفلحت، فدعوته أن يشرّفني بزيارته في مصر فوعد. وبعثتُ إليه بهديّة من مصر، فقبلها

وردّ عليّ بهديّة أغلى منها. وكتبتُ إليه مرات أطالبه البرّ بوعده وزيارتي، فمضت أربعون سنة وما جاء مصر ولا رجعت أنا إلى الشام. أفتعجبون -بعد- إن سألت عنه وإن طلبت منكم أن تُبلِغوه أني لا أزال متعجّباً من عمله معجَباً به شاكراً له. * * * وهي قصة عجيبة، ولكن الشيء من معدنه لا يُستغرَب، والكرم سليقة في العرب، وهو أول مفاخرهم وأول ما يثني به شعراؤهم على أكابرهم. وهو فيهم حاجة قد تبلغ حدّ الضرورة، ذلك أنهم كانوا يعيشون غالباً في بادية ما فيها للغريب فندق ينزل فيه ولا مطعم يأكل منه، فإن لم يجد الغريب مَن يُقريه ومن يطعمه ويسقيه مات جوعاً، لذلك كان من مكارم أخلاقهم التي بُعث الرسول عليه الصلاة والسلام لإتمامها أن للضيف حقاً أقرّه الشرع، وجعل له أن يقاتل عليه إن مُنع منه لأنه يكون في موقف حياة أو موت. لكن هذا العرف لا يسري على مدينة فيها الفنادق وفيها المطاعم وفيها كل ما تحتاج إليه إن كان المال في يدك. والخلق الكريم وسطٌ بين رذيلتين، بين السرف وبين التقتير، بين البخل وبين التبذير، هذا هو أدب الإسلام: {ولا تَجْعَلْ يدَكَ مغلولةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسوراً}. ثم دخلنا في حديث المهمّة التي جئنا من أجلها. وودّعنا الوزير وأخذَنا وكيل الوزارة معه إلى مكتبه، ثم ودّعنا الوكيل وذهبنا مع رئيس المفتّشين، ثم أخذونا إلى إدارة التشريع في الوزارة، وجعلوا لنا أنا والأستاذ نهاد القاسم رحمه الله غرفة نصبوا

لنا فيها مكتبين. وكنا نذهب إلى الإدارة كل يوم، وإن لم نكن مكلَّفَين بمثل دوام الموظفين. ورأيت في مصر شيئاً لم نكن نألفه في الشام ولم يكن يألفه ولا يعرفه الناس هنا في المملكة. رأينا كل موظف إذا وقف بين يدَي رئيسه تضاءل وتصاغر والرئيس يستكبر وينتفخ، فإذا لقي المرؤوس من هو دونه تكبّر عليه واستخذى الآخر بين يديه. ونحن نعرف للرؤساء حقوقهم ولكن في حدود القانون، فإن جاوزوها وأرادوا أن يأخذوا شيئاً من كرامتنا قلنا لهم: لا، ولا كرامة. وكان اجتماعي في إدارة التشريع بنخبة من أكابر القضاة في مصر لبثنا في صحبتهم سنة كاملة، أمّا القضاة المدنيون منهم فكانوا أكثر منا اطّلاعاً على اجتهادات المحاكم الأجنبية ومباحث علمائها القانونية وعلى الكتب الحقوقية، وكنّا أعرفَ بالفقه وكتبه ومذاهب علمائه، وكان القضاة الشرعيون منهم مثلنا. وممن كنت أعمل معهم العالِم المحدّث القاضي الشرعي الشيخ أحمد شاكر، ابن شيخ المشايخ محمد شاكر وأخو شيخ الأدباء الأستاذ محمود شاكر، ومنهم من كان اتصالي به أكثر واجتماعي به أطول، أقضي معه ساعات في الإدارة ربما اتصلَت بساعات أخرى أقضيها معه في داره في حيّ السيدة، وهو فقيه واسع الاطّلاع شارك في وضع القوانين الجديدة في مصر (قانون الوصية وقانون المواريث) وألّف في شرحها، وهو الشيخ محمد فرج السَّنْهوري. وحيّ السيدة هو مدينة «القطائع» التي أنشأها أحمد بن

طولون الذي أقام في مصر دولة انفصلت (أو كادت تنفصل) عن الخلافة العباسية، بل أوشك أن يتغلّب عليها، كما تغلّب يوماً بنو بويه من شيعة الفرس والسلاجقة من أهل السنّة من الأتراك، لولا أن قيّض الله له رجلاً كان عبقرياً مثله وكان كفؤاً ونِدّاً له، هو المُوفَّق، الذي كان الخليفة بالفعل وإن كانت الخلافة لأخيه بالاسم. ومصر (أعني القاهرة الكبرى) ليست مدينة واحدة، ولكن مدائن تعاقبت ثم اتصلت: الفسطاط أولاً، وهي مصر القديمة وفيها مسجد عمروبن العاص الذي فتح مصر بجيش يقلّ عدده عن نصف عدد طلاب كلية واحدة في إحدى الجامعات العربية الكبيرة. وكان مسجد عمروبن العاص (الذي بُني في موضع فسطاطه فسُمّيت المدينة باسمه) كان شبهَ مهمَل في تلك السنة، ثم سمعت بأن الحكومة عادت إلى العناية به وإلى عمارته، عمارة الجدران والأركان وعمارة العلم والإيمان، وولّت خطبته واحداً من الدعاة المخلصين ومن المفكّرين المسلمين هو صديقنا الشيخ محمد الغزالي. وأنشئت بعد مدينة الفسطاط مدينة القطائع (وهي حيّ السيدة زينب الآن)، وفيها جامع ابن طولون بمنارته التي تمتاز من المنارات بأن درَجها من ظاهرها، بُنيَت على نمط منارة مسجد «سُرّ مَن رأى» التي تُسمّى المَلْويّة والتي سبق الكلام عنها، أُنشئت بعدها بنحو نصف قرن. ثم أُقيمت مدينة المعزّ العبيدي الذي يُدعى الفاطمي، والتي فيها الأزهر وفيها مسجد الحسين. ثم مشى البناء إلى العتبة الخضراء والأزبكية على عهد محمد علي،

ثم إلى حيث لم أعُد أدري، فاسألوا الأساتذة المصريين الذين يعملون هنا. ولمّا كنت في مصر (في السنة التي أتكلم الآن عنها) كانت شبرا منقطعة عن البلد، وكان ما بعد الجيزة خالياً ما فيه إلاّ الترام الذي يمشي إلى الهرم. ولم يكن فُتح -كما أذكر- الشارع الموصل من العتبة الخضراء إلى الأزهر ولا الشارع الآخر الذاهب إلى العباسية، وعرفتُ شارع الخليج قبل ذلك ضيقاً ملتوياً أركب الترام الذي يمشي فيه من ميدان باب الخلق الذي كنت أنزل فيه في دار خالي حتى أصل إلى دار العلوم في حيّ المُنيرة، فلا أرى على الجانبين إلاّ أبنية قديمة دبّ فيها دبيب الخراب، حين مُنع إصلاحها لأنها ستُهدم ليُفتح فيها الشارع الفسيح الذي ترونه الآن. وكانت مصر الجديدة بلداً آخر، وكان وراء الأزهر ومسجد الحسين جبل موحش، لم يكن هناك عمران، وكانت البلدة تنتهي عند جبل المُقطَّم. وهذا استطراد، وعيبي الاستطراد لا أستطيع منه فكاكاً فاحتملوه مني. * * * وكان أكثر جدالنا مع الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري في مسألتين، إن أذنتم لخّصتهما تلخيصاً ولم أفصّل القول فيهما: مسألة الوصية للوارث، ومسألة الوصية الواجبة. ذلك أن العمل على عهد العثمانيين كان على المذهب الحنفي وحده، بل بالقول المُفتَى به في المذهب، حتى إننا -أنا وأخي

الأستاذ الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا- لمّا اخترنا في قانون الأحوال الشخصية العدول في توريث ذوي الأرحام عن قول الإمام محمد المفتى به إلى قول الإمام أبي يوسف، لأنه أسهل على الناس وأرفق بهم، أبى ذلك علينا شيخنا العلاّمة مفتي الشام الشيخ محمد شكري الأسطواني. وهذا تضييق على الناس ليس في الشرع ما يوجبه ولا ما يرغّب فيه ويدعو إليه، والدين لم ينحصر في مذهب واحد ولا في المذاهب الأربعة مجتمعة بحيث لا يجوز الخروج عليها ولا مخالفتها، على أن تكون مخالفتها بالدليل الشرعي. ولكن الذين وضعوا مشروع قانون الوصية في مصر أرادوا الخروج من هذا الضيق فوقعوا فيما هو أبعد عن الحقّ، حين خالفوا الحديث الصحيح الذي تلقّته الأمّة كلها بالقبول وانعقد عليه الإجماع، فجوّزوا الوصية للوارث ولغيره بالثلث وبأكثر منه. ولست أدري إذا كانت هذه المادّة لا تزال موجودة في قانون الوصية وقانون المواريث أم أنها عُدّلت وبُدّلت، فإن كانت باقية فإنه يجب وجوباً شرعياً تعديلها. لقد أمضينا مع الشيخ محمد فرج ساعات طويلة في المناقشة فيها. والوصية منحة من الشارع ليست حقاً طبيعياً، لأن الإنسان إذا مات لم يعُد يفكّر بمنح ولا منع، ولو أرادهما لما أطاعته جوارحه، ولو كان مفتاح الصندوق الذي فيه ماله تحت وسادته لم يستطع بعد موته بربع ساعة أن يمدّ يده إليه. إنه ميت، فكيف يتصرّف الميت بماله؟ إن تصرّفه بثلث المال بعد موته وصية، واعتبار إرادته بعد أن فقد التحكّم فيها منحة من الشارع، فلا يجوز أن نتعدى الحدّ الذي حدّه لها الشارع.

أمّا الوصية الواجبة فالكلام فيها طويل، وهو ماثل في ذهني لأني -من طول ما ناقشت فيها في مصر ثم في الشام- استقرّت فيه كأنها منقوشة نقشاً عليه. والدافع الذي دفعنا إلى اعتبار الوصية الواجبة أن الإسلام دين العدل ودين الحقّ، وأننا نرى رجلاً ساعده ولده الأكبر في عمله وشاركه في جمع ماله، فانصرف بذلك عن الدراسة وعن العلم لأنه كان مشغولاً بمساعدة أبيه وكان أبوه فقيراً لا يملك أن ينفق عليه، فلما اغتنى الأب بمساعدة الولد وكبر أبناؤه الصغار أدخلهم المدارس والجامعات، فنشؤوا متعلّمين قادرين على الكسب حاملين الشهادات العالية، والولد الكبير لم يتعلّم علماً ولم يحصّل شهادة، ثم قضى الله أن يموت الولد الكبير قبل أبيه وأن يترك أطفالاً صغاراً لا مال لهم ولا يرثون من جدهم الغني حين يموت جدهم، فهل من العدل أن يبقى هؤلاء فقراء؟ أنا لم أنازع في أنهم يستحقون المساعدة، ولكني كنت أجادل الشيخ فأقول له: لو أراد الشرع أن يورّثهم لقضى بتوريثهم، فهل نحن فيما نضع من قوانين مستمَدّة من الشرع أعدل من الذي أنزل الكتاب وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وليس في الكتاب ولا في سنّة الرسول ما يوجب إعطاءهم. ثم رجعتُ إلى نفسي بعد هذه المناقشات الطويلة جداً فشرح الله صدري لإقرار الوصية الواجبة في مشروع القانون، وقلت لنفسي: إن الشرع ندب الجدّ في هذه الحال بأن يوصي لأحفاده هؤلاء الذين مات أبوهم في حياته، والذين يسمّيهم الفقهاء «أولاد المحروم». والمسلمون الأولون كانوا -لتمسّكهم بالدين- يكفيهم الندب ليقوموا بالعمل، ثم إن في بعض المذاهب الأربعة أن التركة لا

تُوزَّع على المستحقّين من الورثة إلاّ بعد أن يخرج منها حقّ الله، فإذا اعتبرنا الوصية لابن المحروم التي ندب الشرع إليها حقاً من حقوق الله وأخرجناها قبل توزيع التركة لا نكون قد خرجنا عن المذاهب الأربعة. أما القول في هذه الوصية والوصية للوارث فألخّصه بكلمات، من جهة التقليد ومن جهة الاجتهاد، أي بالنظر إلى جهة مذاهب الأئمة المعتبَرة والنظر للأدلّة: أما من جهة التقليد فقد اتفق جمهور الفقهاء على أن الوصية للوارث غير جائزة، وإن كان منهم من منعها من أصلها ولم يجوّزها ولو أجازها الورثة، وعلى ذلك مذهب مالك (فيما سمعت) وداود الظاهري وأحد القولين في مذهب الشافعي، ومنهم من جعلها موقوفة على إجازة الورثة كأبي حنيفة والشافعي في أحد القولين وأحمد على ظاهر المذهب. وخالف الفقهاءَ بعضُ الفرق التي لا نأخذ بأقوالها كالشيعة الإمامية وبعض الزيدية. أمّا من جهة الاجتهاد فالأصل في هذه المسألة قوله تعالى: {كُتِبَ عليكُمْ إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيراً الوصيّةُ للوالدَينِ والأقرَبِينَ بالمعروفِ، حقّاً على المُتّقينَ، فمَن بَدّلَه بَعدَما سَمِعَهُ فإنّما إثمُهُ على الذينَ يبدّلونَهُ، إنَّ اللهَ سَميعٌ عليمٌ} (وهذه الآية فَرضت على من ترك مالاً -مطلقاً أو مالاً كثيراً- أن يوصي للوالدَين والأقربين)، وقوله تعالى في آية المواريث: {يُوصِيكمُ اللهُ في أولادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، فإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ} (إلى آخر الآية)، وحديث: «إنّ اللهَ أعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ فلا وصيَّةَ لوارثٍ»، وهذا الحديث رُوي

من طرق كثيرة وهو موجود في جامع الترمذي وصحّحه وعند أحمد والنسائي وابن ماجه. وجمهور العلماء على أن آية الوصية منسوخة الحكم، واختلفوا: هل نُسخَت بآية المواريث أو بالحديث، أو بهما معاً؟ وهو الأشهر. وإنّ صدر الحديث يدلّ على أنه بيان لآية المواريث، أي أن الله كتب علينا الوصية، ثم تولّى بنفسه توزيع التركة فحدّد للوالدَين والأقربين وللزوجين ما يأخذونه. وقال بعض العلماء إن ما فرضه الله إنما يُعطى لأصحابه من بعد وصية يوصى بها أو دين، فلا ينسخ آية الوصية. ورُدّ عليهم بأن الوصية في آية المواريث هي الوصية للأجنبي من ثُلُث المال، لإطلاق اسم الوصية فيها، وأجابوا بأن الحديث خبر آحاد وليس متواتراً فلا ينسخ الكتاب، وردّ عليهم الجمهور بأن الأمّة قد اتفقت على تلقّي هذا الحديث بالقبول. تفسير الآية: (1) اختلفوا في تفسير كلمة «خيراً» بعد اتفاقهم على أن المراد بها المال. هل هو المال إطلاقاً أم هو المال الكثير؟ (2) واختلفوا في تفسير الأقربين، فقال زيد هم الأولاد، وقال ابن عباس ما عدا الولدَين، وقيل من لا يرث من الرجل، وقيل غير ذلك، والاختلاف في معنى القرابة كثير بين الفقهاء، ومن شاء من القرّاء راجع أحكام القرآن للجصّاص والمحلّى (9/ 314) ونَيل الأوطار (6/ 163 و217) والطبري (2/ 71) والقرطبي (2/ 266) وسائر التفاسير. حكم الآية: الآية عند الجمهور منسوخة، وقال في المغني

(6/ 414): تجب الوصية على مَن عنده وديعة أو عليه دين، وبغير ذلك لا تجب. وقال قوم: تجب للأقرباء الذين لا يرثون، ونُقل عن بعض الصحابة. وجاء مثل ذلك في نيل الأوطار (6/ 29)، ونُقل عن المنذربن سعيد أول باب الوصية من مواهب الجليل للحطّاب المالكي، وأفاض فيه ابن حزم في المحلى (9/ 312)، وهي عنده فرض على كل من ترك مالاً لقرابته الذين لا يرثون، وروى القولَ بذلك عن جماعة من التابعين. إذا مات ولم يوصِ هذه الوصيّة فما العمل؟ اختُلف فيه على ثلاثة أقوال: (1) فقال قوم بأنه إن لم يفعل خُتم عمله بمعصية ولاشيء لهم (راجع نيل الأوطار 6/ 163)، (2) وسكت قوم عن الحكم، (3) وانفرد ابن حزم فقال بأن له أن يوصي بما طابت به نفسه، وإن أوصى بثلاثة أجزاء (وإن لم يوصِ بالكل) فإنه يكون قد أوصى للأقربين لأن أقل الجمع ثلاثة. فإن مات ولم يوصِ أعطوا جزءاً من ماله يقدّره الورثة أو الوصي ولا حدّ له، ومذهب ابن حزم قضاء ديون الله قبل ديون العباد. فإن أوصى لغيرهم من الأباعد وتركهم؟ إن تركهم محتاجين وأوصى لغيرهم من الأباعد رُدّت الوصية عليهم على قول في مذهب أحمد، نقله ابن مفلح في كتاب الفروع (2/ 921 و892) وقيل إن أوصى لغيرهم بالثلث أُعطوا ثلثَيه وللموصى له ثلثه، قياساً على المال كله، وهو قول معزوّ لسعيدبن المسيّب والحسن البصري. * * *

فمشروع الوصية الواجبة في القانون مأخوذ من هذه الآية، وهي منسوخة لكن حكمها باقٍ في غير الوارث، ومعنى ذلك أن الله أمر فيها بالوصية للأقربين جميعاً، ثم حدّد لبعض الأقرباء أنصباءهم وحصصهم من التركة فأُعطوا ما فرضه الله لهم، وباقي الأقربين بقي حكم الوصية قائماً في حقّهم. بقي تحديد المقدار الواجب. اختلف المفسرون في المراد من كلمة «بالمعروف»، فقال ابن مسعود: الأحوج فالأحوج. وقيل: ذلك متروك لاجتهاد الموصي. وفي حاشية الرّهوني في المذهب المالكي أنه إذا أوصى بجزء مُبهَم غير مقدَّر فلا شأن للورثة أو الوصيّ في تعيينه، وإنما يكون للموصى له سهم من السهام التي تنقسم إليها التركة، وهو رأي ابن القاسم. والذي ذهب إليه واضع المشروع في مصر أن المعروف هنا هو أن يأخذ أبناء المحروم حصّة أبيهم من التركة لو بقي حياً (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نصّ الدكتور وهبة الزّحيلي في كتابه «الفقه الإسلامي وأدلّته» على أن القانون المصري أوجب هذه الوصية لأولاد الابن مهما نزلوا وللطبقة الأولى فقط من أولاد البنت، أما القانون السوري فقد قصر هذه الوصية على أولاد الابن فقط، ذكوراً وإناثاً، دون أولاد البنت. ثم قال: "والأَولى الأخذ بما ذهب إليه القانون المصري تسويةً بين فئتين من جنس واحد، سواء لطبقة واحدة أو أكثر". ثم ذكر أن القانون حدّد للأحفاد ما كان يستحقه أبوهم لو كان حياً. انظر المسألة في الجزء الثامن ص123 (مجاهد).

ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

-193 - ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947 عرفتم أن أبي رحمه الله مات سنة 1343هـ وأنا لم أكمل السابعة عشرة، وترك أسرة كبيرة ولم يترك مالاً، لا نقداً ولا عقاراً، فخضتُ معترَك الحياة بلا سلاح إلاّ ما منّ الله به عليّ من مواهب. طرقتُ لكسب الرزق كل باب وصلت إليه، إلاّ باباً حراماً يكرهه الشرع أو باباً وراءه مهانة ومذلّة تأباها الكرامة؛ فاشتغلت بالتجارة حيناً، وبالتعليم، دخلت فيه سنة 1345 وأنا لا أزال طالباً ثم لم أخرج منه، وبالقضاء من سنة 1359 إلى سنة 1385، وبالصحافة احترافاً لها وقتاً قصيراً وكتابة فيها الوقت كله، ما أعرضت عنها من يوم أقبلت أول مرة عليها. فلما كانت سنة 1366 (1947) التي أحدّثكم الآن حديثها وكنت في مصر كانت الانتخابات في الشام. وقد تجري الانتخابات الآن في بعض الدول التي دخلَت إليها الماركسية أو إحدى بناتها أو جرّتها إليها أو استمالتها فأمالتها، تجري الانتخابات فيها فلا يحسّ بها أهل البلد إلاّ أن يسمعوا أخبارها من إذاعة حكوماتهم أو يقرؤوها في جرائدها، تجري هيّنة ليّنة كالماء السلسبيل لا يعترضه عارض ولا تموج فيه موجة، لأن مَن يلي أمرها رتّب كل شيء

فيها، كما يصنع بالمسرحية مؤلفُها ومُخرِجها: يُعِدّ الأول النص، ويوزّع الثاني الأدوار، ويحفظ الممثّلون أدوارهم، وتجري التجارِب ليتوثّق المخرج من حسن الأداء، ثم يُرفَع الستار عن مسرحية أُعلنَ أنها جديدة لم يُكتَب لها نصّ ولم يُخرِجها مخرج، بل تجري على الطبيعة بتعاون حرّ ووحدة مخلصة، وبهذه الوحدة والحرّية يُضمَن النجاح. ولكن الانتخابات يومئذ كانت تهزّ البلد هزاً، تدخل كل بيت وتكون أخبارها أحاديث الناس، وإن لم يخلُ أكثرها من تزوير. وأنا لم أفكّر فيها يوماً، وما كان لي في السياسة من أرب وما كنت من أربابها ولا سألت عن الطريق إلى بابها، لا أعني سياسة المبادئ والأهداف والاهتمام بأمر المسلمين والمشاركة في حدود الاستطاعة لإصلاح أحوالهم، فهذا واجب إسلاميّ، ولكن أعني سياسة النزاع على الكراسي والزحام على الحكم. لمّا كانت هذه الانتخابات خطر لي خاطر مفاجئ (وأكثر ما اتخذت في عمري من قرارات كان آنيّاً مفاجئاً) فقلت لنفسي: إن الله أعطاني كل وسائل النجاح في النيابة، فأنا (ولا مؤاخذة إن قلت أنا ومدحت نفسي، فإني أقول حقاً) معروف في بلدي وفي كثير من البلاد العربية، ولي كما يقولون شعبية واسعة، وأعطاني الله لساناً طليقاً وجرأة على مخاطبة الناس، ومعرفة بطرق إقناعهم ومقدرة على إثارة عواطفهم والوصول إلى قلوبهم، ومن وراء ذلك ثقافة إن لم تكن كاملة شاملة فليست قليلة ولا تافهة، واطّلاعاً على أوضاع الناس.

ونسيت أن النيابة تستلزم شيئاً غير هذا لعله أهم منه ليس عندي؛ هو أن أفتح بيتي لمن أحبّ ومن أكره، وأسمع من القول ما يروق لي وما يعكّرني، وأمشي في حاجات الناس ما كان منها حقاً وما كان باطلاً، وألقى العدوّ بمثل الوجه الذي ألقى به الصديق، وأن يستبيح الناس وقتي كله ... وهذا ما لم أتعوّده ولا يمكن أن أتعوّده بعد الأربعين (وقد كنت في تلك السنة على عتبة الأربعين من عمري). ولكن رغبتي القوية حجبت عني هذه الحجج المنطقية، وأنستني أن على طالب النيابة أن يُعِدّ لمعركتها المال الكثير، وأن يرسم لها الخطط المُحكَمة، وأن يكون له فئة ينصرونه ويؤيّدونه. ومالي أنا من ذلك كله شيء، ولكني أقدمت مع ذلك، فذهبت من فوري فأبرقت إلى محافظ مدينة دمشق أني رشّحت نفسي. وجعلت أتتبّع أخبار الانتخابات. وكان قد صحّ عزم الشيخ حسن البنا رحمه الله، المرشد العامّ للإخوان، على أن يسلك بهم مسلكاً جديداً، فيقترب من الإصلاح عملياً للمشاركة في توجيه دفّة الحكم، وأحبّ -كما يبدو- أن يجرّب ذلك بمساندة مرشَّحي الإخوان في الشام على النجاح. فبعث بالأستاذ عبد الحكيم عابدين والأستاذ سعيد رمضان إلى دمشق، وكلاهما خطيب لا يُجارى وفارس من فرسان الكلام لا يُشَقّ له إن أقدمَ غبار، وإن كان بعض الناس يتكلمون فيهما، لا في بلاغتهما وأقوالهما بل في سلوكهما وأفعالهما. ولبثت أنتظر النتائج وليس لي أمل في أن أنال مئة صوت. وكانت جريدة الإخوان المسلمين آلت رياسة تحريرها إلى خالي

محبّ الدين الخطيب، فكنت أزوره فيها أُمضي عنده الساعة والساعتين أستقي الأخبار، وقد رأيت فيها أول مرة هذا «التلِكس» الذي يطبع من بُعد. وكانت إعلانات المرشَّحين تغطّي كل جدار في الشام وبياناتهم تصل إلى كل يد، والوعود الضخمة مُعَدّة مهيّأة في مكاتبهم توزَّع على الناس بلا حساب. وأنا ما نشرت بياناً ولا علّقت إعلاناً، إلاّ شيئاً صنعه أخي بلا علمي حين رأى المرشّحين جميعاً يكتبون «انتخبوا فلاناً»، فأحبّ أن يجدّد في الإعلان فكتب بالحروف الكبيرة «لا تنتخبوا علي الطنطاوي» وكتب تحتها بالخط الصغير الذي لا يُرى إلاّ بالمجهر (¬1): «إلاّ إذا وثقتم منه ومن سيرته». وانجلى الغبار، وظهرت النتائج ونُشرت في الجرائد، فإذا المرشَّحون أصناف ثلاثة: صنف نجحوا وصاروا نوّاباً، وصنف خرجوا من المعركة لم ينالوا شيئاً وأضاعوا أموالهم وآمالهم، منهم صلاح الدين البيطار، رفيقي في المدرسة وأحد الرجلين اللذين أسّسا حزب البعث. ومنهم الدكتور صبري القباني، وهو رفيقي أيضاً. ومنهم أستاذنا في كلية الحقوق شيخ المحامين الأستاذ سعيد محاسن، ومنهم الوطني المجاهد نزيه المؤيَّد، وكثير غيرهم. وصنف لم ينجحوا فيصيروا نواباً ولم يخسروا فيخرجوا من المعركة، وهم على ترتيب ورود أسمائهم في الجرائد: الأستاذ مظهر العظمة مؤسّس جمعية التمدّن الإسلامي الداعية المخلص والكاتب الشاعر، والأستاذ لطفي الحفّار الخطيب الزعيم، ¬

_ (¬1) المِجهَر (على وزن المِنْبَر)، ويتحذلق من يذيع دائرة المعارف في الرائي فيقول: المُجهِر (على وزن مُؤمن)!

والأستاذ أحمد الشرباتي الوزير، والأستاذ صبري العسلي المحامي المعروف الذي ولي رياسة الوزارة مرة وولي الوزارة مرات، وبعدهم اسم علي الطنطاوي، وبعده الأستاذ نصوح بابيل الصحافي الكبير ونقيب الصحافة في الشام، والأستاذ نسيب البكري الزعيم المناضل، والأستاذ حسن الحكيم الذي كان واحداً من أشرف السياسيّين الذين عرفَتهم أمّتنا وكان رئيس الوزراء وكان وزيراً مراراً وكتبتُ عنه فيما مرّ من هذه الذكريات، ومنهم نبيه العظمة من قدماء الوطنيين العاملين، والأستاذ بشير القضماني الذي كان أمين مدينة دمشق، والشيخ عبد الحميد الطباع رجل العلم والمال مرشَّح الجمعية الغرّاء. ومنهم رفيقنا الذي آثر الضلال على الهدى والكفر على الإيمان فكان زعيم الشيوعية عاش حياته كلها لها، وأرجو أن يرحمه الله فيهديه فلا يموت عليها، وهو الخطيب الذي يلعب بالقلوب ليسوقها إلى النار خالد بكداش. وكثير غيرهم. * * * عندئذ صحّت عزيمتي على السفر إلى دمشق. وكانت البلاد العربية -على عهد الاستعمار- دار إخوة أحبّة وإن أقاموا بينها حدوداً ووضعوا لمن يتنقل فيها قيوداً، كانت على رغم الاستعمار أفضل مما انتهت إليه لمّا امتدّت إليها إصبع الماركسية فأوقعت بينها العداوة والبغضاء، حتى صار يحارب بعضها بعضاً ويعدو بعضها على بعض. وكان عندنا مَفاسدُ نبكي منها، فلمّا رأينا عهوداً جاءت بعدُ صرنا نبكي عليها! كانت رائحة مخازي فاروق تملأ الساحة

الكبرى حول قصر عابدين، فلما جاء عهد ما بعد فاروق خرجت رائحة أسوأ منها فملأت البلاد وكانت غازاً خانقاً للعباد، كنا في شكوى الفسوق فصرنا في الصراخ من الكفر. لمّا وصلتُ إلى دمشق رأيت لكل حزب أو جماعة ولكل مرشَّح كبير مركزاً انتخابياً بابه مفتوح والمرشَّح موجود فيه دائماً. وكان أكبر مركز انتخابي هو الذي أقامته رابطة العلماء في جامع تنكز، وهو الذي يُطِلّ على شارع النصر أقدم وأشهر شارع في دمشق، ويُطِلّ من شماليه على أكبر ميادين الشام، ميدان المرجة التي كانت رحبة البلد. ولقد كتب الصديق الأستاذ نصوح بابيل عن هذه الانتخابات، ولكنه لم يُثبت فيما كتب إلاّ ما نشرته الجرائد. ونحن نعلم أن الكلام المنشور في الجرائد لا يصوّر دائماً الواقع المطويّ كله، لقد أغفل الأستاذ ذِكر العامل الأقوى في هذه الانتخابات، إنه وصف المعمل بآلاته وجهازه ولكن نسي المحرّك (الموتور)، وكان المحرّك هو «رابطة العلماء». والعلماء لو استكملوا أمرين لكانوا هم قادة الشعوب الإسلامية في كل قطر وفي كل زمان، وهما: أن يكون عملهم لله لا للدنيا ولا للرياسة، وأن يدَعوا هذا الخلاف بينهم على الفرعيات وأن يكونوا صفاً واحداً. ولقد تكلّمت فيما سبق عن إنشاء الجمعيات الإسلامية في الشام، وكنت عاملاً صغيراً فيها، حملت خبرها لمّا رجعت من مصر وقد شهدت فيها قيام جمعية الشبان المسلمين سنة 1928. ولم تكن هذه الجمعيات بداية العمل الجماعي، بل كان قبلها

المشايخ. وكانت الرابطة بين الشيخ ومريديه أقوى من الرابطة بين أعضاء الجمعية وقادتها، حتى إن الصوفية جاؤوا بشيء لا يُقِرّه دين المسلم ولا يسيغه عقل العاقل، هو أن «يكون المُريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل»، أي أنهم يريدون أن نكون أمّة أموات! ومر بكم أني -على ضعفي وعجزي- حاولت لمّا عدت من العراق (سنة 1939) جمع المشايخ والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية فما أفلحت. وكنت كلما زار دمشقَ الشيخُ أمجد الزهاوي مع الشيخ محمد محمود الصواف جمعت لهما بطلب منهما كل العاملين للإسلام من أقصى الصوفية إلى أقصى السلفية، لأن صلتي بحمد الله بهم جميعاً صلة طيبة، أمشي معهم من مراحل الطريق ما يوافق طريقي ثم أسلك طريقي وأدعهم يسلكون طريقهم. ثم إنني لا أنازع شيخاً على مشيخته ولا رئيساً على رياسته، ولو عُرضت عليّ لرفضتها وامتنعت عن قبولها، بل لقد عُرضت فعلاً وصنعت هذا الذي قلت. ثم لمّا رجع الشيخ كامل القصّاب -كما عرفتم- من منفاه ألّف «جمعية العلماء»، فضمّت المشايخَ جميعاً إلاّ «الجمعية الغرّاء». ثم كانت «رابطة العلماء»، وشملت هذه المرة الجميع، وكان رئيسها شيخنا الشيخ أبا الخير الميداني وكان نائبه السيد مكي الكتاني. تلك (أي الرابطة) هي التي قادت الناس يوم الانتخاب حتى صار الوطنيون يقدّمون أنفسهم للعامّة بلقب المشيخة: الشيخ لطفي الحفّار والشيخ صبري العسلي، لأن الزمن كان زمن المشايخ. وأنا لا أمنع أن تتعدّد الجماعات الإسلامية، لكن بشرط أن

تكون كلها صادرة عن بداية واحدة، ماشية إلى غاية واحدة، يربط بينها التنافس على رضا الله لا التزاحم على الدنيا والجاه، وألاّ تقوم على أسلوب الأحزاب السياسية بل الجماعات الإسلامية. وإن كان الأَولى والأفضل أن يكونوا جماعة واحدة تمشي على الطريقة الواحدة النقية البيضاء التي تركَنا عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام. وأصدرت الرابطة قائمة مرشَّحيها، وكنت واحداً منهم. بتُّ في دمشق ليلة وصولي، ثم ذهبت من الغد إلى الاجتماع الكبير في جامع تنكز، وقد رُصّت المقاعد رصّاً في ساحته الواسعة جداً حتى لم يبقَ فيها فراغ لمقعد وامتلأت بالناس حتى لم يبقَ فيها مقعد فارغ، ووضعوا في صدرها سدة قعد عليها بعض أعضاء الرابطة وبعض المرشَّحين، وتداولوا المنبر يخطبون. فلما جئت أخطب استقبلتني الجموع بالهتاف العالي والتصفيق المستمرّ، ولكن تجهّمَت لي وجوه أكثر مَن هم على السدة وبدا عليهم أنهم كرهوا حضوري، وحاولوا منعي فما استطاعوا. وشرعتُ أتكلم، فما راعني إلاّ ذراعان تلتفّان حول خصري وأنني أُحمَل من فوق المنبر فأُنزَل عنه! وضجّ الناس. وأذكر أن ممّن وقف معي وشدّ من أزري وبذل كل ما استطاع الإخوة الأفاضل الذين كانوا يوماً بين تلاميذي ثم صاروا من زملائي، بل غدوا أفضل مني، محمد القاسمي ووحيد العقّاد وعبد الرحمن الباني وأديب صالح، وأعادوني بالقوة إلى المنبر كما أُنزِلتُ عنه بالقوة وبالغدر، ورجعت أتكلم أعاتب مَن صنع هذا. وإنه لَيؤلمني أن أقرّر حقيقة ما كنت أتمنى أن تكون ولكن الأماني لا تدفع

الواقع، هذه الحقيقة هي أن الإخوان المسلمين قد حاربوني في الانتخابات كما حاربتني الجمعية الغرّاء. وأنا لا أعتب على الغرّاء بقدر عتبي على الإخوان لأنني لم أدّخر وسعاً يوماً في تأييدهم. وقد لبثتُ على ذلك بعد هذا الحادث، ولمّا قُتل الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة وإخوانه كتبتُ مقالة طويلة عنوانها «هذا يوم الحداد» طُبع منها أكثر من تسعمئة ألف نسخة، وتُرجمت إلى اللغة الأردية ونُشرت في باكستان، ربما لخّصتها يوماً أو نشرتها في هذه الذكريات. ولقد بكى منها كل مَن قرأها، ما كتبتها ليشكرني الإخوان عليها بل لأجد عند الله ثوابها، فلا أمنّ بها ولا أطلب عنها بدلاً. وأيام الوحدة أذعت من إذاعة دمشق الرسمية خبر ما صنع الإخوان عند القناة وسمّيتهم بأسمائهم التي سمعتها من أخي وولدي الأستاذ كامل الشريف (ثم ألّف عنها كتاباً)، وخبّرني أخي الأستاذ نهاد القاسم رحمة الله عليه أن الرئيس جمال عبد الناصر غضب منها لما سمعها وبعث يؤنّب القائمين على الإذاعة لأنهم أذاعوها. ولكن عذر الإخوان أنهم دوائر بعضها وسط بعض، فأنا معهم في الدائرة البرّانية (¬1)، فإذا جئنا إلى الدائرة الصغيرة الجوّانية أخرجوني عنهم. وهذا ما كنت أُنكِره، كنت أنكر على الجماعات الإسلامية أن تسير سيرة الأحزاب السياسية، كنت أحب منها أن تصادق لله وحده وأن تعادي لله وحده، وأن يكون سواء لديها مَن كان صالحاً وإن لم يدخل فيها ومن كان من أعضائها. ¬

_ (¬1) كلمة «برّاني» و «جوّاني» فصيحة وردت في الحديث الصحيح.

لقد أعرض عني أقرب أصدقائي، ممن أسميهم أصدقاء العمر وكانوا رفاقي في المدرسة وكانوا أصحابي في حياتي، نسوا ما كان بيني وبينهم، ولعلّ ذلك لأنهم بعيدون عن أمثال هذه المعارك فلا يعرفون مداخلها ومخارجها ولا أصول الكرّ والفرّ فيها. فإذا كانوا: لا خَيلَ عندَكَ تُهدِيها ولا مالُ فليُسْعدِ النطقُ إنْ لم تُسعدِ الحالُ؟ لقد رأيت الوفاء من جيراننا في الحيّ ورأيت الوفاء من تلاميذي وتلاميذ أبي، حين أقام لي الشيخ محمود العقاد (رحمة الله عليه وعلى كل من مات ممن ذكرت في هذه الحلقة) حفلة في مدرسته، المدرسة التجارية العلمية، جمعَت وجوه البلد. وفي هذه الحفلة ظهر خطيب جديد كان يومئذ شاباً في العشرين، فبهر الناس بخطبة ارتجلها وبهرني مع الناس، هذا الذي صار من بعد نابغة الخطباء، وهو عصام العطّار. وكانت الانتخابات التكميلية، ولكنها زُوّرت وأُبدلت فيها الصناديق، فجاؤوا بغير التي ألقى فيها الناس أوراقهم وملؤوها قبل أن يأتوا بها. وقصّة هذا التزوير يعرفها الصغير والكبير فلا حاجة إلى إثباتها، بل لا حاجة إلى العودة إليها. وأراد الله لي خيراً مما أردت لنفسي؛ علم الله أنني لا أصلح للحياة السياسية، وأن الحياة السياسية ليست لساناً ينطلق ولا عقلاً يفكّر، ولكن لها طرقاً ملتوية لا يستطيع مثلي أن يمشي فيها، فأنقذني الله منها. ورجعت إلى مصر، ومررت بفلسطين فكان تسليمي عليها وداعاً، لأنها سقطَت بأيدي اليهود بعد ذلك

بشهور، ما أخذوها بقوتهم ولكن بتفرّقنا. اضطُررت إلى البقاء في حيفا أياماً، فرأيت فيها من الفسوق المعلَن والفواحش الظاهرة -مما حمله إليها اليهود في هذه السنوات القلائل- ما لم أكن أتخيّل وجوده في الخيال فضلاً عن أن أراه بالعين! ذهبت أفتّش عن فندق فمشيت في الشارع الكبير (وأظن أن اسمه شارع الملوك)، سرت فيه إلى اليمين والبحر من ورائي، فلما بدأ الطريق يصعد رأيت فندقاً حسن المظهر، فولجته لأجد لي غرفة أقضي الليل فيها، فإذا على يسار الداخل غرفة واسعة مقدّمتها من الزجاج، لها جدار قصير يُبدي ما وراءه ولا يخفيه، فيها بنات كثيرات ما هن مستترات ولا محتشمات ولا يبدو أنهن موظفات، وإلى اليمين مكتب كالذي يكون في الفنادق. فسألت عنهن فقال لي من هو في المكتب: اختر من تشاء وادفع، واذهب معها إلى غرفتها! وتبيّنت من لهجته وهيأته أنه يهودي. وعدت أمشي في الشارع فوجدت رجلاً عليه سيما الخير، فسألته عن فنادق البلد، فإذا في أكثرها مثل هؤلاء البنات المومسات. ووجدت أسواق المسلمين وسخة تتراكم فيها القمامات والأقذار، فاجتمعَت وساخة الطرق ووساخة الخلق. ورأيت أشياء لو ذهبتُ أفيض في ذكرها لكنت ممن يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. وأردت العودة إلى مصر فتعسّر عليّ أن أجد مكاناً في القطار، فقيل لي: اذهب إلى شركة الطيران المصرية. فذهبت وحفظت لي عليها مكاناً، ولم أكن قد ركبت الطائرة من قبل ولم يكن ركوبها للناس مألوفاً ولا معروفاً، وحان موعد قيامها وأنا

وَجِل منها خائف من شرّها، فإذا هي طيّارة صغيرة فيها سبعة مقاعد والطيار ومعاونه قاعد معنا في مقدّمتها، ولم يكن فيها إلا راكب واحد علمت أنه يهودي. فكان الطيار يحدّثني طول الطريق، فأقول له: كيف تترك مقود الطائرة؟ فيضحك ويقول: هل تصطدم بالجدار أو تسقط في حفرة؟ وبلغت مصر فكتبت في الرسالة مقالة عنوانها «عشرة أيام في الشام»، أغضبَت ناساً وأرضت ناساً، وصورت حقيقة وتضمّنت نصيحة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ورد اسم هذه المقالة في الطبعات السابقة من الذكريات «عشرة أديان في الشام»، وهو خطأ صوابه ما أثبتّه هنا. في أولها: "يُمضي المسافرُ أياماً طِولاً لا يقطع فيها إلا أذرُعاً من طريقه، ثم يجتاز الفراسخ والأميال في ساعات. ويعيش المرء سنين لا يفهم فيها من أسرارالحياة ولا يرى من معالم الكون إلا الأقل، ثم يرى في لحظة واحدة أخفى المعالم ويفهم أعمق الأسرار. وكذلك كان شأني: سرت على طريق الحياة قريباً من أربعين سنة، فلم أدرك من حقائق الحياة حولي ولم أعرف من خلائق الناس مثلَ الذي أدركته وعرفته في هذه الأيام العشرة التي «طرت» فيها فجأة إلى دمشق ثم عدت طائراً منها". وفي آخرها: "لقد كانت تجربة لن أعيدها ولو جرّتني إليها كل حروف الجر. لقد كانت تجربة تعلمت منها دروساً جمّة، أهمها أني لست مخلوقاً للسياسة. إن السياسي هو الذي يقول للحمار: أنت غزال بأذنين طويلتين. وأنا لا أقول للحمار إلا ياحمار! فإن غضب فدونَه «بردى» فليشرب منه ما يشاء! " (مجاهد)

عودة إلى الحديث عن مصر

-194 - عودة إلى الحديث عن مصر قرأت ما كتب عني الأستاذ أحمد أبو الفتح. وأنا أعرفه قراءة له لا اجتماعاً به، أعرفه أيام إقامتي في مصر، أيام كانت مصر هي مصر وكان الناس هم الناس. وما جئت أجزيه ثناء بثناء ومدحاً بمدح، فأنا أكتب وأنشر من ستّين سنة كاملة، من يوم حرّرت آخر جزأين من مجلة «الزهراء» التي كان يُصدِرها خالي محب الدين الخطيب ويكتب فيها الأعلام كالرافعي والأمير شكيب أرسلان. وقد كُتب عني من الثناء ما لو كبرت مئة مرة لما كنت أهلاً له، وكُتب عني من الهجاء ما لو صغرت مئة مرة لما كنت أهلاً له، فهان عليّ الأمران حتى لم أعُد أفرح (إلاّ قليلاً) بالثناء ولا آسى ولا أتألم (إلاّ أقلّ من القليل) من الهجاء. ولكن سرّني أني وجدت من كبار أصحاب الأقلام في مصر من يشاركني الشعور بأن الأمس الذي كنا نبكي فيه مما نسمع من بعض الفساد في حكومة مصر، ومن تسلُّط الإنكليز على مصر وليس لهم فيها من حقّ. فلما جاء حكم الضباط الأغرار، أقصد الأحرار، فقد سبق القلم إلى ما هو الصواب، بكينا على العهد الذي قبله لا حباً فيه ولكن بغضاً لِما جاء بعده.

أعرف الأستاذ أحمد أبا الفتح ركناً من أركان الصحافة في مصر يوم كان الصحفيون يكتبون ما يشاؤون، يعبّرون عن رأي الشعب أو رأي فريق من الشعب، لم يكونوا قد صاروا موظفين يقولون ما يُقال لهم ويردّدون ما يُلقى عليهم. على أني أسارع فأقول: إن ذلك الداء قد أوشك بحمد الله أن يزول، وإن الصحّة بدأت تعود، وإن مصر اليوم في ما يشبه عهد النقاهة من المرض: لا المرض متمكّن منها ولا الصحّة عادت إليها، فوجهها مصفرّ من أثر الداء، والكيس خالٍ مما أنفقَت في ثمن الدواء، ولكن الأمل قوي بالشفاء. وقد تفضّل فنقل فقرات مما كتبت، منها أني قلت عن مصر إنها أم دنيا العرب وأوسمها سمة (كذا)، والذي قلته: وأوسعها سعة، ولو أردت ذلك لقلت وسامة لا سمة. ويشكرني على أني أحب مصر، مع أني تلقّيت يوم صدور العدد الذي كتب فيه رسالة لو صدقتُ في وصفها لقلت إنها رسالة بذيئة، يسبّني مُرسِلها أشنع السبّ لأني أكره -كما يقول- مصر. وهذه «شنشنةٌ أعرفها من أخزَمِ»؛ فأنا متّهَم دائماً بكراهية مصر، من يوم كنت في العراق وكان الخلاف بيني وبين المفتّش المصري سنة 1936، أي من خمسين سنة، ولم ينفعني أني كنت يومئذ صديقاً لسفير مصر في العراق، الرجل الكبير الأستاذ عبدالرحمن عزام. أنا -ويحكم- أكره مصر ومِن مصر أصلي؟! منها جاء جدي أبو أبي لا جدي البعيد، والشام مولدي ومنبتي، وإن أنكرَتني بعد

الشيب والصحبة وقتلَت غدراً وظلماً بنتي، وكأنها أرادت (والله هو الذي يُمضي ما أراد) أن أموت قبل أن تكتحل برؤيتها عيناي. والعراق بلدي، عشت فيها وأحببتها. ولبنان بلدي عملت فيها. أما المملكة فأشهدكم أنني أُقِرّ بفضلها عليّ، من ملوكها الخمسة الذين أدركتُهم إلى آخر واحد من أهلها، رحمة الله على مَن ذهب للقائه من الخمسة ومدّ الله في عمر الباقي ووفّقه إلى ما يحبّه وإلى مايرضاه. المملكة التي فيها مكة والمدينة بلدي الأول وبلد كل مسلم، الدين أشرق نوره منها والعربية هي أصلها ومعدنها، وكل البلاد دخلها الاستعمار يوماً إلاّ المملكة فإن الله سلّمها منه وصانها. يقول الأستاذ إنه بكى لمّا قرأ سؤالي عن الأزبكية ما حالها؟ إنه -يا أستاذ- بكاء الرجال من فيض العاطفة ورقّة القلب، ليس بكاء الضعف ولا بكاء النساء. إن كل من عرف مصر من قبلُ وعرفها اليوم بكى، وإنْ كان آخر عهدي بمصر سنة 1959 لمّا كنت مستشاراً في محكمة النقض في الشام، وكانت الوحدة فجمعت المحكمتين، فانتقلنا إلى مصر وعقدنا فيها الجمعية العمومية مرات كان آخرها سنة 1959. وأنا أعرف مصر ملجأ الأحرار من قبل أن أعرف هذه الدنيا، وعمري الآن ثمانون سنة. كان الناس يفرّون من بلاد العرب إليها، من كان عنده فيض من بلاغة أو فضل من خبرة وبراعة حمل قلمه وخبرته ومشى إليها فأنشأ الصحف والمجلات فيها، كالأهرام والمقطّم والمقتطف، وإن لم تكن كلها مع مصر، وإن كان بعضها يساير أعداء مصر والعادين عليها وغاصبي الحكم فيها، وكالمنار والفتح اللتين كانتا دوماً مع الإسلام، ومن كان معه كان مع مصر.

ومن كان عنده أثارة من فن حمله إليها، كأبي خليل القباني ومن عرفتم من المغنّين والممثلين (فما جئت أؤرّخ لأهل الفنّ ولا تاريخهم مما يعنيني أو ينفعني). ومن كان عنده رغبة في الإصلاح أو خطة للنجاح حملها إلى مصر، كالشيخ جمال الدين الأفغاني. أما علوم الدين فما حملها إليها أحد، لأنها فيها ومنها أُخذت وعنها اقتُبست، فحسبكم بالدين وعلومه فخراً. ما كان أهل مصر يعرفوننا ولكن نحن نعرفهم، لأننا كنا نتعلم منهم، من كُتّابهم وأدبائهم ومن صحفهم، والتلاميذ يعرفون المعلّم ولكن المعلّم لا يعرف التلاميذ جميعاً. ما كانوا يعرفون الأقاليم العربية، وعندي على هذا شواهد كثيرة منها رسالة من الأستاذ أحمد أمين رحمه الله بخطه، على ظهرها عنواني واسمي وتحته دمشق وخط تحتها، وتحت الخط كلمة فلسطين! ولعلّ ذلك أن حبّهم لبلدهم كرّه إليهم البعد عنها أو معرفة غيرها، حتى إن ابن مصر (أعني القاهرة) إن نُقل إلى الفيّوم شكا وبذل الجهد وجاء بالوسطاء ليعود من غربته إلى بلدته، فإن نُقل إلى إسنا أو أسيوط اسودّت الدنيا في عينيه وأحسّ أن الأمل ضاع من يديه. وكانوا يعجبون من اقتحام الشاميّين الأخطار وحملهم مشقّات الأسفار حتى مدحهم بذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم، فما بال المصريين اليوم تبدّلت حالهم فصاروا يمشون شرقاً ويمشون غرباً، ويسيرون شمالاً ويسيرون جنوباً، حتى ما تجد بلداً يخلو من المصريين، وهم في كل بلد يحلّونه وفي كل عمل يختارونه، من أعمال الفكر في الجامعات والمجامع وفي ميدان المال في الشركات والمصانع، يحتلّون في كل عمل أعلى محلّ ويكونون في صدور المجالس.

فإن كان العهد الأسود الذي مرّ على مصر قد عدّ عليها أنفاسها وخنق ناسها وقتل خيارها وأذهب خيراتها، فإنه أخرج أهلها من عزلتهم فعرّف الناس بهم وأرى الدنيا عبقرياتهم، في بلاد العرب والمسلمين وفي أوربا وفي أميركا. وإن كان الذي يسرّنا ويرضينا أن يبقى أبناؤنا في أرضنا، وكل أرض المسلمين أرضنا، وأن يكون خيرهم لنا لا لغيرنا، وأن تنشأ ذرّيتهم عندنا لا في بلد لا يُسمَع فيه القرآن ولا يُصدَح فيه بالأذان. فإن اضطُررتم إلى الهجرة إلى مثل هذا البلد فذكّروا الصغار دائماً بأنهم مسلمون، وأنهم سلائل مَن حملوا مشعل النور حين شمل الأرضَ الظلامُ وميزانَ العدل حين طغى وبغى الحكّام، لئلاّ يفتنهم ما يرون من مظاهر الحضارة عمّا عندهم. أفهموهم أن الذي يرونه فرع مما كان عندهم، وأن أجدادهم هم الذين علّموا هؤلاء ثم ناموا حتى سبقهم في علوم المادّة هؤلاء، وأن أجدادهم كانوا هم الأساتذة وكانوا هم القادة وكانوا هم السادة. لا ياإخوان، أنا ما أقول هذا لننام عليه بل لنصنع مثله؛ إنه لا بدّ من التاريخ لأن اليوم هو ابن الأمس وأبو الغد، ومَن ليس لهم في الأمجاد تاريخ كهؤلاء اليهود يخترعون لهم تاريخاً مكذوباً لأنها لا تعيش أمة بلا تاريخ، ولكن الفخر بالتاريخ وحده لا يُجدي. ما الذي يُجدي الفقيرَ أن يكون طول مائدة أبيه عشرة أذرع وعليها عشرة ألوان، وهو خاوي البطن فارغ المعدة يكاد يقصفه الجوع؟ ما الذي يُفيد الهزيلَ النحيل العليل أن يكون أبوه بضخامة الفيل؟

إنَّ الفتى مَنْ يقولُ هأنذا ... ليسَ الفتى مَنْ يقولُ كانَ أبي ألا تعرفون قصة فولتير مع النبيل الذي عيّر الكاتب بنسبه وفخر عليه بشرف أسرته، فقال له فولتير: "إن شرف أسرتك ينتهي عندك، وأسرتي يبدأ شرفها بي". فافتحوا في التاريخ صفحة مجد أنتم عنوانها، لا تكونوا حاشية مطموسة في ذيل صفحة مجد الجدود. اجعلوا شعاركم قول الشاعر: نبني كما كانَتْ أوائلُنا ... تبني، ونفعَلُ مثلَما فعَلوا بل نفعل فوق ما فعلوا. ولِمَ لا، وقد تيسّرَت اليوم الأسباب وفُتحت الأبواب؟ فهل فقد المسلمون بطولتهم؟ هل أضاعوا نصيبهم من إرث محمد ‘؟ أليست العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين؟ بلى، ولا تزال العزّة لهم إن مشوا على طريقها وسلكوا سبيلها، وسبيلُها سبيلُ الله وسبيل رسول الله. إننا نتحدث دائماً عن بدر والقادسية واليرموك وحطّين، وتلك الأيام الغُرّ لا في تاريخنا وحده بل في تاريخ البشر، فهل فقدنا العزائم التي انتصرنا بها في تلك الأيام؟ لقد ظفرنا في عشرة آلاف معركة خضناها، نثرنا فيها شهداءنا نثراً في كل بقعة من الأرض وتحت كل نجم في السماء، ثم سقينا أجداثهم بدمائنا، سقينا الصحارى المتسعّرة الرمال في بلاد العرب وفارس وإفريقيا، وجنان الشام والسهول الممرعة في مصر والعراق وفي أرض فارس، والأفغان والهند وأطراف الصين، وفي شواطئ البحر المتوسط التي كانت كلها أو جلّها لنا وكان هذا البحر يُدعى تارة بحر العرب وتارة بحر الروم، وفي

أوربا التي جئناها من الغرب بالجيش العربي المسلم حتى بلغنا قلب فرنسا، وجئناها من الشرق بالجيش التركي المسلم حتى وصلنا إلى أسوار فينّا. أفأضعنا هذه البطولات؟ إن محمداً ‘ صبّ البطولة صباً في أعصاب المسلمين، فما تلقى في الدنيا مسلماً جباناً. فإن رأيتم مسلماً يخاف الموت في الجهاد في سبيل الله حين يجب الجهاد فاعلموا أنه مسلم باللسان وحده وليس مؤمناً بالجَنان. ما أضعناها، ولكن تعبنا فنمنا وطال بنا المنام، وحسِبنا أن ذلك الليل لا آخر له وأن الصباح لن يطلع أبداً، حتى سمعنا الأذان من الشرق (من نجد): حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله. وسمعنا البوق العسكري من الغرب (من مصر) يوقظ النيام. الأول هو صوت الدين يهتف به الشيخ محمدبن عبد الوهاب، والثاني صوت الدنيا ينفخ فيه في هذا البوق محمد علي، الأول من منارة المسجد والثاني من الثكنة ومن المدرسة. والدين مسجد وثكنة ومدرسة وسوق. * * * فيا أيها الأستاذ، هل تيأس من أن يجيء مرة ثانية نصر الله والفتح وأنت أبو الفتح؟ أما ترى الشباب يعودون فيدخلون في دين الله أفواجاً؟ كنا ياأستاذ نخاف أهل أوربا لأننا نرى أسلحتهم ومنجَزاتهم ولا نعرف سرّها، فنخشاهم ونخشاها. اقرأ (ولا شكّ أنك قرأت) ما كتب الجَبَرْتي في تاريخه لمّا دعاه الفرنسيون إلى مشاهدة

تجرِبة كيميائية فحسب ما رأى سحراً، على حين تُجرى أمثال هذه التجرِبة اليوم في المدارس الثانوية والمتوسطة ولا يعجب التلاميذ منها لأنهم عرفوا حقيقة أمرها. وما السحر؟ أصل معنى السحر في لغة العرب: الشيء الغريب الخفيّ الذي لا تعرف سببه. فإن عُرف السبب بطل العجب. ونحن قد عرفنا اليوم من علوم القوم مثل ما يعرفون، وكانت مصر هي السابقة إلى هذا. قلت في محاضرة ألقيتها في الرياض في الندوة العالمية للشباب المسلم سنة 1373هـ (وهي محاضرة أعددتُ -على عادتي- أفكارها ولكني لم أكتبها، فسجّلوها جزاهم الله خيراً وكتبوها) وكان مما قلت فيها ... عفوكم ياأيها القراء، لم أجد المحاضرة تحت يدي لأنقل منها الفقرة التي أتحدّث عنها، والبحث عنها بين أوراقي مثل الأشغال الشاقّة التي يُحكَم بها على عُتاة المجرمين، فأعفوني من نقلها واكتفوا بخلاصتها، فإن خلاصتها في ذهني ولكن نصّها بعيد الآن عن عيني (¬1). قلت إننا كنا في الشام في شبه عزلة عن مناطق الحضارة الحديثة في أوربا وأميركا واليابان، أقمنا حولنا جداراً حبسنا أنفسنا فيه فلا نرى ولا نحب أن نرى ما وراءه، ولكن كنا نسمع عنه، تصل إلينا أطراف من أخباره وطرف من صناعاته وآثاره. وكان ¬

_ (¬1) المحاضرة منشورة بكاملها في آخر كتاب «فصول إسلامية» في طبعته الجديدة التي أصدرتها دار المنارة، وهي بعنوان «موقفنا من الحضارة الغربية»، وقد نشرتها دار المنارة في رسالة مستقلّة أيضاً (مجاهد).

منا ناس درسوا العلوم الجديدة في إسطنبول (¬1) ولكن كانوا قلّة، فلما انتهت الحرب الأولى سنة 1918 انهار الجدار ودخلَت علينا دخولَ السيل إذا سقط من أمامه السدّ. وأنا أصف ما رأيت وما سمعت، وكنت يومئذ في آخر الدراسة الابتدائية. وللوصف طريقتان: طريقة مَن يجمع الوثائق في الموضوع ويُحيط بما كُتب فيه، وهذه هي الطريقة الموضوعية (أوبجيكتيف)، أو أن يروي الكاتب ما رأى وما سمع، وهذه هي الطريقة الشخصية (سَبْجكتيف). الأولى شاملة وينقصها التفصيل والثانية فيها التفصيل وينقصها الشمول. كنا مع هذه الحضارة التي اقتحمَت علينا كالذي يكون في بيت مظلم ويخرج إلى الشارع في رأد الضحى حيث الشمس ساطعة، أو إن شئتم العكس، كالذي يكون في الشارع المضيء ويدخل إلى البيت المظلم، كلاهما يزيغ بصره فيلبث لحظات لا يرى ما حوله ولا يدري من أين يمشي. وكانت النتيجة أن أكثرنا ما أحسّوا بها ولبثوا يعيشون بعد دخولها كما كانوا يعيشون من قبلها، والقلّة التي شعرَت بها خافت منها، فالمشايخ عبّروا عن خوفهم بمحاولة دفعها ونبذ كل ما جاءت به، بحجّة أن أصحابها كفار وأن الكفر شرّ ولا يجيء خير من شرّ. وبعض الشبّان أظهروا خوفهم منها بالانقياد لها وأخذ كل ما جاءت به، ودليلهم أن أصحابها أقوى وأكثر حضارة منا، والحضارة خير وكل ما يأتي من الخير خير. ¬

_ (¬1) أصلها إسلامبول، أي مدينة الإسلام (مثل إسلام أباد). سمّاها بذلك محمد الفاتح.

كلهم خافوا منها، والخائف الذي يواجه الخطر إما أن يفرّ منه أو أن يحاول دفاعه أو أن يستسلم له. أما الآن وقد زالت صدمة المفاجأة وألِفَت أبصارُنا النظرَ فيما حولنا، فلم نعُد نخافها فنحارب كل ما فيها حتى الحقّ من العلم والنافع من المستحدَثات، أو نمشي معها فنأخذ كل ما فيها حتى الفسوق والعصيان والفواحش والتأميم والشيوعية. لقد تعلّمنا علومهم وصار منا مَن هو فيها مثلهم. ولقد سردت في المحاضرة مشاهدات مما رأيت في ألمانيا وبلجيكا وهولندا، رأيت في المستشفيات أطباء كباراً من العرب ورؤساء أقسام فيها يمشي وراءهم ويتبع خطاهم ويستنير بعلمهم أطباء من تلك البلاد، ورأيت مهندسين وعلماء في الجامعات يُعترف بفضلهم ويقدّرهم أهل تلك البلاد. ولمّا ألقيت المحاضرة كانت تجرِبة المراكب الفضائية جديدة، وقلت لهم إن الذي يوجّه هؤلاء ويدرّبهم ويعلمهم هو شابّ مصري من الزقازيق أبوه شيخ اسمه فاروق الباز، وأنا لا أفرح أن يذهب علماؤنا والنابغون منا فيفيدوا بعلمهم ونبوغهم غيرَنا، ولكن أمثّل بهم على ما قلت من أننا عرفنا ما عندهم فلم نعُد نخافهم. * * * وبعد، فإن العاقبة للتقوى: {وإنّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبونَ}، وإن هذا الدين محفوظ بحفظ الله: {إنّا نحنُ نَزّلْنا الذِّكرَ وإنّا لهُ لَحَافظونَ}. فلا خوف ياأستاذ على الإسلام؛ لقد مرّت به مِحَن شِداد وأيام أقسى من الأيام التي مرّت بها مصر من سنة 1952 إلى الآن، ولكن الإسلام خرج منها ظافراً: يوم الردة، يوم رمَت قبائلُ العرب الإسلامَ عن قوس واحدة وقالت:

أطعْنا رسولَ اللهِ إذْ كانَ بينَنا ... فيا لَعبادِ اللهِ ما لأبي بَكْرِ أيُورِثُها بَكراً إذا ماتَ بعدَهُ ... وتلكَ لَعَمرُ الله قاصمةُ الظّهْرِ فقصم الله ظهر المرتدّين بعدما حسب المنافقون أنها نهاية هذا الدين، ورجعَت الجزيرة كلها إلى الله، ثم خرجَت تنشر دين الله ففتح الله لأبنائها ما بين قلب فرنسا وقلب الهند، ووصلَت راية الإسلام إلى شاطئ بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) وجبال الصين. ويوم اتّحدَت أوربا كلها لحرب الإسلام، ومشت جيوشها حتى صار أولها في فلسطين وآخرها في القسطنطينية، وحكمت سواحلَ الشام واحتلّت القدس وظنّت أنها استقرّت فيها إلى الأبد، فما هي إلاّ أن قام نور الدين ومِن بعده صلاح الدين، فنشرا علَم الإسلام وضربا بسيف محمد ‘، فطهّرا البلاد من أوزار الصليبيّين. لا كما فعل صاحبكم حين رفع راية الاشتراكية وضرب بسيف تيتو، فأضاع ما كان باقياً لنا من فلسطين وأعان الكفار على المسلمين. ويوم جاء السيل الدفّاع الذي اجتاح دول الشرق الإسلامية كلها، ووطئ ثرى بغداد وقتل أهلها وأغرق كتبها، وظنّ أنْ قد استتبّ له الأمر ولم يعُد يقوم له أحد، فبعث الله له رجلاً من مصر كان مملوكاً فجعله الإسلام ملكاً، ورجلاً من الشام كان شيخاً فقيراً اسمه الشيخ عزّ الدينبن عبد السلام، فاجتمع القلب المؤمن والقائد الجريء والجيش المطيع والشعب الخيّر الكريم، فردّت مصرُ الجيشَ الذي لم تقوَ على ردّه دولة الخلافة في بغداد

يوم كانت بغداد أعظم مدينة على ظهر هذه الأرض. ما بيننا وبين النصر، ما بيننا وبين أن ننقذ فلسطين إلاّ أن نعود إلى ربنا، وأن نعلم أنها إن كانت تُمِدّ إسرائيلَ وتُعينها وتؤيّدها قوى كبيرةٌ فإن الله أكبر. لقد طالما قلت هذا ياأستاذ ولم يسمع مني أحد. قلت: ما الذي ينقصنا لننتصر على اليهود؟ العدد؟ نحن -المسلمين- ألف مليون فكم عدد اليهود؟ العلم؟ عندنا -معشرَ المسلمين- من العلماء أكثر مما عند اليهود. المال؟ معنا، مع ألف مليون من المسلمين أكثر مما مع اليهود؟ فما الذي ينقصنا؟ ينقصنا الإيمان. لقد قلت في الإذاعة (وأنا أقدم محدّث فيها، أذيع بلا انقطاع من أكثر من خمسين سنة) قلت: إن السلاح لا يُغني عن الإيمان مهما كثر السلاح. فضحكوا مني وسخروا بي، وقالوا: ما يُدريك وأنت شيخ أديب ما العسكرية وما فنون القتال؟ فلما نشر مونتغمري مذكّراته وتكلّم عن القوة المعنوية وقال مثل الذي قلت سكتوا وما قالوا شيئاً. أيسخرون من مونتغمري ويقولون له: أنت لا تدري ما فنون القتال؟ نحن نشكو أدواء في مجتمعاتنا وأعداء تكالبت علينا ومظالم حاقت بنا، فلماذا نواجهها وحدَنا ولا نطلب من الله أن يقف معنا؟ لماذا لا ننصره باتّباع شرعه لينصرنا؟ إننا نريد أن يغيّر الله ما نحن فيه، فما طريق التغيير؟ {إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقَوْمٍ حتى يغيّروا مابأنْفُسِهِم}، فهل غيّرنا ما بأنفسنا إلى ما هو أرضى لربنا وأقرب لديننا؟ قضية فلسطين والمسجد الأقصى قضية المسلمين جميعاً،

فلماذا لا ندعوهم ليقفوا فيها معنا؟ لماذا نُعرِض عنهم وهم يمدّون أيديهم إلينا؟ لماذا نجعلها قضية فلسطينية أو عربية ولا نجعلها قضية إسلامية فيقف معنا الألف المليون مسلم؟ * * * لو جمعنا عشرة من أكبر علماء الأرصاد الجوية فتناقشوا وبحثوا ثم قرّروا أن اليوم صحو، وكان المطر ينزل، فما قيمة مناقشاتهم ومباحثهم؟ التجربة أكبر برهان. وقد جرّب أجدادنا تجرِبة وجرّبنا تجرِبة؛ جرّبوا العمل لله والجهاد لإعلاء كلمة الله فملكوا ثلث المسكون من الأرض في ثلث قرن وأزاحوا كسرى وقيصر يوم كانت فارس والروم مثل أميركا وروسيا الآن، وجرّبنا نحن التقدمية والاشتراكية والبعد عن أحكام الدين، فغُلبنا على قبلتنا الأولى وعلى مسرى نبينا. ومَن الذي غلبنا؟ غلبنا أذلّ الأمم اليهود. فماذا تريدون بعد هذا؟ * * *

حلقة مفردة: وحي صورة

-195 - حلقة مفردة: وحي صورة تلقّيت أمس بالبريد رسالة من صديق قديم، كتبها على ظهر بطاقة بريدية فيها صورة مدرسة أثرية في دمشق من أجمل الآثار المملوكية، هي المدرسة الجَقْمقيّة التي بناها سنجر الهلالي ثم جدّدها الملك الناصر سنة 761هـ، ثم احترقَت فأعاد بناءها الأمير سيف الدين جقمق فنُسبت إليه. وهي واحدة من مئات ومئات من المدارس بناها الملوك والأمراء في مصر والشام والعراق وكثير من البلاد، مضوا وخلّفوها وراءهم كأنها قصيدة رثاء صادق لهم. وإذا خلّد غيرُ المسلمين عظماءهم بتماثيل ينحتونها على صورهم لا تنفع أحداً، فإن أمراء المسلمين يخلّدون ذكراهم بمدارس فيها العلم النافع ومعاهد ومباني فيها النفع الدائم. وإن كان أكثرُ هذه المدارس قد عدا عليه العادون فجعلوها مساكن لهم يملكونها بالأسناد الرسمية، ولا يزال على أبوابها نقش ثابت على الرخام باقٍ من تلك الأيام باسم باني المدرسة وبيان ما وقف عليها من دور ومزارع! فأكلوا أوقافها ونسوا أسماء بُناتها.

يمرّ أهل البلد على هذه المدارس فلا يلتفتون إليها، ويقف السياح عليها مُعجَبين بروعة بنائها وجمال نقشها، ويصوّرونها ويحتفظون بصورها ثم يدَعونها ويرحلون عنها. أمّا أنا فقد رأيت في صورة هذه المدرسة ما لا يرون؛ لقد هزّتني هزاً فحرّكَت في أعماقي ذكرياتي، كما تهزّ الشجرةَ المثمرة فيسقط عليك من ثمارها. لقد ردّتني هذه الصورة سبعين سنة إلى الوراء، إلى سنة 1337 يوم كنت تلميذاً فيها. وكنت لمّا جاءني البريد أمسك القلم لأكتب حلقة من هذه الذكريات، فصرفتني هذه الصورة عنها، فرميت القلم وأمسكت عن كتابة الحلقة. وصدق شوقي إذ يقول: قدْ يهونُ العُمْرُ إلاّ ساعةً ... وتهونُ الأرضُ إلاّ موضِعا ولو أنّ إنساناً نام ليلة، فلما أصبح وجد معه أهلاً بدلاً من أهله ووجد نفسه في بلد غير بلده، قد تبدّل عليه كل شيء حتى لم يعُد يعرف مما كان يعرف شيئاً. ماذا تحسبونه صانعاً؟ ألا ترون أنه يُجَنّ؟ أنا ذلكم الرجل؛ لقد كانت هذه المدرسة نصف دنياي، والنصف الآخر داري والطريق بينهما، فلا أُرى إلاّ غادياً عليها أو رائحاً منها، أسلك الأسواق والحارات نفسها وأرى الرجال أنفسهم، فإذا أنا أجدني الآن قد فقدت ذلك كله. ذهبَت دنياي وأهلي وناسي جميعاً، ولكن ما كان ذلك بين عشيّة وضحاها، فليس التطوّر المفاجئ وليست الطفرة من سنن الله في الوجود، بل يكون التبدّل بطيئاً لا يحسّ به البشر، كما يتحرّك العقرب الصغير في الساعة. انظر إليه ترَه ساكناً واقفاً

مكانه، هل تستطيع أن تدرك سيره؟ ولكنه -على ذلك- يسير. عُدْ إليه المساء تجده قد انتقل من مكانه. وضع في القارورة حبراً وأنزل عليها الماء خيطاً رفيعاً، وعد إليها بعد حين تجد الحبر قد صار ماء. والليل أسود مظلم والضحى أبيض منير، فهل انتقل الكون من ظلام الليل إلى بياض النهار في لحظة واحدة، أم أن الله يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار؟ وكنت أنا طفلاً ثم صرت شاباً وأمسيت اليوم شيخاً، فهل أستطيع أن أحدّد اليوم والساعة اللذين انتقلت فيهما من الطفولة إلى الشباب ومن الكهولة إلى الشيخوخة؟ لماذا أرسلتَ إليّ ياصديقي هذه الصورة التي هاجت أشجاني وحرّكت لواعجي، وجعلتني أبكي ما مات من أيام عمري؟ كانت لي أسرة أودّعها كل صباح ذاهباً إلى المدرسة وأعود إليها كل عشيّة، فلم يبقَ منها أحد، وجاءت أسرة جديدة فيها زوجة لي وبنات وأحفاد، وبناتي صرن جدّات. أين كان هؤلاء كلهم لمّا كنت أذهب تلميذاً إلى هذه المدرسة؟ وإلى أين ذهب الذين كانوا يومئذ أركان أسرتي: جدّي وجدّتي وأبي وأمي وعمّتي، واثنان فقط من إخوتي؟ أين دمشق التي كانت يومئذ؟ ومَن يقول إنها هي دمشق التي نراها اليوم؟ هل في المئة من سكانها الآن واحد ممن كانوا يومئذ أهلها؟ لقد تبدّل الناس وتغيّر كثير من العادات والأعراف، والطرق والأحياء تغيّرَت. أين دمشق سنة 1406 من دمشق سنة 1337 لمّا كنت تلميذاً في المدرسة الجقمقية؟ أين رفاقي فيها؟ ما أحسب أنه بقي منهم إلاّ هدى

الطباع وصلاح شيخ الأرض وحسن السقا، وسبقني الباقون إلى لقاء الله. فمن ألقى من الرفاق إذا ذهبت إلى الشام؟ هذا جزاءُ امرئٍ أقرانُهُ درَجُوا ... مِن قَبلِهِ فتمنّى فُسْحَةَ الأجَلِ * * * لقد تداول هذه المدرسةَ رجالٌ لا يعلمهم إلاّ الله. مرّ عليها الآن ستمئة وستّ وثلاثون سنة، فمَن يعلم مَن وليها فيها؟ ولكني أعلم أنها انتهت على أيامنا إلى الرجل الذي نقل التعليم في دمشق من الكتاتيب إلى المدارس، والذي تعلّم على يديه ثلث من كان يومئذ حياً من أبناء الشام، والذي لبث سبعين سنة يعلّم، والذي تعلّم عنده أبي ثم صار معلماً في مدرسته، وتعلّمت أنا في مدرسته ثم صرت معلّماً عنده، والذي رأيت في سجلّ تلاميذه يوم كنت معلماً اسمَ التلميذ واسم أبيه من قبله وجده من قبلهما، والذي كنت يوم مات سنة 1349 محرّراً في جريدة «اليوم» عند الأستاذ عارف النكدي، فكتبت عنه، فجاء مَن يقول لي: أتشغل الجريدة بالكتابة عن شيخ كُتّاب؟ لم تكن قبله في الشام إلاّ مدرسة واحدة هي مدرسة الشيخ الصوفي، والمدرسة التي يعلّم فيها الشيخ محمد المبارك والد أستاذنا الشيخ عبد القادر المبارك، ومن تلاميذها الأستاذ محمد كرد علي الذي كان له الفضل على كل من اشتغل بالصحافة وبالكتابة في دمشق. الشيخ المبارك الذي كان يُعَدّ في زمانه من الأدباء أيام لم يكن في دمشق إلاّ قليل ممن يُعنى بالأدب، وكان الأدب سَجعاً ورصف ألفاظ، وكانت قدوةَ الأدباء وكان المثلَ

الأعلى لهم مقاماتُ الحريري. وإذا أردتم أن تروا مثالاً على أدب الشيخ محمد المبارك فاقرؤوا رسالته المطبوعة «بهجة الرائح والغادي في أحاسن محاسن الوادي». بقي الشيخ عيد السفرجلاني يعلّم سبعين سنة، وكانت مدرسته لمّا افتتحها شيئاً جديداً مفرَداً، فلما كثرَت المدارس وصارت شيئاً قديماً انصرف التلاميذ عنها. ومن كانت عنده مجموعة الرسالة وجد في سنتها الأولى في عدد 4 ذي الحجة سنة 1352 مقالة لي عن الشيخ في أخريات أيامه (¬1). هذا الرجل الذي نسيه أهل دمشق، وقد كانوا يتلقّون العلم عنه ويقبسون الضوء منه، فيهتدون به في طرق الحياة المظلمة. خبّروني: لماذا نؤلّف الكتب ونُعِدّ الدراسات -نجعلها موضوعات الرسائل الجامعية والأطروحات- عن رجال السياسة ورجال الفنّ ولا نقضي ديون رجال التعليم علينا؟ هؤلاء هم الذين نشّؤوا أولادنا، هم الذين وضعوا الأساس لبناء ثقافتنا، هم الذين يكون الصلاح منهم إن كانوا صالحين. فلماذا لا نوليهم من العناية ما يستحقّون؟ لماذا لا يكتب الشاميون عن الشيخ عيد السفرجلاني والشيخ كامل القصّاب والشيخ أبي الخير الطباع؟ لماذا لا نكتب هنا عن محمد علي زينل وعمّن فتح المدرسة الصَّوْلتية وعن الذين أقاموا للتعليم في المملكة هذا الصرح العظيم؟ ولا تعجبوا إن قلت لكم إن الشيخ عيد لبث سبعين سنة يعلّم، فأنا العبد الفقير أعلّم من ستين سنة، من سنة 1345هـ، ¬

_ (¬1) مقالة «نهاية الشيخ»، وهي في كتاب «قصص من الحياة» (مجاهد).

وفي الشام رجل اسمه الأستاذ درويش القصّاص، لمّا كنت أنا تلميذاً في الابتدائية كان في أيدينا كتاب اسمه «مبادئ الهندسة» من تأليفه. وممن أذكر الآن من قدماء المدرّسين في الشام ممن يستحقّ التكريم: أحمد عزة الرفاعي وسعيد الأفغاني وسليم الزركلي ومحبّ الله النابلسي وحمدي الزركلي ومصطفى الصواف. فعدّوا أنتم من تعرفونه هنا من قدماء المدرّسين. إنهم طالما هجروا نومهم ليصحّحوا دفاتر أبنائكم، وشغلوا يومهم بتقويم أذهان أبنائكم، أفلا تقولون لهم شكراً؟ * * * لقد كتبتُ كثيراً عن هذه المدرسة، وعن المدرسة الأمينية، وعن الكاملية التي أنشأها الشيخ كامل القصاب، العالِم السياسي المعلّم الذي عرفتموه هنا مديراً للمعارف، وقد سرّني أمس كتاب أهداه إليّ أستاذ فاضل لم تُكتَب لي معرفته، هو الأستاذ الخطاط حلمي، فيه صفحات من تاريخ التعليم في المملكة، لم يُفسِد حقائقَها أسلوبٌ مزخرَف مثقل بأدوات الزينة، ولم تخنقها المبالغات والتهويلات التي يلجأ إليها ناس من الكتّاب، يحسبون أنها تزيد الحقائق تثبيتاً في النفوس، لا يدرون أنها تطمسها وتُذهِب رونقها، وأن جمال الحقيقة في عرضها عاطلة من كل زينة سالمة من كل مبالغة. كانت هذه مدرستي. وإن فكّرتم عجبتم من قولي إنها مدرستي ومن قول القائل هذه داري. لقد أقمت في عمارة الكعكي في أجياد عشرين سنة وكنت أقول إنها داري، لو دخل شقّتي

إنسان بلا إذن مني لقلت إنه سارق جاء ليسرقني، ولوجدت حيثما نظرت من يصدّقني ويُبعِد هذا الداخل عني. فما لي الآن أمرّ بها فلا أستطيع أن أضع المفتاح في بابها فألجها؟ وإن قرعتُ بابها سألني مَن فيها: من أنت وماذا تريد منها؟ هذه ياناس هي الدنيا، كانت الدار قبلي لغيري وصارت بعدي لغيري، فأنا كراكب الطيارة التي رُقّمَت مقاعدها: المقعد الثاني من الصف الثاني مقعدي، ولكن يكون لي أنا ريثما تصل الطيارة إلى محطّها ويبلغ المسافرُ غايتَه، ثم يكون المقعد لسواي كما كان من قبلي لسواي. وسريرك في الفندق هو اليوم لك، وأمس وغداً لغيرك. إننا مسافرون، فإذا انقضى السفر لم يبقَ لنا من وسائله شيء. والريالات التي هي اليوم ملك يمينك: كم من يد ملكَتها قبلك وكم من يد تملكها من بعدك؟ كلها عاريّة مسترَدّة. بل إن حياتك في هذه الدنيا عاريّة لا بد أن يستردّها صاحبُها. صدق المعرّي حين قال في اللزوميات (وإن كان في «اللزوميات» كثير في الأقوال لم يكن فيها صادقاً ولا باراً): المُلكُ للهِ، مَن يَظفَرْ بنَيلِ مُنَىً ... يترُكْهُ قَسْراً ويضمَنْ بعدَهُ الدَّرَكا لوْ كانَ لي أو لغيري قيدُ أُنمُلةٍ ... مِنَ الوجودِ لكانَ الأمرُ مشتَرَكا ألسنا مثل إمام الشعراء امرئ القيس الذي وقف على ديار الأحبّة يرى آثارها ويستقري أخبارها، فاستعجمت الديار فما تحدّثه بخبر، وضيّعت ما استُحفظت فما تكاد تحفظ من أثر؟ لقد

وقف واستوقف صحبَه فوقفوا مطيَّهم معه، وبكى واستبكى مَن معه، فلا البكاء أفاد ولا الوقوف نفع، ولا أيام الوصال عادت ولا الحبيب رجع. إني لأفكّر: كم من المنازل كان لي فصار لغيري، وكان يعرفني وصار يُنكِرني؟ وفي كل منزل منها شعبة من قلبي وبقايا من حبي وقطعة من حياتي وأطراف من ذكرياتي: في الشام وفي مصر وفي العراق وفي بيروت، وفي كل بلدة دخلتها أو أقمت فيها من أقصى الجنوب الشرقي من آسيا إلى أقصى الشمال من هولندا. فما لها اليوم صارت كلها غريبة عني وصرت غريباً عنها؟ حتى الدار التي عمرتها بيدي على أرض اشتريتها بمالي في سفح قاسيون في بلدي، وشهدت نموَّها يوماً بعد يوم وقيامَها حجراً فوق حجر، حتى هذه الدار صارت لغيري. وإن أعطاني الله -والحمد له دوماً- داراً خيراً منها، فحرمني العباد من رؤيتها ومن سُكناها: كمْ منزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفتى ... وحنينُهُ -أبداً- لأوّلِ منزلِ وأول منزل لي دار صغيرة في أحد الأحياء الفقيرة في دمشق. على أن في البيت معنى لا أحسبه خطر على بال أبي تمام الذي قاله، معنى أعلى وأسمى وأصدق مما أراده الشاعر؛ هو أن أول منزل لنا معشر البشر المنزلُ الذي كنا فيه فأخرجَنا منه عدوٌّ لنا، قال لنا الله اتخذوه عدواً فاتخذناه صديقاً، وقال لنا اعصوه فأطعناه، هذا العدوّ هو إبليس وأول منزل هو الجنّة. فالعاقل مَن صدَق العزم على الرجعة إليها، وأعدّ لهذه الرجعة عدّتها وهيّأ لها وسائلها وسلك سبيلها. وما سبيلها؟

الأماني؟ بل العمل: ترجو النجاةَ ولم تسلُكْ مَسالكَها ... إنّ السفينةَ لا تمشي على اليَبَسِ * * * لقد ذكرت وأنا أقرأ هذا الكتاب الذي ورد عليّ مكتوباً على ظهر الصورة، ذكرت مقالة لي في «الرسالة» عن هذه المدرسة، فبحثت في أجزاء الرسالة (وتحت يدي أكثرها) فوجدتها في عدد يوم 25 ربيع الآخر سنة 1365، فقلت: أروي للقراء فقرات منها ليروا كيف كنت أكتب قبل أربعين سنة. قلت (¬1): ما مررتُ بهذه المدرسة الخَرِبة المعطَّلة وذكرت ما أودعتها من عواطفي وما تركت فيها من حياتي إلاّ تلفّت القلب، وصفا الفؤاد، وانبثقت في النفس خواطر وانبعثت للعين صور أُقِرّ بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجُمَلاً، ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشدّ انطلاقاً من النور وأوسع من الزمان. (إلى أن قلت): فاسألوا هذه الجدران العارية وهذه الغرف الخالية، ويا ليتها تملك النطق فتصف ما رأت! ليتها تعي المغاني وتحدّث المباني، وأنّى؟ وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد. (إلى أن قلت): لقد عشتُ دهراً لو قيل لي فيه إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلاّ ¬

_ (¬1) انظر مقالة «وقفة على طلل»، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

وقفة التذكّر والحنين، ثم تمضي لطيّتك وتنساها بعد خطوات لما صدّقت. فكيف هانت عليّ هذا الهوان؟ (إلى أن قلت): وأنا رجل كلما تقدّمَت به السنّ ازداد إيغالاً في عزلته وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن من قريب إذ تجوز بحر الظلمات (أي المحيط الأطلسي، وكان ذلك أيام الحرب)، حتى غدوت وقد رثّ حبلي وتصرّم إلاّ خيوطاً: طائفة من الأصحاب لا يبلغون عدد أصابع اليدَين، وأماكن هي أقلّ من ذلك؛ لا ألقى سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبقَ لي في لياليّ الطِّوال مؤنسٌ أو سمير إلاّ هذه الكتب وهذا الماضي، أزداد كل يوم تعلّقاً به وحنيناً إليه، أمّا المستقبل فأخافه ولا أجرؤ على التفكير فيه. لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفتُه وعانقته وشممته، لعلّي أجد في ثيابه عبَقاً من أزاهير الماضي الحلو الذي سَرَبْنا فيه جميعاً يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذّ، فجزنا خلال رياضه وأوغلنا في دروبه المُعشِبة ومسالكه التي ابتسم على جانبَيها الأقحوان وضحكت الشقائق (أي زهر شقائق النعمان)، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرف على الكهولة، وهدّته مطالب العيش فأخذَت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي عاجلها الخريف ببرده وعواصفه ... أحاول أن أرى من ورائه طلعة «ذلك» الصبي المرح دائماً، الضاحك اللاهي الذي كنته يوماً، والذي أحببتُه وقاسمته مرحه ولهوه. فإذا لم أرَها رجعت أجرّ رِجْلَي خائبٍ فُجع

في أعزّ آماله وفقد أحبّ أمانيه إلى قلبه، وإن وقفتُ على معهد من معاهد الصغر أو ملعب من ملاعب الطفولة فتّشت في زواياه وأركانه، وتحسّست الحجارة من جدرانه، علّي أجد بينها ذكرى حلوة قد خبّأتُها يوماً ونسيتها. ولذلك وقفت اليوم على المدرسة الجقمقية، ولكني لم أجد فيها ما أريد؛ لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غَلَس الليل كما يسرق النبّاشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدَعا لي إلاّ كل تافه حقير. فبماذا أُتحِف القرّاء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟ هذه هي المدرسة التي أودعتُها عهد الطفولة وذكرياته العِذاب، لا تزال قائمة جدرانُها ماثلاً بنيانُها، وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً عليها كل يوم، وهذا هو الأموي العظيم الذي كنا نعرج عليه بكرة وظهراً وعشيّاً، وما بيننا وبينه إلاّ أن نخرج من باب المدرسة فندخله من بابه، والبابان متقابلان. (إلى أن قلت): هذا هو الأموي لا يزال على عظمته وجلاله، غير أن صورته في ناظري قد تبدّلت وامّحَت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبَت الوجوه ومضى الساكنون وتغيّرت الروح؟ لقد أضحى الأمويُّ غيرَ الأموي، فلا دروسه تلك الدروس ولا علماؤه أولئك العلماء ولا جوّه ذلك الجوّ. إن المدن كالأشخاص، تُخلَق كل يوم خَلْقاً جديداً. لقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات

باديات ولا حانات ولا مُلهِيات، وكانت فيها المرأة لبيتها والرجل لأهله، وكان العلماء عاملين بعلمهم مُطاعين في قومهم، والحيّ كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة، والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا ولا يتخذونه تجارة ... فيا أسفي على دمشق ويا رحمة الله على تلك الأيام، أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلاّ المتع الفاضلة والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولكن لا كلهو فتية اليوم ولا كلعبهم؛ كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمَين فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعِصيّ، وقد نُجرح أو نُكسر ولكننا نتعلم الرجولة والقوة، ثم نرجع متفقين. (إلى أن قلت): فأين أيامنا في هذه المدرسة؟ وهل تعود تلك الأيام؟ وأين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس الجليل في كل عين، شيخ الشام ومعلّمها الشيخ عيد السفرجلاني؟ * * * هذا كلام كتبته سنة 1364 هجرية، فماذا أكتب لو أردت أن أصف الحال سنة 1406؟ ماذا أقول وممّن أشكو وإلى من أشكو؟ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. * * *

وقفة استراحة

-196 - وقفة استراحة في الهند اليوم خلاف بين المسلمين وبين مَن بأيديهم الحكم موضوعه «الأحوال الشخصية» للمسلمين. وقد قرأت أن وزراء العدل الذين اجتمعوا من أقلّ من شهر قرّروا إصدار قانون موحَّد للأحوال الشخصية. والمبدأ المعمول به في القانون الدولي أن الأجانب في البلد الذي ينزلونه يحاكَمون في الأحوال الشخصية وفق قوانين بلادهم، وهذا كله يدلّكم أو يذكّركم بأن الأحوال الشخصية من أهم فروع الحقوق، وأنه إن انحصر اهتمام التجّار مثلاً بقانون التجارة فإن الأحوال الشخصية تكاد تهمّ كل رجل في الأمّة وكل امرأة، لأنها المنهج الذي تتبعه الأسرة ولأن الأمّة إنما تتألف من مجموعة أسر. وقد كنت بدأت الكلام على قانون الأحوال الشخصية السوري لأنه أول قانون شامل لأحكامها صدر في البلاد العربية، ثم وجدت أن هذا الموضوع لا يعجب أكثر القراء ولا يُطربهم، ولا يكشف دخائل العواطف في النفوس ولا يجلو مواطن الجمال في الوجود، ولا يدخل في باب الأدب الذي يستهوي القراء ويمسّ حبّات قلوبهم، ولكن لا بد منه، فهو كطبق الطعام المليء

بالشحم واللحم والدهن، ولا بدّ قبله من مشهّيات ومرغّبات. لذلك عزمت على أن أجعل هذه الحلقة وقفة استراحة فأعرض فيها صوراً سريعة من ذكرياتي، يستريح القراء بها ويستعدّون للكلام على قانون الأحوال الشخصية. * * * دخلت الحرم مرة في رمضان فلم أجد مكاناً، لا أعني أنه كان ممتلئاً بالمصلّين، ولكن كانت الأمكنة محجوزة بالمصلَّيات، وكل من وضع سجّادة أو خرقة في موضع ظنّ أنه امتلكه، ومن الناس من راقبتُه من بعيد، فإذا هو يبسط سجّادتين أو ثلاثاً ويقعد على واحدة منها، فإذا جاء من يريد الصلاة في المكان أفهمه أن له أصحاباً. ثم وجدت مكاناً فارغاً في الصف فوقفت فيه وأقيمت الصلاة، فإذا أنا برجل يخترق الصفوف يمرّ أمام المصلّين، وعليه ثوب يبدو أنه كان يوماً من الأيام أبيض، ثم تبدّل لونه على توالي الشهور وركبته الأوساخ على الأوساخ حتى لم يعُد له لون يُعرَف! ولم يكفِه ذلك حتى توضّأ من زمزم، ونضح الماء على ثوبه فابتلّ وصار ... تصوروا ماذا صار. ثم لم يَرُق له إلاّ أن يزاحم المصلّين وأن يحشر نفسه بيني وبين جاري، وكنت ألبس ثوباً أبيض أخذتُه من دار التنظيف قبل ساعة، فجعلتُ أضمّ ثوبي، وكلما رآني ضممته ظنّ أني أوسع له فازداد التصاقاً بي، حتى صرنا كما قال العباسبن الأحنف ... ولكن لا مكان هنا لأروي ما قال العباسبن الأحنف. وكان كلما ركع باعد بين رجليه لأنه

سمع أن صفّ المصلّين يكون متماسكاً متداني الأكتاف والأقدام، حتى كاد ينفسخ وهو يدوس بإحدى قدميه على قدمي وبالأخرى على قدم جاري! ودخلنا في الصلاة فكان في حركة مستمرّة، يسوّي عقاله، ويدخل إصبعه في أنفه ثم يمسحها بثوبه، ويُخرِج من جيبه خرقة سوداء لعله يعدّها منديلاً، فيقرّبها من فمه ويصنع فيها ما لا يحسن ذكره ووصفه، وسواكه في يده يُديره في فمه ثم يعصره بإصبعه ويتجشأ بصوت مُنكَر، وينظّف أذنه بإصبعه ... أي أنه لم يهدأ لحظة واحدة. وأنا أقول لكم الحقّ: إني لم أعرف كيف صلّيت. فلما قُضيَت الصلاة حاولت أن أفهمه بلطف أن النظافة من آداب المسجد وأن الخشوع من لوازم الصلاة، فلم يفهم، وقدّرت أنه لا يحسن العربية وظنّ أني أترفّع عنه لأنه -كما يقول- فقير ويردّد كلمة فقير، فتركته. * * * وكنت (¬1) يوماً خارجاً من داري في دمشق صباحاً مسرعاً إلى عملي في المحكمة، فما برزتُ من الباب وهممت أن أغلقه ورائي وأمضي حتى رأيت أمامي زائراً جاء يزورني. وكان رجلاً كبير السنّ جليل القدر، ولم يكن يعتادني بالزيارة فلم أستطع أن أعتذر إليه، وخفت أن يُطيل فيفوّت عليّ موعدي، ثم قلت ¬

_ (¬1) انظر مقالة «ثلاثة مشاهد من حياتنا» في كتاب «فصول اجتماعية»، وقد نُشرت سنة 1961، وهي تضم هذا المشهد واللذين بعده (مجاهد).

في نفسي إني أبقى معه ربع ساعة ثم أستحضر سيارة أذهب بها. ودعوته فدخل، وقعدت بين يديه كما كنت أقعد وأنا تلميذ له لمّا كنت صغيراً، وكان مدرّساً في مدرستنا، وقلت له: أهلاً وسهلاً. فقال: بكم، قلت: كيف الصحّة؟ قال: الحمد لله. قلت: شرّفتمونا. قال: أستغفر الله. وانتهت هذه المقدمة، وانتظرت أن يبدأ الحديث بما جاء به فلم يتكلم ولم يبدُ عليه أنه ينوي الكلام، فدخلنا في الفصل الأول من أحاديث المجالس وتكلمنا عن الجوّ: تحسّن الجوّ. قال: الحمد لله. والمطر كثير. قال: حقيقة، الله يبعث الخير. انتهى الكلام عن الجوّ فلم يبدأ حديث الزائر الكريم. دخلنا الفصل الثاني من الكلام الفارغ فتكلمنا في السياسة، فتحدثنا عن إسبانيا والجنرال فرانكو وعن البرتغال وعن فنلندا وعن الأفغان. وانتهى هذا الفصل على عجل. وجئت بالقهوة وقلت في نفسي إنه سيشربها ويحدّثني، فما نطق ولا فتح فمه، ولكن استرخى في مقعده وجعل يرتشف القهوة متمهلاً، كل ثلاث دقائق رشفة صغيرة، وأنا قاعد أتقلّب على مثل الجمر. وجعلت أنظر في الساعة وأتململ وأتحرك في مجلسي، ثم قلت له: عندنا اليوم جلسة في المحكمة، لذلك بكّرت في الذهاب. فقال: إن شغل المحاكم صعب، الله يعطيك العافية. قلت: الجلسة في التاسعة، وقد بقي دونها ثلث ساعة فقط. قال: أعانكم الله. قلت: تشرّفت بكم، وإذا كان لكم أمر فمروني به. قال: ما في شيء. قلت: هل من خدمة أقوم بها؟ قال: أبداً.

وسكت وسكتنا، وجعلنا نتبادل الأنظار كالقطط، حتى مضت الساعة التاسعة وذهب موعد الجلسة. * * * وكنت يوماً أستقبل في بيتي جماعة من الأصدقاء، فجاء أحد أصحابنا وجاء معه بولد صغير. وأنا لا أكره شيئاً كما أكره من يزورني ويأتيني بولده معه، ولكني تجلّدت وقلت لنفسي: إنه ضيف ولا بد من الاحتمال. وما كاد يستقرّ في المجلس حتى شرع يتحدث عن ولده وعن ذكائه ونوادره وعن كماله، والحاضرون يبتسمون مجاملة ويتمنون أن يحسّ فيختصر هذا الحديث الثقيل، وهو يقول لولده: بابا، قم اخطب لهم خطبة. فتدلّل الولد وتمنّع وقال: ما بدّي. قال: قُم، عيب. وما زال معه في شدّ ودفع حتى استجاب وخطب خطبة كانت أزعج لسامعيها من شربة زيت خروع لشاربها، ولكنهم اضطُروا أن يكشّروا عن أنيابهم ويقولوا مجاملة: ما شاء الله. وحسبوا أن المحنة قد انتهت، ولكن الرجل عاد فقال: وهو حافظ غيرها كمان (أيضاً). وانتظر أن يستبشروا بهذا الخبر ويطيروا سروراً بهذه البشارة، فلما رآهم سكتوا وأحجموا لم يسكت هو ولم يُحجِم، وقال للولد: اخطب بابا الخطبة الثانية. ومن خطبة إلى خطبة، حتى خطب عشر خطب شعر الحاضرون كأنها عشر مطارق تنزل على رؤوسهم، وطلعت منها أرواحهم، وهو يضحك مسروراً كأنه جاء بمعجزة، ثم قال: وهو

يغني كمان. غنِّ -بابا- أغنيّة (الأغنيّة بتشديد الياء). قلت في نفسي: أعوذ بالله، خرجنا من الخطب فجاءت الأغاني! وغنّى أغنية ثم أتبعها بأخرى، فقلت: يكفي، إنه قد تعب. قال: لا (ومطّها)، إنه لا يتعب الله يسلّمه ويرضى عليه. من حقّ تعبت يابابا؟ قال: لا، ووثب ينطّ بالغرفة. قال أبوه: يعرف يلعب كمان. وخرّب في لعبه كثيراً ممّا كان في الغرفة من التحف. وجئنا بالشاي فمدّ يده ليأخذ الفنجان، فقلت: إنه حار. قال: لا. ورفع رجله بحذائه الملوث فوضعها فوق المقعد، وأخذ الفنجان وقرّبه من فمه، فأحس حرارته فأفلته من يده فانكبّ على المقعد الجديد. وتوقعت أن يعتذر أبوه عن إفساده وجه المقعد، وإذا به لا يهتمّ بوجهه ولا قفاه، لقد اهتمّ بولده وقال له: لا ترتعب، ما صار شيء. هل احترقت يدك؟ ونظر فيها وابتسم وقال: سليمة والحمد لله. وانتقل هو وابنه إلى مقعد آخر، وجعل الولد يكلّمه في أذنه فقال الأب: كأس ماء من فضلك، الولد عطشان. فقمت وأتيته بها. فشرب وأراق الماء على المقعد الثاني، وبعد لحظة قال أبوه: ممكن من فضلك يخرج إلى الحمام؟ قلت: قم. وأخذته بيده فصرخ صرخة أرعبَتني أنا، وحسبت أن قد أصابه أذى، وسألت: ما له؟ قال أبوه: إنه لا يخرج إلاّ معي. فقلنا: خذوا طريقاً وهاتوا طريقاً، ووقفنا حتى وصل الموكب الهمايوني إلى بيت الخلاء! ولا أريد أن أصف لكم بقية المشهد، فتصوروا آخره من معرفة أوله. * * *

وكنت يوماً أقطع الشارع أتلفّت ذات اليمين وذات الشمال، أرقب السيارات وهُنّ يُسرِعن مختلفات الأشكال والمظهر ولكنهن متّحدات الحقيقة والأثر، كلها تمثل الموت تحت العجلات. فما كدت أتوسط الشارع حتى سمعت نداء ملهوف يهتف باسمي، فاستدرت لأنظر فكادت درّاجة نارية تصيبني، وولّت عني وأصوات محرّكها بالضجيج وسائقها بالشتم لا تزال في أذني، ووصلت إلى الرصيف وإذا بالرجل يلحق بي يناديني. فوقفت، فأقبل عليّ وهو مفتوح الفم من الضحك والسرور وقال: الأستاذ الطنطاوي؟ قلت متجهماً: نعم. قال: أهلاً وسهلاً، في غاية الشوق، لقد مضى زمن طويل. قلت: على ماذا؟ قال: على لقائنا. قلت: ومتى التقينا؟ قال: أنسيتني؟ قلت: مَن حضرتك؟ فضحك وقال: احزر (والكلمة فصيحة). قلت: ياأخي أنا لا أعرفك ولم أعرفك قط. فازداد ضحكاً وقال: إنك تمزح بلا شك. قلت: قُل ما تريد وخلّصنا. فذكر اسمه، قلت: ما سمعت بهذا الاسم قبل الآن. قال: طيب، الخلاصة، متى أستطيع التشرف بزيارتك؟ قلت: وماذا تريد مني؟ قال: لا شيء، لا شيء، التشرف بك فقط. قلت: أنا مشغول ويعرف أصحابي كلهم أني لا أزور أحداً ولا أستقبل زائراً إلاّ نادراً. قال: وهذا من النادر. قلت: يارجل، هل تريد مني شيئاً؟ قال: التشرف بك فقط، أنا أحب أهل الفضل والعلم. قلت: أنا لست منهم. قال: كيف وأنت سيدنا ومولانا؟ قلت: أستغفر الله. قال: متى أزورك؟ قلت: تعال إلى المحكمة في الساعة الواحدة،

فإن الباب يُفتح للمراجعين. قال: أظنّ البيت أحسن. قلت جازماً: غداً في المحكمة، وتركته ومشيت. وجاءني في اليوم الثاني وبدأ يتكلم في الصحّة وفي الجوّ وفي أحوال الدنيا، ثم ألقى محاضرة بالثناء عليّ ومدحي وأني شيء عظيم وأثنى على كتبي، فسألته: أي كتاب قرأ منها؟ قال إنه قرأها كلها ولكنه أُعجِب بحديث الأربعاء. قلت: ولكن حديث الأربعاء لطه حسين. فلم يخجل ولم يضطرب وقال: عفواً، قصدت أن أقول كتاب فجر الإسلام. ولم أقُل له إن فجر الإسلام لأحمد أمين لئلاّ يقول إنه كان يقصد كتاب ألف ليلة وليلة! وبعد هذه المقدمات التي لا آخر لها نطق بالدرة المصونة والجوهرة المكنونة، وعرض حاجته فإذا هو صاحب دعوى في المحكمة يريد أن يوصيني بها. * * * ودخلت مرّة دار صديق لي موظف عندنا في المحكمة، عمله تسجيل عقود الزواج وحضور حفلاتها، فوجدت في الدار خزانة كبيرة ملؤها علب السكّر الملبَّس من زجاجية وخزفية وخشبية ومعدنية، من مستديرة ومنبسطة ومربعة ومثلثة وملساء ومحفورة ومزوَّقة ومنقوشة ... من كل شكل وكل جنس، أرخصها بليرة (كانت الليرة يومئذ تعدل عشرين ليرة في هذه الأيام) ومنها علب من الفضّة عليها اسما الزوجين وتاريخ العقد ثمنها أكثر من عشر ليرات. فوقفت أنظر إليها وأفكّر: كم يُنفَق في دمشق كل سنة في أثمان هذه العلب؟ فرأيت أنه إن كان يُعقد في دمشق مئة عقد

في السنة، وهذا أقلّ من الواقع، وكان في كل عقد مئة مدعوّ، وهذا هو الحدّ الأدنى، فإنه يُصرف في كل حفلة مئة ليرة ثمن هذه العلب إن كانت من العلب الرخيصة، فإن كانت من العلب الغالية أو كان المدعوّون مئتين أو ثلاثمئة صُرف في علب الملبس خمسمئة ليرة في الحفلة الواحدة. فلو أنه أُلّفت جمعية لحمل الناس على توزيع الملبس في قراطيس وأوراق وأخذ ثمن العُلَب لإنفاقها في مساعدة الفقراء أو في بناء المستشفيات أو في عمل آخر من أعمال البرّ، ولم تشتغل إلاّ بهذا وحده، لاستطاعت أن تجمع من هذا الباب أكثر من ثلاثين ألف ليرة في السنة. فكيف إن أُنشئت جمعيات أخرى لتدفع غير ذلك من وجوه التبذير التي أَلِفَها الناس وتعوّدوا إضاعة الأموال الكثيرة فيها (مع أن الفقراء في أشدّ الحاجة إلى بعض هذه الأموال)؛ كطاقات الزهر التي تُهدى في الأعراس ويُنفَق فيها من مئة ليرة إلى 500 في كلّ عرس (بحساب تلك الأيام)، فإن كان يُقام في دمشق مئة عرس في السنة، والواقع أكثر بكثير، فيكون مبلغ ما يُنفَق في البلد كل سنة ثمن هذه الأزهار التي تُلقى بعد أيام على المزابل من عشرة آلاف ليرة إلى خمسين ألفاً! (¬1) وأكاليل الجنائز وكفوف الآس التي تُحمَل فيها في دمشق، ¬

_ (¬1) ما أكثر ما نبّه جدي -رحمه الله- في أحاديثه وكتاباته إلى هذا السرَف الذي لا يعود على أحد من الناس بخير ويضيّع أموال الأمة في كماليات وتُرّهات لا فائدة منها. انظر على سبيل المثال مقالة «بطون جائعة وأموال ضائعة» في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).

وعشرات من أمثالها لا عشرة واحدة. لو أن ما يُنفَق فيها جمعته أيدٍ أمينةٌ وأنفقته في جهات صالحة لصارت دمشق في عشر سنين فقط جنّة في الأرض، ولَما بقي فيها فقير ولا جاهل ولا مريض، لأن هذه الأموال تُنشئ كل سنة عشرة مستشفيات (¬1) وعشرة ملاجئ وعشر مدارس. وهذا كلام نشرته من أكثر من ثلاثين سنة. * * * وذهبتُ مرة إلى الكوّاء الذي يكوي لي ثيابي فلم أجده، فسألت عن غيره، فدلّوني على آخر له مكان واسع وعلى بابه لوحة كبيرة، وعلى شفتيه ابتسامة لا تفارقهما، فهما دائمتا الانفراج كأن قد انحلّت عضلاتهما فلا تنطبقان، وفي فيه لسان رطب ليّن طويل كأنه لسان الثعبان. فخدعني مظهره حتى دفعت إليه حُلّتي الجديدة التي ألبسها في المواسم وأتجمل بها في المجامع، ووصّيته أن يكويها لي كياً فقط وألاّ يغسلها، وأن يبعث بها إليّ في غده. فقال: أمرك ياسيدي، على عيني ورأسي، بِدْنا (¬2) خدمة. وانصرفت آمناً مطمئناً، وجاء الغد ولم تُرسَل، ومرّ يوم ثانٍ وثالث وسابع وثامن، وانصرفَت عشرة أيام والحلة عنده، وأنا ¬

_ (¬1) المستشفى مذكَّر. (¬2) «بدنا» كلمة من عامية الشام بمعنى نريد، ولعلها محرفة من «بِوِدّنا» أقول هذا ظانّاً ولا أحقق. وهم يصرّفونها على كل الوجوه، فيقولون «بِدّي» للمتحدث المفرد و «بِدَّك» للمخاطب، وهكذا (مجاهد).

أستحثّه فيقابلني بهذا الفم الباسم أبداً وهذا اللسان الدافئ دائماً، ويبتدع لي كل يوم عذراً جديداً. وكان آخر أعذاره اشتغاله بموت أبيه الذي علمت -فيما بعد- أنه مرّ على وفاته رحمه الله على هذه الخلفة الطاهرة تسع سنين! وأعاد لي الحلة بعد ستة عشر يوماً، فإذا هو قد غسلها فأفسد حشوتها ومزّق أزياقها، وجعل لها رائحة مثل رائحة الخنازير البرّية، ذلك لأنه غسلها بصابون رديء استرخصه وحكّ أطرافها بالحجر الذي تُنظَّف به الأقدام في الحمام! وهذه واقعة لا أريد أن أعلّق عليها. * * * وليس في بلاد الناس شيء أسهل من الشراء. يدخل الرجلُ المخزنَ فيرى البضائع المعروضة وعليها أثمانها، فيختار ما يشاء ويدفع الثمن ويمضي، ولو جاء من بعده أمهر الناس ما استطاع أن يأخذ بثمن أقلّ ولو جاء أغفل الناس ما أُعطيَ بثمن أكثر. أما الشراء في بلادنا فهو معركة تحتاج إلى أسلحة شتّى، من الكذب أحياناً، واليمين الكاذبة، والكرّ والفرّ، والذهاب والرجوع، ومعرفة أجناس البضائع، وتحتاج فوق ذلك إلى مفاوضات دبلوماسية أصعب من المفاوضات على نزع السلاح بين أميركا والسوفييت. لذلك عوّدت نفسي من الصغر ألاّ أقف على بائع ولا أشتري بنفسي شيئاً، لا اللحم ولا الخضرة ولا الثياب ولا الأثاث، وإنما

أوكّل من يشتري لي. وإذا أنا خالفت عادتي واضطُررت إلى شراء شيء رجعت في كل مرة بقصة من أعجب القصص. من ذلك أني دخلت دكاناً في سوق الحميدية مع صديق لي يحبّ أن يشتري قماشاً لأهله، فتلقّاني صاحب الدكان مسلّماً ومعظّماً، وأهوى لتقبيل يدي لأني كما يقول أستاذه وصاحب الفضل عليه: أهلاً وسهلاً بسيدنا، يامرحباً، مَن علّمني حرفاً كنت له عبداً، قُل لي ياأستاذ ماذا تأمر لأخدمك بعيوني؟ ولم أكن آمر بشيء، ولكن هذا المدح وهذا التعظيم وأن الرجل سيخدمني بعيونه قد خدّر أعاصبي، كما يخدّر الصيادُ الأسدَ والنمر بإبرة يطلقها عليه أو كما يخدّر الحاوي في الهند الحية الخطرة حتى ترقص بين يديه. والإنسان مفطور على محبّة الثناء. فنظرت فاخترت لوناً من الحرير أعجبني، فسألته عن ثمنه فضحك وقال: أي ثمن؟ محلّك ياأستاذ. فحسبته أنه سيُهديه إليّ وحلفت أني لا آخذ إلاّ بالثمن، ولكن أطلب أن يبيعني بربح معقول. قال: برأسمالي، لا أريد منك ربحاً أبداً. وراح يحلف بذمّته ودينه وأبيه وأمانته وشرف آبائه وعظم أجداده، وما لا أذكر الآن من الأيمان التي لا يجوز أن يحلف بها مسلم، أنه لا يبيعني إلاّ برأس المال. وكان في داري يومئذ خمس نسوة، عمّتي وأختاي وزوجتي وبنتي الكبرى، وبناتي الصغيرات، فاشتريت لهن جميعاً، وبلغ الثمن قريباً من ثلث الراتب. وذهبت إلى الدار فقال النساء: متى كنت تشتري؟ وبكم

اشتريته؟ قلت: احزرن. قلن: بالله عليك إلاّ أن قلتَ. فأخبرتهن بأن الرجل تلميذي وقد خدمني بعيونه فباعني برأس المال وهو كذا. قلن: لقد زاد عليه ثلاثين بالمئة. قلت: مستحيل. قلن: ما قولك إن ذهبَت فلانة الآن (لجارة لهن خيّاطة) فجاءت بالقماش نفسه من المحلّ نفسه بحسم ثلاثين بالمئة؟ قلت: أنا أدفع الثمن وأُهدي إليها القماش. وذهبَت من فورها إلى الدكان التي اشتريت منها، ورجعَت بعد ساعة وقد أخذته بثلثَي الثمن الذي دفعته أنا، لتلميذي البارّ الذي حلف أنه لا يبيعني إلاّ برأس المال! * * * ورأيت يوماً في طريقي إلى المحكمة امرأة كأنها جبل من الشحم واللحم، تميس لا كغصن البان بل كجذع السنديان على ساق أضخم من خصر إنسان، ومعها خادمة رقيقة العظم نحيلة الجسم بادية السقم، ما أظنّ أن عمرها يزيد على سبع سنين. وتحمل للمرأة ولداً عمره ثلاث، ولكنه صورة مصغَّرة لها يُشبِهها كما يشبه الفيلُ الصغير الفيلَ الكبير، منفوخ نفخ الكرة لا يُعرَف طوله من عرضه إلاّ بالحساب والجبر والمثلثات، ولا يُحيط به ذراعها النحيل ولا ينهض به جسدها الهزيل، وهي تخطو به تجرّ قدمها جراً من الإعياء وتلهث من التعب، والمرأة تخطر متعالية. ففكّرتُ أن أكلّمها وفتّشت في ذهني عن الكلمات التي تصلح لها، ولكني رأيت رجلاً مكتهلاً قد سبقني إليها فقال لها: ياستّ حرام هذه البنت، خذي الولد منها. فوقفت الستّ

ووضعت يديها في خاصرتيها، ورفعت أنفها ثلاثة أصابع ومدّت شفتيها إصبعين، وقلبت وجهها حتى صار كوجهِ مَن أكل ليمونة بقشرها، وصبّت عليه من فمها سيلاً من أوساخ اللغة وفضلات الكلام، وهرب كل من كان في الطريق من قذارته وسوء رائحته، وهربتُ مع الناس وتركت هذه الصورة بلا تعليق! * * *

بقايا من ذكريات رمضان

-197 - بقايا من ذكريات رمضان من أقدم صور الحياة في رمضان صورة منقوشة في ذهني، كلما تذكرتها رأيت فيها رمزاً لحياتنا منذ ثلاثة أرباع القرن وحياتنا الآن. في جامع بني أمية الكبير في دمشق أمام القبر الذي يقولون إنه قبر يحيىبن زكريا (وليس قبره) ثُريّا ضخمة جداً من قضبان متشابكة بحجم قبة مسجد من المساجد وعلى صورتها، معلَّق فيها مئات من السُّرُج. والسراج كوب صغير من الزجاج مثل كوب الشاي، فيه فتيل من القطن في قليل من الزيت. فكانوا يبسطون تحتها بساطاً واسعاً ليحمي سجّاد المسجد من وَضَر الزيت ثم يُنزِلونها حتى توضع على الأرض، ويُباشَر بإيقاد السرج من بعد صلاة المغرب إلى قُبَيل أذان العشاء، فيزدحم عليها الأولاد وقد عمّتهم فرحة عجيبة وغمرهم سرور لا يوصف، وهم يصعدون القبّة من جوانبها وبأيديهم أعواد الكبريت يقرّبون شعلتها من فتيل السراج حتى يشتعل. والقبة معلَّقة بحبل غليظ تدور به بكرة، فإذا أُوقِدَت شدّوا الحبل فارتفعَت والسّرُج تتراقص شعلها، فكأن سماء رُكّبت فيها (كما قال البحتري).

ثم كرّت الأيام فوضعوا مكان هذه السرُج مصابيح كهربائية صغيرة، لا تُوقَد من الشجرة المباركة بل من التيار الكهربائي الخفيّ الذي لا يُرى، ولا يمضي في إشعالها ما بين المغرب والعشاء بل نشعلها كلها بلمسة زرّ في الجدار فتضيء في مثل لمح البصر. أليس هذا هو مثال حياتنا في تلك الأيام وحياتنا الآن؟ ألسنا الآن في عصر السرعة؟ لقد ربحنا الوقت ولكن خسرنا المشاعر والأحاسيس. لقد أمضيت على الطريق من جدة إلى مكة لمّا جئتها أول مرة من ثلاث وخمسين سنة (سنة 1353) اثنتي عشرة ساعة في السيارة، حملنا فيها المَشاقّ وقاسينا المتاعب، ولكنها أثارت في النفس مشاعر وأبقت فيها ذكريات لا أزال أتحدّث عنها إلى الآن. ونصل الآن من جدة إلى مكة في أقلّ من أربعين دقيقة، ونصل في مثلها بالطيارة من المدينة إلى جدة، ولكن لا تثور في النفس مشاعر ولا يبقى بهذه الرحلة ذكريات. فنحن نركض دائماً كأننا في سباق، ولا ندري إلامَ نتسابق. لا نقف ولا نفتر ولا نبطئ، ركض من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، لا نثبت في مكان. مَن كان في مكة ذهب في عطلة الأسبوع إلى جدة، ومن كان في جدة جاء مكة، كل يطلب التبديل. فإذا قدم رمضان تنبّه الرَّكْبُ وتلفّت مَن فيه إلى الوراء ينظرون من أين بدأ المسير، وإلى الأمام يرون إلى أين المصير. فرمضان محطة على طريق العمر ووقفة تأمّل وتبصّر. * * *

ومن الصور التي اختزنتها من الصغر واحتفظت بها وأنا أحملها في زحمة الحياة، ثم فُقدت من حولي وكادت تضيع من ذهني: صورة البوّابات. هل تعرفون ما البوابات؟ لم يكن الأمن وأنا صغير قبل سبعين سنة أو أكثر من سبعين، لم يكن الأمن مستتباً أواخر عهد العثمانيين، وكانت الحكومة المحلّية ضعيفة والمركزية في إسطنبول بعيدة. وكانت قد عادت دمشق في كثير من أحوالها (كما عادت مدن من أمثالها) إلى مثل عهد الجاهلية الأولى، فكان القوي يعدو على الضعيف، وكان في كل حيّ قبضاياته وزكرتيّته، وكان يسطو بعض الأحياء على بعض ويغزو بعضُها بعضاً. فاتّخذ أهل كل حيّ باباً كبيراً، بوّابة تُغلَق من بعد العشاء ولا تُفتَح إلاّ بعد الفجر، يقوم وراءها الحارس الليلي (الخفير) ولا يفتح الباب إلاّ لمن يعرفه ويثق به. وأذكر وأنا صغير جداً في نحو الخامسة أن أمي أخذها الطلق، فبعثوا بجارة لنا وأنا معها لتأتي بالقابلة، فمررنا بالبوابة، فصاح بنا الحارس من ورائها يقول: مَن؟ قلنا: مُطْلِقة (أي امرأة أخذها الطلق) قال: قفوا في اليمين حتى أراكم. ونظر من طاقة الباب وأدرك أنه لا يُخشى خطر منا ففتح لنا الباب. فإذا كان شهر رمضان فُتحت البوابات الليل كله وزادت الأنوار في الحارات، وكانت تُضاء بالكهرباء، جاء بها وبالترام الوالي التركي ناظم باشا قُبَيل مولدي. وناظم باشا هو باني حيّ المهاجرين، وفي كتابي «دمشق» قصة إنشاء هذا الحي وفي كتابي

«قصص من الحياة» قصته (¬1) لمّا قدم دمشق أواخر أيامه. دمشق التي كان واليها وكان إليه وحده أمرها وله الحكم فيها، فتبدّلَت الحال وتغيّرت الدنيا، فلم يعرفه لمّا جاء أحد. وهكذا الناس، فيا خيبة من اطمأنّ إلى الدنيا وحدها! كانت المصابيح في الطرق ضئيلة والطرق تكاد تكون مظلمة، فإذا جاء رمضان أنيرت الطرق ومشى فيها الناس الليل كله، لذلك قلت من أيام للصديق الأستاذ ماجد شبل في مقابلة له معي في الرائي لمّا سألني عن شعوري عندما يجيء رمضان، قلت له: إن قدوم رمضان مقترن في نفسي بالنور: نور في الحارات بعد الظلام، ونور في المساجد وفي البيوت حيث يسهر في الليل النّيام، ونور في القلوب هو ضياء الإسلام. * * * ومن المشاهد التي ذهبَت مع أمس الدابر، ألغاها انتباه الناس وازدياد معرفتهم بالإسلام، وقرّر إلغاءَها الشيشكليُّ لمّا كان هو الحاكم؛ وهي ما كان يجري ليلة السابع والعشرين من رمضان في الجامع الأموي: يسهر الشاميون فيه الليل كله، فإذا كان السحر جاء «المولَويّة» يدورون فيه أو يرقصون (كما كان يقول علماؤنا) رقصاً يعجز عن مثله الراقصون المحترفون. وكنا ونحن صغار نراه شيئاً عظيماً، نحرص عليه ونتسابق إليه. والمولوية طريقة صوفية منسوبة إلى جلال الدين الرومي، وهو شاعر كبير في اللغة الفارسية يعدّونه من كبار الشعراء الصوفية، ¬

_ (¬1) أي قصة ناظم باشا، وعنوانها «في شارع ناظم باشا» (مجاهد) ..

ولكن طريقته لا أصل لها في الشرع ولا فرع. وهم يتخذون إزاراً ضيقاً من أعلاه من عند الخصر واسعاً من تحت، ثم يدورون فيه، لا دورة ولا دورتين ولا تستمرّ دوراتهم دقيقة ولا دقيقتين، بل نصف ساعة أو ساعة لا يقفون ولا يستريحون، والإزار ينفتح حتى يصير مثل المخروط الناقص في الهندسة، وعلى رؤوسهم قلانس طويلة مثل علب اللّبَن التي كانت على أيامنا بشكلها ولونها. ولقد كتبت أنكر صنيعهم هذا (كما أُنكِر أمثاله من البدع التي استُحدثت في الإسلام) في «رسائل الإصلاح» التي أصدرتُها وطبعتها سنة 1347هـ، أي من ستّين سنة إلاّ سنة واحدة. وكنا ننزل من الصالحية إلى بيت خالتي الكبرى، وهذا البيت يستحقّ مني وقفة عليه قصيرة فهو بيت العجائب؛ تقيم فيه خالتي، وهي بنت الشيخ أبي الفتح الخطيب شقيقة محب الدين، وهي التي ربّته بعد أمه، وأولادها: الشيخ شريف، مدير المدرسة الأمينية التي طالما كان لها في نفسي ذكريات، والتي بدأت التعليم فيها سنة 1345هـ وعلّمت فيها سنين وسنين ولي فيها أخبار طوال سبق ذكر بعضها. وأخوه الشيخ سهيل، وهو رجل عبقري في الفنّ متفرد في الشخصية، كان ضابطاً صغيراً أيام الحرب الأولى، وكان -مثل أكثر آل الخطيب في الشام- أزرق العينين أصفر الشعر، فجعلوه مرافقاً للقائد الألماني الذي قاد الجيش في حرب التّرعة ورجع منها خائباً. فمن كان يرى هذا الضابط الصغير لا يظنّه إلاّ ألمانياً. ثم لمّا قامت نهضة العلماء لزم ابنَ عمّه الشيخ هاشم الخطيب الذي كان أحد الشيخين لهذه النهضة، أولهما وأكبرهما

الشيخ علي الدقر. فاتخذ عمامة لها عَذَبَتان، كان ينفرد بها لا يشاركه أحد في حمل مثلها. وأخذ على نفسه ألاّ يسمع بسنّة من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ فعلها، فقرأ أن الرسول كان شعره يصل تارة إلى منكبَيه وتارة إلى شحمتَي أذنيه فأطال شعره، وكان مثل أسلاك الذهب. وعمل بعد تَرْكه الجيشَ في بيع العطر في سوق البزوريّة في الشام الذي يقصده السياح، فصار فرجة السائحات من النساء يقفنَ عليه ويصوّرْنَه. وكان فنّاناً رسّاماً، فلما سمع أن الرسم حرام ترك رسم الأحياء. وصنع شجرة لآل الخطيب (وهم أسرة أمي وزوجتي) وهي من الأسر التي تدّعي أنها متصلة النسب بالسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم بصدق الدعوى، فما نكذّب أحداً في نسبه ولا ينبغي لنا، ولا نستطيع أن نصدّق كل مدّعٍ شرفَ النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فصنع شجرة على لوحة من القماش المشمَّع طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة وضعها في صدر إيوان الدار، لمّا كنا نسكن تلك الدور الشامية التي كانت مصيفاً ومشتى وكانت داراً وبستاناً، وكانت قصوراً يضحك فيها الرخام والمرمر وتغنّي فيها النوافير فوق البِرَك، ويُزهِر فيها الفلّ ويعرش الياسمين وتمتدّ فوق سطحها دوالي العنب، هذه الدور التي قفزت البحر المتوسط -بطوله لا بعرضه- فوصلت إلى الأندلس وإلى المغرب، ولا تزال موجودة فيها. فلما أصابتنا النكسة في عاداتنا وهجرنا هذه الدور، وسكنا صناديقَ من الإسمنت ليس فيها بِرَك يجري فيها الماء ولا أشجار يتدلى منها الثمر ويرقص على أفنانها الزهر، ولا تستر نساءنا ولا تكتم

أسرارنا، ودَنَت سقوفها من الأرض فخفضنا لذلك رؤوسنا ... لمّا كان ذلك لم يعُد لهذه الشجرة مكان، فكلّمتُ متحف الفنون الشعبية فاشتراها بألف ليرة من نحو أربعين سنة، وهي تعدل اليوم أكثر من عشرين ألفاً. وهذه الدار إحدى الأعاجيب، ولعلّي أعود يوماً إلى الكلام عنها. * * * ومن الصور الرمضانية في مصر اثنتان كنت في كليهما مع الأستاذ الزيات؛ أخذني أولاً إلى قصر عابدين وقد مُلئت ساحته بالكراسي وفُتحت أبوابها للداخلين، وجاء الملك فاروق بالقرّاء يقرؤون القرآن بالأنغام ويعدّدون القراءات، فمن رواية حفص عن عاصم إلى وَرْش عن نافع إلى غيرهما، وكلما ازداد تعداد القراءات والتنقل بين المقامات والتفنّن في النغمات كان ذلك أدعى لإعجاب الناس وقولهم: الله، الله، ما شاء الله، الله أكبر! كأنهم يسمعون أحد المغنّين أو إحدى المغنّيات في ملهى من الملهيات، والله يصف المؤمنين بأنهم الذين {إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهم، وإذا تُلِيَتْ عَليهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً}، فهل زادت هذه الآيات السامعين إيماناً أم زادتهم طرباً؟ لقد عدّها الناس يومئذ مزيّة للملك فاروق. وتلاوة القرآن في مصر تُعَدّ قربة لذاتها، ومن عادة الوجهاء والكبراء أن يفعلوا مثل الذي فعل الملك فاروق، بل إنه أراد القربة إلى الله والتحبّب إلى الناس بأن يفعل مثلما فعلوا. حتى إن من التجار من يأتي بقارئ

يتلو شيئاً من القرآن عندما يفتح محلّه صباحاً قبل أن يزاول عمله. وهذا حسن، ولكنهم يخلطونه بآخر سيّئ هو أنه لا يُصغي أحدٌ للقارئ ولا يتدبّر معنى ما يسمع منه، فكأن القرآن عندهم كلمات مُعَدّة للتلحين لا يُراد منها إلا التغنّي بها. ولقد سمعت مرة قارئاً يتلو قوله تعالى: {خُذُوهُ فغُلُّوهُ، ثمّ الجحيمَ صَلّوهُ، ثمّ في سِلْسِلةٍ ذَرْعُها سَبْعونَ ذِراعاً فاسْلُكُوه}، هذا الكلام الذي ترتجف له القلوب من الخوف ومن شدة الوعيد كان يقرؤه القارئ بنغمة السيكا (وهي نغمة مرقّصة) وهم يتمايلون طرباً كأنهم لا يفكّرون بمعنى ما يسمعون! أفهؤلاء ممن يتدبّر القرآن؟ هل فهم هؤلاء معنى ما يقرأ القارئ ويسمعون؟ وإنك لتجد في رمضان في بيت الله الحرام خمسين ألفاً بأيديهم المصاحف يقرؤون القرآن، ولكن لا تجد خمسين منهم يفهمون أو يفكّرون في أن يفهموا معاني ما يقرؤون. فلو أن رجلاً أخذ الجريدة فقرأها من العنوان إلى آخر ما نُشِر فيها من إعلان، ثم سألتَه عن الأخبار التي كُتبت بالعناوين الكبار فقال لك: إني لا أدري. هل تراه قد قرأ؟ وهل القراءة أن نحرّك الألسنة بالحروف أو أن نفهم المعاني التي تحملها الحروف؟ على أني لا أُنكِر أن لقارئ القرآن أجراً على كل حال؛ له على كل حرف يقرؤه أجر، ولكن الله يقول: {أفلا يَتَدبّرونَ القُرآنَ أمْ على قُلوبٍ أقْفَالُها؟}، فمتى نكسر هذه الأقفال حتى نفهم ما يُقال؟ * * *

وعرض عليّ الأستاذ الزيات أن يأخذني إلى قهوة الفيشاوي. وأنا لست من أحلاس المقاهي الذين ينفقون من أعمارهم في ارتيادها الساعات الطوال، يتنفّسون فيها هواء فاسداً يؤذي الصدر ويسمعون من قرع حجارة النرد (الطاولة) وصياح النُّدل (الجارسونات) ضجّة تُصِمّ الآذان، فهممت بالاعتذار فقال: إنها ليست كما تعرف من المقاهي وليس فيها إلاّ الشاي الأخضر الذي تحبّه، ويرتادها في مثل هذه الليالي أعلام الأدب وأرباب الفنّ يذكرون بها مصر التي كانت قبل خمسين سنة. فذهبتُ معه، فإذا هي كما قال: قهوة من مقاهي الأحياء القديمة في مطلع هذا القرن، كأن التاريخ مرّ بها ونسيها ها هنا، فلم تمشِ مع مصر في طريق الحضارة المستورَدة من حيث مشَت بل بقيَت في مكانها. وهذا ما يرغّب الناس فيها ويجعلهم يتعلّقون بها. والإنسان مفطور على حب الجديد، ولكنه يحنّ إلى القديم. وأنا أقيس نشاط الشعب في كل بلد أنزله بأمرين: مشي الناس في الشوارع وقعودهم في المقاهي. والناس في ألمانيا مثلاً لا يمشون إلاّ مسرعين، وما رأيت في بلد فيها (وقد زرت أكثر بلادها) مَن يمضي ساعة في المقهى أو ساعتين كما يفعل الناس في غيرها من البلاد. * * * ومرّ بي رمضان وأنا بعيد، دخل عليّ أوله وأنا في كراتشي في باكستان وآخره وأنا في جاكرتا في أندونيسيا، وترك في ذهني صوراً لم تذهب بها الأيام من سنة 1373هـ إلى الآن، وإن ذهبت

صور مثلها أكثر عدداً منها. دُعينا في كراتشي إلى طعام الإفطار. وأنا لا أكاد أستثقل شيئاً ما أستثقل أن أُدعى إلى طعام، وكانوا يُكرِهونني أحياناً فأجيب مرغَماً، ثم عزمت أمري ورفعت راية العصيان، وأعلنت أنني لا أذهب إلى وليمة مهما كانت الحال ومهما كان الشأن. وكراتشي بلدة كبيرة مترامية الأطراف، فساروا بنا بين طرفَيها ما يقرب من مسافة القَصر! وكنا جياعاً، وكان النهار طويلاً والحرّ شديداً والصوم مُتعباً، فقدّموا لنا تمراً وشراباً بارداً وفاكهة قليلة، ثم أقاموا الصلاة فصلّينا، فلما سلّمنا حسبت أننا نتوجه إلى المائدة، فإذا نحن نوجه إلى الباب! قلت: ما هذا؟ قالوا: هو هذا، إنها دعوة إلى إفطار وقد أفطرتم، فتفضّلوا مشكورين. أي فانصرفوا مطرودين! وخرجنا جائعين كما دخلنا جائعين. هذه صورة لها في الفم طعم فيه مرارة، ولكن يحلّيها صورةٌ أخرى إلى جنبها كأنها من حلاوتها عسل الشهد، هي صورة إفطار في السفارة المصرية مع سفير مصر، الأديب الكبير والمسلم الصادق والعربي الأصيل، الأستاذ الصديق الدكتور عبد الوهاب عزام رحمة الله عليه. والعظيم فيها أنها وُضعت مائدة واحدة قعد عليها السفير وموظفو السفارة والعمّال فيها والفرّاشون والخدم، كلهم قعدوا إلى مائدة واحدة وأكلوا طعاماً واحداً، فكان مجلساً إسلامياً يشرح الصدر ويُرضي الله. وكل أبناء مصر عرب، ولكن آل عزام وآل الباسل (وأحسب

أن منهم أيضاً آل أباظة) هؤلاء عرب جاؤوا من غرب مصر، من الشمال الأفريقي، فدخلوا واديها فصاروا على مرّ الأيام من أهلها. وإن وقفتم معي وقفة قصيرة حدّثتكم حديثهم الذي سمعتُه من الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، لمّا كان سفير مصر في بغداد وكنت مدرساً فيها سنة 1936 (1354هـ). هل تعرفون نظرية الموجات البشرية في جزيرة العرب التي ألّف فيها خالي محب الدين الخطيب كتاباً صغيراً من أكثر من نصف قرن؟ إن جزيرة العرب تكاد تكون الموطن الأول للبشر، فهي تموج بأهلها مَوَجان مياه البحر، تدفع كلُّ قبيلة مَن تكون أمامها حتى تخرج آخرُها من حدود الجزيرة، فتمضي غرباً إلى مصر، كما مضت موجة قديمة تحمل «مينا» أول فراعنة مصر ومؤسّس الأسرة الأولى، أو تمضي شرقاً إلى أرض الرافدَين (العراق)، أو تمرّ إلى الساحل الشامي فتستقرّ فيه ثم تُبحِر منه، كما فعل الفينيقيون الذين أسّسوا في الشمال الإفريقي مدناً كان منها قرطاجنّة (قرطاجة) التي صارعت يوماً روما يوم كانت روما سيدةَ القارات الثلاث، وأخرجت القائد الذي غلب يوماً روما سيدة القارات. لقد حدّثني الأستاذ عبد الرحمن (رحمة الله عليه وعلى الدكتور عبد الوهاب، وهو عمّه) أن القبائل في الشمال الإفريقي صورة مصغَّرة لِما كان في الجزيرة، تدفع قبيلةٌ من أقصى الغرب القبيلةَ التي تليها، وهذه تدفع التي بعدها، حتى تدخل آخرُ واحدة وادي مصر فتكون من أهل مصر. * * *

ومن ذكريات رمضان في أندونيسيا صورة لا تزال واضحة خطوطها، هي أني كنت -كما مرّ بكم- في الفندق الكبير جداً في الجناح الفخم جداً، ولكني كنت ضيق الصدر جداً، أصوم ثم لا أجد على مائدة الإفطار ما آكله. لا لقلّة الطعام بل لأني لا أجد طعاماً أعرفه وآلفه، ثم إنه مملوء بهذه «الشَّطّة» التي تُلهِب الفم وتحرق الصدر. وقد أوصيتهم على طعام يُعِدّونه لي، فما أحسنوا إعداده ولا أسغت طعمه. في هذه الشدة سخّر الله لي اثنين كريمين، رجلين دبلوماسيَّين: سفير مصر الأستاذ العَمْروسي، والقائم بالأعمال السعودي الأستاذ عزّة الكُتْبي، ففتحا لي دارَيهما فعرفت كيف آكل، وأعرف الآن كيف أشكر. ولمائدة الإفطار في رمضان سحر ولها فلسفة، هي أن الناس كلهم فيها كطلاب المدرسة الداخلية أو أبناء الأسرة الواحدة، حين يجتمعون على المائدة في وقت واحد، يأكلون طعاماً قد لا يكون واحداً في نوعه ولكنه -بعد هذا الصيام- يكون واحداً في لذّته. والحديث عن ذكريات رمضان حديث طويل لا أكاد أفرغ منه إن أردت استيفاءه. إنها ذكريات ثمانين سنة، اتركوا من أولها خمساً كنت فيها صغيراً لم أكن أدرك ما حولي ولا أحفظ ذكريات ما أدرك في صدري، فهل ترونني أستطيع أن أجمع ذكريات ثلاثة أرباع القرن ثم ألخّصها ثم أحدّثكم حديثها؟ فما لا يُدرَك كله لا يُترَك قُلّه (أي قليله). * * *

في «آخن» عاصمة شارلمان

-198 - في «آخِنْ» عاصمة شارلمان الآن بعد أن بلغَت الحلقات المنشورة من هذه الذكريات مئة وسبعاً وتسعين أدركت أني لن أفلح في تدوينها، وأني كمن يرسله أهله في حاجة لهم يتعجلون قضاءها، قد حدّدوا له غايته ورسموا له طريقه، فمشى متمهلاً، كلما أبصر جمعاً من الناس وقف عليهم أو سمع متكلمين أصغى إليهم، وبدلاً من أن يمضي في طريقه قُدُماً جعل يسلك ذات اليمين مرة وذات الشمال. فأنا كلما حزمت أمري واستقمت في سيري جاءني صارف يصرفني. ورد عليّ اليوم من آخن في ألمانيا مطبوعتان: إحداهما نكأت عليّ جرحاً حسبت أنه اندمل، ذكّرتني بأكبر صَدْع أصاب قلبي، ثم لم أستطع أن أسخّر لوصفه قلمي وأنفّس بما أكتب عن نفسي. لقد خانني هذا القلم الذي صحبته ستّين سنة فكان دائماً أسرع مني إلى ما أريد، وكان يشفي الفؤاد ويصيب الغرض، فما له اليوم وقف فما يسير؟ هل أدركه الكبر كما أدرك صاحبَه؟ نعم، ومَنْذا الذي لا يصيبه الهرم؟ النسر الذي لا يرتضي لعشّه إلاّ الصخور العوالي في شُمّ الذرى ويضرب بجناحيه في

جِواء الفضاء وينحطّ على فريسته انحطاط حتم القضاء، يأتي عليه يوم يأوي فيه إلى السفوح ويهون أمام بغاث الطير. والأسد سيد الغاب، يدركه الهرم فيجرؤ عليه صغار السباع. والسنديانة الضخمة يجفّ عودها فتصير حطباً، إن لم تحطمه الرياح نالت منه فأس الفلاح. ولا يدوم على عظمته وجلاله إلاّ الحيّ القيوم. لقد استحييت من كثرة ما بدأت حديثاً ثم قطعته ووعدت أن أعود إليه فشُغلت بغيره، وصرت أكتب وأحدّث في الرائي والإذاعة ببقايا النشاط الذي كان لي يوماً، وإني لأقدّم ما أقدّمه هنا في الجريدة وفي الرائي على استحياء. وأنا أعلم أن أدباء كباراً يتفضلون عليّ بالكثير من الثناء الذي لا أستحقّه، ينظرون إليّ بعين الرضا التي تكلّ أو تُغضي عن إدراك العيوب. بالأمس كتب عن حديثي «على مائدة الإفطار» الأستاذ تركي السديري في جريدة «الرياض» كلمة أخجلَتني وجعلتني أندم على أني لم أجوّد أحاديث رمضان هذا العام لأستحقّ منه بعض هذا الثناء، ومن قبله كتب متفضلاً الأستاذ عبد الله بلخير الصديق القديم، ومن قبلهما الأستاذان الكبيران أحمد أبو الفتح والأستاذ أكرم زعيتر. وهؤلاء كلهم أعلام يعتزّ من ينال منهم بعض ما نلت، لولا أنني أعرفهم كراماً يُعطون الكثير وأعرف أني لا أستحقّ الأقلّ من هذا الكثير. لقد أدركت أني لن أفلح في السير في تدوين هذه الذكريات كما يسير الناس، لأني لا ألتزم فيها أسلوباً من الأساليب التي

اتبعها الأدباء، وأني بنيتها على الفوضى لا على الترتيب، وأني على مذهب من قال (وأظنّ ظناً لا يقيناً أنه حافظ إبراهيم): ولذيذُ الحياةِ ما كانَ فَوضى ... ليسَ فيهِ مُسَيْطِرٌ أو نِظامُ وخير لي لو اتبعت ما قاله الشاعر القديم جداً، الأَفْوَه الأَوْدي: لا يَصلُحُ الناسُ فوضى لاَ سُراةَ لَهُمْ ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا * * * ولكن لماذا لم أكمل ما بدأتُ به من القول وجئت أستأنف قولاً جديداً؟ لماذا أدع مصر سنة 1947 وقد بدأت حديثي عنها لمّا كنت فيها، لأكتب عن رحلتي إلى ألمانيا سنة 1970؟ ولماذا لم أكتب عن هذه الرحلة لمّا كنت فيها أو يوم كانت حوادثها ماثلة في ذهني بارزة بين ذكرياتي، وأتيت أكتب عنها الآن؟ لماذا تركت حصاد قمحي يوم الحصاد، وأبقيته في سنابله ستّة عشر عاماً حتى أكلَت منه الطير وامتدّت إليه أيدي اللصوص، فلما لم يبقَ منه إلاّ الأقل شرعت أجمعه؟ لماذا، لماذا؟ وكل واحدة من هذه «اللماذات» يأخذ جوابه صفحات. أكتب عن رحلة ألمانيا لسببين: سبب عاطفي حرّك كوامن قلبي، وسبب عقليّ نبّهني إلى واجب يوجبه عليّ ديني. ذلك أنه ورد عليّ مطبوعتان، في إحداهما كلمات وجدوها في أوراق

بنتي التي قتلها المجرمون في بيتها في آخن غدراً وغيلة، وفي الأخرى مختارات لها طبعوها طبعاً أنيقاً. والمطبوعة الثانية فيها بعض ما يصنع المركز الإسلامي في ألمانيا، في المدينة التي يسمّيها الألمان «آخِنْ» ويدعوها الفرنسيون «إكْس لاشابيل»، والتي كانت يوماً عاصمة شارلمان لمّا كان يحكم غربي أوربا، وفيها قصره وفيها آثاره. انتزعتني هذه المطبوعات مما كنت فيه وحملتني حملاً إلى سنة 1970، لمّا ذهبتُ إلى تلك البلدة وجلت في البلاد من حولها: في مدن ألمانيا وبلجيكا وهولندا، يأخذونني إلى مجتمعات الشباب فأحدّثهم على قلّة علمي، وأحاضرهم وأجيب على أسئلتهم بمقدار ما يفتح الله عليّ من الجواب. وهذا المركز يعمل على نشر الإسلام عملاً عظيماً، إن لم يهتمّ به الناس فأرجو الله أن يجزيهم عليه الثواب. عندهم ندوة شهرية في يومَي السبت والأحد من آخر كل شهر يحضرها نحو ألف من الرجال والنساء والطلاّب والعمال، يأتون إليها من أطراف البلاد، ومنهم من يقطع حتى يحضرها ثلاثمئة أو أربعمئة كيل (كيلومتر). وعندهم درس يوميّ للقرآن بعد صلاة الظهر، ودرس أسبوعيّ للفقه، وجلسة ثقافية يوم الجمعة يحضرها الرجال والنساء منفصلين كما يوجب الشرع. ثم إنهم يهتمّون بالأطفال فيدرّسونهم اللغة العربية لئلاّ ينسوها إذ يقيمون في بلد لا يسمعون فيه من يتكلم بها، والقرآن الكريم والثقافة الإسلامية، وعندهم اليوم 185 طفلاً تركياً و35 طفلاً يوغسلافياً.

ثم إن لهذا المركز نشاطات اجتماعية، فهم يُعِدّون في رمضان مائدة إفطار مشتركة ثم يشتركون بعدها في إقامة الصلاة: العشاءَين والتراويح. ولقد أدركت رمضان مرة عندهم فوجدت جواً روحانياً لا أكاد أجد مثله اليوم في بلد من بلاد المسلمين (إلاّ المملكة فرمضان فيها ما له نظير) وكل من يحضره من الشبّان ومن الشابّات، والشاب الذي ينشأ في طاعة الله أحدُ الذين يظلّهم الله بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه. ثم إن هذا المركز يعقد عقود الزواج، ويقيم حفلات التخرّج لشباب المسلمين، ويشارك في كثير من الجمعيات الإسلامية، وله كما علمت لقاءات منظَّمة في أوربا. وفي أوربا اليوم من المسلمين ما يزيد على ستة عشر مليوناً، إن لم يتدارك المسلمون فيها أولادَهم خسروهم وأضاعوهم، لذلك عزم المركز على توسعة بنائه توسعة تزيد أضعافاً على ما هو عليه الآن، وأن تكون فيه مدرسة للبنين ومدرسة للبنات، وأسأل الله أن يُلهِم القادرين مساعدتهم على ذلك. وأنا قد زرت أكثر البلاد الإسلامية، فما وجدت أزمة بخل ولكن وجدت أزمة ثقة. لقد كثر المدّعون الذين يجمعون الأموال لمشروعات إسلامية وهمية حتى ضاعت ثقة المسلمين بهم وبغيرهم. والقائمون على هذا المركز أعرفهم، ولا أشهد إن شاء الله زوراً إن قلت إنهم أمناء يضعون الأموال في مواضعها، ولست أقول هذا دعاية لأشخاص بأعيانهم فليس الذي يهمّني العاملون وإنما يهمّني العمل، وهذا العمل إن شاء الله عمل إسلاميّ ضروري ونافع. * * *

فتح عليّ هذا بابَ الكلام عن رحلتي التي رحلتها إلى ألمانيا، وقد دعاني يومئذ اتحاد الطلاّب المسلمين فيها إلى حضور مؤتمر في إحدى المدن الألمانية (في كيسن). وكنت أخشى السفر إلى أوروبا وأنكر على من يذهب إليها من غير ضرورة تُلزِمه زيارتها، وأتصوّر -لكثرة ما أسمع عن فسادها وفُشوّ المنكَرات فيها- أن الفواحش تُرتكب علناً على حاشية الطرق. فلما بلغتها ودخلت بضع عشرة مدينة من مدن أوربا الغربية لم أرَ فيها كلها مثل الذي كنت أراه في بيروت! على أني لم أعرف منها ولا من بيروت ولم أرَ إلاّ ما يراه الماشي في الطريق، ثم إني لم أنفرد بنفسي في أوربا أبداً، فقد كنت في السفر مع أهلي وفي التجوال مع نفر من الشباب المسلمين يسيرون دائماً معي لا يفارقونني، لذلك لا أستطيع أن أحكم على الخفايا التي لم أطّلع عليها، وأحمد الله على أني لم أطّلع عليها. كنت في عمّان فقطعوا لي تذكرة في شركة الطيران الألمانية (لوفتهانزا)، فركبنا من عمّان، وأنا أجد بحمد الله في كل سفرة -على قلّة سفراتي- مَن يجنّبني مشقّة الزحام في الوصول إلى الطيارة، فيُدخِلني المطار مدخلاً خاصاً ويخرج بي إلى ساحته مخرجا خاصاً ويُركِبني سيارة توصلني إلى سلّم الطيارة. وكان علينا أن ننام ليلة في بيروت لأن هذه الشركة لا تصل طياراتها إلى عمان. وكنت أعرف من فنادق بيروت فندق الأهرام للحاجّ أحمد المغربي، وقد سبق الكلام عنه، وعلى سطحه غرفٌ نحسّ فيها كأننا في منازلنا، والمجلس مع الحاج ومع من

يكون عنده من خيار المسلمين مجلس إسلامي، والطعام طعام شاميّ، والحاج أحمد أحسن من كان يطبخه في بيروت ويقدّمه في قهوة الحاجّ داود، والشاي الأخضر بالعنبر بعده، والصلاة جماعة وبعد الصلاة مجلس فيه فائدة أو موعظة فيها نفع. ونزلتُ مرة في غيره لأني وجدت السطح مشغولاً، وكان الفندق الذي نزلت فيه معدوداً من فنادق الدرجة الأولى، فما كان مني إلاّ أن ذهبت إلى ساكن السطح الذي ألِفتُ المبيت فيه فأعطيته غرفتي في الفندق الكبير، وأخذت هذا السطح بغرفه القديمة وأبوابه التي لها صرير. وكنت أنزل تارة فندقاً يطلّ على ساحة البرج على يمين المتوجّه إلى البحر، يوم كان البرج قلب مدينة بيروت وكان فيه ملتقى خطوط الترام ومواقف السيارات وكان مجتمع الناس، وكان معي في تلك السفرة زميلي في المحكمة القاضي الشيخ مرشد عابدين، فقلت لصاحب الفندق: إن الغرفة التي تعوّدت النزول فيها مطلّة على الساحة وفيها ضجيج لا يدعني أنام، فأعطِنا غرفة في الجهة الأخرى. فأظهر الدهشة والعجب وقال: كيف تنزل في تلك الغرفة؟ فما فهمت سرّ سؤاله وحسبت أنه لا يرتضيها لي لأنها من غرف الدرجة الثانية، فأصررت عليها لأنني فضّلت هدوءها الذي قدّرته على فخامة الغرفة الأولى مع ضجيج الساحة. فلما خضع لرأيي ونزلنا الغرفة عرفت سرّ امتناعه؛ ذلك لأن نوافذها تطلّ على عمارات «المحل العمومي» الذي لم نكن نعرفه. وأنّى لي وأنا شيخ وقاضٍ شرعيّ وأنّى لزميلي وهو مثلي أن نعرف هذا المكان؟

فلما أطللنا من النافذة ورأينا ما في تلك العمارات عرفت سرّ محاولته صرفي عن المبيت فيها. ذلك أن وراء صف العمارات القائمة على أكبر ساحة في المدينة حيّ كامل هو حيّ البغاء، فيه كما علمت المومسات وعلى أبوابهن لوحات بأسمائهن والأضواء ساطعة فيه والمنكَرات معلَنة. شيء ما كنت أظنّ أن مثله يكون في بلد من بلاد العرب وبلاد المسلمين (¬1). ولم أكن أعرف من الفنادق الكبرى الممتازة (كما يدعونها) إلاّ فندق سان جورج، أراه من ظاهره ضخماً متربعاً على الشط لم أدخل جوفه، فلما خبّرونا أن الشركة ستُنزِلنا أنا وزوجتي على حسابها في فندق ممتاز لأننا من ركّاب الدرجة الأولى في الطيارة حسبت أنهم سيُنزِلوننا فيه، وإذا هم ينزلوننا في أخ له لعلّه أضخم منه فرشاً من الداخل، ولكن ليست له هيئته ولا هيبته من الخارج، وقد قال العارفون إنه إن لم يَفُقْه لم ينزل في درجته عنه. ولم أستطع أن أنام إلاّ سويعات متقطعات، لأن من عادتي أن يطير النوم من عيني إذا كان عندي موعد صغير أفكّر فيه أخاف أن يفوتني، فكيف وأنا مُقدِم على أصعب رحلة في حياتي؟ ولقد رحلت من قبل إلى أقصى الشرق وسلكت الصحراء، ولكني كنت ¬

_ (¬1) ومن عجيب ما رأينا لمّا أطللنا من النافذة قبل أن ندع الغرفة، واحدة من نساء المحل (أي من المومسات) بالحجاب الشرعي والخمار الأبيض والسبحة في يدها، لأننا كنا في آخر شهر رمضان. فهي تتوب فيه وتدع ما كانت فيه! فلا ييأس الدعاة إلى الله، فما دام في القلب بقية من إيمان فالإصلاح ممكن.

مَقُوداً لا قائداً، وكان معي من يرتّب لي أمري ومن يُزيح لي علّتي (كما كان يقول الأولون) ويُعنى بي ويهيّئ لي كل ما أحتاج إليه، وأنا اليوم مسؤول عن نفسي وعن زوجتي، أمشي إلى بلد لا أعرفه وليس في فمي لسان أخاطب به أهله. والفرنسية التي كنت أتقن نحوها وصرفها والتي أخذتُ بحظّ من أدبها واطّلاع على أخبار أدبائها (ولا أزال أستطيع أن أقرأ بعض ما كتبوا) تركت درسها من سنة 1929، ثم إني من الأصل أقرؤها ولا أنطق بها، ذلك أن الفرنسيين الذين كانوا يعلّموننا لسانهم كما يعلّمونه أبناءهم في باريس، المناهج هي المناهج والكتب هي الكتب، هؤلاء الفرنسيون دفعونا بحماقتهم عن النطق بلسانهم. ثم إن الذي يحبّ أن ينطق بلغة عليه أن يفكّر بها، لا أن يفكّر بالعربية مثلاً ثم يترجم فكره إليها. أضرب لذلك مثلاً: أردت في بروكسل أن أركب سيارة أجرة، ففكّرت فيما أقوله له لو كنت في بلدي؛ أقول: خذني إلى محلّ كذا. فلما ترجمت له كلمة خذني ضحك وتعجّب مني، فقلت أكلمه بالفصيح فأقول كما كان يقول أجدادنا الأولون «احملني إلى كذا»، فلما سمع ترجمة احملني ازداد الخبيث كركرة وضحكاً، ذلك أنهم يقولون للسائق «قُدْني» (conduisezmoi)، لا يقولون خذني ولا يقولون احملني. * * * المسافر المُقدِم عادة على البلد المجهول تتنازعه عاطفتان، هذه تشدّه من هنا وتلك تسحبه من هناك: تطلُّع إلى الجديد، وكل جديد له لذّة، ورهبة من الظلام، وكل ظلام مقترن بالخشية. وقد

عرفتُ من قبل طرفاً من إفريقيا لمّا ذهبت إلى مصر، ثم أوغلت في آسيا لمّا سافرت إلى السند والهند والملايا وجاوة، ولكن هذه هي أول مرة أزور فيها أوربا. وأصبحنا وذهبنا إلى المطار. وكان مطار بيروت يومئذ أكبر مطار رأيته في عمري، لا تكاد تهبط فيه طيارة حتى ترتفع منه أخرى، ولقد شبّهته يوماً بهذه الحياة الدنيا: نكون حول المائدة نتغذى أو نشرب الشاي، لا ندري متى تقوم طياراتنا بالضبط، فنسمع من المكبّر أسماء ناس منا يُدعَون إلى الطيارة المسافرة إلى باريس وناس إلى التي تقصد كراتشي والثالثة التي تذهب إلى أواسط إفريقيا، أليس هذا هو مثال الحياة الدنيا؟ نجتمع فيها على الطعام والشراب والحديث والعمل، لا ندري متى يُدعى الواحد منا إلى السفرة الطويلة التي لا يؤوب منها والتي لا يدري غايتها، لا يعرف هل يُدعى إلى الجنة والنعيم المقيم فيها أم إلى النار والعذاب الدائم، ونحن في غفلة ننسى مصائرنا، وننسى أن حياتنا على هذه الأرض حياة موقوتة، وأن مردّنا إلى الله، وأن الآخرة لَهي الحيوان، أي الحياة الدائمة الباقية. نسأل الله أن يوقظ قلبي وقلوبكم، وأن يردّنا جميعاً إلى دينه، وأن يحسن خواتيمنا. وقامت بنا الطيارة في موعدها المحدَّد لها، لم تتقدم عنه دقيقة ولم تتأخر عنه دقيقة. وهذه إحدى صفات المؤمنين، تَخلّينا نحن عنها وتمسّكوا هم بها. أليس من شأن المؤمن ضبط المواعيد؟ أليست مواعيدنا الإسلامية على الدقيقة؟ أليس الذي يفطر في رمضان قبل غروب الشمس بدقيقة يكون قد أفسد صيامه ووجب عليه القضاء؟ أليس الذي يصلّي قبل حلول وقت الصلاة

بدقيقة لا تُقبَل منه صلاته؟ فلماذا علّمَنا الدينُ ضبطَ المواعيد ثم أقمنا حياتنا على الإخلال بها؟ ألم يقُل الرسول عليه الصلاة والسلام: آية المنافق ثلاث، منها أنه إذا وعد أخلف؟ فلماذا يعمّ الخُلف مواعيدَنا؟ مواعيدنا الشخصية، ومواعيد حفلاتنا واجتماعاتنا، ومواعيد دعواتنا وولائمنا؟ ولماذا أخذ هذه الحسنةَ منا غيرُنا وتخلّينا نحن عنها؟ وعلَت بنا الطيّارة فرأيت منظراً عجباً؛ رأيت كأن تحتي خريطة كبيرة مجسَّمة لقبرس (قبرس بالسين لا بالصاد) وطرف إيطاليا، فقلت: لا إله إلا الله، سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين. سخّر لنا الفُلك تجري في البحر بأمره، وسخّر لنا الخيل والبغال والحمير، وخبّرنا أنه يخلق ما لا تعلمون. من قال لمحمد ‘ -الذي عاش في بلد ما فيه مدرسة ابتدائية والذي لم يتعلم كتابةَ اسمه والذي لم يسمع بأرسطو ومن قبله أفلاطون- أن الله سيخلق غير هذه المراكب التي نراها؟ ثم سرنا فوق البرّ الأوربي فرأينا من تحتنا البلاد والقرى والجبال والبحيرات والطرق، منظر عجب كنت أغمض عيني تارة فأتصور أني أرى ذلك في منام. ألم يرَ كثير منكم في المنام أنه يطير على وجه الريح ويرى الدنيا من تحته؟ لقد حقّق الله هذا الذي كنا نراه بالأحلام! ثم هبطنا في ميونخ (التي يسمّونها مونْشِنْ) لمشاهدة الجوازات والإذن لنا بدخول البلاد، فوجدنا مطاراً هائلاً ومعاملة كريمة وثقة بالغة. ولم تكن يومئذ قد ظهرت بدع خطف الطائرات، ولا كانت مظاهر الإرهاب وإيذاء الركاب.

وعدنا إلى الطيارة. وهنا ذهبَت السَّكْرة وجاءت الفكرة: إن الطيارة ستنزل في فرانكفورت، فأين الطيارة الأخرى التي تحملني إلى آخن؟ وحرت، فأنقذني الله بأن وجدت رجلاً كريماً عرف أني عربي مسلم حائر، وكان عربياً كريماً من البحرين. * * *

رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

-199 - رحلتي من فرانكفورت إلى آخن انتهت الحلقة السابقة وأنا في فرانكفورت التي لم أكن أعرفها ولا أعرف أحداً فيها. وكانوا يعلّموننا ونحن صغار في المدرسة أن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فوجدت هنا أني بنفسي أقلّ من القليل لأنني لا أُحسِن صنعاً ولا أعرف لنفسي وجهة، وأنه لا إخوان لي أتكثّر بهم. فجعلت أتلفّت حولي أفتّش عن مَنْجَى، ولا منجى ولا ملجأ إلاّ إلى الله، وحسب المؤمن الله. أدور كما كان يدور الأحوص في طرق المدينة ليرى أم جعفر: أدورُ ولولا أنْ أرى أمَّ جعفرٍ ... بأبياتِكم ما دُرْتُ حيثُ أدورُ وما في مطار فرانكفورت جعفر ولا أم جعفر. وكنت أرى مطار بيروت أكبر مطار فوجدتُه هنا غرفة في دار! كلاّ، ما هذا مطاراً ولكنه قرية كبيرة أو بلدة صغيرة، اللوحات التي تُرشِد إلى مخارجه فيها حروف معها أرقام، تدلّ على أنها عشرات وعشرات. جهنّم لها سبعة أبواب وهذه لها سبعون، وأنا فيها ... أرأيتم الصرصور يسقط في القدر الفارغة الملساء الجوانب، يعدو في كل اتجاه يريد أن يصعد وكلما صعد زلّت به القدم فسقط؟

ورأيت مَن كان معي في الطيارة يؤمّون موضعاً يتجهون إليه يأخذون منه حقائبهم، فسرتُ من حيث ساروا، فوجدت نضداً مستطيلاً عليه الحقائب يمشي بها، بطيئاً مشيه، فكلما أبصر أحدهم متاعه مدّ إليه يده فأخذه ومشى، حتى مشى الناس كلهم وانقطع سير الحقائب، وبقينا أنا وزوجتي واقفَين لم نتسلّم متاعاً ولم نقضِ من وقوفنا وطراً. فذهبتُ فكلّمتهم فما فهموا عني وكلّموني فما فهمت عنهم، فأدركت مبلغ الخسارة التي خسرتُها حين لم أُحسِن النطق بالفرنسية. وماذا ينفعني أن أفهم ما قرأت من روائع أدبها وبدائع بيانها، وأنا لا أدري كيف أستعملها للسؤال عن متاعي؟! على أن الفرنسية لم تعُد شيئاً أمام الإنكليزية التي فرضها نشاط أهلها على ربع العالَم؟ ولقد قلتُ قديماً مقالة حقّ لا مقالة عربي يتعصّب للسانه: إن العربية في الدرجة الأولى بين الألسُن واللغات، والدرجة الثانية والثالثة شاغرتان فارغتان لا شيء فيهما، وفي الدرجة الرابعة الفرنسية، أما الإنكليزية فتأتي متأخرة ولكن نشاط أهلها هو الذي قدّمها. انصرف الناس وبقيتُ حيران لا أنصرف. و «حيران» ممنوع من الصرف إذا كنتم لا تزالون تذكرون ما درستم من قواعد اللغة العربية. هنا، وعند شدة الضيق يأتي الفرج؛ جاء الفرج من البحرين. والنسبة إليها عند العرب «بحراني»، ولكنهم (ولست أدري لماذا) لا يحبّون أن يُدعى أحدهم بها. وباب النسب عند العرب أكثره سَماعي، فإن نسبوا إلى المدينة المنوَّرة (بنور الإسلام) قالوا: «مدني»، فإن وجدتم بين المحدّثين من اسمه «المَديني» فهي نسبة إلى مدينة المنصور، أي إلى بغداد أول

مابناها، فإن قالوا «المدائني» فالنسبة فيها إلى مدائن كسرى. وكان رجلاً عربياً كريماً، تاجراً من البحرين، مرّت ستّ عشرة سنة ما نسيت فيها ما كان من فضله وإحسانه ولكن نسيت أول اسمه، أمّا آخره فباقر. فهل تعرفون في آل باقر في البحرين رجلاً كان سنة 1970 مسافراً إلى ألمانيا؟ إذا رأيتموه فأبلغوه أني لا أزال أذكره وأشكره وأدعو له. رآني غرقان فأخذ بيدي؛ سألني عمّا أريد، فلما عرف خبري مدّ لي يد العون. وكان له عميل ألماني كأنه من عفاريت الجنّ، خرّاج ولاّج سريع الحركة واسع الحيلة كبير الطاقة، فهم قصّتي فدخل من حيث لم أكن أقدر أن أدخل وقال ما لم أستطع أن أقول، فجاء بالحقائب محمولة على عربة صغيرة تسير. وإذا خبرها أني لمّا وكّلت مَن يقطع لي التذكرة في عمان قلت له أن يوصلني بها إلى بروكسل فالسفر منها إلى آخن سهل ميسور، ما عليّ إلاّ أن أركب القطار فأصل بعد ساعة واحدة إلى آخن، ثم إن بروكسل ينطق شطرها باللغة الفرنسية، وأحسب أن ما بقي لدي من الفرنسية (وقد هجرتُها وتركتها من سنة 1929) أن ما بقي لديّ منها يكفي ليوصلني من بروكسل إلى آخن. وآخن عند ملتقى حدود ألمانيا وبلجيكا وهولندا، حتى إن الحدود ربما كانت فيها فكان هذا الجانب من الشارع من أرض هولندا أو بلجيكا والجانب الثاني من أرض ألمانيا، وكان الانتقال سهلاً والأبواب مفتَّحة. فلما رأوا بطاقة سفري نقلوا حقائبي إلى الطائرة التي تذهب إلى بروكسل، وكان عليّ أن أنتقل معها، وقيامها موقوت بوصول

طائرتنا، ولكني كنت في ظلمات من الجهل بعضها فوق بعض: جهل بالمكان، وجهل بالسكان، وجهل باللسان؛ فتركت الطائرة تُفلِت مني وبقيتُ في مكاني، فلم يبق إلاّ أن أبيتَ في فرانكفورت لأركب طائرة أخرى إلى بروكسل من الغد. وأخذَنا السيد باقر جزاه الله خيراً معه في سيارته إلى فندقه. وكان قد حجز له غرفة في فندق كبير، وكان في البلد معرض لست أدري ما هو كَثُرَ بسببه زوّار البلد حتى ضاقت بهم فنادقها، فحاول أن يجد لنا في فندقه غرفة فما استطاع، فترك عمله -أحسن الله إليه- وذهب معي في سيارته حتى وجد لي غرفة في فندق آخر، دون الذي ينزله هو وفوق الذي كنت أطلبه أنا، والشرط أن يكون في الغرفة حمّام حتى لا أُضطرّ إلى الخروج منها ومشاركة مَن لا أُحبّه في مرافقها، وهذا شرط أصرّ دائماً عليه ولا أقدر أن أتنازل عنه. فاختار لي الغرفة، وكلّم هو وعميله مديرَ الفندق أمامي فأمر بإصعاد المتاع إليها لنصعد نحن بعدها، فلما رأيناها وجدناها بلا حمام، فعدتُ إلى صاحب الفندق أكلّمه فلا يفهم عني. وكان كهلاً ألمانياً عصبياً حديد المزاج سريعاً إلى الشجار، وكنت في هذا كله مثله، بل كنت أكثر منه! فاختلفنا، وتركت الغرفة وخرجت أشتمه بلساني فتذهب الشتائم كالطلقات الطائشة من الرشاش تذهب في الفضاء فلا تصيب أحداً! بلغنا الشارع ووقفنا فيه، ولم نعرف لنا مذهباً نذهب إليه. وماذا أصنع وأنا في بلد غريب ولا أعرف فندق صاحبي لأذهب

إليه؟ فتصوّروا حقائبي على رصيف الشارع وأنا وزوجتي واقفان، وقد برّح بنا التعب فلم تعُد تستطيع الوقوف. وندمت على ترك الغرفة، لأن غرفة بلا حمّام خيرٌ من النوم على الرصيف ... هذا إن تركونا ننام عليه ولم يقبضوا علينا قبضهم على المشرَّدين فيكون مبيتنا في السجن! هنالك بلغتُ من اليأس قرارته وضاقت بي المسالك، بل لقد سُدّت في وجهي السبل. وحين تُسَدّ سبل الأرض كلها لا يبقى إلاّ سبيل واحد لا يُسَدّ أبداً ويظلّ دائماً مفتوحاً لا يردّ قاصداً، هو سبيل السماء، هو الدعاء، هو أن تدعو الله مخلصاً له الدين واثقاً من كرمه بالإجابة. وشرح الله صدري فذكرت أن السيارة لم تمشِ من الفندق الكبير إلى هذا الذي تركتُه إلاّ قليلاً، فهو إذن قريب. فجعلت أمشي على مهل حتى لا تضيع مني زوجتي، أتلفّت إليها تارة وأنظر أمامي تارة أتفرّس في وجوه الناس، حتى وجدت وجهاً يُشعِر بالطمأنينة فسألته بالفرنسية عن الفندق الكبير، ففهم والحمد لله عني ودلّني، فإذا هو قريب، فذهبنا إليه. والمصيبة في ما رأينا من المحطات والمطارات أنه ليس في شيء منها حمّالون كالذي نراه في بلادنا، وإنما فيها عربات صغار يوضع فيها المتاع وتُدفَع بالأيدي. لكنني في شارع، فمن أين آتي بالعربة؟ فأخذتُ سيارة أجرة وقلت له: خذني إلى الفندق الكبير. وكلمة فندق (أوتيل) تكاد تكون كلمة عامّة يفهمها الناس كلهم على اختلاف ألسنهم، وعجبتُ من نفسي كيف لم يخطر لي من أول الأمر أن أركب سيارة توصلني إليه. ودخلت الفندق وسألت عن صاحبي فوجدته مع عميله

الألماني قد بسطوا دفاترهم يتكلمون، فلما رآني ترك ما هو فيه جزاه الله خيراً وجعل همّه مساعدتي. ولم نكن قد أكلنا شيئاً ولا صلّينا الظهر (وإن نوينا الجمع)، فأخذنا إلى غرفة في الفندق كانت خالية استأجرناها إلى غروب الشمس فقط، فاسترحنا وأكلنا وصلّينا. ورجعت إلى صاحبي أسأله: ما العمل؟ قال عميله: لِمَ لا تذهب بالقطار؟ قلت: إن السفر بالقطار أحب إليّ، ولكن هل يمضي رأساً إلى آخن؟ قال: بل لا بدّ من تبديله في بلدة كذا (ولقد نسيت الآن اسمها). قلت: هلمّ بنا. وكانت محطة القطار مواجهة الفندق في الشارع الذي كنا فيه، فذهبنا إليها، وسألته أن يقطع لي تذكرة في الدرجة الأولى، فحاول أن يُفهِمني (وكان يعرف كلمات من العربية) أن الثانية قريبة من الأولى وهي أرخص منها، ولكني لخوفي من المشقّة ورغبة في الراحة بعد ما رأيت من التعب أصررتُ على الدرجة الأولى. وأقعدني في غرفة للانتظار فيها مقاعد مريحة وخبّرني أن القطار يأتي بعد عشر دقائق، وودّعني لينصرف فحاولت أن أدسّ في يده مبلغاً من المال جزاء ما تعب بي فأبى واستنكر، بل لقد استكبر أن يأخذه وكاد يغضب، فتركته وأجزلت له الشكر وفارقته. * * * وأخذنا مكاننا في القطار، وسلك بنا طريقاً من أجمل ما عرفتُ من الطرق في حياتي، وكان يمشي على شطّ نهر الراين أرى منه النهرَ والسفن تجري فيه، والقرى والمدن على شطَّيه، والجبال الشَّجْراء من حولها ... منظر كان متعة للنفس وفرجة

للنظر، لولا أني كنت منشغل الذهن أخاف أن أصل إلى حيث يجب أن أبدّل القطار فلا أتنبّه إليه فيمضي بي إلى بلد لا أعرفها. ووادي الراين لمن عرفه من أجمل الأنهار، ولكن يد البشر ما مسّت شيئاً خلقه الله إلاّ أفسدته ومحت جماله ونقصت كماله. فقد سلّطنا عليه المصانع فلوّثت ماءه وعكّرت صفاءه، حتى إنني لمّا جئت بعد هذا بستّ سنين (سنة 1976)، وكانت سنة قحط، وجدته -فوق ما حلّ به من البلاء- قد قلّ منه الماء وتلوّث وفسد حتى صارت رائحته تؤذي الناس على الشطّين. وكنت أرى في تلك السنة الغابات في الجبال تشتعل ولو لم تمسسها نار، من شدة الحرّ واحتكاك الجذوع أو مما لست أدري، وكذلك البلاء إذا نزل لا يُرَدّ. ولكن أين مَن يعتبر؟ بالأمس القريب أُعلن أن الشيوعيين سينشطون في خططهم في نشر الإلحاد ومحاربة الأديان، يحسبون أنهم يتصرفون في ملك الله، فأدّبهم الله بأدقّ خلقه، بشيء يبلغ من صغره أنها لا تراه العيون ولا بالمكبّرات والمجاهر: بالذرّة. فكان ما كان في تشرنوبيل، ولَعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون. وما زلت كلما وقف القطار في محطة أسأل: أهذه مدينة كذا (¬1) التي يجب علينا أن نبدّل فيها القطار؟ فيقولون: لا. حتى إذا بلغتها جاؤوا فخبّروني (وقد سمعوني أسأل مرات) يقولون لي: هذه هي فأعدّ نفسك للنزول. ونزلنا من القطار، وأبواب القطار عادة عالية، لذلك يرفعون أرض المحطات حتى يسهل ¬

_ (¬1) لا بد أنها كولونيا (كولْن)، فهي التي ينتقل فيها المسافر من قطار فرانكفورت إلى القطار الذاهب إلى آخن. وباسم هذه المدينة سُمّي ماء العطر (الكولونيا) لأنه صُنع أولَ ما صُنع فيها فنُسِب إليها (مجاهد).

الخروج منها والدخول إليها فيكون القطار كأنه يمشي في حفرة من الأرض، ثم ننزل من المحطة على درجات فنصل إلى الشارع. دَلّوني على القطار الذي ينبغي أن أنتقل إليه فإذا بيني وبينه حفرتان من هذه الحفر التي تمشي فيها القطارات، أي أن عليّ أن أنزل إلى الشارع ثم أصعد من الجهة الأخرى حتى أبلغ القطار الذي أريد. وكانت حقائبي ثقيلة فحرت ماذا أصنع، وإذا بشابّ عريض المنكبين قويّ الساعدين يتدفق صحّة وقوة، فسألني بالإشارة عن القطار الذي أريد فأشرت إليه، فأمسك بالحقيبتين باليدين وقفز قفزة واحدة من جانب إلى جانب وأتبعها بقفزة أخرى، وأشار إليّ أن أنزل أنا بالدرَج. فنزلت وأنا ألهث من التعب وزوجتي معي حتى صعدنا، وخفت (و «سوء الظنّ من أغلى الفِطَن» كما يقولون) أن يذهب بها، وإذا هو قد وضعها لي في غرفة القطار وأمرني أن أصعد، وبدأ القطار يتحرّك فمددت يدي إليه بشيء من المال، فجعل يشكرني بوجهه الذي انطلقت منه الأسارير وضحكته التي بلغت أقصى الخدّين ولسانه الذي تدفّقت منه الكلمات وإشارات يديه. فعجبَت زوجتي وقالت: كم أعطيته؟ قلت: أعطيته ماركاً ونصف المارك. قالت: هذا الشكر على أكثر من ذلك، فاحسب ما معك. فما عرفت كيف أحسب، قلت: إذا رجعنا حسبنا. فلما رجعنا وحسبت ما كان معي وجدت أنني لم أعطه ماركاً ونصف المارك بل أعطيته مئة وخمسين ماركاً، لذلك كان منه هذا الشكر العجيب. هنالك اطمأننت لأني علمت أني لن أنزل من مركبي إلاّ في

آخن، وجعلت الآن أتأمل ما حولي وأستمتع بما أمرّ به من جميل المناظر. وكذلك تتغير الدنيا أمام الإنسان بتغيّر حالة نفسه، فكأنه يراها من خلال زجاج وضعه أمام عينه، فإن كان مبتئساً كان زجاجاً أسود رأى الدنيا من خلاله سوداء، وإن كان مسروراً أبصرها من خلال زجاج وردي فرآها مشرقة مزهرة. رأى لامارتين البحيرة لمّا كان مع إلفير بغير العين التي رآها بها لمّا عاد إليها وحده بعدما ماتت إلفير، فأنشد فيها قصيدته التي تُعَدّ رائعة في الأدب العاطفي الرومانسي، والتي ترجمها الزيات نثراً وإلياس فيّاض شعراً، فتصرّف في معانيها وعبّر عنها بخياله العربي فقال في مطلعها: أهكذا تنقضي دوماً أمانينا نطوي الحياةَ وليلُ الموتِ يطوينا تَمضي بنا سُفُنُ الأيامِ ماخرةً بحرَ الوجودِ ولا نُلقي مَراسينا بل لعلّ الفيلسوفَ المتشائمَ تشاؤمُه لعلّة في جسده أو نكبة في معيشته. لو كان أبو العلاء المعرّي مبصراً يرى الدنيا ويعيش كما يعيش الناس هل كان يقول هذه الأشعار؟ أوَلم يكن يختلف شعره لو كان له مثل جسد بشّار (وهو أعمى مثله) ومثل شهوته ومثل إقباله على طعامه وشرابه؟ لي رسالة عنوانها «في التحليل الأدبي» مطبوعة من خمس وخمسين سنة شرحت فيها أثر التكوين الجسدي والوضع الاجتماعي والحالة النفسية للأديب في أدبه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر «مقالة في التحليل الأدبي» في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

وبلغنا آخن، وقلت لسائق السيارة أن يأخذني إلى المسجد، وكان معروفاً ولم يكن في البلدة مسجد غيره، وكان أمام المحطة الفرعية للقطار فلم يكن يضلّ عنه أحد. وكان المسجد مجاوراً لأبنية الجامعة في آخن، بل هو داخل في نطاقها، فلما دنوت منه وجدت حفيدَيّ هادية وأيمن ولدَي الأستاذ عصام العطّار يلعبان، فدعوتهما، فلما رأياني بدت على وجهيهما دهشة لايمكن وصفها، ثم زادت هذه الدهشة وتضاعفت لمّا رأيا جدّتهما (زوجتي) معي، وأسرعا إلى أمهما يخبرانهما. كانت مشغولة الفكر مرّت عليها أيام أبطأت فيها رسائلنا وتعسّر الاتصال بنا، فلما قالا لها إننا هنا حسبت (كما خبّرتني رحمها الله ورزقني الصبر عنها) أنهما يمزحان معها فكادت تغضب منهما، فلما أكّدا الخبر وكرّراه خرجت لترانا فلم تصدّق بصرها، وجاء عصام فخرج يتلقانا يرحّب بنا. وكان كل ما بذلنا من الجهد وما حملنا من المشقّة لهذه المفاجأة التي لم يكن ينتظرها أحد. * * *

الدعوة الإسلامية في ألمانيا

-200 - الدعوة الإسلامية في ألمانيا أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلاّ التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي أنا إلاّ ذكريات فيها الألم المرّ. مَن يقفز قفزة لا يقوى عليها يسقط بعدها سقطة قد لا ينهض منها، وأنا قفزت من ذكريات سنة 1947 في مصر إلى سنة 1970 في ألمانيا. وهل في ذكرياتي عن ألمانيا إلاّ بنتي؟ لولاها ما وطئت ثرى تلك البلاد. وما لي فيها؟ وهل أستطيع أن أحدّث عن رحلتي إليها من غير أن يكون الحديث عن بنتي؟ وهل أستطيع أن أتحدث عن بنتي وجرحُها لم يلتئم بعدُ في قلبي؟ على أنني رجعت بالذكرى إلى أيام صِغَري فوجدت أن عيدي -من يوم عرفت العيد- ممزوج فيه السرور بالكدر، يختلط فيه هتاف المعيّدين بنُواح المفجوعين، وتتجاور فيه الحياة في أحلى صورها بالموت في أجلى مظاهره. ذلك أن أعيادنا لمّا كنت صغيراً كانت تُقام في حيّنا في المقبرة (وكانت مقبرة الدحداح في طرف دمشق فصارت الآن في وسط وسطها)، ولا تزال صورتها من أقدم الصور المحفورة في نفسي حفراً؛ كنا ندخل إليها من حارة ضيقة لا يعدو عرضها المترين فنصير في ساحة واسعة،

كان فيها شجرة ضخمة لا أزال أذكرها ممتدّة الفروع كثيفة الظل، وحولها بيوت فقيرة جداً في حارة كانت تُسمّى «المعمَّشة». ولعلّ مَن سمّاها اشتقّ اسمها من «العَمَش»، فمَن كان فيها لا يبصر من الدنيا إلاّ صوراً مشوَّهة كالتي يراها الأعمش. ثم نمرّ إلى المقبرة فنرى إلى اليمين جدولاً صغيراً غائراً في الأرض على طرفَيه أشجار شديدة الخضرة يانعة المنظر نامية الفروع. وكيف لا تنمو وتخضرّ والجدول الذي يسقيها لم يكن إلاّ الماء الذي يخرج من المجاري؟ وعلى كتف الجدول ساقية لم تكن نظيفة، ولكنها بالنسبة إلى الجدول فيها العذب الزّلال. وكان من أثر هذه الساقية في نفسي أن كتبت عنها في السنين الأولى من «الرسالة» (في عدد لم أعُد أذكر تاريخه) مقالة ضافية الذيول فيها ذكريات وفيها تاريخ، لا أزال راضياً عنها على مرور أكثر من خمسين سنة عليها، على حين لا أرضى الآن عن كثير مما كتبت (¬1). وكان من عاداتنا التي نشأنا عليها صغاراً واستمررنا عليها كباراً أن نذهب صباح العيد -بعد أداء حقّ الله بالصلاة- في أداء حقّ الأموات بالزيارة والدعاء. فأنّى لي الآن وهذا يومُ العيد أن أقوم بهذا الذي كنت أراه واجباً عليّ؟ كيف أصل إلى القبرين اللذين ضمّا أحبّ اثنين إليّ، أبي وأمي، وبيني وبينهما ما بين مكة والشام؟ وكيف أصل إلى القبر الثاوي في ضاحية مدينة آخن في ¬

_ (¬1) هي مقالة «ساقية في دمشق»، نُشرت في الرسالة سنة 1935، وهي في كتاب «دمشق» (مجاهد).

ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها؟ ما كان يخطر على بالي يوماً أن يكون في قائمة من أزور أجداثَهم بنتي، ويا ليتني استطعت أن أفديها بنفسي وأن أكون أنا المقتول دونها. وهل في الدنيا أب لا يفتدي بنفسه بنتَه؟ إذن لَمِتُّ مرة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً، بينما أنا أموت الآن كل يوم مرة أو مرتين، أموت كلما خطرت ذكراها على قلبي: ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بمَيْتٍ ... إنّما المَيْتُ ميِّتُ الأحياءِ فما لي أعاود الآن محاولة تذكّرها والكتابة عنها؟ أما حاولت أن أكتب ستّ مرات من قبلُ ثم عجزت؟ إن المصاب أكبر من أن ينهض به قلمي ثم يجري وهو يحمل وقره على القرطاس، فيقرأ الناس فصلاً أدبياً يستمتعون بقراءته ساعة ولا يدرون كم بذلتُ في كتابته. لقد كانت الأيام التي قضيتها في ألمانيا وبلجيكا وهولندا من أمتع أيام حياتي، وكانت هي مصدر متعتها ومبعث جمالها، كانت المصباح الذي ينوّر لي ما حولي فأراه، فماذا أصف بعدما انطفأ المصباح وانكسر زجاجه؟ لذلك أدع الحديث عنها وأستبقي ألمي لنفسي، وإن ضاق به صدري وعجز عنه احتمالي، ذلك لأنني مؤمن بأنها من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم ولكن لا نشعر نحن بحياتهم. أدع الحديث عنها وأتحدّث عن عملها حديثاً لعلّ فيه للقراء نفعاً، ذلك لأن الشبّان والشابّات في أوربا على حافّة الدخول في الإسلام، ما بينهم وبينه إلاّ أن يأتيهم مَن يعرّفهم به ويدلّهم عليه، على أن يكون عارفاً بنفسياتهم، يفكّر بمثل تفكيرهم

ويكلّمهم بلسانهم. لا أعني أن يُحسِن الإنكليزية أو الفرنسية فقد صار من العرب كثيرٌ ينطقها كأهلها، ولكن أريد من يعرف السبيل إلى إقناعهم والوصول إلى قلوبهم. إن إدخال هؤلاء إلى الإسلام أهون من أن تردّ إليه مَن نشأ مسلماً في أسرة مسلمة ثم امتلأ قلبه بمذهب إلحاديّ أو انتحل نِحلة مكفّرة، أخلص لها ومشى معها وصار من أهلها. مثل دعوة هؤلاء كمن يشتري الدار القديمة ليقيم في مكانها بناءً جديداً، فهو يحتاج إلى هدمها ونقل أنقاضها وإخلاء أرضها، والأوّلون (أي أكثر شباب أوربا) كمَن يجد الأرض خالية، لا يُحوِجه البناء عليها إلاّ إلى شقّها وإرساء الأساس فيها ثم إقامة الدعائم على هذا الأساس. قلوب أكثر الشبان والشابات في أوربا (أو من عرفت منهم) خالية ليست فيها عقيدة دينية راسخة، فالنصرانية بارت في أوربا سوقُها والكنائس خلَت أو كادت من أهلها (والذين يرتادونها إنما يدخلونها بأجسادهم وقلوبُهم وراء أبوابها) على ما أحدثوا فيها من الوسائل الجديدة التي يُغرون بها الناشئة للدخول إليها، وأكثر هذه الوسائل لا يرضى الدين بها. وقد رأيت كنائس تخلّى عنها أصحابها. ولا تغترّوا بنشاطهم بما يسمّونه التبشير، والذي نبّهت من قديم إلى ما في اسمه هذا من تزوير وأنه ليس تبشيراً ولكنه التكفير والتنصير، إلاّ أن يكون من أسماء الأضداد كتسمية المَهْلَكة بالمفازة والأعمى بالبصير. ليس بين الناشئة في تلك الديار وبين اتّباع الحقّ الذي هو

الإسلام إلاّ أن يجدوا هذا الذي يعرّفهم به ويجلوه لهم. ولقد قام بذلك كثير في أوربا وفي أميركا، جزاهم الله خيراً، فأنشؤوا المراكز الإسلامية وفتحوا للناس أبوابها، وكان من هؤلاء عصام العطار. وكانت هي عوناً لعصام، كانت تتولى هي أمر النساء على حين يتولى هو أمر الرجال. والإسلام للرجال وللنساء، سوّى بينهما في الحقوق والواجبات وفي الثواب وفي العقاب، كما يسوّي قانون الموظفين بينهم جميعاً في الدرجة وفي العلاوة وفي الإجازات والتقاعد والإحالة على المعاش، مَن حمل شهادة نال الدرجة المحدَّدة لها، يستوون كلهم في هذا كله. لكن لا يستوون في العمل، فلا يُكلَّف الطبيب من الدرجة الثالثة بعمل المهندس من هذه الدرجة، ولا مدرّس الكيمياء في الجامعة بعمل زميله الذي يدرّس الفقه أو القانون. ومن هنا ما كان من اختلاف بين الرجل والمرأة إذ يرث اثنين وترث واحداً، وشهادة اثنتين منهن بشهادة واحد، وأن الطلاق بيده هو لا بيدها هي ... ولكل من هذه الأمور جواب ليس هذا موضع بيانه لكن أشير إليه. وإذا أَلِفَ الناس مني ما ابتُليت به من استطراد في سرد الأحاديث، فلأن أستطردَ ببيان حكم فقهي فيه نفع للقارئ ودفع تهمة ظالمة عن الإسلام أولى، فليحتملوه مني. أما الإرث وأن للذكر مثل حظّ الأنثيين فالجواب عليه: لو أن رجلاً مات عن بنت وولد وترك ثلاثين ألفاً فأخذت هي عشرة وأخذ هو عشرين، كان في بادئ الأمر مجال لسؤال سائل: لماذا أُعطيَت هي أقلّ مما أخذ هو؟ ولكن الأمور تؤخَذ جملة ليُحكَم لها أو عليها ولا تُفرَّق أجزاء، ولا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛

فهو أخذ عشرين ثم تزوّج فدفع منها مهراً، وأخذت هي عشرة ثم تزوّجَت فأخذت مهراً فوقها، ثم أخذ ينفق هو على بيته وزوجته وهي ينفق عليها زوجُها، فيتوفر ما معها وينقص ما معه هو، فلا تمرّ مدّة حتى تنقلب الحال فتصير هي ذات العشرين ويبقى له هو العشرة أو لا يبقى له شيء. وأما الشهادة في المحكمة وأن شهادة اثنتين تعدل شهادة واحدة، فلست أدري لِمَ يحرص النساء عليها ولم الاحتجاج على وضعها، والشهادة تكليف لا تشريف، ومهمّة ثقيلة يفرّ العقلاء ما استطاعوا منها ولا يحرصون عليها. وما نفعها في أن تُدعى إلى المحكمة فتدع عملها وتترك بيتها، ثم تنتظر في المحكمة دورها وتُسأل أمام الناس فتجيب، وتُناقَش فتنجو أو تعجز؟ أليس من الكرامة لها أن يُخفَّف هذا الحمل عنها؟ ثم إن الجواب أن أكثر دعاوى المحاكم دعاوى مالية أو اجتماعية، أقول هذا وقد مارستُ القضاء من أدنى درجاته إلى أعلاها فخرجت وأنا مستشار في محكمة النقض في القاهرة ومن قبل ذلك في الشام. والمرأة ببعدها عن المجتمع لا تعرف عنه ما يعرف الرجل ولا تذكر منه ما يذكر، لأن الانتباه مرتبط بالمصلحة، والمرأة لا مصلحةَ لها في شيء من هذا. ومَن درس علم النفس أو قرأ نظرية طاغور، الكاتب الهندي الذي لم يكن عربياً ولا مسلماً، وجد عنده تأكيد هذا الكلام حين يجعل لكل امرئ عالَمه الضيق من عالَم الله الواسع، يعيش فيه ولا يكاد يخرج بفكره واهتمامه عنه. هل تنتبهون وأنتم تطالعون جريدة الصباح إلى مواعيد وصول البواخر إلى الميناء وإبحارها منه؟ أمّا التاجر الذي ينتظر وصول البضاعة فإن أول ما يقرؤه من الجريدة

هذه المواعيد، بل ربما اشترى الجريدة ليراها ويقرأها. وأما الطلاق وأنه بيد الرجل فأحسن جواب عنه ما سمعتُه من أخي ورفيقي في كلية الحقوق الدكتور معروف الدواليبي، الذي أجاب به في أحد الملتقيات التي كانت تقيمها حكومة الجزائر. ذلك أن بعض الحاضرات من النساء سألن عن علّة جعل الطلاق بيد الرجل، فأجاب بأن ما تقرّره «نظرية العَقْد» التي تُدرس في كليات الحقوق كلها أن عقود المُعاوَضة هي في حقيقتها مبادلة بين ما يقدّمه طرف وما يقدّمه الطرف الثاني، وعقد الزواج المقصود الأول منه هذه الصلة التي تكون بين الرجل والمرأة والتي يكون من ثمرتها الولد، والتي قرن الله بها هذه اللذّة لتدفع إليها وتُبقي عليها، يقول: إن هذه اللذّة مشترَكة بينهما، ولكن الشرع منحها المرأة مجاناً وأجبر الرجل وحده بأن يدفع ما يقابلها وهو المهر، لذلك كان من حقه وحده أن يحلّ هذه الشركة، وإلاّ أُلزِم بالغرم ولم يكن له شيء من الغُنْم، ولو كان الطلاق بيدها تُوقِعه متى شاءت والزوج هو الملزَم بأداء مؤجَّل مهرها لكان الظلم في ذلك ظاهراً. ولعلّي أسأت نقل جوابه أو لم أنجح في تلخيصه، لكنه جواب لا يسع المعترضَ إلاّ قبوله. * * * قلت إنها كانت تتولى هي جلّ قسط النساء من الدعوة إلى الله، ساعدها في ذلك ذكاء منقطع النظير رزقها الله ورزق مثله أخواتها، أقول هذا تحدّثاً بنعم الله لا فخراً وترفّعاً على عباد الله.

فدرسَت وحدها لأنها لم تُكمِل في الثانوية دراستها، وأرشدها وأعانها زوجُها الذي كان أستاذها، والذي صارت به مدرّسة ومرشدة لرفيقاتها من البنات. وأنا أنصح من أراد أن يتقن علماً وكان عنده اطّلاع على أسسه ومعرفة بمراجعه أن يدرّسه، فإنه لا يقوّي طالبَ العلم ولا يُعينه على إتقان هذا العلمَ مثلُ تدريسه. لقد بلغَت -بجِدّها وإخلاصها في طلب العلم واتصال قلبها بالله واستعانتها به واعتمادها عليه- منزلة سلوا عنها مَن عرفها من بناتكم وأخواتكم اللواتي كنّ يومئذ في تلك الديار. وأنا أحمد الله على ما وفّقني إليه، فكانت بناتي كلهن متعلمات، وكُنّ داعيات إلى الله دالاّت على الطريق إليه، من غير انتساب إلى جماعة ولا إلى حزب ومن غير طلب رضا أحد من العباد، لا يقصدن إلاّ طلب الرضا من الله الواحد الأحد. بنتي الأولى لم تكمل دراستها ولكنها جدّت وحدها بالمراجعة وفي الدراسة حتى حصّلت ما لا يكاد يحصل على أكثر منه من مضى في الدراسة إلى آخر الجامعة، والثالثة محاضِرة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، ناجحة ولله الحمد، قامت بتدريس النحو والأدب وأصول الفقه والثقافة الإسلامية. ولتحصيلها قصةٌ عَجَبٌ أسردها لا لأنها قصة بنتي بل لأن فيها عبرة للناس ومثلاً يحتذونه؛ ذلك أنها تركت المدرسة مثل أختيها الكبيرتين قبل أن تتمّ المدرسة المتوسطة، وقضى الله أن تنفرد بنفسها وأن تقوم على تربية بنات ثلاث لها من غير معونة من أبيهن، فدرَست في بيتها حتى نالت شهادة الكفاية، ثم صبرت على الدرس وحدها حتى نالت الثانوية، ثم الإجازة الجامعية، وحملت بعد ذلك شهادة

الماجستير، وهي تحرص على نيل الدكتوراة لا أمنية لها في غيرها. وأمّا الرابعة فلها ولزوجها قصة لعلّها أعجب مما ذكرت؛ لقد درسا في كلية الشريعة في دمشق، وكانت دراستها المتوسطة والثانوية هنا في المملكة، فلما بلغت امتحان التخرج ونجحت في بعض المواد سافرت وسافر زوجها، وكان مِثلَها في الامتحان الأخير، فما نالا الشهادة، فكان مثالهما كمن جاء للحج فقطع البراري وركب لُجَج البحار، أو طار في الجوّ حتى بلغ مكة، فلما لم يبقَ بينه وبين عرفات إلاّ عشرون كيلاً قعد فلم يحج! وأمّا الصغرى فحصّلت هنا بحمد الله الشهادات كلها وهي الآن في الشوط الأخير من الجامعة، فعلت ذلك على قيامها على أولادها وإشرافها على بيتها. ولا تعجبوا أن سردت هذا، فما أبغي به الدعاية لهن، وما يطلبن وظيفة ولا يرشّحن أنفسهن لانتخاب ولا يدخلن مسابقة ولا يبغين زواجاً، ما ينتفعن من سردها وإنما النفع -إن شاء الله- للقارئات. ولو أردت أن أزيد أن حفيداتي أيضاً مشين في هذا الطريق وهن أمهات، فمنهن من أكملت الجامعة ومنهن من لا تزال تدرس في الجامعات. أما بنتي التي أتكلم عنها رحمها الله فكانت في المسجد داعية ومعلّمة، ومع البنات هناك أختاً كبيرة أو أماً صغيرة، لا سيما لمن كانت جديدة منهن لم تألف البلد ولم تعرف فيه أحداً. كانت ترعاهن، تسهّل الحياة عليهن، تشاركهن في حلّ مشكلاتهن. والعظيم في ذلك أنها تصنع هذا كله بمحبّة صادقة للناس كلهم، فطرها الله عليها وأعطى أخواتها مثلها. فكانت الأسر المسلمة

في ألمانيا كأنها أسرة واحدة، ورُبّ أسرة حقيقية فقدت الحب والتعاطف وهؤلاء كُنّ يشكّلن أسرة متحابّة متعاطفة. كانت تعمل هذا كله وهي بالحجاب السابغ والبعد عن المحرَّمات، ثم تعود إلى الدار فتتولى هي جميع أمور الدار، تشتري اللحم والخضر، وأكثر من يبيع ذلك هناك من النساء (لأن زوجها عصاماً مثلي لا يُحسِن شراءً ولا بيعاً) ثم تطبخ وتُعِدّ المائدة في مدّة لو أقيمت مسابقة في السرعة ما ظننت أن أخرى تُعِدّها بأسرع منها. مائدة منسَّقة، وطعام طيب، ووجه طلق. وهي التي اخترعت هذا الجلباب الذي ترتديه البنات المتديّنات في كثير من بلاد العرب وتحاربه بعض الصوفيات الجاهلات، وكان ذلك من ثلاث وعشرين سنة لمّا جئت مكة وجاءت تزورني فيها، فأخذَت العباءة التي تلبسها هنا النساء فصنعت لها مثل الكم الضيق وقلّلت من عرضها وجعلت لها من أمامها أزراراً وعُرى، ثم انتقلت بها شيئاً فشيئاً حتى صار هذا الجلباب. وهو ما كنت أتمناه من قديم، كنت أكتب من القديم وأدعو في المحاضرات إلى ثوب يخترعه بعض النساء يحقّق الحجاب الشرعي الذي أمر به الله، ويكون سابغاً ساتراً ويكون أنيقاً جميلاً ولا يجلب أنظار الرجال في الطريق، فكان من ذلك هذا الجلباب. وقد انتشر في الشام ثم في الأردن، ولمّا ولي وزارةَ المعارف (¬1) أخونا الأستاذ الصالح الداعية الدكتور إسحق الفرحان ¬

_ (¬1) لا يسمّونها في الأردن «وزارة المعارف» بل «وزارة التربية والتعليم» (مجاهد).

استحسن هذا الجلباب ورغّب فيه طالبات المدارس، وجاء من كرام التجار مَن يتبرّع بالقماش للطالبات وممّن يحسن الخياطة مَن يخيطه لهن، فلبسه في تلك السنة آلاف. وإني لأعجب من بعض الجماعات في دمشق إذ يحاربن هذا الجلباب ويعارضنه ويفضّلن عليه معطفاً إلى منتصف الساق وتحته جوارب سميكة، يدّعين أنه لا يجلب الأنظار! مع أنها دعوى مردودة شرعاً وحسّاً، ذلك أن الجلباب يستر كل ما أمر الله بستره، وهذا الزيّ وإن سترت جواربُه لونَ السيقان فإنه يبيّن حجمها فتعرف صاحبتَها هل هي نحيلة أم هي ممتلئة سمينة. وأنا أعجب من إصرارهن على الباطل مع وضوح الحقّ لمن أراد أن يراه، أما الذي يُغمِض عينيه عن رؤية الشمس في رأد الضحى ويقول بأن الدنيا ظلام لأنه لا يبصر هو ما حوله، هذا من الأمراض التي أعيت من يداويها. * * * من دعا إلى الإسلام في تلك البلاد فلا بدّ له من أن يعرف لسان أهلها. ولمّا سافرَت إليها بنتي لم تكن تعرف إلاّ العربية، فتعلمَت اللغة الألمانية منذ سكنت آخن سنة 1970 حتى أتقنتها، وتعلمت من قبلُ الفرنسية وأتقنتها لمّا عاشت في بروكسل ومن قبلها في جنيف، وأحسنت النطق بها وقراءتها، وأخذت نصيباً من الإنكليزية. ولم تكن تدعو إلى الله كالمدرّس القاعد على منبره والعصا بيده والتقطيبُ على وجهه، فينفّر بوضعه وشكله قبل أن ينفّر بمنطقه وقوله، بل كانت تخاطب الناس على مقدار أذهانهم، وتدرس نفسية كل واحدة منهن فتسلك السبيل الموصل إلى قلبها ليفتحه الله بها للإسلام.

وقلما خلق الله قلباً مُغلَقاً من كل جوانبه فلا يؤثر فيه قول ولا يصل إليه منطق. هؤلاء الذين طبع الله على قلوبهم بكفرهم، وهؤلاء لا أمل فيهم ولا خيرَ يُرتجى منهم. وأكثر القلوب لها منافذ وأبواب على الداعي (أو الداعية) أن يعرفها، فمن الناس من ينفع معه الإقناع بالحُجّة العقلية، ومنهم من تُفيده الموعظة العاطفية، ومن يصلح معه الرجاء، ومن يحرّكه الخوف ... فكانت موفَّقة والحمد لله. ورأيت في المجالس التي حضرتُها وحضرها الشباب مع زوجاتهم وهن متحجبات، رأيت مَن ذكّرني والله بما قرأت من سِيَر شباب الصحابة. لا أقول هذا مبالغة بل أسرده حقاً واقعاً، ولا يضرّهم أن يعيشوا في بلد غير مسلم فراراً من البلد المسلم الذي تسلّط عليه غير المسلمين وآذوا فيه أهلَ الدين، فإن لهم سالفة في الهجرة إلى الحبشة حيث الحرّية مَصونة واللسان طليق والقلم حرّ. لقد كانت أرض الحبشة أرضاً نصرانية ولكن لا يُظلَم عند ملكها أحد، ولم يكن ملكها يومئذ كمَن عرفنا من أمثال منليك وهيلاسِلاسي الذين كانوا من أعدى من عادى الإسلام. كانت تتعلّم من عصام وتراجع الكتب، ثم تُقرئ البنات وتعاونهن ما وسعَتها معاونتهن، وتُصلِح إن كان بعض الفساد في الصلات بينهن، وهن يقابلنها حباً بحبّ وعطفاً بعطف، فكان الجميع أسرة واحدة. * * *

في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين!

-201 - في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين! من سافر منكم قبل أربعين سنة من الرياض إلى أوربا أدهشه كل ما يرى: الطرق المعبَّدة المضاءة، واللوحات فيها تدلّ على أسمائها وترشد إلى تفرّعاتها، والسيارات الكبيرة ذات الطبقتين تجري فيها، والأضواء الحمراء والخضراء على مفارقها تتبدّل وحدها تفتح الطريق أو تغلقه، والعمارات الضخمة ذوات العشرين طبقة أو الثلاثين على جوانبها، والسلالم المتحركة التي تعلو بك بدلاً من أن تعلو أنت عليها، والمصاعد وهي غرفة ترتفع بك أو تنزل، فكأنها تأتيك بالدور الأعلى فتضعه أمامك على الأرض! كان كل ما يبصره، حتى ما نراه نحن اليوم مألوفاً معروفاً ونعدّه شيئاً معتاداً، كان يدهشه إذا قاسه بما كانت عليه الرياض في تلك الأيام، يوم كانت قرية صغيرة ما فيها سيارة ولا شارع تمشي فيه سيارة، ما كانت فيها كهرباء ولا مروحة أو ثلاّجة تسيّرها الكهرباء، ما كان ماء يجري في الأنابيب ولا كان في البيوت أنابيب للماء، ما كان فيها مدارس للعلم ولا حدائق للمتعة، ما كان فيها مطعم للآكلين ولا فندق للمسافرين.

هذا ما كان من أربعين سنة، فما الذي يدهشه في أوربا حين يذهب إليها الآن؟ ما الذي يجده فيها ويفتقده في الرياض؟ ربما كان فيها ما هو أكبر في الحجم وكان فيها ما هو أكثر في العدد وكان فيها ما هو أتمّ أو أكمل في الوضع والترتيب، لكن لم يبقَ فيها شيء لا نعرف مثله أو مشابهاً له في بلادنا. بل إن عندهم ما ينزل عن الحدّ الوسط مما هو الآن عندنا. لقد وجدت في بون لمّا زرتها بيوتاً ما فيها حمّامات كالتي تجدونها هنا في كل منزل، ما فيها إلاّ مرحاض صغير بين الغرف، فإذا أرادوا الاغتسال ذهبوا فاغتسلوا في فندق أو حمّام عامّ! لم أجد فيها عمارة كبيرة وإنما هي البيوت الصغيرة القديمة ذوات السقف المائل من القرميد ينامون تحته، فإذا وقفوا ودنوا من الشارع كادت رؤوسهم تلصق بالسقوف. ولست أفضّل العمارات الكبيرة على هذه البيوت الصغيرة، بل الفضل لهذه البيوت ولكني أصف الآن ما رأيت. وبون كأكثر المدن المجاورة لها: كولن وآخن ودوسلدرف، كلها كانت إلى الحرب الثانية من المدن الصغار. بون العاصمة كانت بُلَيدة، أما «باد كودْسبرغ» التي فيها الحكومة والسفارات (وهي عاصمة العاصمة إذا صحّ القول) ما كانت إلاّ قرية أو ضاحية من الضواحي. وكلمة «باد» التي تنتهي بها أسماء كثير من المدن في ألمانيا أصل معناها -كما فهمت- المكانُ الذي فيه الماء المعدني الذي يُغتسَل فيه، أي أنها بمعنى الحمّام. كما أن كلمة دام التي نراها

في هولندا (أمستردام، روتردام، فولندام) معناها سد، لأن تلك البلاد تُعرَف في أوربا بالأراضي المنخفضة، لأنها منخفضة عن سطح البحر أو مساوية لها، فهم يُقيمون سداً (دام) ويُلقون الأتربة خلفه فيأخذون من البحر أرضاً! ورأيت مثل هذا في بومباي في الهند في شارع سي فيس، أي شارع السِّيف، أي سيف البحر. بل إنكم ترون مثله في جدة؛ لقد كان القصر من عشرين سنة قريباً من البحر (¬1) فانظروا الآن كم بَعُدَ عنه؟ حتى صارت شوارع الكورنيش (أي السِّيف، بكسر السين) فرجة للنفس ومسرّة للبصر ومَراحاً للأرواح. ومن يذهب إلى أوربا الآن لا يجد زائداً عما عنده إلاّ كماليات نستطيع أن نعمل مثلها، فأضواء المرور الأحمر والأخضر والأصفر تجدون عندهم تحتها أرقاماً كهربائية متحركة، من مشى عليها لم يجد أمامه ضوءاً أحمر. وكنت أعجب حين أركب مع بعض الشباب فنصل إلى الإشارة فلا نراها إلا خضراء، لا نقف أبداً، فلما سألتهم قالوا: إن هذه الأرقام الكهربائية المتحركة تحدد للسرعة حداً، فالسائق الذي يسير عليه لا يقف أبداً. وفي محطات النقل الجماعي لوحات كهربائية فيها أرقام متحركة تخبرك كم بقي على وصول الحافلة (الأتوبيس)، وفي محطات القطار صناديق للحقائب مفاتيحها عليها، لكن لا تُسحَب ¬

_ (¬1) يريد قصر الحمراء الذي يقع اليوم على شارع الأندلس في جدة، وقد أدركته أنا يوم كان البحر أمامه ليس بينهما إلا شارع ضيق، وذلك قبل ربع قرن أو يزيد (مجاهد).

إلاّ إن دفعتَ مبلغاً من المال تُسقِطه في شقّ فيها بمقدار المدة التي تريد أن تُبقي الحقائب فيها، فإن دفعتَ أجرة ساعة واحدة وعُدت بعد انقضائها لن ينفعك المفتاح الذي أخذته معك لأن الصندوق لا ينفتح. وصناديق إن أسقطتَ فيها النقد المطلوب وكبست زراً ترك لك ما شئت من أنواع الشطائر (السندويش) ومن الشراب الحارّ والبارد. ولو كتبتُ هذا المقال قبل بضع سنين لوصفت هواتف العملة التي تستطيع أن تخابر بها مَن شئت من الشارع بقروش تُسقطها في شقّ فيها، فصار عندنا الآن مثل هذه الهواتف. ونحن قادرون على أن نعمل هذا الذي ذكرت كله وأضعافَه معه، بل لقد صنعنا ما هو أكبر منه، ولعلّ الله يقيّض من الموظفين المختصين به من يقترحه على الحكومة اقتراحاً مفصَّلاً معلّلاً، فيتحقق ذلك إن شاء الله. أمّا ما حبا الله به تلك البلاد من الخضرة والماء والأنهار التي تجري فيها والغابات التي تملأ جبالها، فهذا شيء من صنع الله ما لنا فيه عمل. ومن ساح في الأرض مثلما سحت يرى أن أوربا كلها خضراء لا ترى فيها بقعة مقفرة، وأن آسيا مثلها كلها خضراء فيها الشجر والماء، تغطّي كليهما الأشجار فيهما الأنهار الكبار. ما في الأرض إلاّ نطاق واحد من الصحارى يدور بها، من شمالي إفريقيا حيث الصحراء الكبرى، إلى جزيرة العرب، إلى أرض فارس وشمالي باكستان، ويمتدّ من وراء البحر إلى صحراء نيفادا في أمريكا. نطاق فيه أرض حرَمها الله نعمةً أعطاها غيرَها فلم يكن فيها الخضرة ولا الماء، ولكنه منحها نعمة تقابلها هي النفط في باطن أرضها.

وقد وفّقنا الله مع ذلك فصنعنا العجب. أليس عجباً أن نستخرج من القمح ونحن هنا في صحراء ما يكفينا ويفضل عنا حتى نصدّره إلى غيرنا؟ والبلاد التي كانت مصدر القمح إلى الرومان (حتى دُعيت «أنبار روما») صارت تستورده أحياناً. تلك هي الثمرة المرة المسمومة للاشتراكية التي هي بنت الشيوعية، أو لعلّها أمها فاعذروني فلست خبيراً بأنساب الشياطين! تلك التي ما دخلت بلداً إلاّ أدخلت إليه معها الضيق والضنك ونقص الأموال وفقد الحرّيات وفساد الضمائر والذمم، وأخرجت منه الخصب وسعة الرزق وراحة البال. * * * كنت أمضي أكثر وقتي في المسجد، نصلّي فيه وننام في غرف متصلة به ومنفصلة عنه. لا تعجبوا، فلقد جُعِلَت غرفاً مفردة في كل غرفة مرافقها وأمامها ممرّ فيه أبواب، فإذا فتحت الباب صارت الغرفتان معاً فكان منهما دار صغيرة، وإن فتحت باباً آخر اتصلت بهما غرفة ثالثة فصارت داراً من ثلاث غرف. وفي المسجد مكتبة وتُقام فيه الصلوات الخمس، فإذا جاء يوم الجمعة خطب الخطيب بالعربية وتُرجمت الخطبة إلى الألمانية فقرة فقرة، يسكت الخطيب حتى يتكلم الترجمان، أو ألقيت الخطبة كلها ثم قام مَن يلخّصها باللغة الألمانية. وجاءنا يوماً ثلاثة من القساوسة الألمان، وهم بروتستانت لا يتخذون القلانس التي يرتديها الكاثوليك وإنما يلبسون ما يلبس الناس، ولكن لهم شارات يُعرَفون بها منها ياقة بيضاء تكون

في أعناقهم في موضع العقدة (الكرافات). وطلبوا مني -وكنت مصادفة في المكتبة- أن أجيب إن سمحت على بعض أسئلتهم. وكان يوم جمعة، وقد وصلوا قبل الصلاة بساعتين فامتدّ جلوسي معهم حتى أذن الظهر. ولا أستطيع أن ألخّص ما دار بيني وبينهم، ولكن أقول إن الحقّ يعلو دائماً، والله وعد أهل هذا الدين أن يُظهِره على الدين كله ظهور حجّة وبرهان. ووجدتهم علماء ذوي فكر وبيان، ولكن المحامي مهما كان بارعاً لا تنفعه براعته إن كان يرافع في دعوى باطلة، الدليل البيّن عليها لا لها. وكان مما قالوه لي: ألا تؤمنون بأن الإنجيل منزَّل من عند الله؟ قلت: بلى، ومن أنكر ذلك لم يكن مسلماً. قالوا: فلماذا لا تؤمنون به؟ قلت: هاتوه حتى أؤمن به. قالوا: ها هو ذا. قلت: سبحان الله، هل أنزل الله إنجيلاً واحداً أم أربعة؟ إن عندكم أربعة أناجيل وقد اصطفيتموها من عشرات كانت لكم، فأيها الذي أنزله الله؟ وهل عندكم النسخة الأصلية التي كُتبت في عهد المسيح ودُوّنت يوم نزل به الوحي عليه كما كان يصنع كُتّاب الوحي بالقرآن؟ وكان الترجمان بيننا ضعيفاً في الألمانية، يفهمها -كما بدا لي- فينقل لي كلامهم، ولكنه يعجز عن نقل كلامي إليهم. عرفت ذلك من وجوههم، لأن في بعض الجواب ما يثير خواطر أو أفكاراً كان ينبغي أن يبدو أثرها على وجوههم فما كنت أرى لها أثراً، ثم علمت -بعدُ- أن هذا المترجم كان حديث العهد بالقدوم إلى ألمانيا وكان عاجزاً عن التعبير بها.

ولمّا دنا موعد الصلاة، وكان عليّ أن أخطب في ذلك اليوم وأصلّي بالناس، اختصرت الكلام وشرعت أودّعهم، فكان من قولهم لي مازحين: لكأنك تريد أن تُدخِلنا في دينك! أفلا تخاف أن نسحبك نحن إلى الدخول في ديننا؟ قلت: إن دينكم في الأصل منزَّل من السماء، وعيسى رسول من الله، ولكنكم فيه كالقاضي الذي يحكم بقانون قد صدر ما يعدّله ويُبطِل بعضَ أحكامه، والقانون الجديد أصدره وأمر باتّباعه الذي أصدر القانون القديم الذي تتمسكون به. ثم إني إن اتبعتكم خسرت وأنتم إن اتبعتموني ربحتم. قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قلت: إن عندكم موسى وعيسى وعندي أنا موسى وعيسى ومحمد، فإذا اتبعتكم خسرت محمداً، وإن اتبعتموني أنتم بقي لكم موسى وعيسى وربحتم فوقهما محمداً صلّى الله عليهم جميعاً. * * * ورأيت يوماً في قلب البلد في الساحة الكبرى جمهرة من الناس من الشبان والشابات، يملؤون الساحة قاعدين على الأرض، ينامون على البلاط، يأكلون ويشربون وهم قاعدون، يتكوّم بعضهم على بعض، يختلط النساء بالرجال على حال لا يرضى بها الدين ولا تُقِرّها الأخلاق ولا يسيغها الذوق، هذه رأسها على كتفه وتلك رأسه في حجرها، وربما أبصرت وضعاً أفدح من ذلك: وكانَ ما كانَ ممّا لستُ أذكُرُهُ ... فظُنّ شرّاً ولا تسألْ عن الخبر أقذوا العيون بقبح منظرهم وزكموا الأنوف بنتن رائحتهم.

وما ظنك بمن يقعد: بساطه أرض الشارع وسريره بلاطه، ويأكل فلا يغسل يديه ويذهب فيقضي حاجته ويعود فلا يتنظف من آثارها؟ ولا أظلم الحيوانات فأقول إنهم مثلها لأن من الحيوان ما ينظّف نفسَه ولو بلسانه كما يفعل القط، ومنها ما يغطس في الماء إن رأى الماء فيغتسل فيه، ومنها ما يتوارى عن الأنظار إن اجتمع ذُكرانه بإناثه فلا يراه أحد. من رأى فحلاً وناقة وهما في شهر العسل؟ فسألت: ما هؤلاء؟ قالوا: هم الهيبيون، خلفاء قوم آخرين ظهروا في إنكلترا قبلهم يتسمّون باسم الخنافس. والخنفساء أبشع الحشرات اسماً ومن أشنعها منظراً! وقلّدهم ناس منا فأطالوا شعورهم مثلهم، فكانوا كالذي زعموا أنه عاش عمره في القفر لم يرَ الحضر يقترب منه، نزل المدينة يوماً فرآهم يأكلون الزيتون الأسود، فحسبها صراصير، فلما عاد صار كلما رأى صرصوراً أمسك به فأكله. قالوا: ما تصنع ويحك؟ قال وما يُدريكم أنتم؟ رأيت أهل الحضر يأكلونها! وكثير منا ممن يقلد الأجانب بلا علم وبلا فهم مثل هؤلاء ... إنهم أكَلة الصراصير! والعجيب أن نفراً من أبنائنا هناك من الصالحين ذهبوا يسألونني أن أجتمع بأربعة من كبار هؤلاء الهيبيين لأنهم طلبوا زيارة المسجد والاجتماع بأحد رجاله. قلت: أعوذ بالله! ما لي ولهم، وما فائدة اجتماعي بهم؟ قالوا: إن في ذلك مصلحة، فإن منهم -على سوء منظرهم وقبح سلوكهم- من يحمل أعلى الشهادات، ومن له قلم وله لسان وله في قومه منزلة، فلعلّه إن عرف طريق الهدى كان من المهتدين ثم يدعو قومه إلى هذا

الطريق. فهَبْهُم من المؤلَّفة قلوبهم الذين يُعطَون من مال الزكاة، ونحن لا نسألك أن تعطيهم شيئاً من المال بل أن تعطيهم نافعاً من الأقوال. قلت: وهل أذهب فأقعد معهم على الأرض على ما هم فيه من الرجس والنجس؟ قالوا: لا، بل يأتون هم إلى المسجد. قلت: وهذه أسوأ؛ المسجد طاهر نظيف لا يدخله إلاّ نظيف طاهر. قالوا: نشترط عليهم أن يتنظفوا ويغتسلوا ويبدّلوا ثيابهم والمرأة تستتر. قلت: وهل معهم امرأة؟ هل تريدون أن يكون بينهم في المسجد مثل الذي رأيناه في الشارع؟ قالوا: معاذ الله، بل هي طالبة في الجامعة تكتب وتنشر ولها في بلدها قرّاء وأتباع، وهي تأتي بالثوب السابغ والخمار (الإشارب) الساتر. قلت: نعم إذن. فضربت لهم موعداً، فجاؤوا فيه ما تقدموا عنه ولا تأخروا. وكانوا ثلاثة ورابعهم فتاتهم، وكانوا جميعاً بالثوب النظيف وكانت هي بالحجاب المقبول. وفهمت لمّا عرّفوني بأنفسهم أن واحداً منهم أستاذ في جامعة له مكانة مرموقة وله مصنَّفات، ورأيته قد جاوز ميعة الشباب وكاد يدنو من مطالع الكهولة، والاثنان والبنت من طلاّب المرحلة الأخيرة من الجامعة. ودرت بهم في المركز، واخترت أن نجلس في غرفة الاستقبال على أرائك مريحة حول منضدة فسيحة على جدرانها الكتب، ففضّلوا أن يجلسوا في المسجد على الأرض، وجلست معهم لكنني استندت إلى الجدار، لأنني لا أستطيع أن أقعد طويلاً من غير سناد، لذلك أحمل معي إلى الحرم عندما أنوي إطالة القعود فيه خشبة مطوية طي الكتاب.

ونظروا إلى المحراب وسألوا عنه فخبّرتهم. قالوا: لماذا تتوجّهون إلى الكعبة؟ ولماذا تقدّسونها؟ وفهمت من كلامهم الذي نقله إليّ مترجم يُحسِن الألمانية والعربية، لم يكن كالمترجم الأول، فهمت أنهم يظنون أننا نعبد الكعبة كما يعبد الوثنيون أصنامهم. قلت: الكعبة بناء كأيسر وأبسط ما يكون البناء، حجارة مرصوفة ما فيها نقش ولا زخارف، وليس في داخل البناء شيء. ولقد احترقَت مرة وهدمها السيل مرة، كما يحترق وينهدم كل بناء على الأرض، فأعدنا نحن عمارتها بأيدينا وأقمناها من حجارة الجبل. فلا نعبدها ولكن نتوجه إليها امتثالاً لأمر ربنا أولاً، ولتنظيم الصفوف من حولها حين الصلاة، لأن الإسلام دين للفرد يربط قلبَه بالله، ودين للجماعة ينظمها في طاعة الله. إنها رمز نتوجه إليها، كما يقول الضابط لجنوده أو معلّم الرياضة لتلاميذه: توجهوا جميعاً إلى هذا الجدار أو هذه الشجرة؛ ما يريد تقديس الجدار ولا تأليه الشجرة وإنما يُقيم منها هدفاً لتسوية الصفوف. فنحن لا نعبد الكعبة بل نعبد ربّ الكعبة وربّ كل شيء. فرأيت اثنين من الحاضرين يُسِرّ أحدهما إلى الآخر حديثاً فيعلّق عليه ويضحك منه، فسألت المترجم: ماذا يقولان؟ فكلّمهما ثم قال: ما هناك شيء مهم. قلت: أحبّ أن أعرفه إذا لم يكن يمنعهم مانع من عرضه عليّ. قال: لقد سأل: وما فائدة التنظيم؟ ولماذا لا يُترَك الناس أحراراً في صلاتهم يقومون كما يريدون ويصلّون ويتوجهون حيث يشاؤون؟ فأجبته جواباً عمَلياً بأن أدرت وجهي إلى الجدار وولّيتهم ظهري ثم كلّمتهم من ورائه، فعجبوا وسألوا الترجمان: لماذا صنعت ذلك؟ قلت: وهل

فيه ما تُنكِرونه أو تعجبون منه؟ قالوا: نعم. قلت: ألم يقُل صاحبكم إن النظام لا خير فيه وإن وقوفنا بالصلاة متدابرين خير من أن نقف صفاً واحداً؟ فرأوا في هذا جواباً لهم من غير أن أكلّمهم. ثم قلت للترجمان: دعهم يقولوا ما جاؤوا لأجله. فسألوني أسئلة عن الإسلام أجبت عنها، وتبيّن لي منها أنهم على فهم وعلى اطّلاع ولم تبدُ لي منهم نية سوء، فسألتهم عمّا هم فيه: لماذا يختارون الوساخة على النظافة والفوضى على الترتيب؟ ولماذا يصنعون ما يستقبحه الناس كلهم ويرونه حسناً؟ فتبيّن لي من حوار طويل جرى بيني وبينهم أن هذه الأعمال التي يقوم بها الشباب في أوربا (مما صنعوا سنة 1968 في فرنسا على عهد ديغول، ومن اعتناق كثير منهم الوجوديةَ التي دعا إليها جان بول سارتر، ثم هذه الحركات كالخنافس وغيرها ...) تبيّن لي سرّ ذلك كله وهو أنهم لم يعودوا مقتنعين بالدين الذي كان عليه آباؤهم، وأنهم حكّموا فيه عقولَهم فلم تعُد تطمئنّ إليه عقولُهم، ولم يعودوا يستطيعون أن يفهموا بأن واحداً يساوي ثلاثة (أي أن 1+1+1=1)، لذلك انصرفوا عن هذا الدين وأعلنوا خروجهم عليه، وأن هذه الحضارة التي كان يعتزّ بها آباؤهم ويفخرون بها ويستطيلون بها على عباد الله لم تعُد تطمئنّ إليها قلوبهم، لأنها حضارة مادية خالصة والإنسان جسد ونفس وروح، فلا بد له مما يضمن مصالح جسده ومسرّات نفسه واطمئنان روحه، لذلك أعلنوا خروجهم عليها بهذه المظاهر. وإلاّ (يقولون هم) فهل في الدنيا من يكره النظافة أو يفضّل أن ينام على بلاط الشارع ويترك السرير المريح النظيف؟

وأفاضوا في مثل ذلك فعلمتُ سرّ هذه الحركات التي نراها ونعجب منها ولم نكن نعرف الدوافع إليها. وأقول الآن لمن يقلّدهم من شبابنا أو يحاول أن يسير مسيرتهم إن عذرهم هو ما قدّموه فما عذركم أنتم في تقليدهم؟ إذا كان الدين الذي نشؤوا عليه لم تعُد ترضاه عقولهم فدينكم -يا أيها المسلمون- يمشي مع العقل، بل العقل يمشي معه فلا يختلفان، لأن الذي خلق هذا العقل ووضعه في الإنسان وكان من ثمرته هذا التفكير هو الله الذي أنزل هذا الدين، فلا يمكن أن يخلق لنا العقول ثم يكلّفنا ما لا ترضاه عقولنا. ولذلك ترون في القرآن الحثّ على التفكير وعلى التعقّل {لقومٍ يتفكّرونَ}. أمّا هذه الحضارة فلا نزال نحن على شاطئها، لا نزال فيما هو الخيّر منها، لم نصل بعدُ إلى لُجّها ولم نتعرض للغرق فيها. على أن لي محاضرة طويلة ألقيتها في الندوة العالمية للشباب المسلم من بضع عشرة سنة بيّنت فيها موقفنا من هذه الحضارة المعاصرة وما ينبغي أن نأخذ منها وما يُطلب منا أن ندع، ولعلّي أعرض لها يوماً (¬1). * * * ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إلى هذه المحاضرة أكثر من مرة، وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية»، كما نشرتها دار المنارة مستقلّة في رسالة صغيرة أيضاً (مجاهد).

السفر إلى المؤتمر

-202 - السفر إلى المؤتمر هذا العنوان أستعيره من اسم كتاب قرأته من قديم لشيخ العروبة أحمد زكي باشا، عليه وعلى زميله أحمد تيمور باشا رحمة الله، وإن كانت صلتي بتيمور باشا أوثق ومعرفتي إياه أعمق، ولقد عرفت من أعماله البارّة وخدماته الإسلامية الشيء الكثير. وأنا أتحسر دائماً على أني لم أدوّن هذه الذكريات يوم كانت مشاهد تُرى لا ذكريات تُروى، وأجيء الآن لأدوّن أخبار رحلة ألمانيا بعد ستّ عشرة سنة، وقد طمس القِدَمُ بعضَ سطورها ومحا النسيان بعضها، ثم أرجع إلى نفسي فأقول: لعلّ الصورة الجديدة التي أكتبها الآن، والتي أصلح الخيالُ منها بعضَ ما انطمس وسطر بعض ما امّحى، لعلّ هذه الصورة كاللوحة الفنّية التي ترسمها ريشة الفنان. هل تعدلون بها الصورة الشمسية (الفوتوغرافية)؟ لو أن متحف اللوفر رضي أن يبيع لوحة جيوكوندا كم ترونهم يدفعون فيها؟ إن من السفهاء من يشتريها بنصف مليون دولار، ولو كان في عصر صاحبها ليورنادو دافنشي تصوير شمسي ووُجدت في ذلك العصر -قبل أربعمئة سنة- مثل آلات التصوير التي نجدها الآن وكان يتقن استعمالها لأخرج بها صورة لهذه المرأة أقرب إلى

الحقيقة وأصدق في النقل، صورة بألوانها ذاتها وتقاطيع وجهها وسمات جلدها تُبدي كل ما يراه الرائي منها، ولكنا لا نجد بعد ذلك من يشتريها بألف واحد من الخمسمئة الألف التي شُريت بها لوحة المصوّر. ذلك لأن الصورة الشمسية تعرض الحقيقة كما تراها كل عين، وهذه تعرض ما يراه المصوّر بعينه وحدها. وربما كان فيها شيء لا ينطبق تماماً على الواقع، ومع ذلك فإن الناس يفضّلونها، والإسلام يحرّمها لأن فيها محاولة لمضاهاة خلق الله. فأنا أنقل إليكم الآن الصورة التي بقيَت في نفسي مما رأيت في تلك الرحلة، لا أصف وصفاً جغرافياً أحدد فيه الحدود وأقيس الطرق وأسمي الأسماء، فإنكم تجدون ذلك في الخريطة، ولكل بلد خريطة مفصَّلة ولكل بلد مجموعة صور لمشاهدها ومناظرها. صورة مدينة آخن في نفسي أنها منازل صغيرة أنيقة جداً على شوارع نظيفة جداً، في بلدة جميلة لكنها ليست كجمال سويسرا ولا أندونيسيا ولا لبنان. ولقد أعيا الرجالَ وضعُ مقاييس يُقاس بها الجمال، لذلك يلجؤون إلى الأوصاف فيقولون: جمال وادع، وجمال أخّاذ، وجمال فاتن، وجمال مثير، وما شئت بعد من أنواع الجمال. أما آخن والبقاع من حولها فجمالها جمال حلو هادئ. هل تعجبون من هذا التعبير؟ إن الحلاوة في معاجم اللغة هي الجمال، إنهما شيء واحد، ولكنهما في لغة المشاعر والعواطف شيئان، فرُبّ جميلة ليست حلوة وحلوة لم تستوفِ أكبر حظّ من الجمال.

ونحن إذ نجد هنا في المملكة بقعة خضراء فيها الشجر والزهر والماء نعدّها متنزَّهاً نتردّد عليه الصباح والمساء، أمّا تلك البلاد فحيثما سرتَ وجدت مثلها، بل تجد ما ليس له مثيل هنا، أمطار متصلة، سماء مفتَّحة الأبواب لا تكاد تخلو من سحاب، حتى إني رأيت فيها ما لم أرَه من قبل: طبقة رقيقة من الطحالب الخضر على جذوع الأشجار الضخام في الغابات، الغابات التي نجدها في كل مكان. كنا نقف بالسيارة ونقعد حيثما شئنا على حافة الطريق فإذا نحن في نزهة، نأكل ما حملنا معنا من طعام ونشرب ما معنا من شراب، والناس يمرّون بنا فلا يلتفتون إلينا، والسيارات لا تغبر علينا، وما ثمة من غبار، ولا تزعجنا بزعيق لأن العرف أن تمشي صامتة. وإذا وقفنا عند الشارة الحمراء ثم انفتح الطريق وصارت خضراء لا يضع السائقون أصابعهم على أبواق السيارات، ومَن فعل عدّوا ذلك منه عدواناً على الآخرين ومسّاً بهم وإهانة لهم، ولا يفعلونه إلاّ في الندرة. ونظام السير في ألمانيا متين، تعرف قدره إذا خرجت من آخن على الحدود فسرت نصف ساعة بالسيارة حتى تصير في لييج، المدينة البلجيكية القائمة في نصف طريق بروكسل، فتدرك الفرق ما بين النظامين في بلجيكا وألمانيا. وفي الطرق الكبرى (التي يدعونها «الأَوْتوبان» وفي فرنسا «الأوتوروت» ونسمّيها نحن «الأوتوستراد»، من كلمة «سترادا»، وهي طليانية ومعناها طريق)، هذه الطرق ابتكار ألماني من عهد هتلر، بدأ فيها ثم عمّ بلاد الناس، فقرّبت المسافات وأدنت البعيد وسهّلت اليسير، لأنها تمرّ قرب المدن ولا تدخل فيها فلا يعرقل

شيء سيرَها، ولكن خطرها ولا سيما في جهة اليسار منها (حيث السرعة لا يجوز أن تقلّ عن مئة وعشرين كيلاً) أنها إذا وقفت سيارة لحابسٍ حبسها لم تستطع التي وراءها أن تقف فتصطدم بها. ولقد رأيت مرة بعيني ستّ سيارات قد دخل بعضها ببعض، كأنما جمعَتْها ثم ضغطَتها ذراعا آلة هائلة ذات قوة وجبروت. وكان أول ما أرونا من متنزَّهات البلد اثنين: واحد عالٍ صعدنا إليه والآخر هبطنا إليه. أما الأول فجُبَيل (جبل صغير) في وسط البلد، حيث تقلّ الجبال في تلك المناطق من شمال أوروبا وتكثر الهضاب الصغيرة. وكنا نسير وسط أشجار تحجب عنا وجهَ السماء وزهور ونجوم (أي شجر صغار) تغطّي ظهر الأرض، فما عرفنا أننا نصعد حتى شعرنا أن الأرض قد مالت من تحتنا فملنا معها، حتى إذا علونا هامة الجبل وجدنا مطعماً واسعاً مستديراً فولجناه وقعدنا نتغدى. فقال لي ابن بنتي أيمن: جدّو، ألم تلاحظ شيئاً؟ قلت: لاحظت أشياء كثيرة جداً، فما الذي تسألني عنه منها؟ قال: لا بل هنا، انظر إلى هذا البناء. قلت: نظرت، فما له؟ قال: حدّد مكانه ثم انظر إليه بعد عشر دقائق. فنظرت بعد عشر دقائق فإذا هو قد مشى. قلت: ما هذا؟ فضحك وقال: إننا نحن ندور؛ المطعم يدور بنا! قلت: شيء عجيب، السلّم يصعد بك بدلاً من أن تصعد أنت عليه، والبلد يدور من حولك بدلاً من أن تدور أنت حوله! ولمّا جئنا ننزل بعدت أنا والولدان هادية وأيمن عن والديهما أمتاراً معدودة، نزلا من هناك ونزلنا نحن من هنا، ولم نشعر بأننا

كلما ازددنا هبوطاً ازددنا عنهما بعداً، حتى إذا بلغنا السفح وصرنا على الأرض فإذا نحن في حيّ آخر من أحياء المدينة. وكذلك يصنع انحراف خطوة عن الطريق، إنه يبدّل وجهتك ويصرفك عن غايتك ويبلغ بك ما لا تحب. ولم ندرِ من أين نسير، وكانا حديثَي عهد بالمدينة، قدما إليها من بروكسل وكانا من قبلها في جنيف، ولسان كليهما فرنسي، وهذا لسان ألماني لم يكونا قد تعلّما منه يومئذ إلاّ القليل، وقلت للبنت: كلّميهم بالفرنسية (وكانت تتقنها) واسأليهم عن المسجد. فوجدنا أكثرهم لا يعرف الفرنسية، والقليل الذي عرفها لم يكن يعرف المسجد. فجعلنا نسير على غير هدى حتى تعبنا من السير، فوجدنا كراسي مصفوفة فقعدنا عليها، وكان إلى جنبنا رجل كبير السنّ وجهه يدل على طيب نفسه، فسألناه ففهم عنا، ثم أشار إلينا أن ننتظره حتى يعود، ثم ذهب إلى هاتف قريب فطلب لنا سيارة (تاكسي) وأفهم السائق مقصدنا، فشكرناه بألسنتنا بمقدار ما استطعنا التعبير عن شكر قلوبنا. وكنت قد سمعت بأن الألمان غلاظ القلوب لا يدلّون تائهاً ولا يُجيبون سائلاً، فكان الذي وجدته غير هذا، بل لقد وجدت منهم لطفاً وأدباً وظرفاً واهتماماً بالغريب. ضللت الطريق مرة بعد أن أقمت في البلدة مدة، فسألت رجلاً، فدلّني فما فهمت عنه، فبدّل وجهته ومشى معي حتى أوصلني إلى أول الطريق الذي أقصده. ولمّا جئت أشكره نسيت كلمة الشكر (دانكْهشون) فقلت له: دون كيشوت! فبدت على وجهه علائم التردّد بين الطرب لنكتتي والعجب من كلامي والغضب مني، فأدركت ذلك فقلت

له: شكراً، ثانك يو، ميرسي بوكو، تشكر أيدرم، بهوت شكريا (بالعربية والإنكليزية والفرنسية والتركية والأردية)، فعرف أني لم أكن أقصد شراً، فضحك وقال لي يشكرني وكأنه يعلّمني الكلمة: دانكهشون. وصافحني ضاحكاً ومشى. أما المتنزّه الذي هبطنا إليه فهو «الآيْفِلْ». ويظهر أن اسم «الآيفِل» ليس لهذا الوادي وحده ولكنه لمنطقة أوسع منه. والمهبط إليه الجمالُ على جانبَيه والماء يجري في قرارته والقرى والمنازل مشرفة عليه. وقد انتشرَت فيه وفي غيره دكاكين صغيرة كأنها غرف خفير الليل (أو كأنها «الصَنْدَقات» كما تُسمّى هنا) فيها بنات عندهن البطاطا مقليّة لم تنضج، فإذا جاء مَن يطلب شيئاً منها وضعنَها في المقلاة، ثم في شبه كوب صغيرة من الورق المقوّى ومعها شوكة من الخشب صغيرة ودفعنها إليه بمارك واحد، فأكلها سخنة طيبة. وشبه بيوت صغيرة لها شرفات يقعد عليها الناس يقدَّم فيها القهوة والشاي، والحساء لمن أراده، وفي كل مكان مقاعد ثابتة من الحجر أو من جذوع الشجر ومناضد أمامها من مثلها (وقد رأيتهم قد صنعوا في جدة عند السّيف، أي الكورنيش، مثلها) يحمل الناسُ طعامَهم وشرابهم إليها. والعجب أنك لا تجد أحداً يُلقي على الأرض علبة فارغة ولا كيساً خالياً ولا ورقة ولا زجاجة ولا شيئاً مما يوسخ المكان. على أننا نحن المسلمين آخر من يحقّ له العجب من هذا؛ لأن تنظيف الطريق في ديننا معدود من شُعَب الإيمان. هل سمعتم

أن في دين ممّا يَدين به البشرُ مثل ذلك؟ الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. أي أن الذي يأكل الموزة ويلقي قشرتها على رصيف الشارع والذي يرمي الفضلات من نافذة السيارة أو من شبّاك الدار يكون قد نقص منه هذه الشعبة من شعب الإيمان. وأشهد أن الألمان شعب نظامي. كنت أرى الجيران جميعاً يفيقون من الصباح الباكر، وحين أعود الظهر أسمع من كل شقّة أصوات الطعام وقرع الملاعق والشوكات. يفيقون في وقت واحد ويأكلون في وقت واحد، وأحسبهم ينامون في وقت واحد! والأسواق تغلق مخازنها في وقت واحد. ونسمع في كل بلد عن الرُّخْصَة (أي الأوكازيون) في المحلات التجارية، ولكن الرخصة السنوية في ألمانيا حقيقية؛ يختارون من البضائع النفيسة الغالية عدداً محدوداً يبيعونه بأقل من عُشر ثمنه، فالثوب الذي يُباع عادة بمئة مارك قد تشتريه المرأة من الرخصة بخمسة ماركات، ومَن يأتي أولاً يختار ما يريد، لا تَسابُق ولا تدافع ولا ازدحام. لذلك ترونهم يتنافسون في التبكير، فمنهم من يأتي المخزن من الفجر أو من قبل الفجر، ورأيت من ينام أمام المتجر أيام الرخصة! ولا يكون زحام لأن كل شيء هناك بالدَّور، يقفون صفاً واحداً. هذا الذي ينبغي أن نتعلمه منهم لا الفسوق والعصيان، وهذا الذي تعلّموه هم منا. ولقد قرأت مرة لكاتب فرنسي صحب

قافلة عربية في جنوبي الجزائر فوصف أهلها بأنهم جنّ على هيئة بني آدم، كلهم يركب رأسه ويمشي على هواه، لا يخضع أحد لأحد، ثم رأى منهم -كما يقول هو- شيئاً عجباً؛ قام رجل يتحرّك فيتحرّكون معه، يرفع رأسه فيرفعون رؤوسهم ويخفضه وينزل به إلى الأرض فينزلون رؤوسهم جميعاً إلى الأرض، فتعجّب مما رأى، ما درى أن هذه الصفوف التي وقفت منتظمة وراء الإمام تتحرك بحركته هي التي مشت وراء القائد ففتحت للحقّ وللإسلام بلاد الأرض، وهي التي أقامت الدولة العظيمة والحضارة البارعة (¬1). * * * ودنا موعد المؤتمر الذي دعانا اتحاد الشباب المسلم في أوربا إلى حضوره وأخذوا يستعدّون له، لأنه الحدث الأهمّ في أعمال المركز الإسلامي هناك، يأتيه الشباب من أرجاء أوربا وتُبحث فيه المسائل التي تهمّهم وتُلقى فيه المحاضرات التي تنفعهم، يَدعون إليه كل سنة أحدَ الأساتذة من الدعاة، وتُلقى فيه أسئلة وتُطبع فيه الأجوبة، فتكون مناقشات ومناظرات، والذي يدبّر ذلك كله ويديره هو الأستاذ عصام العطار. وكانوا يختارون له كل سنة مدينة، وكانت المدينة المختارة سنة 1970 هي كيسن. وحضرت مثله مرة ثانية سنة 1976 وكان في مدينة دوسلدورْف. ومن عادتهم أنهم ينزلون في بيت من بيوت الشباب، وهي ¬

_ (¬1) انظر مقالة «حي على الصلاة» في كتاب «نور وهداية» الذي أوشك أن يصدر بإذن الله (مجاهد).

منتشرة هناك لا يكاد يخلو منها بلد، يجتمعون فيها على الطعام يعده لهم البيت الذي ينزلون فيه. وطعامهم سهلٌ -كما يقولون- هضمه ولكن ساءٍ طعمُه، ما فيه لذة ولا له نكهة. إنه مثل طعام المرضى في المستشفى مسلوق سلقاً. وألذّ طعام طعامُ الشام، ولكنه ثقيل على المعدة يكاد يكون صعب الهضم، ويليه (كما سمعت ولم أذق) الطعام التركي، فيه لذّة وفيه خفّة. أما طعام الشرق الذي رأيته في الباكستان والهند وسنغافورة وأندونيسيا فإن ما فيه من الفلافل التي تُلهِب الحلق وتحرق الأمعاء يمنعني من استطاعة الحكم له أو عليه، وأنّى لي الحكم وفي جوفي هذه النار! ثم إن النوم في بيوت الشباب في أسّرة ذات طبقات، اثنتين أو ثلاث، وأنا لا أستطيع أن أنام في غرفة فيها آخَر، فكيف لي بالنوم وفوقي أو تحتي نائم غيري، وإن كان بيني وبينه حجاب فلا يصل إليّ ولا أصل إليه؟ ثم إنها بيوت الشباب، وما كنت ولا كانت زوجتي التي تصحبني من الشباب؛ كنت يومئذ (سنة 1970) في نحو الثالثة والستين، وزوجتي دوني بعشر سنين، فما لنا وللشباب ولبيوت الشباب؟ لذلك طلبت أن يستأجروا لي على حسابي غرفة في فندق، على شرطي الذي لا أدعه وهو أن يكون حمّامها فيها فلا أُضطر إلى الخروج منها. وقد فعلوا، فانفردنا عنهم. وسافرنا في سيارة لأخ كريم من إخواننا، أو هو على الأصحّ ولد من أولادنا، أصله من حرستا. وهي جارة دوما التي كنت قاضيها سنة 1942، ومن مزاياها أن فيها من الزيتون ما يجاوز عمرُ الواحدة من شجره مئةً أو مئة وخمسين سنة، وأنها كانت منزل الشيخ أبي النصر الخطيب

القاضي العادل صاحب النوادر العجيبة، وهو عمّ أمي. وإن من مزاياها قبل هذا أن الإمام تلميذ الإمام، أول من ألّف الكتب في الفقه، كان أصله منها، وهو محمدبن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة. وقد ألّف الإمام مالك «الموطّأ» قبله، ولكن الموطّأ -على جلالة قدره وعظيم أثره- كتاب حديث وفقه، و «الكتب الستّة» التي ألّفها محمدبن الحسن في الفقه الخالص، وقد قرأها عليه الإمام الشافعي، كما قرأها وألّف «المدوَّنةَ» (التي هي عماد المذهب المالكي) على أسلوبها أسدُبن الفرات، وإن نُسِبت إلى سحنون لأنه عدّل فيها وبدّل شيئاً منها. أسدبن الفرات هو الفقيه القاضي الأميرال (أمير الماء) قائد الأسطول الذي فتح صقلية وبقيَت بأيدي المسلمين دهراً طويلاً (¬1). ولم يكن دليلنا الذي يقود السيارة ويقودنا عارفاً بالطرق ولم يزُر مدينة كيسن من قبل، وكان يومئذ حديثَ عهد بألمانيا، وهو لا يزال إلى اليوم فيها، وقد صار أستاذاً نابغة. وكان هذا الأستاذُ السابقَ إلى الدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بروكسل، وهو الآن في المركز الإسلامي في آخن، هو الدكتور محمد الهَوّاري الأستاذ في كلية الطب في الشام. مررنا بطائفة من المدن حتى بلغنا كيسن، فجعل يلفّ بنا ويدور ولا يصل إلى بيت الشباب، فسألته: ألا يعرفه؟ قال: بلى، هو عند هذه ... شو اسمها؟ التي هي فوق الطريق ... ولم يكن يعرف هو على -ما يبدو- ما هي التي فوق الطريق ولا يعرف اسمها ¬

_ (¬1) في كتابي «رجال من التاريخ» فصل عنه.

حتى يسأل عنها، وليست «اللي بيتها فوق الطريق» التي سمعتُ فيروز تغنّي بها! درنا كما يدور صاحب السانية حتى وصلنا إليها وعرفنا ما هي، إنها أنبوب ماء يمرّ من فوق طريق فرعي صغير، فقال: الآن عرفت. قلنا: الحمد لله. وبلغنا بيت الشباب، وكان على سفح جبل صغير في طرف البلد، ووجدناه بناء كبيراً قديماً يعجّ بالنزلاء، وأكثرهم من جماعتنا. وقابلنا أصحابنا، وقلت للذي جاء بي: هلمّ إلى الفندق الذي حجزوه لي. فآثرَت زوجتي أن تبقى مع النساء، والحقّ معها، ولو كنت أستطيع لبقيت أنا أيضاً مع رجالهن لأنهم (أعني الرجال والنساء) من أهل الصلاح وصحبتهم تذكّر بالله وتوقظ القلب الغافل، وإذا أعطيتهم أنا في هذه الرحلة قليلاً من العلم الذي تعلّمته فإنهم أعطوني كثيراً من الإرشاد القلبي والموعظة النفسية. ووجدت الفندق فخماً والغرفة واسعة، ومن نوافذها نطلّ على مشهد من أجمل المشاهد. وقضيت ليلة مريحة، وتعلّمت تحية الصباح (كودِنْ مورْكِنْ) وسبع كلمات أخرى لا بدّ منها ولا غنى عنها. وكان الموعد الساعة التاسعة من الصباح، وكان الاتفاق أن يجيء إليّ مَن يأخذني إلى بيت الشباب، فلم يحضر أحد ومرّت نصف ساعة. وأنا يغيظني جداً إخلاف الموعد لأنني أُلزِم نفسي به وأنتظر ممّن يعدني أن يُلزِم نفسَه بما ألزمتُ به نفسي وما ألزمَنا به كلينا دينُنا، لا أن يقيّدني ويبقى طليقاً. ونحن نرى إخلاف الوعد هيّناً وهو عند الله عظيم وهو من خصال المنافقين، فمَن كان مبتلى به فليعلم أنه ابتُلي بشعبة من النفاق كما قال رسولالله عليه الصلاة والسلام.

وضاق صدري من الانتظار فقلت: أمشي حول الفندق. ولكن نسيت (وتلك حماقة مني) نسيت أن أحفظ اسمه، فمشيت قليلاً فوجدت حاجزاً له درَج كهربائي يصعد الصاعدون عليه فينزلون من الجهة الأخرى يمرّون على جسر فوق الطريق، فصعدت مصعدهم ونزلت منزلهم، وسرت قليلاً فلم أعُد أرى الفندق ولا الطريق إليه، ولا أعرف اسمه لأسأل عنه، ولا أعرف ما اسم بيت الشباب بالألمانية ولا رقم الهاتف، فضاقت بي الحال واشتدّ الأمر وحرت ماذا أصنع. والضيق يولّد مخرجاً إن التجأ العبد فيه إلى ربه. فدعوت الله بقلب حاضر فألهمني أن أدقق النظر فيما حولي، فكلما رأيت لوحة على باب متجر أكدّ ذهني أفكّر: هل مررت بها وأنا قادم؟ فإذا تذكرت أني مررت بها وكانت على يميني أجعلها على شمالي لأعود من حيث جئت، وكذلك جعلت أتنقل خطوة خطوة حتى رجعت إلى جسر المشاة الذي يصعد الناس إليه بالسلم الكهربائي، فصعدته ونزلت فإذا أنا أمام الفندق، وإذا أنا لم أسِر إلاّ نحو ثلاثمئة متر. * * * وجاء يزورني في اليوم التالي صديق من أصدقائنا الشباب المؤمنين، فأحبّ أن يكرمني على غير رغبة مني، وكان يتكلّم الألمانية كأهلها، فحدّثهم عني حديثاً لست أدري ماذا قال فيه، ولكنه كبّرني ونفخني وأوهمهم بأن لي شأناً عظيماً وطلب أن يُخصَّص لي جناح في الفندق على أن يدفع أجرته هو. وكان

ذلك كله وأنا غائب عن الفندق، فلما عدت إليه من بيت الشباب وجدتهم قد نقلوني من غرفتي التي كنت فيها إلى هذا الجناح، وإذا هو دار مصغَّرة فيها غرفة استقبال وغرفة للنوم وردهة فيها مقاعد لا أدري ماذا أصنع بها ولا بهذا الذي وجدته. ومن أعجب ما وجدت خزانة فتحت بابها فإذا فيها من القوارير والقناني ما لا أستطيع إحصاءه، وفهمت أنه كان فيها من كل شراب أحلّه الله أو حرّمه، أي أنها خمّارة صغيرة في هذا الجناح! وقال لهم إني لا آكل إلا أكلات أحدّدها، فجاؤوا يسألونني: ما الذي أريد أن آكله في المساء؟ وأنا لا أفهم عنهم ولا يفهمون عني، حتى وصل هذا الأخ فقلت له: ما هذا الذي صنعت ياغالب؟ أنا راضٍ بغرفتي وقانعٌ بها. وجاء الطعام وهو عندي، فوضعوا ملاءة بيضاء مطرَّزة يبدو أنها غالية الثمن وضعوا فوقها الأطباق، وأنا أنظر بعيني، ثم وضع النادل خادم المطعم منديله على ذراعه ووقف على رؤوسنا. وأنا لا أستطيع أن آكل وأمامي من يراقبني وينظر إليّ، فكنت أغمز هذا الأخ بمرفقي أقول له بالعربية بصوت خافت: اصرفه عني، وهو يظنّ أن من الإكرام أن يُبقيه قائماً على رأسي. حتى ضقت به ذرعاً فأمرته أن ينصرف فانصرف متعجباً. ولم أرضَ أن يغرم هو ثمن هذا البذخ الذي لا داعي له ولا منفعة فيه، واضطُررت أن أدفع أنا أجرة هذا كله شاكراً له نيّته وحسن مقصده. * * *

إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

-203 - إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير لمّا أخذت الجريدة يوم الإثنين الماضي أسرعت إلى مقالتك كما أسرع كل مرة، لأني أجد لها طعماً لا أكاد أجده في كثير من المذكّرات التي تنشرها الصحف والمجلات فتكون كالدليل الذي يُري السيّاحَ شوارعَ البلد ويدلّهم على عماراتها وحدائقها ومطاعمها ومشاربها ولكن لا يلج بهم العمارات ليروها من داخلها ولا المطاعم ليأكلوا مما فيها. وأنت تُدخِلهم إليها وتُذيقهم طيباتها. إن ما تكتبه هو من حديث النفس، يرى فيه القارئُ نفسَه فيحسّ كأنه معك وأنه صديق لك. وكذلك يصنع الأديب؛ الناس يعيشون وحدهم والأديب يُشرِك الناس كلهم معه، إن سُرّ شاركهم سروره وإن تألّم تمنّى أن يشاركوه ألمه. أخذتُ الجريدة ففوجئت بما أملاه كرم نفسك ووفاؤك لأصدقائك من ذكري وذكر بلدي. لقد سرّني ما كتبت، ولكنه خضّ الكوب فأظهر ما رسب في قرارته: وذو الشّوقِ القديمِ وإنْ تسلّى ... مَشُوقٌ حينَ يَلقى العاشقينا

أرأيت ياأخي كوب الماء العكر لا تستطيع أن تسيغه على عكره ولا تملك أن تعيده إلى صفائه، فتتركه للزمان يُنزِل إلى قرارته ما علق به من أدران فيبدو صافياً، وما صفا ولكن رسب فيه العَكَر. كذلك يستقرّ الحزن في أعماق النفس، يستره النسيان حتى لتحسبه ما كان. ولقد طالما تسلّيت، ولكن ما سلوت ولا نسيت، وهل ينسى امرؤ حياتَه؟ لقد سردتَ ياأخي أسماء ما لها في نفسك ظلال ولا لها في أعماقك جذور وما مسّت حياتك إلاّ مسّاً رفيقاً، أما أنا فأحسّ بها دائماً غائصة جذورها في كياني ممتدّة ظلالها على حياتي. حتى إنك ياسيدي نسيت الطريق. وحقّ لك أن تنسى، فقد كانت زيارة لك عابرة مرّ عليها الآن أكثر من خمسين سنة، فسلكت شارع بغداد فوصلت دُمّر والهامَة! فحقّ لي أن أقول لك مقالة ابن أبيربيعة: «عَمْرُك الله، كيفَ يلتقيانِ؟»؛ شارع بغداد يمضي مشرّقاً ودمّر والهامة في الغرب، وشتّانَ بينَ مشرّقٍ ومُغَرّبِ. لقد هزّت مقالتك شجوني. فيا شوق نفسي إلى دمشق ومغانيها، وغوطتها وواديها، وشاذروانها وميزانها! وهلْ لي إلى تلكَ الديارِ ونظرةٍ ... إلى بردى قبل المماتِ سَبيلُ؟ بردى الذي رآه حسّان مرات معدودات فأحبّه وذكره في شعره، فكيف بي أنا؟ لقد قال في مدح أصحابه من آل غسان (ولم أقُل من بني غسان، لأن «غسّان» ليس إنساناً بل نبع ماء في جبل الدروز، نزلوا عليه فنُسبوا إليه (¬1)) قال حسان: ¬

_ (¬1) قال شاعرهم: الأزدُ نسبتُنا والماءُ غسّانُ.

يَسقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهِم ... برَدى يُصَفّقُ بالرّحيقِ السَّلْسَلِ أي يُمزج ماؤه الصافي بالخمرة المعتَّقة التي كانوا يشربونها. أما قصر البريص -إن شاء القرّاء تمام الفائدة- فإنه يقع عند سوق النحّاسين (والسوق قديم، والذي قلته كتبه البلاذري في «فتوح البلدان»)، أمام باب الفرج الذي يُدعى الآن باب المناخِليّة. * * * أنا هنا في أكرم البقاع. إن كانت دمشق موطن جسدي وقلبي فإن ها هنا موطن روحي وروح كل مسلم. ومَن ذا يسوّي بالجسد الروح؟ وإن كانت هناك دنياي فها هنا دنياي وآخرتي، وما الدنيا في الآخرة إلاّ متاع. ولكنه وطني، ومَن الذي ينسى وطنه: وحَبّبَ أوطانَ الرّجالِ إليهِمُ ... مآربُ قَضّاها الشبابُ هُنالِكا وإن جفاني موطني وقطع أواصر الودّ بينه وبيني ونسي ما صنعت له بلساني وقلمي، فما وجدتُ هنا واللهِ إلاّ البرّ والإكرام، من الملوك الخمسة رحم الله منهم من ذهب للقائه وأطال عمر مَن بقي وزاده من نعمائه ووفّقه إلى رضائه، ومِن كل من تضمّ هذه البقاع الطاهرة، ما لقيت منهم إلاّ كرماً وعطفاً وإحساناً. دمشق التي صوّرتَها لي ببيانك حتى كأني أراها من جديد. وأين ياسيدي دمشق التي زرتَها ثم جئت فوصفتها؟ أمّا الخيامُ فإنها كخِيامِهم ... وأرى نساء الحيّ غيرَ نسائها هذه المساجد لا تزال كما كانت، ولكن أين الدروس التي

كانت تُلقى فيها؟ وأين العلماء الذين كانوا يُلقون هذه الدروس؟ وأين إقبال الشباب عليها وتسابقهم إليها؟ أين المجالس الدائمة التي كانت كأنها نوادٍ أدبية أو مجامع علمية، يتصدّرها أفاضلُ حديثُهم درسٌ ومطارحتهم أنس، وأبواب هذه المجالس مفتَّحة. مجلس الشيوخ الذي سبق الحديث عنه في هذه الذكريات، وكنت أحضره مستمعاً لا عضواً، فما كنت قد بلغت سنّ الشيخوخة ولا المنزلة التي كان عليها مَن بلغها من أعضاء المجلس، كالرئيس هاشم الأتاسي والرئيس محمد علي العابد والرئيس فارس الخوري، والعلماء الأجلاّء كالشيخ عبد القادر المغربي وأقرانه الذين سمّيت بعضاً منهم فيما سبق من حلقات هذه الذكريات. ومجلس محمد كرد علي أستاذ الكاتبين ورائد الصحافيين، ومَن كان أبا المجامع العلمية في البلاد العربية، أنشأ مجمع دمشق سنة 1919 على حين أن مجمع القاهرة قام سنة 1932. ومجلس مصطفى برمدا شيخ القضاء في الشام، الذي حوى صدره موسوعة فيها من كلّ علم طرف والذي ما عرف القضاءُ عندنا مثلَه فكراً وهيبة وعدلاً. ومجلس عبد الرؤوف سلطان، والأمير طاهر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر، والسيد بدر الدين ابن أخي الأمير عبد القادر، ومجالس أساتذتنا الذين أضاؤوا لنا الطريق وأخذوا بأيدينا حتى مشينا، سليم الجندي وعبد القادر المبارك والشيخ حسن الشطي، ومجالس من أمثالها لا أريد استقصاءها وأنتم لا تعرفون أصحابها. أين دمشق التي لم يكن يُرى فيها منكَر معلَن ولا محرَّم

مستباح ولا عورة مكشوفة، وما كان في جمهور أهلها إلاّ كل ديّن صيّن؟ ذكّرتَني ياسيدي المظاهرات أيام النضال للاستقلال، الذي شاركتُ فيه على ضعفي وعجزي بما قُدتُ من مظاهرات وما دعوت إليه من إضرابات. ما كنا ننادي بوجوب الإضراب أيام الفرنسيين حتى تغلق الدكاكين ويخرج الناس متظاهرين يعرّضون صدورهم لرصاص المستعمرين: لا يسألونَ أخاهم حين يَندُبُهم ... في النّائباتِ على ما قالَ بُرهانا وما خطبت وما كتبت في جريدة «فتى العرب» و «ألف باء» و «القبس» و «الأيام» و «اليوم» و «المنار» و «النصر»، وجرائد غيرها نسيت حتى أسماءها. لقد كنت أخطب في المساجد وفي النوادي وفي الطرق وفي الساحات ... ولكن هذا كله ياسيدي قد ذهب، ما بقي منه شيء، وإن لم يكتب الله لي عليه شيئاً من الثواب لا أستحقّه بعملي فيا ضيعة أيامي. يحسب ناسٌ أن الاستقلال قد جاءنا عفواً بلا تعب، وأننا وجدنا يوماً مائدة مُعَدّة فقعدنا على كراسي مصفوفة من حولها ومن فوقها الزهر والورد وطبق مغطّى فتحناه فإذا فيه الاستقلال المطلوب! لقد نسي كثير منا ولم يدرِ كثير من ناشئتنا ما الذي دفعناه ثمناً له، من دمائنا الزكية التي أريقت، ومن نفوسنا البريئة التي أُزهقت، ومن بيوتنا التي كانت جنّات تجري في صحونها المياه نوافير تشرح الصدر دكّوها بالمدافع دكاً فتركوها خراباً. فيا ليتنا، ياليت العرب كلهم، ياليت المسلمين جميعاً

حافظوا على استقلالهم، ياليتنا لم نصنع (أو لم يصنع بعضنا بأيدينا) ما كان يبتغيه المستعمر منا. لقد خضضتَ ياسيدي الكوب فصعد ما كان في قرارته من الفكر، لقد ذكّرتني ما كنت ناسياً. إنني عشت بحساب السنين ثمانين، ولكن عمري بحساب ما رأيت من الأحداث الكبار مئتان. رأيت حكم العثمانيين، وعهد الحكومة العربية، وميسلون التي دخل علينا بعدها الفرنسيون، وعهد النضال، ثم الاستقلال، وعهداً لا بارك الله فيه هو عهد الانقلابات، وعهوداً بين ذلك كثيراً ... ما كان يومٌ منها إلاّ بكينا فيه منه وبكينا بعده عليه. وما ظلمَنا اللهُ ولكنْ ظلَمْنا أنفسَنا. إن الله جعل لكل شيء سبباً، فالفلاّح الذي يقعد عن شقّ الأرض وبذر البذر ثم يقول: "اللهم أنبت لي الزرع" لا يُنبت الله زرعَه. والتلميذ الذي يدع الدرس ويشتغل باللهو واللعب ويقول: "اللهم اكتب لي النجاح في الامتحان" لا يكتب الله له النجاح. والأمّة التي تلعب حين الجدّ ويتربّص بها العدو فلا تُعِدّ القوة للعدوّ وتطلب من الله النصر لا يكتب الله لها النصر. لأن الله لا يبدّل سننه في كونه وقوانينه في مخلوقاته من أجل فلاّح مهمل ولا تلميذ كسلان ولا شعب غافل. فإذا أردنا معشر المسلمين أن يغيّر الله ما نحن فيه من التفرق والانقسام وتكالُب الخصوم وغلَبة الأعداء فلنغيّر أولاً ما بأنفسنا: {إنّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بِقَومٍ حتّى يُغَيّروا ما بأنفسِهِم}؛ هذا هو القانون، فهل غيّرنا ما بأنفسنا؟ أنا أتكلم عن نفسي فأعترف صادقاً أنني ما غيّرت! * * *

ذكّرتَني ياسيدي دمشق، فهل لي من عودة إليها؟ وإن عُدت إليها فهل أعرفها؟ لقد تبدّل بعدي كل شيء: المسالك والطرق وحال البلاد ووجوه الناس. وهل بقي فيها أحد من ناسي؟ لقد صرت إذا لقيت هنا رجلاً من دمشق جاء يسلّم عليّ أسأله: مَن أبوك؟ وربما سألته: مَن جدّك؟ لأن الطبقة التي أنا منها لم يكَد يبقى من أفرادها إلاّ قليل. فإن رأيتني عدت -يا سيدي أبا الخير- ووجدتُ الأماكن التي طرّزتَ مقالتك بأسمائها وعطرتها بأريج العطر من غوطتها وجمال الينابيع من واديها، فهل أجد الرجال الذين تحدّثت عنهم فيها؟ هل أجد الإخوان الذين مرّوا في حياتي مرور النسمة الناعشة في اليوم القائظ، مرور البرق المنير في الليلة الداجية، مرور الحلم الهنيء الذي كان ملء يديّ وعينَيّ وكنت أعيش فيه، فصحوت وما في يدي منه شيء؟ لقد ذهبوا جميعاً فمَن يُعيدهم إليّ؟ مَن يُرجع لي أيام شبابي التي تفضّلتَ فأثرت في نفسي ذكراها؟ لقد جعلتني أبكي مع الصديق الشاعر خير الدين الزركلي الذي قال غداة ميسلون، غداة ضاع الاستقلال وماتت الدولة العربية في الشام وكانت الفجيعة، ورأينا وجه الاستعمار البغيض أول مرة حين رأينا جنود الغزاة الفرنسيين تصكّ بنعالها أرض العرب المسلمين، وما عرفنا من قبلُ مستعمراً أجنبياً، أمّا الذين يسمّون الحكم التركي استعماراً فهؤلاء قوم لا أخلاق لهم ولا يعبأ الله بهم. قال خير الدين رحمه الله:

أبكي دياراً خُلِقَتْ للجَمالْ ... أبهى مثالْ أبكي تراثَ العزِّ، والعزُّ غالْ ... صعبُ المنالْ أبكي نفوساً قعدَت بالرجالْ ... عنِ النضالْ أبكي جلالَ المُلكِ كيفَ استحالْ ... إلى خيالْ ما لرحابي وحنانِ الرحابْ ... أضحَت يبابْ ما لبنيها كلُّهمْ في اكتئابْ ... أسرى عذابْ؟ أينَ أُولو طِعانِها والضِّرابْ؟ ... أينَ الحِرابْ؟ ما بالُ شِيبِ عُربِها والشبابْ ... غَيرُ غِضابْ؟ لقد قعدت أبكي تلك الأيام، ويحقّ لفقدها البكاء، وتهون عند ذكرها العبرات وتنفطر أسفاً على ما كان فيها القلوب. * * * هؤلاء الذين ذكرتَ ياسيدي أن المجمع الأدبي تألّف منهم، هل علمت أن منهم أربعة كانوا طلاّباً في المدرسة الإعدادية وبدؤوا ينظمون الشعر، فأقام لهم الأستاذ كرد علي رحمة الله عليه حفلة تكريمية في المجمع العلمي في دمشق سنة 1344هـ؟ وكلهم من رفاقي في المدرسة، هم أنور العطّار وجميل سلطان وزكي المَحاسني وعبد الكريم الكَرْمي، وأنه دعا إلى هذه الحفلة كبار القوم ووجوه البلد ليسمعوا القصائد التي نَظَمها هؤلاء الشباب. أُسمِعك -إن أذنتَ- فقرات من قصيدة أنور العطار التي كان عنوانها «الشاعر»، وأنت ياسيدي شاعر تزن الكلام وتنقده،

وتعرف الذهب الخالص من النحاس المطليّ بالذهب وتميز المطبوع من المصنوع، فاستمع هذه المقاطع ثم خبّرني: هل يقول اليوم تلميذٌ مثلَ هذا الشعر؟ هل يقوله طالب في الجامعة؟ كم من الشعراء المعروفين مَن يقدر على مثله؟ لا تعجب ياسيدي واسمع، وهذه فقرات منها: خلّياهُ يَنُحْ على عَذَباتِهْ ... ويَصُغْ مِن دُموعِهِ آياتِهْ ويرتّلْ ألحانَهُ بخشوعٍ ... مُستمِداً منَ العُلا نَغَماتِهْ قدْ رواها فمُ الزّمان بِشَجْوٍ ... فحَسِبْنا بُناتِهِ من رُواته إلى أن قال: كتَبَ البؤسُ فوقَ خدَّيهِ سطراً ... تتراءى الآلامُ في كلماتِهْ للهوى قلبُهُ وللشجوِ عينا ... هُ وللعالَمينَ كلُّ هِباتِهْ شاعرٌ صاغَهُ الإلهُ مِنَ البُؤ ... سِ وأبدى الأسى على نَظَراتِهْ وحَباهُ السحْرَ الحلالَ فغنّى ... شاكراً ربَّهُ على نَفَحاتِهْ وسَرِيُّ النَّظيمِ ما كانَ وحياً ... فالهوى والشعورُ في طيّاتِهْ وسَرِيُّ النَّظيمِ ما كانتِ الحكـ ... ـمةُ فَيّاضةً على جَنَباتِهْ إلى أن قال: يَخْلُدُ الشاعرُ الحَزينُ إذا قطّ ... ـرَ أنفاسَهُ على صَفَحاتِهْ يومُهُ مِثلُ أمسِهِ في شَقاءٍ ... ولعلَّ الرّجاءَ طيُّ غَداتِهْ كيف رأيت ياسيدي هذا الشعر؟ ألا تعجبون إن علمتم أن قائله تلميذ في المدرسة الإعدادية لم تصل سنّه إلى العشرين؟ فإذا

بكى شاعرُنا الزركليّ رحمه الله ما حلّ بالشام بعد ميسلون وبكينا معه، فدعنا نبكي العربيةَ التي ذلّت وهانت، نبكي الزمانَ الذي كان يقول فيه تلميذ في الإعدادية مثل هذا الشعر. فهل أجد إن ذهبت إلى الشام هؤلاء الإخوان؟ هل أركب الترام إلى الميدان فأمضي إلى جامع الدقّاق فأستمع خطبة شيخنا الشيخ بهجة البيطار ثم أصلّي وراءه، ثم نمشي معه إلى داره التي نلقى فيها دائماً المائدة منصوبة ونجد فيها مجمع الإخوان، ونخرج منها بفوائد تنفعنا في ديننا ودنيانا؟ وأنّى؟ وقد خُلع خطّ الترام فلم يعُد يمشي، وتوفّى الله الشيخَ بهجة فلم نعُد نراه، وخرج أهله إلى ظاهر الميدان إلى الحي الجديد. وهل أجد أنور العطار، صديقي من سنة 1920، رفيقي الذي سار معي أكثر طريق العمر، عمري وعمره؟ ونحن سَنينان مولودان في سنة واحدة، ولكنه تركني ومشى وحده. أستغفر الله، بل دعاه الله كما سيدعوني بعده، ومن دعاه الله أجاب، لا يملك خياراً ولا يستطيع اعتذاراً ولا يجد فراراً. إنني كلما قرأت هذه الآيات خشع قلبي وارتعدَت فرائصي، ثم أنسى وتشغلني الشواغل التافهة عن رؤية الحقيقة الكبرى. ما نسبة كفّ الإنسان إلى عرض السماوات والأرض؟ ولكن إذا أدنيتَ كفّك من عينك حجب عنك السماوات والأرض؛ كذلك تشغلنا التوافه عن الحقيقة الكبرى. هذه الآيات: {فلَوْلا إذا بلَغَتِ الحُلْقومَ، وأنتمْ حينئذٍ تَنظُرونَ، ونحنُ أقربُ إليهِ مِنكُم ولكنْ لا تُبصِرونَ}. نحفّ

بالمحتضَر، نعانقه، نقبّله، نضمّه إلينا، نتمسّك به لئلاّ يذهب من أيدينا، وننسى مَن هو أقرب إليه منا ومَن يفعل به وبنا ما يريد ما لا ما نريد. ننظر إليه ولا نملك له شيئاً، والروح تخرج ونحن نرى ولا نستطيع عملاً: {فلولا إنْ كُنتُمْ غيرَ مَدِينينَ، تَرْجِعونَها إنْ كُنتُمْ صادقينَ}، هل سمعتم يامعشر الملحدين الذين يكفرون بربّ العالَمين ولا يؤمنون بيوم الدين؟ إذا كنتم غير مدينين ترجعونها! هل تستطيعون؟ من يستطيع أن يردّ الروحَ إلى المُحتضَر إذا خرجت منه الروح؟ هل تُرجعها قوة الروس والأمريكان؟ هل أرجعَتها من قبلُ سطوة الفرس والرومان وفرعون وهامان، وكل متكبر يحسب من جهله أنه يشارك الله في ملكه؟ إنه لا يقدر أن يمدّ في عمره هو ولا في عمر من يحب لحظة واحدة من الزمان. * * * لقد أدرتَ أمامي -يا أخي الأستاذ بلخير- شريطاً مطولاً، فيه نعيم وفيه بؤس وفيه مسرة وفيه كدر، تكرّ مناظره متلاحقة مسرعة حتى لا أستطيع أن أدقّق النظر فيها. إذا تركتَ لي السنوات الخمس الأولى من عمري التي لم أكن أدرك فيها تماماً ما هو حولي بقي ثلاثة أرباع القرن، خمس وسبعون سنة. كم يوماً فيها؟ وكم تقلّبَ عليّ من حالات النفس كل يوم؟ إنه عالَم، عالَم كامل ياسيدي ظننت أنه طُوي إلى الأبد، فإذا مقالتك تمسك بطرفه فتنشره أمامي. لا أحد يستطيع أن يُعيد الماضي حياً كما كان، ولكن أديباً شاعراً كالأستاذ بلخير يستطيع أن يُقيم صورتَه أمام عينيك حتى كأنك تراها رؤية عيان.

ماضٍ لا أحصي ما كان فيه من مسرّات وأحزان، وعلوّ وانخفاض، ونشاط وخمول ... إنها حياة طويلة، وكل حياة فيها كل هؤلاء. أدركت عهد العثمانيين والسلطان محمد رشاد، والاتحاديين وجمال باشا، والحرب العامّة الأولى، ولا تزال مشاهد آثارها في دمشق ماثلة أمام عيني، مرّت هذه الأدوار كلها فأعدتَها لي كما يعود شريط السينما حين يكرّ مسرعاً. كانت لي أسرة هي عالَمي الصغير، فما زالت الأيام تأخذ منها واحداً وتضيف واحداً حتى (اللهم عفوك، ما هي الأيام ولكن أنت الآخذ وأنت المعطي وأنت مالك الملك)، حتى لم يبقَ من أسرتي الأولى إلاّ أنا. ركبتُ القطار من المحطة الأولى، وكلما وقف نزل ناسٌ من الركّاب وصعد ركّاب، حتى لم يبقَ من الذين كانوا معي لمّا ركبت إلاّ أنا. إني لأتخيل أحياناً ماذا تكون حالي لو أن هذا التبدّل وقع في ساعة واحدة أو يوم واحد: أُمسي وأنا بين أبي وأمي وجدي وجدّتي وعمّتي، وأُصبِح وقد ذهب هؤلاء جميعاً وجاءت أسرة من البنات والأحفاد وأولاد البنات والأحفاد، أسرة فيها أكثر من أربعين إنساناً جديداً لا أعرفهم! لو بِتّ ودمشق كالتي تفضّلتَ فوصفت جانباً منها لمّا زرتَها قبل خمسين سنة، أيام العربات التي تجرّها الخيل المطهّمات، أيام النضال والمظاهرات، أيام المشايخ والعلماء والأدباء ... لو بتُّ فيها وأصبحتُ في دمشق التي نراها الآن، أكنتَ تظنني أبقى في عقلي الكامل؟ هل يبقى لي ذهن يعي وقلم يكتب، أم أُحمَل حملاً إلى شهار عند الطائف؟

إن كل هؤلاء الذين أراهم حولي من أهلي ومن ذرّيتي شهدت ميلادهم ورأيت نموهم، وما أحدٌ رأى مولدي. لم يبقَ إلاّ واحد في الشام مدّ الله في عمره هو ابن خالة أمي، ووالدُ صهري زوج بنتي هو الشيخ مراد الطباع، وحماتي (هي السيدة عائشة بنت المحدّث الأكبر شيخ الشام الشيخ بدر الدين الحَسَني) التي كانت عائشة إلى ما قبل قليل ثم استأثر الله بها فتوفّاها عن خمسة وتسعين عاماً. لم يبقَ أحدٌ ممن عرفني وأنا صغير، مضوا جميعاً وأنا ماضٍ على أثرهم، والذين يكتبون عني يُثنون عليّ والذين يحبّونني ويريدون أن يحسنوا إليّ ما عدت أريد منهم إلاّ دعوة صالحة بأن أبقى ماشياً على رجلَيّ لا أقعد ولا أحتاج إلى أحد، ثم أنال من الله بكرمه ورحمته -لا بعملي- حسنَ الخاتمة، وأن يُحسِن خلافتي في أهلي وذريتي. هذا ما أطلبه لنفسي، أما ما أطلبه للناس فأن يعيدهم الله إلى الإسلام وأن يعيد إليهم عزّ الإسلام. أما أنت ياأيها الأستاذ الكريم ياأبا الخير، فجزاك الله خيراً. * * *

صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

-204 - صلاة الجمعة في مسجد بروكسل الأيام التي قضيتها في كيسن في ألمانيا في المؤتمر السنوي لاتحاد الطلاب المسلمين في أوربا طمأنتني إلى أن الإسلام لا يزال بخير، وأنه إن طغى سيل الفساد والكفر والإلحاد وغطّى أكثرَ البلاد فإن فيها رواسي شامخات لا يصل السيل إلى ضهورها (بالضاد) وذُراها، وأنها إن انطلقت الشياطين: شياطين الجنّ وشياطين الإنس تأتي الناسَ عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن أمامهم ومن خلفهم، تخترع كل يوم جديداً يصرفهم عن الصراط ويبعدهم عن طريق الجنة، فإن في الدنيا ملاجئ آمنات مَن التجأ إليها سلم من الخطر ونجا من المهالك، وأعاذه الله الذي يُستعاذ به من كل شيطان رجيم. ولكن العجب أن أجد ذلك في تلك البلاد، أن ألقى هذه الواحة الخضراء وسط تلك الصحراء، أن أحسّ البرد والسلام ومن حولي لهب النار! أحلف لكم أني رأيت في هذا المؤتمر شباباً قلت عن مثلهم غير مرة -وأنا صادق- أنهم مثل شباب الصحابة؛ أدبروا عن الدنيا حتى كأنهم لا يعيشون فيها، وأقبلوا على العمل للجنة كأنهم ينظرون إليها، يجمع بينهم السعي إلى رضا الله وتؤلّف بين

قلوبهم المحبةُ في الله، إن تنافس لِداتهم وأترابهم على اللذائذ تنافسوا هم على الطاعات، وإن تزاحموا على الكسب والأخذ كان تزاحمهم على البذل والعطاء. أعترف أني استفدت منهم ورأيت نفسي صغيراً أمامهم، وأكبرهم في سنّ أولادي، ومنهم أوربّيون دخلوا في الإسلام من جديد، ولا عجب، فإنكم تقرؤون في القرآن عن سَحَرة فرعون الذين دخلوا المباراة مع موسى وهمّهم إرضاء فرعون، يقولون: إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ فلم تمضِ إلاّ دقائق معدودات حتى آمنوا هذا الإيمان العجيب لمّا رأوا ما بين سحرهم الذي جاؤوا به وبين المعجزة التي أظهرها الله على يد موسى، في دقائق معدودات آمنوا إيماناً أتمنى -ولي عشرون جداً في الإسلام- أن أكون فيه مثلهم: هدّدهم فرعون بكل عظيمة، بأن يقطع أيديهم وأرجلهم وأن يصلبهم في جذوع النخل، فما خافوا ولا جزعوا ورأوا هذه الدنيا بآلامها ولذائذها صغيرة إلى جنب الآخرة بنعيمها الباقي، فقالوا له: افعل ما تشاء، اقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. * * * وكان منهم شباب وبنات، ولكن طبيعة الحياة هناك جعلت كل بنت تأتي مع زوجها أو أخيها، فلا تجيء من غير محرم لها. وكان بينهم فتاة ألمانية دخلت في الإسلام حديثاً، طلبوا أن يُسمح لها بالكلام لتخبر عن قصة دخولها في الإسلام، فكانت خلاصة قصتها أنها وحيدة أمها وأنه قد مات أبوها ولم يدع لهما شيئاً، فكانتا تؤجّران غرفة من الدار للطلاب تعيشان من أجرتها، وآخن تكاد تكون بلدة الجامعة التي امتازت من جامعات ألمانيا بالهندسة

وفروعها. وجاءهما طلاب كثير يتداولون هذه الغرفة حتى قدم هذا الشابّ. تقول: كان مَن قبلَه يسهر الليل ثم يجيء متأخراً، وهذا لم يتأخر يوماً عن موعد صلاة العشاء، وكان مَن قبله يعرضون لها بكلمة أو بنظرة أو بمحاولة لمسة أو قبلة فتلقى منهم أذى، وهذا لم يرفع يوماً بصره إليها ولم يمكّنه منها، وكان يكلّمها على أدب واستحياء، ورأت من خلالِه ومزاياه ما دفعها إلى سؤاله عن سرّ اختلافه عن رفاقه، فأجابها بأنه مسلم. وكانت تسأله المرة بعد المرة عن الإسلام فيحدّثها، حتى دخل الإسلام قلبها فأعلنت إسلامها، وتزوّج بها. وكذلك تكون الدعوة بالأفعال لا بالأقوال، وكذلك انتشر الإسلام قديماً بالقدوة والأسوة الحسنة. فيا أيها الدعاة إلى الله: ابدؤوا بالشباب، بالشباب بنين وبنات؛ فإن الدعوات كلها، الطيب منها والخبيث، إنما قامت على عواتق الشباب. فإن استطعتم الوصول إلى قلوبهم وجدتموهم أسرع استجابة وأهون انقياداً وأعظم أثراً، لأنهم إن اعتقدوا زعيماً مشوا وراءه، وإن قبلوا مذهباً أخلصوا له. وإنهم يندفعون فلا يقفون حتى يبلغوا من الطريق آخره، لا يقبلون -كما يقال اليوم- بأوساط الحلول، إنهم يَفْدون المبدأ الذي آمنوا به والزعيم الذي اتبعوه بنفوسهم وأرواحهم. ومن أكثر المفكّرين المحدَثين فهماً لطبيعة الشباب أندريه موروا، وله في ذلك مقالات ومحاضرات. إنكم ترون بين الشباب والشيوخ عند النظرة الأولى تبايناً واختلافاً، ولكن إن أمعنتم النظر وجدتم الغاية واحدة ولكن

اختلفت الطرق. كلاهما يبتغي اللذّة ويهرب من الألم ويريد الربح ويفرّ من الخسارة، إنهم كسيارات انطلقت إلى غاية واحدة، ولكن الشيخ يسوق سيارته حذراً متمهلاً يترفق في السير ويجتنب المزالق، والشابّ ينطلق بها مسرعاً لا يبالي العقبات ولا تخيفه العوائق، لا يحوّل بصرَه عن غايته يقحم الأخطار ليبلغها عاجلاً. ثم إن الشيوخ غالباً وبعض الشباب أحياناً يُدخِل عقله في الحساب، فيوازن بين اللذّات ويقوّم الأرباح، فيحتمل الألم العاجل لبلوغ اللذّة الكبرى والخسارةَ القليلة لنيل الربح الوفير، لذلك يؤثِر آخرته على دنياه. والإسلام كغيره من الدعوات، كان جلّ الذين استجابوا له وتمسّكوا به وذادوا عنه من الشباب. لا أعني الأحداث فقط، فرُبّ حديث السنّ قد شاخ قبل الأوان ورُبّ شيخ يحمل على عاتقه وقر السنين وله صفات الشباب. هذا أبو بكر يوم قُبض رسول الله عليه الصلاة والسلام كان قد جاز الستين، ولكن كل ما وصفنا به الشباب كان فيه: في صدق محبته للزعيم الذي اتبعه وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وعمق ولائه للمبدأ الذي آمن به وهو الإسلام، وما أورثه ذلك من قوة وجرأة لا نكاد نعرف لها مثيلاً حتى عند عمر القوي. لقد قلتُ في أحاديث مائدة الإفطار في رمضان هذه السنة وكتبت في صدر الطبعة الجديدة لكتابي «أبوبكر الصديق» (الذي مرّ على طبعته الأولى ثلاث وخمسون سنة)، قلت: إني ما وزنت عمر بعظيم من عظماء الأمم إلاّ رجح، لأنها إن كانت العظمة بالمزايا الشخصية أو بالسمات الخلقية أو بالأعمال الجليلة أو بالآثار الباقية لم أجد مثل عمر، ولكن إن جئت أوازنه بأبي بكر رجح أبو بكر، حتى في القوة والجرأة. وشاهدي على

ذلك موقفه يوم قبض رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويوم توجيه جيش أسامة، حيث جزع عمر وثبت أبو بكر، ووثب إليه فأمسك بتلابيبه وقال له: أجبّار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟ أنا أحلّ لواءً عقده رسول الله ‘؟ لقد قوي الإسلام، واللهِ لو انفردَت سالفتي لَما رددتُه ولَما قعدت عن نصرة الإسلام. فيا أيها الدعاة، لقد ضعتم وضيّعتم معكم الشباب! إن الله سيسألكم عنهم، فبماذا تُجيبون ربّ العالمين إذا قال لكم: لقد أنزلتُ عليكم كتاباً واحداً وشرعت شرعة واحدة وديناً واحداً، ففرقتم دينكم وكنت شيعاً: صوفية وحرباً على الصوفية، ومتمسكين بالمذاهب ومعرضين عنها، ومن أمثال ذلك كثير، وكلٌّ يدعو الشباب إلى مذهبه وطريقته. لقد علّمَنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن الإسلام بُني على خمس، على خمس قواعد راسيات راسخات، فأقمناه على أعواد لا تحمل البناء، شغلناهم بالفروع عن الأصول، أوجبنا عليهم أشياء لم يوجبها الله وحرّمنا أشياء ما حرّمها الله، تمسّكنا بالفروع حتى جعلناها أصولاً وأهملنا بعض الأصول لنحفظ هذه الفروع، مزجنا كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى بكلام ناس ما كانوا معصومين، سخّرنا المنابر التي هي لله وحده لا يجوز أن يُلقى منها إلاّ: قال الله أو قال رسوله، أو شرح ما قال الله وما قال الرسول وما أجمع عليه المسلمون، فجعلنا منها خطباً للسياسة وأهلها وللأهواء وأصحابها. هذه المنابر لله، ليست لحكومة ولا حزب ولا جماعة

ولامذهب ولا نِحلة، ولا لجلب نفع للخطيب ولا لدرء مضرّة عنه؛ فردّوها إلى الله يَرُدَّ عليكم عزّتَكم ويُعِدْ لكم مجدَكم ويُزِل من بينكم فرقتَكم ويُرجِعْ لكم وَحدتَكم، ويوردكم جميعاً يوم القيامة الحوض على رسول الله إن أخلصتم العمل لدين الله وأطعتم الله وأطعتم الرسول، ولو في معصية جميع عباد الله، ولم تعصوا الله لتطيعوا عباده من أهل الثروة والسطوة والحظوة، وممن يقولون إننا من المسلمين ويتركون شرع الله. * * * ولمّا قُضي المؤتمر واستعدّوا للعودة جميعاً (ومعهم أهلي) إلى آخن سألني رئيس اتحاد الطلاب المسلمين أن أذهب مع طائفة من الطلاب إلى جامعة فرانكفورت، فإن فيها شباباً يريدون أن يجتمعوا بي ليسألوني، وفي الذهاب إليهم نفع لهم ورضا لله. فكرهت الذهاب أولاً، ولكنني ذكرت ثواب الله فقلت: نعم. ومشوا كلهم شَمالاً ومشيت مع هؤلاء جنوباً حتى بلغنا الجامعة، وكانت في العطلة الصيفية، فأخذونا إلى مهاجع الطلبة (أي مساكنهم وأماكن نومهم)، فرأيت إلى جوارها مهاجع الطالبات، ما أبصرت بينهم سداً ممدوداً ولا حداً حاجزاً، كأن من شاء منهم أو منهن لقي من أراد لقاءه! وبعض القوم في أوربا قد حُرموا نخوة الرجل وذوده عن عرضه، حتى إنني قلت كلمة من قديم، من عشرات من السنين، أنه ليس في الفرنسية التي أعرفها ولا في الإنكليزية كما فهمت ممن يعرفها كلمة بمعنى كلمة العِرض عند العربي. وحتى قرأت

في إحدى المجلات خبراً قصصته وحفظته، أن القائمين على المدارس المختلطة والجامعات يعلّمون الطالبات فيما يعلّمونهن كيف يتجنّبن الحبل وكيف يتخلصن منه إن وقع! أي أنهم يُبيحون السِّفاح أو يصنعون شيئاً هو قريب من ذلك، فينزلون بالبشر إلى رتبة البهائم. ثم يأتي منا من يريد أن يسلك ببناتنا هذا المسلك، فيحاربون الحجاب ويرغّبون في التكشّف ويحبّذون الاختلاط، ينفذون فينا أول مادة من قانون إبليس، أي التكشّف والسفور والحسور: {يَنْزِعُ عَنهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْءاتِهما}. أليست هذه هي المادة الأولى في قانون إمامهم وقائدهم إلى جهنم إبليس؟ عمّ الاختلاط المدارس كلها حتى الثانوية منها، ومما أحمد الله عليه أنها بقيت في ألمانيا -لمّا كانت حفيدتي تدرس فيها- ثانوية واحدة تقوم عليها مربية قديمة في العمل كبيرة في السنّ، أصرّت على أن تبقى مدرستها للبنات وحدهن، فدرست حفيدتي فيها، حتى إذا ماتت هذه المديرة وتخرجت الحفيدة رجعت هذه المدرسة إلى ما عليه مثيلاتها من الاختلاط بين الشبان والبنات. وصلنا الجامعةَ فلم نجد فيها إلاّ قليلاً من الطلاب. وكان الموعد في ساعة محدّدة رتّبت أمري على أن أجالسهم فيها ثم أسرع إلى اللحاق بجماعتي، وأنا يؤذيني ويضايقني إخلاف الموعد أو تأخيره، وغضبت لأنهم غيّروا طريقي وقطعوني عن أصحابي ثم لم يُحكِموا أمرهم ولم يضبطوا مواعيدهم. وانتظرت حيناً فجاء الطلاب وامتلأ المكان، وكان مجلساً مبارَكاً مفيداً إن شاء الله، وُجّهت فيه أسئلة وأثيرت فيه مسائل، والفضل في نجاحه لله أولاً ثم للدكتور حبيب زين العابدين ولزوجته المرأة

الصالحة العالِمة الفاضلة التي عملت على إنجاحه. والعجيب -كما قلت قبل قليل- أني رأيت الاتصال بين الطلبة والطالبات أمراً سهلاً، وأحسب أنه لا يمنعه عندهم قانون ولا يستقبحه عرف، فالقوم في أوربا سابقون في تفكيرهم وفي علومهم المادية وفي مدنيتهم الظاهرة، ولكن إن جاءت الأمور التي يسمّونها ««جنسية» هبطوا عن رتبة بني آدم؛ عوراتهم بادية والاختلاط بينهم عامّ، وهذا ما تصنعه البهائم. هل رأيتم أَتاناً (حمارة) تستر عورتها أو تتوارى إذا جاء موسم اجتماعها بقرينها؟ أفتريدون أن يكون قدوتنا الحمير؟! وعدنا بالسيارة كما جئنا، ومشينا متمهلين فما كان ينتظرنا موعد، وقعدنا في مقهى على نهر الراين أكلنا فيه وشربنا. ولا تسألوني من أين سرت، فلقد كنت حديث العهد بالبلد لا أعرف مسالكها ولا أسماء مدنها ولا قُراها، وإن كانت قرى على المجاز، وإلاّ فهي مدن صغيرة طرقها وبيوتها ومرافقها ونظافتها مثل ما في المدن. وحقّ لنا أن نُعجَب (بضم النون) بذلك، لكن لا نَعجَب (بفتحها) منه ولا نراه شيئاً صعباً ولا متعذراً، فإن عندنا من المال وعند عامّتنا من الإدراك ما نستطيع أن نعمل مثله وخيراً منه على أهون سبيل، إن تعاونت على ذلك البلديات وأرباب المنابر وأصحاب الأقلام والمدرّسون في المدرسة والوُعّاظ في المسجد. * * * يكون عند الطفل عشرون لعبة من نفائس اللُّعَب الغوالي، ثم يرى مع ابن الجيران حصاناً من الخشب ما له قيمة ولا فيه فنّ

فيبكي يريد مثله! ذلك لأن الإنسان يزهد فيما يملك ويشتهي ما لا يملك. وأنا لم أجد في تلك الديار من شمالي ألمانيا وبلجيكا وهولندا -على جمالها- شيئاً ليس في بلادي أجملُ منه، بل إن في جبال الشام (ولبنان وفلسطين من الشام) وفي أوديتها وفي عيونها وينابيعها وفي جداولها وأنهارها وفي خضرة شجرها وتنوع ثمرها ما ليس في تلك البلاد، وما هو أجمل منه، ولكن الإنسان مفطور على حبّ الجديد وعلى الرغبة في كشف المجهول، لذلك أسرعت إلى قطع تذكرة لي ولزوجتي في الدرجة الأولى من القطار الذاهب إلى بروكسل. ولم يسألني أحدٌ عن جواز السفر ولا عن سمة (تأشيرة) الدخول. وكان لي في بروكسل صديق قديم وأخ كريم هو ابن شيخنا الشيخ علي ظبيان وأخو صديقنا الأستاذ تيسير ظبيان، صاحب جريدة «الجزيرة» التي كنا مع إخواننا في المجمع الأدبي لما أنشأناه نكتب فيها، هو الأستاذ نديم ظبيان. وهو أكبر سناً من أخيه تيسير، وتيسير أكبر مني، مدّ الله في عمر الأستاذ نديم ورحم أباه وأخاه. ركبت القطار مطمئناً معتمداً على الأستاذ نديم، وقد مسّني طائف من الشيطان فنسيت أن أجعل اعتمادي على ربّ نديم لا على نديم. وخبّروني أن القطار يصل بي إلى المحطة الكبرى في بروكسل، وما عليّ إلاّ أن أهتف به (أكلّمه بالهاتف) فيحضر إليّ، وإن لم أجده خرجت من باب المحطة فإذا أنا في وسط البلد، فتتفرّج زوجتي بأسواقها وتتأمل ما يُعرض فيها، فتُسَرّ بذلك مرة وأحرم أنا المسرة مرتين: مرة لأنني لا أحب التجوّل في الأسواق

ولا التأمّل في معروضاتها، ومرة لأن عليّ دفع ثمن ما تشتريه! والمرأة إن دخلت السوق لم تستطع أن تخرج منه من غير أن تشتري شيئاً وإن كانت لا تحتاج إليه. ومدة السفر بالقطار من آخن في ألمانيا إلى بروكسل ساعة واحدة، مررنا فيها بما لست أُحصي من القرى والضواحي، وجزنا بلييج، المدينة الكبيرة؛ لم تختلف علينا المشاهد، ولكن أحسسنا باختلاف العادات ونظام السير واختلاف اللسان، أحسسنا بأننا انتقلنا من بلد إلى بلد، على حين لا أشعر إذا سافرت من دمشق إلى بغداد أو مصر أو المغرب بأنني فارقت بلدي. على أن في بلجيكا نفسها شعبين ولسانين: لساناً فرنسياً ولساناً آخر فَلمَنْكياً، لعلّه (ولست متحققاً) قريب من الألمانية. ولا تزال المنازعات والمنافسات تقع بين الشعبين وتكتب عنها الصحف، حتى إن أسماء المدن في المحطات وعلى الطرق تُكتب باللسانين (بروكسل وبروسل، وأنفرس وأنتورب). وحطّ بنا القطار في المحطة الكبرى، وخرجنا من الباب كما قالوا لنا فلم نجد السوق الحافلة بالناس ولا الحركة الدائمة للبائعين والشارين، ولكن رأينا شارعاً كامداً شبه خالٍ فيه بيوت مفتوحة على أبوابها نسوة لا يختلفن عمّن نرى من نساء تلك البلاد، قاعدات متكشفات ساكتات لا ينطقن، ولكن هيأتهن تُريب ونظراتهن تستغرب، وكان عجبهن منا أكثر من عجبنا منهن إذ يرين كهلاً عجوزاً وامرأة كبيرة متحجبة وما في هذا الشارع أثر لحجاب. فمشينا إلى آخره وعدنا فما وجدنا تجارة ظاهرة ولا بضائع معروضة، ما وجدنا إلاّ مناظر قليلة لا يألفها أمثالنا،

فرجعنا إلى المحطة (وهي في أول الشارع) ننوي العودة بالقطار الذي جئنا به إذ لم نجد غايتنا، لا الأستاذ نديم وجدناه ولا السوق الذي حدّثونا عنه ولجناه، وهممت بركوب القطار، وإذا نحن بالأستاذ نديم ظبيان. فقصصنا عليه القصص فضحك، وأفهمنا أن للمحطة بابين: باباً يُفضي إلى السوق وباباً هو باب السوء يُفضي إلى مكان الفحش والبغاء. فاستغفرْنا الله من هذا الخطأ وحمدناه على السلامة. وكنا في ضحى يوم الجمعة فقال: هلمّ بنا إلى المسجد. وفي بروكسل مركز إسلامي ومسجد متسع يمتلئ يوم الجمعة بالمصلّين، وجمهرتهم من الأتراك. فجال بنا جولة في الشوارع حتى وصلنا إلى المسجد. ومن عظمة الإسلام أن أخوّة الإيمان تظهر في المسجد ولو اختلفَت الألسُن والألوان وتناءت البلدان، فإذا دخلتَه لم تجد إلاّ إخوة متعارفين يجمع بينهم هذا النداء القدسي: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وتوحّد بينهم هذه الكعبة التي يتجهون إليها؛ فكل دعوة إلى رابطة غير الإسلام بين المسلمين تُولَد ميتة، فلا الدعوات القومية ولا العنصرية ولا العصبيات الحزبية بالتي تستطيع أن تنقض ما أبرمه الله حين قرّر في كتابه أُخُوّة الإيمان: {إنّمَا المُؤمنونَ إخوةٌ}. سلّموا عليّ (والترجمان بيننا) كأنني أعرفهم ويعرفونني من قديم، تعارفَت القلوب قبل الألسنة. وكلّفوني أن أخطب الجمعة، فخطبت خطبة كانت تُترجَم فقراتها -على عادتهم في تلك البلاد- فأجد أثرها على وجوه القوم لا سيما الإخوة الأتراك، هؤلاء الذين

عملت القوى كلها، قوة السلطان وقوة المال وقوة الإعلام، على صرفهم عن الإسلام منذ ستين سنة، فما استطاعت أن تصنع شيئاً وبقي الإسلام مستقراً في قلوبهم. ولمّا أعاد عدنان مندريس رحمة الله عليه الأذان باللغة العربية وسمعوه تصدح به منارات إسطنبول (إسلام بول، أي مدينة الإسلام كما سمّاها السلطان محمد الفاتح) فركوا آذانهم ولم يصدّقوا ما سمعوا، فلما تيقّنوه فاضت دموعهم فرحاً وانطلقت ألسنتهم لله شكراً ولمن حقّق هذا الحلم ثناء ومدحاً، وكان ذلك اليوم عيداً لا تُمحى ذكراه من نفوسهم. * * *

أيام لا تنسى في بروكسل

-205 - أيام لا تُنسى في بروكسل لم ينتهِ الكلام عن بروكسل؛ ختمتُ الحلقة الماضية في المسجد وأبدأ حلقة اليوم من المسجد. ومن المسجد يبدأ كل عمل إسلامي، لأن المسجد عندنا هو المعبد وهو المدرسة وهو الندوة (البرلمان)، ليس المسجد للعبادة فقط، وليست العبادة في المسجد فقط فالأرض كلها للمسلم مسجد، وكل عمل نافع يعمله المؤمن احتساباً عبادة. ولئن فرّق غيرنا بين الدنيا والآخرة وقسموا الرجال إلى رجال دين ورجال دنيا، فإن كل مسلم رجل دين. إن كانت الدنيا والدين عند غيرنا كطريق الرياض وجدة لمن كان في مكة، أو كطريق الإسكندرية والجزائر لمن كان في تونس، يمشي أحدهما شرقاً والآخر غرباً، فهما عندنا كالطائف والرياض أو الجزائر والرباط، طريق واحد. لكن من الناس من تقعد به همّته عن إكماله فيقف في أول محطة منه، يقنع بها ولا يمتدّ عزمه إلى أبعد منها، وهذا الذي يطلب الدنيا وحدها: {وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاق}، ومَن يمرّ على هذه ليصل إلى الأخرى، ذلك الذي يجمع الغايتين يقول: {رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً}.

وقد أرشدنا الله إلى أن الآخرة هي المُراد وقال للمسلم: {وابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرةَ}، ولكنه عقّب فقال: {ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدّنيا}. وما أحسنَ الدينَ والدنيا إذ اجتمعا، وإن كان الدين لا يقابل الدنيا ولكن تقابلها الآخرة، والدين منهج كامل لكليهما يضمن لمن يتبعه السعادةَ فيهما. هذا هو الإسلام وكذلك يكون إحياؤه، لا كإحياء الغزالي الذي كان حُجّة الإسلام وكان المفكّر الإسلامي الأول، ولكنه لمّا جنح إلى الصوفية وظنّ أنها «المُنقِذ من الضلال» اختلط عليه الأمر فلم يَعُد يتبيّن الطريق، والحمد لله على أن المسلمين ما نهجوا منهجه في «الإحياء». تصوروا ماذا يكون حال المسلمين لو أن كل واحد منهم قلل الطعام حتى ذوى جسمه وأصابه السقام، وترك طلب العلم انتظاراً لعلم يأتي عن طريق الكشف والإلهام، وأوى إلى ركن مُنزَوٍ غارق في الظلام؟ وهذا ما حثّ عليه الغزالي ودعا إليه، الغزالي الصوفي لا الغزالي المفكّر الفقيه الإمام. لو فعلنا هذا (ونحن يومئذ بين أخطر عدوَّين عرفهما تاريخنا القديم: الصليبيين، والمغول والتتار)، ماذا كان يبقى من دولة الإسلام؟ وأنا أحب الغزالي من يوم أهدى إليّ شيخُنا الشيخ عيد السفرجلاني (وأنا تلميذ عنده في المدرسة الابتدائية سنة 1338هـ) رسالته «بداية الهداية»، على أنني من حبي للغزالي أحمد الله على أنه ما مات حتى عرف أن المنقذ من الضلال ليس الصوفية، بل المنقذ من الضلال الدليلان الظاهران على جانبَي الطريق والنيّران الهاديان إلى الغاية المقصودة، اللذان لا يضلّ مَن استضاء بضوئهما ومشى على هديهما، وهما: الكتاب والسنّة.

والحمد لله أن الغزالي ما مات -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- إلاّ وصحيح البخاري على صدره. رحمه الله فلقد كان عظيماً، وكتابه الإحياء عظيم، ولكن فيه أيضاً من أخطاء الصوفية وأخطارها الشيء العظيم. * * * لمّا وصلت إلى هذه الجملة وأنا أُعِدّ هذه الحلقة من الذكريات حمل إليّ البريد مجلة المسلمون عدد السادس من ذي القعدة سنة 1406، وفيها نبأ عن مؤتمر اتحاد الطلاب المسلمين في أوربا سنة 1406 (1986)، وأنا أتكلم هنا عنه في مؤتمر 1390 (1970). ووجدت في الجريدة أنه سيتمّ في اجتماع هذه السنة وضع أسس العمل الإسلامي. لا أكتمكم أنني وقفت عند هذه الجملة: وضع أسس العمل الإسلامي؟! لقد كنت أحسب أن هذه الأسس قد وُضعت ياإخوان من قديم الزمان، وقامت عليها الأركان وشُيّد فوقها وعلا البنيان، فلماذا ندع ذلك كله ونحاول أن نبدأ من جديد؟ أو لعلّ الذي نشر الخبر في الجريدة زاد فيه أو نقص منه أو بدّله تبديلاً حتى جعلنا نفهم منه هذا الذي لا أظن أن اتحاد الطلبة المسلمين يريده أو يقصده. أنترك مثلاً ما وصلَت إليه الطيارات اليوم وأنها صارت عمارات تطير وأنها تحمل معها مئات من الناس وجبالاً من السلاح والمتاع، نترك هذا كله ونعيد قصة رايت وأخيه لمّا طيّرا

أول مرة تلك اللعبة التي افتُتح بها تاريخ الطيران؟ أندع مئات المجلَّدات التي أُلّفت في النحو ونعود إلى ما قالوا إن أبا الأسود الدؤلي قد وضعه مفتتِحاً به النحو حين قال: إن الكلام اسم وفعل وحرف؟ أو ما زعموا أن علياً - رضي الله عنه - هو الذي وضعه وقال له: انحُ هذا النحو، فسُمّي «نحواً». ليس علينا، بل لا حقّ لنا، أن نضع أساس العمل الإسلامي؛ بل أن نجدّد من جوانب البناء ما أبليناه وأن نُصلِح ما أفسدناه ليعود كما كان. فإذا شئتم أن تعرفوا أسس العمل الإسلامي وأن تُقيموها في شباب أوربا فاذكروا أن العربي، بل الأعرابي، كان يَفِد على رسول الله عليه الصلاة والسلام فيبقى عنده يوماً أو بعض يوم، فيتعلم من الإسلام ما تصحّ به عقيدته ويسلم به دينه، ويعود إلى قومه داعياً إليه مبشّراً به معلّماً له. وإن عند من حولكم من شباب أوربا، إن لم يكن عندهم جميعاً، من صفاء القلب مثل الذي كان عند أولئك الأعراب الوافدين على الرسول عليه الصلاة والسلام، بل إن عندهم فوق ذلك من العلوم الجديدة ما ليس عند أولئك، فأعطوهم الإسلام صافياً خالياً من آراء المتكلمين وخلافات المجتهدين ومن طرق الصوفية ومن بدع المبتدعين، فلعله إذا صادف قلوباً نظيفة فارغة تمكّن منها واستقرّ فيها، ولعلّ من هؤلاء الشباب الذين يُقبِلون اليوم عليكم ويستمعون إليكم مَن سيكون هو المصلح المنشود والقائد المنتظَر وحامل لواء الدعوة إلى الإسلام. لقد كان ابن باديس يوماً وكان حسن البنا يوماً وكان

المودودي والندوي وأمثالهم، كان كل منهم واحداً من آلاف طلبة العلم لا يدري أحدٌ ما أعدّه الله إليه وما سيكون من الخير على يديه. ولعلّ كلمة أنتم قائلوها في هذا الجمع تنسونها وينساها أكثر السامعين، ولكنها تنزل على قلب واحد منهم منزلَ الغيث على الأرض الغنيّة العطشى فتُنبت النبتَ المرتقَب. إنكم لا تعلمون وأنتم تحاضرون هذه المئات من الشباب في النوادي والآلاف من التلاميذ في المدارس، مَن بينَهم هو الذي كُتب في اللوح المحفوظ أن يكون الرجل المنشود؟ هل تعرفون كم بينهم من بذور العبقرية الكامنة في نفوسهم؟ كم كان مع شوقي من لِدات في المدرسة؟ كان شوقي يومئذ تلميذاً من التلاميذ، نسخة من كتاب مطبوع، ولكن الأيام تمرّ وسنوات المدرسة تنقضي، فإذا هم جميعاً تلاميذ في المدرسة كغيرهم من التلاميذ ورجال في الحياة كغيرهم من الرجال، وإذا شوقي وحده هو شوقي. وكذلك ظهر محمدبن عبد الوهاب، ومن قبله ابن تيميّة والأئمة الكبار، والشعراء والأدباء والعباقرة والنابغون، وكل عظيم كان في صغره كنزاً مطموراً فكشفه الله للناس. فلعلّ مِن هؤلاء الشباب الصغار الذين يحضرون هذا الاجتماع وأمثاله بنّا آخر أو محمد عبده جديداً أو مثل ابن عبدالوهاب أو أولئك الأئمّة الأعلام. * * * قلت لكم إن كل عمل إسلامي يبدأ من المسجد، لكن لا

يبقى فيه. لا يغلق المسلم عليه باب المسجد ويحبس نفسَه فيه إلاّ أياماً معدودة في السنة يَحسن فيها الاعتكاف لمن أراد الاعتكاف، فإذا انقضت حمل روح المسجد ونزل متسلحاً بها إلى معركة الحياة، يعمل في السوق وفي الدائرة وفي المصنع وفي المعركة مع العدوّ لإعلاء كلمة الله، ورُبّ رجل في السوق يبيع ويشتري وقلبُه مع الله وجوارحه مقيَّدة بشرع الله أقربُ إلى الله من قاعد في المسجد وقلبُه معلَّق بالدنيا. لذلك خرجنا بعد انقضاء الصلاة مع طالبَين من الشام صلّيا معنا ودعوانا إلى دارهما، أنا والأستاذ نديم وأهلي معي، أحدهما ابن الشيخ حسين عزيزيّة الذي كان ممن يلازم الشيخ بدر الدين، والآخر رجل أحسست لمّا رأيته بميل إليه وشعرت بأن له قلباً مؤمناً ونفساً طيبة، هو محمد الجمّال من تلاميذ الشيخ عبدالكريم الرفاعي. وقد خبّرني الدكتور عدنان الهوّاري الذي درس مع أخيه في بلجيكا وأقام فيها سنين طوالاً، ثم رجع فافتتح مَخبراً في مكة وبقي أخوه الأكبر في آخن، خبّرني أنهما لا يزالان باقيَين في بلجيكا، أمّا الأول فقد تَبَلْجَك فاستقرّ فيها وتزوّج منها، وأمّا الثاني فبقي ثابتاً عاملاً مع الدعاة إلى الله في تلك البلاد. ذهبنا معهما وسُررت بزيارتهما، ووجدناهما يطبخان لأنفسهما، فأكلنا أكلة شامية خالصة في عاصمة بلجيكا وأكل معنا الأستاذ ظبيان. وهو في العادة مثلي لا يأكل عند أحد، ولكن صفاء نفس الشابّين والصلاح الذي كان بادياً على وجهيهما والكرم الصادق الظاهر في دعوتهما حمَلنا على القَبول. وكانت وليمة لافخمة ولا حافلة بالألوان ولا تُعَدّ من الولائم الفاخرة المترفة،

ولكنها كانت طيبة وكانت لذيذة. ثم أخذونا يُروننا جانباً من البلد، فبلغنا ساحة فيها جسر من الحديد منصوب يعترض الشارع يوصل بين شارعين جانبيَّين، لا أستطيع تحديد طوله ولكنه يزيد عن مئة متر، فدُهش الأستاذ نديم والشابّان، وقلت: ما أدهشكما وأنتما تقيمان هنا وتمرّان كل يوم من هنا؟ قالا: هل تصدّق أن هذا الجسر لم يكن قبل أيام موجوداً؟ وقالوا -بعدُ- أنه أُقيمَ في ثمان وأربعين ساعة. قلت (كما كان يقول صاحب كليلة ودمنة): وكيف كان ذلك؟ قالوا: إنهم حفروا أساس الدعائم وغطّوها وأعدّوا زُبَر الحديد وأوصالها وما يحتاج إليه الجسر بحيث لم يبقَ إلاّ تركيبه، فلما جاءت العطلة الأسبوعية شرعوا يركّبونه، فاشتغلوا به ليلة الأحد ويومَه وليلة الإثنين حتى كمل، وكان صباحَ يوم الإثنين منصوباً يمرّ عليه الناس والسيارات. * * * وكان أقرب متنزَّه هو ترفورين، حفظت اسمه لأن عندي صوراً له كنت أودّ نشرها مع هذه الحلقة ونشر غيرها، لولا أنني أمليها بالهاتف إملاء من مكة فيطبعها الأخ طاهر أبو بكر جزاه الله خيراً. وإذا وفّق الله وصدر جزء جديد من الذكريات وضعت هذه الصورة فيه. وترفورين جنّات متصلة لا تعرف أولَها من آخرها: بساط أخضر فوقه سقف أخضر، مكان جميل وماء عذب سلسبيل، وأهم ما فيه بناء كبير جداً كأنه قصر من قصور الملوك الأوّلين فيه متحف يجسّد تاريخ الكونغو لمّا كانت تحكمها

بلجيكا. ويكفي أن تنظروا في الخريطة إلى حجم بلجيكا وحجم الكونغو (التي تبدّل اسمها بعد الاستقلال فرجعت إلى اسمها القديم، زائير) لتعجبوا من شاة تبلع فيلاً! ما مثلها في ذلك إلاّ جارتها هولندا لمّا كانت تحكم أندونيسيا. في هذا المتحف من نفائس الآثار المنقولة من تلك الديار ما لا تتسع له الروايات والأخبار. ومن أعجب ما فيه رسالة من المهدي (السوداني) إلى ملك بلجيكا يدعوه فيها إلى الإسلام: "أسلم تسلم"، وأعلام وأسلحة قالوا إنهم غنموها من المهدي. وأنا أعلم أن المهدي حارب الإنكليز وحاربوه، ولكن ما علمت (وما أكثر الذي لم أعلمه) أنه حارب ملك البلجيك. وفي متاحف أوربا وأميركا، لا في هذا المتحف وحده، نفائس لا يبلغ التقدير حقيقة أثمانها، هي لنا، سُرقت منا في ليل غفلتنا وهجوعنا، لا ندري متى يصبح الصباح علينا فننهض من نومنا ونستردّ هذا الذي سرقوه منا؟ بل نستردّ قبل ذلك فلسطين والبلادَ التي عدا عليها اللصوص في ذلك الليل الطويل الذي نام فيه المسلمون؟ ثم أخذونا إلى «الأتوميوم». وهو صورة مجسَّمة لما يُرسَم في كتب التلاميذ عن الذرّة وتحطيمها، باقٍ من أيام معرض بروكسل الكبير الذي أقيمَ قبل سبع وعشرين سنة على أغلب الظن. وما رأى الذرةَ أحدٌ ولا يمكن من صِغَرها أن يراها أحد، وكان علماؤنا الأولون يسمّونها «الجوهر الفرد» أو الجزء الذي لا يتجزأ، أخذوا ذلك عن اليونان، على أن لهذا الكلام تفصيلاً لا

موضع له الآن. وكان من الخرافات التي أخذناها منهم وحسبناها يومئذ -كما حسبوها- من العلم أن في الدنيا أربعة عناصر مُفرَدة (أي ليست مركَّبة) هي الماء والهواء والتراب والنار، وأن البرودة من الماء والحرارة من النار والجفاف من الهواء والرطوبة من الأرض، ثم بنوا على ذلك كلاماً طويلاً عريضاً طبّقوه على ما دُعي بالأخلاط الأربعة في جسم الإنسان، ثم قسّموا الأطعمة والعقاقير إلى حارّ وبارد ورطب ويابس. ومن شاء رأى مثال ما قالوه في كتب الأولين، والغريب أن الإمام ابن القيم في كتابه «زاد المعاد» شغل نحواً من ربع الكتاب بهذا وأمثاله، الذي صار اليوم أقرب إلى أوهام العوامّ وغرائب الأفهام. ولست أُفيض في وصف «الأتوميوم»، فإن عندكم في جدة إلى جنب الجامعة مثالاً له: ثماني كرات تفصل بينها أعمدة مجوَّفة. ونسبة هذا المثال من الأصل في بروكسل كنسبة الفيل الذي يوضع في غرفة الاستقبال (ولا يجوز شرعاً وضعه) من الفيل الحقيقي. إن سقف الكرة العليا -كما خبّرني الدكتور عدنان الهواري- يعلو مئة وعشرة أمتار، ولكنه لضخامته لا يبدو عالياً. وقد صعدنا إليه بمصعد كهربائي، ثم انتقلنا على أدراج متحرّكة من كرة إلى أخرى، وفي أكثرها أجهزة علمية وأشياء لم أعُد أذكرها، ولو أنني ذكرتها ووصفتها لما فهمت تفاصيلها ولا فهم القراء عني. وكيف يفهمون وأنا غير فاهم؟ ولِتتصوروا ضخامة هذه الكرات أبيّن لكم أن واحدة منها اتُّخذت مطعماً، دخلنا إليه وأكلنا فيه وعددتُ الموائد (أي طاولات الأكل) فقاربت في العدد الأربعين، أمضينا فيه ساعات كانت فيها متعة الجِدّة، فهي شيء

لم نكن نعرفه، وفيها جَلوة النظر، فهي تطلّ بعلوّها على بسيط من الأرض ينطلق فيه البصر وتأنس النفس. فأكلنا طعاماً لا أقول إنه طيب (فما عندهم طعام طيب) ولكن يدفع الجوع ويغذّي الجسد. ولمّا جئنا ننزل وجدنا المصيبة في النزول. فقد أعلنوا بالمكبرات أن وقت الزيارة قارب النهاية، ثم أعلنوا أنه انتهى، قالوا ذلك بلسانهم ولا نعرف نحن لسانهم، فلما جئنا ننزل إذا المصاعد والسلالم الكهربائية قد وقفت، وإذا أنا أمام سلّم من الحديد يكاد يكون قائماً فيه مئات من الدرجات، ما عددتها ولكن زاغ بصري لمّا نظرت إلى أسفلها. وخفت أن تزلق عليه رجلي أو أن يزيع منه بصري، وما ثَمّ حواجز (دَرابزين) أمسك بها ولا جدران أستند عليها، فرأيت الموت عياناً لأنني لا أستطيع أن أبقى في مكاني ولا يُسمح لي بالبقاء، والهبوط على هذا السلّم يكاد يكون هلاكاً محقَّقاً! ولولا أن أمسك بي بعض الناس وأعانني الله لَما بلغت الأرض. وقد وقع لي مثل ذلك مرة في عمّان. وعمّان قائمة على أحد عشر جبلاً، وكنت يومئذ على جبل الحُسين، فأردت النزول ماشياً فسلكت درباً بين العمارات منحدراً، حتى إذا جاوزت ثلث الجبل لم أعُد أجد العمارات وبقي الدرَج وحده وليس على جانبيه شيء أستند إليه، فدارت بي الأرض وأحسست أنني واقع لا محالة، فقعدت على درجة منه أنتظر الفرج، فمرّ بي جماعة من الشبان فرجوتهم أن يمسكوا بيدي وقلت لهم: إنني كنت شاباً مثلكم أنحدر من أعلى جبل قاسيون في خطّ مستقيم أقتحم كل ما

أجد أمامي، يتدحرج الحصى والحجارة تحت قدمَيّ وأنا ماضٍ قُدُماً ويعترضني الصخر فأقفز عليه، ثم انتهيت إلى ما ترون. وأنتم سيأتي عليكم يوم تصيرون فيه مثلي، فأمسكوا بيدي حتى أدعو لكم يومئذ أن يأتي مَن يُمسك بأيديكم. فضحكوا وضحكت وأمسكوني. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكَر -كما يقول الناس- فلقد وجدت مثل هذا الموقف مرات، لا عليّ أن أعرض إليها فإنها ذكريات من الذكريات. لمّا كنا في العراق ذهبت مع ثلاثة من الطلاب إلى إيوان كسرى في قرية سلمان باك (ومعنى «باك» في الفارسية الطاهر) أي أن مدينة الإيوان نُسي ملكها كسرى أنوشروان ودُعيت باسم سلمان لمّا شرّفه الله بالإسلام. وكان الناس يصعدون إليه على جدار من اللبِن متهدم، يمسكون باللبنة بأيديهم ويصعدون على التي تحتها بأقدامهم، واللبنات متينة مستمسكة فلا يُخشى عليهم أن تفلت واحدة أمسكوا بها. فلما بلغتُ ثلث الجدار صاح بي أحد الطلاب من تحت: التفت ياأستاذ حتى نصوّرك. فلما التفتُّ ورأيتهم على الأرض صغاراً كأنهم النمل وشعرت بنفسي معلَّقاً بين السماء والأرض لم أعُد أدري أين أنا. لقد دار رأسي وزاغ بصري، ولا أعرف إلى هذا الساعة كيف وفّق الله فنزلت. وقد وقع مثل ذلك للأستاذ السنهوري باشا لمّا كان في العراق، وقد صعد إلى ظهر الإيوان ولكنه لم يعُد يستطيع النزول، واهتمّت به الحكومة لأنه كان ضيفاً عليها، ولم تكن هذه الطائرات

الوثّابة (الهلكوبتر) فجاؤوا بطائرة عادية وكلّموه بمكبر الصوت أن يتمسك بسلّم من الحبال ينزل إليه منها، وصارت الطيارة تمرّ من فوقه متباطئة ما استطاعت ولكنها لا تزال بالنسبة إليه مسرعة، فيمرّ الحبل به حتى يكاد يلامس وجهه ثم لا يستطيع أن يتمسك به، وأعادوا ذلك مرات كثيرات، حتى تمسّك به مرة وشدّد قبضته من شدة الخوف ورفعوا الحبل فنجا. وقد خبّرني هو رحمه الله أنه لم يصدق بالنجاة، ولمّا رأى نفسه على الأرض أحسّ أنه عاد إلى الحياة بعدما مات (¬1). * * * أعود إلى حديثي. لقد انتهت جولاتنا في البلد ومضى هزيع من الليل ولم يبقَ إلاّ أن نجد مكاناً نبيت فيه، والأستاذ نديم حفظه الله مقيم في بروكسل من أكثر من أربعين سنة، فقال لي: هلمّ إلى فندق نظيف رخيص خالٍ مما تكره أعرف صاحبه وأوقن أنه سيعتني بكم. ومضينا معه، حتى إذا وصل إلى المكان لم يرَ فندقاً وإنما رأى عمارة جديدة عالية، فتعجّب وقال: أين ذهب الفندق؟ ومرّ بنا ناس فسألناهم، فكتموا ضحكهم علينا وقالوا بأن هذه العمارة قائمة من خمس سنين. والأستاذ لا يدري بها! وذهبنا نفتّش عن فندق غيره فما وجدنا غرفة خالية، ولم ندع مكاناً نظنّ أنه يؤوينا إلاّ ذهبنا إليه، قال: هلمّ إلى نُزُل (بانسيون). فطرقنا أبواب عدد منها فلم نلقَ فيها مكاناً، ثم ذهب بنا إلى حيّ ¬

_ (¬1) وقد مرّ بنا هذا الخبر والذي قبله في الحلقة 101 من هذه الذكريات (مجاهد).

يبدو أنه من أحياء المترَفين الأغنياء فقرع باباً، فخرجَت لنا عجوز متكبرة شامخة الأنف، فلما أبصرَتني وأبصرت زوجتي بحجابها أنكرتنا ولوَت وجهها عنا وأبت أن تستقبلنا، فهممت بالرجوع، فقال الأستاذ نديم: انتظر. وعاد إليها قال لها: هؤلاء أصدقاء الدكتور الهوّاري. فرأينا شيئاً أدهشنا؛ تبدّلَت سحنتها وانبسط ما كان منقبضاً من وجهها، فكأننا كنا في يوم من أيام شباط (فبراير) في رعده وبرقه وزمهريره فانجلت السحب وطلعت الشمس وبدا وجه السماء! ورحّبت بنا وأدخلَتنا إلى غرفة عالية واسعة فاخرة الفرش، ولكنها قالت لنا إنها لا تخدم أحداً وإن علينا إذا أردنا شيئاً أن ننزل بأنفسنا إلى المطبخ فنأخذ ما نريد. وأبَت غير ذلك وأبينا عليها ما عرضته علينا. وذهبنا نفتّش عن مكان غيره فلم نجد، فوقف الأستاذ عند كوخ الهاتف في الطريق وأخذ الدليل وجعل يسأل فندقاً بعد فندق فلم يجد فيها كلها مكاناً، وكان مَوْهن من الليل (أي نصف الليل) وكدنا نسقط من التعب، وعرفت عندئذ مبلغ نعمة الله على الإنسان أن يكون له بيت، ينام وهو آمن أن يدخل عليه أحد ينازعه مكانه ويسرق منه نومه ينغّص عليه ليلته. وهنا عرفت مدى ضلال الذين يقولون للمرأة: اخرجي من بيتك حرام أن تبقي سجينة بين أربعة جدران. ويحكم ما أجهلكم! من الذي ضحك عليكم فقال لكم إن البيت سجن وإن من الظلم للمرأة أن تقعد بين أربعة جدران؟ إن السجين مَن لا يجد في مثل هذه الليلة وقد كدّه التعب وهدّه النعاس أربعةَ جدران ينام بينها ويغلق عليه بابها. نحن السجينان أنا وزوجتي، لأننا نتيه في

الشوارع لا نلقى فراشاً نُلقي بأنفسنا عليه، ونحن في بروكسل التي يراها الناس إحدى المدن الكبار. إن كل إنسان يحبّ بلده، ولكن البعيد عنه يزداد حبه إياه وشوقه إليه. فواشوقاه إلى دمشق وإلى بيتي فيها! ما لي ولبروكسل وغير بروكسل؟ إن الذي يسافر إلى أوربا من غير حاجة للدراسة في جامعاتها أو التداوي في مستشفياتها أو لمقصد معيّن له فيها إنما يُتعِب نفسه في غير طائل، حتى الدراسة الجامعية فإن عندنا هنا في المملكة وفي البلاد العربية ما يُغني عن طلبها في غيرها، وكذلك المستشفيات ومَن فيها من الأطباء، اللهمّ إلاّ في بعض التخصصات الجامعية النادرة أو الأطباء العالَميين الكبار، وقليل ما هم. مَن ذهب إليها فليذكر عظمة ماضيه ونموّ حاضره، ولا ينظر إلى ما فيها نظر البدوي الذي يرى الحضَر أول مرة فيدهشه كل ما فيه، بل نظر الغنيّ لمَن هو أغنى منه والعالم لمن هو أعلم. وما زالت الأمم تتفاوت في المزايا تفاوُت الأفراد، ولا يغضّ من قَدْر الإنسان أن يستفيد من مزايا غيره والحكمةُ ضالّة المؤمن. والضالّة مُلكٌ له ندَّتْ عنه وفرّت منه، فهو يلتقطها حيثما وجدها لأنه أحقّ بها فهو صاحبها. مرّت هذه الخواطر كلها في نفسي، ولكن لم تُرِح جسدي ولم تُغنِ عني ولم توصلني إلى فراش أستطيع أن أُلقِي بجنبي عليه. ولبثنا ننتظر، فانتظروا معي إلى الحلقة الآتية. * * *

في منطقة الآردن

-206 - في منطقة الآردن مضى ثلثا الليل ونحن، أنا وزوجتي والأستاذ ظبيان معنا، هائمون على وجوهنا في شوارع بروكسل، وقد خلت إلاّ من أعقاب السابلة وروّاد الليل، من السكارى العائدين بالخزي من الخمّارات والسرّاق والعشّاق، ومن يتيقظ حين ينام الناس كالبوم والحيّات والعقارب وهوام الأرض. ولكل امرئ أمانٍ يتمناها، وقد تجمّعت أمنياتنا كلها في غرفة لها باب ووطاء وغطاء ووسادة نسند رؤوسنا إليها، حيث نأمن أن يدخل غريب علينا. وأدركت عظمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «من أمسى آمناً في سِرْبه مُعافىً في بدنه مالكاً قوتَ يومه فقد حِيزَت له الدنيا». وهذا الذي كنا نطلبه في تلك الساعة من الدنيا كلها. لقد عرفت لماذا اعتدّ (أي عدّ) الله من نعمه على قريش أنه أسكنهم بجوار البيت الآمن وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. وذكرت (والذكريات يجرّ بعضها بعضاً) لمّا مررنا في طريقنا من عمّان إلى بغداد ورأينا ما صنع الإنكليز في الصحراء

في محطات النفط، حين أقاموا فيها بيوتاً مثل بيوتهم في بلادهم فجاءت تشبهها أو تذكّر بها. لذلك كان من معنى كلمة «هوم» عندهم أنها السكن، وقد أخذوا المعنى من العربية، فليس «السّكَن» الدار وحدها التي يسكن الجسم فيها ويستريح بل ما تسكن النفس إليه وتطمئن به، لذلك جعل الله لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها. وكنا قد وصلنا إلى آخر البلد (بروكسل) فقلّت العمارات وكثرت الحدائق، فقعدت على كرسي من كراسيها وقلت: أتمدّد فأسترخي فلم يبقَ لي صبر على النوم، وأنا مسافر منذ الصباح، قطعتُ الطريق من ألمانيا إلى بروكسل ثم طفنا شوارع بروكسل كلها. ويبدو أن أصواتنا علت بالحديث ونحن لا نشعر، وكنا أمام دار واطية لاصقة بالأرض لها نافذة مفتوحة من الحرّ، فبرز منها رجل قد أيقظناه من نومه فأقبل يلومنا، والأستاذ يحاول الاعتذار إليه وتهوين الأمر عليه، وإذا به يقول له: مسيو زابيان؟ وإذا هو يعرفه، وإذا هو يفتح لنا بابه ويخبرنا أن عنده غرفة للإجارة يؤجّرها، وأنه الآن وحده والدار خالية إلاّ منه لأن زوجته في سفر. وكان يظهر عليه أنه كهل طيّب القلب، طلق الوجه حلو اللسان، فدخلنا إلى شبه حديقة تفضي إلى دار صغيرة فتح لنا بابها وأضاءها، فوجدنا غرفة متسعة من البناء القديم عالية السقف، فيها أثاث نظيف ولكنه من الطراز العتيق، ومعها حمّام كبير، وفيها جرس إذا احتجنا إلى شيء قرعناه. فكان ذلك أكثر مما نطلب. وودّعَنا الأستاذ وذهب، وعاد صاحب الدار إلى غرفته

فوجدنا النوم الذي كنا نفتّش عنه ينتظرنا على هذا السرير القديم جداً العريض جداً. فما رمينا بأجسادنا عليه حتى هبط النوم علينا فلم نصحُ إلا ضحى الغد وقد فاتتنا صلاة الفجر، بعد أن سألنا صاحب الدار عن موعدها وكلّفناه أن يوقظنا إليها. فصلّيناها قضاء، ومَن نام عن صلاته كان كفّارتها الإسراع في قضائها. وخرجنا إلى الحديقة فإذ هي عرصة مهمَلة فيها أشجار كبار محمَّلة بالثمار، وأكثرها من أشجار التفاح الذي ندعوه في الشام بالشتوي لأنه كبير الحجم جداً بطيء النضج، لا ينضج إلاّ في وسط الخريف، لذلك كنا نأكله في الشتاء. ووجدناه مُلقى على الأرض لا يلتقطه أحد وما على الأرض منه يملأ صناديق، فسألنا صاحب الدار، فخبّرَنا أن نفقات جمعه وحمله ونقله لا يفي بها ثمنه الذي يُباع به، فجرّبنا أن نذوقه فإذا هو حامض لم يبلغ حدّ النضج. وسألناه عن الطعام فقال: اطلبوا ما تشتهون أشترِه لكم أو أطبخه أنا. فطلبنا منه فطوراً فأعدّ لنا الفطور من البيض المقليّ والحليب المغليّ والعسل الشهيّ والخبز الناضج الطريّ، فأكلنا وشربنا الشاي. وجاءنا الأستاذ نديم وقد استرحنا وشبعنا. وكذلك الدنيا: يوم لك ويوم عليك، ويوم يسرّ ويوم يسوء، وما عاش فيها أحد بالسرور الدائم ولا بالألم المستمرّ. ولقد أحصى الناصر (هل تعرفونه؟ عبد الرحمن الناصر باني «الزهراء»، الذي كان أعظمَ ملوك أوربا في عصره، الذي أنشأ في الأندلس خلافة ثانية مع خلافة بغداد وتَسمّى بأمير المؤمنين، وما ينبغي أن يتسمّى بإمارة المؤمنين إلاّ واحد لأن المسلمين جسد واحد، فهل رأيتم جسداً

له رأسان؟ إن رأيتموه كان من عجائب المخلوقات). الناصر هذا أحصى قبل موته الأيام التي مرّت عليه صفواً بلا عكر فوجدها ستّة عشر يوماً فقط! هذه هي الدنيا: خُلِقَتْ على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها ... صَفْواً مِنَ الأقذارِ والأكدارِ وجاءت زوجتي ترتّب السرير فوجدت سمّاعة تحت الوسادة متّصلة بأسلاك، تتبعناها فإذا هي مربوطة بجهاز تحت السرير ما عرفنا ما هو، فحسبناها آلة تجسُّس علينا! فلما حضر الأستاذ نديم وأطلعناه عليها وسألناه عنها ضحك من جهلنا وقال: إنها تنقل إلينا موسيقى ناعمة لنسمعها فننام عليها. وقال لنا: إلى أين تحبون أن آخذكم؟ قلت: أنت المقيم في البلد، تعرف متفرَّجاته ومتنزَّهاته ومواطن الجمال فيها وما يستحقّ الزيارة منها، ولكننا قرأنا في التاريخ أن معركة كبيرة بين الألمان والحلفاء كانت في أوائل الحرب الأولى سنة 1914 في منطقة الآرْدِنْ وتكرّرت سنة 1940، وكان مثلها في مكان قريب في حرب السبعين (1870)، فأين هذه الآردن وما هو بعدها عنا؟ وهل ينفعنا أو يمتعنا أن نراها؟ قال: هلمّ إليها فإنها قريبة، نركب القطار إلى نامور (وهي إحدى المدن المعروفة في بلجيكا) ثم نركب إلى قرية دينان القريبة من المكان الذي كانت فيه المعركتان. قلت: على اسم الله. * * * وكنت أحسب أن الله لم يخلق وادياً أحلى من وادي الرّبوة والشاذِرْوان في الشام، فلما رأيت هذا الوادي الذي يجري فيه نهر

الموز أيقنت أن قدرة الله أكبر من أن تحبس الجمال كله بين جبلَي الربوة. وأنت حين ترى المشهد من مشاهد الطبيعة تظن أنه أجملها وأنه لم يُخلَق مثله، فإن رأيت غيره بدّلت رأيك فيه. انظر إلى من يسمّونهن ملكات الجمال: يختارون من كل بلدة أجمل مَن يجدون من نسائها. وربما أساؤوا الاختيار، وربما كان في البيوت أجمل منها جمالاً وأشدّ فتنة وأخفّ روحاً وأقرب إلى قلب مَن يراها، ولكنهم جعلوا للجمال مقاييس مادية حسبوا أنها هي ميزانه، وما دروا أن الجمال لا يُوزَن ولا يُقاس إلاّ بمقياس أولي الأذواق من الناس. فإذا اجتمعن لم تعُد تدري مَن هي أجمل منهن. وليس الجمال للنساء وحدهن؛ فالشيخ المشرق الطلعة النوراني الوجه الأبيض اللحية جميل، والعجوز الطيبة القلب الباسمة الفم الحسنة الخلق جميلة، والرياضي القوي البنية المشدود العضل العريض المنكبين جميل. وكذلك الحال في مشاهد الكون ومجالي الطبيعة، فمنظر تراه تحسّ أنه كالفتاة الحلوة، ومنظر كالشيخ الذي له براءة الطفولة، ومنظر الغانية المتبرّجة التي تستهوي النفوس ولا تروق القلوب. وما ذكرت مسابقات الجمال لنصنع مثلها ولا لنقتدي بها، فنحن لا ننظر إلى امرأة طمثها قبلَنا غيرنا، ولا نجعل النساء سلعة معروضة وعلامة نضعها على علب المتاع لنروّجها في الأسواق، ولكن جمال النساء عندنا لأزواجهن. رأيت هذا الوادي قد جمع الجمالَ من أطرافه؛ نهر كبير يجري فيه، وصخور مُخْضَرّة تقوم على جانبَيه، وقُرى صغيرة

وأبنية أثرية تعلو بعضَ جباله، ولكن وادينا على ذلك كله أحبّ إليّ، ولو عرضوا عليّ المبادلة لَما بدّلت به. هل تُعطي ابنك لغيرك وتأخذ ابنَ غيرك ولو كان أكمل الشباب وأجملهم؟ لقد خطرَت هذه الحماقة يوماً على أذهان قريش حين عرضوا على أبي طالب أن يُعطيهم محمداً عليه الصلاة والسلام ويدفعوا إليه من شاء من فتيانهم، فضحك منهم وقال لهم: أعطيكم ابني لتقتلوه وآخذ ابنكم لأربيه لكم؟ ولا يزال التاريخ يضحك من هذه الجَهالة إلى الآن. إن الجمال شيء عجيب، إنه من أسرار خلق الله، إن وجوه الناس تتشابه جميعاً في وضع عيونها وحواجبها وأفواهها وآنافها، وما ثَمّ وجه يطابق تماماً وجهاً آخر. والجمال أمر يُدرَك ولا يُعرَف ويُحَسّ ولكن لا يُقاس. وكذلك القول في مناظر الطبيعة. كنت بالأمس في ترفورين، وهي منا على مرمى حجر، فرأيت جمال الخضرة والظلّ والبِرَك الصافية والنسيم العليل، فقلت: لقد ضمّ هذا المكان الجمال كله! فلما نزلت هذا الوادي رأيته أجمل. وأنا أُقِرّ مرغَماً (وإن كان هذا الإقرار صعباً على نفسي) أن وادي الربوة (الشاذروان) الذي طالما ملأتُ الأسماعَ وسوّدتُ الصحفَ بوصف جماله لا يكاد يباري وادي الموز هذا ولا يقف أمامه، ولا يواجهه بعينه ولا يستطيع أن ينظر إليه. * * * نزلنا من القطار في دينان. وهي في وادٍ يمرّ النهرُ، نهر الموز، فيه ويقوم الجبل على جانبَيه. وما تبلغ أن تُعَدّ قرية؛

إنها مجموعة أبنية ما تصل إلى الثلاثين، لكن فيها كل ما يُحتاج إليه: فندق صغير، ودكاكين فيها كل ما تطلبه من مثلها من طعام وشراب، ومتاع مما لا يُستغنى عنه هناك من المتاع، وفيها من التحف ما له بالبلدة صلة فهي تدلّ عليها وتكون ذكرى لك من زيارتك إياها، وفيها كنيسة فخمة ما دخلتُها ولكن ظاهرها يدلّ على حسن بنائها، تقوم عند أقدام الجبل وتكاد تصل من علوّها إلى صدره. وفوق الجبل بناء ضخم لست أدري ما هو، ركبنا المصعد فصعد بنا إليه فرأينا الوادي كله، أي أننا رأينا بعضاً منه، وهو وادٍ طويل يمتدّ ما امتدّ نهر الموز ويكاد يصل إلى آخر القسم البلجيكي من الآردن. والآرْدِنْ منطقة واسعة أكثرها مع بلجيكا وأقلها مع فرنسا، لمّا نظرت من أعلى أحسست كأني أنظر إلى وادي الربوة في دمشق من عند قبة السَّيّار فأرى جزع الوادي ومنعطفه. وما كنت أراه وأنا على الأرض محجوباً عني انكشف الآن لي، فكأنه المستقبل الذي لا يصل بصرك إليه ولا يحيط علمك به، تراه من فوق فكأن الماضي والحاضر والمستقبل قد اجتمعت لك، فعلمتُ أن ذلك كله نِسبيّ؛ كمن يأخذ جرائد الأسبوع الماضي ليقرأها دفعة واحدة، فما كان حاضراً لقارئها في يومها صار الآن ماضياً عند من يراها كلها، وما كان من حديث الغد في العدد التالي صار عنده الآن من خبر الحاضر. هل ترونني تفلسفت وأغربت وجئت بشيء لا يُفهَم، كما يفعل أدعياء الشعر الجديد أو شعر الحداثة، أي شعر الحدَث الذي يستوجب الوضوء إن كان صغيراً والغُسْل إن كان حَدَثاً أكبر!

على أن من شعر الحداثة ما لا تذهب بأوضاره ولا تطهّر صاحبَه منه شلالات نياغارا لو وقف تحتها واغتسل بها. ودعوني أبالغ في التفلسف فأسأل: ما المستقبل؟ وأين أدركه وأنا إن وصلت إليه صار حاضراً وذهبت أفتّش عن مستقبل جديد أجري وراءه؟ وهذا المعنى يشغل من نفسي مكاناً لذلك ما أفتأ أعود إليه وأتكلم فيه. * * * سألت الأستاذ (وقد قلت لكم إنه أكبر مني سناً، وأنا أنسى ما كنت أريد أن أقوله فما بالكم به؟ وأرجو ألاّ تخبروه أني اغتبته، فما أعلنت غيبته ولكن كتبتها في جريدة تصل إلى كل مكان). سألته: هل تعرف دينان؟ قال: كيف لا أعرفها وقد قضيت شهر العسل فيها؟ ولم يقُل إن ذلك كان قبل أن يُقتَل أرشيدوق النمسا فتقوم الحرب العامّة الأولى. نزلنا من القطار، ولم نقصد شيئاً في دينان مما يقصده السياح ليروه لأن الأستاذ حفظه الله كان قد نسيه، فلم يكن أمامنا إلاّ أن ننتظر عودة القطار. مررنا على الجسر فوق نهر الموز عشرين مرة حتى عجب منا الناس إذ يرون امرأة محجبة، وما عرفوا من قبلُ محجبات إلاّ الراهبات فحسبوها راهبة! والراهبات ربما كُنّ عند بعض الناس غيرَ محبوبات ولكنهن غير مَهينات ولا مزدرَيات، ودينان منعزلة لا يكاد يصل إليها إلاّ قليل من الناس فلا يألف أهلها رؤية الغرباء.

ومن قال لكم إن المرأة المسلمة إن بقيت في أوربا على حجابها سخروا منها أو آذوها فلا تصدّقوه، فما يسخر ثَمّة أحدٌ من أحد. تلك آداب تعلّموها من كتاب الإسلام القرآن ونسي بعضَها بعضُ أهل الإسلام. ولكني أنصح مَن تذهب إلى تلك الديار أن تلبس قريباً مما يلبس النساء هناك حتى لا تنبّههم إليها فتقع الأنظار عليها، بشرط أن لا تكشف إلاّ وجهها ولا تكشف ما أمر الله بستره من جسدها، ولا يكون لباسها ضيقاً يحكي جسدَها ولا رقيقاً يشفّ عنه ولا غريباً يلفت الأنظار. وإن بقيت على عباءتها ولم تفارق زيها في بلدها لم يضرّها ذلك في نفسها بل سبّب الخسارة لها في مالها، لأنهم صاروا يطمعون فينا ويظنّون أن كل قادم من أرض النفط (الخليج) يملك بئر نفط فيزيدون الأسعار علينا. حتى الإنكليز الذين كانت تُضرَب بأخلاقهم الأمثال (حتى ألّف حافظ عفيفي باشا كتابه «الإنكليز في بلادهم») أخذوا هذه الأخلاق وصاروا -كما تسمعون- لا يطمعون إلاّ بالمال، استغلّوا له كل شيء حتى العلم، حتى الطب. فانتبهوا ياأيها الناس. إقليم الآرْدِن من أجمل الأقاليم، بعضه مع فرنسا وأكثره مع بلجيكا، وهو الباب الذي يدخل الغزاة منه عليهما؛ في حرب السبعين أيام بسمارك ونابليون الثالث، وفي الحرب الأولى سنة 1914 والثانية سنة 1940. أنشأ الفرنسيون خطّ ماجينو الذي قالوا إنه لا يُقتحَم ولا يدخل منه عدو مهما قوي، فكان كقبر جحا في قونية الذي زعموا أنه مؤيَّد بعوارض الحديد وأن عليه من الأقفال ما يزن القناطير فهو لا يُفتح ولا يُكسر، ولكن ليس من حوله جدران فمن شاء الدخول دار فولج المكان. وكذلك فعل الألمان،

دخلوا من الآردن حيث الطريق مفتوح إلى باريس، ولو بقينا في القطار ولم ننزل في دينان لصرنا فيها بعد قليل. * * * والكلام عن بروكسل طويل، وهي عاصمة السوق الأوربية المشتركة، أي أنها شبه عاصمة لأوربا المتحدة، لتوسُّط موضعها واتفاقهم على اختيارها. وساحتُها الكبرى من أجمل ما رأيت من مراكز المدن (سانتر)، ومن الساحات هناك ما هو مفروش بالسجّاد، ولكنها ليست سجّاداً من الصوف ولا من الحرير، ولم ينسجها منوال ولا أكفّ النساء ولا الرجال، بل هي بساط من الورد والزهر، ومن حولها الشوارع تطيف بها. وفي طرف الساحة الكبرى ببروكسل بناء عظيم في زاويته منارة مسجد لا تختلف عن أكثر المنارات، ذلك هو بناء البلدية. ومِن خبره الذي حدّثني به ولدي الدكتور عدنان الهوّاري أن المهندس الذي أقامه لحظ بعد تمامه ميلاً في محوره، فاشتدّ ذلك عليه وكبر لديه أن يُنسَب إليه، فصعد إلى أعلاه وألقى بنفسه فمات! وفي الناس عاقل ومجنون، ولله في خلقه شؤون. وفي الساحة متحف يبيّن تطور بروكسل عبر التاريخ، كالذي يبيّن حال الرياض بين يومها وأمسها والذي يتنقل في البلدان فيلقى الإعجاب في كل مكان. وقد طالما تمنيت واقترحت على أمين العاصمة المقدسة الأستاذ فؤاد، ابن أخي الأستاذ محمد عمر توفيق الوزير الكاتب الأديب، أن يُقيم معرضاً دائماً يمثّل الكعبة والحرم في الجاهلية وفي صدر الإسلام وما زاد فيه الخلفاء على

مدى التاريخ، حتى جاءت الزيادة السعودية ففضلتها كلها وزادت أضعافاً عليها، وآخرها فرش السطح وإعداده للصلاة وإقامة سلّم يصعد هو بالناس بدلاً من أن يصعد الناس عليه. فلو أنهم صنعوا مثل ذلك بمكة المكرمة وجدّة ووضعوه في صورة مجسَّمة ليطّلع عليها مَن لم يعرف كيف كانت هذه البلاد قبل خمسين سنة (كما عرفتها أنا) وكيف صارت الآن. * * * وجدت في بروكسل عجباً؛ عادت بي الأيام إلى ما خلّفت ورائي من حياتي فرأيت فيها ما كان في دمشق وفقدناه من أكثر من ربع قرن، رأيت فيها الترام. والترام قديم في دمشق، جاء به وبالكهرباء أحدُ الولاة المصلحين من ولاة العثمانيين وأظنه ناظم باشا. عمره (أي الترام) من عمري، كان هدفَ كل مظاهرة وطنية، فكان أول ما تقصد إليه عربات الترام تحرقها، لا بغضاً بالحضارة التي تمثّلها ولا لنستبدل بها ركوب الدوابّ وعربات الخيل، بل لأن شركة الكهرباء التي تسيّره بلجيكية. وطالما قاطعناه الأيام والشهور وأعرضنا عنه، رفضاً للاستعمار ولأن بلجيكا التي تملكه هي الأخت الصغرى لفرنسا التي عدَت على بلادنا وحكمتنا بغير إرادة منا وانتدبتنا لتمدّننا، فكان انتدابها قتلاً لرجالنا وتدميراً لمدننا، تدمير المنازل مرتين بالمدافع من القلاع التي نصبوها على جبالنا موجّهة إلينا لا إلى عدوّ بلدنا، وحرقاً للحارات وللأحياء، حتى إن أجمل أحياء دمشق بقيت خرائب أكثر من ربع قرن، ولا يزال اسمها على ألسنة

الناس إلى اليوم، الذي لا يعرفونها بغيره هو «الحريقة». أقول إن الترام الذي قلعنا خطوطه وأزحنا عرباته وجدته في بروكسل بذاته، فذكّرني الماضي وأعاد لي ما سلف من عمري. فنحن لهذا لا نحبّ بلجيكا، ولكن الله علّمنا أن لا يمنعنا ذلك من قولة الحقّ فقال لنا: {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على ألاّ تَعْدِلوا، اعدِلوا}، ومنَ العدل أن أذكر مزيّة لبلجيكا تُذكر وتُشكر، هي أنها أول دولة غربية اعترفت بالإسلام ديناً. وهي تبعث فتسأل أولياء التلاميذ أول كل سنة مدرسيّة عن الدين الذي يختارونه لأولادهم، فمن كان من أبناء المسلمين جعلت لهم هم اختيار مدرّس يدرّس لهم دينهم، وأعطته الحكومة مرتَّبه وجعلت له كل حقّ هو لسائر المدرّسين، وقد جرى العمل على أن يختار المدرسين المركزُ الإسلامي. * * *

خواطر في الحياة والموت، في طرق هولندا

-207 - خواطر في الحياة والموت، في طرق هولندا كنت قاعداً أجمع ذهني لأكتب هذه الحلقة فوصلَت الجريدة وفيها هذا النعي في إطار ظاهر بخطّ واضح: "إنا لله وإنا إليه راجعون، إن رابطة الأدب الإسلامي لَتنعي (والصواب «تنعى» بفتح العين) إلى أعضائها وإلى محبّي الأدب الإسلامي والكلمة الطيبة الدكتورَ عبد الرحمن رأفت الباشا نائب رئيس الرابطة ... "، فسقطَت الجريدة من يدي ولم أستطع أن أُتِمّ قراءة الخبر، وفركت عينَيّ وقلت: لعلّ بصري يكذبني ويُريني ما لا يرى. وعدت فأعدت قراءة الخبر وقلت: لعلّه من تشابه الأسماء، أو لعلها من كاذبات الشائعات. ولكن الذي ينعاه هو الرابطة ورئيسها الأخ الحبيب الداعية الأديب أبو الحسن علي الحسني النَّدْوي، فهل يمكن أن يخدع عليٌّ عليّاً وأن يكون الخبر مكذوباً؟ وتصورت الأستاذ عبد الرحمن رأفت الباشا وقد امتلأ أديمُه بالحياة وفاضت نفسه بالنشاط، وتخيّلته يوم كان بين تلاميذي وكنت أقول له على مشهد ومسمع من رفاقه: إنك ياعبد الرحمن

أديب وسيكون لك شأن. وقد كان، فكتب وخطب وعلّم، وكان المفتّش العامّ للغة العربية في الشام يوم كان رَصيفه وسَمِيّه الأستاذ عبد الرحمن الباني مفتّش العلوم الدينية، فصنعا (صنع الله لهما) للدين وللعربية ما يبقى في الناس أثره وعند الله ثوابه. وأنا من يوم بدأت أكتب عن هذه الرحلة لم يفارق ذكر الموت خاطري، ولكني أحاول أن أتناسى وأن أُبعِد قلمي عن مركز الألم؛ كالذي تدخل تحت جلده شظية من الخشب فتتعفن وينتفخ الجلد ويتورم المكان، ولا يشفيه إلاّ أن يضغط بإصبعه على مكانها ليُخرِجها ثم ينظّف الجلد من أثرها، ولكن مسّ الموضع يؤلمه، فيصرف إصبعه عنه ويدور من حوله من حيث يشعر أو لا يشعر. وكذلك كانت حالي، وإن كان جرح قلبي بفقد ابنتي الذي ذكّرني به هذا الخبرُ لا يندمل ولا يبرأ ولا تذهب آلامه. ولكن ما لي؟ وكيف أتكلم كما يتكلم الجاهلون الذين لا يؤمنون؟ إني لأرجع إلى نفسي فأسألها أقول لها: ويحك، أئن فقدتُ ابنتي فهل فقدت -لا قدّر الله- إيماني؟ ولو كانت البنت في غيبة لزيارة أختها أو عمّتها هل كنت أبكي لبعدها وأجزع من ذكرها؟ فما لي آمن عليها عند أختها وأخشى وهي عند ربها؟ وهل يُفقَد من يموت؟ لقد قلت من قديم مقالة قرأها الناس مني وسمعوها: إن الجنين في بطن أمه لو أمكن أن يسمعك وأن يفهم عنك ويكلمك وسألته: ما الدنيا؟ لقال لك: إن الدنيا هذه الأحشاء التي أعيش فيها وهذه الظلمة التي أتقلب خلالها. فإن قلت له: ها هنا دنيا البيتُ الواحد منها أوسع من دنياك هذه كلها بمئة ألف ضعف، وإن فيها شمساً وقمراً، وإن فيها براً وبحراً،

وشتاءً وصيفاً، هل كان يستطيع أن يفهم عنك أو يتصور ما تقول؟ ولو كانا توأمين في بطن واحد فوُلد أحدهما قبل صاحبه وأمكن أن تسأله عنه، فبماذا يجيب سؤالك؟ ألا يقول لك إنه كان فبان وخلا منه المكان، إنه مات ودُفن تحت في الأعماق؟ فكيف رأى الولادة موتاً، وكيف لا نرى نحن الحقيقة فنعلم أن الموت ولادة جديدة؟ حياة الإنسان، كل إنسان، مراحل أربعة كل واحدة مما قبلها كالتي بعدها بالنسبة إليها، فالموت الذي نفرّ منه ونحاول أن نبتعد عنه ما هو إلاّ نقلة من مرحلة إلى التي بعدها. مرحلة حياتك وأنت جنين في بطن أمك، وحياتك في هذه الدنيا، وحياة البرزخ بينها وبين الآخرة، والحياة الدائمة الباقية وهي حياة الآخرة. إن الموت في حقيقته ولادة وانتقال إلى مرحلة أرحب وأوسع، وكل ولادة فيها ألم. فلماذا آلم لموت ابنتي ولا أفرح أن قضت شهيداً (ولا تقُل شهيدة) بيد مجرم آثم، وأنها موعودة بما ادّخره الله للشهداء؟ والشهداء إن كانوا عندنا أمواتاً فإنهم عند ربهم أحياء يُرزَقون، أحياء ولكن لا تشعرون بحياتهم. فلماذا أتحاشى ذكرها، وإن ذُكرت فاضت مدامعي وشقّ الحزن قلبي؟ أين إيماني؟ اللهمّ إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهمّ ارحمها وارحم عبد الرحمن الباشا الذي ذكّرني موتُه بها والذي كان يوماً بين تلاميذي، فلعلّ كلمة مما كنت أقول للتلاميذ كانت عاملاً صغيراً، صغيراً جداً، في توجيهه الوجهة التي ارتضاها الله له فيكون لي شيء من ثوابها.

إني من ستين سنة أعلّم وأكتب وأخطب وأحدّث، اللهمّ لا أدّعي أن ذلك كله كان خالصاً لوجهك. وليته كان، ولكني بشر أطلب ما يطلبه البشر من المال الحلال، ويسرّني المديح، وتستهويني متع الدنيا، فهل يضيع لذلك جهدي كله؟ هل أخرج فارغ اليدين لم أنَل شيئاً من الثواب؟ إني لأمتحن نفسي أسائلها كل يوم: هل كانت الدنيا وحدها همّي؟ لو عُرض عليّ أضعاف ما أخذه الآن على مقالاتي وكتبي وأحاديثي على أن أجعلها كتباً ومقالات وأحاديث في الدعوة إلى الكفر، هل كنت أرضى؟ فليست إذن كلها للدنيا، كما أنها ليست مبرَّأة من مطالب الدنيا. قلت لكم إني أفكّر في الموت وأعرف أني على عتباته. إنه يمكن أن أعيش عشرين سنة أخرى كما عاش بعض مشايخي وكما يعيش اليوم ناس من معارفي، ولكن هل ينجيني ذلك من الموت؟ فما الذي أعددته للقاء ربي؟ اللهمّ إني ما أعددت إلاّ توحيداً خالصاً خالياً من الشرك، وأني ما عبدت غيرك ولا وجّهت شيئاً مما يُعَدّ عبادة إلى سواك، وأنني أرجو مغفرتك وأخشى عواقب ذنبي، فاللهمّ ارحمني واغفر لي. سيقول قائلون: هذه لم تعُد رحلة فيها خبر ما صنعت وصورة عمّا رأيت وما سمعت، ولكنها شتيت من الأفكار والآراء. والجواب قدّمته في أول حلقة من هذه الذكريات، قلت إني لست كالجندي المسافر في مهمّة عسكرية لا يهتمّ إلاّ بها ولا ينصرف إلاّ إليها، بل كالسائح في الأرض؛ يبصر المشهد فيقف عليه ليراه، ويسمع المحاضرة فيتريّث مكانه ليستكمل سماعها، ويستطيب البلد فيمكث فيه أياماً. فمَن قبلني على هذا من القراء فأهلاً به

وسهلاً، وثقوا أن هذه الاستطرادات ربما كانت أنفع لي ولكم من مجرد سرد الوقائع. * * * أعود الآن إلى حديث الرحلة، أعود إلى آخن. وآخن على حدود دول ثلاث، تنتقل من واحدة إلى أخرى في ربع ساعة فقط تمشيها على رجليك، فإن توجهت تلقاء بلجيكا كانت أول مدينة كبيرة تلقاك هي لييج، وإن أممت هولندا مررت بمدينة أندهوف، ثم ببلدة قد تتساءلون إن سمعتم اسمها: ما الذي نقلها إلى هولندا ونحن نعرفها في نَجْد هنا عندنا؟ وأين هولندا من نجد؟ هي بريدة (Breda)! ثم يتفرع الطريق فرعين، الأيمن إلى أوتراخت ثم أمستردام، والأيسر إلى روتردام، ثم إلى لاهاي التي يدعونها هم دينهاغ (Denhaag). وقد ذهبنا إلى هولندا مرتين اثنتين، ولا أستطيع أن أقول إنني زرتها ولكن مشيت في طرقها ودخلت مدنها وألقيت نظرة شاملة عليها، فإن تكلمت عنها فإنما أصف ما رأيت، وما رأيت منها إلاّ أقل من القليل. وجدتها كالبندقية (فينيسيا) في إيطاليا التي ما رأيتها، ولكن رأيت بندقية العرب وهي البصرة. وأمستردام مثلهما في كثرة أنهارها أو أقنيتها، فشارع وقناة: إن شئت ركبت السيارة فيه أو الزورق أو السفينة فيها. ورأيت محطتها الفخمة، وكانوا يعتنون بعمارة المحطات أيام عزّ القطارات. ومحطة الحجاز في دمشق نموذج رائع في حسن العمران

وجمال البنيان، كان يبدأ منها القطار الذي ينتهي في محطة العَنْبرية في المدينة المنورة، وقد أُنشئت على غرارها ولكنها ليست مثلها ولم تبلغ في الجمال مبلغها. هذا الخط الذي كان منقبة للسلطان عبد الحميد رحمه الله، والذي بُني بأموال المسلمين وأريقت في بنائه سَواقٍ من دماء العمال المسلمين، الذين كانوا يعملون في حرّ الصحراء ووهج الشمس على الرمال المتلظية التي يُشوى عليها اللحم. وكان وقفاً إسلامياً، عاش عشر سنين ثم خربته أيدي المسلمين مع أيدي جماعة لورانس، فانطبق علينا ما قال الله عن عدوّنا: {يُخْرِبونَ بُيوتَهم بأيديهِمْ وأيدي المؤمنينَ، فاعتبِروا ياأُولي الأبصارِ}. فهل اعتبرنا؟ هل عرفنا بعد كل ما مرّ بنا صديقَنا من عدوّنا؟ وكنت أظن أن أمستردام على البحر، فخبّرونا أنه بعيد عنها وأننا إن أردنا ذهبنا إلى فولندام. فذهبنا إليها ومررنا بمزارع وقُرى يشمّ منها القادم عليها مثل رائحة الإصطبل من كثرة البقر، أعني البقر حقيقة لا البقر على صورة البشر. وفولندام مدينة صغيرة جميلة، تراها كأنها لوحة يملؤها اللون الأحمر ومن حولها إطار كبير لونه أزرق، الحمرة من سقوف القرميد التي تعلو بيوتَها الصغيرة المبنية على الطراز القديم، والزرقة من البحر المحيط بها. ورأيت فيها النساء بثيابهن الوطنية وهُنّ بالحجاب الكامل، الثوب الطويل الذي يصل إلى وجه القدم والكم الطويل الذي يبلغ الرسغ فلا يَظهر إلاّ الكفان، وعلى الرأس قلنسوة خاصّة لم أرَها في غير تلك البلاد تستر الشعر كله، وفي أرجلهن أحذية من الخشب كأنها القباقيب. ولم نرَ من

المدينة إلاّ جانباً منها، فلو ذهبتُ أصفها لم يكن وصفي لها إلاّ كوصف الليمونة التي اعتصرتها وأخذت ماءها، كالوردة التي جفّت ففقدت حياتها وأضاعت عطرها؛ إن وصفي لا يزيد على وصف يوليوس قيصر لمّا عاد من حروبه في بلاد الغال (فرنسا) فسألوه في مجلس الشيوخ أن يحدّثهم عما كان، فقال لهم: ذهبنا، فحاربنا، فانتصرنا، فرجعنا. والعرب تقول: البلاغة الإيجاز. ولكن من الإيجاز ما يمسخ المعنى فلا يبقى منه إلاّ كقشرة الليمونة التي فقدت رحيقها والوردة التي أضاعت عطرها، ومن البلاغة ما يسمو إلى أعلى الدرجات ويبلغ حد الإعجاز. * * * ورجعنا إلى أمستردام فجُلنا فيها، ومررنا بكثير من المدن لم نقف إلاّ قليلاً عند لاهاي، وكنا قريبين من مسابحها، فما نزلنا من السيارة ولكن رأينا منها بعض ما فيها، والذي رأيناه لا يزيد عمّا كنا نراه في بيروت، بل ربما كان الذي في بيروت أشدّ نكراً. وقالوا لنا إن هاهنا (وأشاروا إلى جزء من السِّيف، أي الشاطئ) مسبحاً للعراة ينزلون فيه كما أنزلَتهم القابلات من بطون أمهاتهم، الرجال والنساء سواء. فما عجبت من ذلك، لأنها لو أُنشئت مسابح للخيل والبغال والحمير لما نزلت إلاّ هكذا. هل رأيتم أتاناً (حمارة) تريد أن تخوض النهر فلبست تُبّاناً (هو المايوه) أو ارتدت ثياباً؟ على أن بعض الثياب أشدّ إغراء من نبذها كلها. ولقد قرأت مرة نكتة في مجلة مصرية عن طالبَين في مدرسة الفنون الجميلة

(التي زعم الراوي أنهم يأتون إليها بإحدى العاهرات فتقف أمام الطلاب بلا ثياب، بأوضاع تذهب منهم بالألباب وتطير من رؤوسهم الصواب، ليصوّروها كما قالوا)، قالت المجلة إن طالباً نبّه رفيقه فقال له: أما ترى جمالها؟ هل أبصرت مثل هذه الفتنة وهذا البهاء؟ فقال له صاحبه: كيف لو أبصرتها بثيابها؟ ذلك أن الثوب الذي يكشف عن بعض المستور يُطلِق خيالك لتتصور ما لم يكشفه، فتراه أجمل بعشر مرات مما هو في الحقيقة والواقع. ولقد قرأت من قديم كتاباً عن الأزياء والموضات كيف تتبدّل، فتغطي مرة ما كان مكشوفاً وتكشف ما كان مُغطّى. وسرد مؤلّفه ما كان من ذلك في فرنسا في مئة وخمسين سنة، فوصل إلى سرّ المهنة فأذاعه. وإذا خلاصته أن الرجل لا يستطيع أن يستوعب جمال جسد المرأة كله بنظرة واحدة، فهم يكشفون له عن شيء منه ليقع نظره عليه وينصرف انتباهه إليه: عن أعلى الصدر مثلاً، فإذا ألفه وملّ منه زادوا في الكشف فوسّعوا الجيب (والجيب في اللغة فتحة الثوب عند العنق) حتى يصلوا إلى الحد الذي لا يستطيعون تجاوزه، فيجعلوا الموضة الجديدة ستر الصدر وكشف شيء من الساق، ولا يزالون يقصّرون الثوب حتى جعلوه ثوباً صغيراً (ميني جوب) يكشف نصف الفخذين، ثم زادوه قصراً فجعلوه يصل إلى أعلاهما فلا يبقي على الشيء منهما، فكان (الميكروجوب)، فلما أحسّوا من الناس الاكتفاء والشبع بنظر السيقان عادوا إلى الصدر. وكذلك يلعبون بالنساء، والنساء يرتضين أن يَكُنّ لعبة لهم. ونحن نقلّدهم ونتبعهم فنُضيع في اتباعهم وتقليدهم خلائقنا

وسلائقنا وأموالنا وأعراضنا، ونخالف في ذلك كله شرع ربنا. ومن عجائب ما وجدناه عندهم أني خرجت إلى الشرفة مرة بالمَنامة (أي البيجامة) فلحق بي حفيداي الصغيران البنت وأخوها يقولان: لا ياجدّو، لا عيب. قلت: وما العيب؟ قالوا: الخروج بالبيجامة. فرجعت لأن على العاقل إذا نزل بلداً أن يعتبر أعرافه ما لم يكن فيها مخالفة لدينه، وعلى المؤمن أن يجبّ الغيبة عن نفسه وألاّ يفتح للناس باب الكلام عنه. وليس هذا هو العجيب، ولكن العجيب أنك إن نزعت المنامة وخرجت بالتّبان (أي المايوه) لم يكن عيباً، مع أن التبان لا يستر إلا السَّوأة الكبرى، وهو من صغره كبعض سراويلات النساء التي يوضع الواحد منها في علبة كبريت. فالعورة إذن هي المَنامة (البيجامة) لا ما فيها! * * * وكنا نجول في هولندا في الطرق الدولية (الأوتوبان أو الأوتوروت أو الأوتستراد) وبنتي رحمها الله تمسك بالخريطة وهي في صدر السيارة، وأنا إلى جنب أخينا الشابّ الذي يسوقها لنا، ترشدني إلى المسلك فأنبّهه إليه، وأنظر في إشارات المرور، وهي كثيرة على الطريق، ولست أعرض لها بالوصف فقد صار عندنا بحمد الله مثلها تماماً في شوارع المملكة التي تصل بين المدن، بين جدة ومكة وبين مكة والمدينة، لا يختلف ما عندنا عما رأيناه عندهم. وهذه الطرق من اختراع هتلر أو قوم هتلر أيام الحرب الثانية، تطيف بالمدن ولا تدخلها، فتسهّل السفر وتختصر الزمان.

ولقد غفلَت مرة عن إشارة إلى طريق فرعي علينا أن نسلكه فاضطُررنا أن نمشي بعده سبعين كيلاً (أي كيلومتراً) لندرك فتحة أخرى. وللطريق ثلاثة مسارب أو أربعة أحياناً، كما هي الحال عندنا في المملكة، فمن كان مبطئاً مشى في أيمنها ومن كان مسرعاً مشي في أيسرها، وقد وقع لنا مرة أن الشاب الذي يسوق سيارتنا أضاع الطريق فوقف ليسأل -على زعمه- أحد السوّاقين الذين يمرّون به، فأقام علينا القيامة وجاءتنا سيارات الشرطة مسرعة، وأخذوه يبدؤون التحقيق معه لأنه بوقوفه قطع السير وأخلّ به، وكاد يسبّب للسالكين المهالك. وهولندا مشهورة بالبقر السمين وبنوع من الورد، الزنبق (تيولب) اختُصّت به، وبطواحين الهواء. أمّا البقر فقد رأيناه كثيراً، ومن لم يرَه في هولندا استطاع أن يراه هنا لأن وزارة الزراعة استقدمت هذا النوع من البقر الهولندي فوضعته تحت أيدي الفلاحين، فأحسنوا رعايته والعناية به. ولا تعجبوا فإن المملكة التي هي صحراء غير ذات زرع صارت تكتفي من القمح بما تُنبته أرضها، بل تصدّره إلى غيرها، وآخر ما تتحدث به الصحف والإذاعات إهداؤها هذا المقدار العظيم منه إلى أختها مصر. والبلاد التي كانت تصدّر القمح إلى روما وغيرها مما هو أدنى أو أبعد منها جاء عليها زمان صارت تستورده، ذلك لمّا هبّت عليها هذه الرياح العاتية المهلكة المدمّرة، رياح الشيوعية، وإن غيّرَت زيّها وبدّلَت ثوبها واسمها فتَسمّت بالاشتراكية. وأمّا الورد فقد جئنا هولندا في غير موعده فلم نرَه، وأما طواحين الهواء التي كانت شعار هولندا فقد قلّت جداً ولم يعُد

يُحتاج إليها بعد أن جاءت المحرّكات الكهربائية. * * * قلت لكم إننا بقينا في فولندام أكثر النهار، فرأيت أن من كان فيها يعيش في الدنيا وهو ليس فيها، يجد كل ما يحتاج إليه ولكن لا يجد ما هو أكثر منه ولا يصل إليه؛ حاجات مضمونة، ومناظر جميلة، ومساحة محدودة، ومشاهد معدودة، فهي تصلح لمن شاء العزلة الهادئة. ورأيت مكاناً في ألمانيا أعجب منها هو مونْشَاوْ، وهي في شقّ من الأرض لا يبلغ أن يُعَدّ وادياً، فالوادي قطعة من الأرض بين جبلين مرتفعين، وهذه حفرة بين أرضين لا يرى منها السائر على الطريق شيئاً ولا يشعر بها، ولكن الذين يقيمون فيها لو سكنوا إليها واكتفوا بما فيها لم يشعروا بالطريق ولا بمن يمرّ فيه. ولا أستطيع أن أصف مونشاو وصفاً ناطقاً يُغني عن رؤيتها لأني ما رأيت منها إلاّ ساحتها، وفيها سوق صغيرة تبيع تحفاً فيها ذكريات للمكان. فيا ليت هذه الأسواق تكثر عندنا في كل بلد يقصده السياح. ورأيت ازدحاماً وسحناً مختلفات وسمعت ألسنة متعددات، ذلك أنها من مقاصد السياح، وعلى جانبَي الساحة أرض مثل الدرَج بعضها أعلى من بعض، ترى البيوت فيها كأنها عمارة واحدة من عشرات الطبقات. ورأينا في مدينة نسيت اسمها بَحرةً (¬1) يسكن أهلها في رأس ¬

_ (¬1) البحرة مجموعة مساكن، ولعلّ المكان الذي بين جدة ومكة من هذا القبيل.

جبل عال لا يكاد يُوصَل إليه، فقلت: سبحان مَن حبّب أوطان الرجال إليهم! فلولا هذا الحبّ ما ارتضى قوم أن يسكنوا في رأس الجبل، وقوم أن يسكنوا في شقّ من الأرض، وقوم يقيمون في بيوت سقوفها وجدرانها من الثلج في ألاسكا، وقوم في الصحراء الكبرى يقيمون في خيام يسيل فيها شعاع الشمس ناراً وتحتهم رمال محرقة ... وكلهم راضٍ بوطنه محبّ له، إن غاب عنه لم يُرضِه إلاّ أن يعود إليه. * * *

طريق الحج

-208 - طريق الحج تلقّيت أربع رسائل تعليقاً على الحلقة الأخيرة من هذه الذكريات: ثلاث منها تأتي في صلب الموضوع ورابعة على الهامش، أو هي على حرف من الهامش، لا صلة لها بالذكريات ولكن في الجواب عليها نفعاً للقراء. جاءت من فاضل ينمّ أسلوبه الصحيح على فضله، يقول إنه مدرس مدمن للمطالعة مديم للقراءة، وطالما مرّ به وصف بعض الأطعمة أو العقاقير بأنه بارد يابس أو حارّ رطب، فلا يفهم معناها ولا يعرف موردها ومأتاها، قرأها كثيراً في كتب ابن القيّم وغيره وسمعها من أيام قريبة من الشيخ الشعراوي في حديثه اليومي، فلما رآني ذكرتها في الحلقة الماضية ظنّ أن عندي ما يبحث عنه فكتب يسألني. والثلاث التي هي من صميم الذكريات تسأل عن الخط الحديدي الحجازي الذي أشرت إليه: ما خبره وكيف انقطع، وماذا أعرف عنه، وكيف كان الناس يحجّون قبله؟ وأنا أجيب على السؤال الثاني بما أعرفه مشاهدة وعياناً أو مشافهة وسماعاً. أما السؤال الأول فليس موضوعه من شأني

ولاهو مما اشتغلت به من أصناف المعارف والعلوم، فلا أدّعي القدرة على الجواب الكافي. ولكني أمضيت حياتي كلها في المطالعة؛ هي متعتي وتسليتي وهي شغلي أيام فراغي وعطلتي، من صغري إلى اليوم، وكنت لا أنسى شيئاً قرأته، ولا أزال ولله وحده الحمد أذكر إلى الآن أكثر ما أقرأ، فمما علق بذهني مما قرأت قديماً ما يصلح جواباً على هذا السؤال. ذلك أن علماءنا، حتى علماء الشريعة المتوسعين في المعارف كابن القيم، أخذوا نظرية عن اليونان اقتنعوا بصحتها وأفاضوا في شرحها، وهي أن في الوجود أشياء بسيطة وأشياء مركَّبة. وكلمة «بسيطة» في أصل اللغة معناها المبسوطة، أي الواسعة، ومن هنا سُمّيت كتب كثيرة باسم «البسيط» أو «المبسوط»، ولكنني أستعملها الآن بالمعنى الشائع عند الناس. وهذه الأشياء البسيطة، أي المؤلَّفة من عنصر واحد، هي عندهم الماء والهواء والتراب والنار. وأن الحرارة تأتي من النار، والبرودة من التراب، والرطوبة من الماء، واليبوسة أو الجفاف من الهواء. وأن في البدن أربعة عناصر (أو «أخلاط» كما كانوا يسمّونها) تقابلها، هي الدم والمرّة السوداء والبلغم والمرّة الصفراء. والغذاء (ومثله الدواء) يغلب على كل نوع منه واحدٌ من هذه العناصر أو اثنان، وكمالُ الصحّة في أن تتوازن الأخلاط الأربعة في الجسم وأن يأتي الغذاء موافقاً لها، لذلك تجدهم يقولون عن الشيء إنه حار رطب، أو بارد يابس. فلما كانت النهضة في أوربا واتسعت دائرة المعارف وتمحّص كثير من الحقائق وتقدّم علم التشريح وعلم الكيمياء تبيّن

أن هذا الذي كانوا يقولونه غير صحيح، وأن التراب والماء مركَّب من عناصر كثيرة وليس عنصراً واحداً. والعجيب أن من الفلاسفة المتقدمين من الإغريق (أي من اليونان) من لامس الحقيقة التي عُرفت بعد عصر النهضة والتي نعرفها نحن الآن، وهي أن المادة ليست متصلة الأجزاء بل هي مؤلَّفة من جُسيمات صغيرة جداً هي الأتوم (أي الذرّة)، قال بذلك ديمقريطس، وقد راجعت الآن ترجمته فوجدت أنه مات نحو سنة 370 قبل ميلاد المسيح، وقد سبقه إلى ذلك أستاذه ليوسيبوس. والفكر البشري يتقدم دائماً لا يرجع إلى الوراء أبداً، ولكن قد يُصاب بنكسات تتعثر فيها خطاه ويتأخر فيها سيره؛ من ذلك أن أرسطو (الذي مات سنة 222 قبل ميلاد المسيح) ردّ نظرية الذرة وأعاد نظرية العناصر الأربعة، وبقي القول قوله حتى ظهر بيكون (وينطقها الفرنسيون باكون) في القرن السادس عشر، فنقض ما ذهب إليه أرسطو وأحيا نظرية الذرة. فأرسطو الذي يلقبه الناس بالمعلم الأول ولا يعدلون عن قوله كان له في هذا وغيره كثير من الأخطاء. * * * أعتذر إليكم وأرجو عفوكم عني لأني خرجت عن موضوعي، وأعود إليه الآن فأجيب على السؤال الثاني. إن الذي يريد السفر اليوم من مكة المكرمة إلى دمشق يركب سيارته من باب داره هنا فلا ينزل منها إن شاء الله إلاّ على باب منزله أو فندقه في دمشق، طريق مزفَّت (ولا تقُل مسفلَت) بعضه

لايقلّ في سعته وحسنه وترتيبه والصُّوى (أي الإشارات) فيه وتعدُّد المسارب في جانبه، لا يقلّ في ذلك كله عن أرقى الطرق الدولية في أرقى دول أوربا الغربية، وإن كان يضيق بعد المدينة المنورة، ويستمرّ معبَّداً مزفَّتاً حتى يبلغ دمشق. هذا الطريق بين مكة المكرَّمة ودمشق الذي تمشي فيه السيارات مستريحة كان لي شرف المشاركة في كشفه، يوم لم يكن طريق ولا أثارة من طريق وكانت الأرض كلها بيداء خالية كما برأها بارئها، وكانت سياراتنا أولَ السيارات التي وطئَت بدواليبها ثَراها، وكان ذلك سنة 1353هـ. وقد مرّ بكم الخبر مفصَّلاً في هذه الذكريات، وعلمتم مما مرّ بكم أن هذه المسافة التي يقطعها الراكب اليوم قاعداً في السيارة الفخمة على المقعد المريح ومن حوله الهواء المكيف، أمضينا نحن في قطعها ثمانية وخمسين يوماً ما كنا فيها مستريحين، بل قاسينا من المشقّات والأهوال ما لا يصمد له إلاّ صناديد الرجال. كان ركب الحُجّاج الشاميّين قبل هذا الطريق يقطع هذه المسافة في أكثر من أربعين يوماً، في بادية مقفرة تتلظّى شمسها ويلتهب في الصيف حصاها وتتسعّر رمالها، ولا يأمن المسافر فيها على نفسه ولا على ماله لأنها عادت إلى مثل عهد الجاهلية الأولى، لا حكومةَ تجمعها وتُخضِعها ولا قوة تمنع الظلم والعدوان فيها. وكان في كل منطقة شيخ عشيرة يتسلط عليها، إن لم يسترضِه الحُجّاج بالمال أو يغلبوه بالقتال آذاهم أو نهبهم أو قطع الطريق عليهم أو قتلهم، أقول هذا لتعرفوا قيمة ما أنتم فيه من نعمة الأمان، ولتسألوا الله الرحمة لمن جعله سبيلاً لتوحيد البلاد وأمنها.

لذلك كانوا يبعثون مع أمير الحُجّاج ما كان يُدعى «الصُّرّة»، وهي مبلغ كبير من المال يوزّعه على من يمرّ عليه موكب الحج من الأعراب، وما كان يسلم دائماً منهم، ويبعثون مع الصرة بطائفة من الجند وعدد من المدافع. وكانوا يُقيمون بِرَكاً للماء عندها قلاع ثابتة على الطريق، رأيت في رحلتي الأولى بعضها ووصفتها وقرأتموها، وكانت تحمي كلَّ واحدة منها أسرةٌ من أسر حيّ الميدان بالشام معروفة ببأسها مشهورة بأمانتها وإخلاصها، ولو رجعتم إلى ما نشرتُ من قبل في هذه الذكريات لوجدتم تفصيل هذا الإجمال (¬1). فكانت رحلة الحج تمتد أكثر من ثلاثة أشهر محفوفة بالأخطار، كلها متاعب ومصائب، فكأنها البحر الذي وصفوه قديماً بأن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. تلك الرحلة التي كانت تمتد ثلاثة أشهر يستطيع الحاجّ اليوم أن يؤدّيها (أي أن يؤدّي حجه) في أربعة أيام: يخرج من دمشق بالطيّارة من بعد صلاة العشاء ليلة العيد فيصل جدة بعد ساعتين، ويكون مُحرماً فيمضي رأساً إلى عرفات فيقف فيها ولو دقائق، فيكون قد أدّى الفرض والواجب، ثم يتوجه منها إلى مزدلفة فيقف فيها دقائق بعد نصف الليل، ثم يخرج منها فيصلّي صلاة الصبح في الحرم مع الجماعة، ويطوف طواف الإفاضة ويسعى بعده، ثم يحلق أو يقصّر، فيتحلل ولا يبقى عليه من أعمال الحجّ إلاّ رمي ¬

_ (¬1) أخبار الرحلة ممتدة من الحلقة السبعين إلى الحلقة الثانية والثمانين، وهي في الجزء الثالث (مجاهد).

الجمرات والمبيت في مِنى. أما مِنى فيستطيع أن يخرج بسيارته إليها أول أيام التشريق قبل المغرب، فيبقى فيها راكباً في السيارة أو قاعداً على الأرض أو على صخرة في الجبل، أو حيث شاء من مِنى إلى أن يمضي أكثر الليل، فيرجع إلى مكة فيبيت إن أراد فيها. ثم يصنع مثل ذلك الليلة المقبلة، فإذا كان اليوم الثالث من أيام العيد خرج بعد العصر إلى مِنى فرمى الجمرات كلها معاً، يرمي جمرة العقبة وينويها عن اليوم الأول، ثم يعود إلى الصغرى فالوسطى فالعقبة فيرميها عن اليوم الثاني، وكذلك يصنع عن اليوم الثالث والرابع. هذا هو الحج. ولكن لكل عمل في الدنيا درجات كدرجات التلاميذ في الامتحان: راسب ومقبول وجيد وأجود منه وممتاز؛ فمن صنع الذي ذكرتُ هنا صحّ حجّه لكنه كان كالطالب الذي ينجح في الامتحان بدرجة مقبول، لم يرسب ولكن لم ينَل الدرجات العُلى. ومن وقف في عرفات من الظهر إلى ما بعد غروب الشمس، ثم مضى إلى مزدلفة فبقي فيها إلى ما بعد صلاة الفجر، ثم مشى فرمى جمرة العقبة، وحلق ونحر إن كان عليه نحر، ثم قصد الحرم فطاف وسعى، فهذا كالذي نجح بدرجة جيد. ومن ذهب في اليوم الثامن إلى منى فصلّى فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم الوقفة، ثم مضى إلى عرفة فصلّى مع الجماعة وسمع الخطبة ثم وقف إلى ما بعد غروب الشمس يدعو الله متوجهاً إليه مخلصاً له، ثم مضى إلى مزدلفة فصلّى فيها المغرب والعشاء جمعاً وأكل ونام (لا كما يقول بعض الوعاظ من أن قيام تلك الليلة والصلاة فيها أفضل، لأن الرسول عليه الصلاة

والسلام -وهو إمام المتقين وأعبد العابدين- نام، ومن زعم أنه يعلم طريقاً أرضى لله مما شرع رسول الله ‘، وما صنع هو الأسوة والقدوة، فليعلم أنه على خطر عظيم) هذا نال درجة جيد جداً. ومن قرأ حجّة الرسول عليه الصلاة والسلام التي ما حجّ غيرها (وصِفَتُها في كتب الحديث، وقد أفردها محدّث الشام الشيخ ناصر الدين الألباني في كتاب مطبوع) ففهمها وصنع كل ما صنع رسول الله ‘ مقتدياً به متبعاً له، فهذا نال درجة ممتاز. * * * كان ركب الحج الشامي أشبهَ بجيش، إذا مشى سدّ عرض الفلاة وإن نزل قامت لنزوله مدينة، فكان كما قال ابن هانئ: «إذا حلَّ في أرضٍ بناها مدائنا». وابن هانئ شاعر بليغ كانوا يسمّونه «متنبي المغرب»، ولكنه زائغ العقيدة فاسد الدين. وقصيدته هذه العينية من روائع الشعر الوصفي، ومثلها، بل أبلغ منها أسلوباً وأعلى في البلاغة طبقة، قصيدة بشار التي يقول فيها: فراحوا: فريقٌ في الإسارِ ومثلُهُ ... قتيلٌ ومِثْلٌ لاذَ بالبحرِ هاربُهْ ولمّا كنا ندرس الأدب الفرنسي وجدت في مسرحية «السيد» (Le Cid) لكبير الأدباء الفرنسيين في عصره كورناي، بيتاً يكاد يكون ترجمة حرفية لمعاني بيت بشار. والثالثة ميمية المتنبي في وصف الجيش التي يقول فيها: خَميسٌ بشرقِ الأرضِ والغربِ زحفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منهُ زَمازِمُ

تَجمّعَ فيهِ كلُّ لِسنٍ وأمّةٍ ... فما يُفهِمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ وميزته أنه حقّ، وأن جيش سيف الدولة وإن كانت جمهرته من العرب فإن فيه كثيراً من غيرهم يتكلمون بألسنهم (اللسان بمعنى العضو جمعه ألسنة، واللسان بمعنى اللغة جمعه ألسن). أما مواكب الحجّ قديماً فإن أحسن مَن وصفها عبد القادر الأنصاري الجزيري في كتابه «دُرَر الفوائد المنظمة» الذي طبعه محب الدين الخطيب في «السلفية» بطلب من الشيخ محمد نصيف رحم الله الاثنين، وهو الذي وقع على نسخته واشترك في تصحيحها صديقنا الأستاذ محمد سعيد العامودي، فاقرؤوا هذا الوصف في الصفحة 95 منه. ومن هذا الكتاب عرفت أن «المَحْمِل» كان موجوداً في مطلع القرن الثامن الهجري، أي من ستمئة سنة، ولم أجد إلى الآن نصاً أعرف منه منشأ هذه البدعة ومتى وكيف كانت وما سببها، والذين يقولون إن أصله هودج شجرة الدرّ لا يأتون على قولهم بدليل، فمن كان عنده علم من ذلك فليُعلِمني. والمحمل شبه هرم كانوا يغطّونه بالديباج الأخضر، أي المخمل منقوشاً عليه آيات من القرآن، ويعظمونه ولا يذكرونه مرة إلاّ قالوا «المحمل الشريف»، وكان لوداعه في دمشق وفي القاهرة مشهد عظيم، وكان بعض العامّة من الجَهَلة يتبرّكون بالجمل الذي يحمله ويُلبِسونه عادة مثل الثوب من الجلود ومن القماش الملوَّن. ولقد شهدت آخر موكب حُجّاج خرج من دمشق مع المحمل وأنا

صغير جداً، وقد نسيت هل كان ذلك خلال الحرب الأولى أو كان قبلها، فأنا أكتب هذه الذكريات كلها من ذهني ما عندي شيء مكتوب أرجع إليه وأعتمد عليه. وكان مشهد خروج المحمل أعظمَ المشاهد في دمشق، يليه مشهد «السّلامْلك» يوم العيد إذ يخرج الموكب من قصر المشير، أي «المشيرية» التي صارت من بعدُ دارَ المندوب السامي الفرنسي، ثم هُدمت وأُقيم مكانها القصر العدلي الذي يجمع اليوم المحاكم كلها وفيه وزارة العدل. وكانا محملين لا محملاً واحداً، المحمل الشامي والمحمل المصري. فإذا وصل المحمل الشامي إلى مزيريب (وهي أدنى قرى حوران) توجّه منها إلى عمّان. وأنا أعرف عمان قبل ثلاث وخمسين سنة، لمّا مررنا بها وهي قرية صغيرة أكثر سكانها من الشركس وأقلهم من الشاميين، ولم يكن أُقيمَ إلاّ بيوتٌ معدودة على جبل عمّان. ثم يتوجهون منها إلى معان، ويأتي المصريون بقافلة مثلها أو أعظم منها من طريق العقبة، فيلتقي المحملان غالباً في معان، ثم يمشيان معاً إلى تبوك فإلى المدائن، مدائن صالح قرب العُلا، فالمدينة المنورة فمكة المكرمة. والمحمل الشامي محفوظ في متحف دمشق اليوم ليراه من لم يكن قد عرفه. وآخر ما عُرف من خبر المحمل واقعة مشهورة يعرفها الكهول والكبار من رجال المملكة، واقعة لولا شجاعة الملك عبد العزيز التي جاوزت الأمثال المضروبة للشجاعة

ولولا حكمته التي منحه الله منها ما لم يمنح مثله إلاّ القليل، لولا ذلك لكانت فتنة لا يدري إلاّ الله عواقبها، ومن شاء معرفة خبرها وجده في كتاب «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» للأستاذ الشاعر وكيل وزارة الخارجية السعودية سابقاً خير الدين الزركلي (¬1). وكان ذلك آخر العهد بالمحمل المصري، والمحمل الشامي كذلك وقف قريباً من ذلك الوقت. كان يخرج الموكب من دمشق في أوائل شعبان، فيه مَن يمشي على رجليه ومن يركب الدوابّ ومن يسافر على الإبل، وكان للرّحال (¬2) على الإبل أنواع تتفاوت مراتبها وأجورها، يركب على البعير اثنان متقابلان من الجانبين، وللنساء هودج هو أشبه بغرفة صغيرة جداً من العيدان تُسدَل الستائر على جوانبها فلا يبين للرجال مَن فيها. وكان «العكّامة» (وفيهم الجمّالون والحمّالون وطوائف من العمال) يسبقون الركب فينصبون الخيام ويُعِدّون الطعام، فإذا وصل الحاجّ وهو تعبان استراح وأكل وصلّى ونام. وكان يجري كل عام للمحمل ومن معه من الحجّاج في القاهرة وفي دمشق وداع حافل، فكان الموكب في الشام يمتد من قصر الحكومة إلى جنوبي البلد حتى يخرجوا منها، وتجتمع هذه الجموع كلها قرب مسجد العسّالي، وهو قريب من قرية «القَدَم» ¬

_ (¬1) مرّ خبر هذه الحادثة في آخر الحلقة الثمانين (في الجزء الثالث) من هذه الذكريات (مجاهد). (¬2) الرحال جمع رَحْل، وهو للإبل كالسرج للفرس، ومنه اشتُقّت كلمة رَحَل وارتحل والرحلة.

التي يزعم أهلنا في الشام أن الرسول ‘ زارها وأن آثار أقدامه لا تزال ظاهرة على صخرة فيها، وذلك كله كذب. كان الذي يرى هذه الجموعَ يظنّ أنه لم يبقَ من أهل دمشق أحدٌ في بيته! ثم تُتلى آيات وتُلقى قصائد، ويكون الوداع يتصدره الوالي وهو الرئيس المدني، والمشير وهو الرئيس العسكري قائد الجيش وأمير الحج. ثم يبدأ الركب المسير وتلوّح الأيدي بالمناديل، ويكون الدعاء والتهليل والبكاء والعويل، حتى يغيب آخر الركب في طريق الكِسْوة على الجبل الجنوبي من دمشق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في الطبعات السابقة من «الذكريات» صفحتان بعد هذه الصفحة حذفتُهما في هذه الطبعة، لأن ما فيهما مكرَّر قد سبق بنصّه في الحلقة الخامسة والسبعين، ولا بد أن إعادة نشره هنا كان سهواً لم ينتبه إليه الشيخ ولم يلاحظه الناشر. ومثله نحو صفحتين في الحلقة الآتية حذفتُهما أيضاً، وسأشير إلى موضعهما (مجاهد).

الخط الحديدي الحجازي

-209 - الخط الحديدي الحجازي إن قصة الخط الحديدي الحجازي مأساة دونها المآسي الأدبية. تصوّروا زوجين كل أمانيهما ولد يسعى بين أيديهما، يملأ الدار -كما يُقال- فرحةً عليهما يصل ما قد يتباعد من قلبيهما، فتأخّر وصول الولد، فراجعا كل طبيب وسألا كل دجّال، وجرّبا كل دواء في الصيدلية وكل عشب عند العطّار وكل ما يصفه الصديق والقريب والجار، حتى إذا تحقّق الحلم ووُلد الولد، بعدما ذاقا المرّ وكاد يفرغ منهما الصبر، وكبر الولد وبلغ معهما السعي، وحسبا أن قد تمّت به الفرحة، مات! ما مات على فراشه ولكنه قُتل، وما قتله عدوّ غادر ولا عتيّ فاجر، ولكن خدَعهما شيطانٌ ماكر اسمه لورنس وأسكرهما بمادّة مسمومة سُمّها لا ينفع معه ترياق، يُقال له «القومية» (أعني المخالِفة منها للإسلام). امتدّ انتظاره دهراً والحمل به عمراً، حملَته أمه ثماني سنين، من سنة 1901 إلى سنة 1908، وعاش بعدما وُلد عشر سنين من سنة 1908 إلى سنة 1918، ثم أصابته علّة مزمنة، فلا هو حيّ فيُرجى ولا ميت فيُنسى.

الخط ممدود ولكن لا يمشي عليه قطار، والمحطات قائمة ولكن لا يقف عليها مسافر. كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الآلام والآمال، وكان فيها الناس من كل بلد وكل شعب، فأصبحت لا غادٍ عليها ولا رائحٌ منها، ولا مودّع أسيان ولا مستقبل فرحان. وإذا بكى الشعراءُ الأطلالَ وقالوا فيها الأشعار لأنها هي ذاتها بقايا قصيدة محَتها الأيام، كل جدار من بناء فيها وكل حجر في هذا الجدار كلمات باقيات من تلك القصائد التي جعلها القِدَم والحرمان قصائدَ عبقريات، يذكر الناس بموتها الحياة التي كانت فيها فتفيض لمشهدها مدامعُ شاهديها ... وإذا كانت بقايا ديار الحبيب الذي راح تُثير كل هذه المشاعر، فأولى بذلك هذه المحطات القائمات وحدها في البراري، محطات الخط الحجازي التي كانت تعجّ بالناس، فما بقي فيها ولا حولها أحد. أفلم يمرّ أحدٌ من الشعراء بهذه المحطات الواقفات منفردات، كالثاكلات على أجداث من مات؟ ألم يُثِر منظرُها في أنفسهم عاطفة ألم يحرّك منها المشاعر؟ ألم تنطلق بوصفها ألسنتهم وأقلامهم؟ كلّ محطة خالية خاوية من محطّات خط الحجاز قصيدةٌ من الجدران والأركان، لا تحتاج إلاّ إلى مَن يترجم عنها بالألفاظ والأوزان. فغطّوا أقلامكم بدموعها واجعلوه مِداد ما تكتبون، فإن كل لَبِنة في كل محطة تبكي، وكل نافذة مخلَّعة المصاريع وكل باب غدا وما عليه باب! قلت لكم في الحلقة الماضية إن هذا الخط وقف إسلامي.

والأوقاف الخيريّة من أشرف معالم الحضارة الإسلامية: مالٌ مرصود لأعمال الخير، منفعته لكل واحد ولا يملكه أحد، القيّم عليه يجب أن يحفظه، ويجوز أن ينميه أو يزيد فيه ولكن يحرم عليه أن ينقص منه أو أن يفرّط به. وقف أجدادُنا الأموالَ الجِسام على كل عمل من أعمال الخير: على المساجد وعلى المدارس وعلى المشافي، وعلى أمور قد لا تخطر لأمثالنا على بال. هل سمعتم في الشام وقفاً للقطط الضالّة يُطعِمها ويسقيها؟ وللكلاب الشاردة المريضة يداويها ويؤويها؟ يُسمّي العامّة الأول «مدرسة القطاط» وهي في القيمرية الذي كان حيّ التجار في دمشق، والثاني في حيّ العمارة ويسمّونه اسماً غريباً هو «محكمة الكلاب». وقد روى ابن بطوطة في رحلته أنه رأى خادماً صغيرة (وكلمة خادم تطلق على الذكر والأنثى) وهي تبكي، فسألها فقالت: أرسلتني سيدتي أشتري لها عسلاً فوقع الإناء فانكسر. قال: فجعلت أواسيها وأعطيها ما أقدر عليه لتشتري غيره، فمرّ بنا رجل عرف الخبر فقال لها: اجمعي أجزاءه وخذيه إلى ناظر الوقف يُعطِك ثمنه. ذلك أن أحد المحسنين وقف مبلغاً كبيراً من المال لمثل هذه الحال (¬1). * * * وأرجو أن يسامحني القراء لأنني خرجت عن خط هذه ¬

_ (¬1) ما يلي هذه الفقرةَ مكرّرٌ بنصه وقد سبق نشره في الحلقة الخامسة والسبعين، وهو تتمة ما حذفته من آخر الحلقة الماضية، وقد حذفته من هنا أيضاً (مجاهد).

الذكريات وسردت تاريخاً ممتلئاً بالأرقام، ذلك لأن هذا التاريخ يجهله أكثر من يقرأ الجريدة ومن الواجب أن يعرفوه. أما ما كان بعد سنة 1954 فتسألون عنه الأخ محمد عمر توفيق، الذي كان وزير المواصلات وكان قُطب رَحى المفاوضات، هو العارف بما انتهى أمره إليه. أما نحن الأدباء فلا نملك إلا ألسنتنا وأقلامنا. ورُبّ لسان أو قلم جلب نفعاً لأمة من الأمم أو سبّب لها الضرر. فما لأدبائنا لا تجري أقلامهم ولا تنطلق ألسنتهم بالكلام على هذا الخط: بوصف مأساته، بالدعوة إلى مداواته إن وثقنا من استمرار حياته أو رثائه إن تحقّقنا من مماته؟ هل كان الذين قبلنا من أدبائنا أقدر على القول منا أم كانوا أكثر اهتماماً بشؤون أمتنا؟ هذا ابن أَيْبك الصفدي (الذي توفّي سنة 764هـ) يصف في كتابه «حقيقة المجاز إلى الحجاز» الطريق الذي مشى فيه ركب الحُجّاج من قبّة يَلْبُغا في ظاهر دمشق. ومسجده معروف فيها، في ساحتها الكبرى التي تقوم في وسطها «المرجة». ولمّا كنت تلميذاً في الابتدائية في أواخر أيام الحرب الأولى كان نصف المسجد الشمالي (وفيه المنارة العالية) قد جُعل مدرسة كنا نتعلم فيها، وتُرك نصفه الآخر مسجداً. وكان يفصل بين النصفين حاجز من الخشب يمرّ من فوق البِركة الكبرى، فكان التلاميذ الصغار ينظرون من شقوقه لمن يتوضأ من البركة، وربما نظروا لمن يُسيء الأدب من الناس فيبول حولها أو يستنجي فيكشف عن العورة (التي حرّم الله كشفها) في بيت الله!

وكان الصفدي كلما نزل منزلاً من منازل الحُجّاج قال فيه شعراً هو في الغالب من الكلام المنظوم، فممّا قاله عن قبة يلبغا: جئنا لقبّةِ يَلْبُغا ... والسيلُ فيها قد طغا وكأنهُ مِنْ دمعِنا ... صبَّ المياهَ وفرّغا ثم مشى من حيث يمشي القطار الآن فجاء «الكِسْوة»، وكان قدومه عليها في الشتاء، وهي على هضبة عالية يشتدّ فيها البرد، فقال فيها: قاسيتُ في الكسوةِ بَرداً لهُ ... على توالي ضَعفِنا قسوَه فقلتُ هذا عجبٌ كيفَ لا ... يذهبُ شرُّ البردِ بالكِسوه؟ ثم جاء «الصَّنَمَيْن»، وهي من أدنى قرى حوران وأقربها إلى الشام، فقال فيها: يا بئسَ يومٍ مرَّ بالصّنمينِ لي ... جُرِّعتُ فيهِ مَرارةَ الآلامِ لو كانَ في الصّنمينِ خيرٌ يُرتجَى ... ما كانَ يُلعَن عابدُ الأصنامِ وقد نُقل مرة أستاذنا وصديقنا حسني كنعان رحمه الله إلى هذه القرية معلّماً فيها، فكتب عنها مقالات كثيرة وسمّاها «مدينة الأصنام الثلاثة»، يعني بالثالث نفسه! وله فيها حوادث طريفة جداً ليس هذا موضع ذكرها. ثم رحل الصفدي مع الركب إلى بُصرى وقال فيها شعراً. وكانت بصرى على عهد الرومان مدينة كبيرة، وفيها مسرح روماني مدرَّج لا نظير له فيما بقي من مسارح الرومان، له درَج كامل ومعه

بناء كبير بقي سالماً على مر الزمان. ولبُصرى أخبار امتلأت بها كتب السيرة والتاريخ، قدمها رسول الله ‘ المرة الأولى مع عمه ولقي فيها بَحيرا الراهب، ويقولون إنه عرف أنه النبي المنتظَر، مع أنه ‘ هبط عليه الوحي في حراء وقال له «اقرأ» ولم يعرف تماماً أنه النبي المنتظَر. وما زعموا أن بَحيرا قد عرفه وأن جده عرفه وأن أمه لمّا حملت به قد عرفته، وما جاء في «المولد» (الذي كان يقرؤه بعضُ مشايخنا) من أن الوحوش تباشرت بمولده وعرفَته ... كل ذلك لم يثبت ولم يقُم عليه دليل، بل إنه ‘ لمّا جاءه جبريل ذهب مضطرباً إلى خديجة حتى أخذته إلى ابن عمّها ورقةبن نوفل. فإذا كان هو نفسه لم يعرف فكيف عرف هؤلاء كلهم؟ والله تعالى يقول له: {ما كُنْتَ تدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ}. وعلى المسلم أن يحب الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من حبه لأهله وولده ونفسه التي بين جنبيه، ولكنْ حبَّ الطاعة والامتثال لا حبَّ الغزَل والهيام. وله مما أكرمه الله به من المزايا التي لم يُؤتِ أحداً من بني آدم مثلَها ما يُغنيه عن أن نمدحه بافتراء الأخبار المكذوبة عليه. * * * وقيل في بُصرى شعر كثير تجدون عند ياقوت مثالاً عليه، كقول الصِّمة القُشَيري وهو شاعر رقيق مطبوع من شعراء العاطفة في الحجاز، وهو صاحب الأبيات الشهيرة:

قِفا ودّعا نجداً ومَن حلَّ بالحِمى ... وقَلَّ لِنَجْدٍ عندَنا أنْ تُوَدَّعا بنفسيَ تلكَ الأرضُ ما أطيبَ الرُّبا ... وما أحسنَ المُصطافَ والمُترَبَّعا وأذكُرُ أيامَ الحِمى ثمَّ أنْثَني ... على كَبِدي مِن خَشيةٍ أنْ تَصَدَّعا ومما قاله في بُصرى: نظرتُ بطَرْفِ العينِ متّبعَ الهوى ... لشرقيِّ بُصرى نَظرةَ المُتطاوِلِ لأُبْصِرَ ناراً أُوقِدَت بعدَ هَجْعَةٍ ... لِرَيّا بِذاتِ الرَّمْثِ مِن بطنِ حائلِ ومن أجمل ما قيل في بصرى قول أعرابي ضنوا عليه بذكر اسمه وله هذا الشعر، ودوّنوا سخافات الصفدي التي رويتُ بعضَها. على أنها خير -على كل حال- مما يُنشَر من الشعر الحديث! قال الأعرابي (¬1): أيا رِفْقَةً مِن أهلِ بُصرى تَحمّلوا رسالتَنا لُقِّيتِ مِن رِفْقَةٍ رُشدا ¬

_ (¬1) وجدت البيتين الأوّلين (باختلاف يسير) في ديوان يَزيدبن الطَّثَريّة، وهو شاعر أموي توفي سنة 126، أما البيت الأخير فقد رُوي في كتب الأدب (كالأغاني وسواه) بصورتين متقاربتين منسوباً للمرقّش الأكبر مرّة ولعبد اللهبن العَجْلان النّهدي أخرى (مجاهد).

إذا ما وصلتمْ سالمينَ فبلّغوا ... تحيتَنا مَن ظنّ ألاّ يرى نَجدا وقولوا لهُمْ ليسَ الضّلالُ أجازَنا ... ولكنّنا جُزْنا لنَلْقاكُمُ عَمْدا ومن أراد أن يقرأ أمثال هذا الشعر الذي يحنّ قائلوه إلى نجد رآه في رسالة لي صغيرة طُبعت في الرياض عنوانها «حلم في نجد» (¬1). كانت بُصرى قصبة حوران، فلما مرّ الخط الحديدي بدَرْعا أُقيمت المحطة فيها بعيداً عن البلد، فجعلت المحطة تكبر والبلدة يقف نموها فتصغر، حتى صارت المحطة هي المدينة ورجعت المدينةُ الأصلية قريةً تابعة لها. وكذلك الدنيا أقدار وقِسَم قسمها بارئها، فصغير يكبر وكبير يصغر قدره، ونازل يعلو وعالٍ يهبط إلى الحضيض. مرّ الخط قريباً من درعا ولم يدخل إليها فدخلَت البلد كلها في المحطة، وشُيّدت من حولها العمارات وفُتحت الحوانيت. ولو بقي الخط يسير ولم تمتدّ إليه إصبع شياطين الإنس يُغرون أهلَه بقتله لنشأت خلال هذه السنين التي قاربت الآن السبعين مدنٌ كبار في معان والمدوَّرة والعُلا، ومدن صغار في كل قرية يمرّ بها القطار، ولكان هو الطريق المسلوك، لأن السيارات مهما كثرت لا تستطيع أن تسدّ مسد القطار، ولكان الحُجّاج السوريون والأردنيون وحجاج لبنان والعراق وحجاج الترك والعجم الذين يؤثرون أن يمرّوا بدمشق، لكان سفرهم كلهم في هذا القطار، ولكان شريانَ حياة يحمل دمَ ¬

_ (¬1) وهي في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).

الصحّة لكل مكان يمر به يأتيه بالخير والمال. ودرعا معروفة من القديم ولكن باسم «أذْرِعات»، ولها في التاريخ ذكر وقيل فيها كثير من الشعر، منه قول امرئ القيس الذي لا أحب أن أروي منه إلاّ بيتاً واحداً هو: تَنَوَّرْتُها مِن أذْرِعاتٍ وأهلُها ... بِيثربَ، أدنى دارَها نظرٌ عالِ وامرؤ القيس قمة القمم في الشعر العربي، ما قيّض الله له إلى الآن من يدرس شعره كما ينبغي أن يُدرَس. لا لأنه أول من بكى واستبكى ووقف واستوقف، بل لأنه وضع الأساس لكل فنّ من فنون الشعر؛ فالغزَل مثلاً منه ما هو عاطفي نظيف كشعر قيس وقيس الآخر وجميل وكُثيّر ونصيب وشعراء الغزل بالمدينة، ومنه ما هو قصصي يحكي وقائع المحبين وأخبار الهجر واللقاء كشعر عمربن أبن ربيعة وتلميذه العرجي، ومنه ما هو شعر فاحش (كالأفلام التي قالوا إنها تكشف أدقّ ما يستره الأزواج في مخدع الزوجية) كبعض شعر بشار وبعض شعراء اليتيمة، يتيمة الدهر للثعالبي، وبعض ما قال (وليته ما قال) أحد شعراء هذا العصر! وكل ذلك في معلقة امرئ القيس. والمقاييس تختلف، فامرؤ القيس بالمقياس الأدبي كبير الشعراء وأستاذهم، ثم إنه رحّالة زار الشام وبلغ القسطنطينية وتنقّل في أرجاء جزيرة العرب، ولكن النقاد لم يوفوه حقه، وقد ذكروه أخيراً فجعلوا من سيرته مسلسلة عرضوها في الرائي في رمضان، فأساءت للتاريخ وللأدب وللفنّ. * * *

وإذا تتبّعنا الطريق الذي سلكه الصفدي في حِجّته وجدناه يمشي مع سكة الحديد، يبتعد عنها حيناً ثم يعود إليها. فقد مشى بعد بصرى إلى «الزرقاء» وقال فيها شعراً. والزرقاء مدينة كبيرة وقد اتصلَت الآن بعَمّان أو كادت، وقد زرتها مرّات لا أحصيها وألقيت فيها محاضرات، في مساجدها ونواديها وفي النادي العسكري الكبير فيها. ثم إلى زيزاء وقال فيها شعراً (وتجدون هذه الأشعار كلها في كتاب «درر الفوائد المنظمة» ص 453 وما بعدها)، وزيزاء معروفة بهذا الاسم إلى اليوم ويحرّفه بعض الناس فيقولون «الجيزة». ثم يمضي إلى الكَرَك، والكرك تقوم اليوم على هضبة وإلى جنبها شبه بلدة جديدة، وقد ذهبت إليها مرات وألقيت فيها محاضرات، وللكرك في تاريخ الحروب الصليبية أخبار طوال. ويمضي الصفدي في طريقه يسمّي منازله ويقول فيها هذا الشعر الذي عرفتم نماذج منه، حتى يبلغ معان. ومعان بفتح الميم، وبعض المحدّثين يضمّها. وفيها تجمّع جيش الروم الذي نازله المسلمون في مؤتة، وكان جيشاً ضخماً يقول المُقِلّون إن فيه مئة وخمسين ألفاً والمكثرون إنه يزيد على مئتَي ألف، وقفَت أمامه فرقةُ استطلاع إسلامية صغيرة مؤلَّفة من ثلاثة آلاف، استُشهد قُوّادها الثلاثة الذين سمّاهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالقيادة. ثم تسلّمها القائد العبقري، أعظم قُوّاد التاريخ العسكري القديم، خالدبن الوليد، فانسحب انسحاباً كان أعظم من النصر، لأنه أنقذ ثلاثة آلاف من بين مئة وخمسين ألفاً أطبقوا عليهم وأحاطوا بهم. وإذا كان الحلفاء يفتخرون بالانسحاب من دَنْكِرك أيام الحرب الثانية فإن انسحاب خالد أعظم بكثير.

ولعبد اللهبن رواحة أحد القواد الشهداء مقطوعة قالها في مؤتة، ومؤتة معروفة الآن وهي إلى جنوبي الكرك، وإلى جنبها مدافن الشهداء في مكان اسمه اليوم «المَزار». ولقد سِرتُ إلى جنب الخط الحجازي كله من المدينة المنورة إلى دمشق، ومررت بمحطاته المهدَّمة، ورأيت ما انتهى إليه حاله. وكان في أوله في دمشق معمل كبير أُنشئ مع إنشاء الخط قالوا إنه يستطيع أن يصنع قاطرة كاملة، وكان في المدينة المنورة محطة كبيرة، وفي تبوك في وسط الطريق تماماً بين دمشق والمدينة محطة مثلها. وقد كان من أواخر مَن ركب القطار وفدٌ من كبار علماء دمشق بعثَت بهم الحكومة إلى المدينة المنورة، وكان فيهم أبي رحمه الله ورحمهم. وقد أخذوهم كرّة أخرى إلى إسطنبول ليُروهم «جناق قلعة» وتحصيناتها، وكان خطيب الوفد الشيخ أسعد الشقيري، وهو فلسطيني، وهو والد الأستاذ أحمد الشقيري صاحب الخطب المأثورة. وكان الأستاذ أحمد كأبيه خطيباً طلق اللسان صاحب فصاحة وبيان، ولكن الأساليب تتبدّل بتبدّل الزمان، والمبالغات التي كانت تُعجِب يوماً السامعين وتُطلِق ألسنتهم بالهتاف وأكفَّهم بالتصفيق لم تعُد تصلح لهذه الأيام، وهي من باب قول الرافعي رحمه الله عن الطليان في قصيدته المشهورة: تاللهِ لو انّهمْ جِنٌّ جماجِمُهمْ ... ذُرى الجبالِ يغطّي هامَها الشجرُ ومِن رقابهِمُ في الجوِّ أعمدةٌ ... وفوقَ كلِّ عَمودٍ في السَّمَا قَمَرُ

وكانَ فيزوفُ فوقَ الماءِ بارِجةً ... وخَلْفَهُ كانَ بركانٌ فينفَجِرُ وأقبلوا ولَهُمْ هذي القلوبُ لَما ... صدّوا عدوّاً ولا فازوا ولا انتصروا شعر حماسيّ قوي، ولكن الحرب باللسان لا تُغني عن السنان وعن المدافع والطيران، وإلاّ انطبقَ علينا نحن ما قاله حافظ إبراهيم عن الطليان في تلك الحرب: قدْ ملأنا البرَّ من أشلائِهمْ ... فدَعوهم يملؤوا الدنيا كلاما لقد صرنا نحن الذين يملؤون الدنيا كلاماً ويحاربون بالخطب والمقالات والمؤتمرات والتصريحات! ويقول حافظ إبراهيم في هذه القصيدة: باركَ المُطرانُ في أعمالِهمْ ... فسَلُوهُ: باركَ القومَ عَلاما؟ أبهذا جاءَهمْ إنجيلُهمْ ... آمراً يُلقي على الأرضِ السّلاما؟ وأقول بالمناسبة إن لديّ أكثرَ القصائد التي قيلت في هجوم الطليان الغادر على طرابلس الغرب، أي ليبيا (التي كان العرب يسمّونها قبل الحرب الأولى «لوبيا»)، وتصلح هذه المجموعة لتكون موضوع رسالة للماجستير، ولكنها في مكتبتي في الشام. * * *

في صحبة الحيوان

-210 - في صحبة الحيوان دخلنا في ألمانيا حديقة حيوانات ليست كما عرفنا من الحدائق، لا تُحبَس فيها الأسود والسباع في الأقفاص بل تمشي حرّة طليقة، ونبقى نحن محبوسين في الأقفاص تمشي بنا أقفاصنا بين الأسود. وما الأقفاص إلاّ سيارات كبيرة لها عوارض من الحديد تجعل منظرها كالقفص. أو ندخل بسياراتنا مغلَقة نوافذُها مُرخى زجاجها. وكنا قد ذهبنا في سيارة صغيرة قديمة أدركت عهد ما بين الحربين، فهي عجوز أكل عليها الدهر حتى شبع وشرب بعد الأكل الشاي! وإذا كانت العجوز وكان الشيخ يمشي على ثلاث (لأن العصا للشيخ رجل ثالثة) مشت هي على أربع. وكان سائقها شاباً طيّباً من أبنائنا الطلاب، يبدو أنه لم يكن يُحسِن القيادة، وكنا نمشي في طرق الحديقة، وهي متروكة كما خلقها الله لتأنس فيها الحيوانات وتعيش كما تريد، فاعترضَنا جدول صغير فما طاب للسيارة الوقوف إلاّ وسط الجدول، ويظهر أنها كانت مصابة بالرثيّة (أي الروماتيزم) فحرّك الماء البارد آلامها، فلم تعُد تستطيع المسير ولا تجد قوة على الصعود من عمق الجدول إلى ظهر الطريق.

وجعلت حيوانات الحديقة تمرّ بنا، فمنها ما يُلقي نظرة علينا ثم يمضي غيرَ حافل بنا، ومنها ما يقف علينا قليلاً كأنه يَعجب منا أو يرى فينا مخلوقاً غريباً. وجاء أسد فدنا منا حتى لامس برأسه زجاجَ سيارتنا، واستطعت -من قربه- أن أعدّ شعرات شاربَيه وأتأمل وجهه وعينيه الصغيرتين، فوجدت فيهما رقّة لا أجدها في بعض بني آدم! ووجدته كالقط الكبير. ونحن نحبّ القطط ونألفها، وعندنا قطط فارسية جميلة نُعنى بها ونضعها في أحضاننا، ولكننا لا نحبّ الكلاب والذين يربّونها ويعانقونها ويتركونها تلحس وجوههم وأبدانهم بألسنتها وينامون إلى جنبها ويأكلون معها! والإسلام يكره ذلك إلاّ لمقصد مشروع، كحراسة الحقل وحماية القطيع وتتبُّع اللصوص والمجرمين. أمّا نجاسة الكلب ففيها خلاف، فهو عند الشافعي نجس كله شعره وريقه، وعند مالك طاهر كله شعره وريقه، وعند أبي حنيفة ريقه نجس وشعره طاهر، وقد رجّح ابن تيمية ما ذهب إليه أبو حنيفة. عفواً، لقد غلبَت عليّ صنعتي في أيامي الأخيرة وهي الفتوى. ووقف الأسد ملياً، فلما رآنا لا نستحقّ الاهتمام لوى وجهه وانصرف عنا غير مودّع لنا ولا آسف كما يظهر على فراقنا. وأحسبه كان يظننا من أقربائه وأنسبائه: أسوداً نحمي غابَنا ونردّ عنه الواغل علينا، فلذلك أقبل علينا، فلمّا علم (وما أدري كيف علم) أننا قد أذهبنا ريحنَا وأضعنا عزّتنا بانقسامنا وانحرافنا عن طريق أسلافنا، زهد فينا وأعرض عنا. وكيف يحسبنا أسوداً وقد غلبتنا على أرضنا في فلسطين الكلابُ؟!

ورأينا الغزلان تمرّ من حولنا تنظر بعيونها إلينا، تلك العيون التي فتنت شعراء العرب حتى شبّهوا بأصحابها الغيد الحسان. وما زال العرب يتتبّعون ما أودع الله من الخصائص والمزايا في غرائز الحيوان فيضربون بها الأمثال: بوفاء الكلب، وصبر الحمار، وإقدام الأسد، واحتمال الجمل، وجمال الغزال، ومكر الثعلب. ولمّا جاء عليُّبن الجهم بغداد قادماً من بيدائه باقياً على جفائه، مدح الخليفة فجمع فيه من هذه الصفات التي كان يراها مزايا، حتى لم يكَد يدع حيواناً إلاّ شبهه به (كما زعم الرواة)، فأنكر عليه أهل المجلس، ولكن الخليفة رأى فيه جوهراً غالياً ينقصه الصقل، فأمر بإسكانه في أجمل أحياء بغداد يوم كانت بغداد أجمل وأجلّ بلاد الدنيا. فما مضت أشهر حتى غدا عليه بقصيدته المشهورة: عيونُ المَها بينَ الرُّصافةِ والجسرِ ... جلَبنَ الهَوى مِن حيثُ أدري ولا أدري أعَدْنَ ليَ الشّوقَ القديمَ ولم أكنْ ... سَلَوْتُ ولكنْ زِدنَ جَمراً على جَمري ولمّا كنت أدرّس الأدب العربي في بغداد سنة 1936 سألني طالب عن معنى هذا البيت، لأن الرصافة (وهي الجانب الشرقي من بغداد) متصلة بالجسر، فأين يكون مجال الغيد الحسان بينهما؟ فتردّدت وكدت أقول لا أدري، ثم فُتح عليّ فعرفت المراد، وهو أنها تُرى بينهما، فهي تارة في الرصافة وتارة على الجسر، كما

تقول عن الرجل الصالح المعتزل الدنيا: هو بين بيته ومسجده. ومن طريف الذكريات أني كنت أدرّس مرة في ثانوية البنات في دمشق (ولم أكن مصيباً في قبول التدريس فيها، وأستغفر الله الآن من دخولي إليها، لأنه لا يجوز في شرع الله ولا في طبع عباده من العرب أن يتولى رجل تدريس البنات البالغات، وأكثرهن سافرات كاشفات، فكيف بأن تدرّس بنتٌ فتياناً؟) وكنت أشرح قصيدة الحُطيئة، فمرّ ذكر «بَغيض» فسخرَت طالبة من اسمه واستقبحته. فسألتها: ما اسمك؟ قالت: مها. قلت: أفلا أنكرتِ اسمك والمهاة هي البقرة؟ فوضعَت رأسها بين كفّيها وانكبّت على المقعد تبكي، وأطالت البكاء. قلت: ما الذي يُبكيك؟ قالت: أبكي لأنك قلت إني بقرة. قلت: إنها البقرة الوحشية، ثم إن أهلك -وهم أعرف بك وأحنى عليك- هم الذين سمّوك بهذا الاسم. فازدادت بكاء، قلت: لك أن تبكي ما شئتِ ولكن لا تُخرجي صوتاً يعطّل علينا درسنا. على أن المها ليس البقر بل هو نوع من الظّباء. فانظروا إلى المعنى الواحد كيف يرفعه أو يخفضه التعبير عنه، كالقائد الذي زعموا أنه رأى رؤيا فدعا بمن يعبرها له، فقال له: ستموت أسرتك كلها. فشتمه وأمر به فأُخرج من مجلسه، ودعا بآخر فقال له: أنت أطول عمراً من أسرتك كلها. فهشّ له وأكرمه. والمعنى واحد ولكن اختلف التعبير. وصحّت كلمة الجاحظ حين قال: «إن المعاني ملقاة على قوارع الطرق، وإنما يتميز الناس

بالألفاظ». ولعلّه يقصد أن المشاعر الإنسانية متشابهة، فما يموت لأحد حبيبٌ إلاّ حزن ولا تأتيه بشارة أو عطيّة إلاّ فرح، ولكن تتفاوت أقدار الناس في التعبير عن هذا الحزن وهذا الفرح. * * * وصُحبتي الحيوانات قديمة، إذ كان من أوائل ما وقعَت عليه يدي في مكتبة أبي كتاب «حياة الحيوان الكبرى» للدَّميري. وهو كتاب عجيب؛ فيه فقه، بل إنه يُعَدّ أقرب مرجع في معرفة ما يؤكَل وما لا يؤكل من الحيوان، وكتاب لغة، فهو يضبط الأسماء، وكتاب أدب، فهو يسرد الأخبار، وكتاب طبيعة، فهو يشير إلى بعض خصائص الحيوانات، وكتاب تاريخ، فهو يلخّص فيه مراحل طويلة من تاريخنا، وهو على ذلك كله مملوء بالخرافات والأوهام والأباطيل وما يدخل العقل وما لا يدخله وما يُفسِده ويعطّله. ثم لمّا كبرت قرأت كتاب «الحيوان» للجاحظ فوجدت فيه تلك الألوان كلها، ولكن الذي فيه أعلى وأغلى، وحسبك أنه من تصنيف الجاحظ. وكان من أوجع ذكريات الصغر أننا كنا نشتري، أو يشتري أهلنا، كبش العيد، فيبقى عندنا حيناً نُطعِمه نحن الصغار ونُعنى به حتى يألفنا ونألفه، نغسله وننظفه ونمرّ بأكفّنا على صوفه، أو نعانقه أو نكلّمه، نهمس في أذنَيه بما لا يدركه ولا يفهمه من مناغاة الأحبّة ومناجاة أهل الغرام. فإذا جاء يوم العيد وأخذوه لِما اشتروه له، وهو الذبح، أحسسنا ونحن صغار بما يحسّ بمثله من يُقتل حبيبه أمام عينيه فلا يملك له نصراً. وكنا نتصور صوته وهو

يثغو يقول: باغ، ويمدّها، نتصوره نداء مستغيث يستجير بنا، ينادينا، فنشعر بقلوبنا تتمزق حسرة وتفيض من عيوننا الدموع أنْ لا نجد ما نردّ به عن عنقه سكين الجزار! * * * أمضينا في هذه الحديقة مع الحيوانات الطليقة ساعات طوالاً، وكنت أراها أول مرة، ما عرفت من قبل إلاّ أسوداً محبوسة في الأقفاص أو محسورة وسط الأسوار، فقلت: أجعل حديثي في هذه الحلقة عن الحيوانات أصحبها فيها، ولعلّ صحبتها أسلم من صحبة كثير من الناس، فهي لا تكذب ولا تغتاب ولا تنمّ، ولا تخون أوطانها ولا تجحد أديانها، ولا تبخس إخوتها مزاياها ولا تدّعي لنفسها من المزايا ما ليس لها. وإذا عض الذئب أو لدغ الثعبان أو افترس الأسد فإنما يفعل ذلك دفاعاً عن نفسه وحفاظاً على حياته، ثم إنه لا يقتل إلاّ فرداً واحداً ولا يستعمل إلاّ نابه وظفره أو قطرة من السم أعدّها الله سلاحاً له، وبعض بني الإنسان يتخذ أنياباً من الحديد والفولاذ ومخالب من البارود والنار، وألواناً وأشكالاً من السموم، ويأتي عدوّه من الأرض ومن السماء ومن جوف البحر ومن فوق السحاب، ويُبيد بضربة واحدة آلافاً وعشرات الآلاف من إخوانه وأخواته، لا يحارب إلاّ قليلاً دفاعاً عن النفس وحفاظاً على الحياة، بل يحارب غالباً لأنه لا يستطيع إلاّ أن يحارب. وأغرب من ذلك أنه جعل القتل بالجملة فناً من الفنون وعلماً من العلوم ووضع له القواعد وفتح له المدارس. فأيهما -سألتكم

بالله- أوحش: وحوش الغاب أم بعض بني الإنسان الذين يدّعون أنهم من المتمدنين؟ وأيهما أسلم عاقبة وأقلّ خطراً: صحبة البشر أم صحبة البقر والجمال والحمير والبغال؟ فدعوني أَجُبْ اليوم معكم في عالَم الوحوش والبهائم وفاء لبعضها ببعض ما قدّمَت إلينا؛ هذا الجمل لولاه ما استطاع العرب العيش في هذه الصحراء: فعليه ركوبهم، ومن شعره ووبره خيامهم، ومن لحمه ولبنه غذاؤهم، ومنه ومما يتصل به جاءت في العربية ألفاظ كثيرة اغتنى بها لسانهم، ولو أحصُيت هذه الألفاظ وشُرحت لجاءت منها رسالة جامعية ينال بها مؤلّفها أعلى الشهادات. ولمّا ذهبت إلى كراتشي في مطلع رحلتي إلى المشرق التي سُقت لكم فيما مضى طرفاً منها رأيت سيد حيواناتها الجمل، لا الجمل الذي تعرفونه بل الجمل العظيم الذي هو أضخم من جمالنا جثة وأطول عنقاً وأعلى سناماً، والعرب كانوا يعرفونه ويسمّونه «السّنْديّ» ومنه ومن الجمل العربي يولد نوع من الجمال يُسمّى البُخْتِيّ» (وجمعه البُخْت، وفي الحديث: كأسنمة البُخت). والعجيب أنهم لا يضعون أحمالهم عليه بل يتخذونه للجرّ، يُعِدّون العربة التي تعدل في ضخامتها سيارة الشحن ويملؤونها ويربطون بها جملاً واحداً، فيجرّها من غير انزعاج. وهو على ضخامته أسرع من جمالنا، وهم يتخذون له في ركبتيه جلاجل وأجراساً صغاراً، كلما خطا رنّت فاستطاب صوتَها. والجمل كما تعلمون (أو لا تعلمون، فلست أدري) حيوان موسيقي، لذلك يتخذون له مغنّياً خاصاً يصحب القوافل

يغنّي له الأغنية المحبَّبة إليه، وذلك هو «الحُداء»، وللشعراء شعر كثير يذكرون فيه الحادي. ورأيت في كراتشي حميراً صغاراً جداً، وهي قوية وسريعة، لا يجاوز حجمُ الواحد منها حجمَ الخروف الكبير ولكنه يجرّ عربة ويطير بها. ولقد قرأت وأنا صغير كتاباً مترجَماً عنوانه «خواطر حمار»، تَبيّن منه أن للحمار خواطر وأفكاراً. وقد ترجم بشار من قبل عن عواطف الحمار ووصف غرامه بأتان (أي حمارة): روى محمدبن الحجاج قال: جاءنا بشار يوماً، فقلنا: ما لك مغتمّاً؟ قال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: لم تركتَني؟ ألم أُحسِن إليك؟ فقال لي: سيّدي خُذ بي أتاناً ... عند باب الأصفهاني تيّمَتني يومَ رُحنا ... بثناياها الحِسانِ وبغُنْجٍ ودَلالٍ ... سلَّ جسمي وبَراني ولها خَدٌّ أسيلٌ ... مثلُ خدّ الشَّيْفراني فلذا مِتُّ ولو عِشـ ... ـتُ إذن طالَ هواني (¬1) قال: فسألناه: ما هو الشَّيْفراني؟ فقال: هذا من لغة الحمير، فإذا لقيتموهم فاسألوهم (¬2). ¬

_ (¬1) خذ بي أتاناً: أي اطلب ثأري عند هذه الأتان. وثناياها: أي أسنانها. سلّ جسمي: أي أدخله بمرض السل. (¬2) في «الأغاني» أن بشّاراً كان يحشو شعره إذا أعوزَته القافية بالأشياء التي لا حقيقة لها؛ فمن ذلك أنه أنشد يوماً: «غنّني للغَريضِ ياابنَ قَنانِ»، فقيل له: مَن ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه من مغنّي البصرة. =

وكان عندنا جمعية أعضاؤها من كرام الناس وكبار الأدباء اسمها «جمعية الحمير»، ألّفوها للتسلية وللمزاح، كتبتُ عنها مقالة في الرسالة في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي، وهي في كتابي «مقالات في كلمات» (¬1). ومما يعجب له السائح في كراتشي وفي غيرها كثرة الغربان، فهي لا تزال تحوم حول البيوت وتنعب وتخطف ما تصل إليه من الطعام، وهي آلاف مؤلَّفة لا يُدرِكها العدّ، ولم أرَ بلداً أكثر غرباناً من كراتشي إلاّ كلكتا في الهند. ولست أدري لماذا كان العرب يتشاءمون بصوت الغراب ويرونه دليل الفراق، ويزعمون أنهم يفهمون معنى هذه الأصوات ويسمّونه غراب البين، مع أن الحقّ في قول من قال: ما فرّقَ الآلافَ بعدَ اللهِ إلاّ الإبِلُ وما إذا صاحَ غرابٌ في الديارِ احتملوا وما غرابُ البَينِ إلا ناقةٌ أو جَملُ وعلى ذكر كَلكُتّا فإني لم أجد مدينة أشدّ كآبة منها. وهي قديمة كبيرة، كان فيها لمّا زرتها من إحدى وثلاثين سنة ¬

_ = قال: وما عليكم منه؟ ألكم قِبَله دَين فتطالبوه به أو ثأر تريدون أن تدركوه؟ أو كفَلتُ لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ قالوا: وكان كثيراً ما يحشو شعره بمثل هذا، ومنه «الشّيفراني» الذي رواه على لسان الحمير. انظر الأغاني 3/ 157 (مجاهد). (¬1) مقالة «يؤمنون بالحمار» (مجاهد).

(سنة1954) خمسة ملايين ونصف المليون من الناس، أي بمقدار ما كان يسكن يومئذ سوريا ولبنان والأردن معاً. ومن عجائبها أن الناس فيها يجرّون العربات الصغيرة (الركشات) بدل الحمير والبقر، والبقر تمشي في الطريق تختال عجباً لأنها مقدَّسة معبودة! وليس أمر بقرة أو اثنتين أو عشر أو عشرين، بل إنك تلقى كل خمسين متراً بقرة، تمشي كما تريد، تأكل فاكهة البياعين وزهور الحدائق فلا يطردونها بل يتبرّكون بها، وتقطع الشارع الهائل الذي تمرّ فيه كل دقيقة عشر سيارات فتقف السيارات كلها وتنقطع الحركة حتى تجوز البقرة، كأنها حمارة أبي سَيّارة عند العرب قديماً أيام الحج حين كانوا يقولون: خلّوا الطريقَ لأبي سيّاره ... حتّى يُجيزَ آمناً حِمارَهْ وربما خطر للبقرة أن تُطيل الوقوف في وسط الشارع، فتميل السيارات عن المكان الذي وقفت فيه وتذهب من طريق آخر! ولقد مررتُ مرة بالسينما الفخمة التي أقامتها في كلكتا شركة مترو الأمريكية، وهي تُزري من فخامتها بالقصور، فرأيت بقرة قد قعدت على الرخام الذي يلمع كالمرايا تحت شبّاك التذاكر، ثم تبرّزَت ونامت، فتركوا الشبّاك وفتحوا شبّاكاً آخر احتياطياً ولم يُزعِجها أحد! ولقد دعتني محطة دهلي العظيمة لأذيع منها أحاديث عن مشاهداتي في الهند، كان منها حديث عن بقرة مشيت قريباً منها لأرى ما تصنع، وسجّلتُ حركاتها وسكناتها ولخّصت فلسفتها في الحياة. أتعجبون أن يكون للبقر فلسفة؟ إن كثيراً من الفلاسفة

الكبار كانوا بقراً. سَجّلوا الحديث ودفعوا لي أعلى قدر من المكافآت التي تُعطى لمحدّث وودّعوني وشيّعوني إلى الباب، ثم لم يُذَع هذا الحديث! وهم لا يحرّمون ذبح البقرة وحدها بل يحرّمون قتل كل ذي حياة، حتى لقد حدّثوني أن الإنكليز رأوا في الحرب العامّة الماضية كثرة الفئران وفتكها بمخازن القمح، فجعلوا لكل من يقتل فأراً ويأتي بذنَبه خمس آنّات (والآنّة كالهللة (أو الهلالة) هنا والفلس في العراق والملّيم في مصر). فهاجت العامّة وضجّت الصحف وكانت المظاهرات، حتى استجابت الحكومة وأبطلت القرار، وتركت الفئران تأكل من القمح ما تشاء. ولمّا وصلتُ إلى «لَكْنَوْ»، ولوصولي إليها قصة لم أكتبها ولم أحدّث بها، تلك أننا أنا والشيخ أمجد الزهاوي رحمه الله كلما جئنا بلداً وجدنا من يستقبلنا ممن يهتمّ بالقضية التي رحلنا من أجلها وللتعريف بها، وهي قضية فلسطين. فلما نزلنا من الطيّارة في لكنَوْ لم نجد في استقبالنا أحداً (¬1). ولكنو كانت محطّ رجائنا وموضع ثقتنا لأنها بلد أخينا وحبيبنا الأستاذ أبي الحسن النّدْوي، فما عرفنا أين نذهب، فسألت عن الأوتيل (وكلمة «أوتيل» تُفهَم في كل مكان) فعرفنا أن الشركة، شركة الطيران التي حملتنا ¬

_ (¬1) سيأتي هذا الخبر بتفصيل أكبر في الحلقة الثانية من «الندوي ومذكراته»، وهي الحلقة 221، وفيها: "لمّا وصلنا لم نجد في استقبالنا أحداً، لأنهم ترقبوا وصولنا بالقطار وانتظرونا في المحطة، لم يقدّروا أن نأتي بالطيارة" (مجاهد).

من دهلي إلى لكنو، تنزل في فندق كبير في القسم الجديد من المدينة، وهو «حضرت كنج». ولكنو ثلاثة أقسام: قسم قديم مسوَّر مُغلَق من كل جهة ما فيه إلاّ بابان متقابلان يصل بينهما شارع واحد، وقسم كبير فيه جلّ المدينة، والقسم الجديد الذي فيه الفندق. وكان يوماً مطيراً تهطل أمطاره كأفواه القِرَب، فأخذنا غرفتين في الفندق، وكان أكبر فنادق البلد، وحاولنا أن نهتف بالأستاذ الندوي فلم نجد إليه طريقاً. والشيخ أمجد رحمه الله يضيق صدره ولكن ينطلق لسانه، فلا يسكت عن النقد وعن الإلحاح عليّ بأن أُخرِجه من هذه الورطة، فأخذت سيارة تحت المطر وجعلت أجول في الطرق لا أعرف أين أتجه، وكلما التفت إليّ السائق يسألني أشرت إليه بأن يمضي. والعداد، عدّاد التاكسي، يسجّل علينا، حتى مررت برجل تفرّست فيه فوقع في ظني أنه من جماعة أبي الحسن، فأخذنا إليه. أعود إلى ما بدأت به في الكلام عن الحيوانات، وهو الموضوع الذي عقدت هذه الحلقة عليه. لمّا وصلنا إلى لكنو مدينة أبي الحسن قبل أن نلقاه قعدت في شرفة فندق كارلتون العظيم وطلبت شاي العصر، وهو عند الإنكليز من الفرائض، فسمعت جاري الإنكليزي يصيح، فنظرت فإذا القرد قد تغفّله وخطف قطعة الفَرَانيّ (الكاتو)! وإذا السطح كله قِرَدة تثب وتدخل البيوت وتخطف الطعام، وهي مثل القطط في بلادنا، والشجر المحيط بالفندق مملوء بالقردة تتسلّق أغصانَه وتقفز من غصن إلى آخر. ومنظرها من أمتع المناظر، منها الكبير ومنها الوسط، ومنها

ما لا يزيد حجمه مهما بلغ من العمر عن حجم القطة الصغيرة. ولقد أردت أن أشتري واحداً منها فإذا هو غالي الثمن، وإذا الطيارة لا تُركِبه معي إلاّ بصعوبة بالغة وبعد فحوص طبية لا أقدر عليها لنفسي! وابن القرد يتعلق ببطن أمه متمسكاً بخاصرتيها وهي تثب به الوثبة بعرض ستة أمتار أو سبعة، وهو يقلّد الناس تقليداً يُضحِك الأم الثكلى (كما كانوا يقولون). ولقد رأيت من قبل في حدائق الحيوان في مصر وغيرها من القردة، ولكن القرد المطلَق يفعل ما لا يفعله المحبوس في القفص. ودخلت غرفتي في الفندق، وهو عادة ساكن هادئ من أجمل ما نزلنا فيه من الفنادق، فسمعت صوت رجل عجوز يتكلم الإنكليزية فيجيب طفل صغير ألثغ ينطق السين ثاء، ثم تعقّب عليهما فتاة بصوت فضّي له رنين، وتكون سكتة ثم يرجع صوت العجوز والطفل والفتاة بالكلام نفسه، وتَكرّر ذلك عشرين مرة، فعجبتُ وخرجت فلم أرَ أحداً، فعُدت إلى غرفتي فسمعت الأصوات ذاتها، فجعلت أفتّش فإذا الصوت من طائر أسود في قفص يشبه الشحرور تماماً، وإذا هو أفصح من الببغاء وأغلى منها ثمناً يقلّد الأصوات كلها، يسمّونه «اليمامة». ومن المصادفات التي قد لا يصدّق بعض القراء أنها وقعت أنه كان معي في تلك الساعة كتاب «تاريخ الخلفاء» للسيوطي، وهو من الكتب التي أُولِعتُ بها من صغري وأعَدت قراءته أكثر من عشرين مرة، فوجدت فيه خبراً عن مثل هذا الطائر أُهديَ إلى الخليفة يقلّد الأصوات، وأطبقتُ الكتاب وخرجت من الغرفة وإذا بي أجده!

والببغاوات في لكنو وفي أمثالها من مدن الهند الداخلية تطير حرّة كالعصافير، وأجمل منها الطواويس تختال في الشوارع الكبرى والحدائق العامّة مثلما تختال البقر (ولا مشابَهة!) ولا يعرض لها أحد. ومن أخبار الحيوانات التي رأيتها أن الجواميس في الهند الجنوبية والملايا (ماليزيا) وأندونيسيا هي التي تجرّ مراكب الحمل، وهم يَخرمون آنافها ويضعون لها الأرْسان. ورأيت في لكنو حيوانين لم يكونا يومئذ في حديقة القاهرة هما «البَبْر»، أي الأسد الهندي، وهو كما قالوا أخطر من الأسد الإفريقي. ورأيت الكَرْكَدَّن، أي وحيد القرن، وهو بحجم الجاموس العظيم ولكن رأسه أكبر من رأس الفيل على ذمّة ابن بطوطة، وله قرن واحد يبلغ طوله كما رأينا نحواً من نصف ذراع. وكان نائماً فطلبنا من خادم الحديقة أن يوقظه لنراه، فجعل يطعنه برمح له سنان حاد فلا يتحرّك، فخفنا أن يجرحه، فأفهمَنا الترجمان أن جلده لا تؤثّر فيه الأسنّة. والغريب أنه يعيش على أكل الحشيش، فلما قطع له الخادم أوراقاً من الشجرة وألقاها قريباً من أنفه وشمّ رائحتها قام متثاقلاً فأكلها، ثم ألقى نظرة علينا من طرف عيونه الصغار جداً، فظهر لنا أننا لم نُعجِبه ولم يرَ فينا ما يستحقّ النظر، فقلب شفته احتقاراً وحرّك قرنه (أو هذا ما خُيّل إلينا) ورجع فنام. وأخبث حيوان رأيته هو أني نزلت في دهلي في نُزُل كبير للحكومة يشبه الفندق فيه نحو ستمئة غرفة اسمه «كونْستِتْيوشِنْ هاوْس». وكنت قد فصّلت في كلكتا قميصاً جديداً ألبسه بدل

الرداء (الجاكيت) لأن الحرّ لا يدعك تُطيق الجاكيت، فعلّقته على كرسي، ورجعت بعد أن غبت ساعتين عن الغرفة فإذا هو مثقَّب ثقوباً منتظمة كالدوائر. ولم أدرِ ما الذي فعل به ذلك حتى دلّوني على حشرة أصغر من الذبابة تقرض الثياب فتُفسِدها، فضاع مني القميص، ولكني جئت أنشر هجاءها الآن على طريقة من قال: «أوسعته شتماً وأودى بالإبل». وقال هذا أحد الحمقى، ولكنه ينطبق مع الأسف علينا أو على أكثرنا -معشرَ العرب أو المسلمين- في هذه الأيام. ومن أعجب مشاهد الحيوان التي شهدتُها أن حاوياً (أي مربّي الحيّات) دخل علينا فندق «سي فيس هوتيل» (أي فندق جبهة البحر) في بومباي وعرض علينا بعشرين روبية مشهد معركة بين الكوبرا (وهي أخطر أنواع الحيّات بالدنيا، ليست بالطويلة ولكن رأسها بعرض الكف) وبين حيوان نسيت اسمه الآن (¬1). نفخ في نايه، حتى إذا استغرق في أنغامه أخرج الحيّة من كيسها فانتصبت قائمة تدور حوله مع النغم، وأخرج حيواناً صغيراً جميلاً جداً ليس له ظفر ولا ناب وهو يشبه السنجاب، فلما رأته ورآها هجمت عليه وهجم عليها، ومات الاثنان في لحظة واحدة. فسألت: ما الحكاية؟ قال: إنهما عدوّان، يلتقط رأسها بفمه الكبير ويطبق عليها فتختنق، وتلدغه قبل أن تختنق فيموت الاثنان معاً. وقالوا إنه لولا هذا الحيوان لفتكت الكوبرا بأهل الهند. ¬

_ (¬1) هو النِّمْس، والنُّموس من اللّواحِم الصغيرة. قال صاحب القاموس: "النّمس (بالكسر) دُوَيبَّة بمصر تقتل الثعبان" (مجاهد).

وقد أودع الله في كل حيوان قوة يدافع بها عن نفسه، من مخلب أو ناب، أو قرن ينطح كقرن الثور، أو خرطوم يرفع ويخبط كخرطوم الفيل، أو سم كسم الحية، أو شوك كشوك القنفذ، أو درع كدرع السلحفاة، أو مكر كمكر الثعلب، أو سرعة كسرعة الغزال ... ومن أعجب أسلحة الحيوان أن الحُبارى تقاتل بزَرْقها، فإذا رأت حيواناً زَرَقت عليه (أي بالت عليه) فيخرج زَرْقُها حامياً منتناً منطلقاً كالرصاصة فيقتل، ولذلك قالت العرب: «سِلاحها سُلاحها». أما هذا الحيوان الوديع الأليف البديع الظريف فسلاحه شجاعته، فهو يلتقم فمَ الحية فيقتلها، ولكن هذه الشجاعة تقتله. الحديث عن الحيوان طويل، فأكتفي منه بهذا الذي قيل. * * *

كتاب جديد أثار في نفسي ذكريات قديمة

-211 - كتاب جديد أثار في نفسي ذكريات قديمة كنت أسكن في دمشق بحيّ المهاجرين، وهو قائم على جبل قاسيون شوارعُه تعترض الجبلَ صاعدةً فيه، والبيوتُ مصفوفة فيها صفَّ الكراسي في مُدرَّج المسرح. وكانت لدارنا حديقة واسعة تلعب فيها الصغيرات من بناتي، فإذا كان الليل وأظلم الكون خافت إحداهنّ من الخروج إليها. فأخذتها مرة وأخذت معي كشّافاً كهربائياً صغيراً، واخترقت بها حُجُبَ الظلام وهي متهيّبة خائفة تتمسّك بي، حتى إذا توسطتُ الحديقة أضأت الكشّاف وقلت لها: انظري، ما الذي تخشينه؟ هذه هي الشجرة التي كنتِ ترينها في النهار وتلعبين من حولها، وهذه هي البِركة الصغيرة، وهذا حوض الورد، ما تبدّل في الحديقة شيء. فلما رأت كل ما فيها على حاله لم تعُد تخشاها أو تجزع من الخروج إليها. وكثيرٌ مما نخافه في هذه الحياة وكثير من الموضوعات التي تتحاماها الأقلام وتبتعد عنها الصحف مثلُ هذه الحديقة،

لاتحتاج إلاّ إلى عود كبريت أو إلى مصباح كشّاف يُظهِرها لأعيننا فنرى أنه ليس فيها ما نخشاه، ولكن الظلام الذي كان يلفّها وخيالَنا الذي كان ينطلق وسط هذا الظلام هو الذي يملأ نفوسنا بالمخاوف والأوهام. ومن ذلك كتاب صدر في الشام في هذه الأيام يعرض لواحد من هذه الموضوعات، لرجل كان من رجال القضاء، انقطع إلى النيابة العامة فبلغ أعلى مرتبة فيها، فكان يوماً النائبَ العامّ لدى محكمة النقض ثم لدى المحكمة الدستورية العليا، ثم صار الأمين العامّ لمجلس الوزراء ثم لديوان رياسة الجمهورية. وما عرفناه من قبلُ من أهل التصنيف والتأليف ولا من أرباب الأقلام وأصحاب البيان، ولا أعرف عنه أنه من العلماء أو من أرباب الفكر، كما أنه لم تُعرف عنه نقيصة ظاهرة ولا عيب معروف، ولا ساءت قالةُ الناس في خُلقه ولا في أمانته. فهو -كما يقول الفقهاء- رجل مستور، أي أنه كالنسخة الجيدة من الكتاب المطبوع، ما فيها عيب يُعاب، ولا تنفرد بمزيّة عن أمثالها كما تنفرد النسخة المخطوطة النادرة التي يُغليها فَقد أمثالها أو قلّتها، لذلك تُشترى بالثمن الغالي ولو كان فيها خرم أو فيها نقص أو أصاب جوانبَ صفحاتها الماءُ. فكيف إذن بلغ هذا المنصب العالي وهو موظف عادي كسائر الموظفين؟ وكيف تبوّأ سامي المراتب وعالي الدرجات؟ ذلك لأنه جاء في عهد الانتداب أيام الفرنسيين، وهو نصراني، والفرنسيون لا يُعطون مسلماً شيئاً إن وجدوا مَن يصلح له ممن هو على دينهم وملّتهم. ثم إذا همسنا بشكوى أو نطقنا بها قالوا: إنكم تفرّقون بين أبناء الوطن الواحد وتبعثونها عصبية دينية!

وجاء مؤلف هذا الكتاب يردّد النغمة المملولة ويعيد هذه الحُجّة الواهية، مع أن كتابه كله دعاية للنصرانية وأهلها، فلا يبصر في تاريخنا غيرهم. ومن نظر في عناوين كتابه رأى صدق هذا الذي قلت، فهذا فصل عن العرب النصارى في الدول العربية، وفصل فيه عهد عمر إلى بطريرك القدس، هذا العهد الذي نقضوه وخالفوه وطالبوا بما لهم فيه ونسوا ما عليهم. وكل عهد في الدنيا فيه واجبات وفيه حقوق، فهم يهملون الواجب عليهم في العهود كلها ويطالبون بأكثر من الحقّ الذي هو لهم فيها! وفصل عنوانه «مواقف مشرّفة» ذكر فيه منقبة صغيرة لقائد عربي قال إنه من النصارى، وأهمل مئات المناقب الكبار لقادة المسلمين. وتكلم في فصول أخرى عن رجال ما فيهم أحد من غير النصارى، كالبطريرك غريغوريوس حداد وإلياس الرابع وأمثالهما، وأهمل ذكر غيرهم ممن كانوا أجلّ منهم قدراً وأبقى ذكراً من رجال المسلمين. وتكلّم في فصول أخرى عن يوسف الحكيم وسليم جنبرت وحدهما لأنهما نصرانيان. أفليست هذه هي الفرقة التي يقول إنه ينكرها ويأباها ويعلم أن الحقّ في سواها؟ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وذكر معهما جُول جمّال، هذا الذي سُخّرت وسائل الإعلام كلها في مصر والشام لتعظيم ما عمل وصبّ الثناء على رأسه على هذا العمل، ولم يدّخروا في تعظيمه صورة ولا إليه طريقاً إلاّ أثبتوا الصورة وكبّروها وعبّدوا الطريق وسلكوها، فسُمّيت باسمه المدارس وأُدخلت قصته في مناهج الدراسة قبل أن يتحقق أحد منها أو يتثبّت من صحّتها.

وأرادت الدولة على عهد الرئيس شكري بك أن تُقيم له حفلة تأبين رسمية، فاختاروا أكبر رؤساء الدين عند النصارى ليتكلم فيه باسم النصارى واختاروني أنا لأتكلم عن المسلمين. فأبَيتُ، وبعث إليّ الرئيس بأخينا الدكتور سعيد فتّاح الإمام، وهو رجل معروف، يبلغني الأمر، فلم أستجِب. فهتف بي الرئيس (أي كلّمني بالهاتف) فقلت له: ياسيدي، أنت اليوم رئيسنا في الحكم وكنتَ من قبل زعيمنا في النضال، نأتمر بأمرك ونمشي أنا وطلاّب البلد الذين كنت أقودهم وراءك، لا نعصي لك أمراً، ولكني أستعفيك اليوم من هذا المقام. قال: وما السبب؟ قلت: ياسيدي، أنت شاركت في الثورة السورية الكبرى بنفسك ومالك، ورأيت ما صنعنا من البطولات، وعرفت كم بذلنا من الشهداء وكم أرقنا من الدماء، فلماذا نسيتموهم جميعاً وأفردتم هذا الشابّ بهذا التكريم؟ ألأنه نصراني وهم مسلمون؟ ولم أذهب، وذهب صديقنا رحمه الله الأستاذ محمد المبارك فتكلّم في الحفلة بما فتح الله به عليه. * * * الكتاب اسمه «الدولة والقومية العربية والدين والوحدة». وليس هذا اسماً مألوفاً لكتاب، ولكنه قائمةٌ تُعدّد موضوعات الكتاب! والغريب أنه لا يقصد بالدين دينه هو وهو نصراني ولكن ديننا نحن المسلمين، وهو يتكلم في الصفحة 124 تحت عنوان: «الزاوية الإسلامية» في العقيدة فيفسّر آيات من القرآن، مثاله فيها مثال مسلم كتب في عقيدة البوذيّين مثلاً وذهب يشرح كتابهم

الذي يقدّسونه، وما أنزله الذي أنزل القرآن، ويأتي بشيء لا يعرفه أحبارهم ولا رهبانهم، ولو سمعوا به لأنكروه وردّوه على قائله، بل لأدّبوه، لأنه يدخل فيما ليس من شأنه ويتكلم بما لم يُحِط به علمه ولم يبلغه فهمه. وللطب حُماته والذائدون عنه، فإن انتحل صفةَ الطبيب مَن ليس من أهله ففتح عيادة أو كتب وصفة لاحقوه قضائياً فعاقبوه، وكذلك من ادّعى أنه مهندس وما هو بمهندس فرسم خريطة حاكموه وجازوه. فما لنا نرى بابين مفتوحَين لا حارس عليهما ولا بوّاب، يدخلهما مَن شاء، وهما أخطر من الطبّ ومن الهندسة، هما الدين والسياسة؟ فمن أراد تكلم في الدين ولو خالف الأئمّة من الأولين والآخرين، أو أفتى ولو جاء بما لم يقُل به أحد من المفتين، حتى وصل الأمر إلى الخواجة حنّا مالك مؤلف هذا الكتاب، فصار يفسّر القرآن الذي لا يؤمن هو بأنه من عند الله، وليس عنده من العلم بالعربية وعلومها ولا من معرفة دقائقها وأسلوب أهلها ما يجعله أهلاً للتصدّي لتفسير القرآن، وهو لا يُقيم لسانه ببيت شعر ينقله في هذا الكتاب ولا يتنبّه إلى خلل فيه حين أبدل كلمة بكلمة فاختلّ الوزن وضاع المعنى، بل هو يروي نشيداً كان مشهوراً على أيامنا يهتف به الطلاّب في مدارسهم، فيأتي به على غير وجهه. فما للدين لا يجد من يحميه؟ لقد كانوا يقولون قديماً: لقدْ هزَلَتْ حتّى بدا من هُزالِها ... سَلاها وحتّى سامَها كلُّ مُفلِسِ فماذا نقول وقد زاد بها الهُزال حتى لم يبقَ منها إلاّ العظام،

وحتى أقدمَت عليها السباع والضباع والهوام؟! إن المؤلّف يسرد ترجمة لنفسه في أول كتابه كتبها بقلمه، فلم يجد من مؤهّلاته العلمية إلاّ أنه نال إجازة (أي ليسانس) الحقوق من كلية دمشق سنة 1924، قبلي أنا بتسع سنين، وأنه احتلّ مناصب عدّدها ونال أوسمة سردها، وكل ذلك لا ثقل له في ميزان العلم. فإذا سرد مؤلَّفاته لم يذكر إلاّ هذا الكتاب الذي هو لمامة من المراجع القريبة والمجلات الدورية، اعتمد فيه على غير المسلمين أو على مسلمين كانوا أجهل بالإسلام وشراً عليه ممن يقول إنه من غير المسلمين. ومذكرات قال إنها جاهزة للطبع، أي أنها لا تزال في بطن أمها لا يدري أحد متى يكون مولدها وهل تكون ذكراً أم أنثى سوية أو مشوَّهة؟ وإن كنا لا نرجو لها إلاّ التمام والكمال. ومما أثبت فيه أدبه وعلمه أن له سبع مقالات، سبعاً فقط خلال ثلاثين سنة من سنة 1924 إلى سنة 1954. * * * وأنا من يوم أدركت ما حولي أرى النصارى في بلدي يعيشون كما يعيش المسلمون، لهم من الثمرات والخيرات مثل ما لنا، بل ليس لنا في الحقيقة مثل الذي لهم منها! ما ظلمنا يوماً واحداً منهم، وإن ذكرنا النابغين منا ذكرنا نابغيهم، وإن كانت مناصب أحللناهم في أرفعها وأعلاها، حتى إن مدير مدرستنا الابتدائية التي كنت أدرُس فيها في أوائل العشرينيات (لا العشرينات) من هذا القرن في حيّ المهاجرين، وهو حيّ إسلامي وبابُ المدرسة يقابل بابَ المسجد وتطل مئذنته عليها ويُسمَع أذانه فيها، كان

مديرها نصرانياً وكان له زملاء من النصارى وكنا نبرّهم ونقسط إليهم. بل إن أستاذنا فارس الخوري ولّيناه رياسة مجلسنا النيابي ورياسة حكومتنا، ولم نأبَ ذلك عليه لأنه لم يكن على ديننا. ولا أقول إن ذلك جائز أو مشروع ولا أفتي بمثله ولكن أقرّر ما كان، وإن كان الأستاذ فارس الخوري قد مات -كما شهد من كان يصحبه وكما دلّت عليه القرائن كلها- مات مسلماً. وجدت في هذا الكتاب سؤالاً لو ألقيناه نحن المسلمين لقاموا علينا وقالوا إننا نفرّق الجميع ونصدّع بناء الأمة الواحدة، ولكن قائله نصراني وذنب النصارى مغفور! كنا إذا تكلمنا في موضوع المسلمين والنصارى ولو في دفع تهمة عنا أو ردّ بهتان علينا أو شكوى من ظلم نالنا قالوا لنا: إنكم تفرّقون الجمع وتمزّقون وحدة الأمة وتُعطون المستعمر سلاحاً يحاربنا به. مع أننا عشنا نحن المسلمين مع النصارى واليهود قروناً طِوالاً ما شكوا يوماً من ظلم وقع عليهم منا أو حقّ لهم سُلب منهم بأيدينا أو بسببنا، بل إننا كنا نخالف في بعض العهود ديننا فنحكّمهم في رقاب المسلمين ونجعل لهم سبيلاً عليهم، وذلك محرَّم في ديننا. حتى دخلَت أصابع الطامعين فينا الذين كنا نسمّيهم المستعمرين، وما هم إلاّ المخرّبين أو المستخربين (كما نسمّي المكفّرين بالمبشرين!) فصدّعَت هذه الأصابع وحدتنا. وجاء -من بعد- مَن يوقد نار الفتنة وهي مُطفأة ويوقظها وهي نائمة كمؤلّف هذا الكتاب (وأنا أعرفه حقّ المعرفة، وكان يوماً من الرؤساء في القضاء) فكتب كتابه هذا الذي حاول أن يجعل فيه النصارى أمة قائمة برأسها منبتّة عنا مباينة لنا، حتى إنه عقد فصلاً عنوانه «الملّة الأرثوذوكسية».

وإذا كانت مهنة الإنسان يَظهر أثرُها فيما يقول وفيما يكتب، وكان الأستاذ حنا مالك مؤلّف هذا الكتاب عاش حياته كلها في النيابة العامة حتى بلغ أعلى درجاتها، فإن كتابه مرافعة طويلة ولكن في قضية باطلة! والكتاب ينفع من يقرؤه من النصارى، وإذا كان يدعو ظاهراً إلى نبذ الفرقة فهو يعمل على تثبيتها، وهو يذكّرنا بأن النصراني -وإن عاش حياته كلها مع المسلمين، يخالطهم ويداخلهم ويجد المودّة والعطف والإكرام منهم، حتى يغرّهم منه لطفه ولينه فيخلطوه بأنفسهم ويعطوه من المناصب والمراتب والمزايا ما لا يعطونه لإخوتهم وأبنائهم- فإن ذلك كله لا يجعله (كما يبدو من كتابته لا مما أدّعيه أنا عليه) لا يجعله واحداً منا. نحن قد نُبدي التعصّب ولكنا متسامحون، وغيرنا ممن يعيش بيننا يُظهِر التسامح وهو متعصب. ونحن في العادة نهرب من إثارة هذه الموضوعات، نُغمِض أعينَنا عنها وهي عن أيماننا وعن شمائلنا وهي ماثلة بين أيدينا، فهل نصير كالنعامة التي كذبوا عليها فزعموا أنها تدفن رأسها في الرمل، تظنّ أنها إن لم ترَ عدوّها فإنه لا يراها؟ وهي لا تفعل ذلك ولكنها فرية افتروها عليها، وهي لا تملك لساناً تردّ به عن نفسها، أما أنا فإني أملك بحمد الله لساني وقلمي. لقد جاء في هذا الكتاب سؤال وضعه عنواناً كبيراً لفصل طويل هو: «هل النصارى كفار؟». إنه عنوان يُخيف كل راغب في وحدة الصفّ محبّ لدوام الألفة خائف من التصدّع والانقسام، لذلك نبتعد عنه. ولقد أُلقيَ عليّ هذا السؤال من قبلُ في مجلس كان فيه جمع كبير من قضاة الشرع والمشايخ ومن كبار رجال

الدين من النصارى، وكان يحضره وزراء، وكان الداعي إليه والمشرف عليه رئيس الجمهورية. ألقي عليّ وأجبت عنه. ذلك أنه كان من عادة رؤساء الجمهورية في دمشق أنهم يَدْعون القضاة والعلماء ومَن يسمّونهم برجال الدين إلى مائدة الإفطار في رمضان. وقد ذهبتُ مرتين فقط إلى دعوتين من الرئيسين هاشم بك الأتاسي وشكري بك القوّتلي رحمة الله عليهما، فجمع أحدُهما بيننا نحن قضاة الشرع والمشايخ ورجال الدين من النصارى، وكانت أحاديث مما يُتحدّث به في أمثال تلك المجالس، أحاديث تمسّ المشكلات ولا تخترقها وتَطيف بها ولا تداخلها، ففاجأَنا مرة واحدٌ من كبارهم يعتب علينا أننا ندعوهم كفاراً. فجزع الحاضرون ووجموا وعرَت المجلسَ سكتةٌ مفاجئة، فقلت للرئيس: تسمح أن أتولى أنا الجواب؟ وسألته: هل أنت مؤمن بدينك؟ قال: نعم. قلت: ومَن هم الذين تدعوهم مؤمنين به؟ أليسوا هم الذين يعتقدون بما تعتقد؟ قال: بلى. قلت: وماذا تسمّي من لا يعتقد بذلك؟ ألا تدعوه كافراً؟ فسكت. قلت: إن الكافر عندك هو الذي يرفض أن يأخذ بما تراه أنت من أُسُس الدين وأصول العقائد، وكذلك نحن، فالناس عندنا بين مسلم يؤمن بما نؤمن به من رسالة محمد وأن القرآن أنزله الله عليه وآخر لا يؤمن بذلك فنسمّيه كافراً، فهل أنت مسلم؟ فضحك وقال: لا طبعاً. قلت: وهل أنا في نظرك وبمقاييس دينك مؤمن بما لدى النصارى أو كافر به؟ فسكت وسكتوا. قلت: أنا أسألك، فإن لم تُجِب أجبتُ عنك. أنا عندك كافر لأني لا أعتقد بأن المسيح ابن

الله ولابأنهم ثلاثة الأب والابن والروح القدس والثلاثة واحد ولا بمسألة الفداء، ولا بأمثال ذلك مما هو من أصول عقائد النصارى. وأنت عندي كافر لأنك تقول بها، فلماذا تُنكِر عليّ ما تراه حقاً لك؟ إن ديننا ظاهر مُعلَن ليس فيه خبايا ولا خفايا ولا أسرار، والقرآن يُتلى في كل إذاعة في الدنيا (حتى إنني سمعته مرة من إذاعة إسرائيل) والقرآن يقول: {لقَدْ كفَرَ الذينَ قالوا إنّ اللهَ هُوَ المَسيحُ} ويقول في الآية الثانية: {لقَدْ كفَرَ الذينَ قالُوا إنّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ}؛ فالكفر والإيمان إذن مسألة نسبية، ما تسمّيه أنت كفراً أسمّيه أنا إيماناً، وما أسمّيه أنا كفراً تسمّيه أنت إيماناً، واللهُ هو الذي يفصل بيننا يوم القيامة. فسكتوا. * * * تقولون: لماذا أتكلم أنا عن هذا الكتاب في هذه الذكريات؟ والجواب: لأن هذا الكتاب ردّني إلى ما كنت قطعته من ذكرياتي في القضاء وجعلني أعود إليها ابتداءً من الحلقة الآتية إن شاء الله، والثاني أن لكل متّهَم أن يدافع عن نفسه، وأنا لم يتهمني وكيل النيابة الذي هو أصغر أعضائها بل اتهمني أكبر رئيس فيها، ولم تُعلَن التهمة بين جدران المحكمة الأربعة بل أُعلنت في هذا الكتاب، فقد قال (وأنا أنقل نصّ ما قاله عني لأدافع عن نفسي، ولاحظوا أنني أنقل كلامه بألفاظه وحروفه). قال: صرح مرة شخص سوري مسلم كان يحتلّ مركزاً رفيعاً بقوله إنه كمسلم يفضّل أحقر شخصية إسلامية باكستانية أو أندونيسية على أعلم وأرفع رجل عربي غير مسلم كرجل الدولة

العلاّمة فارس بك الخوري، وكان رحمه الله وقتئذ رئيساً لمجلس النواب السوري. ملاحظة: أنا لم أقُل هذا الكلام كما رواه، ولكن قلت إن آخر مسلم في الهند أو الباكستان أقرب إليّ من فارس الخوري (¬1). ولم أقُل «أحقر شخصية إسلامية» فلا تجتمع الحقارة والإسلام في نفس واحدة لأن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين. ولمّا نُشر هذا الكلام لقيت الأستاذ فارس بك نفسَه، فظننته غضبان وحاولت أن أكلمه، فقال لي بالحرف الواحد: ولماذا أغضب وقد جعلتَني أقرب النصارى إليكم؟ أعود إلى كلام الأستاذ حنا (¬2) مالك، يقول: فهل مثل هذا الاعتقاد يتفق وفكرة المساواة بين المواطنين في الوطن الواحد وفي ظل دستور واحد؟ بل هل يتفق مع جوهر الدين وفلسفته ومع مفهوم القومية العربية؟ ثم قال: تصريح آخر للمواطن السوري المنعوت عنه أعلاه (يقصدني أنا): وبعد مضي ثلاثين سنة ونيف على تصريح هذا المواطن العربي الكريم يعود وينشر في صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 28/ 12/82 مقالاً طويلاً بعنوان «أحد عباقرة العرب في هذا العصر» ويقصد به دولة المرحوم فارس بك الخوري، ويعدّد الكثير الكثير من صفاته المتميزة وشخصيته المثالية وعلمه الواسع الجامع وعقله الكبير ¬

_ (¬1) انظر أول الحلقة التي كتبها عن فارس الخوري، وهي الحلقة الرابعة والخمسون في الجزء الثاني (مجاهد). (¬2) حنا ويوحنا وجان ويوهان وجوهان كلها بمعنى يحيى.

الراجح، ومع هذه العبقرية الفذّة والصفات المتميزة المتوفرة في شخص المرحوم دولة فارس بك الخوري فإن صاحب المقال يستهلّه بالقول: ولكن آخر مسلم في آخر الأرض أقرب إليّ منه! ويقول لمن لامه لقسوته فيما مضى: يريدون أن نجعل الكافرين كالمسلمين وأن ندعو بدعوة الجاهلين وندع كلام ربّ العالمين «إنما المؤمنون إخوة»، فننكر أخوّة الإيمان ونتمسك برابطة اللسان، فيكون أبو لهب وأبو جهل أقرب إلينا من بلال وسلمان؟ كلاّ ولا غرابة، قلتها في أول حياتي وأقولها الآن. انتهى ما نقلته من كلامه. وأنا لم أقل «ولا غرابة» بل قلت «ولا كرامة»، ولكن الأستاذ حنا مالك لا يستطيع أن يميز بين اللفظين! * * * إنني أقول الآن وأنا في الثمانين من عمري ما قلته ونشرته في مطلع شبابي: إن آخر مسلم في الدنيا أقربُ إليّ من فارس الخوري ومن غير فارس الخوري. ومَن لا يقول هذا القول لا يكون مسلماً لأن رابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب ومن رابطة اللسان، والله يقول لنوح عن ولده لمّا وعده الله بأن ينجّي أهله، فقال: ربِّ إن ابني من أهلي، فصحّح له ربّ العالَمين مقاييس القرابة وبيّن له أن رابطة الإيمان أقوى من رابطة الأبوة فقال: {إنّهُ ليسَ مِنْ أهلِكَ، إنّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالحٍ}. فأنا إذن لا أهاجم أحداً ولكن أدافع عن نفسي، فإذا كنتم لا تريدون ما يدعو إلى التفرقة بين أبناء هذا الشعب وتخشون ما يصدّع وحدة الأمة التي تزعمونها فامنعوا أمثال هذا الكتاب، بل

قفوا (¬1) الحرب في لبنان بين أهل النصرانية وأهل الإسلام، وكفّوا أيدي المنصّرين الذين يتسمّون بالمبشّرين، ثم لا تسوّونا بهم، فنحن المسلمين نؤمن برسالة موسى وعيسى ومحمد، ولكن عليكم بمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض. ثم إن علينا أن نَقِي ديننا من أن يخوض فيه الجاهلون وأن يتكلم فيه مَن ليس من أهله، وأن يأتي الخواجة حنا مالك فيفسّر لنا قرآننا ويعلّمنا ما لم يعلمه علماؤنا وأئمتنا ويأتينا بشيء يخالف ديننا، ويتهمنا بأننا المفرّقون، وهو وأمثاله الذين يفرّقون هذه الأمة ويجعلونها شيعاً وأحزاباً ويدعون إلى عصبية دينية. أما نحن فقد أثبتت تجارِب أربعة عشر قرناً أننا عشنا مع النصارى، بل لقد عشنا مع اليهود، وأعطيناهم أكثر مما هو لهم، ولم نظلم أحداً منهم ولم نعاون عدواً عليهم، وإن كان منهم من أعان علينا كلَّ عدوّ دخل بلادنا. * * * هذا والموضوع -كما قلتُ- خطير يتحاشاه الناس ويبتعدون عن الكلام فيه، مع أن خوفنا منه كخوف بنتي الصغيرة من ظلام الحديقة في الليل، يُزيله أن تُوقِد عودَ كبريت أو تُشعِل شمعة أو تضيء كشّافاً منوِّراً فترى، وأن الخوف من هذا الموضوع وَهْم في وهم، والله تعالى قد أدّبنا فبيّن لنا أن لا نُوادَّ من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءنا أو أبناءنا أو إخوتنا أو عشيرتنا، وسمح لنا بأن نعاشر بالحسنى من لم يعادِنا في ديننا ولم يُخرِجنا من ديارنا: ¬

_ (¬1) وقف تتعدّى بنفسها فلا يُقال: أوقف.

{لا يَنْهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لَمْ يُقاتِلوكُم في الدّينِ ولم يُخرِجوكم مِن دِيارِكُم أنْ تَبَرّوهُم وتُقسِطوا إليهِمْ}. والذي أرجوه ألاّ يفسِّر أحدٌ كلامي على غير وجهه، وألاّ يقوّلني شيئاً لم أقُله، وأن يعلم أنني لستُ من دعاة التفرقة ولا الخلاف بل من دُعاة المودّة والائتلاف، ولكن في حدود عقيدتي وإسلامي. * * *

إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

-212 - إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح كتب الأستاذ أحمد أبو الفتح في «الشرق الأوسط» يوم السبت 6/ 9/1986 مقالة قيمة كعادته جاء فيها قوله: لقد كتبت في جريدة «الوفد» في مصر عدة مقالات أطالب فيها العلماء أن يعلنوا آراءهم فيما ارتكبه عبد الناصر ضدّ الإخوان المسلمين وغيرهم، ممن تمّ شنقهم أو تعذيبهم دون أيّ مبرّر إلاّ شعوره بأنهم لا يرضون على سياسته، وأحياناً تحت تأثير تقارير كاذبة لفّقها علماء لا ضمير أو دين يردعهم، ومع ذلك لم أجد أيّ استجابة. انتهى كلامه. وأحسب أن الأستاذ الكريم قد ظلم العلماء، فأنا واحد من صغار طلبة العلم، لو جُمع ما كتبته في هذا الموضوع لجاء منه كتاب كامل. لذلك استأذن القراء أن أنقل لهم هنا واحدة من هذه المقالات كانت قد طُبعت في رسالة صغيرة سنة 1374هـ (1954) لمّا ذهبَت القافلة الأولى من الإخوان المسلمين إلى الجنة إن شاء الله عن طريق مشانق عبد الناصر، وقد طُبع منها أكثر من نصف مليون نسخة ووُزّعت في الأقطار العربية وتُرجمت إلى اللغة الأردية، وخبّروني أن خلاصتها قد تُرجمت إلى الإنكليزية ونُشرت في جرائد باكستان.

ولكنها مع ذلك لم تُنشَر في مجلة ولا في جريدة، وقد قلّت نسخها بين أيدي الناس، بل إنها فُقدت، حتى إنني فتّشت عن هذه النسخة أياماً طوالاً حتى وصلت إليها بعد أن مضى على طبعها ثلث قرن كامل. وها هي أنقلها إليكم بحروفها من غير أن أبدّل فيها أو أغيّر، وأرجو أن لا تتحرّج الجريدة من نشرها لأنها قد صارت تاريخاً. وما ظنّك بمقالة طُبع منها أكثر من نصف مليون ومرّ على طبعها أكثر من ثلاثين سنة، ولم يقرأها مع ذلك -فيما أظن- واحد في المئة من قراء «الشرق الأوسط»؟ وها هي ذي، وعنوانها «هذا يوم الحِدَاد العامّ»، وقد كُتب على الغلاف «بقلم الأستاذ علي» وأولها: لو كان الأمر إليّ لَما جعلته يوم حداد بل يوم بِشر وابتهاج، ولَما صيّرته مأتماً بل عرساً، عرس الشهداء الأبرار على الحور العين، ولَما قعدت مع «الإخوان» (وإن لم أتشرف بالانتظام في سلكهم) أتقبل التعزيات بل التهنئات. وهل يرجو المسلم شيئاً أكبر من أن يموت شهيداً؟ وهل يسأل الله خيراً من حسن الخاتمة؟ إني لأتمنّى (والله شاهد على ما أقول) أن يجعل منيّتي على يد فاجر ظالم، فأمضي شهيداً إلى الجنة ويمضي قاتلاً إلى النار، فتكون مكافأتي سعادتي به ويكون عقابه شقاؤه بي. هذا هو العقاب لا عقابك ياجمال، عقاب الله «الناصر» لأوليائه القاهر فوق أعدائه، الذي ستقف أمامه وحدك ليس معك جيشك ولا دبّاباتك ولا سلاحك ولا عَتادك، تُساق إليه وحيداً

فريداً، لا تستطيع إنكلترا أن تجيء معك ولا أميركا، فيسألك عن هذه الدماء الزكية: فيمَ أرقتها؟ وعن هذه الأرواح الطاهرة: فيمَ أزهقتها؟ وعن هاتيك النساء القانتات الصابرات: فيم رمّلتهن؟ وعن أولئك الأطفال البُرَءاء: فيمَ يتّمتهم؟ وعن هذه الجماعة الداعية إلى الله المجاهدة في سبيله: فيمَ شمّت بها أعداء الله ورسولِه؟ فإن كان عندك دفاع فأعدّه من الآن لتُدلي به أمام محكمة الجبّار، التي لا تحكم بالموت شنقاً بل بالحياة الدائمة التي يصغر الشنق ألف مرة عن عذاب لحظة واحدة منها، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا حزب ولا أعوان، ولا سيف ولا مدفع؛ يوم تتبدّل الموازين وتتغيّر المقاييس، ويكون الفضل للفاضل والصدر للصالح، فيذلّ أعزّة ويعزّ أذلاء، وينزل عالون وتعلو سوقة، يوم ينادي المنادي: لمن المُلك اليوم؟ للطغاة؟ للقادة؟ «للبكباشية» (¬1)؟ لسادة بيكنغهام والبيت الأبيض؟ كلاّ لا جرم؛ بل لله الواحد القهار. فعِش مهما عشت وسُد مهما سُدت، فهل تقدر أن تجد لك طريقاً لا يمرّ بك على المحشر ولا يقف بك موقف الحساب؟ هل تعرف لك مُلكاً غير مُلك الله تفرّ إليه كما يفرّ المجرم السياسي من دولة أساء إلى حاكمها إلى دولة أخرى تحميه منها؟ وهل تظنها تدوم لك ياجمال عبد الناصر؟ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. ¬

_ (¬1) بالتركية معناها ألف، والكاف تُلفظ نوناً فتُلفظ «بينْباشي»، ومعناها الحرفي «مُقدَّم الألف» (ويوزباشي مقدَّم المئة)، وأظنها تقابل رتبة الرائد الآن.

ولقد حكم مصرَ من قبلك فاروق ومن قبله المماليك، ومن قبلهما فرعون وهامان، فأين اليوم فرعون والمماليك وفاروق؟ أين مَن بنى وشيّد؟ أين من طغى وبغى وقال أنا ربكم الأعلى؟ لقد ساروا جميعا في ركاب ملَك الموت ترافقهم دعوات المظلومين حتى وردوا على من لا يضيع عنده مثقال ذرّة في السماوات والأرض. فاتّقِ ياأيها الرجل دعوات المظلومين في الأسحار فإنها السهام التي لا تُخطئ، واعتبر بمن مضى قبل أن تصير أنت عِبرة لمن يأتي، وابكِ على نفسك قبل أن لا تجد من يبكي عليك. أما أنتم ياأيها الشهداء فهنيئاً لكم، طبتم فادخلوها خالدين؛ فلقد فزتم بثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. لقد شيّعَتكم في كل بلد من بلدان هذه الأرض المسلمة الملايينُ ممن لم يكن يعرفكم وتعرفونه، ولكن الله ملأ قلوبهم جميعاً حباً بكم وألسنتَهم هتافاً بأسمائكم، بوادر في الدنيا مما أعدّ الله لكم من التكرمة في الآخرة. إن النساء في الخدور والأطفال في المدارس والتجار في الأسواق، الذين فاروا من أجلكم وثاروا، فترك الطالب درسه والتاجر كسبه، وخرجوا جميعاً إلى الشوارع والأسواق غضباً لكم وحزناً عليكم، فإن ضنّ عليكم الظالمون بالماء غسلوكم هم بالدموع الجواري، وإن بخلوا عليكم بالقبور دفنوكم في الأفئدة البواكي، ثم مشوا بكم في مواكب النور التي لا تفتأ تتسلسل وتتعاقب سائرة في الزمان، من لدن حمزة وجعفر وشهداء الفتح في بدر والقادسية واليرموك، ومَن قتل الطغاةُ الظالمون من مثل الحَجّاج وهولاكو وتيمور، إلى شهداء النضال من أجل الاستقلال

في الجزائر وليبيا والغوطة في الشام والرّميثة في العراق والقناة في مصر، لقد سلككم الله في هذه المواكب التي بدأت يوم بدأت في الأرض دعوات الخير والإيمان على لسان نوح وهود وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم جميعاً، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فهل في التكريم أبلغ من هذا يانساء الشهداء ويا أولادهم؟ ويا من فجعهم هذا الظالم بالزوج وبالأب وبالأخ وبالولد؟ الموت حتم ما من الموت بدّ، وكل حيّ إلى ممات، فهل يستطيع صديق أو قريب إذا دهم الموتُ دارَ صديقه أو قريبه إلاّ أن يواسيه ويسلّيه ويبكي معه؟ ألا يهوّن الفجيعةَ على صاحبها أن يجد من يشاركه فيها؟ فلِمَ لا تهوّن فاجعتكم عليكم ياأهل الشهداء أن دنيا الإسلام كلها غرقت بالدمع بكاء معكم وعجّت بالدعاء على الظالمين غضباً لكم؟ لقد شاركتكم البكاءَ عيونٌ لم تكتحل قطّ برؤية شهدائنا وشهدائكم. أقسم بالله العظيم إن ابنتي الصغيرة بكت حتى احمرّت البارحة مقلتاها من البكاء. فيا إخواني ويا أخواتي ويا بناتي ويا أبنائي، إن فقدتم الوالد والأخ فإن كل مسلم على وجه الأرض أخ لكم اليوم، هو معكم والله معهم ومعكم والله خير من الجميع. لقد أحال بيتي مأتماً الليلة البارحة صورةٌ مقطوعة من مجلة، صورة العالِم الجليل عبد القادر عودة رحمة لله على روحه يوم خرج من السجن وابنُه يقدّم إليه حلوى شراها له من «خَرجيّته» (أي من مصروفه اليومي) فتلَت عليّ الصورةُ قصةً مكتوبة على

صفحات القلب بمداد العيون. قصة هذا الولد الذي كان يسأل أمه: أين بابا؟ فلا تستطيع أن تقول له إن بابا سجين، وتداري دمعها وتغالب بكاءها، تقول: إنه مسافر. فيقول: متى يعود بابا ياماما؟ فتقول: يعود قريباً ياحبيبي. فيرقب عودته، إن رأى طعاماً طيّباً قال: سأحفظه لبابا، وإن ألبسوه جديداً أبى وقال: ألبسه يوم يعود بابا، وإن بكت أخته الصغرى أسكتها وقال: اسكتي غداً يأتي بابا. وطالت الأيام وهو يوفّر الملاليم التي يأخذها ليشتري بها الحلاوة لبابا، فجاء بابا، وكانت الفرحة الكبرى، وقدّم إليه الحلوى وقعد هو على ركبة بابا وأخته على الركبة الأخرى، يقبّل هذا خداً وتقبّل تلك خداً ويقولان: لماذا أطلت الغيبة يابابا؟ لا تسافر مرة ثانية يابابا. فماذا يقولان الآن وقد سافر مرة ثانية ولكن إلى حيث لا يعود المسافرون؟ وبماذا تُجيب الأم إن سألاها: أين بابا ومتى يعود بابا؟ وإلى متى ينتظران يوفّران له الملاليم ويُعِدّان له الحلاوة؟ وإلى متى يحتمل قلب الأم لذع النار وهما يسألان كل لحظة: أين بابا؟ هل تقول لهما: إن أباكما العالِم الجليل، المجاهد المناضل، قد شنقه عبد الناصر؟ فما ذنب هؤلاء ياعبدالناصر؟ ما ذنب هذه الأم؟ بل ما ذنب الرجل الذي قتلته وفَجعتَ به هذه الأسرة وحطّمت به هذه القلوب؟ أكل ذلك لأنهم قالوا لمعاهدتك هذه إنها عمل غير صالح؟ أتحسب أنك تهنأ بمجلسك وحولَك زوجُك وأولادك، وخيار المؤمنين تركتَ زوجاتهم أرامل وأولادَهم أيتاماً وبيوتَهم في وحشة المقابر؟ يا عبد الناصر، جزاك الله بما تستحق.

أوَتعرف -لك الويل- بمن ضحّيت؟ ضحّيت بمن كان أعلم المسلمين بالشرع (¬1) الجنائي في الإسلام، ومن سنحتاج إليه غداً فلا نجده ولا نجد مثله، فنبكي عليه حزناً وأسفاً ويضحك عدوّنا شماتة وسروراً. بمن ألّف الكتاب الجليل «التشريع الجنائي في الإسلام» الذي تُرجم إلى كثير من لغات الناس وتقرّر تدريسه في الجامعات، وتزاحم الجميع على تكريم مؤلّفه وبعثوا يطلبونه، فقيل لهم: إنه لا يستطيع أن يحضر حفلات التكريم لأن عبدالناصر كرّم علمه وفضله بحبل المشنقة! يا عبد الناصر، جزاك الله بما تستحقّ. بسيد المجاهدين الفرغلي، بالشيخ الذي أفزع بريطانيا حتى جعل راديو فايد (¬2) ينادي كل يوم ثلاث مرات بأن من جاء برأسه فله خمسة آلاف جنيه (¬3) فجاءهم برأسه عبد الناصر. فيا عبد الناصر، جزاك الله بما تستحقّ. بالذي لاحت عمامته مرة للإنكليز فغلبَت هذه العمامةُ مدافعَ الإنكليز، وكان ذلك في آب (أغسطس) سنة 1953، أي في السنة الماضية، يوم اختفى الطيار البريطاني فأنذروا حكومة مصر بالويل والثبور إن لم يَعُد وأمهلوها للتاسعة من صبيحة الغد، وانطلق صلاح سالم يتكلّم في الإذاعة كلام المُستطار اللُّبّ يُبدئ ويُعيد ولا يعرف أحدٌ ما الذي كان يريد، إلى قريب الفجر. ¬

_ (¬1) ولم يرد في لغة العرب لفظ «التشريع». (¬2) فايد بلدة صغيرة في منطقة القناة. (¬3) لا تنسوا أن هذا الكلام قيل قبل ثلث قرن، يوم كان الجنيه جنيهاً.

وكان الغد، وحبست مصر كلها أنفاسها ترقب ما يكون بعد انقضاء الإمهال الإنكليزي. وبلغت الساعة التاسعة، وهي ساعة الهول، فوقفَت أمام دار محافظة القناة سيارتان: سيارة تحمل موفد الإنكليز بالتهديد والوعيد، وسيارة تحمل الفرغلي ومعه نفر من الإخوان، جاء يعلن نصرته للحكومة رغم ما كان بين الحكومة وبين الإخوان في تلك الأيام. فلما رأى الإنكليزي الشيخ انطفأت الجمرة وسكت الغضب وذهب الوعيد، وأعلنوا أنهم وجدوا الطيار المفقود! وهذه واقعة يعرفها الناس جميعاً ما جئت بها من بنات الخيال. لقد كان الشيخ الفرغلي أعدى أعداء الإنكليز فكافأه عبد الناصر على ذلك بحبل المشنقة. فيا عبد الناصر، جزاك الله بما تستحقّ. لقد كانوا جميعاً من أئمة التقى ومصابيح الهدى، من الذين يقومون الليل يقطعونه تسبيحاً وقرآناً ويجاهدون في النهار يملؤونه جهاداً وإحساناً. والله يأمر بتكريم الصالحين، والعقل يقضي بإجلال العلماء، والمصلحة توجب تشجيع العالِمين، والإنكليز يريدون غير ذلك كله، فترك عبد الناصر ما يأمره به الله ويقضي به العقل وتوجبه المصلحة لِما يريده الإنكليز. وأشهد لقد قرأتُ أخبار المشركين وتعذيبهم لمن آمن من قريش وما فعل أعداء الإسلام بالمسلمين من الطغاة الجبارين، كهولاكو وجنكيز، وما صنعت محاكم التفتيش في الأندلس، وما تصنع إسرائيل في فلسطين في دير ياسين وقبية ونحّالين (¬1)، ¬

_ (¬1) ولم تكن يومئذ مشكلة صبرا وشاتيلا ولا كانت جريمة شنق سيد قطب.

فلاوالله ما آلمني شيء كما آلمني ما صنع عبد الناصر وأعوانه بهذه النخبة الصالحة من المسلمين. لأن تلك أخبار نسمع بها فربما هوّنها علينا بُعدُ العهد وأنها ربما كانت فيها مبالغة راوٍ أو غلوّ ناقل، وهذه رأيناها رأي العين. ولأن أولئك كفرة فجرة وهؤلاء يزعمون أنهم مؤمنون، ولأن أولئك فعلوها كسباً لدنيا يريدونها وهؤلاء فعلوها ليكسب الإنكليز الدنيا بها، فلزمهم قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أخْسَرُ الناسِ مَن باعَ دينَه بدنيا غيره». ولو كان في هؤلاء الشهداء قاتل أو مجرم وحاكموه محاكمة ثم عاقبوه قصاصاً لَما اعترضهم أحد، أما أن يكونوا من خيار المؤمنين، وأن يكون ذنبهم أنهم أعدّوا السلاح للعدوّ بعلم رجال الحكومة، وأنهم دُرّبوا على القتال والتدريب بعلم رجال الحكومة، وأنهم أعلنوا رأيهم في المعاهدة وحقّ الرأي واحد من حقوق الإنسان، وأن تحاكمهم هذه المحكمة وليست محكمة فيها قضاة، وأن تكون المحاكمة بهذا الأسلوب وما هو بأسلوب المحاكمات، وأن يكون الحكم على هذه الصورة وما على مثلها تصدر الأحكام، فهذه قصة فظيعة، فظيعة، فظيعة. بلغ من فظاعتها أنْ أجمع الناس على اختلاف البلدان والألسن والألوان والمذاهب والأديان على استنكارها. ولست أدري بأيّ لسان يتكلم هؤلاء بعد اليوم عن فاروق وعهد فاروق، والذي فعله فاروق من المعاصي يُعَدّ بجنب ما عملوه هم طاعة، ونجس فاروق بالنسبة إليهم طهارة، ونار فاروق جنّة عبدالناصر! وما أمدح فاروقاً ولكن العَوَر يُمدَح إن ذُكر العمى.

ولست أدري كيف يلبس هؤلاء الجند ويحملون شارة العسكرية، وما سلكوا سبيل البطولة ولا استنّوا بسَنَن الفروسية عند الفرسان. الفارس مَن يبارز خصمه في الميدان وينازله مسلَّحاً، أما الذي يُبدي البطولة والخصمُ أعزل مقيَّد، وحوله الرهط من الأنصار وخصمه مفرد، فهذا ليس من الفروسية في شيء. إن هؤلاء الإخوان قد مضوا شهداء أبراراً ونالوا مجد الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فارتقبوا أنتم ماذا تنالون في دنياكم وأخراكم؟ (أعود فأذكّر أن هذا الكلام نشر سنة 1954). وبعد، فهذا هو العالَم الإسلامي كله يلبس اليوم ثياب الحداد ويجلس للعزاء، ما خرج على هذا الإجماع إلاّ النفر الذين غضب الله عليهم من أعوان الظالم، ومن مشايخ السوء في مصر الذين أصدروا ذلك البيان المحشوّ كذباً وافتراء ونفاقاً وتحريفاً للآيات عن مواضعها. لقد سمعنا من قديم أن الثورة كالقطة تأكل أبنائها، وهذي ثورة فرنسا شاهد على ما أقول وهذه أحداثها تنطق بها كتب التاريخ، وما وقع فيها سيقع في أمثالها: الذي جاء بالمقصلة قُطع رأسه بها، والذي نصب المشانق عُلّق عليها، والذي أوقد النار كان لها حطباً، ولَنار الآخرة أشد نكالاً وأبقى. والثورة الفرنسية لم تقتل متعمّدة أفذاذ العلماء ولم تعرض لدعاة الخير، وكانت ثورة أمة على عصابة آثمة، لم تكن ثورة عصابة آثمة على أمّة كاملة فُجعت بحريتها وكرامة أبنائها. أما أنتم ياأيها الإخوان المسلمون (وأذكر أني لم أتشرف

يوماً بالانتساب إلى الإخوان ولا إلى غيرهم) فاعلموا أن المحن تدريب وتمرين، وكلما تقدّم الجندي خطوة صَعُب التدريب عليه وقسا، فإذا وصل إلى أقساه فقد بلغ آية القوة وصار جندياً كاملاً. وأنتم بلغتم الغاية اليوم حين امتُحنتم الامتحان الأكبر، امتحان الدم، ونجحتم. نجحتم والله ولم تزعزع المشانقُ إيمانَ هؤلاء الإخوان ولا هزّت أعصابهم، ولقد قابلوا الموت مقابلة انحنت إكباراً لبطولتها وعظمتها هاماتُ الرجال في كل مكان. واذكروا أن الشيخ الإمام حسن البنا رحمه الله كان قد أنذركم أنها لا تزال أمامكم مصائب شداد واختبارات صعاب، وقد أقدمتم عليها وأنتم عارفون بها. والعاقبة لكم، إنها واللهِ لكم لأنكم تمشون على هدي الإسلام، المستقبل لكم فلا تزعزعكم الأحداث ولا تفتنكم عن إيمانكم، على أن تبقوا صفاً واحدا لا تُفرّق بينكم الدنيا ولا يقسمكم النزاع على الزعامات، وأن تجعلوا إمامكم دائماً كتابَ ربكم. وبعد، فيا أهل الشهداء الصبرَ الصبرَ. إن دموع العالَم الإسلامي كله قد مازجت دموعكم، وقلوبَهم جميعاً قد قاسمت الأسى قلوبَكم، وكلهم أخ لكم وصديق، ومأتمكم صار مأتم دنيا الإسلام كلها، والله معكم والله خير من الجميع. وهنيئاً لمصر، فقد كان للشام جمال دَعَوه -حقاً أو باطلاً- بالسفّاح، فصار لكم جمال هو «السفّاح» حقاً. * * *

عودة إلى ذكريات القضاء

-213 - عودة إلى ذكريات القضاء أكتب هذه الحلقة في اليوم الأول من المحرم (سنة 1407هـ)، اليوم الذي يخرج فيه الناس كلهم من بيوتهم، ينثرون أزرار الورد وأوراد الياسمين ويرشّون ماء زمزم على رأس القادم الجديد، وأنظارهم منصبّة كلها على يديه يحاولون أن يروا أو أن يشمّوا الهدايا التي يأملون أن يحملها إليهم. قد أنساهم استقبالُ الرفيق الذي قدم رفيقَهم القديم الذي سافر، فالاستقبال أمل ورجاء والوداع نبل ووفاء، وما أكثر الآملين وأقلّ الأوفياء. التلميذ الذي أهمل الدراسة حتى رسب نسب رسوبه إلى الحظّ وإلى الزمان السيّئ، فهو يرجو النجاحَ ويرقب الحظّ في الزمان الحسن، أي في العام الجديد. والتاجر الذي زهد في العمل ومال إلى الكسل يطلب الربح من غير عمل من العام الجديد، وكل واحد له أمل يريد أن يتحقّق له في العام الجديد. فما الذي أطلبه أنا وما هي آمالي؟ الشابّ الواقف في أول الطريق يراه واضحاً ويرى غايته دانية، أما أنا فإني أستقبل العام وأنا في المحطة الأخيرة، لم تبقَ

أمامي غاية أعمل على بلوغها. الشاب حياته أمامه وأنا أيامي قد خلّفتها ورائي، أياماً طويلة رأيت فيها ضياء النهار يعقبه ظلام الليل، ورأيت ظلام الليل يأتي بعده ضياء النهار، شهدت هذا المشهد أكثر من عشرة آلاف مرّة فاستوى عندي الضياء والظلام. سررت وتكدّرت، فإذا السرور الآن وإذا الكدر ذكرى في النفس لا شيء منه في اليد، لا الفرح دام ولا الآلام. شبّهت يوماً لذّات الدنيا بالسراب، وهأنذا أعود إلى هذا التشبيه؛ أعود إليه وأنا أعلم أن أثقل الكلام الحديث المُعاد، ولكني لا أجد تشبيهاً أدق منه ولا أصدق ولا أقرب إلى الواقع. كنت في المدرسة أرمي إلى هدف ظاهر هو أن أرتقي من صفّ إلى صفّ، فارتقيت حتى طويت مراحل المدرسة ومن بعدها الجامعة ونلت شهادتها، فلم يبقَ لي في المدرسة ولا في الجامعة هدف أرمي إليه. ودخلت الوظيفة فكان أملي أن أعلو فيها درجة درجة، أعدّ الأيام لأصل إلى العلاوة أو إلى الترقية، فبلغت أعلى درجاتها، صعدت حتى صرت في رأس السلّم، فلم يبقَ إلاّ أن أقف (ولا يقف أحدٌ عمرَه على السلّم) أو أن أصعد، وما تحت رجلي درجة أصعد عليها، فاضطُررت إلى أن أعود فأهبط من حيث صعدت. وكذلك الدنيا: ما طارَ طيرٌ وارتفعْ ... إلاّ كما طارَ وقَعْ وإذا أنا في هذا كله: أكلتُ حَلاوةً وشرِبتُ ماءً ... كأني ما أكَلتُ ولا شرِبتُ

وتمنيت أن أكون كاتباً تملأ مقالاته الصحف، ومؤلّفاً تتصدر مصنفاته المكتبات، وخطيباً ترتجّ من تحته المنابر ويملأ حديثه المجالس، فبلغتُ ذلك أو بعضَ ذلك (أو توهّمت أني بلغته) فإذا هو أيضاً سراب. تبصر السراب حينما تكون بعيداً عنه تحسبه ماء، فإذا جئته لم تجده شيئاً ووجدت الله عنده. فهل وعظَتني الأيام حتى صرت أذكر الله الباقي ولقاءه المحتوم عند رؤية السراب الخدّاع؟ لقد استقبلت وودّعت من الأعوام ثمانين معدودة عدّاً، فهل أودّع هذا العام الذي أستقبله اليوم أم هو استقبال بلا وداع؟ لقد فقدت أبي وأنا في مطلع الشباب واضطُررت إلى أن أكتسب قبل سنّ الاكتساب، وتعلّمت ودرست على ضيق الحال وقلّة الأسباب، وأكرمني الله فعلّمني وكفاني فما أحوجني أن أمدّ يدي يوماً إلى أحد ممن خلق الله. ودخلت سوق الأدب قبل أن تزدحم بالقُصّاد فكنت فيها من الرُّوّاد، وسار اسمي في الناس وأنا لم أخلع بعد رداء الشباب، وأغدق الله نِعَمه عليّ بلا حساب، فيا ربّ لك الحمد. وكنت أرجو (كما يرجو كل شابّ) أن أتزوج، ولكن ليس في يدي ما أتزوج به من المال، فحملني الله إلى بغداد حيث جمعت منها ما قدرت به على الزواج. ورزقني النسل، ولكنه صنّفني في الصنف الأول: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إناثاً ويَهَبُ لمَنْ يَشاءُ الذّكورَ، أو يُزَوّجُهمْ ذُكراناً وإناثاً ويجعَلُ مَن يَشاءُ عَقيماً}، فسُررتُ بالبنات ورأيتهن من أجمل الهبات، وما أعدِل -صدّقوني- بواحدة منهن اثنين من الذكور لو رزقني الله ذكوراً. ولقد استأثر الله بإحداهن فأكرمها بالشهادة فصبرتُ ورضيت، وأرجو أن يرزقني الله ثواب

الصبر وأن يديمه عليّ، وجعلهن جميعاً وله الحمد صالحات متعلّمات داعيات إلى ما يُرضي الله. وتزوّجن ورُزقن بنين وبنات صالحين وصالحات، وتزوّج أبناؤهن وبناتهن ورُزقن ذرية أفضل الله علينا فجعلها صالحة؛ فصارت بناتي جدات، وصرن يَقُلن لحماتي (التي توفّاها الله من شهرين اثنين، المرأة الصالحة بنت من كان يُدعى في الشام «المحدّث الأكبر» وكان كبير العلماء، الشيخ بدر الدين) صارت حفيدتي تقول لها (كما جاء في المَثَل): «يا سِتّي كلّمي سِتّك» (أي: ياجَدّتي اذهبي إلى جَدّتك). * * * وضاق بنا بلدنا، البلد الذي أحببته حباً قلّ أن يحبّ مثلَه أحدٌ بلدَه، وكتبت عنه ما لم يكتب مثلَه ابنُ بلد عن بلده، ثم قضى الله أن أُحرَم منه وأن أُبعد عنه، فنزلت بلداً أشرف منه شرفاً وأعلى عند الله مقاماً، نزلت أحبّ بلاد الله إلى الله: مكة أم القرى، مشرق النور ومنبع الإسلام. ووجدت فيها من ملوكها وأمرائها ومن شعبها، وجدت شيئاً أكون ألأمَ الناس لو أهملت ذكره ونسيت شكره. وعرفت خمسة من الملوك، رحم الله من مضى ووفّق من بقي، بعضهم من قرب وبعضهم من بُعد، ولكنني أحببتهم جميعاً لأنهم صنعوا لهذا البلد أكثر مما صنع ملوك بني أمية وملوك بني العباس ومَن جاء بعدهم من الملوك جميعاً. صنعوا له العجائب؛ نقلوه من صحراء تموج فيها قبائل متخاصمة متحاربة ما عندها إلاّ حكومات هزيلة ضئيلة، فجعلوها

كلها حكومة واحدة قوية عظيمة، ومشوا فيها في طريق التطوّر والرقيّ شوطاً ما مشت مثله حكومة في الدنيا، لا أستثني، لأن الذي قطعَته المملكة في هذا الأمد القصير لا تقطع مثلَه الأممُ في الزمان الطويل. وإنهم ليستحقّون مني أضعاف هذا الثناء، ولكن مشكلتي أنني من يوم نشأت كان يحكم بلدنا مَن ليس منا ولا طريقه من طريقنا، أي الاتحاديون خلال الحرب الأولى (ولم أقُل الترك، فالترك مسلمون خدموا الإسلام وأقاموا له دولة كانت ثالثة الدولتين الكُبريَين: دولة الأمويين ودولة العباسيين، وإن كانت براعتها وعبقريتها في الحرب والقتال أكثر من براعتها في الفكر والعلم. ولكن أعني الاتحاديين، أعني أنور وجمالاً وطلعت وجاويد وتلك الزمرة التي جاء أكثرها من الدونمة، وهم من نسل اليهود الذين أُخرِجوا من الأندلس. واليهودي هو اليهودي ولو بدّل ثيابه وملامح وجهه واستعمل أعقد وأصعب طرق التنكّر، أي الماكياج). ثم جاء الفرنسيون، وهم غرباء عنا لا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا ولا عاداتهم من عاداتنا. ثم دالت دول وتبدّلت وجوه وقلّ فيها من يمثّل الشعب الشامي في تمسّكه بإسلامه وبالصالح من عاداته؛ لذلك كنا نهرب من الثناء عليهم. واستمرّ ذلك حتى استقرّ في عقلي الباطن، على أن الحقّ أن الحكام هنا ليسوا كأكثر مَن عرفنا من حكامنا، فهم منا أنسابهم معروفة لنا وأبوابهم مفتَّحة أمامنا، وهم يحرصون ما استطاعوا على إسداء الخير لنا، فإذا منعني ما ذكرت من إعلان الثناء عليهم فإن كل عمل عملوه وكل طريق مهّدوه وكل معهد فتحوه إنما هو قصائد باقية في مدحهم.

ولقد وفّقهم الله الآن إلى مداواة مرض أعيا نُطُس (¬1) الأطباء، مشكلة أعجزَت كبار المفكّرين هي مشكلة الذبائح في الحجّ؛ فما زلنا نسمع الشكوى منها من أكثر من أربعين سنة من كل حاجّ يعود بعد أن رأى في مِنى آثارها من إضاعة المال وإفساد الهواء، ولم يبقَ أحدٌ إلاّ فكر في حلّ لها، فجاؤوا بحلول منها ما هو مستحيل ومنها لا تُحتمَل نفقاته ومنها ما هو أقرب إلى المشروعات الخيالية. لم يبقَ أحد لم يفكّر في حلّ لها، وكنت واحداً ممن قدّم حلاً فقهياً مؤقَّتاً، فرأينا هذه السنة عياناً ما هو أعظم من ذلك كله: حقيقة شاهدناها سبقت جميع خيالاتنا، ما تخيّل أحدٌ أن من الممكن أن تُجمَع هذه الذبائح وأن تُسلَخ وتُنظَّف ثم تحملها الطيارات إلى المحتاجين من المسلمين في مشرق الأرض ومغربها، فتصل صالحة غضّة نظيفة شهية. فلله الحمد أولاً، ثم أصدق التهنئة لهم على هذا الذي وُفّقوا إليه، وأسأل الله أن يجعله في صحف حسناتهم فلقد كان والله شيئاً عظيماً. وما عُدت بعد اليوم أيأس من حلّ المشكلات الباقية كلها على ما نرى من تعذُّر أو تعسُّر حلّها: مشكلة الطواف ومشكلة الرمي ... إنهم سيحلّونها بإذن الله كما حلّوا مشكلة الذبائح ومشكلة الازدحام في الطرق، وأسأل الله لهم التوفيق. * * * وأنا أقول هذا كما قرأته في الصحف وكما سمعته من الناس، لأني معتزل وليس عندي من تفاصيله شيء، فكأنني ¬

_ (¬1) نُطُس جمع نطاسيّ، وهو الطبيب الحاذق.

سجين وإن لم يُحكَم عليه بالسجن، لا أكاد ألقى أحداً لِما ركّب الله في فطرتي التي لا أملك تغييرها ولا تبديلها من حبّ العزلة والابتعاد عن مجامع الناس، وإن دنوتُ منهم ولقيتهم فإنما ألقاهم وبيني وبينهم صحيفة الجريدة أو لاقط الإذاعة! ولطالما خطبت الخطب ترجّ البلد وتكون حديث الناس ويكون لها أكبر الأثر، ثم أذهب إلى بيتي فأغلق عليّ بابي وأنفرد بنفسي. وأنا هنا من نحو ربع قرن، ما رأيت والله من أحد ما يسوء، ما لمست إلاّ محبّة صادقة ووداً خالصاً، ولكن على البعد؛ فأنا لا ألقى أحداً، لا أزور ولا أكاد أُزار، ألِفتُ الوحدة حتى لم أعُد أطيق الفرار منها وضقت بها حتى لم أعُد أطيقها، فأنا (ولا مؤاخذة على هذا المثال فإنما أتكلّم عن نفسي) أنا كحمار السانية (¬1) التي يسمّونها في مصر «الساقية»، يدور فيها مغمض العينين، فإذا أُطلِق منها وفُكّ سراحه بقي يدور كما تعوّد الدوران. ولطالما لمست هذا الحبّ الخالص: أشاعوا من بضع سنين (كما أشاعوا السنة الماضية) أنني متّ، فلمست من الناس حزناً عليّ لا أستحقّه، جاءني مندوبون من الصحف وسط الليل يسألون عني وكتب كاتبون فضلاء يرثونني، وهذا من كرم هذا الشعب الذي لا يزال على الفطرة النقية، وأنا أسأل الله أن يسجّل في صحيفتي ما دعا لي به الآلاف المؤلَّفة من الناس حين سمعوا الخبر فقالوا: رحمه الله. فما الذي أريده الآن إلاّ رحمة الله؟ ما عُدت أريد من الدنيا ¬

_ (¬1) ولذلك جاء في المثل: «سير السّواني سفر لا ينقطع».

إلاّ أن يُبقي الله علي صحّتي وأن يُديم ستره عليّ، وأن يختم لي بالحسنى، وأن يُصلِح لي أهلي وأن يحفظهم بعد موتي. هذا الذي بقي لي من الآمال في الدنيا. * * * أعود الآن بعد هذه المقدّمة الطويلة التي قد يُنكِر عليّ بعض القراء شيئاً مما قلت فيها، أعود إلى الكلام عن أيامي في محكمة دمشق التي قطعتُها في الحلقة 125 لأصِل ما قطعت. فهل تدرون ما وجدت؟ لا تحسبوا أني أسوق صورة أدبية أو آتي بخيال شاعر، لا، ولكن أقول الحقّ: وجدت أنني أكتب عن شخص آخر ليس أنا. إني أشعر أن بين جوانحي الآن اثنين، واحداً يتذكّر وآخر هو موضع الذكرى! لا تقولوا إني أتفلسف، فأنا أسأل: هل الذي كان قاضياً ممتازاً في محكمة دمشق سنة 1951 هو أنا؟ أسألكم ما معنى «أنا»؟ ماذا تقصد حين تقول «أنا»؟ جسدك؟ إنه لم يبقَ في جسدي خلية واحدة مما كان فيه تلك السنة إلاّ خلايا المخّ التي زعموا أني أتذكّر بها وأفكّر بها، وما هي للفكر إلاّ كالأشرطة والمصباح للكهرباء، لا بدّ منها ولكنها ليست هي الكهرباء. فما الكهرباء؟ لا يدري أحد. كشف نيوتن قانون الجاذبية وجاء آينشتاين وعدّل فيه، وما وضع نيوتن ولا عدل آينشتاين القانون بل كشفاه، والقانون وضعه ربّهما وربّ العالمين. ولكن هل عرفا أو عرف أحد ما هي الجاذبية؟ لماذا ينقطع النور إن انقطع السلك أو احترق المصباح (اللمبة)؟ هل لأن السلك والمصباح هو الكهرباء؟

إن كان معنى «أنا» جسدي فقد ذهب وجاء غيره، وإن كان عواطفي وآرائي فقد تبدّل كثير منها، لذلك أتحدّث عن أيامي في المحكمة كما أتكلم عن حلم رأيته في منام ثم استيقظت فامّحَت الأحلام. وما الحياة إلاّ منام، وفي الأثر: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». عجب قوم لماذا دُعيتُ أنا (كما قلت في الحلقة الماضية) للكلام في حفلة جول جمّال باسم المسلمين على حين يتكلم البطريرك باسم النصارى. إنه عندهم الرئيس الروحي، فهل كنت كذلك؟ نعم، هذا الذي كان. وليس في الإسلام أكلروس ولا رؤساء روحيون، ولكن الفرنسيين -إمعاناً في التفرقة وليجعلوا المسلمين كأنهم طائفة من الطوائف- أقاموا للمسلمين رئيساً كما للنصارى رئيس، وجعلوه قاضي دمشق الممتاز ونائبه، أو الرئيس الثاني بعده، هو مفتي الجمهورية. وكان القاضي الممتاز الشيخ عزيز الخاني رحمه الله قائماً بهذا المنصب أحسن القيام وكان أهلاً له كل الأهلية، فهو في جمال طلعته وكمال خلقته وشدة هيبته وقدرته على مخالطة الكبار والصغار في تواضع لا يمسّه كِبر وعزّة لا يلامسها صَغار كان في هذا مفرَداً في بابه، كان ليّناً ولكن لينه لا يمنعه إن اقتضت الحال أن يكون أثبت في الحقّ من الجبال، فجاء من بعده أخونا وزميلنا الأستاذ الشيخ صبحي الصباغ ثم جئت أنا، وما له ولا لي مثل تلك الهيئة ولا تلك الهيبة ولا البسطة في الجسم، فعجزت وعجز عن القيام ببعض ما كان يقوم به الشيخ عزيز رحمه الله، فكتبت كتاباً رسمياً حلّ بعده المفتي محلّ القاضي، وهذا نص الكتاب أثبته هنا للتاريخ:

إلى رياسة مجلس القضاء الأعلى. لمّا كان القاضي الممتاز لا يخرج عن كونه قاضياً من قضاة الدولة وكان وصف الممتاز إنما يُنال بالقِدَم، وهو درجة من درجات العمل وليس وظيفة مستقلّة، وكان اعتباره ممّن يُسمَّون بالرؤساء الروحيين ووضعه معهم في برامج الاحتفالات ومواقف التشريفات إنما نشأ من عوامل شخصية، فأرجو التكرم بمخابرة الأمانة العامة لرياسة الجمهورية لتعديل البرامج المقبلة، وأن يكون تشرف القاضي الممتاز بالدخول على فخامة الرئيس مع إخوانه القضاة لا مع الرؤساء الروحيين، وأن تكون الرياسة الدينية للمسلمين (وإن كانت لا وجود لها في الحقيقة عندنا) لسماحة المفتي العام لا للقاضي الممتاز. وتفضّلوا بقبول احترامي الفائق. الإمضاء: علي الطنطاوي قاضي دمشق الممتاز. التاريخ 16/ 4/1951. وكان منصب القاضي الممتاز يعدل في تسلسُل القضاة منصب المستشار في محكمة التمييز (محكمة النقض)، فجاءني هذا الكتاب أثبته بنصّه للتاريخ أيضاً: الجمهورية السورية، من رئاسة مجلس القضاء الأعلى إلى حضرة قاضي الشرع السيد علي الطنطاوي. إن في محكمة التمييز شواغر لوظائف مستشارين ينبغي إملاؤها، فإن كنتم ترغبون في الانتقال إليها بمرتَّبكم وراتبكم الحاليَّين تفضلوا بتسطير موافقتكم في أدناه. التاريخ 20 شباط 1951، الرقم 73 واردة، الإمضاء: رئيس مجلس القضاء الأعلى وجيه الأسطواني. * * *

وقد نسيت أن أقول لمن لم يعرف حال القضاء في سوريا أنه مستقلّ لا دخل للحكومة فيه ولا يملك وزير العدل تعيين قاضٍ ولا نقله ولا عزله، وأن الأمر كله إلى مجلس القضاء الأعلى وهو مؤلَّف من كبار القضاة. لمّا جاءني هذا الكتاب تردّدت كثيراً وأرِقتُ ليالي أفكّر وأوازن، ففي كل من العملين مزايا دنيوية ونفع للمسلمين أرجو عليه المثوبة الأخروية، فالقاضي الممتاز كالضابط الذي يقود الجند في المعركة، يأمر وينهى يعيش وسط المعمعة، يحسّ حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، يحفّ به أتباعه يسألونه ويستأمرونه ويرجعون إليه، يعيش حياة كلها حركة ونشاط لا مجال فيها لكسل ولا ملل. والمستشار كالضابط الركن، يغلق عليه بابه مع ضباط الأركان، يرسمون الخطط ويُعِدّون للمعركة ويوجّهونها ولكن من بعيد، لا يدخل عليهم أحد ولا يراجعهم أحد، بل لا يكاد يحسّ بوجودهم. وللقاضي الممتاز مجال لسماع شكاوى الناس وإصلاح ما يمكن من الفساد، وله رياسة كثير من المجالس كمجلس الأوقاف، ثم إنه ينال علاوات فوق مرتَّبه، والمستشار يجد وقتاً يستريح فيه ويتفرّغ لأمور أخرى، فهو يكتب ويؤلّف ويبتعد عن مشكلات الناس. ميزان كلما رجحت فيه كفّة طاشت الأخرى، ثم عادت هذه فرجحت وطاشت الأولى. وليس أصعبَ على الإنسان من التردّد؛ إني أشعر في مثل هذه الحال أن الأفكار تضطرب في رأسي حتى إنها تضرب جوانبه، فأحسّ الصداع في صدغي. فاتّبعت سنّة الإسلام، ففكّرت وأطلت التفكير ثم كنت أستشير، ثم رأيت أنه

لا الفكر ولا المشورة توصل دائماً إلى الصواب لأن المستقبل بيد الله، لذلك شُرِعت الاستخارة، فاستخرت الله الاستخارة الشرعية، فصلّيت ركعتين ودعوت بدعاء الاستخارة، لم أنتظر أن أرى في المنام ما يصرفني إلى إحدى الوجهتين ولا عملت عمل العامّة فذهبت إلى شيخ فقلت له: بيّتْ لي استخارة، ثم سألته في الصباح ماذا رأى، فإن رأى مناماً يسرّ كان الأمر خيراً وإن رأى ما يسوء كان شراً! هذه استخارة عامّية لا الشرع يقول بها ولا العقل يُقِرّها، وإذا كان هذا الذي وكّلته بأن يستخير لي قد أصابه عُسر في الهضم أو جاءته الحُمّى فرأى في منامه أضغاث أحلام، فما علاقتي أنا بها؟! استخرت الله الاستخارة الشرعية فرجح لديّ أن أوافق على الانتقال، ولكن ما مرّ على ذلك يومان حتى ندمت وكتبت أسترجع موافقتي، فجاءتني الموافقة على بقائي في مكاني. بقيت في المحكمة الشرعية في دمشق وتركت الأمر لله، وللحديث بقايا ستأتي إن شاء الله في الحلقات المقبلات. * * *

في محكمة النقض في دمشق

-214 - في محكمة النقض في دمشق قلت لكم إن رئيس مجلس القضاء الأعلى خيّرني بين أن أبقي قاضياً ممتازاً في محكمة دمشق أو أن أنتقل مستشاراً في محكمة النقض، وعرفتم أني تردّدت وتحيّرت ثم عزمت على البقاء. وبعد أن وافقت على النقل سحبت موافقتي فجاءني هذا الكتاب برقم 29 وتاريخ 27/ 2/1951 وإمضاء رئيس مجلس القضاء الأعلى وجيه الأسطواني، يقول فيه: بناء على عدولكم عن هذه الموافقة فإني أعيدها إليكم ودمتم. ولي عن محكمة النقض (التي كانت تُسمّى محكمة التمييز) ذكريات جمّة من قبل أن أكون فيها، ذلك أن أبي كان رئيس ديوانها سنة 1918، ولي هذا المنصب بعد أن ترك (ولست أدري كيف ترك) المديرية العامة بمدرسة الاتحاد والترقّي التي كانت أرقى ثانوية في دمشق على عهدها وكان الناس يدعونها المدرسة التجارية. ولم يكن أبي معدوداً رسمياً في قضاة المحكمة، بل كان في رأس سلّم المساعدين القضائيين ودون مرتبة المستشارين،

ولكنهم كانوا يدعونه إلى كل جلسة تُدرس فيها دعوى مدنية لها صلة بالفقه. ولا تنقطع صلة الدعاوى المدنية (الحقوقية) أبداً بالفقه، فكان يشارك في المناقشات ويؤخذ رأيه في الآراء، وكان الحكم يصدر حيث يكون رأيه، سمعت ذلك من كثير من أعضاء المحكمة فيما بعد، كما سمعته من رئيسها يومئذ وأنا صغير ولكني واعٍ مدرك، وكنت تلميذاً في آخر المرحلة الابتدائية. وكان الرئيس هو الأستاذ مصباح محرّم، وهو قاضٍ كبير نسيه الناس كما نسوا من أمثاله الكثير، لأن مكانهم في أذهانهم امتلأ بأسماء المغنّين والممثّلين ولاعبي الكرة في الملعب واللاعبين بمصالح الأمم من السياسيين في المجالس والأحزاب. وكنت أذهب من المدرسة أحياناً إلى المحكمة لأرى أبي فأعود معه إلى الدار، فكان الرئيس يستدعيني إلى مكتبه ويسألني ويحاول أن يحدّثني، فكنت أتهيّبه أولاً فلا أتكلم، ثم لمّا طال العهد وتوالت الدعوات انطلق لساني، ويظهر (والله أعلم) أني كنت على شيء من الذكاء وسرعة البديهة، وكنت قد قرأت (ولعلّكم تعجبون إذ تسمعون أني قرأت في تلك السنّ) كتباً كثيرة منها «حياة الحيوان» للدميري، وقد سبق ذكره، وكتباً أدبية من كتب ما يدعونه عهد الانحطاط كـ «الكَشْكول» و «المِخْلاة» و «المستطرف»، ولم أفهمه كله ولكني كنت أحفظ كل ما أقرأ، أقول هذا وقد قلته من قبلُ تحدُّثاً بنعمة الله عليّ، فكان في ذهني طائفة صالحة من الأخبار والأشعار. فكان الرئيس يُسَرّ بي ويستنطقني، وكان يدعو أحياناً بعض

أعضاء المحكمة (الذين يُسمَّون اليوم بالمستشارين) ليستمعوا مني، منهم العالِم الأديب النبيل الشيخ مسعود الكواكبي الحلبي، الذي أحفظ له في نفسي أوفى حظ من الحب المقرون بالاحترام، ثم صار يزورنا في الدار حيث يجتمع فيها ناس من جلّة علماء البلد يومئذ هم أصحاب أبي وأصدقاؤه، لا يكادون يفترقون، وأنا أدخل عليهم بالشاي والفاكهة والطعام ثم أقعد في طرف المجلس حيث لا يتنبّه إليّ أحد، ولكني كنت كالمسجّلة التي تُثبِت على شريطها كلَّ صوت يخرج من حولها. وإذا مدّ الله في العمر وصبّ القوة في الذاكرة واستمررتُ في نشر هذه الذكريات ولم يملّ منها القراء فسأكتب ما بقي في ذهني منها، وإن لم يبقَ إلاّ القليل. كانت هذه المجموعة تخرج إلى بعض المتنزَّهات، فتقضي اليوم كله في مذاكرات ومناظرات وسرد نوادر ورواية نكات وطعام وشراب. ولم يكن الناس يجاوزون في الوادي الهامَةَ والجُدَيْدة وبَسّيمة وعين الفيجة، وبين أبعدها وبين دمشق عشرون كيلاً، مع أن بين دارَي بنتين لي اليوم في جدة أربعة وعشرين. ما كان الناس يقصدون الزّبَداني ومَضايا وبلودان، بل يكتفون من الوادي بما دون الفيجة. وربما ناموا في تلك القرى، فكان الفلاحون من أصحاب الدور التي يستأجرونها يفرشون لنا الحشايا والفرش على الأرض، وننام عليها كما ينام أكثر أهل دمشق، فإذا أصبح الصباح طووها ونضّدوها ووضعوها في فجوة تكون في الجدار في كل بيت من بيوت الشام تشبه الخزانة ولكن ما لها رفوف ولا أبواب تُدعى «اليوك» (وما عرفت ولا حاولت يوماً أن أعرف من أين جاء هذا

الاسم) ثم يُسدِلون عليها ستاراً يكون غالباً مزوَّقاً مطرَّزاً. وكان نساء دمشق فوق أعمالهن الكثيرة التي تقوم بها اليوم الآلاتُ الكهربائية، كُنّ فوق ذلك يطرّزن ويَخِطن ويُبدِعن في التطريز والخياطة، ولا تزال زوجتي تصنع ذلك إلى الآن، وعندها قطع كبيرة من القماش قد طرّزتها بيدها فيها صور وفيها أوراد وأزهار تصلح الواحدة منها لتكون لوحة فنية. * * * وكان يُعجّبني (بتشديد الجيم) من الشيخ مسعود أنه كان ينام بجبّته لا يخلعها وعمامته على رأسه لا يضعها، ثم يصبح وما فسدت العمامة ولا تأثر الثوب، لأنه كان يضطجع على جنبه الأيمن فلا يتحرك شعرة واحدة حتى يصبح! رأيت ذلك منه مرات لا أُحصيها. والشيخ مسعود مهذّب اللفظ رفيع الخلق، علمت من بعدُ أنه أديب، وأنه من أوائل الذين انتُخبوا أعضاء في المجمع العلمي العربي (الذي يسمّونه الآن مجمع اللغة العربية)، وأنه يُحسِن التركية والفرنسية، وقد تعلمها على كبر. كان أولَ من جاء يعزّينا يوم مات أبي، وأذكر أنه سألني عن قريب لنا فقلت إنه شقيق أبي من الرضاعة، فقال لي مبتسماً: لايُقال شقيقه من الرضاعة ولكن يُقال أخوه. وكانت نصيحة لطيفة أُلقيَت بلهجة ناعمة، ولكنها حزّت في نفسي لأنني كنت -في تلك السنّ- أرى مثل هذه الغلطة تقع مني شيئاً كبيراً.

كان الشيخ مسعود أحدَ الذين جدّدوا في خطب الجمعة. وقد كانت تُلقى من دواوين مطبوعة بعبارات مسجوعة بلهجة منغَّمة تكاد تكون مملّة منوّمة، فكان الشيخ مسعود من أوائل من خطب بالأسلوب الذي نسمعه اليوم. كان سنة 1326هـ (قبل مولدي بسنة) نقيب الأشراف في حلب، ونقابة الأشراف في الأصل منصب من مناصب الدولة، وعمل القائم عليه أن يُحصي أبناء علي بن أبي طالب وأن يوزّع أوقافَهم الكثيرة التي وقفها الناس عليهم، فصار على عهد العثمانيين منصب تشريف ليس معه عمل. انتُخب عضواً في المجمع العلمي سنة 1342، وهو أخو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب «أم القرى» و «طبائع الاستبداد»، الذي تَجدّد ذكره وعظم أمره أيام الوحدة مع مصر لأنهم عدّوه من روّاد القومية العربية، على حين أن الذي دعا إليه هو والسيد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وأمثالهم هو يقظة العرب، وجمع شتاتهم وتوحيد صفوفهم، وعودتهم إلى مكانهم الذي كان لهم، ودفع أذى الاتحاديين والملحدين من الترك عنهم، ما دعوا إلى قومية ساطع الحصري وقسطنطين زريق وسامي شوكت. وكان الشيخ مسعود أحدَ الرجال الذي تركوا في نفسي أثراً عميقاً (ولست بقادر على إحصائهم)، ولم يكن من المشايخ المعتزلين الذين يعيشون وراء حدود المجتمع، يكتفون باختيار كتاب بعد كتاب يُقرئونه تلاميذَهم، يشرحون عبارته ويكشفون غوامضه لا يكادون يزيدون عليه، يهتمّون بالكتب أكثر من

اهتمامهم بالعلم، يحسبون أن هذا غاية المطلوب منهم في خدمة الإسلام، لا يعرفون من أخبار الدنيا وأوضاع الناس شيئاً. بل كان ممن له مع التضلّع في الفقه وعلوم الدين قدم في الأدب راسخة وقلم في الكتابة بليغ، لا الكتابة الأدبية الخالصة بل الكتابة العلمية، ومَن كانت عنده مجموعة مجلة المجمع العلمي العربي في أجزائها الأولى أو رجع إليها في المكتبات العامة رأى له مقالات كثيرة في نقد الكتب التي كانت تُنشر على أيامه وفي تصحيحها. ولمّا ظهرت حقيقة أعضاء حزب الاتحاد والترقّي في محاربة العربية توصُّلاً إلى محاربة الإسلام وفي كيدهم له في الخفاء، واستمرارهم على ذلك حتى ظهر مصطفى كمال فألقى القناع الأبيض المزوَّر فظهر من ورائه الوجه الأسود القبيح، لمّا بدأت تظهر نوايا الاتحاديين أُلِّفت أحزاب وتجمّعت جماعات لمقاومة دعوتهم إلى تتريك العناصر العثمانية، فكان منها «الجمعية المحمدية» ومنها «حزب الحرّية والائتلاف» الذي كان الشيخ مسعود من أكبر العاملين له والساعين لإنشائه. تَنبّه العرب لمكايد الاتحاديين، ولكنهم على عادتهم يخالفون دائماً أمر ربهم فيعمدون إلى التفرّق والانفراد بدل التجمّع والاتحاد، فيعمل كلٌّ وحده وفق اجتهاده ولا يعملون معاً، لذلك لم تفلح واحدة من هذه الجماعات وهذه الأحزاب وبقي حزب الاتحاد والترقّي هو الحاكم، حتى أدخلَنا بسوء رأيه وفساد طويّته في الحرب العالمية الأولى، وجعلنا في الجانب الخاسر، فكان السبب في انهيار هذا الصرح العظيم الذي ظلّ

يقارع الأحداث ويثبت على الزلازل والهزّات خمسة قرون: صرح الدولة العثمانية، على ما كان منها. * * * لبثتُ أزور المحكمة بعد موت أبي بطلب من الرئيس مصباح بك رحمه الله، يحدّد لي الوقت الذي لا تكون فيه جلسات مذاكرة بين الأعضاء، فإذا جئت وجدت عنده الشيخ مسعوداً وبعض أعضاء المحكمة، فأسمع من الأحاديث وأتلقّى من النصائح، وأعرف من الرجال ما يكون لي كنزاً آخذ منه فلا يفنى. وممن عرفته في تلك الأيام من أعضاء المحكمة (أي من مستشاريها) الشيخ علي عيّاد، وهو عالِم مغربي، وكنا نسمّي «مغربياً» كلَّ من جاءنا من شمالي القارة الإفريقية مما يجاوز مصر، فالطرابلسي (أي الليبي) مغربي والتونسي مغربي والجزائري والمراكشي كلهم كانوا عندنا مغاربة، لا يكاد معظمنا يفرق بينهم، بل لم يكن في ذهني -على ما درسته من الجغرافية- تصوّر واضح لمواقع هذه الأقطار! والشيخ علي هو والد الدكتور كامل عيّاد. ومنهم يوسف بك الحكيم، وكان كما أذكر الرئيس الثاني لمحكمة التمييز، أي محكمة النقض. وقد عاش عمراً طويلاً، وكنت أزوره في داره في ساحة النجمة في دمشق، وكان يذكر أبي ويثني عليه، وقد ولي وزارة العدل. ومنهم الأستاذ الشيخ سليمان الجوخدار، وقد سبق لي عنه في هذه الذكريات كلام طويل، وقد ولي الوزارة أيضاً وكان من أقوى الوزراء.

ومنهم رجل نسيت اسمه كبير السنّ، أذكر هيئته كأني أراه الآن أمامي لا أعرف ما دينه، ولكنه لم يكن مسلماً. رسخ في ذاكرتي قوله الذي لم يكن يفتأ يقوله لأبي، وهو أن الشكّ يكاد يقتله وأنه يريد أن يعتقد عقيدة يطمئنّ إليها، حقاً كانت أم كانت باطلاً، ليخلص بها من هذا الشك الذي يمزقه ويكاد يسحقه، فمَن استطاع أن يوصله إليها أعطاه نصف مرتّبه طول حياته! فكان الأستاذ الكواكبي وأبي وغيرهما يكلمانه ويطيلان الكلام فلا يصنعون معه شيئاً، لأن ما استقرّ في نفسه من الشُّبَه يدفعه لأن ينقض هذه الأدلّة العقلية التي يأتونه بها بشبهات جدَلية، فكان ذلك مما جعلني (وأنا الصغير) أحمد الله على أن لي عقيدة أعتقدها أسكن إليها وأطمئن بها، فما في الدنيا أقتل للعقل وأذهب للسعادة من أمثال هذه الشكوك. وكان في ديوان المحكمة الذي كان أبي رئيسَه جماعة من المساعدين (أي من الكُتّاب)، صاروا كلهم فيما بعد من أكابر القضاة ثم مضوا كلهم حيث يمضي كل حي. منهم الأستاذ محمد علي الطيبي، وكان مساعد أبي وقد ولي رياسة الديوان بعده، ثم صار الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في دمشق، وهي مرتبة قضائية عالية. وكان هادئ الطبع ساكن الجوارح، ما رأيته يوماً يغضب ولا يسخط، وله فضل عليّ لست أدري أذَكرتُه في حلقة ماضية أم لم أذكره، فأنا أكتب الحلقة ولا أعرف ما الذي قبلها ويختلط عليّ ما هو مستقرّ في ذاكرتي بما هو مُودَع في مقالاتي. ذلك أنه كان السبب في ردّي إلى الدراسة بعد أن تركتها وحاولت ما لم أُخلَق له من الاشتغال بالتجارة، فرجعت إلى

شعبة الأدب في الصفّ العاشر من مكتب عنبر وأكملت مسيرتي في طريق الدراسة، والفضل لله أولاً وأخيراً ثم لهذا الأستاذ رحمه الله (¬1). وأسرة الطيّبي في دمشق كأسرة الكواكبي في حلب، من الأسر العلمية. وكان أبوه عالِماً عُرف بأنه مرجع في الفرائض والمواريث. ومن عجائب أمر الأب أنه تزوج بعدما جاوز الثمانين من عمره ووُلد له ولد كان بينه وبين أخيه الأستاذ محمد علي أكثر من ثمانين سنة! وممن أعرفه تزوّج على كبر وأنجب الشيخ علي ظبيان، وهو والد الأستاذ نديم الذي ذكرته عند الحديث عن بروكسل والأستاذ الصحافي الأديب تيسير رحمه الله الذي تكلمت عنه من قبل. وممن كان كاتباً في الديوان الأستاذ عارف الحمزاوي الذي صار الأمين العامّ لوزارة العدل، أي وكيل الوزارة. وأسرة الحمزاوي (أو آل حمزة) من أقدم الأسر الشامية، ومنهم المفتي الشيخ محمود حمزة أو الحمزاوي، أشهر المفتين في الشام في القرن الماضي. ¬

_ (¬1) مرّ خبر هذه الواقعة في الحلقة الثالثة والعشرين، في أواخرها، وفيها: "فرأيت الأستاذ محمد علي الطيبي، فرحّب بي وساءلني، فلما عرف أني تركت المدرسة عجب وقال: ومن الذي أشار عليك بهذا؟ قلت: عمّي الشيخ عبد الوهاب. فقال: الله يفرّج عنا وعنه! لقد نبّهَتني هذه الكلمة كما يتنبّه المنحرف عن الطريق إذا سمع من يسأله عن مسيره وعلمت أني غلطت، فهل يمكن أن أصلح الغلط؟ " إلى آخر القصة (مجاهد).

وممن كان كاتباً في الديوان الأستاذ صبحي القوّتلي الذي صار الرئيس الأول لمحكمة النقض، محكمة التمييز، ولست أؤكّد ذلك وأشكّ: هل كان مع أبي في ديوان المحكمة على عهد الدولة العربية في أعقاب الحرب الأولى أم كان تلميذه في المدرسة التجارية؟ وهو من أنزه القضاة الذين عرفتهم، وله قلم بليغ وله اطّلاع واسع، وكان يُكثِر قراءة القرآن وتدبّره من غير رجوع إلى كتب التفسير، فيصل بذهنه إلى أشياء منها ما هو جديد مقبول ومنها ما هو مردود. ومثله في ذلك أستاذنا في مكتب عنبر الأستاذ حسن يحيى الصبان. فمما كان يقوله الأستاذ القوتلي أن حديث «لا يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» مخالف للقرآن لأن الله يقول: {ادخُلُوا الجنّةَ بِما كُنتمْ تعمَلُون}، وفي القرآن آيات كثيرة في هذا المعنى. ويقول إن صحيح البخاري فيه أصحّ الأحاديث رواية ولكن الناس بالغوا في تقديره حتى وصلوا إلى تقديسه، مع أن المحدّثين يقرّرون أن الحديث -مهما كانت درجته ومهما كانت منزلة راويه- إذا خالف القرآن ولم يمكن التوفيق بينه وبين الآية نحكم بأن الرسول لم يقُله، لأن الرسول ‘ لا يقول ما يخالف القرآن مخالفة تامّة. (أقول: وهذه القاعدة مدوَّنة في كتب المصطلح، تجدونها في أصغر كتاب في هذا العلم لأكبر عالِم فيه، هو «شرح نخبة الفِكَر» لابن حجر). وكنا إذا قلنا له إن الباء في الآية بمعنى غير الباء في الحديث أجاب بأن ذلك أيضاً أثر من آثار تقديس صحيح البخاري، فالنحويون اخترعوا هذه الفروق للباء ليثبتوا أنه ليس بين الحديث والآية اختلاف!

وممن كان في الديوان الأستاذ إبراهيم السيوفي، وكان في تلك الأيام أصغر مَن فيه ولكنه أثقلهم حملاً وأكثرهم شغلاً، وقد صار من بعدُ قاضياً. ومنهم الأستاذ نصوح الكيلاني، وكان فوق عمله في المحكمة معدوداً من كبار رجال الفنّ ومن أهل الموسيقى ومن أحسن العازفين على القيثارة (الكمان)! * * * أرجع إلى رئيس المحكمة الأستاذ مصباح محرَّم. وأنا لا أزال أذكر لحيته البيضاء وشاربَيه الكبيرَين، وما تفيض هيئته ولهجته وسعة علمه وصدق مقالته من فرض الاحترام على جليسه، فقد كان عالِماً في الحقوق وكان مدرّساً في كلّيتها (وكنا نسمّيها معهد الحقوق) يدرّس مادة «الصكوك القضائية»، وله فيها كتاب وصل إلى أيدينا وقد دخلنا الكلية سنة وفاته (1350هجرية) وصل إلينا كتابه ممن كان قبلنا من الطلاب وكنا نراجع فيه. وكان الأستاذ مصباح محرم متمكناً من العربية صحيح العبارة بعيداً عن اللحن وعن الضعف، وكان له شِعر يرتفع عن نَظْم النظّامين وينزل عن شعر الشعراء المطبوعين، وهو على كل حال مبرّأ من هذا الذي يُنشَر الآن على أنه شعر وما هو بشعر! وعندي لوحة فيها جملة «بسم الله الرحمن الرحيم» كان أهداها إلى أبي مصوَّرة عن قطعة كتبها السلطان محمود بخطّ الثلُث، بلغ فيها الغاية في جمال الخطّ وحسن الترتيب. وكان مصباح بك متديناً يراقب الله ويمشي على شرعه. وولده أستاذنا الدكتور محمد محرم كان رئيس قسم الأمراض الجلدية في

كلية الطب بدمشق، وكان أول من أخصى (¬1) (أي تخصّص) في الأمراض الجلدية في الشام، وكان أديباً وعالِماً بالعربية، جاءنا مدرّساً في مكتب عنبر سنة 1345هـ، ومنه سمعت أول مرة كلمة «حَنْجَرة» بفتح الحاء، وكان أساتذتنا يضمّونها. وقد قرأت من نحو شهرين في هذه الجريدة واحدة من مقالات متسلسلة عن القناة الهضمية لطبيب اسمه الدكتور شماعة (أو شيء يشبه هذا الاسم) فيها أن الحَنجرة أول أعضاء الجهاز الهضمي وأن الطعام يمرّ منها، وضحكت وأنا أقرؤها حتى دخلَت ذرة من الطعام في حنجرتي بدلاً من أن تدخل في البلعوم فكدت أختنق! فكيف يدخل الطعام إليها ويمرّ منها؟ هل هذا جهل في الطب أم باللغة؟ وكلاهما قبيح من طبيب. وعرَتني مرة حكّة قوية تأتي مفاجأة في موقع يجب ستره فكنت أُضطرّ أن أقف إلى جانب الطريق لأحكّ الموضع، فذهبت إليه (أي الدكتور محمد محرم) وأنا خائف من هذا الذي عراني لا أدري ما هو، ففحصني وطمأنني وقال لي: إنك لا تحتاج إلاّ لبعض المهدّئات الخفيفة وليس بك شيء. وكتب لي اسم الدواء. ولقيته بعد ذلك بمدّة فسألني فخبّرته أن ما أشكو منه قد زال، ثم ضحكت وقلت: ياسيدي، إنني لم أشترِ الدواء ولم أستعمله، ¬

_ (¬1) ومنها قولهم الدكتور فلان الإخْصائي (بكسر الهمزة وتسكين الخاء). ويقول أخي ورفيق عمري سعيد الأفغاني إنها «أخَصَّ» لا أخصى والذي نقوله تحريف.

ولكن ما قلتَه لي كان سبباً كافياً لأن يشفيني الله (¬1). ولا يُنكِر أحدٌ أثرَ الإيحاء النفسي في بعض الأمراض، لا سيما الجلدية منها. وقد قدّمت القول بأن الثآليل (ونسمّيها في الشام «التواليل»، وهي التي تظهر في الجلد فلا تؤلم ولا تنزف ولكنها تشوّهه) يحتالون عليها بحيل نفسية فيشفي الله منها. من ذلك أنهم يضعون حبّة عدس أو شعير فوقها ويقرؤون شيئاً ويُلقون هذه الحبة في بئر ويُفهِمون المريض أنها إذا تحلّلت وفنيت في الماء برئ مما يقاسيه، وأشياء من هذا القبيل لا أثر لها في الحقيقة في المرض ولكنها فيما يبدو نوع من الإيحاء. * * * كان الأستاذ مصباح بك رحمه الله أيام العثمانيين مفتّشاً على القضاة، فأخبرني حَمي (على وزن أبي، أي والد زوجتي) الأستاذ صلاح الدين الخطيب رحمه الله ورحم كل من ذكرت، الذي كان يومئذ عضواً (أي مستشاراً) في محكمة النقض، خبّرني أن مصباح بك جاء يافا مرة يفتّش محكمتها وكان قاضيها الشيخ أبو النصر الخطيب (وهو عم مصباح وعم أمي)، فلما انتهى من تفتيش المحكمة أخذه القاضي معه إلى الدار، فرآهما رجل من أهل البلد فمشى معهما، والقاضي يظن أنه صديق المفتّش لذلك لم يسأله، والمفتش يحسب أنه صاحب القاضي لذلك لم يكلمه. حتى إذا وصلوا الدار ودخلوها وهمّوا بالقعود إلى مائدة الطعام ¬

_ (¬1) انظر الحلقة 119 من هذه الذكريات (دفاع عن الأطباء)، وفيها هذه القصة وتعليقات عليها وعلى أمثال لها (مجاهد).

تبيّن أن لهذا الرجل قضية، أي دعوى في المحكمة. عند ذلك استأذن القاضي أن يفارق الدار لضرورة عاجلة لا بد منها، وخرج والمفتّش والرجل يتعجبان، وغاب ساعة حتى جاء برجل آخر وقال للأول: هذا خصمك، فما عندك من أقوال فقله أمامه ليردّه عليك. وكان الشيخ أبو النصر معروفاً بالنزاهة في القضاء، وكانت له نوادر كثيرة ربما تكلمت عنها إن وفّق الله في يوم من الأيام. * * *

المحتويات الحلقة (184) افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق ... 5 الحلقة (185) من أخبار العلم والعلماء في دمشق قبل نصف قرن ... 19 الحلقة (186) فتنة التجانية في الشام ... 33 الحلقة (187) في الكلية الشرعية في دمشق ... 47 الحلقة (188) حلقة خاصّة في تصنيف العلوم ... 61 الحلقة (189) في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية ... 77 الحلقة (190) كيف وُضع مشروع قانون الأحوال الشخصية؟ ... 91 الحلقة (191) مصر قبل أربعين سنة ... 105 الحلقة (192) في إدارة التشريع في وزارة العدل ... 119 الحلقة (193) ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947 ... 133 الحلقة (194) عودة إلى الحديث عن مصر ... 145 الحلقة (195) حلقة مفردة: وحي صورة ... 159 الحلقة (196) وقفة استراحة ... 171 الحلقة (197) بقايا من ذكريات رمضان ... 185 الحلقة (198) في «آخِنْ» عاصمة شارلمان ... 197 الحلقة (199) رحلتي من فرانكفورت إلى آخن ... 209 الحلقة (200) الدعوة الإسلامية في ألمانيا ... 219

الحلقة (201) في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين! ... 231 الحلقة (202) السفر إلى المؤتمر ... 243 الحلقة (203) إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير ... 257 الحلقة (204) صلاة الجمعة في مسجد بروكسل ... 271 الحلقة (205) أيام لا تُنسى في بروكسل ... 283 الحلقة (206) في منطقة الآردن ... 297 الحلقة (207) خواطر في الحياة والموت، في طرق هولندا ... 309 الحلقة (208) طريق الحج ... 321 الحلقة (209) الخط الحديدي الحجازي ... 333 الحلقة (210) في صحبة الحيوان ... 345 الحلقة (211) كتاب جديد أثار في نفسي ذكريات قديمة ... 361 الحلقة (212) إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح ... 375 الحلقة (213) عودة إلى ذكريات القضاء ... 387 الحلقة (214) في محكمة النقض في دمشق ... 399

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق ... 1935 2 ـ قصص من التاريخ ... 1957 3 ـ رجال من التاريخ ... 1958 4 ـ صور وخواطر ... 1958 5 ـ قصص من الحياة ... 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح ... 1959 7 ـ دمشق ... 1959 8 ـ أخبار عمر ... 1959 9 ـ مقالات في كلمات ... 1959 10ـ من نفحات الحرم ... 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) ... 1960 12ـ هتاف المجد ... 1960 13ـ من حديث النفس ... 1960 14ـ الجامع الأموي ... 1960 15ـ في أندونيسيا ... 1960 16ـ فصول إسلامية ... 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) ... 1960 18ـ فِكَر ومباحث ... 1960

19ـ مع الناس ... 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات ... 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) ... 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام ... 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي ... 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) ... 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) ... 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) ... 2001 27ـ فصول اجتماعية ... 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) ... 2002 29ـ نور وهداية ... 2006 إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

الجزء الثامن

ذكريات علي الطنطاوي الجزء الثامن طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الخامسة 2006 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

وداع المحكمة الشرعية

-215 - وداع المحكمة الشرعية لماذا تحلو ذكرى الماضي ولو كان مُرّاً؟ هل تذهب الأيام بالمرارة وتصبّ في الأحداث -إن مضت- سكّراً وعسلاً، أم قد حلَت في عيني لأني فقدتها؟ ومن نكد الدنيا أن مسرّتها مشوبة بالألم وأن المرء لا يستحلي الشيء إلاّ إن خلت يده منه، وقد كان يزهد فيه لمّا كان في يده، وأنه يشتهي ما يُمنَع منه ويملّ مما يُعرَض عليه. خرجنا مرة مع الأسرة أوائل إقامتي في مكّة من بضع وعشرين سنة إلى حديقة الزاهر، وكانت عروس الحدائق وفرحة المرتاد، وفي نيّتنا أن نبقى فيها إلى الليل. فنادوا أن باب الحديقة سيقفل ساعتين لضرورة عمرانية تقتضي الإغلاق، فمَن كان مستعجلاً فليخرج الآن أو فليبقَ حتى يُعاد فتح الباب. لمّا أحسست أني مُنعت من الخروج ضاقت بي الحديقة واسودّت في عيني، وشعرت بما يشعر به السجين بين جدران السجن! وكنت أدرّس الأدب في بغداد من نصف قرن كامل، وكان ممن ندرس شعره وحياته من الشعراء شوقي، وكانت قصيدته

«ياجارة الوادي» يومئذ بصوت عبد الوهاب على كل لسان وفي كل مكان، فاخترتها للطلاّب ليحفظوها فيما يحفظون من شعر شوقي. فلما صارت واجباً عليهم كُرّهَت إليهم، وقد كان أكثرهم يحفظها ويحاول أن يغنيها. لذلك شعرت لمّا تردّدتُ بين البقاء في المحكمة الشرعية أو الانتقال إلى محكمة النقض، شعرت بالضيق لأنني كلما مِلت إلى جانب وتصوّرت أني أفارق الآخر حلا بعيني ما تصوّرت أني مفارقه، لأن الطمع طبع في الإنسان، لا يقنع، حتى إنه «لو كان له وادٍ من ذهبٍ لابتغى له ثانياً» كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، «ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب». اللهم إننا تبنا إليك فتُب علينا. وقد عرفتم أني كنت أوّل قاضٍ انتقل بمحكمته إلى القصر العدلي لمّا أُنشئ، فأخذت الزاوية الجنوبية الغربية. وخيرُ بيوت الشام ما كان مفتوحَ النوافذ على الجنوب، يليه ما كانت نوافذه على الغرب؛ الأول ينال من الشمس حظاً كاملاً في بلد يمتدّ الشتاء فيه أربعة أشهر وتكون الشمس فيه متعة الشتاء، والثاني حظّه منها النصف. وما كان مفتوحاً على الشرق أخذ الربع، وما كانت نوافذه على الشمال عاش في شتاء دائم. والعرف في الشام أن الحكومة إن أزمعت إنشاء حيّ جديد اشترت البيوت القديمة كلها من أصحابها بأثمانها فتملّكَتها، ثم هدمتها ونقلت أنقاضها وقسّمت الأرض نظيفة بعد تنظيمها بين

أصحاب هذه البيوت بمقدار ما كانت تساوي بيوتهم. فلما أُقيمَ القصر العدلي أجّلوا إزالة البيوت القديمة من حوله وأرجؤوا فتح الشوارع: الشارع الذي ترونه الآن غربيّ القصر والشارع الجنوبي منه. فكنت أنظر من غرفتي فأرى مثل آثار الدرعية، أرى بيتاً بقي منه جدار واحد وغرفةً فوقه ذهب نصفها. وأنا لا يُصيبني ويحرّك سواكن نفسي كالوقوف على الأطلال. إنني أرمّمها في خيالي وأصلحها كما يرمّم البيتَ العتيق مالكُه حتى يُعيد إليه من بهائه ما يمكن أن يعود! كنت أنظر إلى الغرفة التي بقي نصفها فأراها ونصفها معها، ومع صاحبها نصفه الآخر من البشر: الزوج وزوجته، والجدران ساترة، والباب مُغلَق. أراها وقد عادت الحياة إليها ورجع إليها أهلوها، حتى إني لأسمع لغط صبيانها وأحاديث نسائها وقرع قباقيبهنّ على بلاطها! مع أنها قد زالت الجدران فانكشف المخبوء وذاعت الأسرار، وصار مَن فيها كأنهم يمشون في السوق بلا ثياب. كم تُخفي هذه الأبواب وراءها، وهذه السقوف كم تخبّئ تحتها! لي مقالة كان عنوانها «في الليل» نشرها الأستاذ الزيات في الرسالة سنة 1943 كان مما قلت فيها: إن الطبيعة ظاهرها كباطنها، لا يُضمِر الجبلُ نفاقاً ولا السهلُ يبطن حقداً ولا السحابُ ينطوي على مكر، ثم أنظر إلى هذه السقوف التي كانت تبدو لي تلك الليلة بهية برّاقة، يقطر منها النور بعدما اغتسلت بضياء القمر وماء المطر، فأفكّر فيها: ماذا تحت هذه السقوف؟ كم تحتها من خبايا وعجائب ومؤتلف ومختلف!

كم من معبد لمتهجّد متنسّك إلى جنب مخدع لمستهتر متهتّك، هذا خلا بربّه وذاك بحبّه، فتجاورت منهما الظلمة والنور. وكم من سرير لميت يحفّ به أهله يبكون، ومضجع لعروسين أحاط بهما الأقرباء يضحكون، ومَن يبيت يتبرّم بالولد ومن يتألم من العقم، وشاكٍ من التخمة وباكٍ من الجوع، ومسرور يتمنى لو طال الليل ومنكود موجَع ينتظر النهار، وكادح للعيش ناصب لا يستريح نهاره ولا يكاد ينام ليله، همّه المال يجمعه ويركمه قد حرم نفسه من أجله الطيبات، ولو كُشف له الغطاء لعلم أنه إنما سخّره الله لآخر فهو يجمعه له ويكدح من أجله، وذاك نائم لا يفكّر فيه ولا يباليه، حتى يجيء وقته فيأتيه ... (إلى أن قلت): وكم من أديب، أديب حقاً، قد طاعت له عَصِيّات الكَلِم وذلّت له العوالي من قطوف البلاغة، قد انزوى في خُصّه لا يدري به أحد، ودَعِيّ جاهل، لصِّ مَعَانٍ وصَفّاف كلمات، قد جُمِع له المجد الأدبي من أطرافه فكان له الاسم السائر والمال الوافر! ومُتَمَشْيِخ قد لبس مسوح الزاهدين واتّزر بإزار الصالحين، قد عرّض لحيته وكوّر عمامته وأدلى عذبته وطوّل سبحته، ودعا الناس إلى الزهد في الدنيا ونبذ الأموال ورمي النقود في الطرقات لأنها وسخ الدنيا، فلما أطاعوه ورموها خالفهم إليها فالتقطها ... (إلى أن قلت): كم تحت هذه السقوف من شاعر يعتقد أنه خُلق روحاً بلا جسم وأنه يتغدى بالحب ويتعشى العواطف، قد أغلق بابه وطفق يعدّ نقوده التي يستوحيها الخيال ويستلهمها الشعر،

فلما رآها قليلة لا تزال انصرف إلى نظم قصيدة عاطفية جديدة يستدرّ بها المال! ونصير للفضيلة سخّر قلمه لها ووقف صحيفته عليها، قد هرب من بيته وانصرف في تلك الساعة إلى عشيقته ليقرأ عليها مقالته الجديدة في ذم العشق وامتداح الوفاء الزوجي! وفلاّح عاكف على لبَنه يخلطه بالماء، وكلما صبّ فيه شيئاً نظر إليه وذاقه، فلما اطمأنّ أنه لم يَعُد يحتمل زيادة قعد يفكّر في أيمان جديدة يحلف بها غداً على أن اللبن خالص لم يمسسه ماء! وباتت ثلاثون ألف فتاة ينتظرن الزواج وبات ثلاثون ألف فتى ينتظرون الزواج، وما حال بين الطائفتين إلاّ غلاء المهور وكثرة التكاليف وسخف العادات، وجهل الآباء الذين يَحسَبون بناتهم دوابَّ تُباع في سوق البقر فهم يتغالون بأثمانها، والذين لا يمتثلون أوامرَ الشرع فيمنعوا الخاطبَ الكفء أن يرى البنت ثم يُطلِقونها في الطرقات متبرجة سافرة فيراها البَرّ والفاجر وكل ذي عينين، حتى الحمار! وخلال ذلك عشرون ألف شابّ لا ينقصهم شيء من مال ولا صحّة ولكنهم لا يزالون يشكون الملل ولا يدرون ماذا يصنعون، فيُقبِلون على الملاهي أو يقلّدون الكفار فينتحرون، ولو دقّقوا لعلموا أنهم إنما ينقصهم الإيمان. وخمسمئة ألف من سكّان دمشق نسوا همومهم وناموا كالقتلى. (والمقالة في كتابي «صور وخواطر»). * * *

وكنت أنظر فأرى أمام غرفتي بقايا جدار فيه محراب المسجد الذي كان في المشيرية، أقامه الأتراك أيام حكمهم وبقي على عهد الفرنسيين لمّا كانوا متسلطين على الشام، فلما هُدمت الدور هُدم معها. وكان في المحكمة الشرعية لمّا كانت في سوق الخياطين مسجد إمامه الرسمي الشيخ صادق أبو قورة، وإمام مسجد المشيرية الشيخ يحيى المكتبي الذي يدعوه الناس الشيخ يحيى زمّيتا، وكلاهما من تلاميذ الشيخ بدر الدين شيخ العلماء والمحدّث الأكبر. وكان الشيخ يحيى أقرب الناس إليه، وكان وكيله في أعماله ورسوله إلى الرؤساء والوزراء في حاجات الناس التي يرفعونها للشيخ. وطالما أنقذ الشيخ يحيى بإمامته في المشيرية (التي صارت لمندوب المفوّض السامي الفرنسي) طالما أنقذ ناساً من الثوار وغيرهم ممن كان يُمسك بهم الفرنسيون وكان مصيرهم الموت، أنقذهم الله به باسم الشيخ بدر الدين وبحسن حيلته ولطف مدخله إلى أولئك الحاكمين. أمّا الشيخ صادق فكان أيضاً ممن يلازم الشيخ بدر الدين. رجل يغلب عليه صفاء القلب، يقول أحياناً كلاماً مغطّى عجيباً لايكاد يُفهَم. ومن العجائب ما أخبرني به أخي أنور العطار، رحمه الله ورحم الشيخ صادقاً وكل من ذكرته، أن للشيخ صادق أخوين أحدهما اسمه الشيخ عمر المسالخي والثاني اسمه الشيخ علي المستوي. وكان إلى جنب المشيرية مسجد (هو مسجد عيسى باشا)

وأمامها مسجد. أمّا الذي إلى جنبها فقد أُقيمت في مكانه عمارة كبيرة جعلوا للمسجد طبقة منها، وفي الطبقة التي تحتها مصرف (بنك) وفي الطبقة التي فوقها مصرف (بنك)، خطبت فيه مرة خطبة الجمعة فقلت للناس: إني أقوم على هذا المنبر أقول إن الله حرّم الربا، فيقول لي مَن هو تحتي: كذّاب، ويقول الذين هم فوقي: كذّاب! وجعلُ المساجد طبقة في عمارة كبيرة بدعة لم أعرفها في غير الشام وبيروت، وهي حرام لأن أرض المسجد وسماءه له فلا يجوز أن يُملَك ما تحته ولا ما فوقه. وأمّا المسجد الذي كان أمامها فقد أقاموا في موضعه العمارة التي فيها دوائر الأوقاف. ذكرنا ما ذهب من المساجد، وآخرها مسجد «دكّ الباب» في دمشق. وما أكثر ما ذهب من المساجد والمدارس القديمة، حتى إن من يمشي في الأزقّة والحارات حول الجامع الأموي في دمشق يري بيوتاً مملوكة على أبوابها نقش على الحجر بأنها مدارس أو مساجد فيها اسم بانيها وما وقف عليها من الأوقاف. ولكنْ ظلمٌ أن نذكر السيئة ونَدَع الحسنة. صحيح أننا سرقنا أو هدمنا مدارس كثيرة ومساجد في أرض المسلمين الواسعة، ولكننا أنشأنا مساجد أكثر منها: كلما أُقيمَ حيّ جديد في بلد رأيت المساجد تقوم معه، هذه أحياء جدة الحديثة مثلاً: المسجد فيها إلى جنب المسجد، وكلها (والحمد لله والدعاء بالخير لبانيها) كلها شامخة البنيان راسخة الأركان عامرة بالعبادة والإيمان. وفي

الأحياء الجديدة من دمشق مثل ذلك، وكنت أتمنى بدلاً من المساجد الصغيرة الكثيرة أن يقوم في كل حيّ مسجد جامع يؤمّه الناس يوم الجمعة. * * * لمّا هدموا ما حول القصر وهُدم معه المسجد وبقي محرابه مواجهاً لنافذة غرفتي ذهبتُ أدعو الجمعيات الإسلامية، وسعيت عند وزارة العدل واستعنت بالمخلصين من العلماء المُصلِحين لإعادة المسجد أو إقامته في طرف من القصر لمّا كانوا يبنونه. فما أفلحنا لأن الاسم كان للوزير السوري والفعل للمستشار الفرنسي. ولقد أخذ صديقنا شاكر السباعي (وهو الذي كان كبير المساعدين القضائيين في وزارة العدل رحمه الله) صورة المحراب، يحسب أن الصورة تُعيد الأصل! فلما يئستُ من إعادة المسجد أخذت غرفة كبيرة من القسم الذي اخترته للمحكمة فجعلتها مسجداً، وأقرّت ذلك الوزارة ووعدَت بفرش هذه الغرفة، وجاء الشيخ يحيى (الذي كان إمام المسجد) بسجّادة عَجَمية كبيرة غالية من داره كانت في تلك الأيام تُباع بثمن كبير فوضعها في هذه الغرفة، ومات رحمه الله وهي فيها، فكلّمت ولديه (أحدهما كان يعمل هنا مستشاراً في وزارة الإعلام) ليطالب بثمنها لأنه لم يَقُل إنه تبرّع بها، فما كانا أقلّ من أبيهما كرماً واحتساباً فأبيا أن يطالبا بشيء، فجزى الله الشيخ يحيى وجزاهما خيراً. * * *

وكانت وزارة العدل في الطبقة التي هي فوق المحكمة، وكنت أبقى في المحكمة وحدي بعدما ينصرف الموظفون والمراجعون فأتغدى فيها، يأتيني الطعام كل يوم من مطعم قريب اسمه «مطعم الأمراء» (في أول سوق الحميدية). وأنا أعرف صاحبه وأباه من قبله وأعرف جدّه من قبلهما، وكانوا كلهم من السِّمان، من الوزن الثقيل أو الذي هو فوق الثقيل. والسمان عادة يكونون خِفاف الروح ويكونون من أظرف الناس، كأن الذي زاد في شحمهم ولحمهم خفّف من دمهم! هذا هو الغالب عليهم، فإن وجدتم فيهم من ثَقُل دمه كما ثقُل جسمه فتلك هي المصيبة الكبرى. ولَحَملُ صخرة تصعد بها إلى الجبل أهون من مجالسة سمين ثقيل الدم! ولعلّ سبب سمن أصحاب المطعم أنهم يرون أمامهم طعاماً طيباً، هو لهم يدعون بما شاؤوا منه فيكون أمامهم، وأن عملهم يقتضيهم الجلوس النهار كله لا يقومون ولا يتحركون. وإذا كثر الطعام وقلّت الحركة عوقب المرء بحمل عشرة أكيال (كيلوغرامات) أو خمسة عشر من الدهن والشحم يقوم بها وينام بها. وهذا ما يقع لأكثرنا، ولقد عمدت من بضع سنين إلى حِمية قاسية بلا مرض وجوع طويل بلا موجب، وإلى الاختصار من الطعام على ما حدّده الطبيب بعدما حَسَبه بالحرّات (أي الكالوري) وحدّد لي حداً لا أتعدّاه، فكنت أشرع بالأكل وأنا جائع وأقوم عن الأكل وأنا جائع، وصبرت على ذلك شهوراً فقلّ وزني أربعة وسبعين.

لا، ليست أربعة وسبعين كيلاً (كيلوغراماً) بل أربعة وسبعين غراماً. لقد شغلني ذكر الطعام عن إتمام الكلام. كنت أبقى في المحكمة وينظّف الفرّاشون غرف الوزارة فوقنا، وأحياناً يُلقون بالكُناسة من الشبّاك، فربما دخل بعضها أو دخل غبارها إلى غرفتي، فأزجرهم وأكلّم رؤساءهم. وكنت يوماً في غرفتي ساعة العصر، وكان في غرفة المحاكمة مجلس تحكيم يعقده الحكَمان وبيننا باب مفتوح، أسمعهم وهم يسألون الزوجين ومَن شاءا من الأقرباء والشهداء، لأن للحكمَين سلطاناً ليس للقاضي، فهما مُطلَقان غير مقيَّدَين بقانون المرافعات وحكمهما نابع من قناعتهما وتابع لها لا لقانون مكتوب. وكان الحكمان هما الصديقان رفيقا الصبا والشباب الشيخ ياسين عرفة والشيخ كامل القصّار، فسمعت ضجّة، وإذا بفرّاش الوزارة يُلقي بالكُناسة من النافذة فيدخل بعضها عليهم. وجاؤوني ببعض ما أُلقيَ فيها من أوراق ممزَّقة، فنظرتُ فلمحت في قصاصة منها اسمي، فأخذتها ودخلت غرفتي بما وجدت منها وعكفت عليه أجمع هذه القطع الممزَّقة وأحاول أن أعيدها، وأضعت في ذلك أكثر من ساعة حتى كادت تكتمل الصفحة وقرأت ما أمكن قراءته منها، فإذا هي كتاب رسميّ لإبلاغي أنه "بموجب المرسوم الجمهوريّ رقم 1450 وتاريخ 27/ 4/1953 قد نُقلت مستشاراً في محكمة النقض". * * *

لمّا خيّروني حيّروني وأزعجوني، فلما تركت الأمر لله وجاء النقل بلا طلب مني ولا علم سابق به قبلت ما جاء من عند الله ورضيت به. ورأيت أنه قد انقضت أيامي في المحكمة. وكل ما في الدنيا إلى انقضاء، الدنيا محطةٌ نحطّ فيها ثم نتحمل راحلين عنها. وأخذت أجمع أوراقي وأستعدّ للرحيل، فوجدت أوراقاً كل واحدة منها لها قصة، منها ما أذكر الآن قصته كاملة ومنها ما مُحي بعضها من ذهني وبقي بعضها (كأنقاض المنازل التي أراها من غرفتي وأتكلم الآن عنها) ومنها ما نسيت قصته ومُحي من ذهني ولم يبقَ إلاّ الورقة التي وجدتها. هذه ورقة فيها كتاب رسمي من وزارة العدل رقم 3393 تاريخه 5/ 5/1365 (6/ 4/1946) يقرّر فيها الوزير تأليف لجنة من السادة القضاة راسم الأخرس وصبحي الصباغ وعلي الطنطاوي "لبحث مشروع القانون المعروض على مجلس الوزراء لتأليف مجالس الأوقاف الإسلامية وتحديد سلطاتها" وفي ذيل الكتاب ملحَق بأن "الاجتماع غداً الساعة التاسعة بالوزارة". فماذا كان في هذا الاجتماع؟ وماذا صنعت به؟ وما الذي عملَته اللجنة؟ وهل اقتصرَت على هذا الاجتماع فكان جلسة واحدة، أم توالت الجلسات وتعاقبت الاجتماعات؟ صدّقوني إن قلت لكم إنه ليس في ذهني عن ذلك شيء. وهذا كتاب آخر من وزير العدل تاريخه 17/ 1/1949 فيه القرار الوزاري رقم 674 ونصّه: "وزير العدل: بناء على المرسوم

التشريعي رقم 80 المؤرَّخ في 30 حزيران (أي يونيو) سنة 1947 يقرّر ما يلي: المادة الأولى: يُنتدَب السيد علي الطنطاوي القاضي بدمشق قاضياً بوادي العجم علاوة على وظيفته، ويخصّص مواعيد لدمشق ومواعيد لوادي العجم حسب الدعاوى في كل منهما. المادة الثانية: يُذاع هذا القرار ويبلَّغ من يجب". وتحت ذلك كما هي العادة: نسخة إلى دائرة التفتيش، المكتب الإداري، المحاسبة، النيابة العامة في دمشق، المحكمة الشرعية، الجريدة الرسمية ليُنشر فيها، وزارة المالية. خصّصتُ لوادي العَجَم (وقصبتُه بلدة قَطَنا) يوماً في الأسبوع، فكنت آخذ معي أهلي فأمضي فيها يوماً أرى فيه الدعاوى في المحكمة، ثم نقصد أحد المتنزَّهات على سفح جبل الشيخ الذي يبقى السنة كلها معتمراً بعمامته البيضاء من الثلج التي تعلو عن البحر نحواً من ثلاثة آلاف متر، نقعد عند نبع من الينابيع (التي لا يُحصيها هنالك العدّ، حتى إن في قرية عرنة وحدها عشرات منها) فنبقى فيها إلى المساء. ووجدت بين المتقاضين ناساً من قرية زاكية التي كنت معلّماً فيها سنة 1931 (أو نحوها، فما عدت أذكر الآن)، ووجدت الذين كانوا أطفالاً عندي في المدرسة صاروا رجالاً، وكان منهم طفل صغير أذكر أن اسمه سعد لم يكن يتجاوز عمره لمّا كان في المدرسة ثماني سنين، وكنت أُعجَب بحدّة ذكائه، فوجدته شاباً كبيراً معقوف الشاربَين تبدو عليه ملامح الفتوّة والقوة، فحاول أن يكلّمني كما كان يصنع في المدرسة فتجاهلته وتظاهرت بأني لا أعرفه، ولم أقابل لهفته في الإقبال عليّ إلاّ

بتكلّف الإعراض عنه، لا كِبْراً فما في طبعي بحمد الله الكِبْر ولكن أداء لأمانة القضاء، فإن القاضي (في الأرياف خاصة) إن عقد صلة بينه وبين بعض أهلها، ولو كانت صلة نظيفة مشروعة، استُغلّت أبشع استغلال وأُكلت بها حقوق الناس، لذلك كان على القاضي فيها أن يعتزل الناس عزلة كاملة فلا يزور أحداً ولا يقبل زيارته في بيته. وكان في قَطَنا شيخ جليل القدر هو رفيق شيخنا الشيخ أبيالخير الميداني، اسمه إبراهيم الغلاييني، وكان عالِماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر صدّاعاً بالحقّ، له سطوة علىالمنحرفين من أهل البلد وهيبة في صدور الناس، فكنت أزوره أحياناً. واستمر هذا الانتداب إلى أن نصبت الحكومة قاضياً أصلياً للمنطقة. ومما أذكر من أخبار محكمة قطنا أنه كان فيها كاتب نبيه قويم السيرة، وكان يدرس في كلية الحقوق، فجاء الامتحان فلم يسمحوا له بأدائه لأنه استوفى حظّه من الإجازات، فقدّرت وضعه وأملت منه خيراً إن نال الشهادة في الحقوق، فأذنت له بالذهاب لأداء الامتحان وحملت تبعة ذلك، وكلّفت كاتباً آخر بأداء عمله وأعطيتُه من مالي تعويضاً رضي به. ولقد أكمل هذا الكاتب دراسته وصار بعد ذلك قاضياً من خيرة القضاة. وأنا لست من الذين يخرجون على القوانين ويخالفونها، ولكن القانون -مهما بلغ من الدقة والإحكام- من وضع البشر وقد يتعارض أحياناً مع العدل، وأنا أرى في مثل هذه الحالة

اتّباع طريق العدل ولو خالف صراحة القانون. أذكر ما كان مني ولاأدعو إلى مثله ولا أجعل ما صنعتُه قاعدة متبَعة. ووجدت رئيس كتّاب هذه المحكمة رجلاً ذكياً جداً من أسرة وجيهة جداً، لكنه ليس أميناً. وأمسكتُ عليه سرقات أخفاها حتى لا يكاد المفتّش يصل إليها، فلما تيقّنت من انحرافه لاحقته، وما زلت أتابعه حتى أخرجته من المحكمة. * * * ووجدت بين الأوراق ورقة فيها كتاب رسمي من رئيس المحكمة العليا الذي كان رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو الأستاذ وجيه الأسطواني، تاريخه 19/ 1/1951. وهذا نصّه: "بما أن مجلس القضاء الأعلى مزمع على وضع مشروع قانون التوظيف القضائي في سوريا عملاً بالمادة 125 من الدستور، فنرجو موافاتنا بأسرع ما يمكن بما ترون من قواعد يحسن الأخذ بها فيما يتعلّق بشؤون تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم وعزلهم وتأديبهم وما إلى ذلك، على ألاّ يتأخر الجواب إلى ما بعد الخامس عشر من شهر شباط القادم 1951. وكذلك ترون أنه كان لكبار القضاة رأي مسموع، لا يُفرض عليهم ما لا يرضون من أحكام ولا يقدَّم إليهم ما لم يطبخوه أو يختاروه من الطعام. أُعطوا الحرية وكُلّفوا العدل فعدلوا. ولا يعدل القاضي إلاّ إذا كان حراً وكان «مُزاح العلّة» -كما كان يقول المتقدّمون- مستريحاً من هموم العيش. وحين كان أمير المؤمنين عمر يأكل الخبز بالزيت ويقنع بما قلّ من الرزق كان يجزل عطاء

القضاة، ومن نظر في «تاريخ قضاة مصر» للكندي رأي تفصيل ما أجملت. * * * هذا وأنا أعتذر إلى القراء من هذه الحلقة، فلقد ملأت شطرها الثاني بصور رسائل رسمية وأرقام وتواريخ أعلم أنها لا تنال منهم اهتماماً ولا تُثير في نفوسهم عاطفة، ولا تبعث في رؤوسهم ذكرى وما لهم فيها متعة ولا منفعة. لكن عذري (وما أحسبه عذراً مقبولاً) أني أكتب ذكرياتي وأني أرى فيها ما لا ترون، وأن كل واحدة منها (وعندي من أمثال ما نشرت هنا الكثير) تبعث في نفسي عالَماً من الذكريات وقصة كاملة من قصص الحياة. تقولون: وما لنا نحن ولها؟ نعم؛ ما لكم ولها؟ ولعلّي أسأت في عرضها، ثم إني أردت أن تكون الصورة التي أعرضها للقضاء والقضاة كاملة، فإذا جاءت حلقة من هذه الذكريات على غير ما ترضون فلعلّها تجرّ حلقة أخرى ترضون عنها. * * *

في محكمة النقض في القاهرة

-216 - في محكمة النقض في القاهرة لقيَني قبل العيد جماعة من المعلمين من الذين يدرّس الواحد منهم أربعة وعشرين درساً في الأسبوع، يحضّر لها بالمراجعة والإعداد ويصحّح وظائف التلاميذ، ولَنقْلُ الحجارة أسهل من تصحيح الوظائف! ويضبط الفصل ويُديره، وضبط الفصل وإدارته أصعب من إدارة وزارة كاملة، لأن الوزير يكلّم ناساً كباراً يعقلون ويقدّرون النتائج ويفكّرون قبل أن يعملوا، والمعلّم يخاطب صغاراً لا يقدّرون العواقب، أيديهم إلى العمل أسرع من رؤوسهم إلى التفكير، بل لعلّهم لا يكادون يفكّرون! ومَن عند الوزير مسؤولون عن أنفسهم، ومَن في المدرسة من التلاميذ وراءهم أولياؤهم، إن أحسنتَ رعايتهم وصَدَقتَ في تعليمهم وتهذيبهم لم يشكروك لأنك إنما تؤدّي واجباً وجب عليك، وإن قصّرت في العمل أو شدّدت في العقوبة ذهب الأولاد إلى أبيهم مساءً يبكون، قالوا: ياأبانا المعلم ضربنا! وربما كان الأب عالي المكان أو كان من ذوي السلطان، فنال المعلم الأذى. أعرف هذا لأني بلوته حيناً من الدهر، بل ابتُليت به ومسّني من أجله الضرّ. هذا وربما كان في المعلمين مقصّر بلا عذر، قاسٍ

بلا مبرّر، يضرب الأولاد ضرب منتقم لا ضرب مربٍّ معلم، لذلك مُنع الضرب في المدارس وتُرك لراعي الإبل في البرّ لا للمعلم في المدرسة. رأيت هؤلاء الإخوان المعلمين مبتهجين بالعيد فرحين بالعطلة، فقلت لهم: هنيئاً لكم عيدكم، ويا ليتني أجد عطلة أفرح بها! قالوا: أوَليس عندك عطلة ولا راحة؟ قلت: إني من سنوات طوال، من يوم انتقلت في الشام إلى محكمة النقض (محكمة التمييز) لا أشكو إلاّ شيئاً واحداً، هو دوام العطلة وطول الراحة؛ فقد ألِفت عملي في المحكمة وعرفته حتى ما أحسّ ولله الحمد تعباً في دراسة قضية ولا في إعداد حكم، ثم إن العمل قليل أو إني أُنجِزه بسرعة فأجده قليلاً، ويبقى وقتي فارغاً. ثم جئت المملكة أُدرّس في الكلية في الرياض أولاً ثم في مكة، ولا أحتاج في إعداد الدرس (والحمد لله) إلاّ إلى مراجعة قصيرة وموادّ المنهج حاضرة في ذهني، فيبقى وقتي فارغاً. قالوا: فلماذا لا تملؤه بالقراءة؟ قلت: ومن يقرأ أكثر مني؟ أنا من سبعين سنة إلى الآن، من يوم كنت صبياً، أقرأ كل يوم مئة صفحة على الأقل، وأقرأ أحياناً ثلاثمئة أو أكثر، ما لي عمل إلاّ القراءة، لا أقطعها إلاّ أن أكون مريضاً أو على سفر. فاحسبوا كم صفحة قرأت في عمري. لقد قرأت أكثر من نصف مليون صفحة. وأعرف مَن قرأ أكثر مني كالأستاذ العقاد والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب رحمهم الله. فأنا لا أتكلم على القراءة ولا أشكو الضيق والفراغ، ولكن

أحببت أن أقول لكم إن المرء لا يحسّ بالراحة إلاّ إن جاءت بعد التعب: «أُعِدّتِ الراحةُ الكبرى لِمَن تعِبا». ولا يشعر بلذّة العطلة إلاّ بعد مشقّة العمل، فعطلة يوم للموظف المرهق تعدل في لذّتها عطلة شهر لمثلي. وإذا شئتم مثالاً فتصوّروا مَن يمشي في الصحراء المنبسطة فلا يرى من حوله حيثما تلفّت إلاّ منظراً واحداً، ليس أمامه ما يأمل أن يصل إليه وليس وراءه ما يأسف عليه. ومَن يصعد في الجبال ويهبط الأودية، فهو يُسرِع أملاً بالمشهد الذي ينكشف له إن بلغ الذروة فينسى تعبَه بهذا الأمل الذي يأمُله، فإذا وصل إليه ووقف والتقط أنفاسه واستراح وتمتّع بهذا العالَم الجديد الذي أطلّ عليه وجد جزاء تعبه. وأنا أظنّ أن في السامعين من يشكّ في هذا الكلام ويقول: كيف تكون الراحة متعبة؟ ولو جرّب مثل تجرِبتي لصدّق مقالتي. كالفقير الذي يعيش على الخبز والفول، إذا وضعتَه مرة على المائدة الحافلة في الفندق الكبير يجد فيها من اللذّة ما لا يجده من يُقيم دائماً في هذا الفندق ويأكل دائماً على هذه المائدة. ومن يمشي كل يوم على رجليه، إذا أركبتَه يوماً السيارة الجديدة الفخمة يشعر في ركوبها من المتعة بما لا يشعر به صاحبها الذي يركبها كل يوم. فالعمل نعمة، إي والله، ومن أكبر النعم. وأنا أعلم أن العمال المرهَقين الذين يضربون بالمعاول من الصباح إلى المساء والموظفين المتعَبين والمعلمين الذين يدرّسون

أربع ساعات أو خمساً كل يوم سيسخرون من هذا الكلام، لأنهم ينظرون إلى الغنيّ الذي يعيش من ريع أملاكه لا يكلَّف عملاً فيحسبون أنه في نعيم ويتمنون لأنفسهم مثل حياته. ولو علموا ما في البطالة والفراغ لحمدوا الله على نعمة العمل. هذا ملك بريطانيا الأسبق، الملك إدوارد دوق وندسور، الذي باع تاج المُلك بما توهّمه من نعيم الحب وترك العرش من أجل أرملة نَصَف، أي أنها على الحدود عند آخر الشباب («روائحُ الجنّةِ في الشبابِ» كما قال أبو العتاهية) وأول مراحل العجز، ولم يسمع قول الشاعر: فإنْ أتَوكَ وقالوا إنها نَصَفٌ ... فإنّ أحسنَ نِصفَيها الذي ذهبا إنها كالروض يجفّ وينشف ويذهب عطره ويتساقط زهره، فلا يبقى منه إلاّ حطب به شوك. إن دوق وندسور هذا كان يملك المال والجاه والحب، وهو يتنقل في البلدان ينزل في أعظم الفنادق ويأكل أطيب الطعام ويركب أفخم السيارات، فهل تظنون أنه كان مستريحاً. لقد قرأت طرفاً من مذكّراته التي نشرها في حياته، فرأيته يشكو من ملل البطالة أضعاف ما يشكو العامل من مشقّة العمل. إنه يسهر الليل ويقوم في الضحوة الكبرى، فيُفطر حين يعود الفلاّح إلى بيته للغداء، يأكل لا شهوةً بل أداءً للواجب على حين يأكل الفلاح أكل المستمتع الهانئ الجوعان، وينتهي الطعام فلا يدري الدوق ماذا يعمل، إنه لا يرقب شيئاً ولا يذكر شيئاً لأن حياته كالنهر الهادئ. أرأيتم النيل حين يمشي -على عِظَمه وكبره- كالشيخ العاجز

الذي يخطو بطيئاً وعينه في الأرض، أو دجلة أو الفرات حين يمشيان كما يمشي النيل؟ هل تقيسونها ببردى وهو يجري -على صغره وضيقه وقلّة مائه- في الوادي متوثّباً يعلوه الزبَد، تتدافع مياهه تدافُع صبية يزدحمون على باب الملعب، تتكسر أمواجه في شعاع الشمس فيكون لها بريق أيّ بريق؟ لو عاش دوق وندسور مع الفلاّح يشاركه حياته، ورأى القرية كلها تُفيق مع العصفور الذي يقفز على الأغصان والديك الذي يصيح على السياج، ومع الشمس التي تبسم للدنيا وهي تُلقي عليها تحية الصباح، لَعرف لذّة العيش ونأى عنه الضيق والملل. فيا أيها القراء، إن العمل نعمة، ولا يدفع عن الإنسان همَّ الوَحدة ولا ينسيه أحزان الدهر ولا يجعله يعرف قيمة العطلة أو العيد إلاّ العمل. وهذا كلام مجرّب عرف ثقل البطالة وملل الكسل، فاسألوا مجرّباً فلا يُنبئك مثل خبير. وأنا هنا -من أربع وعشرين سنة- تشابهت أيامي وتماثلت ليالي، فلا أستطيع أن أحدّد تاريخ حادثة مما حدث لي. ما عندي عمل رسمي، وإن كان عليّ ما هو أثقل من العمل الرسمي، هذه الذكريات مثلاً لا يعلم أحدٌ ماذا أقاسي منها، لأني مثل مسافر سلك طريقاً في البرّ ما فيه معالم ولا له حدود، فلما وصل إلى بلده واستقرّ فيها، ومرّ عليه الزمان فنسي طريقه إليها، قيل له: ارجع فحدّد معالم الطريق الذي مشيت فيه. وكيف؟ وما للطريق أثر ولا مع الرجل مصوَّر، وليس له رفيق يذكّره بما نسي. هذه الذكريات، وأحاديث الرائي!

تقولون: ما الصعوبة في هذه الأحاديث وأنت تُلقيها ارتجالاً، وقد جعلتَها أجوبة على أسئلة السامعين والمشاهدين لتهرب من اختيار الموضوع؟ الصعوبة ياسادة أني أقرأ الأسئلة فأجد أكثرها قصصاً شخصية لا تهمّ إلاّ مرسلها، وأجد بعضها مكرَّراً مُعاداً سبق القول فيه، فأتخيّر من كل مئة سؤال ستّة أو سبعة، وبعضها أُعِدّ الجواب عليه إعداداً ثم أُلقيه ارتجالاً، أراجع من أجله الكتب. فهي تعب لي، وأحسّها تعباً للسامعين الذين لبثوا عشرين سنة ودخلَت عليهم السنة الحادية والعشرون وهم يستمعون إليها، فأحبَّ الصديقُ القديم الأستاذ حيدر مشيخ أن يريح منها سكان المنطقة الغربية، أهل الحرمين، ويخلّصهم من سماعها فأخرجها لهم وهم في المساجد في صلاة الجمعة، يقول الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، فيبدأ الحديث. وليس في المساجد جهاز للرائي، وإذا خرجوا منها وصلوا إلى المنازل بعدما انتهى الحديث أو ذهب أكثره. * * * تركتكم في الحلقة الماضية وقد انتقلتُ إلى محكمة النقض في دمشق. والعُرف المتّبَع (لا القانون المكتوب) على أن المستشارين فيها لا يقيَّدون بالدوام، فهم يأخذون المرتَّب على عمل يؤدّونه لا على وقت يُمضونه، على حين أن سائر الموظفين (¬1) يأخذونها على الاثنين معاً. فمَن جاء من المستشارين ¬

_ (¬1) السائر: الباقي.

المحكمة درس قضاياه ومَن حملها إلى بيته يدرسها فيه، وإن كان الحقّ أن القضايا لا يجوز أن تخرج أوراقها من المحكمة أبداً. قلت إني أدرس القضايا، قد تعوّدت عليها فلم تعُد تهولني بضخامة حجمها ولا بكثرة ورقها، لأني تعلمت لمّا طال عليّ العمل في المحكمة كيف أدرسها ومن أين أبدأ فيها، وما يجب أن أقرأه من أوراقها وما لا حاجة لقراءته منها. وكنت أنظر بمنظارين: منظار العدل أولاً، والقانون ثانياً. فإن كان حكم القاضي الذي رُفع إلى محكمتنا لننظر فيه عادلاً وقانونياً صدّقته، أي أبرمته، وإن كان قانونياً غيرَ عادل حاولت أن أجد فيه ثغرة أدخل منها إلى نقضه، ولو كانت ضيّقة. وإن كان عادلاً مخالفاً لحرفية القانون وكان فيه ثغرات سددته، حفاظاً على العدل لا ممالأة للقاضي. وكنت أُعِدّ مشروع القرار ثم أعرضه على الأخوين، لأن كل غرفة في محكمة النقض تتألف من ثلاثة مستشارين، فإن وافقا أمضياه وإلاّ اجتمعنا للمذاكرة فيه. وإذا نقضنا الحكم وأصرّ القاضي عليه عُرض على الجمعية العمومية لمحكمة النقض، فإن أيّدَت ما ذهبنا إليه في الغرفة الشرعية التزم القاضي بما تقرره، وكانت له قوة وإن لم تبلغ قوة القانون. وكنت في كثير من الحالات التي نختلف فيها على مسالة فقهية أقول للرئيس: اسمح لي أن أسأل المفتي (وكان المفتي هو شيخنا أبا اليسر عابدين رحمه الله)، فكان الرئيس يتردد أولاً، ثم رضي وصار من الأمور المعتادة أن نسأل المفتي.

وفي الشام أربعة مفتين للمذاهب الأربعة، أكبرهم المفتي الحنفي الذي يُدعى مفتي الجمهورية، وقد عرفت أربعة: أولهم الشيخ أبو الخير عابدين والد الشيخ أبي اليسر، وكان والدي أمين الفتوى عنده، وهو الذي نشر «رسائل ابن عابدين» المشهورة التي أُعيدَ طبعها الآن ووُجدت في الأسواق بعد أن كانت نادرة يكاد يتعذّر وجودها، وكل رسالة منها تصلح أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة. والثاني الشيخ عطا الكَسْم، والد رئيس الوزراء في سوريا الآن، ولمّا توُفّي أبي وذهب تلاميذه (الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت والشيخ عبد الرزاق الحفّار ومن كان معهما) يقرؤون عليه (على الشيخ عطا الكسم) ذهبت معهم، وأنا في السنّ والعلم بمنزلة أولادهم. وكان فقيهاً على ما كانت تدلّ عليه كلمة الفقيه في تلك الأيام، وهو الذي يعرف أحكام المذهب المُفتى بها، ومن غير بحث في أدلّتها، أو نظر في قوة هذه الأدلة فهو القاضي أو المحامي الذي يحفظ نصوص القانون، وإن لم يعلم مستمدّها ولا معتمدها. والثالث الشيخ محمد شكري الأسطواني، وهو مثلهما لا يقلّ عنها. والرابع شيخنا الشيخ أبو اليسر، وهو صورة كاملة للفقيه في عُرف الناس في تلك الأيام، أظنّ أنه قرأ حاشية ابن عابدين وأقرأها عشرات المرات، عشرات حقيقة لا مبالغة. وكان حين أسأله بالهاتف أمام المستشارين أثناء انعقاد الجلسة يجيب فوراً، أو يستمهل قليلاً ثم يأتينا بالجواب ومكانِه من الحاشية ومن غيرها من كتب الفقه. ولم أعرف فيمن عرفت من فقهاء المذهب

الحنفي مَن هو مثله إحاطة بما في الحاشية، والحاشية هي مرجع المُفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، ولم أعرف مثله إلاّ قليلاً في علمه بالأصول وإحاطته بقواعده وتطبيقها على النصوص القانونية، وكان المحامون وبعض القضاة يرجعون إليه في ذلك. وعرفت جماعة من المفتين العلماء في المذاهب الثلاثة، منهم مفتي الحنابلة الشيخ جميل الشطي رحمه الله ورحمهم. ثم انقرضَت هذه الطبقة من العلماء وخلف من بعدهم خلف ليسوا مثلهم، ولا أقول أكثر من هذا عنهم. * * * لم أكن أدَع على مكتبي قضية تبيت إلى الغد، بل كنت أنظر فيها وأكتب قرارها يوم وصولها، إلاّ في حالات نادرة تحتاج فيها القضية إلى الرجوع إلى كتاب لم يكن موجوداً في المحكمة أو سماع رأي خبير لا بدّ من انتظار الاجتماع به. وربما جاءت قضية في وسط النهار وقد تعبتُ وهممت بالانصراف فنظرت إليها فوجدتها معقّدة صعبة، فأدعها وأعود إليها من صبيحة الغد فإذا هي منبسطة هيّنة، وإذا ما توهّمته فيها من الصعوبة والتعقيد سببه ما كنت أحسّ به من التعب. وقعت لي وأنا في محكمة النقض وقائع ليست من صلب عملي فيها ولكنها جاءت معها، ربما عُدت إليها فتكلمت عنها: منها أني حضرت حلقة الدراسات الاجتماعية التي تنظّمها جامعة الدول العربية، وكنت أحد ممثلي سوريا فيها. ومنها رحلتي مع

الأستاذ عبد القادر الأسود والزميل الأستاذ نورس الجندي إلى المملكة العربية السعودية بدعوة منها، وأمثال لهما سيأتي إن شاء الله ذكرها. وكانت الوحدة بين سوريا ومصر، وتَقرّر دمج محكمتَي النقض في البلدين في محكمة واحدة مكانها القاهرة، فجاءنا هذا الكتاب (أنشره هنا بحروفه): محكمة النقض في القاهرة، مكتب الرئيس الرقم 8/ 1/1306 والتاريخ 30/ 3/1959، السيد المستشار محمد علي الطنطاوي: ندعو سيادتكم لحضور جلسة الجمعية العمومية للمحكمة التي ستُعقد في القاهرة الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الثلاثاء 6 من شوال 1378 الموافق 14 من أبريل سنة 1959 (6 من نيسان سنة خمسة آلاف وسبعمئة وتسعة عشر) وذلك للنظر في ترتيب العمل في المحكمة، وتفضّلوا بقبول وافر الاحترام. الإمضاء: رئيس المحكمة. * * * وذهبنا إلى مصر. وأعدّوا لنا حفلة شاي في نادي القضاة، ولم يكن في منهج الحفلة ولا في ذهني أني سأُدعى إلى الكلام، ففاجأ الحضورَ زميلُنا الأستاذ نورس الجندي فأعلن أن الطنطاوي سيُلقي كلمة، وفوجئت حقيقة وألقيت كلمة كانت بحمد الله جيدة، وصرت بعدها محطّ الأنظار، وسارع القضاة إلى الجلوس والحديث معي. ولست أذكر مما قلته فيها إلاّ هذه الكلمات، قلت لهم:

نحن في بلدنا لا نجمع بين الطعام والكلام، فإما حفلة للأكل نُعِدّ لها طعاماً شهياً وبطناً خالياً، وإما حفلة للكلام نهيّئ لها فكراً واعياً وبياناً صافياً. ثم إني قاضٍ وأديب، هذا عملي وتلك صناعتي، لذلك أتردّد بين وقار المهنة الذي من شأنه أن أزن كل كلمة بالميزان المعلَّق في صدر المحكمة (الذي قالوا إنه ميزان العدالة) وأن أعدّ من الواحد إلى اثنَي عشر قبل أن أنطق بها، وبين الأديب الذي من شأنه البيان والإعلان، وأن يكشف عما في نفسه ويُطلِع الناس على ما في قلبه، ويُبيحهم أعمق أسراره ويقول ما يُقال عادة وما لا يُقال. فهل أستطيع أن أجمع بين الأمرين؟ وهل ترون من العدل، وأنتم حماة العدل، أن أقوم أنا فأتكلم وتقعدوا أنتم فتأكلوا، فلا ينتهي الكلام حتى نفقد الطعام؟ أنا شاميّ المولد مصري الأصل، مولدي في دمشق وجدّي من طنطا، فأنا دليل من آلاف الأدلة على قضية لا تحتاج إلى دليل، هي أن الشام ومصر بلد واحد. ولي في الشام أهل ولي في مصر أقرباء، ولكني لا أعرف أقربائي في مصر. ولقد بحثت عنهم مرة، لا لأزداد لمصر حباً ومن مصر قرباً، فحبي لمصر وقربي منها قد كَمُلا فلا يحتملان الزيادة، بل كنت آمل أن ألقى فيهم قريباً غنياً لا يكون له وارث، فأوفّر على الدولة عناء البحث عن وارثه وأفوز بثرائه. ثم خفت أن يكون أقربائي هنا أفلسَ مني فيرثوني هم، فأكون «كالعير الذي ذهب يطلب قرنين فرجع بلا أذنين» كما جاء في المثل. ونشأت ياسادة على التشوّق إلى مصر والرغبة في زيارتها، فلما تحقّق الحلم جئت مصر بعد أن أمضيت على الطريق يومين

واستأذنت في المجيء حكومتين غاصبتين؛ خرجتُ من دمشق بإذن من باريس ودخلت مصر بإذن من لندن! وما لأهل باريس ولا لأهل لندن حقّ في الشام ولا في مصر حتى أستأذنهما في الخروج وفي الدخول. وكان ذلك سنة 1928، وكنت أحمل شهادة البكالوريا، فقدّمت طلباً إلى الجامعة المصرية فلما أبطأ الجواب دخلت دار العلوم، ولم أكملها. وكنت أتوقع من الطلاّب أن يرحبوا بي ترحيب الأخ للأخ، ولكني وجدتهم ينفرون مني نَفرة الأُلاّف من الغريب، ثم يضحكون من لهجتي ويسخرون من كلامي، ووجدت أكثرهم لا يعرفون عن الشام إلاّ أنها التي يأتي منها «قمَر الدين» في رمضان والصابون النابلسي، لذلك كان الصبيان في الحارات يضحكون مني إذا سمعوا كلامي، يقولون القولة المعروفة (وأعتذر إليكم من إيرادها): «شامي ... حامي». ولم يكن الأدباء والعلماء بأعرف بالشام وأهله من العامة والطلاّب؛ فلقد جاءتني مرة رسالة من الأستاذ أحمد أمين لا تزال عندي بين أوراقي، عليها أي على ظرفها تحت العنوان: دمشق، فلسطين! وكانوا يخلطون بين دمشق وبغداد وبيروت ويقولون: "كلهم إخواننا العرب". وقد خبّرني صديقنا وزير العدل الآن (أي يوم ألقيت الكلمة) الأستاذ نهاد القاسم أن ضابطاً مصرياً كبيراً زاره وخبّره أنه نُقل إلى الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، فسأله: هل نُقلت إلى دمشق؟ قال: لا، بل إلى الإقليم الشمالي. فسأله: إلى حلب؟ قال: لا، إلى الإقليم الشمالي.

وتبين أنه لم يفهم من الإقليم الشمالي إلاّ ما كان شمالي القاهرة! وإن سمح لي سعادة الرئيس الحاضر هنا (مع أسمى تقديري وأصدق احترامي) أن أقول لقلت إن سيادته أيضاً ... وقطعت الكلام وقعدت، فصفّقوا وصاحوا من أرجاء القاعة: أتمِمْ أتمِمْ، فقمت وقلت: إذا أتممت ربما غضب مني سيادة الرئيس. قال: لا، أكمل. فقلت: إن سيادة الرئيس أيضاً لا يعرفنا، بدليل أن بطاقة الدعوة إلى هذا الاجتماع مكتوب فيها "أبريل سنة 1959 المقابل لنيسان سنة 5719"، وهذه هي السنة العبرية. فهل حسب سيادته أننا يهود؟ ثم قلت: وأنا أعود فأقرّر أني أقول هذا مع الاعتذار الشديد لسيادته والاحترام العميق. وهذا الذي قلته عن إخواننا في مصر كان ينطبق عليهم لمّا كانوا معتكفين في ديارهم لا يكادون يخرجون منها، وإن نُقل موظف فيها من الوجه البحري إلى الوجه القبلي أقام الدنيا وأقعدها وحسب أنه نُفي إلى آخرها. أمّا الآن فقد تبدّلَت الحال، وانتشر المدرّسون المصريون والأطباء المصريون في جميع البلاد العربية وعُرفوها وعاشوا فيها، وكان لهم في كل ميدان من ميادينها أعظم الأثر. فعذراً مما قلت لأنني سردت تاريخاً. * * * كنا نجتمع في دار القضاء العالي، وأذكر أنها كانت في شارع فؤاد، ولست أدري بماذا يدعونه الآن لأنهم في مصر مولَعون بتبديل الأسماء؛ فقد كان لبّ البلد ميدان العتبة الخضراء ثم سُمّي ميدان الملكة فريدة، ولست أدري ما يُسمّى الآن، وميدان قصر

النيل ثم سُمّي ميدان التحرير، وميدان باب اللوق دُعي مرة ميدان الزهور ومرة ميدان الفلكي ... هذا والشعب في مصر لا يحفل بهذا كله ويبقى على الاسم الذي عرفه وألفه. ذهبت في إحدى سفراتي أزور الأستاذ الزيات، وكان قد انتقل إلى المنيل إلى شارع سمّاه لي شارع مسجد السلطان قايتباي. فأخذت سيارة وذهبت إلى المنيل أسأل عن هذا الشارع فلم يعرفه أحد ممن سألته عنه، وطُفت في المكان خمسة أشواط وأنا لا أعرف أين يقع هذا الشارع، حتى كانت مصادفة من أعجب المصادفات أرويها لكم على حقيقتها وأحسبكم ستشكّون فيها؛ هي أنني وقفت على باب محلّ تجاري أسأل صاحبه عن الشارع، فاهتمّ بي ولكن ما عرفه، فرفعت رأسي وإذا لوحة باسم الشارع على الجدار فوق هذا المحلّ! فلما نبّهته إليها عجب كثيراً وضحك طويلاً وأقسم أنه لم يرَ اللوحة إلاّ الآن. وجاءني مرة وأنا في الشام أحد إخواننا هنا، سعودي فاضل من أصدقائنا، يسألني عن شارع سمّاه لي فما عرفته، فأخذت سيارة وانطلقت بها وهو معي ليدلّني عليه لأنه قال إنه يعرف أول الطريق إليه، وإذا هو حيّ الشعلان. وهذا الحيّ كان جديداً أنشأه الشيخ النوري الشعلان شيخ مشايخ «الرولة» (وهم فرع كبير من عنزة) وكان يحكم القريات لمّا كانت الجزيرة إمارات وحكومات كثيرة ضعيفة قبل أن يوحّدها الملك عبد العزيز رحمة الله عليه، فنزل الشام واشترى هذا البستان وأقام فيه مسجداً وإلى جانب المسجد قصراً كبيراً، ثم تتابع البنيان وصار حياً كاملاً. * * *

اجتمعنا في هذه الرحلة بنخبة كريمة من كبار قضاة مصر، استفدت من مجالستهم وتعلّمت منهم ما لم أكن أعلم من اجتهادات المحاكم الأجنبية ومن المباحث القانونية، وإن لم أجد عند مَن لقيت منهم اطّلاعاً واسعاً على الفقه الإسلامي. جدّدتُ في هذه السفرة العهد بمن عرفته من رجال مصر، عند خالي محب الدين الخطيب في المطبعة السلفية، وقد عرفت فيها جماعة كالعالِم الجليل أحمد تيمور باشا والشيخ العلامة الخضر الحسين والشاعر أحمد زكي أبو شادي، ومن كانوا يومئذ شباباً مثلي فصاروا من بعدُ من أعلام الأدب وأرباب الكلام، كالأساتذة محمود شاكر وعبد السلام هارون وعبد المنعم خلاّف والدكتور الدردير. وعند الأستاذ الزيات في الرسالة، كالأساتذة العقاد والرافعي والمازني وزكي مبارك، ومن قابلت عند الأستاذ أحمد أمين في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومن عرفته في مجلس الشيخ عبدالمجيد سليم ممن لست أحصيهم عداً. وكانت تلك الزيارة آخرَ عهدي بمصر، ما زرتها بعدها ولا أعرف ماذا طرأ عليها وماذا تغيّر فيها. وإن لي في العراق معارف وفي فلسطين وفي الأردن وفي باكستان والهند وأندونيسيا، وحول المراكز الإسلامية في ألمانيا وهولندا وبلجيكا، فهل يكتب الله لي أن أجدّد العهد بمعارفي في تلك البلاد؟ * * *

أشتات من الذكريات

-217 - أشتات من الذكريات رجعت من مكة في الإجازة في صيف 1966 ووصلت عمّان، فإذا أنا أجد عدداً من جريدة «الحياة» فيه نبأ رفع الحصانة عن القضاة في سوريا أربعاً وعشرين ساعة، وصدور القرار بتسريح عدد منهم من الذين لا يوائمون العهد ولا يمشون معه ولا يسايرونه في تقدميته واشتراكيته. وكان الاسم الأول في هذه القائمة اسم عبد القادر الأسوَد رئيس محكمة النقض، والثاني اسم علي الطنطاوي. وقد مرّ قراء الجريدة بهذا الخبر مروراً عابراً، لم يدروا أنه خاتمة قصة طويلة لا يعرفها إلاّ أنا، قصة ربع قرن، فيها من الأحداث والوقائع ومن النوادر والطرائف ومن الدروس والعبر ما يملأ كتاباً كاملاً. قصة بدأَت بإعلان قديم رأيته على عمود الكهرباء (¬1) في ساحة المرجة في دمشق سنة 1941، وانتهت بهذا الإعلان الذي وجدته في جريدة «الحياة» سنة 1966. قصة طويلة فيها مراحل تَحوّل فيها طريقي مرات، وما حوّلَته ¬

_ (¬1) راجع الحلقة 113 من هذه الذكريات (مجاهد).

إلاّ هِناتٌ هَيّنات كأنها حُصَيّات ألقتها في طريقي المصادفات: كُناسة أُلقيَت من نافذة الوزارة فدخلت عليّ من نافذة المحكمة، وصداقة مع الوزير نشأت من محاضرة ألقيتها في جمعية التمدن في دمشق! ومن قبلُ صحبتُ ابن خالتي الشيخ طه الخطيب فزرت معه المدرسة الأمينية، فعلقت رجلي بالفخّ واشتغلتُ بالتعليم من تلك السنة (1345هـ) إلى الآن. وزرت الأستاذ معروف الأرناؤوط مع أخي أنور العطار رحمه الله في جريدته «فتى العرب» سنة 1930، فاشتغلت بالصحافة زمناً من عمري. وضللت مرة طريقي وتوجهت إلى غير غايتي وحاولت أن أعمل بغير ما أظن أني خُلقت له، فاشتغلت بالتجارة وما أنا من أهلها ولا أصلح لها، فردّتني إلى الطريق مقابلة عارضة للأستاذ محمد علي الطيبي رحمه الله، تلميذ أبي وخليفته في عمله بالمحكمة. كلها أحداث صغيرة ربما سُمّيت مصادفات، وما في الكون مصادفات؛ إن هي إلاّ أمور مقدَّرات محسوبات. ألا تعرفون قصة البدوي التي حدّثت يوماً بها من إذاعة دمشق من أكثر من ربع قرن؟ لقد فصّلتها يومئذ وأوجزها اليوم. بدوي كان يعيش في صحراء (¬1)، ما عرف المدن ولا زارها ولا أظلّته سقوفها، يقيم حيث طاب له المقام وحيث يجد الكلأ والماء، ينصب خيمته فتكون هي دنياه يستغني بها عن الدنيا، ويُطلِق أنعامه فتكون له الغذاء والسقاء. أخذوه مرة إلى المدينة ¬

_ (¬1) انظر مقالة «أعرابي في بلودان» في الكتاب الجديد، «نور وهداية»، الذي أوشك أن يصدر بإذن الله (مجاهد).

فأنزلوه دارة حديثة (أي فيلا) فيها الماء حاراً وبارداً وفيها الكهرباء وفيها مكيفات الهواء، وفيها كل ما يحتاج إليه الناس. فتهيّبَ دخولها أولاً ونصب خيمته في حديقتها. وذهب يستقي الماء حيث يجد الماء، ثم دفعه الفضول مرة فدخل خائفاً يترقّب أن يصيبه شيء فيناله بأذى، وأظلم عليه الليل وهو فيها فذهب يتلمس طريقه إلى الباب ليخرج منها، فوقعت يده على زر الكهرباء فأضاء المكان، ولمس صنبور الماء (الحنفيّة) فسال منها الماء، فعجب من هذه «المصادفات». سماها مصادفات لأنه لم يعلم أن الذي بنى الدارة مدّ فيها أنابيب الماء وأسلاك الكهرباء وأقامها على هندسة وعلى تقدير! ثم بلغ به الأمر أن ذهب إلى صاحبها الذي استأجروها له منه فقال له: أنا لن أدفع إليك شيئاً من المال. قال: ولماذا لا تدفع لي؟ فقال له: لقد صرت إلهاً، أستطيع أن أُسيل الماء من الحديد وأن ألمس الجدار فأحوّل الليل إلى نهار، وأن أسخّر الكون كله بما عرفته من العلم! أليس هذا هو مثل الملحدين الكفار؟ لمّا أطلق البشرُ أولَ قمر صناعي حسب ناسٌ منهم أنهم شاركوا الله في ملكه، تعالى الله وأستغفره من هذا المقال، ولم يدروا أنهم كأمّة من النمل أخذت إحداها قشّة صغيرة فحملتها ثم أفلتَتها في مجرى الريح، فحملتها الرياح مسافة أمتار، فحسبت أنها سيّرت كوكباً كالكواكب التي سيّرها الله في الفضاء. وما النملة ولا قومها هم الذين أوجدوا الريح وأثاروها، وما طارت القشة بقوة النمل ولكن بقدرة خالق النمل.

إن لكل عصر وَثَنيّات، ووثنية هذا العصر المبالغةُ في تقدير العلم. إنهم يقولون كما قال الأولون: إنما أوتيته على علم عندي. وما العلم؟ أليس العلم معرفة قوانين الله في الوجود؟ وما الذي عرفناه من هذه القوانين؟ وما الذي بلغه علم العلماء؟ كشفوا قانون الجاذبية، ولكن هل عرفوا ما هي الجاذبية؟ ودرسوا الكهرباء وآثارها وجعلوا منها علماً يُدرس في المدارس والجامعات، ولكن هل عرفوا ما هي الكهرباء؟ وعندهم علم يُدعى علم النفس يدرس أطوارها وأحوالها، ولكن هل علم أحدٌ ما هي النفس؟ إنهم لا يعلمون إلاّ ظاهراً من الحياة الدنيا. يقولون: "إن العلم قهر الطبيعة". وما أكذب هذه الكلمة؛ إنها وقاحة وافتراء وقلّة حياء، إن علومنا كلها كشف للأقل الأقل من أسرار الطبيعة التي طبعها الله عليها، فكيف نقهرها بهذه العلوم؟ {أَلَمْ تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّهِ أنْ آتاهُ اللهُ المُلكَ، إذْ قالَ إبراهيمُ: رَبّيَ الذي يُحيِي ويُميتُ، قالَ: أنا أُحيِي وأُميتُ}. وما أحيا ولا أمات بعلمه ولا بإرادته، ولكن بقانون الله الذي وضع الأسباب للموت والحياة. فلما طلب منه ما يخالف قانون الله وقال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق فَأْتِ بها من المغرب، بُهت الذي كفر. ولمّا نُقل أول قلب من إنسان إلى آخر ظنّوا أنهم ذهبوا يخلقون كخلق الله، تشابه الخلق عليهم، وحسبوا أن الجراحة لمّا تقدّمت وارتقت تستطيع أن تضاهي خلق الله. وماذا يصنع الجرّاح إلاّ أنه يشقّ الجلد ويخيط الجرح، ثم يقعد ينتظر لا يصنع شيئاً؟

ما وصل هو الجلد وأعاده إلى مكانه ولكنه وصله الله. وما ينبت الزارعُ الزرعَ ولكن يُنبِته الله. إن كل ما نصنع هو أن نستعين بالطبيعة التي طبعها الله. وإني لأعجب من بعض الدعاة حين يقولون إن من مزايا القرآن أنه سبق العلم. إنهم كمَن يأتي إلى رجل بنى بيته على هيئة الكعبة فيقول له: إن الكعبة قد سبقت بيتك وجاءت على هذا الشكل من قبله! إن مثل القرآن والعلم كمثل سائق سيارة يمشي بها في السهل الواسع، يرى القمر أمامه مُطِلاًّ عليه من فوق الجبل فيسرع ليدرك القمر، والقمر في مكانه. إن القرآن لا تبلى جِدّته ولا ينفد مَعينه، فكلما ازددنا علماً وجدنا تفسيراً للقرآن جديداً لم يعرفه الأولون، لأن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأكوان ويعلم ما يجد فيها وما يؤول إليه حالها. وأحمق الناس الذين يزعمون من أعداء الإسلام أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما تعلم من الرهبان، من بَحيرا. وما بحيرا وما مبلغه من العلم؟ وهل عرف بحيرا أو عرف أحدٌ على ظهر الأرض يوم نزل القرآن مراحلَ تكوّن الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث؟ فمَن أنبأ بهذا محمداً؟ إن أرسطو الذي كانوا يلقّبونه بالمعلم الأول لا يعرف من تكوّن الجنين في الرحم إلاّ أشياء رُويَت عنه يضحك منها الآن الطالب في المدرسة المتوسطة، فكيف عرف محمد ‘ ما لم يكن يعرفه أحد على ظهر الأرض ولم يعرفه الناس إلاّ بعده بأكثر من ألف سنة، وقد كان في بلد بعيد عن مراكز الحضارة في قرية ما فيها مدرسة أولية ولا كان فيها ممن يقرأ أو يكتب إلاّ أحد عشر رجلاً وامرأة

واحدة، وكان هو نفسه أمياً لا يقرأ الكتاب ولا يخطّ القلم. فمن علّمه هذا إن لم يكن بوحي نزل عليه من السماء؟ * * * هذا النبأ الذي قرأته في جريدة «الحياة» أثار في نفسي مئات من الذكريات؛ لقد أدار فيها شريطاً طويلاً فيه من الأحداث والأخبار ما عرفتم بعضَه فيما سبق من هذه الذكريات، وما بقي بعضه في زوايا الذاكرة ينتظر ما يخرجه منها، وبعضٌ سقط من شقوقها وضاع. رأيت في هذا الشريط كيف عُيّنت في النبك، وأول حُكم حكمته في دعوى الإرث المزمنة، وخلافي مع حاكم الصلح، وكيف خرجت من هذا الخلاف منتصراً بعون الله لأنني كنت مع الحقّ ثم استلمت أنا المحكمة منه. وكان فيها رئيس للديوان اسمه عبد الوهاب حيدر أبوه مفتي المنطقة، وكان له أخ شابّ كان طالباً في تلك الأيام، وكان يزورنا فنرحّب به وربما سألني فأجبته. هذا الشابّ هو الوزير الذي أمضى قرار تسريحي. وما ألومه، لأنه كان يكتب ما يُملى عليه ويسير من حيث يسيره غيره. رأيت في هذا الشريط مجالسنا في النَّبْك، وكيف جمعتُ الموظفين على قراءة كتاب نافع بدلاً مما كانوا فيه من إضاعة الوقت في اللهو والكلام الفارغ. ثم كان انتقالي إلى دوما وما مرّ عليّ فيها حين بنيت جداراً فصل المحكمة عن غرف القصر وجعلها مستقلّة، وكيف منعت الوسطاء، حتى إنه جاءني مرّة شيخ بعمامة

بيضاء من عين منين كانت تلحقه حيثما مشى قالة السوء، وكان معروفاً بأنه يشفع الشفاعات السيئة التي يكون له كِفْل منها، وكان له ولد هو صديق لنا يتبوأ منصباً عالياً في الدولة، جاء مرة مع ناس من أهل بلده لهم دعاوى في المحكمة. سمعت صوته من وراء الباب فخفت أن يسلّم عليّ ويوهمهم أنه يكلّمني في قضاياهم، فتردّدت بين واجب المجاملة وواجب الصدع بالحقّ، فآثرت رضا الله على رضاه، وخرجت إليهم وقلت لهم: هذا الشيخ لا صلة له بي ولا بالمحكمة، ولا أقبل منه تدخلاً في قضية ليس مدّعياً ولا مدّعىً عليه فيها، فإذا كان قد أوهمكم غير ذلك فلا تصدّقوه، وإذا كان قد أخذ منكم شيئاً على هذه الوساطة فاستردّوه. ودخلت وأغلقت الباب، وكان لذلك أثر عميق تحدّث به الناس حيناً. ثم ما كان من انتدابي لمحكمة دمشق، وسوء حالها، وسفر القاضي الممتاز للحجّ وانتدابي للعمل مكانه. ولا بأس أن أثبت هنا نصّ قرار الانتداب إلى المحكمة الشرعية في دمشق: بناء على سفر القاضي الممتاز السيد عزيز الخاني لقضاء فريضة الحجّ تُوزَّع الأعمال المنوطة به على الوجه الآتي: يقوم السيد عادل علواني برئاسة المجلس المشترك. ويقوم السيد صبحي الصباغ برئاسة المجلس العلمي ومجلس الأيتام. ويقوم السيد علي الطنطاوي بالمعاملات الإدارية، على ألاّ يذهب إلى دوما أثناء غياب القاضي الممتاز بل يقوم بأعمال المحكمة الشرعية بدوما حاكم الصلح السيد مصطفى المغربي. دمشق في 18/ 10/1945. وزير العدلية. * * *

وكنت أعرف عيوب المعاملات الإدارية وما يصنع فيها رئيس الديوان وأعوانه (ممن يمكن أن يُسمَّوا بهذا الاسم المستحدَث، وهو «مراكز القوى»، أي أنهم عصابة مسلَّطة على الناس تأخذ منهم الرشوات، فمن امتنع عن أدائها أبطؤوا في إيجاز معاملته وأرهقوه بالتأجيل وأزعجوه وآذوه حتى يُذعِن فيؤدّي ما طلبوه). كنت أعرف هذا وكتبت في أمره إلى القاضي الممتاز رحمة الله عليه فلم يأتِ كتابي بثمرة، فلما تسلّمت الأعمال الإدارية أصلحت فيها إصلاحاً جزئياً، لم أستطع -لقِصَر الوقت ولأنني منتدَب غير أصيل- أن أقطع أسباب الداء وأن أعمل على الشفاء. فلما آل الأمر إليّ فيما بعد بدّلت وضع المحكمة كله، وسعيت حتى تخلصت من جميع من كان فيها من الموظفين إلاّ قليلاً منهم من الصالحين المصلحين. هذا الذي أودعتُه صفحتين من صفحات هذا الكتاب استغرقَت أحداثه خمساً وعشرين سنة. ثُمّ انقضَتْ تلكَ السُّنونُ وأهلُها ... فكأنّها وكأنّهمْ أحلامُ ذهب ذلك كله كما يذهب العمر ولم يبقَ منه إلاّ رسوم وأطلال: ذكريات في النفس يتربص بها النسيان، وأوراق قليلة في الدّرْج ينتظرها الضياع. لقد وجدتُ من هذه الأوراق الكثير، كل واحدة منها تحدّث حديثها، ولا يفهم حديثَها إلاّ صاحبها. ولها وجه آخر لو أبصرتموه لأبصرتم فيه مآسي وأفراحاً ومسرّات وأحزاناً، ولكن مَن يستطيع أن يعرفها وأن يصفها؟ إن لكل عقد زواج عقدتُه قصة

فيها الرغبة والأمل قبله والتشوّق والانتظار، وترقّب ليلة الزفاف والشوق إليها والخوف منها، وشهر العسل، وشهور بعده ما فيها عسل ولا حلاوة كحلاوة العسل، وانتظار الحمل ومتاعب الحمل، ومشقّات الولادة، والسعادة بالولد والتعب بالولد ... وقصة كل طلاق والمأساة التي جرّت إليه والتي نتجت عنه. كل واحدة من هذه القصص لو أن كاتباً صاغها صياغة أدبية لكان منها رائعة من الروائع. والأم المطلَّقة التي يحين موعد انتزاع الولد منها وتسليمه إلى أبيه، لانتهاء مدة الحضانة التي هي من شأن النساء وابتداء عهد التربية التي يتولاها الرجال. كل دعوى لها قصة، وما قصةٌ منها تشبه الأخرى ولو كان الموضوع واحداً. لو كتبت هذه القصص أو بعضها. وكيف؟ وأنى؟ لجاء منها كتاب هو قصة الحياة الإنسانية كلها. وإذا كان القاضي المدني يحكم في الأموال لا يجاوزها والقاضي الجنائي يقيم الحدود ويدرأ بها الجنايات، فإن القاضي الشرعي، أو قاضي الأحوال الشخصية، هو قاضي الحياة الإنسانية كلها بما فيها من بياض وسواد وحلاوة ومرارة وسعادة وشقاء. هذا كله في الدنيا، فما لي عند الله؟ أنا ما تعمّدت الحيف ولا حِفْت يوماً وأنا أعلم، ولكن كيف بما لم أعلم. كانوا يأخذون عليّ أني لا أدع المتقاضين يتكلمون كما يريدون. وما كنت أمنع أحداً أن يُدلي بحُجّته، بل كنت أمنع الكلام الذي لا جدوى منه ولا نفع فيه.

كانت المرأة مثلاً تدّعي أن زوجها طلّقها، فأسأله ولا أريد منه إلاّ أن يقول «نعم» فيكون قد أقرّ وانتهت الدعوى أو أن يقول «لا» فأكلّف المرأة الإثبات، وإذا به يقصّ عليّ قصة طويلة لا تنفع في الدعوى ولا تؤثّر في الحكم وما يكون منها إلاّ إضاعة الوقت على المتقاضين. هذا الذي أمنعه من الكلام. على أنني أسأل الله أن يتجاوز لي عما أخطأت فيه، وأن يُرضي عني بكرمه مَن ظلمتُه بغير قصد مني ويعوّض عليه الحقّ الذي ضاع منه بخطئي. * * * أعوج على أوراقي فأستنطقها، كما كان الشعراء يعوجون على الديار ويستنطقون الآثار. أقلّبها الآن فأجد صورة مرسوم رقم 950، وهذا نصّه: إن رئيس الجمهورية بناء على أحكام الدستور وعلى أحكام قانون السلطة القضائية رقم 133 تاريخ 8/ 10/1953 وعلى المرسوم التشريعي رقم 15 المؤرَّخ في 4/ 10/1953 المتضمن تحديد تعويض الموظفين، وعلى اقتراح وزير العدل يرسم ما يلي: المادة (1) يحدد تأليف لجنة الإشراف على مجلة القانون التي تُصدِرها وزارة العدل من السادة الآتي ذكر أسمائهم، ويحدّد التعويض الشهري لكل منهم وفقاً للمبلغ المعين إزاء اسمه: عارف الحمزاوي الأمين العام لوزارة العدل رئيساً، التعويض 150 ليرة. علي الطنطاوي المستشار في محكمة التمييز، 150 ليرة. ظافر الموصلّي القاضي البدائي

في دمشق، 150 ليرة. سليم صنيج قاضي الصلح بدمشق، 150 ليرة. محمد الذهبي رئيس الديوان بوزارة العدل أميناً للسرّ، 100 ليرة. أحمد الفياض المساعد في وزارة العدل مساعداً، 75 ليرة. المادة (2) يُعتبر هذا التعيين بالنسبة لكل من السادة سليم صنيح ومحمد الذهبي وأحمد الفياض من تاريخ قيامهم بالعمل الواقع في 1/ 1/ 1956، ويُعتبر بالنسبة للآخرين من تاريخ 1/ 6/1956، على ألاّ يتجاوز مفعول هذا المرسوم تاريخ نفاذ قانون موازنة عام 1956. المادة (3) تُصرف التعويضات المذكورة من الاعتمادات المرصدة باسم مجلة القانون في موازنة وزارة العدل. المادة رقم (4) يُنشر هذا المرسوم ويُبلّغ لمن يجب لتنفيذ أحكامه. دمشق في 23/ 2/ 1956، رئيس الجمهورية شكري القوتلي، رئيس مجلس الوزراء سعيد غزي، وزير العدل منير العجلاني. * * * أثبتُّ هذا المرسوم بنصّه ليعرف القراء «الصيغة» التي كانت تصدر بها المراسيم. ومن خبر هذا المرسوم أنها لمّا أُنشئت كلية الشريعة في جامعة دمشق دُعيتُ لأدرّس فيها، وكُلّفت بمادة دعوها «فقه السيرة»، استحدثوها كما استحدثوا مادة «الثقافة الإسلامية»

و «نظام الإسلام». وكنت أول من درّس فقه السيرة (كما كنت أول من درّس الثقافة الإسلامية)، ولم يكن لها منهج، فوضعت لها منهجاً وسيّرت الطلاب فيه معي، وكان منهم مدرّسون في المدارس الثانوية ومنهم مَن هو في منزلتهم ومن أمثالهم. وبدأنا في تحقيق مصادر السيرة وتمييز الصحيح من أخبارها من الضعيف والموضوع، وكلّفتهم المشاركة في ذلك، فأعدّوا مباحث كان منها الطيب الناضج ومنها ما هو دون ذلك، وكان ما أعدّه أحدهم تصنيف رواة الطبري. ونحن نرى اليوم أساتذة يُشار إليهم ويُعتمد عليهم يوثّق أحدُهم ما يورده من أخبار بأنه في تاريخ الطبري الجزء كذا والصفحة كذا. وليس هذا بالعزو العلمي بل ربما دلّ على جهل هذا الأستاذ، لأن الطبري صرّح بأنه يجمع في كتابه الصحيح الثابت وغير الصحيح وغير الثابت، ويُسقِط عن نفسه التبعة بذكر الراوي. وعلى من ينظر في كتابه أن يعرف درجات الرواة ومنازلهم من الضبط والعدالة، فإن منهم مَن لا يُعتمَد عليه ولا يُوثَق به (كأبي مخنف مثلاً ومحمد بن السائب الكَلْبي وأمثالهما). ولو أن هذه الرسالة التي كتبها الطالب في رواة الطبري طُبعت لنفعت الناس. كان فقه السيرة علماً جديداً مستحدَثاً لم يكن فيه كتب فتعبتُ في إعداد المحاضرات التي ألقيها على الطلاب، ثم ألّف فيه بعد سنوات طوال أساتذة أفاضل كالشيخ محمد الغزالي، الداعية المعروف، والدكتور سعيد رمضان البوطي، وهو عالِم ابن عالِم، أبوه الشيخ المعمَّر الصالح مُلاّ رمضان. كما ألّف فيه غيرهما.

ومن مزايا تاريخ الطبري أن سيرة ابن إسحاق التي شاع أنها مفقودة، هذه السيرة موجودة في تاريخ الطبري روايةً عن محمدبن سلمة عن ابن إسحاق، وابنُ هشام في مختصره يرويها عن الطبري. وقد تنبّهت إلى هذا وكتبت أنبّه عليه من نحو خمسين سنة، وانتدبت أخي ناجي القاضي، ثم بنتي بيان المحاضرة في الجامعة في جدة، ثم ابن بنتي مجاهد المهندس، إلى استخراج هذه السيرة من تاريخ الطبري ومقابلة أخبارها على كتب التاريخ وطبعها وحدها. وأظن أن بعضهم يعمل في ذلك الآن. * * * وما طالت أيامي في كلية الشريعة، لأنهم قرّروا اتّباع سنّة السوء المتّبَعة في الجامعة وهي جمع الطلاب والطالبات معاً في قاعة الدرس، فأبَيت ذلك، واجتمع مجلس الكلية وكان فيه شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار والأصدقاء المصطفيان الزرقا والسباعي والأستاذ المبارك والدكتور معروف الدواليبي، رحم الله مَن مات منهم وأطال حياة الباقين، فكانوا جميعاً عليّ يقولون: إن البنات محجَّبات، وليس الاجتماع خطوة ممنوعة ولا دليلَ على منعه. وأنا أراه باباً إن فتحناه دخل منه الحرام. وذكّرت أخي الأستاذ الزرقا بأنه كان معنا -لمّا كنا ندرُس معاً في كلية الحقوق في أوائل الثلاثينيات- فتاة تأتي بالملاءة مغطّى وجهُها فلا تكشفه إلاّ في الفصل، ثم إنها (وأستغفر الله من هذا الكلام) لا يمكن أن تُغري أحداً بالحرام! فانظر اليوم إلامَ انتهى الأمر؟ وجادلتهم فلم يُفِدني جدالهم، فقلت لهم: إني أُعيد الدرس

للطالبات مجّاناً، ولأن أكون معهن وحدي أهون من أن يكنّ مع الطلاب مجتمعين، ولا آخذ على الإعادة أجراً. فأبوا وأبيت وعُدت إلى محاضراتي، فما راعني إلاّ طالبة صفيقة الوجه، أي سميكة الجلد، تدخل عليّ الفصل، فقلت لها: اخرجي. فلم تردّ ومشت كأنها لا تسمعني، وكان نظرها إلى الأرض فهي لا تراني. فقلت لها: لو كنتِ رجلاً لأمسكت بأذنيك ورميتك وراء الباب، ولكنك أنثى ولا أمدّ يدي إلى امرأة، فإن لم تريدي أن تخرجي فسأخرج أنا. وخرجتُ ولم أعُد إلى التدريس في الكلية، فلم يمرّ إلاّ قليل حتى جاءني هذا المرسوم بلا طلب ولا استشراف نفس إليه ولا علم به، فعوّض الله عليّ من الرزق ما خسرته بتلك الكلية. ومَن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه. وقد صدق ما ظننت فصارت كلية الشريعة اليوم -كما قالوا- كسائر الكلّيات في اختلاط البنين والبنات. بل لقد فعل إبليس فيها فعلته، حين وسوس إلى بعض الملحدين والمفسدين أن يُدخِلوا أبناءهم كلية الشريعة، لا ليدرسوا الشريعة ولا ليُحيطوا علماً بها، بل ليحملوا شهادتها ويتمتعوا بمزاياها فيصيروا هم مدرّسي الدين، فيغزونا من داخل حصوننا ويعيشوا معنا وهم عدوّ لنا. وهؤلاء شرّ من العدو الذي يقابلنا سافرَ الوجه ظاهراً للعيان بيده السيف والسنان. والبقية في الحلقات القادمة إن شاء الله. * * *

زياراتي القديمة لمكة

-218 - زياراتي القديمة لمكة سكنت أجياد إحدى وعشرين سنة، فكنت ربما أُطِلّ على الشارع في السحَر من داري في الطبقة الثامنة فأرى الذاهبين إلى الحرم لصلاة الفجر أوزاعاً متفرقين، فأميزهم من هيئاتهم ومشيتهم وأعرف ناساً منهم، فإذا قُضيَت الصلاة وخرجوا يملؤون الشارع لم أعُد أميّز واحداً من واحد لأنهم ازدحموا وتداخلوا واستتر بعضهم ببعض. هذا مثال ذكرياتي؛ كانت قليلة وكانت واضحة محفورة على صفحة قلبي كأنها النقر في الحجر، فلما كثرت وتداخلت لم أعُد أميّزها ولا أستطيع أن أحصرها. أريد أن أكتب عن المملكة، عن مكة، العاصمة الروحية لها ولبلاد المسلمين كلها. وأنا حين أهمّ بالكتابة عن بلد لا أصف طبيعة أرضه ولا أحدد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن أصف مدى شعوري به ومبلغ ما له في نفسي. وهل أستطيع أن أصوّر المشاعر والعواطف التي ينطوي عليها قلبي لمكة، أم القرى وقِبلة المسلمين ومبعث النور وأحبّ البلاد إليّ بعد بلدي، لا بل

قبل بلدي، فهي بلدي الأول وبلد كل مسلم؛ ما يسرّني أن يسلم بلدي بأذاها، بل إني أدفع عنها الأذى ببلدي وداري وأهلي، لأنها إن سلمت فكل شيء سالم وإن أصابها شيء لم يسلم لنا بعدها شيء، لأنها تكاد تكون لنا كل شيء. أرأيتم المغناطيس كيف يجذب قطع الحديد من حوله؟ كذلك تجذب مكةُ الناس. ولست أدري لماذا يذهب أهلها فيسيحون في البلدان والبلدانُ كلها تكون كلَّ سنة هنا، تدور حول هذا البيت من الغرب إلى الشرق كما تدور الأفلاك على قطبها، فكأن كل حاجّ كوكبٌ وهذا المطاف هو الفضاء الأرحب الذي تسبح فيه النجوم والكواكب. لقد قرأت مرة لناقد فرنسي تقريظاً لقصة لم يجد أبلغَ في الدلالة على عمق أثرها في نفس قارئها من أن يقول: "إني أتمني أن أنساها ثم أعود فأقرأها من جديد، فأستمتع بها كما استمتعت أول مرة". إذا كان هذا يُقال في قصة أدبية فماذا ترونني أقول في بيان شعوري لمّا رأيت الكعبة أول مرة؟ كنت أتوجّه إليها في صلاتي وأنا في بلدي، كما يتوجّه إليها كل مسلم وبينه وبينها صحارى وبحار وجبال وأنهار ومدن كبار وصغار، يتخيّلها على البعد يحنّ إليها ويتمنى رؤيتها. وما نعبد الكعبة ولا نعظّمها لِذاتها، ولا نقدّس جدرانها وبابها ولا كسوتها وأثوابها، ولكننا نحبها لأنها بيت ربنا الذي نتوجه إليه حين نقف بين يديه. وإن قلت «بيت ربي» فإنما أعني البيت الذي شرّفه بنسبته إليه، وتعالى الله عن أن يُحيط به بيت أو أن يحدّه زمان

أو مكان، وهو الذي كان قبل أن يُخلق الزمان والمكان. كنت كالعاشق الذي نأَت به الحياة عن صاحبته فهو دوماً في شوق إليها، إن لمح البرق من نحو أرضها ذكّره بها لَمَعانُ البرق، وإن لمح النجم الذي تراه هزّه إليها لَمْحُ النجم، يمدّ يديه ليعانقها ونفسُه مَشوقة إليها وبينه وبينها الآماد البِعاد، فإذا حمله رحله إليها جعل كلّما دنا منها خطوة أحسّ أنْ قد فُتح له باب ورُفع له من دونها حجاب، حتى إذا انزاحت الحُجُب واختُصرت المسافات وذاب البعد رآها عياناً ولمسها، وألقى بصره عليها، وعانقها قلبه قبل أن تعانقها يده وقبّلها فؤاده قبل أن يقبّلها فمه. ويا أسفا! لقد فقدت بإقامتي في مكة ذلك الشعور الذي هزّ قلبي يوماً هزّة ما أظنّ أني شعرت بمثلها. كحّلت عيني بمشهد الكعبة أول مرة سنة 1353هـ، في رحلتنا تلك التي حدّثتكم حديثها مفصّلاً. الرحلة التي كشفنا فيها طريق السيارات من دمشق إلى مكة، والتي صرمنا فيها ثمانية وخمسين يوماً على الطريق، نعتسف البوادي، نقتحم المجهول، نغوص في الرمل، نربط الحبال بأعناقنا ونجرّ سياراتنا لنُخرِجها من تلك الرمال. صلينا الشمس التي تُلهِب قحوفَ الرؤوس وتعصر الأجسام فتُسيل منها ماءها عرقاً، ثم لا نجد من الماء ما نشربه فنعوّض به ما سال من أجسادنا. لقد طالما ضللنا الطريق أياماً، بل ما كان أمامنا طريق نهتدي إليه أو نضلّ عنه، إنما خرجنا لنفتح هذا الطريق! قطعنا عند «خور حمار» قبل مدائن صالح بضعة أكيال فقط (كيلومترات) في نهار

كامل، عطشنا وجُعنا وتعبنا، وبلغ منا التعب أني كنت أضع تحت رأسي وسادة أو شيئاً أجده أجعله كالوسادة، وأغفو من حين يلامس رأسي الأرض. لقد بتنا ليلة والله والعقارب تدبّ من حولنا، ولقد خفت منها ولكني لم أجد قوّة أستعين بها على قتلها. ورأينا النمر يحوم من حولنا، نمر كما قال الدليل، لا تحسبوه ثعلباً ولا ذئباً، لكن لم أجد قوّة أهرب بها من النمر! واختلفنا في العودة، شأننا نحن العرب في كل أمر نعالجه مجتمعين فلا نخرج منه إلاّ متفرقين. فعدنا أنا والشيخ ياسين الرواف رحمة الله عليه في سيارة واحدة صاحبها السيد جمال الحفار، من دمشق رحمه الله وأخوه السيد علي، قطعنا البادية وحدنا في هذه السيارة على غير طريق. ما أكلت فيها من المدينة إلى دمشق إلاّ أُقّة (والأقة كيل وربع الكيل) من التمر شريتها من المدينة. ولكن كل ليل معه نهار، وكل شتاء بعده ربيع، وكل شوكة إلى جوارها وردة، ومع هذه الشدة وهذا الهول الذي وجدناه في الصحراء وجدنا في الصحراء حسنات تكاد تمحو تلك السيئات: نسيم الليل الرخيّ الناعش الذي يُحيي الأرواح، وأن تستلقي فترى من فوقك السماء الصافية مرصَّعة بالنجوم، وأن ترى الفجر حين يشقّ أديمَ الشرق شقاً ثم يتمدّد عليه ويغمره بالضياء. هل يعرف سكان المدن ما الفجر؟ ومَن منهم رأى الفجر؟ وهل يراه مَن حبس نفسه في صناديق من الإسمنت تُشعَل فيها المصابيح الليل والنهار، حتى لا يفرّق أحدنا بين الليل والنهار إلاّ بالنظر إلى الساعة أو سماع الرادّ (الراديو)؟ لقد حملنا تلك المشاقّ كلها، ولكن ربحنا منها مشاعر

وذكريات أستطيع أن أتحدث عنها اليوم وقد مرّ عليها ثلاث وخمسون سنة. فخبّروني: ما الذي يستبقيه المسافر في الطيارة حين يقطع هذه المسافة كلها في ساعتين؟ ما الذي يستبقيه من ذكريات سفره؟ وما الذي يحدّث به عنها بعد عشر سنين؟ لقد ربحنا بهذه الحضارة الوقت ولكن خسرنا العواطف والذكريات. بل أين مكة التي نُقشت صورتها على صفحة قلبي نقشاً لا يزول؟ كانت تعيش كلها ما بين المعابدة والبيبان، وكانت تتكدس بيوتها من حول الحرم، تأوي إليه كما يأوي الطفل الصغير إلى حِجر أمه لا تستطيع أن تبتعد عنه. إن مكة الآن أجمل وأكمل وأبدع وأوسع؛ أوسع بلا شك وأبدع، ولكن الإنسان يحبّ ما هو له. هل تبادل بولدك فتُعطيه وتأخذ أجمل طفل في الدنيا؟ فالماضي لي، صار ملكي، صار قطعة من ذكرياتي، لذلك أحتفظ بصورته في نفسي. * * * أما زيارتي مكة سنة 1353هـ فقد عرفتم في هذه الذكريات أطرافاً من حديثها كنت أودعتها كتابي «من نفحات الحرم». والزيارة التي تليها كانت في حِجّتي سنة 1373هـ التي صحبتُ فيها وفد المؤتمر الإسلامي في القدس. وهو المؤتمر الذي لم أحضر غيره، والذي جمع ممثّلين عن أقطار المسلمين كلها، والذي انتخب لجاناً ثلاثة (¬1) جعلوني رئيس إحداها، وهي «لجنة ¬

_ (¬1) لو تأخر المعدود عن لفظ العدد لوجبت المخالفة (أي تذكير لفظ العدد مع المعدود المؤنَّث، والعكس) فنقول: "ثلاث لجان". أما =

الدعاية»، ثم كلّفوني الرحلة التي تكلّمت من قبل عنها، فلا أُعيد الكلام فيها، فزُرت فيها باكستان والهند وسنغافورة والملايا وأندونيسيا. وكان الذي جرّني إليها وإلى هذه الحِجّة من بعدها، والذي كان هو سبب تشرّفي بالحياة هنا في المملكة، هو أخي وصديقي الشيخ محمد محمود الصوّاف، كما كان سبب كتابة هذه الذكريات ولولاه لَما كتبتها، هو وولدي وصديقي الأستاذ زهير الأيوبي. جئت في وفد المؤتمر مع الأستاذ سعيد رمضان والأستاذ كامل الشريف. وكامل أشهد أنه من أكمل الرجال، عرفته في المؤتمر شاباً صغير السنّ كبير العقل، رزيناً في أدب، بليغاً من غير فضول، لا يحسّ جليسه بثقله. ورُبّ جليس تجالسه تحسّ أنه يجثم على صدرك كأنه كتلة ضخمة متحجرة من الثلج في يوم بارد. كان الأستاذ سعيد يذهب هنا وهناك، فهو رجل خَرّاج وَلاّج، وأبقى أنا وكامل، يُصغي إذا تكلمت أنا ويُحسِن ويُفيد إذا تكلّم هو. كان يرفق بي فلا أجد منه إلاّ ما يسرّ. ثم صحبتُه كرّة أخرى إلى طهران لمّا انتخبونا لنسعى لإنقاذ صديقنا نواب صفوي (رحمه الله) من الموت الذي حكموا به عليه، ولذلك

_ = إذا تأخر المعدود عن لفظ العدد (كما هو هنا) فكلا الشكلين جائز: الموافقة والمخالفة؛ فيصح أن نقول "انتخب لجاناً ثلاثة" أو "انتخب لجاناً ثلاثاً". وقد أدرجت هذا التوضيح هنا لئلا يظن قارئٌ (بسبب ما يحفظه من دروس المدرسة) أن الشيخ أخطأ في جملته التي علقتُ عليها (مجاهد).

حديث آخر (¬1). نزلنا في فندق مصر، وكان هو الفندق الوحيد في مكة أو كان أكبر الفنادق وأفخرها (¬2). وليس عندي من آثار تلك الحِجّة إلاّ خلاصة المحاضرة التي ألقيتها في حفلة تعارف الحُجّاج في قاعة الفندق وحضر جانباً منها الملك سعود رحمه الله. ولم أُعِدّها ولم أحضّرها، وما من عادتي أن أُعِدّ المحاضرات، إنما أفكّر فيها وفي أعمالي كلها في اللحظة الأخيرة، حتى إنهم لو كلّفوني بمحاضرة أو مقالة يريدونها بعد شهر أو شهرين لَما فكّرت فيها ولَما أخطرتُها على بالي إلاّ حين يبقى دون الموعد يوم أو يومان، هنالك أجمع لها ذهني وأحتشد لها فيوفّقني الله بفضله فيها. ولا يضرّني ضيق الوقت إذا تركّز الذهن وكان كعدسة البلّور التي تجمع أشعة الشمس، فتحرق بها الورق لو اجتمع الشعاع في مكان ضيق المساحة قليل الطول والعرض. كان عنوان المحاضرة «طرق الدعوة إلى الله»، من قرأها حسب أني اشتغلت بإعدادها وقتاً طويلاً. بيّنت فيها أساليب الدعاة وطرق الدعوة: طريق الدعوة إلى الله بإصلاح الملك أو الحاكم، يجعله الداعي قصدَه ويبلغ في إصلاحه جهده، كما فعل السَّرْهَنْديّ في الهند حين رأى الإمبراطور أكبر يكفر ويحمل الناس على الكفر ويحاول أن يمحو الإسلام من تلك البلاد ومن نفوس أهلها، وكان ¬

_ (¬1) سبق في أواخر الحلقة 139 من هذه الذكريات (مجاهد). (¬2) قال في الحلقة 121: "وهو فندق الكعكي الآن" (مجاهد).

الجيش معه والزعماء يؤازرونه والحكم له والمال تحت يده، وكان الشعب عاجزاً ضعيفاً لا يستطيع أن يأمره بمعروف ولا أن ينهاه عن منكَر، فجعل الشيخ يتصل بأسرته وحاشيته لعلّه يستخلص منهم واحداً للإسلام، وما زال يعمل هو وأولاده وتلامذته حتى وُفّق إلى ما يشبه المعجزة، حين أخرج الله به وبتلاميذه من صلب ذلك الإمبراطور المرتدّ الكافر ملكاً كان من أفضل ملوك الإسلام، ومن أعدلهم وأتقاهم وأشدّهم حزماً وأكثرهم إصلاحاً، وكان بقية الخلفاء الراشدين (كما لقّبته في كتابي «رجال من التاريخ»)، هو عالم كير أورَنْك زيب بن شاه جيهان بن جيهان كير بن أكبر. وهذا الطريق قصير المدى، عاجل النفع، سريع الثمرة، ولكن ثمرته تبقى ما بقي هذا الحاكم الصالح، فإن زال زالت. وطريق الدعوة الشعبية التي يحميها الحاكم، فيؤيّدها بسلطانه ويردّ عنها الأذى بسيفه، كما فعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب في نجد حين حالف الإمام محمد بن سعود، ووجّها همّتهما للدعوة إلى الله باللسان وبالسنان حين لا ينفع اللسان، فنجحَت واستمرّت. وطريق الدعوة الشعبية التي تحميها الثورة المسلّحة، كما فعل أحمد بن عرفان في الهند حين جنّد أتباعه وحمل أمامه راية الجهاد، وواتاه النصر حتى أقام دولة إسلامية في شمالي الهند تحكم بالكتاب والسنّة وتوشك أن تُعيد الهند كلها إلى الإسلام، لولا أن الإنكليز لمّا عجزوا عن هدمها بقوة النمر حاربوها بمكر الثعلب، وأثاروا عليها المسلمين من رجال القبائل القوية المسلحة فهدموا دولتهم بأيديهم، فكانت النتيجة الفاجعة، إذ ذهبت الدولة

الإسلامية الناشئة وعادت الهند إلى الإنكليز بدلاً من عودتها إلى الإسلام (¬1). وكما فعل عز الدين القسّام، هذا الشيخ المؤمن القوي الذي استحى من الله أن يُقرئ تلامذته أحكام الجهاد في كتب الفقه وأنه يكون فرضاً على المسلمين جميعاً إذا احتلّ الكافر الأرض الإسلامية، ثم يذهب إلى داره فيأكل الرز واللحم ويشرب الشاي وينام مطمئناً إلى أنه قام بكل ما يطلبه الإسلام من الرجل المسلم؛ فخرج معهم بعد أن تدرّب على القتال ودرّبهم، وباشر الجهاد فعلاً، يوقع بالإنكليز ويحارب اليهود لإعلاء كلمة الله ولتخلص فلسطين لأهلها، ولبث على ذلك حتى سقط شهيداً. والدعوة ببثّ الأفكار وعرض الحقائق على أفراد الناس في المجالس والمجامع والطرق وفي كل مكان، بالأسلوب المناسب والتعبير الموافق لما تقتضيه الحال، من غير دخول في جدل أو اشتباك مع مخالف، كما فعل جمال الدين الأفغاني. وله جملة واحدة مشهورة يلخّص فيها مذهبه هذا، هي: «قُل كلمتك وامشِ». وكما فعل الشيخ طاهر الجزائري، الذي زاد عليه بأنه إذا ¬

_ (¬1) اقرؤوا تفصيل القصة في رسالة «أحمد بن عرفان الشهيد»، وهي جزء من سلسلة «أعلام التاريخ» التي تضمّ رسائل أو كتيّبات يصلح أن يكون كل منها مقالة طويلة في كتاب، وأنا أرجو أن أضمّها إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعة جديدة له لأن هذه السلسلة لا تكاد تصل إلى أيدي الناس (مجاهد).

رأى مخالفاً له أظهر له التواضع وتجاهل ما يعرفه أمامه، وجاءه بكتاب من الكتب التي تصحّح له خطأه وتردّه عنه فقال له: إني وجدت هذا الكتاب في مكتبتي ولم أعرف ما فيه، وأنا أحبّ أن تراه ثم تخبرني هل هو نافع لي لأقرأه أم هو من الكتب الضارة؟ ويترك له الكتاب، فلا تمر أيام ويستكمل قراءته حتى يكون قد رجع عن خلافه. وهذه طريقة مضمونة النتائج، ولكنها طويلة والثمرة فيها بطيئة الظهور. والدعوة إلى الله بالتعليم والإقراء وتأليف الكتب العلمية ونشر القديم النافع منها، وبالدروس والمحاضرات المستمرّة، كما فعل وليّ الله الدهلوي بالهند ومحمد عبده ورشيد رضا في مصر وعبد الحميد بن باديس في الجزائر. والدعوة عن طريق الصحف والمجلات والمقالات والمباحث، كما فعل محب الدين الخطيب، وهو أبو الحركة الإسلامية الجديدة في مصر، كان قلمه أول قلم دعا إليها، وكانت مطبعته «السلفية» أول مطبعة وُقفت عليها، وكانت مجلته «الفتح» أول مجلة إسلامية في مصر. وكما فعل أمير البيان شكيب أرسلان الذي كان كاتب الإسلام الأول. والمحاضرة طويلة، وهي في كتابي فصول إسلامية. * * * وجاءت سنة 1381هـ فرأيت من حقّ زوجي عليّ أن أذهب بها إلى الحجّ. وإذا كانت نفقة المرأة واجبة على زوجها يضمن

لها ما هو ضروري لها، فإن من هذه الضروريات حجّ بيت الله، حجّة الفرض، إن كان يستطيع أن يضمنها لها. ولكن فكّرت: كيف أذهب بها وأنا أعجز الناس عن النهوض بأمر نفسي في الحضر، فكيف أنهض بأمرها وأمري في السفر؟ وحِرتُ ماذا أصنع وفكرت فيمن يأخذ بيدي، في أخ مخلص لا يُشَكّ في إخلاصه قدير لا يُمارى في مقدرته، فوجدته؛ إنه الشيخ الصوّاف. فأبرقت إليه ليحجز لي مكاناً في فندق مصر في أجياد، ولكني استحييت أن أعود فأبرق إليه بوصولي، فوصلت مطار جدة بعد موهن من الليل (أي بعد منتصف الليل)، وكان في الطيارة جماعة من دمشق منهم من أعرفه معرفة ومنهم من كان بيني وبينه صداقة، فلما هبطنا من الطيارة شُغل كل منهم بأهله ومتاعه فلم يلتفت إليّ أحد منهم ولم يعرج عليّ، ووقفتُ كالأصمّ في الزفّة -كما يقولون- لا يُبدئ ولا يُعيد ولا يعرف له متجَهاً ولا مقصداً. وأنا كما قلت لكم أُدعى إلى خطبة في مئة ألف أو يزيدون بلا استعداد لها ولا احتشاد لإلقائها فأقوم إليها لا أجد مشقّة فيها، وأكتب المقالة في نصف ساعة لا أحسّ صعوبتها، ولله عليّ أفضال لا أنكِرها وأعمال صعبة سهّلها لي وأقدرَني عليها، ولكني أعجز عمّا يستسهله الناس وأغرق في شبر ماء على حين أجد مَن يسبح في اللجّ العميق. هنالك وقد كدت أصل إلى حافّة اليأس جاءني رجل لا أعرفه يسأل عني باسمي، وعند الضيق يأتي الفرج. فعجبت منه

واستوضحته، وإذا هو رسول من عند وكيل للمطوفين معروف في جدة، اسمه أبو زيد، وكان نسيب كاتب عندنا في المحكمة في دمشق ذي نجدة ووفاء اسمه السيد كمال الأظن، فأبرق له ليساعدنا، فأخذَنا إلى مكتبه وأقعدنا وأتانا بالشراب البارد والقهوة الحارة، وبعث من يُنجِز لنا معاملاتنا. فلما رأى ذلك مَن كان في الطيارة معنا أقبلوا علينا بعد أن كانوا مُعرِضين عنا، وسألوه أن يدلّهم على السوق فبعث معهم من يدلّهم ويشتري لهم، فلما رأوا ذلك اشتروا على حسابه ما كانوا يحتاجون إليه وما ليسوا إليه في حاجة (ولم أعلم بذلك إلاّ بعد حين)، وأحضر لنا سيارات حملتنا إلى مكة فركبوا هم ونساؤهم وأولادهم معنا! وكذلك يصنع الطمع وضعف الوازع الخلقي. رجل لا يعرفونه، لماذا يستغلّون كرمه؟ أنا المقصود بالإكرام كنت متحرّجاً أخاف أن أُزعِج الرجل أو أن آخذ منه أكثر مما ينبغي، وأحاول أن أتملص من قيود كرمه التي قيّدنا بها، وهؤلاء وجدوا طعمة فأكلوها لم يسألوا عن مصدرها (¬1). فإذا كان في القراء من يعرف مستقَرّ السيد كمال، أو نسيبه هذا السيد أبو زيد، فليبلغهما أن ربع قرن مضى لم يُنسِني فضلهما، وأنني سأبقى ذاكراً لهما شاكراً حسن صنيعهما. * * * وكان معنا في الفندق بعض الشباب من جماعة الرئيس ¬

_ (¬1) هذه الواقعة وبعض ما يأتي من أخبار حجة سنة 1381 سبق -باختلافات يسيرة- في الحلقة 121 من هذه الذكريات (مجاهد).

عبدالناصر (الذي حجّ في تلك السنة إن صحّ ما أذكر)، وكنا معهم في مناقشات دائمة وجدال. وكان اجتماع في القصر في مكة، وهو الاجتماع الذي انبثقَت عنه رابطة العالَم الإسلامي، وهممت بالاعتذار عنه ولكن الشيخ العالِم الفاضل المعمَّر المفتي الشيخ محمد حسنين مخلوف، قوّاه الله ومدّ في عمره لنفع المسلمين، والمفتي الصديق القَلْقيلي رحمه الله، ضغطا عليّ وألزماني بأن أذهب معهما إلى هذا الاجتماع. وكان هو الاجتماع الأول لِما دُعي فيما بعد برابطة العالَم الإسلامي، وكان برياسة الملك سعود رحمه الله والمفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وكُلّف بإدارة الجلسة أخونا الداعية الفاضل الأديب السيد أبو الحسن النَّدْوي. فكنت إذن من الهيئة التأسيسية الأولى لرابطة العالَم الإسلامي، ولكني -على عادتي- اعتذرت عنها، فأنا لم أنتسب في عمري كله إلى جماعة أو حزب وإنما أعمل وحدي، أمشي على الطريق السويّ فأساير كل من أجده يمشي فيه، أعاون على ضعفي وعجزي كل داعٍ إلى الخير، ولكني لا أربط نفسي به ولا أُلزِمها السير معه. ودُعينا مرة إلى المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة (ولست أدري ما اسمه على التحقيق)، فحضرتُ جلسات وشاركت في الرأي وعملت ما استطعت، ووجدت أفاضل أجلّة استفدت منهم، منهم الشيخ الشنقيطي صاحب «أضواء البيان». ولكنني لمّا انتُخبت في هذا المجلس (أو هذه

اللجنة العليا، فلست أدري الآن ما اسمها على وجه التحقيق) اعتذرت عنها وقلت لهم: أنا جندي من بعيد، لا أتقاعس عن عمل نافع أقدر أن أقوم به، فاكتفوا بهذا مني. ودُعينا مرة إلى طعام عند قاضي المدينة الشيخ عبد العزيز قوّاه الله وأطال عمره (¬1)، وهو شيخ فاضل وخطيب من الخطباء البلغاء، وله في صوته صفاء عجيب يذكّرني بخطيب الجامع الأموي من نحو نصف قرن الشيخ عبد القادر الخطيب. ورُبّ خطيب يكون أجش الصوت وإن كان بليغ العبارة، فالعبارة والفكرة من عمل الرجل، ولكن الصوت صفاءه وعكره وانخفاضه وارتفاعه هبة من الله. وأنا في العادة لا أجيب دعوة إلى طعام، لا مخالفة للسنّة ولا فراراً من الاجتماعات النافعة، ولكن لي فيها فلسفة قد تكون سخيفة، هي غلاء حرّيتي عليّ؛ فأنا آكل ما أشاء حين أشاء، وإذا دُعيت أطعموني طعاماً هو أطيب من طعامي في بيتي ولكن سلبوني حرّيتي في اختيار لون الطعام ووقت تناوله واختيار الآكلين معي منه، فتكون خسارتي أكبر من ربحي! والحديث متصل، ستأتي بقيته في الحلقات المقبلات إن شاء الله. * * * ¬

_ (¬1) هو الشيخ عبد العزيز بن صالح، وقد سبق هذا الخبر (بزيادة ونقصان) في الحلقة 121 من هذه الذكريات (مجاهد).

حجة 1381: خواطر وأفكار

-219 - حجة 1381: خواطر وأفكار الدنيا دار ابتلاء واختبار، ليست دار إقامة واستقرار (والابتلاء والاختبار والمحنة والفتنة والامتحان كلها بمعنى واحد أو بمعانٍ متقاربة)، كذلك برَأها الله: كل مسرة فيها مَشوبة بألم، وكل صفاء مخلوط بكدر. وإن سألتموني ما هي متاعب الكتابة والنشر (وأنا مبتلى بهما من ستين سنة، أو هما المبتلَيان بي) لقلت لكم إنها «التطبيعات» كما كان يدعوها صديقنا وأستاذنا محمد إسعاف النشاشيبي رحمه الله، أو الأخطاء المطبعية كما يسمّيها الناس. ولو كانت كلها من أمثال «المطبعة السفلية» في موضع «المطبعة السلفية» لهان الخطب، لأن كل قارئ يتنبه لها من غير أن ينبّه إليها، ولكن فيها ما يحرَّف أو يصحَّف؛ والتحريف تبديل الحروف والتصحيف تغيير الحركات، حتى تجيء كلمة جديدة لا يدري حتى كاتبها الذي هو أنا ماذا كان أصلها. أمثّل بواحدة من كثيرات جاءت في مقالي الأخير، هي جملة "وأنا حين أهمّ بالكتابة عن بلد لا أصف طبيعة أرضه ولا تعمير مساحته ووصف ناقلاته". ما تعمير مساحته وما وصف ناقلاته؟ أنا والله لا أدري (¬1)! ¬

_ (¬1) كل ذلك صححته في مواضعه من الحلقة الماضية بما وجدته صواباً (مجاهد).

والثاني أنهم قالوا: كيف تقول إنك لا تُعِدّ المحاضرات ثم تكتب ما حاضرت به؟ أليس معنى هذا أنك تُعِدّها وتكتبها؟ لا، ليس معناه أني أعددتها وكتبتها، ولكن معناه (وهذا هو ما يقع لي، لا أكذب القراء) أنني بعد أن ألقيها أجدها منقوشة في ذهني فأكتبها. يحصل هذا معي كثيراً، أما هذه المحاضرة فقد كتبها إخوان ودوّنوها فبقيَت لديّ (¬1). * * * أنا أحب من المذكرات ما يَعرض لنا الحوادث مفصّلة، مبيّنة الأجزاء مكشوفة الخفايا. والفنّ كله في عَرض هذه التفاصيل، ولولاها لكانت كل قصة حب مثلاً ككل قصة حب: اثنان يتعاطفان ويتحابان، ثم يلتقيان أو يفترقان، فإن افترقا بموت أو إكراه أو عائق يعوق اجتماعَهما جاءت النتيجة على غير ما يحب القارئ وكانت مأساة (تراجيدي)، وإن اجتمعا جاءت وفق ما يحب. وأعظم قصص الحب في آداب الأمم هي المآسي، ولولا ذكر التفاصيل لكانت قصة «قيس وليلى» كقصة «روميو وجولييت» و «بول وفرجيني» و «فرتر» و «رفائيل» و «غادة الكاميليا» و «مم وزين» في الأدب الكردي (وقد نقلها إلى العربية الأستاذ سعيد رمضان البوطي الدمشقي)؛ قصة واحدة مكررة ما تبدّل فيها إلاّ الأسماء والمواضع. ¬

_ (¬1) انظر صفحة 113 في هذا الجزء من الذكريات، والمحاضرة منشورة في كتاب «فصول إسلامية» بعنوان «طرق الدعوة إلى الإسلام». قلت: وأحسب أنه عاد إليها -بعدما كتبها مَن سجّلها- بالتنقيح، فما كان ليقبل أن تُنشَر إلا أن تكون بأسلوبه الذي يرضاه (مجاهد).

وعلى ذلك يكون قرص الفَرانيّ (الكاتو) كأكلة خبز بالبيض المقلي لأنهما تتركبان من مواد واحدة، ولكانت أجمل النساء كأقبح النساء لأنها مثلها: لها وجه فيه فم وشفتان وفوقه أنف يجاوره عينان وعلى العينين حاجبان، ولكانت عنق الزرافة كعنق الضفدع لأن كل الأعناق في الوجود متساوية في عدد الفقرات! وهذا من عجيب صنع الله؛ أن يخلق من المتشابه المؤتلف ما هو متباعد مختلف، ففي الوجود موادّ محدودة تُنتج مركبات كيماوية لا تكاد تُحَدّ. ومن اطّلع على تسلسل الكروموزومات في نواة الخلية وجدها مؤلَّفة من عناصر معدودة، ولكنها تُنتِج أشكالاً وصوراً لا تُعَدّ، كحروف الهجاء: محدودة معدودة ولكن الكلمات التي تتألف منها وتملأ ملايين الكتب في اللغات كلها لا يبلغها عدّ ولا يحدّها حدّ. وهذا كلام لا صلة له بحديثي، وإنما هي خطرات خطرت على بالي وأنا أكتب مقالي فوجدت فيها نفعاً، فكرهت أن أستأثر بها فلا أُشرِك معي القراء فيها. وقد فرغت من الاعتذار عن هذه الاستطرادات التي تسوقني العادة إليها فلا أستطيع الفكاك منها. * * * وإنما أردت أن أقول إنني حدّثتكم عن نزولي في حجّتي سنة 1381هـ في فندق مصر في أجياد لمّا سألت أخي الأستاذ الصوّاف أن يحجز لي فيه، ولكني لم أحدّثكم عما وجدته حين وصولي إليه.

وصلنا إليه أنا وأهلي قُبَيل الفجر، وكنت أعرفه لمّا نزلت فيه في حجّتي سنة 1373هـ، ولم يكن الطريق إليه من أول مكة ولا الطريق بينه وبين الحرم شارعاً واحداً عريضاً معبَّداً كالذي ترونه اليوم، بل كان بينه وبين الحرم عمارات منها دار البلدية فيما أذكر، وكان الطريق من شقّين عن يمينها وعن شمالها. وصلنا فوجدنا الباب مفتوحاً، والبوّاب قاعداً على كرسيه ولكنه نائم. فأيقظته أسأله، فقال إنه ليس في الفندق أحد من القائمين عليه. قلت: إنني حاجز فيه غرفة، فمَن يدلّني عليها؟ فأجاب بنصف الجواب وأخذه النوم فأخذ النصفَ الثاني وأخذني معه إلى منامه، ورجع يحملني ويحمله إلى أحلامه، وأحسبه أكمل الكلام في وسط الأحلام. فيئست منه ورحمته، لأن من هؤلاء العمال من لا يمكَّن من النوم ليالي الحج. والتاجر صاحب العمل الذي يسهر الليل كله يبيع ويشتري ويجمع النقود ويُحصي الأرباح لا يحسّ بالنعاس ولا يشعر بالتعب، ولكن العامل عنده يتعب. وليس الذي يُتعِب الناسَ العملُ ولكن يُتعِبهم أن يعملوا كارهين. ورأيت أن الفجر قد اقترب فأخذت أهلي وذهبت إلى الحرم، وتركت حقائبي أمانة عند صاحب دكان كان في أسفل عمارة الكعكي، وكانت يومئذ تُبنى ما اكتمل بناؤها، قامت الطبقة الأولى والثانية منها. ووجدنا الحرم ممتلئاً فأممنا المَطاف وطفنا، وأذّن ونحن في الطواف فجاء من يأمر المرأة بالذهاب إلى مكان النساء. ونحن لا نعرف أين هو مكان النساء ولا نميز جانباً من الحرم من جانب، ولا نعرف شرقيّه من غربيّه ولا شاميّه من

يمانيّه، فحارت زوجتي ماذا تصنع، وهي في وسط الرجال ولا تدري من زحمة الحجّ من أين تمضي، وكادت تُقام الصلاة. وهذه مشكلة لا يدركها المقيم في مكة لأنه يعرف -كما عرفت أنا الآن- أركان الحرم، فإن ترك زوجته في مكان يعود إليها فيجدها فيه. أما القادم على مكة فتستوي الأمكنة كلها في نظره، لذلك أكرّر اقتراحاً ورد عليّ في برنامجي في الرائي (التلفزيون) وأؤيده، وهو أن تُرقَّم الأعمدة بأرقام ظاهرة. وما في ذلك من حرج ما دام لا يمسّ الدين وأحكامه، وما دام فيه نفع للمسلمين. ولقد أضللنا مرة امرأة عجوزاً من أقرباء زوجتي، ضاعت في الحرم، وذهب أكثر من عشرين من إخواننا ومن نسائهم يفتّشون عنها فما وجدوها. وكيف يجدونها وقد ألقَت الأرض بأبنائها بين جدران الحرم فاختلط الناس وامتزجوا؟ وبقيَت ستّة أيام تشرب من ماء زمزم وتأكل مما يعطيها الناس، وهي من أسرة من الأسر الكبيرة الغنية الوجيهة في الشام. ولكن ماذا تصنع وكيف يجدها أهلها في زحمة الحجّ؟ فهل عند وزارة الحجّ والأوقاف أو عند لجنة أبحاث الحجّ حلّ لهذه المشكلة، التي تبدو لأكثر القراء من أهل البلد هيّنة أو لعلهم يرونها سخيفة مضحكة، ولكنها كبيرة مبكية عند أصحابها؟ * * * أنا طالب علم اشتغلت بالتدريس دهراً، فقرأت أحكام الحجّ طالباً وأقرأتُها مدرّساً مرات لست أُحصيها. ولكن لما حججت أول مرة وجدت العلم الذي في الورق لا ينطبق دائماً على الواقع

في الحياة؛ كنت أعرف حُكم الوقوف في مُزْدَلِفة والمبيت في مِنى، ولكني لا أعرف ما مزدلفة وما منى وما موضعهما وما شكلهما وكيف الوصول إليهما. ومعرفة الاسم لا تُغني عن رؤية المسمّى أو وصفه. أكثر الناس يعرفون أسماء الكوفة والبصرة والمِرْبَد وعُكاظ ودُومة الجَنْدَل ومرج راهط وحطّين وعين جالوت وأمثالها، عرفوا أسماءها مما درسوا من التاريخ الماضي ولكنهم لا يعرفون ما حالها في الوقت الحاضر وما مآلها. فلو أن أحد الأساتذة المطّلعين أو الطلاب الذين يُعِدّون الأطروحات (أي رسائل الشهادات العالية للماجستير والدكتوراة) يحققون مواضعها ويدرسون حالها اليوم، وينشرون وصفها وصورها ويصفون مظاهر الحياة فيها، لكان من ذلك خير كثير. وقد عرفت أنا هذه المواضع كلها وزرتها ووقفت عليها وأقدر أن أصفها، ولكني فقدت الهمّة الدافعة إلى العمل، فأنا كسيارة قوية المحرّك فيها البنزين ولكن ليس فيها هذا الزِّناد (المارش) الذي يقدح الشرارة الأولى لتسير. أقول إني لمّا حججت أول مرة وجدت أن ما درَسته ثم درّسته للطلاب لم يُفِدني في معرفة طريقي. وكنت أمشي من حيث يمشي الناس، أسير أين ساروا وأقف إن وقفوا وأصنع مثل ما صنعوا، لا أعرف من أين سرت ولا إلى أين أسير، وإن كنت أُفتي مَن حولي وأبين لهم أحكام الحجّ لأنني أعرف ما في الكتب، ولكني لم أعرف من قبل ما على الأرض.

فيا ليت مدرّسي الفقه -إن علّموا الطلاّبَ أحكام الحجّ- عرضوا لهم صور المشاعر وأماكن العبادة، ليصلوا علوم الدين بحياة الناس في هذه الدنيا. ولولا أني أبعد عن موضوعي لعرضت لشيء أعلم أن ليس هنا مكانه، ولكنها ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين. هي أن دروس مدرّسي الدين وخطب خطباء المساجد ومواعظ الوُعّاظ لا تبلغ من نفوس الناس غالباً مبلغها المرجوّ لها لأنها تأتي بعيدة عن الحياة منفصلة عنها، فكأنها الآثار تُقتنى للإعجاب بها ولكنها لا تُستعمل للاستفادة منها. تُعرض في الرائي البرامج وهي شتّى، ولعلّ منها ما يخالف الإسلام (وأنا لا أقصر الكلام على المملكة بل أعمّم) ثم تُختم بتلاوة القرآن كما بُدئت بتلاوة القرآن، فتأتي التلاوة منفصمة عما كان قبلها وعما كان بعدها. وننسى أن القرآن لم ينزل جملة واحدة كما نزلت الكتب من قبله وكما طلب الكفّار، بل نزل منجماً مرتبطاً بالحياة؛ تكون قصة أسرى بدر فينزل فيها قرآن، وتكون مسألة الإفك فينزل فيها قرآن، ينزل دائماً مقترناً بالأحداث لنفهمه دائماً مرتبطاً بالحياة ولنربطه بها. * * * وكان من حُجّاج تلك السنة رجل من دمشق كبير في سنّه وفي منصبه وفي منزلته في قومه، هو جميل بك الدهّان الذي كان يوماً مدير الأوقاف العامّ، الذي كان يومئذ بمثابة الوزير لأنها لم تكن قد صارت وزارة. فلما سمعتُ بقدومه رحمه الله سألت عن

مكانه وذهبت أزوره لمودّة كانت بيني وبينه، وقد دنوت منه لمّا أنشأ مجلة الأوقاف (وكنت قاضي دمشق) فجمع لها لجنة فيها أكثر أدباء البلد، مع أنها مجلة صغيرة تضيق عن جهد واحد منهم. ومن ظرائف أخبارها أني تطوعت للإشراف على طبعها وتصحيح تجارِبها، فوجدت يوماً في الافتتاحية التي كتبها أستاذنا سليم الجندي (وكان هو رئيس التحرير) كلمة «مواضيع»، فعلّقت عليها بحاشية قلت فيها: "لا تُجمع كلمة «موضوع» على «مواضيع» بل «موضوعات»، كما قال شيخنا سليم الجندي في كتابه «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» الذي يردّ فيه على الشيخ إبراهيم اليازجي". وإبراهيم اليازجي لُغويّ معروف في لبنان، وأبوه نصيف اليازجي من قبله، وهو نصراني يلقَّب بالشيخ. أقول إني زرت جميل بك فوجدته مع زوجته، وهي عجوز مثله، عند مطوّف لم يرعَ لهما حرمة السنّ ولا علوّ المنزلة، فأسكنهما في غرفة رطبة مظلمة تحتاج إلى شمعة في رأد الضحى، لا ترى الشمس ولا يصل إليها خيط من أشعّتها. فتألمت له وفكّرت بدعوته إلى النزول معي في الفندق، وذهبت أسأل عن أجرة النزول فيه فإذا هي كبيرة، فتنبّهت حينئذ لنفسي، وطلبت كشفاً بحسابي لأعرف ما يُطلب مني، فإذا هم حسبوا أجرة الغرفة من يوم حجزَها لي الأستاذ الصواف، وإذا المبلغ الذي اجتمع عليّ كبير ربما ثَقُل عليّ دفعه! وتحدّثت بذلك مع إخواننا من نزلاء الفندق وسألتهم: كم يدفعون؟ فعجبوا من سؤالي، ولمّا عرفت سرّ عجبهم كان عجبي أكثر، ذلك أنهم كانوا جميعاً ضيوفاً على الحكومة، لذلك تعجّبوا أن أنزل على حسابي.

ويبدو أنهم بحثوا الأمر بينهم وذهب الأستاذ الصواف فتكلم فيه، فجاءني رجل يقرع عليّ باب الغرفة يقول إنه أحمد السوّاق. ولم أكن أعرفه ولا طلبت سوّاقاً، فسألته ما الذي جاء به، فقال إن الحكومة بعثت به إليّ وجعلت هذه السيارة تحت أمري يسوقها بي إلى حيث أريد، لأنني دخلت في زمرة الضيوف. فسألتُ الشيخ الصواف عن هذا، فقال إنه كلّم أولياء الأمر فاعتذروا وألحقوني بضيوف الحكومة. فطلبت منه أن أشكر الذي استضافني، فأخذني إلى أمير مكة، وكان سموّ الأمير عبد الله ابن الملك سعود رحمه الله. ووجدت هذا السائق من الطارئين على البلد ليس من أهله، وهو ذكي من أذكى مَن عرفت مِن الناس كذّاب من أكذب مَن عرفت من الناس، يكذب الكذبة ويُلبِسها ثوباً جميلاً ويجعل لها قصة يشوقك سماعها، يزيّنها لك بحلاوة لسانه حتى لَتحسب باطلها حقاً! ولم أكن أحتاج إليه ولا أعرف في مكة مكاناً أذهب إليه بالسيارة، فطلبت أن يُعفوني منها، ولكن كرمهم أبى إلاّ أن يُبقوها لي، فقلت له: أنا لا أحتاج منك إلى شيء فاذهب حيث شئت. فصار يذهب فيُركب الناس بالأجرة في سيارة الحكومة، وهي محسوبة عليّ ولا أدري. وما وجدت أكذب منه إلاّ نادل (خادم) الفندق. وهو رجل من بلاد النوبة خفيف الروح ضاحك الوجه، يستلّ منك غضبك استلالاً، مهما تأمره يقُل لك: حاضر. يقول: دقيقة واحدة، وتمرّ الدقيقة والساعة بعدها ويمرّ اليوم ولا يُحضِر لك ما طلبتَ. وتارة

يقول لك: اعتبر المسألة منتهية. وتنتهي حقاً، ولكن كما تنتهي حياة الأحياء بالموت! وأنا أفضّل مَن يقول «لا» صادقاً على من يقول «نعم» ثم لا يصنع شيئاً. وقد قلت لإخواني: إن محمداً هذا (أعني النادل) يقول لكم «حاضر» قبل أن يفهم المُراد منه، وسأثبت لكم ذلك. فدعوته وقلت: يامحمد. قال: حاضر. قلت: هات لنا فيلاً بخرطوم طويل. قال: حاضر، دقيقة واحدة. فقلت له: ما هو الحاضر وما الذي طلبته منك؟ فوقف ولم يدرِ بماذا يجيب. قلت: ما الذي طلبته منك؟ فتبيّن أنه لم يفهم المطلوب ولم يحاول أن يفهمه. قلت: يامحمد، المطلوب فيل بخرطوم طويل. فعدّها نكتة وضحك منها، وقال كلاماً أرغمني على الضحك فضاع عتبي عليه في وسط ضحكي منه. * * * مشى على ألسنة الخطباء وأقلام الكتاب أن الحجّ مؤتمر إسلامي، وما هو بالمؤتمر ولا حاله كحال المؤتمرات التي يجتمع فيها الناس لموضوع معين يتكلمون فيه، يُبدون فيه آراءهم ويعرضون فيه ما عندهم ويخرجون بمقرَّرات يقرّرونها. وليس الحجّ كذلك؛ إن الحجّ عبادة قد حدّد الشارع أركانها وواجباتها وزمانها ومكانها، ولكنه قد يشبه المؤتمرات في الاجتماعات التي تكون فيه، ولا سيما في أيام التشريق، وهي أيام أكل وشرب؛ لا أننا نأكل فيها ونشرب من الصباح إلى المساء

بل أننا أنهينا فيها أعمال الحج وجئنا يرى كلٌّ إخوانه، يسأل عن أحوالهم في بلادهم وعما يشكون منه فيساعدهم، وعما يحتاجون إليه مما يقدر هو عليه فيقدّمه إليهم. أليس المؤمنون إخوة بقرار من ربّ الأرباب أنزله في الكتاب وهو باقٍ إلى يوم الحساب: إنما المؤمنونَ إخوةٌ؟ ألا يتعهّد المؤمن أخاه فيعرف أحواله؟ ولقد اجتمعت في حجّتي هذه التي أتكلم عنها بطائفة من الأفاضل ربما ركّزت ذهني يوماً وكتبت عنهم، كالشيخ ابن بليهد، وهو من أوسع مَن عرفت من المشايخ أفقاً وأكثرهم اطّلاعاً، فكانت لي معه جلسات استفدت منها واستمتعت بها. وكنا لا نعرف عن السنغال إلاّ الجنود الذين ساقهم الفرنسيون لحربنا والإيقاع بنا، والذين طالما شكونا منهم ومن قوّتهم وقسوتهم. فلقيت في الفندق في المدينة أستاذاً سنغالياً متخرجاً في السربون، يحمل شهادة من كلية فرنسا (كوليج دي فرانس)، وهي أعلى معهد ثقافي في فرنسا. فعجبت منه وشكوت إليه ما كنا نلقى من هؤلاء الجنود، فأفهمَنا أنهم مسلمون، ولكن الفرنسيين أوهموهم أنهم يقاتلون في سوريا أمّة كافرة مشركة تحارب الإسلام! فتبيّن لي أن هذا من نتائج فُرقتنا نحن المسلمين وأننا لا نتعارف وأننا لا نلتقي. ولقد حججت بعدها مرات، ولكل حِجّة قصة، ثم لم أحجّ بعد ذلك. بل أنا أدعو المقيمين هنا إلى أن يفعلوا مثلي وأن يدَعوا المكان لغيرهم، فأماكن الحجّ محدودة. أرأيتم لو أن مطعماً فيه

عشرون كرسياً والجائعون مئتان، أكان يحسن بك بعد أن أكلت وشبعت أن تشغل الكرسي فتأكل مرة ثانية طعاماً لا تحتاج إليه، وإخوانك الجائعون قائمون ينتظرون؟ أنا أعلم أن للحجّ ثواباً كبيراً، ولكن الفريضة مرة واحدة في العمر والباقي نافلة، والنوافل يُغني بعضُها عن بعض. ولقد ضربت مرة مثلاً بالفرائض والنوافل برجل استأجر داراً في المصيف، لها حديقة واسعة فيها الأشجار وفيها الأوراد والأزهار والسواقي تجري من تحتها، ومن ورائها جبل موحش فيه الحشرات وفيه الوحوش، ولها أبواب على الحديقة وأبواب على الجبل، أمّا أبواب الحديقة فإن واحداً منها إن فتحته يُغني عن باقيها، وأمّا أبواب الجبل فعليك أن تسدّها كلها لأن الباب الواحد منها يُدخِل عليك ما تخشاه. فالفرائض لا بد من القيام بها كلها والمحرَّمات لا بدّ من تركها كلها، وأمّا النوافل فهي أبواب شارعة إلى الجنة، فمن ترك حجّة النفل ونوى بذلك فتح المجال لغيره من المسلمين ممن لم يحجّ حجّة الفرض، وتَصدّق بالمال الذي أعدّه للحج أو أتى غير ذلك من النوافل الكبيرة، كان له فيه غنى. ولقد كتبت مرة كتاباً عن عبد الله بن المبارك صدر في سلسلة كان عنوانها من أعلام الإسلام (¬1). وابن المبارك من الذين جمع الله لهم العلم والمال، فكان من كبار العلماء وكان من كبار ¬

_ (¬1) اسم السلسلة هو «أعلام التاريخ» وليس «أعلام الإسلام»، وقد سبقت الإشارة إليها (مجاهد).

الموسرين، وكان يحجّ سنة ويغزو سنة، ومن قرأ رسالتي عنه وجد له من البطولات في الحرب مثلَ ما يجد له من الطاعات في الحج. نزل في إحدى حجّاته منزلاً مع إخوانه الذين كانوا يحجّون معه وعلى نفقته، لا يرزؤهم شيئاً من أموالهم، فطلب الطعام فجاؤوه بدجاجة وجدها ميتة، فألقاها على مزبلة قريبة من المكان الذي نزلوا فيه. فلما جُنّ الليل رأى شاباً يقوم إليها فيأخذها، وشعر به فاستدعاه فسأله، فتبيّن أن له أختاً وأنهما لا يجدان ما يأكلان، فهما يأخذان مثل هذه الدجاجة ليأكلاها لأن حاجتهما واضطرارَهما أحلّ لهما الميتة. لمّا رأى ذلك (وهذا هو الشاهد في القصة) دعا وكيلَه فقال له: استبقِ من نفقات حجنا هذا العام ما يكفي للرجوع إلى بلدنا، وكانت بلده في خراسان أي عند بلاد الأفغان، وأعطِ الباقي لهذا الشاب وأخته فإن ذلك أفضل من حجّنا. ولو حج كلَّ سنة مَن في مكة جميعاً من أهلها ومن النازلين فيها لملؤوا المشاعر ولم يدَعوا مكاناً لغيرهم. وأنا أسألكم ياأيها القراء: كم نسبة مَن يجب الحج عليهم من المسلمين في المئة؟ لو قلتم بأن خمسة في المئة من المسلمين لم يحجوا ويجب عليهم الحج لكان مجموع ذلك خمسين مليوناً، لأن المسلمين نحو ألف مليون. فتصوروا: لو أن خمسين مليوناً نزلوا في لندن أو نيويورك أو في القاهرة أو في مثلها من المدن الكبار لضاقت عنهم وعجزت عن احتمالهم، فكيف بمكة؟

لا تفهموا عني غير ما أريد، فأنا أعرف فضائل الحج وأعرف مزاياه، ولكن أدعو إلى ما هو أوفق لحكم الشرع وأظنه أنه أرضى لله، وأسأل الله أن يُلهِمني ويُلهِمكم ما يُرضيه. * * *

أبو الحسن الندوي ومذكراته (1)

-220 - أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1) أنا كلما هممت أن أمشي في ذكرياتي هذه كما يمشي الناس صرفني صارف فحوّلني ذات اليمين أو ذات الشمال، أو عثرَت رجلي بعائق قطعني عن مسيرتي ووَقَفني في مكاني. أما الذي اعترضني اليوم فهو كنز ثمين، ما عثرت به فوقعت ولكن عثرت عليه فربحت؛ هو كتاب قيّم ستُصدِره المطبعة إن شاء الله عما قريب لداعية من أكابر الدعاة إلى الله في هذا العصر، وصديق من أكرم الأصدقاء، ومؤلّف مُكثر له كتب يعرفها الناس. ولكن لهذا الكتاب فضلاً (أي زيادة) عليها، لأنه يسرد سيرة المؤلّف الأستاذ السيد أبي الحسن الندوي، ومعه رسالة منه يشرّفني فيها فيكلّفني بأن أكتب له مقدّمة الكتاب. وأنا لم أكن يوماً في موضع القيادة في الدعوة الإسلامية، ولكنني أمشي معها من يوم كنت أدرس في مصر سنة 1347، فشهدت بداية الدعوة النظامية بإنشاء جمعية الشبان المسلمين، وعرفت رجالاً من أعيان الدعاة إلى الله ومن أكابرهم كما عرفت أبا الحسن؛ عرفت الشيخ البنا قبل أن تظهر جماعة الإخوان

المسلمين، وكنت في فصل واحد في دار العلوم مع سيد قطب، وعرفت الشيخ البشير الإبراهيمي في مصر وفي دمشق وفي بغداد وفي القدس، وعرفت المودودي، ومحب الدين الخطيب خالي وأستاذي، والسيد الخضر الحسين شيخي وشيخ مشايخي، ومحمد محمود الصوّاف أخي وصديقي، ومصطفى السباعي أخي، وعصام العطار أخي وولدي. وعرفت بالسماع لا باللقاء النّورسي في تركيا، وممن لقيت الأستاذ علاّل الفاسي ولبثت معه أياماً في القدس وفي دمشق. والدعاة إلى الله كثير، ولكن مَن ذكرت من أبرزهم شخصية ومن أخلصهم إخلاصاً، ومن أسيَرهم ذكراً وأعمقهم أثراً. وللصديق على صديقه حقوق أقلّها أن يأمره فيطيع أمره. فلما جاءني كتاب أبي الحسن فتحته لأرى ما فيه، فعلقت به وعكفت عليه أقلب صفحاته لا أستطيع أن أدعه، وكلما ازددت فيه إيغالاً ازددت به تعلقاً. وكنت أقرأ وأدوّن على صفحة بيدي ما يخطر على بالي من تعليقات أبني منها المقدّمة التي طُلبت مني، فأمضيت في ذلك خمس ساعات متصلات ما بسطت فيها رجلي ولا عدّلت جلستي، أكملت فيها جمع عناصر المقدمة. حتى إذا انتهيت منها تشهّدت وألقيت القلم، وقلت: الحمد لله، لقد فرغت. وأخذت كُداسَة (¬1) أوراقي التي سوّدتُها، أنظر فيها لأرى ثمرة تعبي وكدّي، فإذا أنا لم أصنع شيئاً! البدوية تمخض اللبن ساعات لتستخرج الزبد منه فتملأ به ¬

_ (¬1) والعامة تقول: كَدْسة ورق.

إناءها، وأنا قد خرجت وملء إنائي الزبد، ولكن عملي كان عبثاً لأني لم أُعطَ لبناً أمخضه ليكون زبداً، بل كان الذي أُعطيتُه زبداً خالصاً، فإذا ثمرة تعبي أني نقصت منه بما أخذت ولم أزِد عليه بما تعبت. أفكان أخي الحبيب وسميّي الأستاذ علي أبو الحسَن يسخر مني؟ أم كان يمتحنني؟ أم كان يريد أن يعجّزني؟ إن كان امتحاناً (وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان) فأنا أعترف أنني قد خرجت بالهوان ورسبت في الامتحان، وإن كان في الأمر تعجيز فقد أقررت بالعجز وألقيت السلاح ورفعت الراية البيضاء. أنا أكتب في الصحف والمجلات من ستين سنة وكان أول كتاب نُشر لي سنة 1348هـ، فما ضقت يوماً بمقالة ولا أحسست التعب بها كما أحسست عند هذه المقدّمة ومقدّمة كتاب أخي ناجي الطنطاوي (¬1). لا لأن مجال القول في أبي الحسن ضيق: لقدْ وجَدت مجالَ القولِ ذا سَعَةٍ ... فإنْ وجدتَ لساناً قائلاً فقُلِ وماذا أقول، وقد سدّ عليّ مسالك القول فلم يدَعْ لي مسافة أنملة لأدخل منها فأكتب عنها؟ لقد قرأت مذكّرات كثير من أدباء ¬

_ (¬1) فأما مقدمة كتاب أبي الحسن النّدْوي فهذه هي، تقرؤونها في هذه الحلقة والحلقتين من بعدها، وأما مقدمة كتاب ناجي الطنطاوي، «كلمات نافعة»، فهي منشورة -بتصرف يسير- في آخر حلقتين من «الذكريات»، فمن شاء قرأها هناك. رحم الله صاحبَي الكتابين وكاتب المقدّمتين (مجاهد).

العصر، ممن سار فيها مع السنين وجاء بها مرتَّبة ترتيب الأيام في مجرى الزمان كأحمد أمين، ومَن اتخذ منها مواقف فصّلها تفصيل الأديب وعرضها عرض المنشئ البليغ كطه حسين، ومن أخذ مما رأى وسمع مشاهد علّق عليها، وإن لم يستوفِ عناصرها ولم يجمع أطرافها، كمحمد كرد علي. أما أخونا الأستاذ أبوالحسن فقد جمع في سيرته بين الحديث عن أصله ومنبته، وعن بيته وبلده، وعن دراسته وتحصيله، وعن أصحابه وتلاميذه، فلم يدَعْ شيئاً إلاّ قاله. فماذا ترونني قائلاً اليوم؟ لقد كتب عن أسرته، أهل أبيه وأهل أمه، وإذا هو المُعَمّ المخوَّل (¬1) كما كانت تقول العرب، وإذا هو عالِم من نسل علماء. ولقد عرفت من مطالعاتي أسراً توارث أبناؤها العلم فكانوا وكان نساؤهم من العلماء، كأسرة آل قدامة الذين منهم مؤلّف «المغني» أعظم كتب الفقه الإسلامي، وابن أخيه صاحب «الشرح الكبير»، والحافظ صاحب «المختارة» التي هي أصحّ كتب الزوائد على الصحيحَين. ولقد أُولِعت زمناً بتتبّع تاريخ هذه الأسرة فحصل معي من سِيَر نسائها العالِمات فضلاً عن رجالها العلماء أكثر من إحدى عشرة سيرة. ومن هذه الأسر في التاريخ القريب أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنتم تعرفون من نشأ فيها من العلماء، وأسرة ولي الله الدهلوي في الهند، وأسر من أمثالها كثير أحصيت الكثير من أخبارها. وأسرة المُهَلَّب، القائد الذي ظلمناه فلم نضعه في مكانه ¬

_ (¬1) أي الكريم الأعمام والأخوال.

مع القوّاد العِظام في تاريخ المعارك، والذي تسلسلت البطولة في نسله أربعة بطون فكان منهم رَوْح بن حاتم بن قَبَيصة بن المهلب. وأسرة طاهر بن الحسين في القيادة والسيادة. وأسرة قُتيبةبن مسلم، القائد الذي فتح من الأرض ضعف ما فتح نابليون، فذهب ما فتحه نابليون وعاد إلى أهله وبقيَت فتوح قتيبة للإسلام إلى يوم القيامة، وإن غشيَتها اليوم غاشية من الكفر والكدر فستعود إن شاء الله إلى إيمانها وإلى صفائها. وأسرة جرير في الشعر. وأسرة يمكن أن ندعوها بأسرة الوزراء، هي أسرة وَهْب الذي كان وزيراً، وابنه سليمان الذي كان وزيراً، وابن سليمان عبيد الله، والقاسمبن عبيدالله، ومحمد بن القاسم، وكلهم كانوا وزراء. ولو عددت من هذه الأسر أسرة أبي الحسن الندوي لما أبعدت، فأبوه عالِم طبيب مؤلّف، وأخوه لأبيه عالِم طبيب، وأخته مؤلّفة ولها ترجمة «رياض الصالحين»، وأخته الأخرى عالمة وهي أم لعلماء كلهم اسمه محمد، عرفت منهم محمداً الرابع الذي كان شاباً يوم زرت الهند وكان -جزاه الله خيراً- يمشي معي يدلّني ويأخذ بيدي ويترجم لي، وعرفت أخاه محمداً الخامس الذي كان في إذاعة دهلي، وقد دُعيت إليها فسجلوا لي أربعة أحاديث، واستقبلوني بالترحيب والإكرام وودّعوني بالتحية والسلام وأعطوني عليها أكبر المكافآت، ثم لم يُذيعوا شيئاً منها لأني قلت فيها غير ما كانوا ينتظرون مني. ولا تعجبوا من تسميتهم جميعاً بمحمد، فإنما صنع أبوهم ذلك تبرّكاً باسم محمد. وهذه عادة من عاداتنا في الشام، يضيفون إلى كل اسم اسمَ محمد، فأنا اسمي «علي» ولكنه في القيود

الرسمية «محمد علي»، ولقد لقيت من ذلك نصَباً، إذ تأتيني رسالة مسجَّلة أو حوالة مالية فلا يدفعونها لي بل يطلبون مني أن آتيهم بابني محمد لتُسلَّم إليه، وما رزقني الله ابناً لأنني من الصنف الأول من الأصناف الأربعة التي وردت في القرآن في سورة الشورى! ولعل من يتابع الإذاعات منكم تنبّه إلى أن إذاعة مصر أضافت إلى اسم أنور السادات يوم ولي الرياسة كلمة محمد فصاروا يقولون سيادة الرئيس محمد أنور السادات، وقد صنعوا مثل ذلك مع الرئيس حسني مبارك فصاروا يقولون محمد حسني مبارك، وما أدري: هل أخذنا هذه العادة منهم أو هم قد أخذوها منا؟ أما والد أبي الحسن فهو مؤرّخ الهند حقيقة، ولقد استفدت من كتابه العظيم «نزهة الخواطر» فوائد جليلة في تراجم عظماء الهند التي أودعتُها كتابي «رجال من التاريخ» وفي رسالتي عن أحمد بن عرفان، العالِم المجاهد الصالح المصلح الذي ذهب شهيداً في المعركة الإسلامية لإعلاء كلمة الله، أصدرتُ عنه رسالة في سلسلة لي عنوانها «أعلام التاريخ»، ثم كتب عنه الأستاذ أبوالحسن كتابَه الجامع بعد سنين، فكفى ووفى ولم يدَع بعده مجالاً لمقال. * * * يقول العرب: إنّ الفتى مَن يقولُ ها أنَذا ... ليسَ الفتى مَن يقولُ كانَ أبي أما إذا اجتمع العلم والأدب مع الحسب والنسب، فتلك

الغاية التي لا غاية بعدها، ولولا أن يُظنّ أني صرت شاعراً مدّاحاً عملي الثناءُ لقلت إن أبا الحسن جمع الأمرين. وكان الشعراء إنما يمدحون ليأخذوا الجوائز والعطايا، وليس عند أبي الحسن ما يُعطيني منه جائزة أو عطيّة وليس عندي بحمد الله حاجة إليها، فأنا أقول ما أقول صادقاً لا متزلفاً. إن أكثرنا يجهل تاريخنا في الهند. وتاريخ الإسلام في الهند يعدل ربع التاريخ العامّ، ذلك أننا -كما قلت من قبل- حكمنا هذه القارة الهندية نحواً من ألف سنة، وكانت يوماً لنا وحدنا وكنا نحن سادتها. ولئن كانت لنا في إسبانيا أندلس أضعناها فإن لنا هنا أندلساً أكبر، ولئن تركنا في الأندلس تلالاً من بقايا شهدائنا وسواقي من دماء أبطالنا فلقد خلّفنا في الهند أضعاف ما تركنا في الأندلس. ولئن كان لنا في الأندلس مسجد قرطبة وقصر الحمراء فإن لنا في كل شبر من هذه القارة دماً زكياً أرقناه، وحضارة خيّرة وُشّيَت جنباتها وطُرّزت حواشيها بالعلم والعدل والمَكرُمات والبطولات. وإن لنا فيها معاهد ومدارس كم أنارت عقولاً وفتحت للحقّ قلوباً، ولا تزال تفتح القلوب وتُنير العقول. وإن لنا فيها آثاراً تفوق بجمالها وجلالها «الحمراء»، وحسبكم «تاج محل»، أجمل بناء علا ظهرَ هذه الأرض. ولقد وصلت دهلي وأقمت فيها زمناً، وكانت أكرا (التي فيها تاج محل) على مرمى حجر منا كما كانوا يقولون، ولكنني لم أزُرها ولم أرَها. وقد كتبت عنها مع ذلك ما أحسب أنه لم يُكتب مثله إلاّ قليل. كان مما قلت: وكان لشاه جيهان زوجة لا نظير لحسنها في الحسن ولا مثيل لحبّه إياها في الحب، هي ممتاز

محل، فماتت. فرثاها، ولكن لا بقصيدة من الشعر، وخلّدها، ولكن لا بصورة ولا تمثال؛ لقد رثاها فخلّدها بقطعة فنية من الرخام ما قال شاعرٌ قصيدةً أشعر منها، فهي شعر وهي أغنية وهي صورة، وهي أعظم تحفة في فنّ العمران، هي تاج محل. هذا البناء العجيب الذي أدهش بجماله الدنيا، وما زال يدهشها، والذي لان فيه الرخام لهذه الأيدي العبقرية فجعلت منه أجملَ بناء شيد على ظهر هذه الأرض بلا خلاف، ونقشته هذا النقش الذي لم يُعرَف نقش في مثل دقّته وسحره. هذا الذي يأتي اليومَ السيّاحُ من أقصى أميركا ليشاهدوه ويسمعوا قصته، وهي أعظم قصص الحب: لقد صدع موت هذه الزوجة الحبيبة قلبَ الإمبراطور، فزهد في دنياه لأنها كانت هي دنياه، وحقر ملك الهند لأنها كانت عنده أجلّ من مُلك الهند، ولم يعُد له أرب بعدها إلاّ أن يملص من حاضره ويوغل بذكرياته في مسارب الماضي ليعيش بخياله معها، ينشق عطرها ويستجلي جمالها، ويسمع خفيّ نجواها ويحسّ حرارة أنفاسها، ثم استحال حبُّه إياها حباً لهذا القبر الذي شاده لها فجُنّ به جنوناً، وصار يحسّ في برودته حرارتها، وفي جموده خطراتها، وفي صمته حديثها، إلخ (¬1). وقد قرأت الكتابين اللذين وصلا إليّ مما ألفه والد السيد أبي الحسن، كتاب «نزهة الخواطر» الذي جمع فيه من سِيَر أعلام الهند ومَن نشأ فيها ما لم يجمعه كتاب غيره، فهو يُغني في هذا ¬

_ (¬1) من مقالة «بقية الخلفاء الراشدين»، وهي في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

الباب عن كل كتاب ولا يُغني عنه كتاب. وكتابه الآخر الذي نشره المجمع العلمي في دمشق وسمّاه (أي المجمع) «ثقافة الهند»، والذي أودعه المؤلف ما لا يستطيع مثلي أن يجده في خزانة كاملة يكبّ عليها يطالع ما فيها. لقد تعلمت من هذين الكتابين ومن زيارة الهند منذ ثلاثين سنة (أي سنة 1954) أننا بجهلنا تاريخَ الإسلام في الهند إنما نجهل ربع تاريخنا. * * * كتاب الأستاذ أبي الحسن ليس سرداً لأحداث حياته، ولكنه كتاب أدب فيه وصف للأمكنة كأنك تراها، وكتاب علم فيه ذكر العلماء ومجالس العلم، وسجلّ اجتماعي فيه وصف عادات الناس وأوضاعهم في الهند ... وكان مما قرأت عن المكان الذي نشأ فيه أنه بُني على طراز الكعبة بطولها وعرضها، إلاّ أنه نُقص من ارتفاعها عدّة أنامل تأدّباً معها واحتراماً لها، وسُقيَت قواعده بماء زمزم! ولم يقُل ماذا أرادوا بذلك، ولم يدّعِ أنه قربة إلى الله أو أنه عمل مشروع، لذلك لا أقول فيه شيئاً، لا أُقِرّه ولا أُنكِره وإنما أرويه وأذكره. وكان هذا البناء مسجداً ورباطاً ومدرسة ودار تدريب على الجهاد، ولم يجعلوا له -كما يقول- قبّة ولا منارة. ووصَفَ النهرَ الذي يجري تحته فإذا هو يصف (أو كأنه يصف) نهر بردى، في قلّة مائه في الصيف وأنه إذا هطل المطر وكانت السيول هدر وزمجر، وربما طغى ودمّر. ويصف فيضانه العظيم سنة 1915 (وكان عقب ولادة الشيخ) يصفه وصفاً حياً

كأنك تراه، ذكّرني ببردى لمّا فاض مثل ذلك الفيضان سنة 1918 فملأت مياهُه مدرستَنا وصارت مقاعدنا كالزوارق طافية على وجه الماء ونحن نتعلق بها، وكان يوماً من أجمل أيام حياتي في الصغر. وكنت في آخر الدراسة الابتدائية، وأنا قد سبقت الشيخ أبا الحسن في رؤية هذه الدنيا ولكنه سبقني في بلوغ ذُرى الفضائل فيها. أرأيتم الذي يمسك طبق الأكلة المفضلة لا يستطيع أن يدَعه، والأكل منه يُتخِمه ويملأ معدته بما لا يهضمه؟ أنا ذلك الإنسان مع كتاب الشيخ. لو استمررت أقرأ فيه وأعلّق عليه لَما انتهيت حتى أجيء بمثله (في حجمه لا في فضله وعلمه)، ولا ألخّصه لأن مَن اختصر كتاباً أو لخّصه أساء إلى مؤلّفه. إن أعظم قصص الحب الأدبية يمكن أن تُلخَّص في كلمتين: رجل تعلّق بامرأة فاجتمع شمله بشملها أو صرفه صارف عنها، إن كانت الأولى فهي قصة بهيجة يطمئنّ القارئ إليها، وإن كانت الأخرى فهي فاجعة أو مأساة يبكي منها. بل إن أعظم ما يتلو البشر من قصص، قصة يوسف التي نزل بها جبريل الأمين على قلب سيد المرسلين، والتي هي كلام الله لا يدانيه ولا يقاربه كلام بشر، لو أردت أن تلخّصها لقلت إن يوسف ألقاه أخوته في الجبّ فضاع منهم ثم وجدوه، وحزن أبوه لمّا فقده ثم سُرّ لمّا وجده. أليست هذه خلاصة السورة كلها؟ فما الذي يبقى منها إن لخّصتها؟ وأنا أستغفر الله أن يُفهَم مني أني أقتبس كلام الخالق بكلام المخلوق، وإنما هو مثَل ضربته للناس. لقد كلّفني الأستاذ أبو الحسن في غرة سنة 1385هـ وشرّفني

بأن أقدّم كتابه، «الطريق إلى المدينة»، فلم أجد فيه يومئذ من المشقّة ما أجد اليوم لأنه موضوع محدود، وقد كنت سلكت طريق المدينة قبله حين جزعنا الصحراء سنة 1353 ولقينا الأهوال ورأينا الموت عياناً، لمّا جئنا نكشف هذا الطريق الذي تسلكه السيارات اليوم آمنة مطمئنة، يقطعه راكبها مستريحاً مسترخياً يلفّه الهواء المبرَّد في الصيف والمدفَّأ في الشتاء، فيصل بعد يوم واحد من دمشق إلى مكة وقد قطعنا نحن هذه المسافة في ثمانية وخمسين يوماً! امتثلت يومئذ الأمر وكتبت، وستر الله ومرّت القضية بسلام. أما الآن فأنا أمام حياة كاملة، وحياة مَن؟ حياة أبي الحسن النَّدْوي، الداعية الكاتب المحاضر الأستاذ الذي كان له في كل بلد إسلامي ذِكر، وله فيه أصدقاء ومعارف، وله فيه مآثر ومناقب. فمَنذا الذي يقدر أن يلخّص حياة أبي الحسن في مقالة؟ إلاّ الذي يجمع البحر في قطرة ويختصر الروض في زهرة. ولو كنت أسنَّ منه وكنت في بلده وشهدت بدايته لكتبت عنها، ولكن الذي بيني وبينه في العمر ستّ سنوات، ثم إن بيني وبينه ما بين الهند والشام. أين الهند من الشام؟ لقد كانت أول معرفتي بأبي الحسن من كتابه «ماذا خسر العالَم بانحطاط المسلمين؟». لمّا رأيت هذا الكتاب لم أكن أعرف مؤلّفه فقلت: من هذا الباحث الهندي الذي يكتب بمثل هذا الأسلوب العربي النقي ويُحيط بأحوال المسلمين هذه الإحاطة؟ ثم علمت أنه هندي المولد ولكنه عربي الأرومة، وكم من العرب الأقحاح الذين عُرفوا بألقاب فارسية أو أعجمية. ولو أن أحدكم

وضع مخطَّط بلاد فارس وقرأ أسماءها لم يجد بلداً إلاّ ومنه علماء وأدباء كثير ملأت أسماؤهم كتبَنا واستقرّت في أذهاننا: التبريزي والشيرازي والقَزويني والجُرْجاني والهَمَذاني والرّازي (نسبة إلى الري، وهي قرب طهران) والطّبَري (نسبة إلى طبرستان، أما النسبة إلى طبريّا فطَبَراني) والشَّهْرسْتاني والنّيْسابوري والإسفراييني، ومَن لست أُحصيهم عداً، ومن هؤلاء كثير من العرب الخُلّص. وحسبكم بمؤلف «الأغاني» الذي يُدعى الأصفهاني، وهو أموي مرواني صريح النسب من خلاصة العرب. ولقد جمعتُ أسماء هؤلاء لأضعها في كتاب، ثم علمت أن أحد الأدباء قديماً ألّف كتاباً في العرب الذين لُقّبوا بألقاب العجم، ولم أرَ الكتاب ولم أعرف مؤلّفه، فمن كان عنده علم به فليتفضل وليخبرني. وكنت أحسب أن «النَّدْوي» لقَب أسرة يجمع بين أفرادها النسب، وكنت أسأل: ما قرابة السيد سليمان الندوي (الذي كان من أعاظم من كتب في السيرة) والسيد مسعود الندوي (محرّر مجلة «الضياء»، إحدى المجلات الإسلامية الواعية) والسيد أبيالحسن؟ ثم علمت فيما بعد أنهم لا يجمع بينهم النسب، وإنما يجمع بينهم العلمُ والأدب وهذا المعهدُ الذي ينتسبون إليه. لم ينته الكلام وتتمّته تأتي إن شاء الله. * * *

أبو الحسن الندوي (2)

-221 - أبو الحسن النَّدْوي (2) أنا لا أعرف أهل معهد أو مدرسة لهم تعلُّق بمعهدهم أو مدرستهم كتعلق النَّدْويين بنَدْوتهم، ينتسبون إذا انتسبوا إليها لا إلى آبائهم، ويجتمعون عليها أكثر مما يجتمع أفراد الأسرة على أنسبائهم، فكل مَن دخلها حمل لقب «النَّدْوي» فعُرف به لا بلقب أهله. لا أعرف مثل ذلك إلاّ للأزهر، الذي انتسب إليه مِن طلبة العلم فيه جماعة فصاروا يُعرفون في بلادهم ويُعرف بنوهم من بعدهم بآل الأزهري. أما «الأزهر» فشيخ طال به العمر ومرّت به الأحداث والغِيَر، أُقيمَ أولاً لغير الحقّ فأبى الله إلاّ أن يجعله للحقّ، وأن يكون مثابة العلم حين مرّت بالمسلمين عصور أقفرت فيها من أهلها منازل العلم، منها ما أُغلقت أبوابه وأُطفئت مصابيحه، وبقي الأزهر مفتَّح الأبواب ساطع الأنوار، يقصده الشباب والطلاّب من كل بلد من بلدان المسلمين. ثم أدركه الكِبَر ووَنَت منه الخُطا فقصر عن مسايرة الجامعات والمعاهد، فجاؤوا بالأطباء ليعالجوه، فسمعوا شكواه وعرفوا أوجاعه، ولكنهم (إما لنقص في علومهم، أو لغرض في نفوسهم، أو لرغبة أبداها لهم مَن كان إليه أمر انتخابهم

واختيارهم) لواحد من هذه الأسباب رأوا أن يُريحوه بالسمّ يدسّونه له في الدواء، فإذا الأزهر الذي بقي أكثر من ألف سنة يحمل مشعل العلم فيضوّئ للسالكين السبيل، والذي أُقيمَ بأموال الأوقاف التي وقفها نفرٌ من المسلمين لتعليم أولاد المسلمين، والذي كان فحل الجامعات لأنه الجامع وهي جامعات ... إذا الأزهر الذي يجرّ وراءه أمجادَ عشرة قرون تكسّرت أمواجُها على جدرانه كما يتكسّر عاتي الموج على صخور الشاطئ، فيقعد الموج ويبقى الجدار قائماً، إذا الجامع الأزهر المتفرد وحدَه بتلك المزايا قد مات وهو كامل الأعضاء واقف على قدميه، وإذا هم قد أقاموا مكانه جامعة لا تمتاز من أي جامعة في الدنيا، بل تكاد تقصر عن كثير منها! كان الأزهر للدين والدنيا، فجعلوه للدنيا، وكان لأبناء المسلمين يتعلمون فيه دينهم أولاً، لأنه بُني بأموال المسلمين بدافع من الدين لرضا ربّ العالمين، فصار ... وأنتم أدرى بما إليه صار. أمّا «الندوة» فمثل الشابّ الناشئ في طاعة الله؛ ما لها قِدَم الأزهر ولا لها مثل أمجاده، ولكنها أُسّست من أول يوم على التقوى؛ رُسم لها الطريق السوي فمشت فيه، لا الطريق انحرف بها عن الغاية ولا هي قد تنكّبَت الطريق. كانت طريقاً وسطاً بين الأزهر بعدما شاخ وتخلّف شيئاً قليلاً عن الركب ومعهد ديوبَنْد في الهند الذي أقيمَ على غراره ومشى يتبعه في مساره، وبين جامعة عُلَيكرة التي أنشأها أحمد خان لتساير الزمان؛ فلم تجمُد «الندوة» جمود ديوبند والأزهر

القديم، ولم تَسِل وتَمِع ميَعَان عليكرة، بل أخذت من طرفَي الأمور بأحسنها وكانت تجرِبة كتب الله لها النجاح. وكان المثل الأكمل لهذه الطريقة هو أبو الحسن؛ أمسك الخَيرَين باليدين، فما أضاع القديم ولا أهمل الانتفاع بالجديد. وإذا كان أول ما يؤخذ على أكثر علمائنا ومشايخنا والدعاة إلى الله منا أن جمهورهم لا يُحسِن لغة أجنبية، فأبو الحسن يُتقِن ثلاث لغات إتقاناً كاملاً، الثلاث التي هي أكثر أَلسُن الأرض ناطقين بها: العربية والأوردية والإنكليزية، ويعرف فوقها الفارسية. وإذا كان الشاعر القديم صادقاً حين قال: «فكلُّ لسانٍ في الحقيقةِ إنسان»، فأبو الحسن ثلاثة في واحد. لا أقول إنه كتثليث النصارى، تعالى الله لا إله إلاّ هو الربّ الواحد، بل أقول إنه جمع الفضل مثلثاً. وإذا كان منا من يدفع أحياناً دين ولده وخلقه ثمن تعلُّم اللغات (والإنكليزية خاصة) فإن أبا الحسن تعلّمها في بلده من غير أن يفارق أهله. وما ذاك بالمستحيل، فإن أخي الدكتور عبد الغني الأستاذ الآن في جامعة أم القرى، الذي ابتُعث إلى باريس ليدرس الرياضيات في السوربون سنة 1938، أي قبل نصف قرن، ما كان يعرف كلمة من الإنكليزية. فلما كسدت سوق الفرنسية وتمّت الغلبة للإنكليزية عليها درَسها بنفسه من غير معلّم حتى صار يقرأ نصوصها ويعرف قواعدها، بل درس بعد ذلك الألمانية وحده وأتقنها. فما لنا نولي اللغة الإنكليزية من الاهتمام أكثر مما لها؟ كنت مرة في زيارة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمة الله عليه، فوجدت عنده تاجراً من تجار الشام المعروفين يريد أن يبعث بولده

الذي لم يُكمِل التاسعة عشرة، وهو شابّ عزب، إلى إنكلترا ليتعلم اللغة فيها. فحاولت أن أبيّن له مخاطر ما هو مُقدِم عليه، وهو يجادلني يُصرّ على أن الإنكليزية ضرورة له في عمله. فقلت له: ناشدتك الله أن تصدُقني، وأنا لا أعرفك إلاّ صادقاً. لو كان في البلد الذي تبعث به إليه مرض سارٍ احتمالُ أن يُصاب به عشرة في المئة، أكنت مرسله أم كنت تقول إن الصحة أثمن من تعلُّم الإنكليزية؟ فتردّد قليلاً ثم قال: لم أكن إذن مرسله. قلت: فلماذا لا تهتمّ بدين الولد وأخلاقه مثل اهتمامك بصحّته، واحتمال أن يُصاب في دينه ثمانون في المئة لا عشرة؟ واللغة العربية أكمل اللغات ما عرفها التاريخ إلاّ كاملة، حتى تعجّب من ذلك أرنست رينان. وهي أوسع اللغات، ولا يغرنّكم أن في القاموس المحيط ستين ألف مادة وفي لسان العرب ثمانين ألفاً وأن المعاجم الإنكليزية فيها مئات الآلاف، لأن مثلنا ومثلهم مثل رجل له سبعة أولاد فقط، لكنهم خرجوا جميعاً من صلبه وولدتهم امرأته، وآخر عنده مئة ولد ولكنهم لقطاء وملمومون لمّاً من الملاجئ والشوارع. العربية كبنت الأصل المعروفة النسب، لذلك نفهم اليوم شعر المهلهل وعُدَيّ بن زيد، وكثير من شعراء الجاهلية الذين كانوا قبل ألف وخمسمئة سنة، بل نفهم الأفْوَه الأَوْدي إذ يقول: لا يَصلُحُ الناسُ فوضى لا سُراةَ لَهُمْ ... ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا والبيتُ لا يُبتنى إلاّ لهُ عَمَدٌ ... ولا عِمادَ إذا لم تُرسَ أوتادُ

نفهم هذا الكلام مع أن صاحبه، أي الأفوه الأودي، كان كما يقولون يعيش في عهد قريب من عهد المسيح بن مريم عبد الله ورسوله، صلّى الله عليه وعلى جميع رسله. فهل يفهم الإنكليز اليوم شعر مَن كان قبل شكسبير؟ وهل يفهم الفرنسيون شعر القرن الثالث عشر الميلادي؟ لقد قُلت من قديم كلمة تناقلها الناس وقرّظها وأيّدها أستاذنا عزّ الدين التنوخي، هي أن العربية تأتي في الدرجة الأولى، أمّا الدرجة الثانية والثالثة فشاغرتان فارغتان، وفي الدرجة الرابعة الفرنسية والألمانية معاً، أما اللغة الإنكليزية فتجيء متأخرة في المرتبة. وأنا لا أعرف منها إلاّ ثلاث كلمات: إذا أردت أن أرجو أحداً ذكرت اسم «إبليس»، وإن أردت أن أرحّب به قلت له: «ويلَكُم»، وإذا سألت عن شيء قلت للبيّاع: «هَمَج»! وفهمت أنها لغة ليس لها قواعد مضبوطة، وأن أكثرها سماعي، وأن فيها حروفاً تُقرأ تارة على شكل وتارة على شكل آخر؛ فهي لغة عرجاء، ولكن يقظة قومها سيّرَتها في أرجاء الأرض وجعلَتها اللغة الأولى. ولست أدري لماذا يُدرس الطب والهندسة في كثير من بلدان العرب بالإنكليزية، وهو يُدرس في الشام من أكثر من ستين سنة باللغة العربية فما ضاقت به ولا عجزَت عن أداء ما تحتاج هذه الدراسة إليه. وقد نهض بهذا العبء جماعة من الأساتذة مضوا جميعاً إلى رحمة الله، ما قامت به حكومة ولا قامت به مؤسسة. وأنا أذهب في ذلك مذهباً وسطاً، هو أن تدريس الطبّ يقتضي استعمال كلمات من اللغة العامّة وكلمات هي مصطلحات

خاصة بأهل الطبّ، فما كان من اللغة العامة (كأسماء أعضاء الجسد وشرح عمليات الجراحة ووصف مكانها وإعداده لها) هذا وأمثاله ندرسه بالعربية، وهذا ما عليه الأمم كلها. هل يدرّس الفرنسيون طلابَ الطبّ عندهم بالإنكليزية؟ أو الإنكليز بالفرنسية؟ أو الألمان بالطليانية؟ أمّا المصطلحات فما كان منها عالَمياً فإننا نلقّنه كما هو، لئلاّ نقطع ما بين الطبيب إذا تَخرّج وبين الاستزادة من العلم. * * * وأنا أقول هذا هنا لأن أخانا أبا الحسن، فوق عنايته بالدعوة إلى الله وأنه ركن من أركانها وعضو ظاهر من أعضائها، يهتمّ بالأدب الإسلامي، وقد أنشأ له هو وأخونا الأستاذ عبد الرحمن رأفت الباشا (رحمة الله عليه) وآخرون رابطةً تربط أهله، تجمعهم وتشدّ من أزرهم وتُعينهم في أمرهم. ولا يزال في الناس من يختلط عليه أمر تعريف «الأدب الإسلامي»، ويُدخِل فيه كتابات إسلامية ليست أدباً وكتابات أدبية ليست موافقة للإسلام. والذي أفهمه أنا بذهني الكليل وفهمي القليل، أن الأدب الإسلامي هو ما كان أدباً مستكملاً شرائطه جامعاً عناصره، سواء في ذلك أكان قصيدة أم كان قصة أم كان مسرحية أم كان رواية، فالشرط فيها أن تكون بالميزان الأدبي راجحة لا مرجوحة، وأن يكون الأثر الذي تتركه في نفس قارئها إذا انتهى منها مرغّباً له في الإسلام دافعاً له إلى الاقتراب منه. لا أن تكون بحثاً فقهياً ولا تاريخياً، ولا شرح حديث ولا تفسير آية،

فهذا كله ليس أدباً وإن كان شيئاً أغلى وأثمن وأعلى من الأدب. ولقد كنت ممن دعا الأستاذ أبا الحسن إلى تأليف كتاب «روائع إقبال»، ذلك أننا ما زلنا نسمع بإقبال، وبأن له شعراً علا فيه حتى وصل إلى طبقة قلّ مِن الشعراء مَن يصل إليها أو يحلّق فيها، ثم نقرأ ما تُرجم منه فلا نجد فيه مصداق ما سمعنا. ورأيت أنّ أقدر من يستطيع أن ينقله إلينا أبو الحسن، لأنه متمكن من اللسانين أديب في اللغتين، في العربية وفي الأوردية. وصدر الكتاب، وإذا هو لم يترجم قصائد إقبال ولكنه لخّصها، ولولا أن أُغضِب أباالحسن (وأنا واثق أن الحقّ لا يُغضِبه إن شاء الله) لقُلت إننا لا نزال في حيرتنا نردّد سؤالنا وننتظر من ينقل شعر إقبال إلينا. وما ذلك عن تقصير من أبي الحسن، لأنني لمّا بلغت لكنو وقابلته قلت له إن صديقنا علي حيدر الركابي (ابن الفريق رضا باشا الركابي الذي بلغ في الجيش العثماني قديماً رتبة لم يبلغها عربي غيره، رحمة الله عليه وعلى ولده علِيّ) كان قد نقل إليّ معاني قصيدة سمعت الثناء عليها، هي «مقبرة القرية» للشاعر الإنجليزي غراي، فلمّا فهمت هذه المعاني تصوّرت أنها لي، فصغتها صياغة أدبية لا أخرج فيها عنها ونشرتها في الرسالة سنة 1935 (¬1)، فعلّق عليها كثير واستحسنوها، وقالوا إنها من باب ترجمة فيترجرالد «رباعيات الخيام» إلى الإنكليزية. فطلبت من الأستاذ أبي الحسن أن يختار لي تلميذاً من ¬

_ (¬1) وهي في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).

تلاميذه النابغين الذين يعرفون اللسان الذي كان يَنظم به إقبال ويُحسِنون العربية، فاختار لي واحداً أغلب الظنّ أنه الأستاذ محمد الرابع الندوي وهو ابن أخته، وكان ذلك من ثلاثين سنة وقد صار الآن أستاذاً كبيراً. فسألته أن يختار لي من أجود قصائد إقبال، فاختار واحدة عنوانها كما أذكر «نداء الجبل» أو شيء قريب من هذا، وترجمها لي ترجمة حرفية حاول أن يوضحها. فلم أفهمها، وما فهمته منها ما استطعت أن أسيغه ولا أن أبتلعه فضلاً عن أن أهضمه، وفكّرت في ذلك فوجدت أن ترجمتها غير ممكنة لأن الذوق العربي لا يستطيع أن يقبلها. إن ذوقنا أقرب إلى الوضوح، فإن عمدنا إلى بعض التغطية الفنية (إن صحّت هذه التسمية) جئنا باستعارة، فإن زدنا مزَجنا بها كناية وأتينا بهما معاً، فسمّيناها استعارة مكنية. فإذا أنا أرى في لغة هذه القصيدة (وأحسبها الفارسية) أن إقبالاً يكاد يُدخِل فيها ثلاث استعارات في ثلاث كنايات، وهذا ما لا يمكن التعبير عنه بلغة العرب، ولو استطعنا أن نعبّر عنه ما فهموه ولا تذوّقوه. * * * قلت لكم إني لمّا قرأت وصف أبي الحسن لبلدة أسرته الأولى رايلي بريلي، وهي تبعد عن لكنو مسافة القصر أي ثمانين كيلاً، ذكرت بردى ورأيت فيها شبهاً منه، فلما زرت لَكْنَو جعلت كلما مشيت فيها أو نظرت إليها أجد ذكرى دمشق ماثلة أمامي. ولعل من تتمّة الكلام أن أذكر كيف لقينا أبا الحسن في لكنو. كان ذلك في رحلة المشرق التي مرّ في ذكرياتي كلام كثير عنها،

لقد زرنا من مدن الهند أربعاً هي: بومباي وكلكتا ودهلي (التي يسمّيها الإنكليز دلهي بتقديم اللام) ولكنو. ولقد كنت أذكر اسم لكنو مرة أمام جماعة من أهل الفضل فما عرفها منهم أحد، فقلت لهم إنها مدينة أبي الحسن الندوي فعرفوها. فكيف تريدون مني أن أعرّف القراء في هذه المقدّمة برجل هو أشهر من بلده، حتى إنها لتُعرَف به قبل أن يُعرف بها؟ كنا أنا والشيخ أمجد كلما جئنا بلداً وجدنا مَن يستقبلنا فيها ويدلنا ويأخذ بأيدينا، فلما وصلنا لكنو وصلناها مطمئنَّين لأنها بلد صديقنا الحبيب أبي الحسن، فيها داره، ومن دخل بيت صديقه فقد دخل بيته. ولكنا لمّا وصلنا لم نجد في استقبالنا أحداً، لأنهم ترقبوا وصولنا بالقطار وانتظرونا في المحطة لم يقدّروا أن نأتي بالطيارة. ولم نكن نعرف لسان القوم لنكلمهم به فوقعنا في لُجّة ما معنا فيها سفينة، ولا نحن ممن يحسن السباحة، فكيف ننجو منها؟ كيف نُقيم في بلد لا نعرفه ولا نعرف فيه أحداً ولا نُحسِن النطق بلسان أهله؟ فرجعت إلى لغة الخرس، لغة البشر الأولين، بعد أن تفرّقوا في البلدان ونسوا الأسماء كلها التي علّمها الله أباهم آدم، وشرعوا يتعلمون النطق من جديد يُصدِرون أصواتاً يوضّحونها بإشارات، فإذا فُهم مرادهم منها وعادوا إلى مثلها استغنوا بالصوت عن الإشارة، فنشأت كلمات تراكم بعضها على بعض فكانت الألسن واللغات (¬1). ¬

_ (¬1) هذا توفيق بين ما يذكرون من نشأة اللغات وما خبّر الله به في القرآن: {وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها}.

ومن الكلمات ما يُفهم في كل مكان، منها كلمة أوتيل (وإن كان الإنكليز يلفظونها «هُطِل» بضم الأول وكسر الثاني، ووقعت لي في هذا حوادث ستأتي عندما أتكلم في ذكرياتي عن الهند إن شاء الله). فلما قلت كلمة «أوتيل» وفهموا عني علمت أن مكتب شركة الطيران التي جئنا معها في فندق كبير في القسم الجديد من المدينة، الذي يُدعى إن صحّ ما أذكر «حضرت كنج». وكنج كما علمت هو النهر المقدس، ويمرّ من لكنو. وما عندنا نحن المسلمين شيء مقدس لذاته ولكن عندنا أمكنة وردت الآثار بأنها أفضل من غيرها. وبلغنا الفندق، وكان من الفنادق الكبيرة، له غرف واسعة جداً وأمامها سطح أوسع منها يُطِلّ على منظر من أجمل المناظر التي رأيناها، تظلّله أشجار من أضخم ما رأيت في عمري من الأشجار، والقردة تلعب على أغصانها وتمرح فيها. ومن عجائب المناظر أن الوليد منها يتعلّق ببطن أمه ثم تقفز به القفزة الهائلة من غصن إلى غصن. واستطعنا بالإشارة أن نأخذ أحسن غرفتين في الفندق. وصعدنا إليهما تحت الأمطار، وأمطارُ الهند كأمطار مكة، ولكنها لا تستمرّ مثلها ساعة أو ساعتين، بل استمر هطولها اليوم كله والليلة التي جاءت بعده. وأصبحنا من الغد والمطر نازل لم ينقطع ولم يخفّ ونحن محبوسان في الفندق، لا المقصد الذي جئنا من أجله حققناه ولا صديقنا الندوي وجدناه، فضاق صدر الشيخ أمجد وطفق يأمرني بأن آخذه إلى أبي الحسن، يكرّر الأمر يلين به تارة ويشتدّ به أخرى، يكرّره ثلاث مرات كل نصف ساعة!

وأنا حائر لا أريد أن أُغضِبه، ولا أعرف الطريق إلى أبي الحسن، ولا أعرف لسان القوم لأسألهم عنه، ولا أجد حولي من يفهم عني فيترجم لي. فلما نفد صبره قلت: أنا ذاهب أفتّش عنه. وما كنت أدري أين أفتّش عنه في بلد كبير، فأخذت سيارة وأشرت إلى السائق أن يمشي بي، وأنا أتأمل وجوه الناس، والسيارة تلفّ الشوارع والعداد يعدّ عليّ، وكلما عرض لنا مفرق طريقين أخذت الأيمن منهما، لست أدري إلى أين يوصلني، واسم الفندق معي حتى إذا يئست رجعت إليه. ما زلنا نمشي حتى لمحت وجه شابّ وقع في قلبي أنه مسلم. وللمسلم نور في وجهه يُدرِكه المسلم، فوقفتُ السيارةَ وأشرت إليه، فأقبل عليّ فقلت له: السلام عليكم ورحمة الله. فأجاب بلسان عربي متين: وعليكم السلام ورحمة الله. فقلت له: أتعرف أبا الحسن الندوي؟ وكان لقاؤه في تلك الساعة أحب إليّ من عطيّة كبيرة أُعطاها وكان هو طلبتي ومقصدي. قال وقد انطلقت أساريره وبرقت عيناه: نعم، وأنا من تلاميذه، فهل أنت الشيخ أمجد أو الطنطاوي؟ قلت: نعم، أنا الطنطاوي. فأقبل عليّ معانقاً ومرحّباً، وتعانقنا وتصافح قلبانا. وأذكر أن اسم الفتى كان عبد المحسن، أحسن الله إليه إن كان حياً ورحمه إن كان قد سبقنا إلى لقاء الله، وأخذني إلى الندوة. أرأيتم الضالّ في الصحراء جوعان عطشان قد هدّه وبرّح به التعب وكاد يصل إلى حافّة اليأس، وإذا هو أمام مضارب أهله

ومنازل ذويه؟ أنا ذلكم الرجل. لقد كانت هذه إحدى الفرحات التي فرحها قلبي طول عمري. ولقيت أبا الحسن وصحبه وتلاميذه. ولا تزال بقايا تلك الفرحة تشرق في نفسي إلى الآن كلما ذُكرَت أمامي لكنو، أو سمعت اسم الندوة أو اسم أحد من أهلها. كنت مرة في مقابلة إذاعية في الرائي (في التلفزيون) فسألني المحدّث (وأحسبه كان الأستاذ ماجد الشبل) عن المكان الذي أتمنى أن أقضي فيه بقية أيامي، قلت: إن لم أستطع أن أعود إلى بلدي، وبلدي دمشق، ولم أقدر أن أبقى بجوار بيت الله هنا في مكة، فإن أحبّ مكان إليّ هو لكنو، وأن أقيم في معهد ندوة العلماء، فأجمع فيها بين الظلّ والماء وصحبة العلماء. وللحديث بقية. * * *

أبو الحسن الندوي (3)

-222 - أبو الحسن الندوي (3) أمّا دمشق فلأنها التي أبصرتُ الدنيا أول مرة من خلالها وأول أرض مسّ جسمي ترابها. نقّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ مِنَ الهوى ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأوّلِ ولولا ما ركّب الله في النفوس من حبّ الأوطان لهُجر كثير من البلدان، واجتمع الناس كلهم حيث الحياض والرياض وأماكن الجمال أو الكسب والربح وجمع المال، ولَما رأيت شامياً يهاجر إلى نيويورك فيبقى فيها عشرين سنة لا يرى نفسه فيها إلاّ غريباً مسافراً نازلاً في فندق كبير، يحنّ أبداً إلى قريته قد اجتمعَت أمانيه في العودة إليها، وما قريته إلاّ عشرون بيتاً من الحجر حول نبع في رأس جبل دون بلوغها تسلُّق الصخر وسلوك الوعر، ما فيها سوق عامرة ولا عمارة عالية ولا تسليه عنها أسواق نيويورك ولا عماراتها، وإذا عاد إليها ألقى عصاه واستقرّ به نواه. لذلك قرن الله في القرآن القتل بالإخراج من الديار. وإذا كان

فراق الدنيا هو الموت فإن دنيا الإنسان الصغرى وطنه، وإن فارقه وأُخرجَ منه فقد مات الموت الأصغر. ولكن إذا جاء الدين هان في سبيله كل شيء حتى حبّ الديار، لذلك يؤثر كل مسلم حرم الله في مكة على بلده، وإن رآه قد حاق به المكروه افتداه ببلده وآثر أن يسلم بيت الله ولو كان ثمن سلامته خراب بيته. أمّا لكنو التي فيها ندوة العلماء فلقد حلَت صورتها في عيني لمّا رأيتها، فلما خبرتها ازدادت حلاوة على حلاوتها. ولست أدري هل الصورة التي في ذهني هي صورتها حقيقة أم هي كاللوحة الفنية، لا تصف الحقيقة كما تصفها الصورة الشمسية (الفوتوغرافية) ولكنها على ذلك أثمن منها، تُباع بالآلاف على حين لا تُشترى الشمسية بأكثر من العشرات، ذلك لأنها لا تنقل للمشاهد الواقع وحده بل تنقل إليه عواطف الذي صوّرها وخياله وأمانيه ونظره إلى الكون. وأنا لست بالمصوّر البارع الفنان، ولكني أحاول أن أصف بالقلم واللسان بعض ما يصفه بالخطوط والألوان. ولم يرغّبني في دار الندوة جمال منظرها وحده، ففي الأرض مناظر كثيرة فيها ما ليس في لكنو من ألوان الجمال، بل لأن المثُل العليا التي يطمح البشر إليها والدنوّ منها من قديم الأزمان إلى الآن هي الحقّ والخير والجمال، والثلاثة فيها: الجمال في موقعها، والخير في أهلها، والحقّ في الغاية التي تعمل لها وتسعى إليها. يقول الناس (ونقول معهم) إن الدعوة الإسلامية المنظَّمة

بدأت بإنشاء جمعية الشبان المسلمين في مصر سنة 1346هـ، وقد كنت يومئذ أحدَ الشبان الذين كان لهم شرف شهودها، والذين بقي منهم أطال الله أعمارهم الإخوة الأساتذة عبد السلام هارون وعبد المنعم خلاف ومحمود شاكر. وإنشاء الجمعيات الإسلامية والعمل المنظَّم في الدعوة خير لأنه من باب التعاون على الخير، والله قال لنا في آية واحدة {وتعاوَنوا} وقال {ولا تعاوَنوا}: {وتَعاوَنوا على البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدوانِ}. وأنا لا أذمّ الاجتماع ولا آباه، ولكن الذي آباه وأذمّه هو أن يُتّبع في العمل الإسلامي أسلوب الأحزاب السياسية. ولقد كان قبل إنشاء جمعية الشبان وقبل ظهور جماعة الإخوان، كان حول الشيخ تلاميذ مرتبطون به، يعمل ويعملون غالباً على ما يُرضي الله، يمشون (إلاّ من انحرف منهم) على المحجّة البيضاء، يحسب كل من تلاميذه أنه أخصّهم به وأقربهم إليه. فلما اتبعَت بعض الجماعات أسلوب الأحزاب وجعلوا لها رئيساً وجعلوا لها وكيلاً، وأنشؤوا لها مجالس وكانت مناصب وألقاب، ازدحموا على هذه المناصب وتسابقوا إلى هذه الألقاب، فجرّ ذلك إلى ما تعرفون من الانشقاقات والاختلافات. ثم إن بعضها مال إلى السياسة كل الميل. والإسلام لا ينفصل عن السياسة إلاّ إن انفصلت سورة الأنفال وسورة براءة (وهما في السياسة الدولية) عن القرآن، ولكن السياسة في الإسلام كمَن يرى ميدان المعركة من نافذة الطيّارة، يُحيط بصره بها وربما أدارها بالهاتف ووجّهها، ولكنه لا ينزل إلى أرضها ولا يشارك

فيها لا يسابق إلى غنائمها. ولعلّي لم أحسن التمثيل، فلا تناقشوني فيه، «فليس من دأب المحصِّل المناقشة في المثال» كما كان يقول مشايخنا. ومنها جماعات جعلت كلّ همّها في دعوى تهذيب النفس وتصفيتها بالمراقبة والمجاهدة وتركَت العلم فلم تُقبِل عليه، مع أن العلم بالشريعة هو المصباح الذي يُنير لنا طريقنا، فإن أطفأناه وزعمنا -كما زعموا- أن الله يهدينا بغيرها ضللنا كما ضلّوا. إنهم يحتجّون على عادتهم دائماً بجملة من آية، يُغمِضون عيونهم وآذانهم عن سباقها وعن سياقها، عمّا جاء قبلها وبعدها، فلا يرونه ولا يسمعونه. أخذوا من قوله تعالى جملة {واتّقُوا اللهَ ويعلّمُكمُ اللهُ} فاحتجّوا بها على ترك العلم، ونسوا أن التقوى بامتثال أمر الله وأمر رسوله، واللهُ ورسولُه أمَرا بطلب العلم وجعلا طلب بعضه فرضاً كفرض الصلاة، وأن الله يقبل من الأعمال ما خلص له على أن يكون موافقاً لما شرعه. وآخرون اقتصروا على العلم وحده بلا تقوى، فكان سلوكهم عقلياً خالصاً خالياً من الروح. وإذا ذهبَت الروح ذهبت الحياة، والعلم بلا تقوى علم ميت ربما رمى صاحبه في جهنم، لأن إبليس كان عالِماً فلم ينفعه علمه لمّا عصى ربه! أمّا جماعة أبي الحسن من النَّدْويين فقد أخذوا بالحسنيَين، بالعلم الذي ينمّي العقل ويُرشِد إلى الطريق، وبالتقوى التي تخلّص الروح وتُنجي في الآخرة. والدنيا اليوم مقبلة على المذاهب الروحية ما كان حقاً منها وما كان باطلاً، وذلك ثمرة هذه الحضارة

المنغمسة في المادة القائمة عليها، أو هو «ردّ فعل» كما يعبّرون في هذا الأيام، وأكثر تصرفات البشر من باب ردود الفعل. والناس إنما يطلبون ما يفقدون ويزهدون فيما يجدون. ولقد جاءنا في مكة من اثنتي عشرة سنة وفد كبير من الأميركيين المسلمين من البيض منهم ومن السود، قعدوا معي في الحرم ساعات طوالاً، كان يترجم بيني وبينهم الدكتور مجاهد الصوّاف، ابن أخي الأستاذ الشيخ محمد محمود الصواف. فكان مما قالوه لي: إنكم تقولون في الدعوة إلى الإسلام إنه دين العلم وإنه دين النظافة وإنه دين التنظيم، ونحن أوسع منكم علماً ومدننا أشدّ نظافة ومجتمعنا أكثر تنظيماً، فما هذا الذي نحتاج إليه ولا هذا الذي نريده؛ إنما نريد ما يُنعِش أرواحنا، نريد الجانب الروحي من الإسلام. والذي قالوه حق نبّهوني إليه وقد كنت غافلاً عنه؛ إن الإسلام للحياة كلها يُصلِحها ويسدّد خُطاها، والحياة مادة وشيء وراء المادة. والإسلام للناس جميعاً، والناس مؤلَّفون من جسم ونفس وروح. والدعوة الصحيحة إلى الإسلام هي التي تجمع الحسنيَين، على أن يكون هذا المزج بين مطالب الروح وحاجات الجسد مزجاً شرعياً. والله جعل كل شيء بقدَر، فكما تتّحد العناصر بنسب معيّنة فلا تأتلف ذرّة الأوكسجين إلاّ مع ذرتين من الأيدروجين، كذلك جعل توازناً دقيقاً مُحكَماً بين الروحيات والمادّيات. ومن الناس من يميل ميزانه إلى إحدى الكفّتَين. فتكون دعوة للعقل ودعوة للقلب من غير أن ننحرف مع

الصوفية أو غيرها، وعلى أن نلزم طريق الكتاب والسنّة، وفي الكتاب والسنّة غَناء. * * * وهذا ما عليه جماعة الندوة: اشتغال بالعلم مع تثبيت الإيمان وإصلاح القلب، وترفُّع عن المعارك السياسية التي لا غاية لها إلاّ الوصول إلى كراسي الحكم والتي يسلك أصحابها إلى ذلك كل طريق، المستقيم منه والملتوي، ويتخذون كلّ ذريعة، الطيبة والخبيثة. والإسلام يريد أن تكون الغاية حسنة وأن يكون الطريق إليها مستقيماً آمناً، بعيداً عن أساليب الأحزاب السياسية التي فيها المناصب والألقاب وفيها التزاحم عليها والتسابق إليها. وفي أبي الحسن والندويين -مع ذلك كله- عناية بالأدب. والدعوة لا تكون إلاّ باللسان والقلم، وقوام اللسان والقلم الأدب، وإذا كان من الأدباء الذين يُعرفون اليوم بالإسلاميين من يكتب ويقول غير ما يعمل، ومنهم من لا يؤدّي الفرائض ولا يدع المحرَّمات ولا يلتزم بالسلوك الإسلامي، ومنهم من كتب في الإسلام لمّا رأى الكتب الإسلامية مقصودة وبضاعتها رائجة فجعل يسوق ما يُعجِب السوق، حتى إني لقيت في المكتبة العربية عند الأستاذ العالِم الشاعر أحمد عبيد من أكثر من أربعين سنة أديباً معروفاً يدعوه الناس أديباً إسلامياً، له اسم ذائع وله ذكر شائع. وطال المجلس فكان من حديثه أنه متمسك بالإسلام يدافع عنه ويحامي دونه، ولكنه قد يُضطرّ إلى القعود إلى موائد الخمر مسايرةً لأهلها، وربما شرب القليل منها! وأنه ربما ترك الصلاة أو

أخّرها، ولكنه مسلم متمسك بالإسلام يدافع عنه ويحامي دونه! وأنه ربما خرج مع نسائه وهنّ كاشفات الأعناق والصدور مبديات السيقان والنحور يساير بذلك زمانه، ولكنه متمسك بالإسلام يدافع عنه ويحامي دونه! وما زال يسرد من أمثال ذلك ما فضح به نفسه وبيّن أنه مؤمن بلسانه بعيد بفعله وسلوكه عن الإسلام. أما أبو الحسن وجماعته فإنهم ملتزمون بالإسلام قولاً وعملاً، كتاباً وسلوكاً؛ يعمل ما يعمل ابتغاء رضا الله لا رضا الناس. والرسول عليه الصلاة والسلام كره التكلّف، وأنا لم أرَ فيمن عرفت من الناس من هو أبعد عن التكلّف وأقرب إلى البساطة من أبي الحسن، فهو يلبس أيسر لباس وأرخصه وأبعده عن الزهو والتعالي، قميص طويل تحته سراويل واسعة. وهو لباس أكثر مَن عرفت من علماء الهند. قرأت له أولاً ثم عرفته واتصل حبلي بحبله، في الهند ثم في موسم حجّ سنة 1381هـ، وكان من قبلُ قد قدم دمشق أستاذاً زائراً في جامعتها وما كُتب لي أن ألقاه لأنني معتزل بعيد عن مجامع الناس، أمضيت شبابي في ذلك وامتدّ معي إلى شيخوختي، فأنا لا أكاد أخرج من داري ولا ألقى إلاّ نفراً من إخواني ومن أصحابي. فلما عرفت أبا الحسن في لكنو من قرب صار أحد الذين اصطفيتهم وأحببتهم واحترمتهم. والناس عندي أصناف ثلاثة: منهم من أحبه وأحترمه، ومنهم من أحترمه لعلمه وفضله ولكني قد لا أحبه لغلظته وثقل ظله، ومنهم من أحبه ولكني لا أحترمه. فكان أبو الحسن من

النفر القليل الذين أوليتهم حبي واحترامي، والذين أنطلق حين أكون معهم على سجيّتي، أظهر ما أُخفيه وما أكتمه عن الناس أبديه، أقول ما يخطر على بالي، أكون آمناً معهم مطمئناً إليهم واثقاً بهم. من هؤلاء الأستاذ الزيات والدكتور عبد الوهاب عزام والشيخ شلتوت، ومنهم بل من أوائلهم الشيخ بهجة البيطار، وممن كان هذا حالي معه لمّا تشرّفت بلقائه -على ندرة ما ألقى من أمثاله- الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، وناس أمثالهم لا أُحصيهم منهم السيد الخضر حسين، ومنهم الآن الأمير ماجد، ومنهم أستاذنا محمد كرد علي، والأستاذ عارف النكدي، والأستاذ النشاشيبي، بعد خلاف كان بيني وبينه أول الأمر ومنازلة في الصحف من أجل كتابه «الإسلام الصحيح» الذي لم أجده صحيحاً فكتبت في نقده، رحم الله مَن مات ممن ذكرت وأطال حياة من بقي وأسعده فيها. وقد جمعني الحج سنة 1381هـ وأنا مقيم في مكة بأبي الحسن، وبالشيخ المعمَّر الصالح الشيخ مخلوف مفتي مصر الأسبق، والشيخ القلقيلي الذي كان مفتي الأردن وكان صديقاً عزيزاً. فدُعينا إلى القصر الملكي في الأبطح (أي في المعابدة)، فاعتذرت على عادتي، ولكن المفتيَين وأخي وصديقي الأستاذ الصوّاف ألزموني الحضور. وكانت جلسة مباركة، حضر أولها الملك سعود رحمة الله عليه، ثم تولّى رياستها المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، فولّى إدارتَها عنه أخانا أباالحسن، فبدا لي في ذلك المجلس جانبٌ جديد من عبقريته المتعددة الجنبات لم أكن أعرفه من قبل، وهو أسلوبه في الإدارة.

وهو أسلوب زياد، تَشبّه فيه بالرجل الذي دعاه رسول الله بالعبقري ولم يَدعُ بذلك غيرَه، عمر بن الخطاب: شدة من غير عنف ولين من غير ضعف. وأنا أقول من قديم إن القوة قد تكون مع اللين أكثرَ مما تكون مع الخشونة؛ فالفأس على لينها ونعومتها تقطع الحَطَبة على خشونتها. وكانت هذه الجلسةُ نواةَ رابطة العالَم الإسلامي، وكان هؤلاء الأعضاء هم المؤسسين الأولين لها، وكنت واحداً منهم، ولكنني لعلمي أنني لا أصلح لها اعتذرت عنها. واجتمعت به في تلك السنة في المجلس الأعلى في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وخرجت منه أيضاً، وإن بقيت فيه وفي الرابطة وفي كل عمل إسلامي جندياً يعاون على كل ما ينفع المسلمين. لكنني لا أربط نفسي بأحد، فأنا أمشي في طريقي لا أبدّله، فمن وجدته يمشي فيه رافقته وأعنته -على ضعفي وعجزي- على ما يريد من الخير، وإن انحرف عنه أو سلك غيره لم أمشِ معه. * * * عرفت أبا الحسن من قريب في مكة وفي المدينة وفي دمشق، وعرفته قبل ذلك في الهند لمّا زرت لكنو سنة 1954، فوجدته في الأحوال كلها مستقيماً على الحقّ عاملاً لله، متواضعاً زاهداً زُهداً حقيقياً؛ لا زهد المغفَّلين الذين يعيشون وراء أسوار الحياة لا يدرون ما الدنيا ولا يعرفون ماذا فيها، بل زهد العالِم العارف بالدنيا وأهلها. فقد رأى الشرق والغرب وزار الأمصار

والحواضر ولقي الكبار والصغار، وعاش صدر حياته في قصر صدّيق حسن خان العالِم السلفي الأمير الكبير، أسكنوه فيه بعد موت أبيه، فذاق حياة الترف والنعيم ولكنه زهد فيها، فزُهده ليس زهد الحرمان، ليس زهد الجائع الذي لم يجد الطعام فوطّن نفسه على فقده، بل زهد الذي فقد شهوة الأكل والأكلُ أمامه؛ يحضر المؤتمرات، ولكنه يجتنب الفنادق الكبار التي يُنزِلون فيها الوفود وينزل في بيوت تلاميذه، وما أكثر هؤلاء التلاميذ. وإذا كان مَن بنى حصناً أو قاد جيشاً عُدّ من العظماء، فأبو الحسن بنى للإسلام من نفوس تلاميذه حصوناً أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين. لقد تمنيت إن لم يُكتب لي أن أعود إلى دمشق، ودمشق وطني: وحَبّبَ أوطانَ الرجالِ إليهِمُ ... مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا وإن لم يُكتب لي أن أستمرّ بجوار بيت الله الحرام، أن أذهب إلى لكنو؛ لأنني عشت فيها أياماً قصيرة لكن ذكراها بقيَت عميقة في نفسي لا يمحوها كرّ السنين. مرّ عليها الآن ثلاث وثلاثون سنة ولا أزال أحسّ حلاوتها تحت لساني وطيبها في نفسي، لأني وجدت فيها الدين والدنيا، وجدت فيها أنس النفس وراحة الروح، وجدت المحبة تجمع بين أفرادها، ووجدت أبا الحسن قد أكرمه الله فاستكمل مزايا الداعية الإسلامي الذي نطلبه ونفتّش عنه. وتحت يدي وأنا أكتب هذه المقدّمة محاضرة لي ألقيتها في مكة في موسم حجّ سنة 1373هـ. وأنا في العادة لا أكتب

محاضراتي فتضيع عند الناس، وأسال الله أن لا تضيع عنده، لكن هذه المحاضرة كتبها إخوان ودوّنوها فبقيَت لديّ. كان موضوعها «طرق الدعوة إلى الله» (¬1)، ركّزت ذهني فيها على ما أعرف من طرق الدعاة، من السّرهندي الذي دُعي مجدّد الألف الثاني، لأنه عمد إلى صرح الكفر الذي شاده الإمبراطور أكبر في الهند، فجاءه من القواعد بلين وهدوء، كهدوء الماء ولينه إذ يتسرّب إلى أساس البناء حتى إذا تشرّبه ألانه ثم جرفه فهدّه. لقد هوى بناء الكفر وقام من أحفاده الإمبراطور الذي قبس من نور الشيخ، بل من ضياء الإسلام، فسار على هذه الطريق، وهو أورنك زيب. فأقام صرح الإيمان، والإيمان معه دائماً العزّ والنصر وله الدوام إلى آخر الدهر، ولو قامت في سبيله العقبات واعترضته الموانع فإن النصر له والعاقبة للمتقين. ثم تكلّمتُ عن طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كان من نتيجتها ومن تحالفه مع الإمام محمد بن سعود أن وحّد الله الجزيرة ونقلها من حال إلى حال. ومن الدعاة من كان أسلوبه في الدعوة بثّ الأفكار وتنبيه الناس، ومَن عمد إلى الصحف والمجلات يدعو فيها إلى الإسلام. وقد وجدت عند أبي الحسن وندوة العلماء النافعَ من هذه الطرق كلها؛ فهم يتخذون وسيلة التعليم، وهي أصدق الوسائل التي يتوسل بها الدعاة، وإن كان ثمرها قد يتأخر في الظهور ولكنه مضمون. وما قيمة عشر سنين في تاريخ الأمم التي تمتدّ أجيالاً ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إليها في الحلقة 218 في هذا الجزء، وهي في كتاب «فصول إسلامية» وعنوانها «طرق الدعوة إلى الإسلام» (مجاهد).

وأجيالاً؟ فأولى ما يقوم به الدعاة إلى الله هو أن يُعنَوا بالتعليم لإعداد جنود لمعركة الكفر والإيمان ولو بَعُدَ موعدها، فلقد أضعنا عشرات وعشرات من السنين. أنا شهدت في حياتي سبع عشرات من يوم كنت يافعاً وأدركت ما حولي ضاعت علينا، ولو أننا سلكنا فيها هذا الطريق الواضح لوصلنا. أليس هذا هو طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ ألم تنتقل الدعوة الإسلامية من واحد إلى واحد؟ لقد دعا الرسول ‘ إلى ما يشبه المحاضرة مرة واحدة لمّا جمع الناس عند الصفا، فانبرى له أبو لهب بتلك الكلمة الفاجرة، فلم يدعُ الناسَ بعدُ إلى مثلها، بل كان إذا دهم المسلمين أمرٌ دعاهم وحدهم إلى الصلاة الجامعة في المسجد. * * * فيا أخي أبا الحسن، اثبت أنت وجماعتك على ما أنتم عليه، فإنني لا أعرف اليوم في أساليب الدعاة من هو أصحّ منكم أسلوباً، واعذرني إذا لم أكتب المقدّمة التي أمرتني بها. إن المقدّمات إنما تكون للتعريف بمؤلّف مجهول، وأنت أعرف مني ومثلك لا يحتاج إلى مَن يقدّمه للناس. على أني أستطيع أن أكتب مثل ما كتبتُ عنك وأن أكتب عن أخيك الدكتور رحمة الله عليه، الذي وجدت عنده لمّا ذهبت مُستشفِياً إلى عيادته ثلاثةَ ألوان من الطب لا تكاد تُعرف في غير الهند: الطب الذي درسه ويدرسه الناس في الجامعات، والطب الذي يدعونه الطب العربي القديم أو الطب اليوناني، وله كلّيات ولأدويته معامل أذكر منها معمل همدرد في باكستان (إن لم أكن نسيت الاسم أو حرّفته)،

والطب الهملوباتي الذي عرفته منه، ولي معه قصة طريفة سيأتي إن شاء الله خبرها في ذكرياتي عند الكلام عن زيارتي للهند. وبعد ياأخي أبا الحسن، لقد امتثلتُ أمرك وكتبت، ولكن هذا الذي كتبته كله لا حاجة إليه ولا محلّ له من الإعراب، فعمَّ أُعرِب وأنت مستغنٍ بمعرفة الناس إياك وبما احتواه كتابك، فاقبل معذرتي، وأسأل الله أن يشدّ من أزرك وأزري وأن يوفقك ويوفقني، وأن ينفع الناس بعلمك وفضلك وجهادك. والسلام عليك ورحمة الله. * * *

في مطلع العام 1987

-223 - في مطلع العام 1987 قعدت أكتب هذه الحلقة من الذكريات وأمامي على الجدار «تقويم أم القرى»، وتحت يدي جرائد قديمة أقلّبها، أشغل عقلي بها لينطلق عقلي الباطن حراً يفكّر كما يريد، يعمل وحده كما يعمل المِحساب (الكمبيوتر) إذا ألقيت إليه بأصول المسائل، يدور حتى يصل إلى جميع فروعها. ووقع نظري على التقويم فإذا العام الغربي الجديد (1987) يبدأ اليوم، وإذا أنا أستخرج عدداً قديماً من جريدة «فتى العرب» صادراً سنة 1930 (1348هـ)، وكنت يومئذ محرّراً فيها، وفي العدد مقالة لي عنوانها «نشيد الوداع» أودّع بها العام الذي مضى وأستقبل العام الذي قدم. إنها مصادفة ما تعمّدتها، ولكني تمسّكت بها لمّا وجدتها. مقالة مرّ عليها الآن تسع وخمسون سنة قمرية، تبدّل فيها أسلوبي كما تبدّلَت الدنيا كلها من حولي، فهل عليّ من حرج إن أنا أعدت نشرها هنا؟ إنها مكتوبة على صورة فقرات مرقَّمة، لست أدري ماذا أردت بترقيمها، ولست أرتضي كل ما جاء فيها، وإن كانت مني لا أستطيع أن أُنكِرها. هل تملك أن تتبرأ من ولدك إن لم

يعجبك بعض فعاله؟ وها هي ذي لا أبدّل فيها شيئاً (¬1): 1 - مالت الشمس إلى المغيب، ولم يبقَ منها إلاّ خيوط تنفذ من بين قطع الغمام المتناثر حيال الأفق، تلفظ نفَسَها الأخير كما يلفظ نفَسَه هذا العامُ الراحل. 2 - دنت قافلة الحياة السائرة في بيداء الزمن من محطّها، فتباطأت في سيرها وقاربت خَطْوَها، فأمسيت أشعر بطول هذه الساعات الباقية في عمر العام، ورحت أرقب عقرب الساعة المائلة أمامي فلا أراه يتحرّك، فضجرت وأحسست كأن هذا الفلك يدور وهو على عاتقي. 3 - بعد ساعة واحدة يُتِمّ الفلكُ دورةً جديدة من دوراته التي لا تُحصى، فلا يترك بعدها إلاّ أنقاضاً مهدَّمة، وأجساداً محطَّمة، وقلوباً مهشَّمة؛ كأنما هو رحى تطحن الأمم والشعوب. ثم يخرج منها النداء أن: لِدُوا وابنوا وأمّلوا، ولكنْ للموت والخراب واليأس. بعد ساعة واحدة ينقضي هذا العام فتبتلعه هوّة الماضي، ويفتح التاريخ ذراعَيه ليضمّه إلى الأعوام التي مرّت قبله، ويولّفها رزمة واحدة ثم يلقيها في بحر الأبد، ثم تفنى عند جلال الله الباقي. بعد ساعة واحدة يدَع هذا العام مكانه من الوجود للعام الجديد، ثم يذهب فيتبوّأ مكانَه من عالَم العدم. 4 - بعد ساعة واحدة تُختَم من هذا العام صفحة كُتب أكثر سطورها بدموع المظلومين، لتُفتح صفحة أخرى لا ندري عنها ¬

_ (¬1) وهي منشورة في كتاب «هُتاف المجد» (مجاهد).

شيئاً، ولكنْ فيها سرورٌ وفيها ألمٌ وفيها خيبة أمل وفيها الواقع يضحك أبداً من هذا الإنسان، لأنه يراه هو الظالم ويراه هو المظلوم. وما الإنسان إلاّ عدوّ الإنسان: يكتب القوي سيرة حياته ويملؤها بآيات التبجيل والثناء، ولكن مِدادها دموع الأشقياء ودماء الأبرياء. ويُنشئ القويّ صرحَ مجده ويرفع ذُرى عظمته، ولكن أساسه جماجم المظلومين وعظام الشهداء. ويملأ القوي بالذهب خزائنه، ولكن دراهمها قد جُمعت من أيدي اليتامى وأفواه الفقراء. 5 - بعد ساعة واحدة تحطّ القافلةُ رحالَها، فنتلفّت إلى الوراء فلا نرى إلاّ ظلاماً يلمع في وسطه نجم من الذكرى نتبيّن فيه العَلَم المربع الألوان (أي علم الدولة العربية التي قامت في دمشق سنة 1918) وهو يخفق على دمشق، فتخفق قلوبنا لجلال الذكرى ومرارة الفَقْد. فنحوّل أنظارنا إلى الأمام فلا نرى إلاّ الظلام. ولكن ما هذا النور الذي ينبعث من الأرض فيذهب صعداً إلى السماء، فيهدينا الطريق ويُترِع نفوسنا قوة وأملاً؟ لقد علمت: هذا بريق الدماء التي سقينا بها صحراء ميسلون وجنان الغوطة (أعني أيام الثورة). لقد علمت: لا يُزيح ظلمة المستقبل إلاّ هذا النور الأحمر. 6 - تَزيّن الناس ولبسوا أحسن ثيابهم وراحوا يهنّئ بعضُهم بعضاً. لقد امتلأَت بهم الأسواق والشوارع والبيوت والمجامع، لقد ناءت برسائلهم قُطُر البريد، حتى ما ترى حيثما كنت إلاّ ثغوراً تبسم، وما في القلب سرور، وما تسمع إلاّ مقالة تُقال: كل عام وأنتم بخير. غير أني لا أفقه من هذا كله شيئاً.

7 - فيمَ الهناء وعلامَ السرور؟ أيهنّئون بتلك الأرواح التي دفعناها ثمن الحرية، فكان للبائع الثمن والمبيع؟ أم بالنفوس الكبيرة التي أزهقها الأقوياء، أم بالمنازل التي خرّبوا، أم بالدور التي أحرقوا، أم بالحقّ الذي غصبوا، أم بالحرمات التي انتهكوا؟ أم بالأزمة العامة والتجارة الكاسدة، والصناعة العاطلة والزراعة البائرة، والأخلاق الضائعة والرجولة المفقودة، والحدود المستباحة والجهالة المنتشرة؟ أما أن أشدّ البلاء أن لا نشعر بالبلاء، وأكبر المصيبة أن نجهل أنها المصيبة. فما لهؤلاء الناس وماذا اعتراهم؟ أيفرحون بهذا كله؟ إني لا أفقه من هذا كله شيئاً. 8 - عزفتُ عمّا فيه الناس ورحت إلى شرفتي كئيباً، وكان الظلام قد ملأ الكون كما ملأ نفسي، فغشيني ذهول عميق وانطلق لساني يقول: أيها الراحل المودَّع، لقد كانت لنا آمال صببناها على قدميك يوم خرجنا لاستقبالك، وكنا كلما انقضى من عمرك يوم ولم تتحقق ارتقبنا بها يوماً آخر. هذا أمر لا آخر له، فأخبرنا عن آمالنا: ماذا صنعت بها، أدُستَ عليها وحطمتها وقطعت طريقك على رفاتها؟ * * * إلى آخر ما جاء في المقالة. وأنا إنما أنشرها على أنها صارت تاريخاً، فأسلوبها غير أسلوبي الآن وفيها ما أُنكِره إذا قرأته الآن. أدَع المقالة وأسأل نفسي: هل هذه السنة التي طلعت علينا هي سنتنا؟ أمّا عباداتنا الشهرية فتمشي أوقاتها مع مشي القمر: صيامنا وحجّنا. وأمّا دنيانا وعباداتنا اليومية فمع الشمس، فنحن نصيّف

ونشتّي مع الشمس، والشهور القمرية تدور مع الأيام فتأتي صيفاً كما تأتي شتاء. على أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله. إني لأفكّر الآن وأنا على أبواب الثمانين خارجاً منها لا داخلاً إليها، بعد خمسة عشر يوماً أستكملها، أفكّر في الذي رأيت في هذا العمر، والذي رأيته أكبر من أن يتّسع له فصل في هذه الذكريات. وما هذه الذكريات؟ كان من رفاقنا الأقدمين أخ أُولعَ بالكيمياء، يُنفِق عليها ماله ويضيع فيها جهده، حتى برع فيها وصار من علمائها. كان يقطّر العطر تارة، فإذا دخلتَ معمله شممتَ منه ريّا روض أريج أو جنة فوّاحة الأزهار، وتارة يستخرج مادة تشمّ رائحة الكنيف ولا تشمّها، وتسدّ منخريك ولو اختنقتَ عن أن تدخل الرائحة إليهما، أودعَها قوارير يضع عليها أوراقاً يلصقها بها تبيّن الذي فيها. ثم كبرنا ومرّ دهر وانصرف عن الكيمياء حتى ما يفكّر فيها. وزرته يوماً فسألته أن يُريني معمله، فقال: وماذا تريد منه؟ إنك لن تستطيع دخوله. فأصررت فأخذني إليه، فإذا العنكبوت قد عشّش على بابه والغبار قد تراكم فوق رفوفه، ونظرت إلى تلك القوارير فإذا هي فارغة كلها قد طار ما كان فيها. فجعلت أقرأ اسم العطر: عطر الورد أو الزنبق أو الفلّ أو الياسمين، وما ثَمّ عطر ولا شيء يشبه العطر. وأقرأ أسماء حامض الكبريت وما لست أدري ما هو، وما بقي منه شيء. أمّا القوارير التي لم يلصق بها اسمُ ما فيها فلم يعُد يعرف أحدٌ ما كانت تحتوي. هذا مثالي حين أكتب ذكرياتي، ذهبَت المسرّات والآلام

وما بقي إلاّ صورة لها فارغة منها. فما فائدة كتابة الذكريات؟ لقد كنا نعيش في وادٍ جميل فيه نبعٌ صافٍ بارد، وفيه أرض خصبة تُنبِت من كل الثمرات، وعندنا قطيع من الغنم نأكل من لحمه ونلبس من صوفه، يحبسنا الجَبَلان عن الناس فلا ندري بهم ولا يدرون بنا ولا نحتاج منهم إلى أحد. فجاء يوماً زلزالٌ أزاح جانباً من الجبل، فانكشفنا للناس فدخلوا علينا. وكان هذا الزلزال هو الحرب الأولى، حرب 1914، وقد أدركت قيامها. أخرجَتنا الحرب من عزلتنا وأدخلَت الغرباء علينا، فجاؤوا ومعهم ما لا عهد لنا به من أساليب الرفاهية وثمرات الحضارة، ومعهم أيضاً أوضارها وأمراضها، فعرفنا ما لم نكن نعرف فاتسعت عقولنا، ولكنا رأينا من الفساد ما لم نكن نألف ففسدت أخلاقنا ورقّ ديننا. كانت حياتنا كالبحيرة الساكنة، إن ألقيتَ فيها حصاة تنداح فيها الدوائر كما قال ابن الرومي. فإذا بصخرة ضخمة تُرمى فيها، فتقلب عاليها سافلها وتعكّر ماءها وتطمّ حدودها. لا أستطيع أن أحصر ما صنعَت بنا هذه الحرب. إنها بدّلت حياتنا تبديلاً لا يدركه إلاّ النفر القليل من الشيوخ الذين رأوا مثل ما رأينا، الذين عاشوا قبل قيام الحرب الأولى. لقد شهدت حربين عالميتين، رأيت قيامهما وقعودهما واشتعالهما وخمودهما، عشت دهراً وما في بلاد العرب ولا في أرض الإسلام بقعة لا يرفرف عليها علَم أجنبي (حاشا جزيرة العرب التي عصمها الله من أن تدقّ ثراها نعالُ جيوش أجنبية أو

تخفق فوقها أعلامها). كان ذلك لمّا تركنا أسباب عزّتنا وقطعنا الحبل الذي يربطنا بربنا، وابتعدنا عن ديننا فأبعد الله النصر والعزّ عنا. رأيت عهداً كانت فيه بريطانيا العظمى –مثلاً- تحكم خُمس العالَم، لا تغيب عن أملاكها الشمس لأنها إن غابت عن قُطر طلعت في قُطر آخر، فعشت حتى رأيتها قد صارت من الدول الصغار، فقدت ما كانت تظنّه من البلاد باقياً لها، ضاعت الهند منها وكندا وأستراليا، فما بقي لإنكلترا إلاّ لندن وقسيمة من الأرض حولها، حتى هذه قد أخذَتها يوماً من أهلها غدراً ومكراً، كان أهل البلاد في خصام فاستنجد أحد المتخاصمين بقبيلتين جرمانيتين هما الأنكل والسكسون، فدخلوا فأنجدوه ثم قعدوا، فقال لهم: شكراً، في أمان الله. قالوا: بل نحن باقون، هذه بلادنا! وكما أخذت هذه البلاد من أهلها أعطت بلاداً أخرى لمن ليس له حقّ فيها ولا يربطه بها نسب ولا يجمعه سبب؛ أعطت أشرف بلد بعد الحرمين لأخسّ أمّة بعد الأبالسة، أعطت اليهود فلسطين. لقد كان انهيار بريطانيا العظمى الذي شهدتُه في حياتي كما شهده لداتي أكبرَ من انهيار روما القديمة التي كان سقوطها نهاية القرون الأولى. كما شهدتُ تفكُّك صرح الدولة العثمانية التي قامت على الإسلام فحكمها من لا يدين حقاً بالإسلام، بل يتظاهر به تظاهراً وهو له عدوّ، لمّا حكمها الاتحاديون فأضاعوها بسوء سياستهم وضعف عقيدتهم.

لقد عشت بحساب التقويم ثمانين سنة قمرية بقي عليّ حتى أستكملها خمسة عشر يوماً فقط، ولكني عشت بحساب الحقيقة والواقع ثلاثمئة سنة! لقد شهدت من تحوّل الأحوال وتبدّل الأوضاع وتغيّر الأفكار ما لا يتمّ مثله إلاّ في ثلاثة قرون. كنت مرة في زيارة لجامعة الرياض (التي دُعيَت جامعة الملك سعود) بتكليف من معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ، فدرت على كلّياتها السبع وحاضرت فيها، وأجبت عن أسئلة طلاّبها واستفدت من أساتذتها، فكان مما سألوني عنه: العقيدة والأخلاق في المجتمع الآن والمجتمع الذي كان ونحن صغار؟ فضربت لهم مثلاً بِركةً واسعة كانت مغبرّة الماء ولكن ماءها لا يزال طاهراً، فأقاموا في ناحية منها مصفاة حفروا لها بركة صغيرة، فامتلأت هذه البركة بماء نقي صافٍ ليس فيه شيء من اغبرار ماء البركة، وما خرج من المصفاة من أقذار وأوساخ ألقوه في بركة أخرى صغيرة فصار ماؤها نجساً أو قريباً من النجس، وبقي جلّ ماء البركة على حاله. قلت لهم: هذا مثال المجتمع أمس واليوم؛ كنا متمسكين بالإسلام ولكنه إسلام العوام، ففي العقيدة شيء دخل عليها ليس منها، وفي العبادات بدع ابتُدعت فيها، وفي المجتمع مخالفات للإسلام لم تكن على عهد الصحابة ولا التابعين، فصار عندنا الآن طبقة قليلة من الناس (أكثرهم من الشباب) قد صفَت عقيدتهم وخلَت من البدع عباداتهم واستقام في الحياة سلوكهم وعادوا إلى

الإسلام، حتى إن من هؤلاء الشباب ومن الشابات الذين رأيتهم في النوادي التي حاضرت فيها في المملكة على اختلاف مدنها وفي سوريا وفي لبنان من قبلُ وفي مصر وفي العراق (وسطه وشماليه وجنوبيه) وفي كثير من مدن أوربا الغربية وفي باكستان والهند وأند ونيسيا ... رأ يت في أولئك الشباب مَن لو قلت إنه مثل شباب الصحابة لَما كنت مبالغاً ولا كنت مجانباً طريق الحقّ. كان عندنا في الشام ونحن صغار مدرّسون من فلسطين ومن تونس ومن المغرب ومدرّسون من الترك ومن الأكراد، سردت أسماء بعضهم فيما مضى من هذه الذكريات، فما كنا نسأل ولا نفكّر أن نسأل عن أجناسهم ولا عن أقوامهم ولا عن مواطنهم. كانوا مسلمين ويكفينا أنهم كانوا مسلمين. فنشأَت ونحن صغار فتنة القوميات، فقال الترك ترك وقال العرب عرب وقال الأكراد أكراد، فتفرّق الشمل الجميع (¬1)، وتعدّدَت الأمة الواحدة فصارت أمماً. كانت فتنة القومية. وتعبنا في جدال هؤلاء القوميين، نتبع في ذلك الأمير شكيباً وإخوانه (شكيب أرسلان) ويتبعنا من جاء بعدنا؛ كتبت في ذلك عشرات من الصفحات وألقيت في ذلك عشرات، عشرات حقاً، من الخطب والمحاضرات، لنبيّن للناس أننا لا نعادي العربية وإنما ندافع عن الإسلام، وأننا نعرف للعروبة قدرها ولكن تحت راية الإسلام. ثم كانت فتنة الاشتراكية، وخُدع ناس من أفاضلنا فقالوا: ¬

_ (¬1) الشمل الجميع: أي المجتمِع.

«اشتراكية الإسلام»، ألّف في ذلك صديقنا الداعية إلى الله الرجل الصالح الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله. ولقد حضرتُ محاضرته في الجامعة السورية عن هذه الاشتراكية التي سمّاها إسلامية (على ندرة ما أحضر من المحاضرات)، وكان إلى جنبي في الصف الأول أخي ورفيقي في كلية الحقوق وأحد أصدقاء عمري الشيخ مصطفى الزرقا، فكنت أعترض أخانا الشيخ السباعي كلما اختار حكماً فقهياً ضعيفاً يراه أقرب إلى الاشتراكية وأقاطعه وأنا في مكاني. وكان بيني وبينه مناقشة بعد ذلك في الصحف قلت له فيها وقال لي. وأنا أشهد له (وقد مضى إلى لقاء ربّه) أنه ما أراد بما كتب إلاّ الخير وأن يقرّب الاشتراكيين إلى الإسلام. والشيخ السباعي أمتن ديناً وأكثر علماً من أن يكتب أو يقول ما يخالف الإسلام، ولكن الاشتراكيين كانوا أوسع حيلة وأقوى أداة وأكثر وسائل، فاتخذوا كتابه ذريعة لتقريب المسلمين من الاشتراكية، وما أراد إلاّ أن يقرّب الاشتراكيين إلى الإسلام. ونفخ عبد الناصر في بوقها، وجاء برجل طويل اللسان غير نظيف الجَنان، ثقيل الدم سقيم الفهم، ينعب من صوت العرب، يقول ما يستخفّ الحليم الوقور من العدوان على الحقّ بالسفاهة والمراء والباطل. ثم قام عبد الناصر يدعو إلى ما سمّاه «التحويل الاشتراكي»، فكتبتُ أردّ عليه في أحاديث ما علم أحدٌ قبل أن أكتب هذه السطور أني كاتبها، وأعطيتها واحداً من إخواننا الإذاعيين المعروفين هنا (وهو يتولى الآن منصباً إعلامياً كبيراً) فأذاعها من إذاعة المملكة، كان مما قلت فيها: إن مصر قبل الإسلام كانت تمشي في طريقٍ جاء عمرو بن العاص ليحوّلها عنه

إلى طريق الإسلام، حتى صارت قلعة من أمنع قلاعه ومصباحاً من أضوأ مصابيحه، وصارت منار العلوم الإسلامية وعلماؤها أساتذة البلاد الإسلامية. فما الذي يُراد بالتحويل الاشتراكي إن لم يكن ردّهاً عن طريق الإسلام الذي جاء به عمرو بن العاص إلى طريق الماركسية التي جاء بها الدجال اليهودي كارل ماركس؟ ولمّا شهدتُ الجلسة التي وُلدَت فيها رابطة العالَم الإسلامي في موسم حج سنة 1381هـ، وقد مرّ حديثها، جرى ذِكر الاشتراكية. وانبرى المحاضرون يبرّئون منها الإسلام، فقلت: كيف وقد وردَت في القرآن؟ فعجبوا مني، فقلت: على رسلكم. ألم يقُل الله لمَن كان أستاذ ماركس (وهو إبليس): «وشاركهم في الأموال والأولاد»؟ فتلك هي الاشتراكية. فضحكوا. * * * لقد أمضيت حقبة من عمري في حلبة النضال أقاتل وحدي، على ضعف يدي وقلّة عزمي. حاربت على جبهتين. جبهة الجَهَلة الجامدين الذين يحرّفون الدين ويغشّون المسلمين، وجبهة الفاسدين المفسدين. وما حِدت بحمد الله عن هذا الطريق وما كتبت بقلمي متعمداً ما لا يُرضي ربي، وإن كنت لا أبرّئ نفسي من الخطأ. وأنا أكتب من ستين سنة كاملة، وآخذ على ما أكتبه أجراً لأنني كاتب محترف. كتبت آلافاً وآلافاً من المقالات. وأنا أحاسب نفسي الآن، وطالما حاسبتها قبل الآن، فأتساءل: هل أخْذ الأجرة من الناس يُذهِب ما آمُل من الثواب عند الله؟ وأخشى أن أكون

قد قضيت لنفسي، وأنا أعرض قضائي على القراء لأسمع ما لهم فيه من آراء. أنا أولاً أسأل نفسي فأقول: يانفس هل كنت تكتبين مايخالف الدين ولو أُعطيتِ على كتابته الملايين؟ فأجد الجواب اليقيني الصادق أن: لا. وأسألها: إن لم يكن في الساحة من يُنكِر المنكَر غيرك يانفس، وكان الإنكار واجباً شرعاً، هل كنت تمتنعين عن إنكاره لأنك لم تُعطَي أجرة الكتابة؟ فأجد الجواب اليقيني الصادق أن: لا. وأنا أقول الآن ما كنت أقوله من قبل، هو أني ما بدّلت بحمد الله ولا غيّرت وما قلت يوماً كلمة الباطل وأنا أعرف بطلانه، وإن صرت أعجز أحياناً عن أن أعلن كلمة الحقّ. إن أول كتاب صغير نُشر لي سنة 1348هـ، ما قلته فيه هو الذي قلته في آخر كتاب أُعيدَ طبعه لي سنة 1406هـ، وإن تبدّل مني شيء فهو الأسلوب؛ كنت فتى فيه شدّة وفيه حدّة، فألانتني الأيام قليلاً وهدّأَت من حدّتي، وإن كانت لم تستطع أن تمحوها من نفسي: والشيخُ لا يَترُكُ أخلاقَهُ ... حتى يُوارى في ثرى رَمْسِهِ * * * وذو الشّوقِ القديمِ وإنْ تَعزّى ... مَشوقٌ حينَ يلقى العاشقينا تبدّل عليّ في هذا العمر الطويل كل شيء: العادات والأزياء وحجاب النساء وأدب الأدباء وشعر الشعراء؛ بدأَت في أيامنا فتنة

الشعر المنثور، الذي سُئل عنه الأستاذ المازني يوماً فقال (على عادته في السخرية والتهكم): هو نثر مشعور. وأنتم تعرفون أن الزجاج إذا انشعر انكسر. أما هذا الكلام المصفوف صفاً الذي يُنشَر اليوم في الجرائد على أنه شعر وعلى أن أصحابه شعراء، فما فيه من الشعر إلاّ أنه طُبع على هيئة أبيات القصيدة، فهو شعر المسطرة! أمّا موسيقى الشعر وطرب الشعر وسموّ الشعر، فما فيه منه شيء. وهؤلاء أدباء على طريقة خادم موليير في قصته المعروفة حين علم أن كل ما ليس بشعر يكون نثراً، فجعل يرقص من الفرح لأنه يتكلم بالنثر ولا يدري. أنا أعرض الآن في خيالي شريط حياتي (وقد مُحي كثير من صوره، وإن بقي فيه كثير) فأرى عالَمنا الذي فُتحت عليه عيوننا ونحن صغار يختلف عن عالَم الناس الآن، بينهما هوّة أوسع من أن يقفز عليها الأديب بمقالة أو مقالات: دنيا ذهبَت وجاءت دنيا أخرى، عالَم بُدّل غيرَ العالَم. على أننا لا نستطيع أن نقول إن كل ما مضى كان خيراً ولا إن ما جاء شرّ كله (كما يقول لِداتي من الشيوخ في أحاديث الذكريات). وكيف ونحن الآن أعلم بحقائق الكون، وأوسع إدراكاً لمظاهر الحياة، وفقهاؤنا اليوم وإن كانوا أقلّ حفظاً للنصوص فهم أكثر فقهاً لها وإدراكاً لمقاصدها؟ * * *

مؤتمر القمة الإسلامي

-224 - مؤتمر القمة الإسلامي كان أقصى عمل العالِم أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيجمع عليه تلاميذه، يشرح لهم عبارته ويوضح مقاصده، يفلّي العبارة ويقلبها ويحلّلها تحليلاً، يقف عند كل كلمة: لماذا قالها المصنّف ولم يقُل ما يرادفها ويؤدّي معناها؟ وعند كل ظرف وعند كل حرف عطف. وكانت هذه هي الطريقة الأزهرية لمّا أضاع علماء الأزهر ملكة الإبداع واقتصروا على الاتباع. وقد بدأت هذه المرحلة من القرن التاسع الهجري أو قبله بقليل، ولو رسمنا للعلوم خطاً بيانياً لوجدناه يبدأ دقيقاً مائلاً إلى الصعود، ثم يصير عريضاً، ثم يبلغ مداه فيستمرّ مستقيماً لا يعلو ولا ينزل، ثم يبدأ النزول. مثله مثل بضاعة جديدة حملها إلى البلد تاجر فأقبل الناس عليها، ثم تتابع ورودها، ثم كثرَت عند البائعين فجمعوها في مستودعات ضخمة ومخازن كبيرة. ثم انقطع الاستيراد واكتفى الناس بما في المخازن والمستودعات، يتوزعها الباعة يفتنّون في عرضها في الأسواق. وكان عصر الجمع أو عصر الموسوعات، وهو القرن التاسع الهجري، جُمعت فيه أصول العلوم في كتب

واسعة، ككتاب «الإتقان» في علوم القرآن و «المزهر» في علوم اللغة و «نهاية الأرَب» و «صبح الأعشى». كل العلوم مرّ بهذه المراحل. آخذ واحداً منها أمثّل به عليها، هو علم (أو علوم) البلاغة؛ كان الأدباء والشعراء يخترعون المعاني الجديدة والأساليب الطريفة، فكان النقّاد كلما وجدوا شيئاً جديداً وضعوا له عنواناً وضمّوه إلى أمثاله، فكانت «البلاغة»، وهي النقد منظَّماً. ثم استمرّ الشعراء والأدباء يجدّدون، ووقف النقّاد (أي علماء البلاغة) عند كتابَي عبد القاهر الجرجاني وتلميذه السكّاكي، ثم جاء القَزويني فلخّص ما في كتاب السكاكي. ثم صارت «البلاغة» كلها تدور حول «التلخيص»، فمِن شارحٍ له ومن معلّق عليه، ومن مختصر للشرح ومن شارح للمختصر، ولم نعُد نجد عندهم جديداً. لذلك قُلت إن عمل العلماء اقتصر على العكوف على تراث الأوّلين، لا يخرجون عليه ولا يجاوزون حدوده. حتى إن شيخ مشايخنا في الشام الشيخ عبد المحسن الأسطواني الذي سبقَت الكتابة عنه في هذه الذكريات، وكان من تلاميذ جدّنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من طنطا، كان يحدّثنا عنه يعدّد مزاياه، فذكر مزيّة أكبرها ورأيناها أمراً عادياً، هي أنهم كانوا يقرؤون على شيخ من مشايخ دمشق (سمّاه لنا ونسيت اسمه) فمرّت في الكتاب عبارة لم يدركوا غرض المصنّف رحمه الله منها، فقلبوها على وجوهها وأخذوها من جميع أطرافها، فلم يَضِح لهم المقصود بها، فقال لهم شيخهم: اعرضوها على الشيخ محمد الطنطاوي. فلما جاؤوه بها ضحك وقال: دي غلطة من الناسخ. وأخذ القلم فصحّحها.

وكان هذا هو الذي تعجّبوا منه: كيف يُقدِم على نسخة لمؤلّف قديم فيصحّحها من عند نفسه؟ ثم وجدوا نسخة أخرى من الكتاب فإذا الكلمة كما صحّحها. كان العلم كله رواية لا دراية وكان حفظاً لا دراسة، كالذي ينقل أمواله من مصرف إلى مصرف أو يُبدِلها من عملة إلى عملة، ولكن لا يزيدها ولا يضيف شيئاً إليها. لم يشذّ عن هذه الصفة من كل من عرفت من علماء بلدي (وأنا أكاد أعرفهم جميعاً) إلاّ الشيخ سعيد الباني من دمشق والشيخ بدر الدين النَّعْساني من حلب. حتى الشيخ جمال الدين القاسمي كانت كتبه كلها وكان تفسيره المشهور جمعاً لأقوال العلماء، ما حقّق -فيما أعلم- مسألة فجاء فيها بشيء جديد. وبقيَت هذه الخلّة عند المشايخ في دروس الدين إلى الآن، حتى في الجامعات. هل سمعتم أن طلاب الجامعة يُقرَّر عليهم في المادة كتاب واحد، يشرحه المدرس ويحفظه الطلاب ويُسألون منه يوم الامتحان؟ حتى في العلم الجديد الذي سمّوه الثقافة الإسلامية (وكان أول من درّسه نحو سنة 1940 هو الشيخ راغب الطبّاخ في حلب وأنا في دمشق)، حتى هذا العلم الجديد صار له كتاب. ولا تزال تَرِدُ على برنامجي في الرائي (التلفزيون) شكاوى الطلاب من هذا الكتاب، وقد أرسل إليّ أحدهم نسخة منه أشار إلى أبواب فيه مقرَّرة عليهم. فلا يغضب مني مؤلّفوه، وهم من أصدقائي، إذا خبّرتهم صادقاً أنني أحسست لمّا قرأته كأني أريد

أن أمزّق صفحاته أو أن تتمزق أعصابي، وكأنه لا يشفي نفسي إلاّ أن أضرب به أو برأسي الجدار! ووجدته أقوى الوسائل لتنفير الطلاّب من الثقافة الإسلامية وتسويدها في عيونهم. وأنا أذكر أول درس حضرته في كلية الحقوق في دمشق سنة 1348هـ، من نحو ستين سنة، وقد دخل علينا الأستاذ فكان مما قال لنا: لقد انتقلتم اليوم من مرحلة التلقّي والحفظ إلى مرحلة الاعتماد على النفس والمشاركة في البحث، فأنا أُلقي عليكم المحاضرة وأدلّكم على المراجع، ولكني لا أُلزِمكم كتاباً تقرؤونه ولا أقبله منكم لو اقتصرتم عليه. أنا أريد أن أربّي العقل لا أن أقوّي الذاكرة، ففكّروا برؤوسكم لا برأسي أنا، وإذا انتهيتم إلى رأي يخالف رأيي وكان لكم عليه دليل قبلته منكم وأعطيتكم عليه الدرجة العالية في الامتحان. وكان هذا الأستاذ هو المسيو ستيف، المستشار التشريعي يومئذ للحكومة السورية. ولا يمنعني أنه فرنسي من أن اشهد له بالحقّ أنه عالِم. والنجّار وأرباب المهن يعلّمون الأجير أولاً بألسنتهم، ثم يُشهِدونه عملَهم، ثم يكلّفونه أن يباشره بيده فيقومون عليه يصحّحون له خطأه، ثم يدَعونه يستقلّ بنفسه. فهل يكون النجارون والحدادون وأصحاب المهن والصناعات أعرفَ بوجه الصواب من أهل الجامعات؟ وإذا قرّرنا كتاباً واحداً لطلاب الجامعة، يُلقي المدرّس عليهم ما فيه ويحفظون هم ما يُلقيه ثم يضعونه في ورقة الامتحان، لم يبقَ من فارق بين المدرسة المتوسطة والثانوية وبين

الجامعة، وكان من نتيجة ذلك أن نركّب في هذه الكرات التي أقامها الله بين أكتافنا شريط تسجيل لا دماغاً حياً! لمّا كنت شاباً تُرجم إلى العربية كتاب أظنّ أن اسمه «التربية الحديثة» لأدمون دومولان، وقد نسيت اسم مترجمه، وهو باقٍ في مكتبتي في الشام التي لا أعلم هل يُكتب لي أن أعود فأراها أم أموت بعيداً عنها. كان لهذا الكتاب أثر بالغ في نفسي وفي نفوس الذين قرؤوه، لأنه جاء بشيء جديد (أو بشيء كان في تلك الأيام يُعَدّ جديداً). قرأته مرات وبقي في ذهني كثير مما فيه؛ من ذلك أن المؤلّف ذهب إلى إنكلترا ليدرّس في إحدى مدارسها، فقابل مديرها وأخرج له شهاداته، فنحّاها المدير مبتسماً وقال له: أنا لا أريد أوراقاً بل مدرّساً، وهؤلاء هم طلاّبك، فتفضل فألقِ الدرس عليهم. فكان مما تعلمته منه أن كفاية المرء لا تُقاس بشهاداته بل بعلمه وعمله. ولمّا أُسّس أول قسم للدراسات العليا في المملكة في مكة المكرمة كانت اللجنة التي وضعت نظام هذا القسم مؤلَّفة من عميد كلية التربية في تلك الأيام الأستاذ البغدادي، وأخي الدكتور أمين المصري رحمة الله عليه، وهو الذي سعى في إنشاء هذا القسم وألحّ في هذا السعي وصبر فيه على المتاعب، والدكتور إسحاق الفرحان الذي صار وزير المعارف ووزير الأوقاف في الأردن، فلم تغيّره الوزارة كما غيّرَت من الناس غيرَه وبقي يعيش فيها كما كان يعيش قبلها ويعمل للإسلام كما كان يعمل، وأنا.

ولعلّي نسيت بعض من كان حاضراً معنا. فرجع الأستاذ البغدادي والدكتور المصري إلى مكة بعد أيام، وبقيت في الرياض أحاول أمرين: الأول أن لا تكون الشهادة هي الشرط اللازم الكافي (كما يقول أهل الرياضيات)، وأن يكون للوزير الحقّ في أن يستثني خُمس الأساتذة أو عُشرهم من شرط الشهادة، وقلت لمعالي الوزير (¬1): خبّرني ياسيدي، هل تستطيع إذا اقتصرتَ على الشهادة وجعلتها وحدها مقياس الرجال وبعث الله جدّك الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هل تستطيع أن تجعله معلماً في مدرسة أولية في قرية من القرى؟ وهل يستحيل على الله أن يجعل في هذا العصر من هو كجدّك في علمه وعمله وهو مثله لا يحمل شهادة؟ بل إن أمامنا ياسيدي مثلاً ظاهراً، هو الأستاذ العقّاد رحمه الله. ولولا الحياء لضربت من نفسي مثلاً فقلت إنني كتبت ما كتبت وحاضرت ودرّست في الأدب وفي علوم الدين وما أحمل شهادة في واحدة منهما. ولمّا كنت أناقش الشيخ السباعي في اشتراكية الإسلام كتبت مقالة حاولت فيها أن أكون رفيقاً رقيقاً ما استطعت وأن أكلمه كلام الصديق المحب (وأنا أحبّه والله حقاً، رحمة الله عليه) لا كلام الناقد الشانئ، فجاءته «الحِمصيّة»، والعفو من إخواني أهل حمص، فقال لي: إنك لست اختصاصياً في العلوم الشرعية، لذلك أُعفي نفسي من الردّ عليك. وجاءني عشيةَ نَشْرِ مقالته بعدما ذهب ثلث الليل جماعة من ¬

_ (¬1) الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ. وسيأتي هذا الخبر مرة أخرى في الحلقة 238 (مجاهد).

إخواني، أذكر منهم الأستاذ نهاد القاسم وزير العدل المركزي أيام الوحدة رحمه الله، والتاجر الأديب رفيق المدرسة سنة 1919 الأستاذ هُدى الطباع، وأظن ظناً أنه كان معهم أخي الدكتور معروف الدواليبي رئيس وزراء سوريا سابقاً. فلما فتحتُ لهم الباب قالوا ضاحكين: لا ندخل دارك ولا نشرب قهوتك حتى تَعِد بأن تلبّي طلبنا. قلت: فهمت؛ لن أردّ عليه. فتعجّبوا وقالوا: من خبّرك بالذي نريد؟ قلت ضاحكاً: ذكائي. فكّرت ما الذي جمعكم في هذه الساعة وما الذي جاء بكم، فخطر لي أنكم كنتم في سهرة فقلتم: إن الطنطاوي سيردّ على السباعي والسباعي سيعود فيردّ على الطنطاوي، وكلاهما معدود من دعاة الإسلام، ولن نستطيع أن نستردّ ما قيل فلنعمل على تدارُك ما سوف يقال. قالوا: والله هذه هي الحقيقة. ولقد لقيت كثيراً حين ضعت بين الأدب وبين الفقه: إذا كان مجمع فقهي أقصوني عنه وقالوا: هذا أديب، وإن كان اجتماع أدبي قالوا: هذا شيخ فقيه. وأنا لا آسى على عضوية المجمع ولا على حضور الاجتماع، ولو جرّوني إليه بالسلاسل لَما ذهبت إليه، ولا رغبة لي فيه، ولكنني أقرّر الواقع. * * * الأمم كالأفراد تصحّ وتمرض، وتشبّ وتشيخ، وتنام وتصحو. ويظهر أن نشأتي كانت في أيام مرض أمتي لا في أيام صحّتها:

جاءَ الزمانَ بنوهُ في شبيبتِهِ ... فسَرَّهُمْ وأتيناهُ على الكِبَرِ وأنها كانت في عهد نومها لا في حين يقظتها. وما أذكر أنه مرّ عليّ يوم في شبابي إلاّ والذي بعده كان شراً منه، وأن ما بكينا فيه منه بكينا بعده عليه؛ ذلك أننا كنا -نحن المسلمين- في نَومة طويلة امتدّت إلى أوائل القرن الماضي، ثم صحونا على صوت منا يهتف بنا أن نعود إلى ينابيع قوتنا ومصدر عزّتنا، هو صوت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصوت غريب عنا ينبّهنا إلى ما جدّ عند غيرنا فأقبلوا عليه وبقينا نحن نعيش على قديمنا الذي نشأنا فيه، هو الحملة الفرنسية على مصر. لقد كان المسلمون دولة واحدة، فانشعبت منها شعبة لمّا ذهب عبد الرحمن الداخل الأموي إلى الأندلس فأقام فيها إمارة صارت بعده دولة أخرى، ثم توالى الانقسام وازداد التفرّق، حتى إذا انتهت الحرب الأولى صارت سوريا (التي كانت على عهد العثمانيين ولاية واحدة) صارت دولاً: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة جبل الدروز. وشهادتي الابتدائية في أعلاها طُغَراء «دولة دمشق» وفي أدناها توقيع حاكم هذه الدولة حقي بك العظم! هوت دولة الخلافة كما قال شوقي: «هوَتِ الخلافةُ عنكِ والإسلامُ». أمّا الخلافة فنعم، أما الإسلام ياأمير الشعراء فلا يهوي أبداً، وإنما هو إلى ارتفاع وإلى سموّ والعاقبة له. كان أعداء الإسلام عاملين على هدم الخلافة، وتولّى كِبر ذلك اليهود، شياطين البشر وسبب كل أذى وضرر، الذين يُفسِدون بأموالهم

وبنسائهم، أرادوا أن يُغرُوا بالمال السلطانَ عبد الحميد فخيّب أملهم وضرب وجوههم بأموالهم، فأعملوا فيه كيدهم ومكرهم، فسوّؤوا اسمه وشوّهوا صحيفته وافتروا عليه ونسبوا كل رَزيّة إليه، فجعلوه مثال الاستبداد والظلم يُحصي على الناس بالجاسوسية أنفاسهم ويُغرِق في مياه البوسفور كِرامهم. ونشأنا نحن على ذلك واعتقدته حيناً، لأن فريقاً من أساتذتنا (كخالي محب الدين، ومِن قبله بقليل محمد كرد علي) كانوا يميلون إلى القول به. وكل إنسان يُخطئ ويُصيب والعصمة من الله لرسله وحدهم. وأخذ ذلك أدباء النصارى فنفخوا فيه ووسعوه، وكنت مُقبِلاً تلك الأيام -كأمثالي من الشباب- على قصص جرجي زيدان وفيها هذه الفرية مدسوسة بين سطورها، كما دسّ فيها على الإسلام وعلى تاريخه، واستمرّ ذلك حتى حصحص الحقّ وأزهق الله الباطل. ولقد نشر أخي الأستاذ سعيد الأفغاني في مجلة «العربي» على عهد الدكتور أحمد زكي (¬1)، رسالة من السلطان عبد الحميد نفسه إلى الشيخ أبي الشامات في الشام، أرجو أن يعود المعنيّون بالتاريخ إليها، فإنها وثيقة ثمينة جداً نادرة المثال. سخّر اليهود إخوانهم من الاتحاديين فضعضعوا هذا البنيان وهزّوا صرح الخلافة، وأرادوا أن يمحوا شعار العربية عنها وأن يجعلوها تركية، ثم أدخلوا الدولة حرباً ما لها فيها شأن ولا لها منها نفع ووضعوها مع الفرقة الخاسرة، ثم جاء مَن نحر ناقة الله فأحل قومَه دار الخسار، فتفجّر هذا الكوكب الضخم فصار شُهُباً صغاراً. ¬

_ (¬1) مجلة العربي، العدد 169 ديسمبر (كانون الأول) 1972.

وأنا لا أريد أن أكتب تاريخاً وإنما أسرد ذكريات، فيميل بي القلم يميناً أو شمالاً، ثم أعود إلى طريقي. * * * لقد عشت أكثر شبابي وسماءُ بلاد العرب ملبّدة بالغيوم لا يبدو فيها من الشمس شعاع، حتى إذا كانت سنة 1973 (إن لم أكن قد أخطأت التاريخ) وكان قد مرّ عليّ عشر سنوات وأنا أدرّس في جامعات المملكة، في الرياض أولاً ثم في مكة، وأذيع من إذاعتها، كنت قادماً بالطيارة من الرياض إلى جدة، فاتفق أن كنت قريباً من الشيخ السقّاف رحمة الله عليه، الذي كان وزير الخارجية أو يقوم مقام وزير الخارجية، فخبّرني خبراً ملأ قلبي مسرّة، هو أن المملكة وجّهت الدعوة إلى وزراء خارجية الدول الإسلامية ليعقدوا مؤتمرهم ليكون تمهيداً لمؤتمر القمة الإسلامي، وأبلغني عن المقام السامي بأن أكون في الفندق الذي ينعقد فيه اجتماع الوزراء، حتى إذا عرضَت مسألة شرعية وكان لي علم بها ورأي فيها سُئلت عنها. فركبني والله همّ أحسست منه كأن صخرة قد وُضعت على كتفَيّ، ولم أدرِ كيف أعتذر عنها وأتخلص منها. وكان قد دُعي إلى هذا مثلي الشيخ الصوّاف والدكتور أمين المصري، فشكوت إليه ورجوت أن يخلّصني، فأخذني إلى لقاء الملك رحمة الله عليه. وقاموا إلى الغداء فأقاموني معهم، وأنا أتحرّج أن آكل في الفندق أمام الناس فكيف على مائدة الملك؟ ولم يكن على المائدة إلاّ هو رحمه الله والدكتور معروف الدواليبي والدكتور أمين المصري

والشيخ الصواف وأنا. وكان عليها ضيفان أحسبهما من الصحفيين من لبنان، وجعلوا يأتون بطبق بعد طبق، وأنا لا يحتمل أكلي كله ستّ دقائق فكيف أنتظر حتى ينتهي الطعام؟ وجاؤوا بطبق فيه شيء حسبته من المعجَّنات، فأخذت الشوكة لأمسكه بها ثم أقطعه بالسكين (كما رأيت الناس يصنعون)، وإذا هو صلب لا تنزل الشوكة فيه، وإذا هو ينطّ (وكلمة «نطّ» فصيحة) من الطبق، وأنا يجلّلني الخجل ولا أدري ما العمل، وأقول لنفسي: ويحكِ يانفس ما الذي جاء بك إلى مائدة الملك؟ ومتى كنتُ أصلح لها؟ وأجد أن الحقّ كله على الشيخ الصواف الذي أدخلني هذا المدخل، الذي يراه الناس نعمة يحرصون عليها وأجده أنا عذاباً أهرب منه، وتمنيت أن أجد شقاً في الأرض أو زاوية في الغرفة أختبئ فيها. وليس يعلم إلاّ الله كيف أمضيت مدّة الطعام، ولكن الذي أعلمه أنني قمت وأنا جائع. ولم أجد مجالاً لأكلم الملك ليُعفيني مما دعوني إليه وما أهمّني حقاً، فعدت إلى الشيخ الصواف، وأحسب أنه هو الذي جرّ عليّ هذا كله، فاقترح أن يذهب بي إلى وزير الخارجية. فقابلت السقاف رحمه الله وقلت له: إن دار بنتي قريبة من وزارة الخارجية، وسأبقى إلى جنب الهاتف فإن طلبتموني جئت، ولكني أستحلفك بالله أن تُعفيني من النزول في الفندق ومن أن أكون من الوفود. وكان هذا هو الاجتماع التمهيدي الأول للقمة الإسلامية التي توالى عقدها، والتي تنعقد للمرة الخامسة في هذه الأيام في الكويت. إنه من يوم ذهب عبد الرحمن الأموي إلى الأندلس

سنة 138هـ إلى حين انعقاد القمة الإسلامية الأولى، في هذا التاريخ الطويل الذي امتدّ أكثر من ألف ومئتَي سنة لم يجتمع حُكّام المسلمين في مكان واحد تحت سقف واحد ولم يتفقوا على رأي واحد، حتى اجتمعوا هذه المرة، اجتمعوا بعد التفرّق وتقاربوا بعد التباعد، وصدروا ببيان واحد فيه رأي واحد. لا أقول إنه أعاد الوحدة ولا جدّد الخلافة، ولا أقول إنها رجعت به دولة عمر بن الخطاب ولا دولة عمر بن عبد العزيز ولا دولة الرشيد ولا المأمون، بل أقول إنها بداية مرحلة جديدة ومولد عهد جديد. إنه الفجر بعد الليل الذي طال حتى كدنا نيأس فيه من رؤية النهار. والفجر فجران: الفجر الذي تبدو فيه خيوط النور متفرقة على حاشية الأفق، ثم يأتي بعده الفجر الصادق الذي يملأ الأفق نوراً ويطلع على الدنيا نهاراً حقيقياً، والذي ينادي عنده المؤذن: «حيّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم» فينفض النائمون الأغطية عنهم وينهضون يستقبلون يوماً جديداً بعزم جديد، ينبّهون العزائم بالوضوء الذي يُزيل عن أعضائهم بقايا المنام، ثم يستمدّون العون من الله بالصلاة التي يستنزلون بها النصر ويرجون الفلاح. وقد يكون هذا الحدَث فجراً كاذباً لا يجب به الصوم ولا تصحّ فيه صلاة الفجر، ولكنه فجر على كل حال. إن لم يكن نهايةَ الليل فإنه دليل على أننا صرنا في أواخر الليل، وإن لم يكن بداية النهار فإنه دليل على أننا دنونا من النهار. وكل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر: السنديانة الضخمة تبدأ نبتة صغيرة يستطيع العصفور أن يتناولها بمنقاره، والمنارة العالية تبدأ

سدّة واطية يقدر الولد أن يتخطاها برجله، والإنسان يُولَد قطعة جامدة من اللحم والعظم لا تنطق ولا تتحرك. ثم تكبر السنديانة حتى تصير دوحة راسية لا تزعزعها الأعاصير، وترتفع المنارة حتى تغدو صرحاً عالياً لا يصل إلى ذُراه إلاّ النسر والعقاب، وينطق الولد الأبكم حتى يأتي بروائع البيان وخوالد القصائد، ويمشي حتى يجزع الأرض ثم يعلو الجبل ثم يركب الفضاء إلى القمر. وهذا المؤتمر إن بدأ صغيراً فسيكبر إن شاء الله، وستجتمع في مثله القلوب كما اجتمعت فيه الأجساد والآراء، ثم يصير المؤتمر جامعة للدول الإسلامية، ثم تصير الجامعة اتحاداً، ثم يغدو الاتحاد وحدة. وحدة إسلامية كما أمر الله أن تكون، أمة واحدة الله ربّها ومحمد إمامها، والقرآن دستورها، والحكم لها والعلم فيها، تمتدّ من غانة إلى فرغانة، تجمعها الكعبة التي نُطيف بها ونقوم صفوفاً من حولها، دوائر وسط دوائر، وهي مركز مدارها وقطب رحاها. لا تستكثروا شيئاً على الله، فالله الذي منح أجدادكم السيادة والسعادة والحضارة والسلطان هو الله باقٍ لا يزال، قادر على نصركم إن نصرتموه، يدافع عنكم كما وعدكم، ولكنّ لكل شيء سبباً؛ فمَن حرث وزرع أعطاه الله الثمر، ومن درس وقرأ منّ الله عليه بالنجاح، ومن تداوى نال من الله الشفاء. وسببُ نصركم أن تنصروا ربكم، وتتبعوا شرعكم، وتتمسّكوا بدينكم. يا أيها الإخوان، إلى متى نقول هذا الكلام فلا يستمع له أحد؟ * * *

الفقيدان الوزير والمدير، ومن قبلهما فقدنا الأمير

-225 - الفقيدان الوزير والمدير، ومن قبلهما فقدنا الأمير كنت أهمّ أن أكتب في الحلقة الماضية عن «مدرسة التلفزيون»، عن اقتراح رفعتُه إلى وزارة المعارف من نحو عشرين سنة ودارت فيه رسائل رسمية وشخصية بين ثلاثة هم: وزير المعارف الشيخ حسن بن عبد الله بن حسن، ووكيلها الشيخ عبد الوهاب عبدالواسع، ومدير مدارس الثغر الشيخ عبد الرحمن بن صالح التونسي. وكنت أرتّب هذه الرسائل وأحاول أن ألخّصها وأن أجلو للقراء صورة عنها، وبينما أنا في ذلك إذ جاءت الجريدة وفيها نبأ أحسست أنه مسّ أعصابي مسّ تيار الكهرباء، نفضني نفضاً، ومعه نبأ مثله، فزُلزلتُ زلزالاً؛ ذلك هو نبأ المصاب بالوزير وبالمدير، أسأل الله لهما الرحمة، وللوكيل (الذي هو اليوم وزير الحجّ والأوقاف) طولَ العمر ودوام التوفيق. لقد سقط الشيخ حسن كما يسقط المجاهد في المعركة يمضي شهيداً سعيداً، قضى وهو ينظر في داره في المعاملات الرسمية التي لا ينظر غيره فيها إلاّ في المكتب وفي ساعات

الدوام، وبعضهم يسرق جانباً من ساعات الدوام فلا يكون فيها في المكتب، وبعضهم يسوّف ويؤجّل ويدع أصحاب الحاجات يتقلبون من انتظار إنجازها على الجمر. وأذّن المغرب فقام ليلبّي داعي الله، وطلب كأساً من الماء فجاؤوه به، ولكن المقدار عاجله فلم يشرب الماء. فقعدت أفكر: أهذه هي الدنيا التي نتزاحم عليها ونتسابق إليها ونجعلها أكبر همّنا؟ أفي مثل ردّة الطرف ولمحة البرق يصير الإنسان الحيّ الذي كان ملء الأنظار والأسماع ذكرى تُذكر وحديثاً يؤثر؟ أمّا كأس الماء فإني أسأل الله أن يشربها من أيدي الحور العين في جنة النعيم بفضل الله ورحمته، إننا ندعو ولا نملك له ولا لأنفسنا شيئاً. ومن قبلُ فاجأني وهزّني نعي الشيخ إبراهيم بن عبد العزيزبن إبراهيم. ثلاثة عرفت آباءهم قبل أن أعرفهم. أما الشيخ إبراهيم فكان فتى يافعاً يوم عرفت أباه وأنزلني ضيفاً عليه مع الشيخ ياسين الروّاف في قصر الإمارة، أيام مقامنا في المدينة المنورة. وقد جالست الشيخ إبراهيم يومئذ فرأيت ذهناً متوقداً وذكاء حاداً، ورغبة في العلم والأدب واطّلاعاً على آثار الكبار من أدباء ذلك الزمان، كالعقّاد والمازني والرافعي والزيات وهيكل (حسين لا حسنين). ثم سافرت وانقطع ما بيني وبينه، حتى قدمت المملكة سنة 1963 وكان وكيل إمارة مكة المكرمة، فلم يُنسِه طول المدى ولا كبر المنصب أنني جالسته ساعات قبل نحو ثلاثين سنة، فدعاني. وحاولت -على عادتي- الفرار من الدعوة،

فسدّ عليّ مسالك الهرب حتى استسلمت وألقيت السلاح. وكانت جلسة استمرّت خمس ساعات، ولو استمرت خمسة أيام لَما مللتها ولا ضقت بها، لأنني وجدته قد نضج وكملَت فضائله وازدادت معارفه. أمّا الشيخ حسن والشيخ عبد الرحمن فلم ألقَهما في قَدْمتي تلك إلى المملكة سنة 1353هـ لأنهما وُلدا سنة 1352. * * * وكذلك يغدو الإنسان في هذه الدنيا حديثاً بعده. ولكن الحديث عن هؤلاء الثلاثة يعبق منه العطر وترتاح له كل أذن ويصدقه كل سامع، وإذا ذكر فَقْدَهما المفاجئ قطر من عينه الدمع فشاركَت فيه كل عين وأسِيَ له كل قلب. ما عرفت لهؤلاء الثلاثة كارهاً، فكأنهم وسعوا الناس بحسن الخلق ولين المعاملة، مع الاستقامة على طريق الحقّ. وإذا كانت ألسنة الخلق أقلام الحقّ كما يقول الناس، فإني لأرجو أن يكون هذا الكثير الطيب الذي كُتب عنهم شهادة عند الله لهم. أنا ما كنت ألقى الشيخ حسن والشيخ عبد الرحمن عليهما رحمة الله مرتين في السنة، ولكني كنت مطمئناً عليهما اطمئنان الأخ على أخيه وهو بعيد عنه، فإن أصابته مصيبة شاركه مصابه وإن أنعم الله عليه نعمة فرح بها له. ولم أكن أتوقع أبداً أن أقرأ خبر وفاتهما، لذلك صُدمت به لمّا سمعته، كما صدمني من قبلُ خبر وفاة الشيخ إبراهيم لمّا

قرأته، لأنني عرفت آباء الثلاثة قبل أن أعرفهم. ولو كان الموت يأتي بالدَور يُصيب الأكبر فالأكبر لكنت أنا سابق الثلاثة، ولكن لله حكمة تقف دونها أفهام الناس. أمّا الشيخ عبد الله بن حسن فقد كان يوم قدمتُ المملكة قاضي القضاة، وكنت أزوره كل يوم في المحكمة التي كانت في شمالي الحرم ودخلَت الآن فيه لمّا وُسّع وجُدّد بناؤه، وكان صدّاعاً بالحقّ مقيماً للشرع، ورأيت منه -على ذلك- شفقة وعاطفة ورقّة قلب. كان متعبداً صالحاً، ما جئت للحرم للصلاة مدّة إقامتي القصيرة في مكة إلاّ وجدته في الصف الأول يقرأ القرآن ينتظر الصلاة. ومَن كان في انتظار الصلاة كان في صلاة. وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد، فإذا جاء الحديث الصحيح على غير المعتمَد في المذهب أخذ بالحديث. وهذا هو الحقّ، ولقد وفّقني الله إليه بعدما لبثت دهراً من عمري حنفياً لا أعدل بمذهبي شيئاً ولا أدعه بحال، وأنا أستغفر الله الآن مما كنت عليه وأحمده على ما صرت إليه. وأمّا الشيخ صالح التونسي فكان شيخي، لزمتُه سنين وسنين يوم كان مقيماً في دمشق، وكان مدرّساً لنا في المدرسة الجقمقية عند الباب الشمالي للجامع الأموي، وقد سبق الكلام عنه وعنها في هذه الذكريات. وكان صديق أبي، فأرسلني إليه أقرأ عليه دروساً خاصة في غرفته في المدرسة البادرائية، وهي مما بنى الأجداد من المدارس. وكنت قبل ذلك أقف على حلقته في الجامع الأموي يوم

كانت حلقات الدروس في هذا الجامع كثيرة، وكانت الحلقة الكبرى منها تحت قبة النسر يتولاّها أكبر علماء الحديث في البلد، وكان مدرّسها على عهدنا الشيخ بدر الدين الحسَني شيخ علماء الشام. وكانت حلقة الشيخ صالح تمتاز منها كلها لأنها كانت كالمدرسة الجامعة، فيها حديث وفيها قواعد في المصطلح وفي الأصول وفيها تاريخ وشعر وأدب، وكان الشيخ فصيح العبارة طلق اللسان كثير السجع، يأتي معه عفواً بلا تكلُّف بلهجته التونسية الجميلة. وفي هذه الحلقة عرفت أول مرة الأستاذ سعيد الأفغاني سنة 1338هـ، واستمرّت صحبتنا العمر كله ثم صار عديلي، جدّ زوجتَينا (والد أمّهما) الشيخ بدر الدين الحسني. وقدّمت القول بأن الشيخ صالح كان شديداً فما كنا نحبّه ونحن صغار، فلما كبرنا وأدركنا مبلغ ما استفدنا منه من علم ومن أدب، بل ومِن دين ومن خُلُق، أحببناه. ثم ودّعَنا وهاجر إلى المدينة المنورة فكان مدرّس المسجد النبوي، وكان ذلك في الأربعينيات من هذا القرن الهجري، لأنني لمّا جئت المدينة في رحلتنا تلك من أربع وخمسين سنة كان قد مرّ عليه زمان وهو فيها. وفي المدينة تزوّج (كما أظن) ووُلد له الفقيد الأستاذ عبدالرحمن رحمه الله، ومن قبله الأستاذ الطيّب الذي بلغ أعلى السلّم في الرتَب العسكرية، على علم وفضل وسعة اطلاع، أطال الله عمره. وله إخوة ما عرفتهم. وفهمت أن عمّ أمهم هو شيخنا وأستاذنا في المدرسة السلطانية الثانية في دمشق سنة 1337هـ

وهو الشيخ زين العابدين التونسي، الأخ الأصغر لشيخ مشايخنا السيد الخضر الحسين، الذي ولي مشيخة الأزهر وأسّس جمعية الهداية الإسلامية في مصر يوم أُسّسَت جمعية الشبان. وكنت ألقاه في المطبعة السلفية عند صديقه خالي محب الدين، وهو صديقه، كما ألقى العالِم النبيل المؤرّخ المحقق أحمد تيمور باشا، وكانا متشابهَين في سعة العلم وشدّة الحياء وكثرة التواضع ولين الجانب. وعندي عن الشيخ صالح رحمه الله الكثير الكثير، ولو جمعت ذهني يوماً لكتبتُ له ترجمة كاملة، أسأل الله أن يوفّقني إليها. * * * أكتب هذا الكلام وأمامي رسائل كثيرة من الشيخ حسن والشيخ عبد الرحمن رحمهما الله، والشيخ عبد الوهاب عبد الواسع أطال الله عمره، لو أنني نشرتها وأمثالَها لجاء منها كتاب فيه تاريخ وفيه أدب وفيه فوائد، كما نشر الأمير شكيب أرسلان رسائل السيد رشيد رضا، وكما نشر الشيخ أبو ريّة رسائل الأستاذ الرافعي. وكانوا من تواضعهم يكتبون بخطوطهم، وإذا كانت معاملة رسمية (وفي المعاملات الرسمية بعض الجفاف) بلّلها الوزير الشيخ حسن بكلمات يكتبها بخطه الرقعيّ الجميل يضعها إلى جنب العنوان الرسمي، أقلها كلمة «الأخ»، ويضع مع السلام في آخر الرسالة دعوة صالحة أو تحية حلوة، تحوّلها من رسالة نمطية روتينية رسمية إلى رسالة أخوية عاطفية.

أما الأستاذ عبد الرحمن فلم يكتب إليّ يوماً إلاّ بخطه، وكان يصدّر رسائله بعبارات تدلّ على نبله وعلى أدبه لا على أني أستحقّها أو أني أهل لها. ولولا أن الانكماش مستقرّ في طبعي وأن حب العزلة والهرب من المجالس غالب عليّ، ولو أني تعودت أن أغشى المجالس وأن أدنو من الأعلام لكتبت عنهما وعن غيرهما ما لا يكتب مثله كثير من الناس؛ ذلك لأنني مُنحت بحمد الله عيناً تلحظ وذهناً يحفظ وأذناً تلتقط وقلماً يعبّر، ولو أني تعودت مخالطة الرجال وغشيان مجالسهم التي كانت مفتوحة لي ترحّب بي لكتبت الكثير الكثير. مرّ عليّ الآن وأنا أعمل في المملكة نحو ربع قرن، لو أني كتبت عن أيامها مفصّلاً لَما خلت نصف أحداثها من ذِكر وزير المعارف الشيخ حسن رحمه الله (الذي صار بعدُ وزير التعليم العالي) ووكيل الوزارة الأستاذ عبد الوهاب (الذي صار بعدُ وزير الحج والأوقاف) وصديقهما وصديقي الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله. وأنا قلما أزور أحداً، ولكنني زرت الشيخ حسن في داره في الرياض، ودعاني إلى طعامه فتلفّتُّ أجد المهرب فما استطعت، فأجبت، ووجدت في طعامه الشفاء لأنه رجل صالح كريم. وزرته في داره في الطائف وفي دار أمه في مكة، إلى جنب مسجد أبيه الذي جُدّد الآن رحمه الله ورحم أباه، وأشهد أنه كان من أبرّ الناس بأمهاتهم، وهذا من دلائل الصلاح. ولا نزكّي على الله

أحداً ولكن نشهد بما علمنا. ومن دلائل صلاحه هذه الورقة التي كانت يكتبها لنفسه وهو في مجلس الوزراء في اليوم الذي توُفّي فيه في لحظات راحة تأتي خلال المذاكرات، ومثل هذه الأوراق تدلّ على ما في عقل صاحبها الباطن، فمن الناس من يرسم عليها صوراً أو يكتب شيئاً لا معنى له، وهذه ورقة كتبها لنفسه، لولا أن الله توفّاه فبقيَت على مكتبه في مجلس الوزراء فاطّلعَت عليها فنشرَتها بخطّه جريدةُ الرياض (عدد 21 جمادى الأولى 1407) لَما علم بها أحد، فهي شيء بينه وبين ربه. وهذه هي الكلمة منشوره بخطه، فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيّه من خلقه، أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم اهدِنا لِما اختُلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. ربنا لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك اللهمّ وأتوب إليك. وكتبت الجريدة تحتها: كان هذا الدعاء هو آخر ما خطّه بيده معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله في آخر جلسة حضرها لمجلس الوزراء، أطلع عليه خادمَ الحرمين الشريفين صاحبُ السموّ الملكي الأمير سعود الفيصل الذي وجده مكتوباً في الملف الذي أمام مقعد الفقيد الراحل، تقبّل الله دعاءه وتغمّده بواسع رحمته وغفرانه. هذا ما كتبَته الجريدة، وأنا أقول مخلصاً من قلب مؤمن:

اللهمّ آمين، فقولوا «آمين» ياأيها القراء واستغفروا له وللفقيد الآخر، واستغفروا الله لأنفسكم وللمسلمين. ولا تظنوا أني ذهبت إليه أزوره في جدة وفي مكة وفي الطائف وفي الرياض لحاجة لي، لا، ولكن مشيت في حاجات الناس لمّا كانت لي طاقة على المشي فيها، أمّا الآن فقد صرت متقاعداً، وحقّ لي ذلك فأنا أكتب هذه الحلقة عصر يوم الجمعة 23 جمادى الأولى من عام 1407، وقد وُلدت فجر يوم الجمعة 23 جمادى الأولى عام 1327. فهذه ثمانون سنة كاملة، ودخلتُ اليوم في الحادية والثمانين. والفقيدان الشيخ حسن والأستاذ عبد الرحمن لم يُكمِلا الخامسة والخمسين، ولو كان لي من الأمر شيء ولو ضمنت حسن الخاتمة لفديتهما بنفسي، لأنهما ولأن أمثالهما أنفع لهذه الأمة مني. * * * أنا في كل يوم أودع راحلاً كريماً يحمل معه قطعة من نفسي وحزمة من ذكرياتي، وما الحياة إلاّ مجموعة الذكريات. ولقد قلت من قديم إن المرء يحيا بمنظر الحيّ من سطح داره، ومنعطف الشارع من نافذة غرفته، والمنارة التي يرى ذروتها منها، والوجوه التي ألِف أن يراها، والأصوات التي تعوّد أن يسمعها، فإن نقص شيء منها نقص شيء من حياته هو. لقد ودعت في المملكة أعزّة كنت أحبهم، منهم من لم يكن يدري بي ولا بحبي لأنه كان في الذروة وأنا على السفح؛

ودّعت الملك المؤسّس العبقري عبد العزيز الذي بنى دولة أقامها على تقوى الله، وساسها سياسة أدهشت دهاقين السياسيين ممّن درس في الجامعات وعاش في مراكز الحضارات، وهو الذي لم يدرس إلاّ في جامعة الحياة وهو الذي عاش شطراً من حياته في هذه الصحراء. الصحراء التي لا تعرف النفاق لأنها مكشوفة، ليس فيها كما في المدن سقوف ربما أخفت تحتها الموبقات ولا جدران ربما حجبت الجرائم والخطيئات، الصحراء التي لا يعيش فيها إلاّ الأقوياء، تعيش فيها أُسْد الفلاة ولكن لا تعيش فيها الجراثيم ولا المكروبات. الصحراء التي فقدنا كثيراً من مجدنا لمّا نسينا أخلاقها، كما نسيها يوماً جنود هانيبعل (هانيبال) الذين هبطوا منها على روما من فوق جبال الألب، فلما عاشوا فيها واستسلموا إلى الدعة وألِفوا عيش المدن استرخوا وضعفوا. لذلك ترك ابن تاشفين الأندلس، جنة الأرض، وعاد إلى الصحراء خشية أن يحلّ بجنده ما حلّ بجند هانيبال. وودّعت من إخواني هنا نفراً كراماً كانوا إخوة حقاً وكانوا أصدقاء. وما كل أخ صديقاً. وكلهم أصغر مني سناً، الدكتور محمد أمين المصري، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ ظافر القاسمي، ومَن كان بعضهم من تلاميذي كالأستاذ عبد الرحمن رأفة الباشا. فحتّى متى أبقى ويظعَنُ إخوةٌ ... أُوَدّعُ منهمْ راحلاً غيرَ آيِبِ؟ * * * أشهد أني ما راجعت الوزير الشيخ حسن رحمه الله،

ولا الوكيل يومئذ الأستاذ عبد الوهاب أبقاه الله، ولا وسّطت الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله إلاّ كان الجواب بالإيجاب. وقد جاءني من أسبوع زوج بنتي الصغرى يذكّرني بأفضال الأستاذ عبد الوهاب عليه يوم نُقل (من غير رضاه) من جدة إلى الرياض قبل ثلاث وعشرين سنة، ولم يكن قد صار زوج بنتي، فكلّمت الأستاذ عبد الوهاب فلما اقتنع بأنه مظلوم أمر بإعادته فوراً. وإذا كان الشيخ حسن رحمة الله على روحه أقربَ إلى اللين فإن الشيخ عبد الوهاب كان أدنى إلى الحزم، وكلاهما كان مع الحقّ وفي اجتماعهما التكامل. ولمّا كانت قضية إنهاء عقود طائفة من الأساتذة السوريين من أكثر من عشر سنين، بوشاية ما لها أصل تولّى كبرها ناسٌ لم يبقَ منهم أحد، منهم من فارق هذا البلد ومنهم من فارق الدنيا كلها غفر الله لهم وسامحهم، كلّمت الوزير الشيخ حسن، فكان منه ومن الأستاذ عبد الواسع أن أعادهم لمّا تبيّن له أن الحقّ معهم، وكان للأستاذ عبد الرحمن فضل كبير في ذلك. كان الثلاثة دائماً معاً، وهم مَثَلٌ عالٍ للصداقة الصافية. ولمّا ولي الأستاذ عبد الرحمن إدارة مدارس الثغر زُرته فوجدت منه بعض اللين، فخِفت عليه -لا أكذب القراء- لأن سلفه رحمه الله كان موصوفاً ببعض الشدة من غير ظلم، وفي مدارس الثغر أبناء الأكابر وهم غالباً مدلَّلون يصعب قيادهم، وقد تعوّدوا على ما كان من سلفه، فكيف يقوم أودهم ويضمن طاعتهم؟ ثم تبيّن لي أنه ليس كل ليّن ضعفاً. وأنتم تعرفون مَثَل الفلاح لمّا كان عليه المعطف الثقيل فتنافسَت الريح والشمس أيهما يستطيع أن ينزع

عنه معطفه؟ فعصفَت الريح وزعزعت الأشجار وأثارت الغبار، فبرد الفلاّح فأضاف إلى المعطف عباءة، ثم طلعَت الشمس صامتة هادئة فسَرَت الحرارة في جسده فألقى عنه المعطف. كان الأستاذ عبد الرحمن يسوس الطلاب سياسة أب رفيق ولكنه حازم، وكان مع الأساتذة أخاً لطيفاً ولكنه أخ مُطاع. كنت أزوره في النهار تارة وأزوره في الليل حينما أقدم جدة، فأراه مع الطلاب يبشّ في وجوههم وينبسط إليهم ولا يعلو عليهم، وكذلك يعامل الأساتذة والمدرسين. كنت أحدّثه يوماً عن التلبية في الحج، إذ تُذاع من الإذاعة والرائي بنغمة رتيبة ليس فيها حماسة المسلم ولا تتجلّى فيها روعة المناجاة، وقلت له: لو وجدت مَن يلبّي معي لجعلت لإلقائها أسلوباً آخر. فقال: لولا أني تعِب لذهبت معك فلبّيت مع الشباب، تقول أنت ما تقول فإذا وصلتَ إلى التلبية لبّينا معك. وسمع ذلك وكيلُ المدرسة، وأظنّ أن اسمه الأستاذ أبو الخير، فذهب معي إلى الرائي (التلفزيون) وذهب بعض المدرسين، وكان فيهم مدرّس من الشام نسيت اسمه له صوت جميل ومعرفة بالألحان، فسجّلنا التلبية بأسلوب جديد أذاعوه وأُعجب به الناس، ثم لم يعودوا إلى إذاعته. فانظروا كيف استطاع بلينه أن يجعل وكيل مدارس الثغر يذهب فيكون في جوقة (كومبارس) في الرائي لايجد في ذلك بأساً، ولو أمره بذلك أمراً لاستنكف وعصى. * * * هؤلاء الثلاثة الذين عرفت آباءهم حقّ المعرفة، ثم عرفتهم

وأحببتهم وخالطتهم، ثم فُجعت بهم، كانوا نماذج في حُسن الخلق وفي نبل النفس، وفي محبتهم الناسَ ومحبة الناس إياهم، وفي الإقبال على العمل والدأب عليه، والذين حزنتُ عليهم حقاً ودعوت لهم من قلبي بالرحمة والغفران ولآلهم وذويهم بالصبر والسلوان: للأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز، الأخ الأكبر للشيخ حسن الذي كان وزير المعارف قبله، والفريق (الجنرال) الأستاذ الطيب، وهو الأخ الأكبر كما أظن للأستاذ عبد الرحمن، ولأولادهم الذين لم أشرف بمعرفتهم، لا لأن مثلهم يُجهل مكانه بل لأنني فرضت على نفسي من سنين عزلة كاملة، فلا أخرج من داري إلاّ إلى المسجد أو إلى الإذاعة أو الرائي. ولقد عرفت من أنسباء الأستاذ عبد الرحمن أن معالي الأستاذ الكاتب الفاضل الشيخ عبد العزيز السالم هو عديله (وربما سُمّي مسلم ابن عبدالله المسلم في مقالاته الجِياد)، فلهؤلاء مني أجمل العزاء ولمن اختاره الله إلى جواره الرحمة والغفران. * * *

تعليق على الحلقة السابقة: لبيك اللهم لبيك

-226 - تعليق على الحلقة السابقة: لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ حَسِب قوم ممن قرأ الحلقة السابقة من الذكريات أني أحدثت في التلبية حدَثاً أو ابتدعت فيها بدعة أو أنني استبدلت بالمأثور منها أمراً مخترَعاً، وأنا أعوذ بالله أن أكون مخالفاً سنّة أو داعياً إلى بدعة، ذلك أن صيغة التلبية لا يُعدَل عنها ولا يُستبدل بها لأنها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كلامي كان عن اللهجة التي تؤدّى بها. إن لهجة الكلام تكون أحياناً أبلغَ في الدلالة على مقصد المتكلم من معاني ألفاظه. إن كلمة «صباح الخير» مثلاً (وهي تحيّة أكثر الناس، وإن كان الأفضل في تحية أهل الإسلام إفشاء السلام) صباح الخير قد تكون شتيمة إذا ألقيتها على رفيقك وأنت مزموم الحاجبَين مضموم الشفتين غير ناظر إلى عينيه بعينيك، وقد خفضت بها صوتك وأطلت بعدها صمتك. وربما كان منها أجمل سلام أو كانت مناغاة غرام إذا قلتها وقد برقت عيناك وانبسطت شفتاك، وهززت معها رأسك هزّة المودّة ورقّقت بها صوتك. وربما كان معناها أني «لا أباليك ولا أشعر بوجودك» إذا قلتها كأنك تُلقي نشرة الأخبار تتحدّث عن الرياح والأمطار. والعفو من إخواننا المذيعين، فما أردت إلاّ ضرب الأمثال.

بل ربما نطقتَ بالشتيمة وأنت ضاحك السنّ مبتهج النفس، فيفهم منها رفيقك أنك تحبه وتودّه وترفع الحُجُب بينك وبينه وتخلطه بنفسك. فهل تظنون أن الصحابة الكرام -حينما كانوا يلبّون- يلبّون بهذه اللهجة الرتيبة المتكرّرة الإيقاع، أم يلبّون من قلوب ملأها الإيمان؟ وللإيمان وَقْدة تبدو حرارتها على اللسان فتسري إلى السامع فتهزّه، كما تسري الكهرباء في جسد من يلمس سلكها فيصير مشحوناً بها، فمَن وضع يده عليه سرى تيّارها إليه. هل تظنون أن الصحابي عندما كان يلبّي كان ذهنه في النغمات والإيقاع، يحاذر أن يخرج عليها أو أن ينشز عنها؟ هل سمعتم بأن الصحابة أو التابعين وأن أهل الصدر الأول كانوا يلبّون هذه التلبية الجماعية، يتقدّمهم واحد يقول فيُعيدون ما قال، كأنهم أطفال في مدرسة الحضانة يتعلمون حروف ألف باء؟ أم تحسبونهم كانوا يلبّون ليسمعهم الناس؟ كان كل واحد منهم يربط بالله قلبه ويخاطبه وحده، ينسى مَن معه، يسدّ الأبواب كلها من حوله فلا يبقى إلاّ باب واحد هو الذي فوقه، الباب الذي يظلّ مفتوحاً دائماً لا يُسَدّ أبداً: باب الله الذي فتحه للداعين وقال لهم: ادعوني أستجب لكم. لذلك كان موقف عرفات منبع عزّة المؤمنين. إن القلوب كالمذاخر (¬1)، كلما ضعفَت فيها كهرباء الإيمان شحنَتها «عرفات» بطاقة جديدة منها فعادت كما كانت. * * * ¬

_ (¬1) المذاخر كلمة صحيحة وضعتها للبطاريات.

أترونني خرجت عن موضوع الذكريات؟ إذن فقولوا للجريدة تبدّل العنوان. أنا لا أريد أن أقتصر في ذكرياتي على رواية ما فعلت ولا ما رأيت وما سمعت، فإن فيما أستطرد إليه وأتكلم أحياناً فيه ما هو أنفع للقراء من ذكرياتي. أنا لا أتكلم الآن عن الحج فللحج وقت يحسن الكلام فيه، ولكنها مناسبة عرضت فأحببت أن أستفيد منها: إذا هبّتْ رياحُكَ فاغتنمْها ... سيأتي بعدَ هَبّتِها سُكونُ وهذا الكلام ينفع اليوم كما ينفع وقت الحج. والتلبية أولاً والتكبير ثانياً هما شعار الحج، وهما يَحسُنان في كل حين. وصيغ الذكر كثيرة، ولكن الله جعل لكل مقام مقالاً ولكل عبادة ذكراً، فمن قرأ القرآن في الركوع والسجود كان مُسيئاً، وإن كان القرآن أفضل من التسبيح. فلماذا لا نلبّي نداء ربنا في الحج وفي غير الحج؟ لماذا نلبي بألسنتنا ولا نلبي بقلوبنا؟ لماذا لا يظهر أثر تلبيتنا في سلوكنا وفي أعمالنا وفي كل مظاهر حياتنا؟ دعا محمد، صلّى الله على محمد، إلى ما فيه عزّ الدنيا ومجدها وسعادة الآخرة ونعيمها، فقامت قريش تمنع الناس أن يلبوا دعوة محمد ‘ وتؤذي من لبّى وتُذيقه العذاب ألواناً. وإن كان كل ما صنعت قريش من ألوان التعذيب لا يبلغ ما نراه أو نسمع به اليوم من الكفرة الملحدين الذين تَسلّطوا على بعض بلدان المسلمين. فأين قريش المشركة الآن؟ لقد صارت هي نفسها مع من لبّى دعوة محمد، لأن الله غالبٌ على أمره والباطل كان أبداً زهوقاً، وسيُزهِق الله باطل أعداء الإسلام

اليوم كما أزهقه بالأمس ويبقى الإسلام حتى تقوم الساعة. إنه سيأتي على الناس زمان لو سألتَ ألفاً من أهله عن كارل ماركس وعن شارون وشامير لَما عرف واحدٌ منهم مَن ماركس ومن شارون وشامير. لا تعجبوا من هذا الكلام ولا تحسبوه أضغاث أحلام، فإن فيما مضى إشارة إلى ما سيأتي. ألم يكن القرامطة يوماً متسلطين على الناس يعيثون في الأرض فساداً؟ ألم يقتحموا الحرم على الحجاج فيذبحوهم مِن حول الكعبة ويأخذوا الحجر الأسود معهم، ولا يقوى أحد يومئذ على صدّهم؟ فمَن يعرف اليوم من هم القرامطة وما قصتهم؟ لقد محقهم الله من الأرض (وإن بقيَت بقيّة قليلة منهم تلبس غير ثيابها وتبدو للناس بغير جلدها). محقهم الله ومحا ذكرهم من الأذهان لمّا لبى المسلمون داعي الله وكسروا الأقفال عن قلوبهم، فتدبّروا القرآن ثم عملوا بما في القرآن. وأنا ما جئت فيما ذكرته في الحلقة الماضية بشيء جديد، لأن كل جديد في الدين مردود، والدين كمل وما بعد الكمال إلاّ النقص. ولكني كنت أتحدث مع الأستاذ عبد الرحمن التونسي رحمة الله عليه عن الشام وعن العَراضات التي تخرج فيها في المناسبات، إذ يَقدُمُ القومَ واحدٌ منهم يُلقي عليهم قولاً يهتفون بعده بهتافات ألفوها وتعوّدوها، فيبعث ذلك الحماسة في نفوسهم ويوري نارَها في أعصابهم. فقال لي: لماذا لا تجعلون في التلبية من يصنع هذا؟ لا أن يعلّمهم كيف يلبّون، بل أن يبعث حرارة الإيمان في قلوبهم حتى يظهر أثرها على ألسنتهم. هنالك كان ما قلت لكم من أنني هتفت بإدارة الرائي (التلفزيون) في جدة وسألتهم: هل يسجّلون لنا هذه التلبية ثم يعرضونها على الناس؟

فقالوا: نعم. وسألنا من كان حولنا: هل يذهبون معنا؟ فذهب كثير من الطلاب وذهب بعض الأساتذة والمدرسين، وقال الأستاذ عبد الرحمن (وهو صادق فيما يقول) إنه لولا وعكة ألمّت به ذلك اليوم لذهب معنا، وسمع ذلك وكيل المدرسة الأستاذ أبو الخير فقال: أنا أذهب معكم. ولست أحفظ ما قلته في ذلك اليوم ولست أدري في أي سنة كان، ولكنه كان قبل أكثر من عشر سنين، بل إني أظن أنه كان قبل أكثر من خمس عشرة سنة، الله أعلم فلست أدري، فأنا أذكر الحوادث القديمة في حياتي ولكنني لا أذكر الجديد. لأن القديم صادف قلباً خالياً وذهناً واعياً، وكانت أحداثه قليلة فاستقرّت وبقيت. فالآن حين وهن القلب وونى الذهن، وكثرت الأحداث وتشابهت عليّ الأيام، لم أعُد أستطيع أن أعي ولا أن أحفظ. تشابهَت الأيام لأني لا أعمل عملاً موقوتاً كأعمال الموظفين، فعمل الموظف كمن يمشي على طريق معبَّد فيه الصُّوى (أي الإشارات)، يعرف منها أين بلغ وكم قطع. ومَن كان مثلي لا عمل له كان كالذي يمشي في الأرض البراح، لا جادة يتبعها ولا محطات يقف عليها. والشريط الذي سجّل عليه الرائي هذه التلبية وبثّها وسمعها ورآها الناس، هذا الشريط ليس عندي. لم أجد عندي إلاّ جُزازات، قطع أوراق كنت كتبتها كالمذكرات لي بما أقوله، أمثّل عليها الآن ببعضها. نقول جميعاً: "لبّيكَ اللهم لبّيكَ، لبّيكَ لا شريك لك، إن

الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبّيكَ اللهم لبّيك". وأقول أنا مثلاً: "أمرتنا فأطعنا ونهيتنا فاجتنبنا"، أقولها وحدي وهم يرددون معي: "لا شريك لك". فنطلب منه، ولا رب غيره فندعوه: "إن الحمد والنعمة لك"، أنت المحمود بكل لسان وأنت المنعم على كل إنسان، أنت ملك الملوك وأنت الواحد القهار. يا أيها الأخ المسلم، إذا ناداك أبوك قلت: لبّيك. وإن دعاك أستاذك أجبت: لبّيك. فهذا ربّ العالَمين يدعوكم إلى تصحيح توحيده فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك (وهنا نلبي جميعاً). يدعوك إلى اتّباع شرعه، فقولوا لبّيكَ اللهم لبّيك (وهنا نلبي). يدعوك إلى الجهاد في سبيله: فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. هذا كلام ربكم في قلوبكم يقول لكم: جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. هذا صوت محمد يرنّ في أسماعكم يحثّكم على امتثال أمر ربكم، فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. يدعوكم لتنقذوا قبلته الأولى التي صلّى إليها، لتخلّصوا مسراه الذي سرى إليه، لتحرّروا معراجه الذي عرج منه. يدعوكم لتنصروا الله حتى ينصركم الله، فقولوا: لبّيكَ اللهم لبّيك. اللهمّ إنك دعوتنا فجئنا نقول: "لبّيك اللهم لبّيك"، إننا وقفنا ببابك ننادي: لبّيك اللهم لبّيك"، قمنا في رحابك نصرخ: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيكَ لا نشكو إلاّ إليك، لبّيك لا نرجو الخير إلاّ من يديك، لبّيك توكّلنا عليك، لبّيك اللهمّ لبّيك، لا شريك لك. ما لنا إله غيرك، فهل تردّنا عن بابك وقد جئنا نقول: لبّيك اللهم لبّيك؟ لبّيك ربنا وتعاليت، لبّيك لك الحمد، لبّيك منك النعم، لبّيك ياواحد ياأحد يا فرد يا صمد.

هذا كتاب ربكم يناديكم أن تجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، أن تستشعروا عزّة إيمانكم، فقد جعل الله العزّة المطلقة له جلّ جلاله وجعل العزّة في الدنيا لرسوله وللمؤمنين. فأين عزّة المؤمنين ومسرى نبيّهم في أيدي اليهود؟ وأين عزّة المؤمنين وقبلتُهم الأولى وحرمهم الثالث بيد اليهود؟ أين عزة المؤمنين يامن يتوجهون إلى الكعبة من كل أرض في الأرض ومِن تحت كل نجم في السماء؟ أين تلك العزّة -وأنتم تسعمئة مليون- إذا تركتم أقلّ الأمم وأذلّ الأمم تأخذ منكم أقدس بقاعكم بعد الحرمين الشريفَين؟ يامسلمون، مسجدكم الأقصى بيد اليهود لم يعُد المسجد الآمن الذي يجد فيه المسلم السلام، ولم يعُد ما حوله لنا ترفرف عليه رايتنا وتحكمه شريعتنا. فاذكروا وأنتم عند القبلة، القبلة الأولى، اذكروا الأقصى: المرأةُ الشَّلاّءُ تحمي بيتَها ... أنُبيحُ بيتَ الخالقِ المعبودِ؟ هوَ حِصنُ حقٍّ غابَ عنهُ حُماتُهُ ... هُوَ قلعةٌ لكنْ بغَيرِ جنودِ لا العطرُ والنَّدُّ المصفّى طِيبُهُ ... لكنَّ ريّاهُ شذى البارودِ يُصْلَى المُصلّي النارَ في جَنَباتِهِ ... والمسلمونَ بِنَومةٍ وهُجودِ أينامُ مَنْ تُقري المدافعُ سَمعَهُ ... صوتاً يُزلزلُ قُنّة الجُلمودِ أينامُ مَنْ يمشي اللهيبُ بدارِهِ ... يَشوي حَميمُ لظاهُ رملَ البيدِ وأنا لست بشاعر، ولكني أحياناً أرصف أبياتاً إن لم تكن شعراً فإنها تعبّر عن شعور. وقد ارتجلتُ هذه المقطوعة في الحفلة الكبرى التي أقيمَت لقضية فلسطين في كراتشي، وكان حاضرها الملك سعود والرئيس الباكستاني، فقلت لهما:

أيضيعُ بينَكما مصلّى أحمدٍ ... ويَعودُ هيكلَ معبدٍ ليهودِ؟ وأكملتها بالأبيات التي رويتُها. * * * إن مَن يسمع صوت قطة في الشارع تموء من الألم لا يستطيع أن ينام، ومن يدقّ جاره بالمطرقة على جداره لا يستطيع أن ينام، فكيف ننام وأصوات المشرَّدين الهائمين من الأطفال والعجائز، من النساء والضعفاء، تملأ آذاننا، تخرج من شقوق الخيام التي مزّقتها الرياح ومرّت في جوانبها، وأثقلها الثلج الذي هبط عليها ولفّها الصقيع وجمّدها، في جبال الأفغان وفي المخيمات في لبنان؟ أتنامون على أصوات الاستغاثة من حلوق إخوانكم وأخواتكم، على أصوات المدافع والصواريخ يصبّها عليهم أعداؤهم وأعداؤكم؟ هل تستطيعون أن تأكلوا وتشربوا وتضحكوا وتمزحوا، وإخوانكم هناك في فلسطين (1) يذبّح أبناءهم اليهودُ ويؤذون نساءهم، ينسفون منازلهم، يهدمون معاقلهم، يسرقون أرضهم؟ كاللص يدخل عليك في الظلام دارك فيحتلّ جانباً منها فيدعوك إلى التفاوض. أفيفاوض ربّ الدار الحرامي؟ إذن فعلى العقل وعلى العدل السلام. وإن قام من أولادك من يطلب بالحقّ أمسكوا به وأحالوه إلى

محاكمهم، إلى محاكم الحرامية، بتهمة مقاومة الاحتلال! ويلكم ما أصفق وجوهكم وأشدّ وقاحتكم! أفي الدنيا شعب احتُلّت بلاده ظلماً لا يقاوم الاحتلال؟ إن مقاومة الاحتلال فضيلة، بل هي فريضة، ولا تُعَدّ جريمة إلاّ في شريعة خنازير البشر إخوان «الشين»: شارون وشامير والشيطان الرجيم، الذين هم إخوانه وأعوانه لعنة الله عليه وعليهم. كم من أمهات هناك ثاكلات وبنات مهتّكات، وبيوت مخرَّبات ودموع مسفوحات، وأعزّة كرام ذلّوا وأغنياء احتاجوا، شُرّدوا وسكنوا بعد القصور الخيام، وصاروا بعد البذل والعطاء محتاجين إلى القوت وإلى الغطاء. فإن لم تدافعوا عنهم بالسلاح ولم تبذلوا من أجلهم الأرواح فجودوا بالأموال، فإن الجود بالأموال نوع من الجهاد. * * * هذا وأمثاله ما كنت أقوله ذلك اليوم، وهذا ما أقوله اليوم. وهو كلام كان حقاً يوم قلته، وهو حقّ دائماً، سمعناه بالأمس وعلينا أن نسمعه اليوم وغداً، وإنْ سمعنا فعلينا أن نحقّق الذي سمعناه؛ أوجب ذلك علينا ربنا وجعله من دلائل إيماننا وأسباب نصرنا في دنيانا ونجاتنا في آخرتنا. إنه تذكرة لنا، فما لنا عن التذكرة معرضون؟ وكان مما قلت خلال التلبية التي كنا نؤدّيها (لا بهذه النغمة المكرَّرة المعادة الإيقاع، بل بمثل هتاف الجند في المعركة والضارعين إلى الله في المساجد، الذين يراقبون الله يدعونه

مخلصين واثقين من الإجابة): أين الرجال يامسلمون؟ أين الأبطال؟ أين أرباب الأموال يُمِدّونهم بأموالهم؟ أين أصحاب المقال ينصرونهم ببيانهم وأقوالهم؟ أين الشعراء وما لهم لا يرسلون القصائد التي تهزّ حبّات القلوب؟ ألا يعلمون أن من الشعر وأن من البيان وأن من الخطب ما يبعث الحياة في الصخر الصلد، وما يزلزل الجبال الرواسي، وما يُلهِب أمواج البحر، وما يصنع الأعاجيب وما يجعل من الأمة الواهنة الخاملة أمة تقحم الصعاب وتهجم على الموت؟ فكيف وهذه أمة محمد: البطولة في دمائها، والشجاعة إرث لها، والعزّة من ثمرات إيمانها؟ والنصر معها إن كانت مع الله، ومَن كان مع الله فلا يخشى كبيراً لأن الله أكبر من كل شيء. أين الشعراء؟ هل شغلهم عن هذا الذي نريد عكوفهم على وصف الغيد، وهذا الخزي الجديد الذي سمّوه شعر «الحداثة» الذي لا يدفع إلى طريق المعالي ولا إلى ذرى المجد؟ إنه شعر «الحدث الأصغر» الذي يدفع إلى دخول الحمّام للاستبراء منه والاستنجاء! كان للجاحظ تعبير عجيب فيمَن أعمى الله بصيرته حين زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً وراح يتمدّح به، كان يقول عنه: «إن هذا لا يجيء إلاّ بخذلانٍ من الله». أوَليس من الخذلان أن القطّ يستر بالتراب ما يخرج منه وهؤلاء يُظهِرونه ويفخرون به؟ أفلا يصحّ فيهم ما قال الجاحظ؟ * * * أنا لا أتعجل الكلام عن الحج في غير وقت الحج، ولكني

أشرت في الحلقة الماضية إلى واقعة فهمها ناس على غير وجهها، فجئت الآن أبيّنها. كان مما قلت لهم في ذلك اليوم أن أبا الأنبياء إبراهيم بوّأ اللهُ له مكان البيت وقال له: {وأذِّنْ في الناسِ بالحَجّ}، فأذّن به فاستجاب له المؤمنون يلبّون: {يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامِرٍ}، يأتون من البرّ والبحر والجوّ، بكل رَكوبة سخّرها الله لهم ودلّهم عليها بالعقل الذي منّ به عليهم: {يأتينَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عميقٍ}، من الشرق والغرب، من الشمال والجنوب، من قلب إفريقيا ومن أقاصي آسيا ومن مدن أوربا، من المناطق الاستوائية التي تتلظّى حراً إلى البطاح الباردة التي تنام وتصحو على الجليد: {لِيشهَدوا مَنافِعَ لهمْ}. والإسلام كله منافع تُجلَب ومفاسد تُدرأ، وخير في الدنيا وخير في الآخرة، {ويَذكُروا اسمَ اللهِ في أيّامٍ مَعْلوماتٍ}، وذكر الله هو غاية الغايات وهو مقصد الحياة. المؤمنونَ قدِ استجابوا للنداء ... نداءِ ربِّ العالَمينَ وأسرَعوا سارَتْ رَكائبُهُمْ ضُحىً قد أحرَموا ... والشوقُ يَحفِزُ والمدامعُ تدفَعُ ومشَتْ قوافلُهُم حَدا الحادي بها ... يُصغي لَهُ رَملُ الفلاةِ فيمرَعُ جَدّوا المسيرَ وأعنقوا حتى بدا ... لهُمُ وراءَ الأُفْقِ نورٌ يسطَعُ فتيقّنوا أنْ قدْ رأَوا أرضَ الهُدى ... ودنا الوصولُ فهلّلوا وتضرّعوا وتجاوبَت تلكَ البِطاحُ بقولِهِمْ ... لبّيكَ ربّي والبطائحُ خُشّعُ لبّيكَ والدنيا تردّدُ قولَهُمْ: ... لبّيكَ ربّي، أنصِتوا وتَسمّعوا "لبّيك اللهم لبّيك" (وهنا نلبي جميعاً)، دعاكم إلى بابه أكرمُ الأكرمين فقولوا: لبّيك إننا مقبلون عليك، نقصد رحابك ونلزم

بابك، نرجو ثوابك ونخشى عقابك. لبّوا حتى يلبي معكم ثرى عرفات وجبالها، لبوا حتى تلبي معكم الأرض ومن عليها، لبوا حتى تلبي معكم السماوات السبع ومَن فيها. لا تقولوها تراعوا بها النغمات والإيقاع، لا تقولوها ليسمعها الناس، بل أخلوا قلوبكم مما سوى الله واحصروا أفكاركم في امتثال أمر الله، اربطوا به قلوبكم، ليلبِّ كل واحد منكم وحده بينه وبين ربه ولو اختلطت الأصوات، تصوروا أن الله يناديكم فأجيبوا ملبين: "لبّيك اللهم لبّيك"، نحن منك ومردّنا إليك، "لبّيك اللهم لبّيك" ولا اعتماد إلاّ عليك، لبّيك جئنا مسلمين لك مجاهدين في سبيلك. «لبّيك»، هذا هتافنا عند المواقيت، عند حدود دولة الحج، ننزع ثيابنا عن أجسادنا ونخلع عنا ما لا يُرضي ربنا، ونستجيب لربّ العالمين نقول: "لبّيك اللهم لبّيك". وعند أنصاب الحرم، الحرم دار السّلام إن عمّت الأرضَ الحربُ، دار الأمان إن شمَل الدنيا الخوفُ، الحرم حيث كل حي آمن، الناس والحيوان والنبات، ليس ها هنا حرب ولا قتال، الأشجار ها هنا لا تُقطع، الحيوان ها هنا لا يُصاد، الناس ها هنا آمنون، لا عدوان على أحد. لبّيك لبّيك لبّيك. لبّيكَ ربّي قد أتيتُكَ تائباً ... أيُرَدُّ محتاجٌ أتى يتضرّعُ؟ لبّيكَ جُدْ بالعفوِ عنّي ليسَ لي ... أملٌ بغيرِ العفوِ منكَ ومطمعُ لبّيكَ ربي، المسلمونَ تَفرّقوا ... مَن ذا يوحّدُهمْ سواكَ ويجمَعُ؟ بَعُدوا عن الشّرعِ القويمِ فرُدَّهُمْ ... ربّي إلى الشرعِ القويمِ ليرجِعوا لبّيكَ يااللهُ والثقَلانِ والدنيا تلبّي

لبّيكَ ربَّ العالَمينَ وأنتَ يااللهُ ربّي لبّيكَ صوتُ محمدٍ أبداً بآذاني وقلبي يا مسلمونَ وأينَ أنتمْ ... مِنْ هُدى الهادي محمّدْ؟ عودوا إلى النهجِ القويمِ ... فإنَّ هذا العَودَ أحْمَدْ عودوا يَعُدْ مجدُ الجدو ... دِ ويومُ بدرٍ يتجدّد وترَوا صلاحَ الدينِ عادَ ... ويومُ حِطّينَ الممجَّدْ محمدٌ نادى فلبّينا الندا ... لم نستمعْ في الحقِّ أقوالَ العِدى في شِرْعةِ الإسلامِ رُشدٌ وهُدى ... وإنّ فيها عزَّنا طولَ المدى إنّها شِرْعةُ ربِّ العالَمينْ ... حينَ آخى بينَ كلّ المؤمنينْ كلّ مَن صلّى إلى قِبلتِنا ... كلّ مَنْ سارَ على شِرعتِنا فهْوَ مِنّا وَهْوَ مِنْ إخوَتِنا إن يختلفْ لسانُنا، أوْ تختلفْ ألوانُنا ... أوْ تبتعدْ بُلدانُنا، فحسبُنا إسلامُنا لبّيكَ قولوها أعيدوا (وهنا نلبي جميعاً) ... لبّيكَ قولوها تسُودوا لبّيكَ إنّا مؤمنونَ ومسلمونْ ... لبّيكَ إنّا نحوَ بيتِكَ سائرونْ لبّيكَ إنّا آيبونَ وتائبونْ لبّيكَ إنّا عازمونَ على الجهادْ ... لبّيكَ إنّا نحوَ بيتِكَ سائرونْ لبّيكَ أمدِدْنا بنصرِكَ ياسميعُ ويا مُجيبْ لبّيكَ حتّى نستردَّ القدسَ والبلدَ السليبْ وترفَّ رايتُنا على يافا على القُطرِ الحبيبْ لبّيكَ نصرَكَ إنّ مَنْ تنصُرْهُ يُنصَرْ لبّيكَ إنْ كبُرَ الخصومُ فأنتَ يااللهُ أكبَرْ

لبّيكَ عُدنا للجهادِ أعِدْ لنا النصرَ الموفَّرْ اللهُ أكبرُ، ما السجونُ وما السلاسل والقيودْ؟ اللهُ أكبرُ ما السيوفُ وما البنادقُ والجنودْ؟ اللهُ أكبرُ، مَنْ يكونُ حليفَهُ يخشى اليهودْ؟ سنعودُ للأقصى، إلى يافا ونابُلْسٍ نعودْ وترِفُّ رايتُنا على حَيفا على أرضِ الجُدودْ ونرى صلاحَ الدينِ عاد وجُدِّدَتْ تلكَ العهودْ * * * هذه هي الحلقة التي كنا سجّلناها وأشرتُ إليها في الحلقة الماضية. ما جئت ببدعة ولا دعوت إلى ترك سنّة، وإنما حاولت أن أبثّ في نفوس مَن حولي حماسة الإيمان وروح الجهاد. أمّا هذه الأبيات الموزونة فلا تسمّوها شعراً، وما أنا بشاعر، ولكنها جاءت على لساني فكتبتها كما جاءت. * * *

كيف جئت المملكة؟

-227 - كيف جئتُ المملكة؟ هل زرتم مرّة متحف الشمع؟ حيث ترى الناس على هيئاتهم في بيوتهم وأسواقهم ومجامعهم، بألوان جلودهم وملامح وجوههم وحركات أيديهم، حتى إنك لَتهمّ أن تدنو منهم فتمدّ يدك إليهم وتُلقي بأذنك إليهم لتسمع كلامهم! ترى الرجل في بيته مع أهله أو مع ضيوفه، والمرأة في غرفتها مع زائراتها والخادمة تدور بالقهوة أو بالشراب عليهن، أو ترى الأسرة حول طعامها تمدّ إليه أيديها وتملأ به أفواهها، وتُبصِر صاحب القهوة مع روّادها وصبيانها، والطبيب في مستشفاه مع مرضاه، وتُبصِر الحياة كلها بمشاهدها أمامك، ولكن ما ثَمّ حياة ولا فيما ترى روح؛ إنما هي أشباح بلا أرواح، ترى المحدّث ولكن لا تسمع الحديث ولا تطرق أذنيك نبراتُه ورنّاته، ولو رُكّبت في هذه التماثيل مسجّلات فسمعت حديث أصحابها لَما سمعت إلاّ أصواتاً ميتة من جسد ميت. هذا مثال ذكرياتي التي نشرتها، وهذا ما تجدونه في ذكريات الأدباء مهما بلغوا من العلوّ في سلّم الأدب؛ إن الذي يضعونه فيها تماثيل الشمع. وهَبْني وصفت المكان حتى كأنك فيه والأشخاصَ

حتى كأنك معهم والحديثَ كأنك تسمعه، فأين ما وراءه من خَطَرات الأفكار ونزعات النفوس، وأين المشاعر التي نشأت عنه والعواطف التي دفعت إليه؟ وهَبْني أوتيتُ بياناً عبقرياً وصوّرتها تصويراً، فهل تَذَكُّر ما كان كالشعور بما هو كائن؟ لقد قدّمت في هذه المذكّرات قصة ردّي على أستاذنا في كلية الآداب، شاعر الشام شفيق جبري رحمه الله، لمّا كتب في كتابه «المتنبي» أن الأدب أُلهِيّة شريفة، وأنشأت في الردّ عليه فصولاً ونشرت في ذلك رسالة مطبوعة تلقّفَتها أيدي القارئين، وكان ذلك سنة 1930 (1348هـ)، وهأنذا أعود بعد نحو ستّين سنة فأعتذر إليك ياأستاذي، وأقول بأن من الأدب ما هو أُلهِية يتلهّى الكاتب الأديب بما يتخيّل فيها عمّا يرى من حقائق الحياة، وأعني بذلك الأدب الشخصي أو أدب العواطف والذكريات والأماني. فصول جميلة مَن أنعم النظر إليها سُرّ بها، ولكن لم يبقَ في يده شيء منها. فأنا أُلهي نفسي بكتابتها عن الإحساس بفقدها، كالأم تودّع ولدها الذي ركب الطيارة وترك معطفه عندها، فهي تشمّ المعطف وتضمّه كأن صاحبه فيه، وصاحبه قد طار. هذا ما وجدته لمّا عُدت أقرأ هذه الذكريات؛ لم أجد من الأحداث إلاّ ما يجده الأب الذي يفقد ولده حين يرى أمامه جسده، جسداً كاملاً ولكن بلا روح، ومظهراً ولكن بلا جوهر. حتى هذا القدر الضئيل الذي قدرتُ عليه لم أستوفِه كله، فلقد تركت مما قصصت من ذكريات فجوات أرجأتُ ملأها، ثم بعدتُ في سيري عنها فلم أعُد إليها، وأشياء لم أتحدّث عنها.

تكلمت عن الفقيدَين الكريمَين الشيخ حسن بن عبد الله وزير المعارف والشيخ عبد الرحمن التونسي مدير مدارس الثغر، ولكني لم أستوفِ الكلام عنهما. وأمامي الآن ظرف كبير فيه رسائل خاصة منهما وكتب رسمية وقرارات وزارية في مشروعات كنت اقترحتها، منها «مشروع تأهيل النابغين»، وأنا أرى الآن العناية بالنابغين وتكريمهم وتشجيعهم، ومشروع «مدرسة التلفزيون» الذي انتهى أمره بعد مراسلات استمرّت شهوراً إلى أن صدر فيه قرار وزاري باسم «مشروع التثقيف التلفزيوني»، تَقرّر فيه تفريغي من عملي في الجامعة لأكون المشرف عليه. واقتراح رفعتُه إلى الوزارة من قديم بتحويل كلية التربية إلى جامعة لا تكلّف الدولة قرشاً، بأن توسَّع الأقسام حتى تصير كلّيات، حتى إنني اقترحت من ذلك اليوم أن تُسمّى «جامعة أم القرى»، قبل إنشاء جامعة أم القرى بسنوات طوال. وسأكتب إن شاء الله عن ذلك كله بمقدار ما تتّسع له صفحات الجريدة وصدور قُرّائها. ولكن عليّ أن أذكر قبل ذلك كيف جئتُ المملكة لأعمل فيها، فامتدّت فيها أيامي وطال فيها مقامي، حتى لم أعُد أزور دمشق إلاّ لماماً، مرة في السنوات ذوات العدد، ثم حِيلَ بيني وبينها، فمرت الآن ثماني سنوات ودخلَت التاسعة وأنا لم أرَها، بل أنا لم أجاوز في هذه السنين كلها حدود مكة وجدة. فكيف كان ذلك؟ * * * كنت كلما زرت المملكة وقابلت من أعرف من أعلامها

رأيت منهم دعوة صادقة بأن أقيم فيها وأن أكون عاملاً صغيراً بين العوامل الكبار جداً على نهضتها، وكنت أجيب بالشكر ولا يخطر على بالي يوماً أن ذلك سيتحقق. فلما ضاق العراق بأخينا الشيخ الصوّاف على عهد عبدالكريم قاسم وكثرت الإساءات إليه، وامتدّت الأيدي للعدوان عليه حتى شاع خبر مقتله، وكأن الذي ركّب قصة هذه الشائعة كان أديباً موهوباً وقصصياً حاذقاً فجاءت قصة تستدرّ الدمع من عيون الصخر. وسمعتُها، وكان لي يومئذ حديث دائم في إذاعة دمشق فجعلت حلقة منه في رثائه، فبكيت وأبكيت السامعين. فلما هرب من العراق استقرّ حيناً في الشام أيام الوحدة، فضايقوه فذهب إلى مكة فاستقرّ فيها، وصار يعرض عليّ أن أعمل فيها معه. ولكني كنت مستريحاً في عملي مكتفياً في رزقي، ما أجد ما أشكو منه، وإن كانوا وكلوا أيام عبد الناصر مَن يلازمني في ذهابي وإيابي، لا يفارقني إذا خرجت من منزلي حتى يصل معي إلى محكمتي، فإذا دخلتها بقي على بابها يلازمه لا يبتعد عنه حتى أخرج فيعود معي، واستمرّ ذلك حتى عرفته وعرفني وألفته وألفني، وصرت أكلّمه وأنصحه فيسمع مني، فلما رأوه قد مال إليّ بدّلوه. وما كان ذلك ليضرّني، وإن كان يؤذيني ويثقل على نفسي. وعاد الصواف يُلِحّ عليّ بالعمل في المملكة، فكنت أشكره وأُفهِمه أنني غير مفارق بلدي، حتى جاءتني يوماً برقية بأن الملك سعوداً رحمة الله على روحه وافق على أن أعمل في مكة أستاذاً في كلية الشريعة. وما كان في تلك الأيام -على ما أعلم- من كلية

عالية في المملكة سواها. ثم جاءني بعد حين بطريق رسميّ صورة من كتاب أرسله معالي وزير المعارف الشيخ حسن (رحمه الله وأسكنه بفضله ورحمته جنّته) إلى الصوّاف يستقدمني فيه. وسارت الأوراق في طريقها تدفعها السفارة في دمشق، وأنا أسير معها كأنني أمشي مغمض العينين أو كأنني شاربٌ مخدّراً! فأنا أمشي حيث يمشون بي، حتى لم يبقَ إلاّ أن أُعطى ما يُدعى «أمر الإركاب»، أي الكتاب الرسمي إلى شركة الطيران السعودي لتحملني إلى مكة. واتفق أن قدم الشام في تلك الأيام وكيل وزارة المعارف، وأذكر أن اسمه الأستاذ الدمنهوري رحمه الله. فذهبت أزوره في الفندق أسلّم عليه وأتعرف إليه، وإذا أنا أواجه فكرة طرأت على ذهني فجأة، ليس لها مقدّمات ظاهرة ولا أسباب معروفة، عجبت منها أنا قبل أن يعجب منها غيري، هي أن أعتذر عن السفر وأعود إلى القصر العدلي، إلى المحكمة التي ودّعت أهلها آنفاً. وخبّرت سعادة الوكيل بذلك وقلت له: لا تعجب ياسيدي، فأنا والله في عجب من ذلك، ولكن القلوب بيد الله والله يحول بين المرء وقلبه، لذلك أمرَنا فقال: {وَلا تَقولَنَّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلكَ غداً إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ}. إن المرء ربما استطاع أن يحكم بعقله على يومه، أمّا غده فباب مُغلَق ليس معه مفتاحه ولا يُبصِر ما وراءه. وحاول الوكيل رحمه الله أن يثنيني عن هذا الذي عزمت عليه، ولكن الخاطر كان أقوى من أن يردّني عنه شيء، فقبِل ذلك آسفاً كما قال.

وأذكر بوضوح أنني هبطت سلّم الفندق وأنا أتعجب من نفسي: ما الذي دفعني إلى هذا القرار الذي جاءني مفاجئاً فملأ عليّ جوانب نفسي وأمسك بزمام إرادتي وقادني إلى الاعتذار؟ وصدّقوا أني لم أعرف ذلك إلى الآن، ولكنني أعرف أني ما ندمت عليه بل كنت مسروراً به، أحسّ كأن حملاً ثقيلاً كان على كتفي وأُلقيَ عنه. وذهبتُ إلى المحكمة ولقيت الإخوان كأن شيئاً ما كان. ومن يعمل مستشاراً في محكمة النقض لا يحسّ أنه مرتبط بزمان أو بمكان، بل يشعر أن حوله مدى واسعاً يتصرف فيه بحرّيته، ما عليه إلاّ أن يدقّق في القضايا التي تُحال عليه يدرسها وحده في مكتبه إن شاء في المحكمة (ولكل مستشار غرفة ومكتب) أو يأخذها إلى داره، وذلك أمر متعارَف، وإن كان الأَولى ألاّ تخرج القضايا من باب المحكمة. * * * ومرّت السنة وأنا مستريح في عملي، لا يضايقني إلاّ ما كان يضايق الناسَ كلهم في ذلك العهد. حتى إذا جاءت العطلة الصيفية خُبّرت أن لجنة سعودية لاختبار الأساتذة قد نزلت دمشق، ولعلّكم تعجبون إن عرفتم أن رئيس اللجنة التي أخذَتني إلى المملكة هو صديقنا الشيخ عبد العزيز المسند، وكان يومئذ شيخاً بالاسم ولكنه كان شاباً بالفعل. ولم يأخذني إلى مكة أستاذاً في كلية الشريعة كما كان مقرَّراً من قبل، ولكن إلى «الكلّيات والمعاهد» في الرياض. وكنت قد زرت الرياض قبل ذلك مرتين، مرة سنة 1353، أي قبل أربع

وخمسين سنة من كتابة هذه الحلقة، يوم كانت الرياض شبه قرية حولها سور له أبواب، وكان موضع شارع الوزير صحراء، وكانت البطحاء بطحاء حقيقة، وكان بين الرياض ومنفوحة فضاء ما فيه عمارة. ومن يعرف الرياض الآن لا يستطيع أن يتصور كيف كانت في ذلك الزمان. أما الزيارة الثانية فكنت قد رتّبتها مع سعادة السفير الشيخ عبد العزيز بعد ذلك بنحو اثنتين وعشرين سنة، حين دعا جماعة من القضاة لزيارة المملكة زيارة رسمية، فذهبنا ثلاثة: رئيس المحكمة العليا الأستاذ عبد القادر الأسود، وزميلنا المستشار في محكمة النقض الأستاذ نورس الجندي، وأنا. وكانت الرياض قد اتسعت قليلاً وخرجت من السور، وظهر شارع الوزير، وإن كان البناء فيه قليلاً، وأُقيمَ فيها فندق أظنّ أن اسمه فندق زهرة الرياض (أو لعلّي أخطأت الاسم وأنسانيه طول المدى). جئنا الرياض عن طريق جدة بعد أن أقمنا في جدة أياماً، كان مقامنا خلالها في فرع لفندق الكَنْدَرة. وكنا نقضي أكثر يومنا عند وجيه جدة الأفندي الشيخ محمد نصيف، نجلس إلى مائدته ونستفيد من مكتبته ونأخذ من حديثه، وحديثه تاريخ ناطق وفوائد مجتمعة رحمة الله عليه. ثم زرنا مكة، ولم يكن قد تمّ تجديد الحرم ولا اكتملت توسعته، ثم ذهبنا بالطيارة إلى الرياض، ثم ركبنا القطار إلى الظهران وعُدنا منها إلى الشام. وقد وجدت في الرياض لمّا جئتها للعمل فيها في زيارتي الثالثة لها سنة 1963 (1383هـ) جماعة من إخواننا المدرّسين

السوريين، منهم الأستاذ الدكتور محمد الصبّاغ والشيخ الدكتور مصطفى الخَن والأستاذ عمر عودة الخطيب والأستاذ عبدالقدوس أبو صالح، ومنهم من غاب الآن اسمه عن بالي ولكن ما غاب فضله وكرمه عن صفحة قلبي. واستأجرت داراً، كانت دارَ مجلة راية الإسلام، تواجه دار الإفتاء وتجاور المسجد الثاني في الرياض والمكتبة الكبيرة الملحَقة به. وسرّني أنها دار ليس فوقها ولا تحتها مسكن لأحد، فأنا أنام آمناً أن يوقظني أحد بقرع الجدار إلى جنبي أو رفع الصوت من تحتي أو الدقّ على السقف من فوقي، ولكن ساءني منها أنني أصبحت ففتحت باب الشرفة أنظر منها، فإذا أنا أطلّ على خربة يدخل إليها الناس ليقضوا فيها حاجاتهم! فلا تسأل عن قبح الرائحة ولا عن سوء المنظر. ففتّشت عن دار غيرها بعد أن أقمت فيها أياماً، كان الناس يسألونني فيها: أين نزلت؟ فأقول: في «المَشَخّ»، على وزن «المَلَزّ»، وشتّان ما بينهما! والملزّ كلمة فصيحة. قال جرير: وابنُ اللَّبونِ إذا ما لَزّ في قَرَنٍ لم يستطعْ صولةَ البُزْلِ القَناعيسِ والكلمة من عامي الشام الفصيح، وما أكثر الفصيح في العامية الشامية على قبح لهجتها وعلى رخاوة النطق بها؛ فيقول المعلم عندنا لتلاميذه: "لزّوا السطور"، أي قاربوا بعضها من بعض. فكلمة «المَلَزّ» لسباق الخيل عربية فصحية، كما أن الكلمة التي وضعتُها مازحاً (كلمة المشخّ) فصيحة أيضاً، وما كل صحيح فصيح ولا كل فصيح مليح. * * *

وأخذني الإخوان إلى مكان العمل، إلى «الكلّيات والمعاهد»، وكان هذا هو اسمها، وقد صارت اليوم «جامعة الإمام محمد بن سعود». وكانت في عمارة إلى جنب البلدية تجتمع فيها الكلّيتان، وخُبّرت الآن أن الدولة بنت لها بناءً كبيراً واسعاً لا أعرف أين يقع. وكان المشرف على «الكليات والمعاهد» هو الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، نائباً عن أخيه المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم الذي كان المفتي وكان رئيس الكليات والمعاهد ورئيس الجامعة الإسلامية في المدينة ورئيس رابطة العالَم الإسلامي، وكانت له رياسات أخرى، رحمة الله عليه وعلى الشيخ عبداللطيف وعلى كل من ذكرت وأذكر في هذه الفصول. وكنت قد عرفته من قبلُ، وعرفت الشيخ عبد العزيز بن باز طوّل الله عمره وقوّاه ووفّقه، فلقد لمست منه العلم الواسع والخلق الرضي والإخلاص لله في العمل. رحّب بي الشيخان الأخوان رحمة الله عليهما، وكان المشرف الفعلي على الكليات هو صديقنا الشيخ عبد العزيز المسند، ومعرفتكم به تُغنيكم عن وصفي له. وكان مدير الكلّيتين رجلاً فاضلاً سمح الخلق، يحب الجميع ويحبه الجميع، وكان بابه مفتوحاً دائماً يدخل عليه من شاء، فكنت أجلس عنده كل يوم سُوَيعة آنس به. وكان يجتمع عليه الطلاب في فرصة الظهر يستأذنونه في الخروج، ولم يكن يُسمَح بالخروج من الباب إلاّ لمن يحمل ورقة موقَّعة منه، فكان

إذا جاءه الطالب أخذ ورقة الإذن بيده وشرع ينصحه بلسانه، يقول: إن الخروج ياولدي ممنوع إلاّ في حالة الضرورة، فلماذا تضيع وقتك وتُتعِب نفسك؟ ثم يقول له: ما اسمك؟ فيكتب اسمه في الورقة، ويرجع فيقول: ولماذا لا تبقى في الكلية؟ ويسأله: في أي كلية أنت؟ ويكتب ذلك في الورقة. وكنت أعجب من طول باله وسعة قلبه وحسن خلقه، وأعتذر لأني نسيت اسمه. وعطشت يوماً وأنا عنده فقلت له مازحاً: متى تكون صلاة الاستسقاء؟ قال: ولماذا السؤال؟ قلت: لأنني أرجو أن يأتي الله بالمطر فإنني عطشان. فضحك وقال لرجل يتربّع على كرسي إلى يساره (وكنت أنا على الكرسي على يمينه) قال: يافلان، هات ماءً للشيخ. فإذا هو فرّاش، وإذا الفرّاشون يجلسون مع الرئيس في مكتبه! وجدت ذلك في كل دائرة كنت أدخلها، وقد وجدته أولاً عند صديق الشباب والكهولة الدكتور منير العجلاني لمّا كان كبير المستشارين في وزارة المعارف، وكنت أزوره كل يوم أو يومين. وعطشت مرة أخرى فقلت للقاعد على هذا الكرسي: من فضلك هات لي كأس ماء. فدُهش المدير وقال: ألا تعرف الشيخ فلاناً؟ وإذا هو رجل رفيع المنزلة عالي القدر! فصرت بعدها إذا مِتُّ من العطش لم أطلب ماء لأنني لا أعرف الفرّاش من أمير المؤمنين. وهذه هي الطبيعة العربية الإسلامية، وهذه التي يسمّونها

الديمقراطية (وهي كلمة يونانية مؤلَّفة من كلمتين: «ديموس» أي الشعب و «كراسي» أي الحُكم، ومعناها «حكم الشعب»). فالديمقراطية عندنا حقيقة مشاهَدة صارت طبيعة فينا، وهي عند غيرنا دعاية تكاد تكون لفظاً بلا معنى. وكان الأعرابي يدخل مجلس رسول الله ‘ فيسأل: أيكم محمد؟ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يمتاز منهم في لباس ولا مجلس ولا شارة خاصة به تدلّ عليه. وجاءني مرة الفرّاش وأنا ألقي محاضراتي، فوقف في الباب وقال على مسمع من الطلاب: المدير يريدك. فكبر ذلك عليّ وأبَته نفسي، وسمع ذلك أخي، بل ولدي وابن شيخي، الأستاذ عاصم ابن الشيخ محمد بهجة البيطار، وكان يدرّس في الغرفة التي تجاورني، فخرج وقال لي: لا تنزعج يا أستاذ فهذه هي عادتهم، إنهم على السليقة الصافية، فقُل له: تعالَ أنت. فقلتها، فإذا هو يجيء والله حافياً مسرعاً يقول لي: إنهم يطلبونك على الهاتف من قصر وليّ العهد. فخجلت منه واعتذرت إليه. وكان لهذا الهاتف قصة ربما ذكرتها يوماً. ولي مع المديرين والعمداء أمثال لهذه الواقعة، منها واحدة مع مدير ثانوية البصرة أيام حكمة سليمان بعد الانقلاب العربي الأول الذي قام به بكر صدقي سنة 1937، وأخرى مع عميد كلية التربية في مكة. وكنت في تلك الأيام شديد الاعتزاز بالكرامة، آبى أموراً لا يأبى مثلَها الناس وأُنكِرها ولا يُنكِرونها، كنت أظن أنها تخدش كرامتي، ثم علّمتني الأيام أن ذلك كله من الأوهام،

وأن الكرامة ليست بناء واهياً تُسقِطه نفخة فم أو لمسة يد كالبيت الذي يبنيه الأطفال من قطع الخشب أو من فارغ العلب، ولكن الكرامة عند الكِرام أسطوانة من الصخر لو هبّت الرياح الأربع لَما زعزعَتها، وأن الذي يهتمّ بهذه الصغائر لا يكون كبيراً، فلم أعُد بعدُ أباليها ولا أهتمّ بها، إلاّ إن أحسست نيّة متعمَّدة في الإساءة إليّ أو قصداً إلى تحقيري، هنالك يعاودني الداء القديم فلا أقبل ذلك من أحد مهما كان. ووجدت غرفة الأساتذة في الكلية واحدة تجمع أساتذة الكلّيتين (كلّية الشريعة وكلّية اللغة العربية) وكانت واسعة جداً فيها طاولة كبيرة جداً وحولها أكثر من ثلاثين كرسياً، يجتمع فيها الأساتذة، لكن يقعد النجديون في جهة منها والمعاقِدون (أي المتعاقدون) في جانب، وقلما يكون بينهم حديث مشترَك. فكرهت هذا التفريق من أول يوم، وقعدت مع الشيوخ النجديين تارة ومع إخواننا من الشاميين والمصريين تارة أخرى، ووجدت من الفريقَين أحسن الاستقبال وأجمل الترحيب. ووجدت جوّ الكليتين في الجملة جوّ صفاء ومحبّة، وإذا وُجد الإسلام فلن تجدوا إلاّ المحبّة والصفاء. وأمّا الطلاب فأشهد (وأنا أعلّم من سنة 1345هـ، من قبل أن أكمل تعليمي) بأنهم من أكثر مَن رأيت من الطلاّب أدباً مع المدرسين ورغبة في الاستفادة منهم، وتكريماً للمُسِنّين منهم. * * *

وقفة على المخيمات

-228 - وقفة على المخيَّمات كان عليّ أن أُكمِل ما شرعت فيه من قصة قدومي للمملكة وبقائي فيها، ولكن عرض لي ما استوقفني، فقفوا قليلاً معي. إنها الكلمة التي قرأتها أمس للأستاذ محمد معروف الشيباني يقول فيها: ما أظن أيام الحَجّاج بن يوسف التي عاث فيها ضرباً وتنكيلاً وقتلاً للمسلمين وعلمائهم بأشدّ وطأة من هذه الأيام التي يتعرّض فيها مسلمون عُزْل فيهم نساء وأطفال للموت جوعاً، لأن حَجّاج هذا الزمان وشرذمته قرّروا حصارهم ومنع الماء والغذاء والدواء عنهم. وإذا كان الحصار الآن قد تعدّى المئة يوم حتى أكل سكّان المخيَّمات لحوم القطط والكلاب والفئران، وسقطت نساؤهم برصاص القنص وهنّ يحاولن الاقتراب من ترعة ماء قذر ليروين ظمأهن بعد أن نضب الماء، بينما المحاصرون يسكبونه زلالاً في كؤوس الخمر التي تُدير رؤوسَهم نشوة واحتفاء بهذا النصر المؤزّر ... (إلى أن قال): نودّ أن نسمع من علماء المسلمين الأفاضل تقييمهم لِما حدث ويحدث ... إلى آخر الكلمة. * * *

لا تظلم الحَجّاج ياأستاذ وتضعْه مع هؤلاء في نسق واحد، وتجعَلْه قريناً لهم محسوباً معهم؛ فالحَجّاج عصى وخالف وقتل على الظن وسَفَك الدماء، ولكنه ما عاث في الأرض فساداً، بل حاول أن يُصلِح ما كان فيها من فساد فأخطأ الطريق وأساء الوسيلة. لقد قضى على الفتن ونشر الأمن، وكان فيه نبل العربي وكان في قلبه -بعد ذلك- بقية من إيمان وأثارة من إنسانية، وكان ربما ذُكّر فذكر وعاد إلى الحقّ وعدل. ولست أدافع عن الحَجّاج، ولقد بسطت رأيي فيه في ثلاث قصص كنت نشرتها في «الرسالة» و «الرواية» من خمسين سنة كاملة ثم أودعتها كتابي «قصص من التاريخ» (¬1)، وأتمنى الآن أن يأتي مثله ليُقِرّ الأمن في لبنان. أمّا حُكم الإسلام في هذا الذي وقع ويقع في المخيمات في لبنان فلا والله، لا الإسلام دين الحقّ يجوّزه ولا النصرانية ولا اليهودية، ولا تُقِرّه أعراف اللصوص وقُطّاع الطرق، ولا طبائع الذئاب في الغاب والحيّات والعقارب في الجحر والسرداب ... كل أولئك يُنكِرونه ويأبونه ويصرخون -لو كان لهم لسان- بالبراءة منه، ولو نُسب إلى واحد منهم فعله لعُدّت نسبته إليه إهانة له. لا إله إلاّ الله، إنه على كل شيء قدير، يخلق على هيئة الإنسان مَن ليس فيه شيء من الإنسانية! وإلاّ فكيف يتلذّذ هؤلاء ¬

_ (¬1) انظر في الكتاب قصة «هجرة معلم»، وقد بسط فيها علي الطنطاوي في نحو ثلاثين صفحة قصة الحَجّاج كما استوحاها من سطر واحد وجده في كتب التاريخ (كما جاء في حاشية في ختام القصة). وانظر قصتَي «ليلة الوداع» و «يوم اللقاء» أيضاً، فهذه هي القصص الثلاث التي أشار هنا إليها (مجاهد)

برؤية طفل رضيع ما جنى جناية ولا ارتكب إثماً، على صدر أم ما حملت سلاحاً ولا خاضت حرباً، يُمنع الطعام والشراب عنها حتى يجفّ ثديها ويغيض في عروقها دمها، وتموت مرتين قبل الممات: مرّة من جوعها ومرة من تمزُّق قلبها حزناً على ولدها الذي يذوي ويذوب بين يديها؟ أهذا إنسان؟ ماذا كان الإنسان سيفعل لو أبصر على جانب الطريق كلبة هزيلة قد ولدت، فلما جاءت تُرضِع جِراءها من أطْبائها (أي أثدائها) لم تجد فيها لبناً، والمولود ينبح حتى أخفى الجوع صوته، والأم تتلفّت حولها ينطلق لسانها الأعجم من غير كلام، وتُلقي عيناها الحائرتان قصيدة استغاثة يسمعها ويستجيب لها كل من كان في قلبه من الإنسانية أدنى ميراث ومن كان له قلب وفي قلبه من الشعور أيسر نصيب، فجاءها رجل بقليل من الحليب تتقوّى به الأم وتعيش به الوليدة، فأقبل صبي ليس له عقل يُدرِك ولا قلب يعطف فرمى الرجل بحجر أصاب الإناء فكبّ ما كان فيه، ووقف يمنعه أن يدنو منها أو أن يسعفهما لئلاّ تفسد عليه لذّته بمنظر موتهما. هذا والذي يراه حيوان أعجم. فكيف لا أقطع حديث ذكرياتي وأقف اليوم لأصف مشهداً ما رأيت مثله في عمري الذي طال، ولا قرأت مثله في أخبار الأولين وأساطير الماضين، وما أظن أنه وقع مثله في مغارات اللصوص وقُطّاع الطرق ولا في أوكار المجرمين؟ إنه شيء لا أعرف له في اللغة العربية اسماً يدلّ عليه، فيا ضيعة عمري في دراستها ورواية أشعارها ومعرفة أخبارها وكشف

أسرارها! لقد تبيّن لي اليوم أني جاهل بها لأني لا أجد ألفاظاً تعبر عما في نفسي من الإنكار ومن الاحتقار، ولما لا أعرف كيف أعبّر عنه من المشاعر على ما يصنع أناس يقولون إنهم من البشر مع الأطفال والنساء في المخيمات في لبنان. لقد كتبتُ من قبل في هذه الذكريات عن الخبيثَين بيغن وشارون، وقلت: ليكونا ملعونَين على كل لسان لعنة مسلسَلة في الذراري ممتدّة في الزمان، متنقلة في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء، تتحوّل مرضاً في أجسامهم ما له دواء وقلقاً في نفوسهم ما منه شفاء. فما أقول عمّن يصنع بالأمهات وبالأطفال شراً مما صنع ذانك الشيطانان؟ يرى الطفل يذوب جسده كما تذوب الشمعة، وتغور عيناه من الجوع كما يغور النبع الذي جفّ مَعينه، ويمشي الموت في أعضائه فيموت ألف مرة قبل أن يصل إلى الموتة الأخيرة ... ماذا أقول عمّن يصنع هذا؟ لو قلت إنه وحش برّيّ لشتمت الوحش وأسأت إليه، لأن الوحش ربما رقّ قلبه ولانت نفسه وأدركه شيء من الشفقة والرأفة، فماذا أقول لمن خلقهم الله على صورة البشر ولكن حرمهم من تلك الرقّة التي ربما داخلت قلوب الوحوش؟ لو قرأنا مثل هذا الذي نرى عن طغاة القرون الأولى، من قبل أربعة آلاف سنة، لَما محَت أربعةُ آلاف سنة هذا الإثم ولَما غفرناه لهم بالتقادم ومرور الزمان. ماذا أقول؟ أقول كلمة واحدة أبكي فيها على نفسي وأرثي بها قلمي. لقد كان لي قلم ربما رقّ حتى إنني لو وضعته على لهب

النار لأطفأها، وربما اشتدّ وحمي حتى لو رميت به أمواج البحار لأشعلها فجعلها ألسنة النار، ولو شئت لاستدررت به الدمع من عيون الجلاميد، ولو واجهت به أسلحة الظالمين لوقف وحده في وجوه الظالمين. فما لي اليوم قد شِختُ وشِبتُ وعجزت حتى صرت أرى هذا كله فلا أصنع شيئاً؟ أصخرة أنا؟ ما لي لا تحرّكني هذه الفواجع؟ أم أنه أدركني ما أدرك قومي من السبات فصرنا نُمسي ونصبح نائمين لا نسمع ولا نرى ولا يهزّنا مشهد ربما هزّ رواسي الجبال؟ لو أن مجرماً عدا على طفل رضيع فحرمه لبن أمه وثنّى بالأم فمنعها الطعام الذي جعله الله قواماً لحياتها وحوّله لبناً لولدها، لقامت على هذا المجرم الدنيا وزُلزلت به الأرض وتصايحت من حوله بالإنكار الألسنة والأقلام. فهل يكون الظلم المفرد جريمة والظلم الشامل بطولة؟ هل يكون: قتل امرئ في غابة جريمة لا تُغتفَر ... وقتلُ شعب آمن مسألة فيها نظر؟ ولكن أين النظر؟ لو كنا ننظر ونُبصِر لرأينا أن ما يحدث في المخيمات لم يصنع مثلَه نيرون ولا جنكيز ولا الذئاب في الغاب، ولا العقارب والحيّات في الشقوق والجحور! لقد أثبت العلم أن الثعبان لا يلسع إلاّ دفاعاً عن نفسه، وأن الحيّة ربما طلبت الدفء فدخلت في لحاف الإنسان وهو نائم فلا تمسّه إلاّ إذا تحرّك. وكذلك تصنع العقرب، تحسب أنه يريد بها الشرّ بحركته فتدفع بسمّها الشرّ عنها. والذئب لا يؤذي الإنسان ما لم يؤذِه الإنسان.

أفيكون فيمن نعدّهم بشراً مَن ينزل في مرتبته عن الذئب والحيّة والعقرب؟ والناس يتحاربون منذ كانت الحروب، ولكن الفارس المسلَّح لا ينازل إلاّ فارساً مسلَّحاً، ما عهدنا رجلاً شريفاً وبطلاً معروفاً يحارب النساء والأطفال. وربما حاصر الجيشُ قلعةَ عدوّه ليسلّم، ولكن ما عهدنا مقاتلاً شريفاً يحاصر نساء وأطفالاً حتى يموتوا. أنا أفهم أن يُمنع وصول السلاح إلى الجند المحاصَرين، أما أن يُمنع وصول الطعام إلى الجائعات والجائعين من النساء والأطفال ممن لا يحمل السلاح ولا يخوض المعارك فشيء لا نستطيع أن نفهم له معنى. إنْ كان الذي يفعل هذا يُعَدّ إنساناً فأنا أخجل بعد اليوم أن أكون من بني الإنسان! أين الإنسانية وأين العدل؟ العدل موجود له وزارة، ولكن وزير العدل له اسم مثل اسم مجوّع النساء وقاتل الأطفال، فهل في الدنيا مفارقة مضحكة ضحكاً يفطر من الألم الأكبادَ ويمزّق القلوب كهذه المفارقات؟ فقولوا لمعالي الوزير: أهذا هو العدل الذي نصّبوك لتكون وزيره ولتُقيمه بين الناس؟ قولوا له: أما لك أطفال؟ أتنام إن كان طفلك يبكي من الجوع؟ ماذا تملك لنفسك لو مدّت أيديها أولئك الأمهات اللواتي جوّعت أطفالهن فدعون الله في سواد الليل أن ينتقم منك، وأن يُريك العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وأن يكتب على أطفالك وعلى نسائك مثل الذي صنعتَه بأطفال المخيمات ونسائها، وأنت ترى ولا تملك دفعاً ولا منعاً؟

قولوا لقائد كتائب «أمل» الشيعية: ألقوا عن وجوهكم قناع الشيعة، فإن أمير المؤمنين علياً ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجَه سيدتنا فاطمة أم الحسنين لا يرضيان بكم شيعة لهما. أعليٌّ (رضي الله عن علي) قال لكم: جوّعوا المسلمين حتى تضطرّوهم إلى أكل القطط والكلاب والفئران؟ أعليٌّ قال لكم: حاربوهم وسالموا اليهود؟ أعليٌّ قال لكم: دعوهم حتى يهزلوا من الجوع ويصبحوا عظاماً مكسوّة جلوداً، وكلوا أنتم واسمنوا حتى لا تتّسع لكم ثيابكم؟ إن سيدنا عليّاً وآله (رضي الله عنه وعن آله) كانوا أتقى لله وأبرّ بالإنسانية، وكانوا أكبر قلوباً وأسمى مقاماً من أن يتخذوا الجناة القساة البغاة شيعة لهم. لا والله ما كان عليٌّ - رضي الله عنه - ليرضاكم شيعة له. * * * تذكُر الحَجّاجَ ياأخا شيبان؟ فهل بلغك أن الحَجّاج صنع مثل هذا؟ أم أن الحَجّاج أراد أن يُطفئ الفتنة وأن يُعيد الاستقرار إلى بلد قد زلزلَته الأحداث والفتن، ولكنه لم يداوِ الداء بما يوافق الشرع بل جار وظلم؟ وأعود فأقول مرة ثانية إني ما أدافع عن الحَجّاج وما أُقِرّ الظلم، وحكم الشرع فوق رأس الحَجّاج ومَن كان وراء الحجّاج يؤيّده ويمدّه بالقوة وبالسلطان، وللشرع ربّ يحميه وعنده العذاب لمن يخالف شرعه أو يُلحِد فيه. فيا من عطس إبليس في منخره ومشى في عروقه مع دمه فأوهمه أنه يستطيع أن يحارب الله: إن ما تحشدون من جيوش وما تملكون من مدافع ودبابات وطيارات وقنابل ذرّية ونووية، كل ذلك لا يقوى على أصغر مخلوق من مخلوقات الله، مخلوق بلغ

من صغره ومن هوانه ومن ضآلته أنها لا تراه العيون وأنها لا تدركه المجاهر الكهربية (الإلكترونية). هذا هو الإيدز سلّطه عليكم، فها أنتم هؤلاء تضجّون منه وتشكون وترتجفون منه خوفاً وهلعاً، ولاتقدرون له على شيء. ولو وُفِّقتم إلى الوصول إلى ما جعله الله دواء له (والله ما أنزل داء إلاّ أنزل له دواء) ولو أنكم فررتم منه لابتلاكم بما هو أشدّ وأقسى. فيا أيها الذين يظنّون أنهم يقدرون أن يحاربوا الله وأن يجاهروه بالكفر وبالعصيان: إنكم مساكين، مساكين تستحقّون الشفقة عليكم والسخرية بكم، تحاربون الله وأنتم عاجزون عن حرب أهون مخلوق من مخلوقات الله! أفلا يخشى هؤلاء الذين يتلذّذون بمشهد الأطفال وهم يموتون من الجوع بين أيدي أمهاتهم ويمنعون الرِّفد عنهم، ألا يخشون الإيدز وما هو شرّ من الإيدز أن يُبتلى به نساؤهم وأطفالهم، وأن يذوبوا أمام أعينهم فلا يملكون شيئاً لهم؟ وهذا كله في الدنيا، أفلا فكّرتم بما هو وراء الدنيا؟ أنسيتم أن في الدنيا موتاً، وأن بعد الموت نشراً وحشراً ووقفة بين يدَي ربّ الأرباب يوم الحساب، ثم بعد ذلك جهنم؟ وما جهنم؟ إن هؤلاء، بل إننا جميعاً في سَكْرة، في غفلة، في نَومة عميقة، فمتى نصحو؟ ومتى نتنبّه؟ ومتى نفيق فنفكّر في جهنم؟ إن نار الدنيا ياأيها الناس نعمة، تدفّئ المَقرور وتُنضِج الطعام ولها المنافع الجسام، ولكن نار الآخرة محض عذاب. فمن يستطيع أن يحتمل نار الدنيا التي هي نعمة؟ أما عند

هؤلاء في بيوتهم موقد غاز؟ قولوا لهم: ليضعوا فوقه حديدة حتى تحمرّ، ثم لينظروا هل يقدرون أن يرفع أحدهم ثوبه ويقعد عليها دقيقة؟ ربع دقيقة؟ ثانية واحدة؟ فما لهم يعرّضون أنفسهم لنار جهنم؟ إن المجرم يُحكَم عليه بالحبس الاحتياطي ثلاثة أيام فلا يباليها، يقول: وما ثلاثة أيام؟ أقضيها -كما يقول عُتاة المجرمين- على جنب واحد. فهل تدرون ما ثلاثة الأيام في جهنم؟ هل تعرفون كم هو طولها؟ إن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون، فالذي مضى من يوم هاجر سيدنا محمد عبدُ الله ورسوله عليه الصلاة والسلام إلى الآن يوم ونصف يوم فقط. والذي مضى من يوم وُلد سيدنا عيسى عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام إلى الآن أقل من يومين! فهل تدرون ما معنى أن يُحكم على العاصي بشهر واحد في جنهم؟ معناه أنه يمضي ثلاثين ألف سنة. فكيف بمن يُقضى عليه بالبقاء فيها سنين من سنوات الآخرة؟ فكيف بالكافر الذي يُحبس فيها حبساً مؤبداً، أي بمَن يخلد فيها؟ فويل للقاسية قلوبهم الذين لا يفكّرون إلاّ في حاضرهم، الذين يخلدون إلى الأرض فلا يرفعون رؤوسهم إلى السماء، الذين يغترّون بما نالوا من قوة ومن مال ومن سلطان ومن جند وأعوان! أيظنون أنهم باقون في هذه الدنيا أبداً؟ هل خلد من قبلهم أحد فيها حتى يخلدوا؟ ألم يَمُت من هو أقوى منهم وأغنى وأكبر سلطاناً وأكثر جنداً وأعواناً؟ ياأسفي! إن مِن أضيَع الكلام في هذه الأيام كلام الواعظين. ياأسفي على المسلمين! إنهم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، إنهم قريب من ألف مليون ولكنهم متفرقون

منقسمون متناحرون متباغضون. رفع الاستعمار يده المباشرة عنهم ولكنه ترك فيهم بيوضَه فخرجت منها فراخ كانت شراً منه، فصنعت بنا ما لم يصنعه المستعمرون. * * * يا أيها القراء، أنا ما لي في هذه المعارك ناقة ولا جمل وما لي فيها نعجة ولا دجاجة، وما لي في جماعة «أمل» عدوّ أريد أن أنتصف منه ولا لي في أهل المخيمات صديق أحب أن أنتصر له؛ إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، وأن لا تنطبق على المسلمين الأوصافُ التي وصف الله بها الكافرين حين قال: {بأسُهُمْ بينَهُمْ شَديدٌ}، وأن يتّصف المسلمون بما وصفهم به الله حين قال إنهم: {أشدّاءُ على الكُفّار رُحَماءُ بينَهُمْ}، وأن لا نسمع عن بلد إسلاميّ أن أهل الرأي فيه يتجادلون في شرع الله: هل يطبّقونه أم يأخذون شرائع الكافرين بدلاً منه؟ وإن منهم مَن يخالف إخوانه من المسلمين ويحالف أعداءه من الكافرين! أنا رجل متقاعد خرجتُ من الميدان من زمان، بل إنني سأخرج من هذه الحياة عما قريب، لا أعلم متى فالآجال بيد الله، ولكنني لا أطمع أن أعيش مثل الذي عشته، ولا نصفه، ولا ربعه. ولو أردت الراحة لجفّفت قلمي وطويت أوراقي وأرحت الناس مني، ولكن الله أوجب على مَن علم الحقّ أن يبيّنه للناس، والحقُّ أننا جرّبنا استعمال كل دواء فما شفى، وسلكنا كل طريق فما أوصل. الدواء الشافي والطريق الموصل هو الإسلام وحده، على أن يكون رجوعنا إليه بالمحبّة وبالتعاون لا بالنزاع والخصام، وأن نضع جميعاً، حُكّاماً

ومحكومين، خوفَ الله وتصوُّر موقف يوم الحساب أمام أعيننا، وأن نعمل على ما يُنجينا في غدنا يوم العرض على ربنا. إن فعلنا فلن يحكم حاكمٌ منا بغير ما شرع الله، ولن يؤثِر أحدٌ من علمائنا رضا الناس على رضا الله، ولن يَشغلوا الناس بالمعارك الفرعية عن المعركة الكبرى، معركة الكفر والإيمان. وليعلم الناس جميعاً -في لبنان وفي غير لبنان- أن هذه الحال لايمكن أن تدوم: لا يصلُحُ الناسُ فَوضى لا سُراةَ لَهُمْ ... ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا وليعلموا أن أدنى العذاب في الدنيا عذاب الضمير، وربما تنبّه الضمير الغارق في سباته. هذا بيغن لم يعُد يستطيع أن يلقى الناس، فقبر نفسه في بيته قبل أن يُقبر وتوارى عن الأنظار. ولكن كيف يتوارى من الله؟ لمّا كان حكم صدقي باشا في مصر (والذي شكوناه منه لا يعدل نقطة من كأس مما وجدناه بعده) قال فيه حافظ إبراهيم مقطوعة لم يجرؤ على نشرها، ولكن تناقل الناس أبياتاً منها، ومنها: لاهُمَّ (¬1) أَحيِ ضميرَهُ ليذوقَها ... غُصَصاً وتَقتُلَ نَفْسَهُ الآلامُ فأول العقاب في الدنيا عذاب الضمير إذا تيقّظ. إذن فليحاول هؤلاء إصلاح ما أمكن إصلاحه مما أفسدوه، وهيهات أن يقدروا! هل يردّون الروح على من مات؟ هل يأملون أن ¬

_ (¬1) أي «اللهمّ»؛ دعاء إلى الله (مجاهد).

يفقد الناس كلهم ذاكرتهم فينسوا ما كان؟ إن هذا الذي نرى في المخيمات سيُقرأ تاريخه في المدارس بعد ألف سنة، فيصبّ المدرّس والتلاميذ اللعنات على أجداث مرتكبيه ولو فنيَت عظامهم واستحالت تراباً. * * * أنا أكتب هذه الكلمة يوم الجمعة 22/ 6/1407هـ، ولعلها لا تُنشر حتى تكون هذه الغمة قد انكشفت وقد عاد هؤلاء إلى إنسانيتهم وإلى دينهم فرفعوا الأذى عن أهل المخيمات، ولعلّ الله يُلهِمهم أن يتوبوا التوبة الصادقة النصوح، ومن شروطها أن تؤدّي الحقّ الذي أضعتَه بظلمك أو أن تعوّض صاحبه عنه حتى يسامحك به، وأن تقوّم سَيرك وتعدّل وجهتك فلا تعود إلى مثله. فهل نعيش حتى نرى المسلمين قد عادوا إخوة متصافين؟ * * *

منزلي في الرياض

-229 - منزلي في الرياض ما كان مطلبي الأول يوم قدمت الرياض سنة 1383هـ طعاماً يملأ المعدة ويُقيم الأوَد، فليس يخلو البلد من مطعم فيه من الطعام ألوان أو شوّاء عنده من اللحم أشكال، فإن لم يكن ففطيرة (سندويش) تحملها إلى حديقة عامة تجد فيها ركناً تأكلها فيه وقارورة شراب بارد تسيغها بها، فإن لم تجد ففي الماء غَناء. ولكن المطلب الأول مكان تأوي إليه، تشعر فيه بالقرار وتحسّ فيه الأمان. وكان إخواننا المدرّسون ينزلون في شقق صغيرة (أو غرف من شقق) ينفرد فيها الرجل مع أسرته، قد فُرشت أيسر فرش وأرخصه: بساط فوقه حشية ينام عليها ووسادة يستند إليها، وما لا بدّ منه للطاعم من الأطباق والكاسات والملاعق والشوكات. فإن كان عزَباً أقام في غرفة أو اجتمع في الغرفة الواحدة اثنان. وقد تَفرّد أخونا الأستاذ عزّة النص رحمة الله عليه، فأخذ جناحاً صغيراً في فندق اليمامة، وكان أكبر فنادق الرياض، استأجره مُشاهَرة واتخذه له داراً، يستريح فيه من تدارك الفرش ومن إعداد الطعام ومن تعب الخدمة والتنظيف.

وقد خطر لي أن أصنع مثله، فقد كنت آخذ أكبر مرتَّب يأخذه أستاذ جامعي في المملكة، لأنهم كانوا يقدّرون راتب الأستاذ المعاقِد في الجامعة بثلاثة أضعاف راتبه في بلده، وقد كنت في بلدي آخذ مثل راتب وكيل وزارة. ثم إنهم كانوا يعدلون يومئذ كل مئة ليرة سورية بمئة وثلاثين ريالاً (إن لم أكن قد أخطأت أو نسيت). خطر لي هذا، ولكن وجدت أني أكره الفنادق ولا أحس الاطمئنان فيها، وقد نزلت كبارها وصغارها وغاليها ورخيصها في شرقي الأرض وفي غربيّها، فكنت أنام فيها مشتَّت الذهن فاقد الأمن، كأني أنام على رصيف الشارع لا أدري مَن ينظر إليّ ولا مَن يدنو مني! وقد طالما حاولت أن أتخلص من هذا الشعور الذي ما له سبب فما استطعت. لذلك كنت أستأجر داراً مفروشة، أغلق عليّ بابها لا يراني فيها أحد ولا أرى منها أحداً، آكل فيها ما أريد وأنام كيف أشاء، وإن كانت أغلى من الفندق، وإن كانت إقامتي في البلد شهراً واحداً. كما أنني لا أجد الراحة في السكن الموقَّت أو المشترَك كما صنع جمهور الإخوان، فطلبت من الصديق الأستاذ سليمان الحافظ، المستشار القانوني في وزارة الدفاع، أن يجد لي داراً مفروشة، فوجدها في الحيّ العسكري في طريق المطار، أعني المطار الذي صار الآن قديماً. وهي ثلاث غرف متداخلة يُفضي بعضها إلى بعض، فيها فرش ليس بالفخم ولا الغالي وحولها حديقة واسعة مونقة، ولكنني شعرت لمّا دخلتها بضيق الصدر من أول دقيقة قضيتها فيها، ذلك لأن لها أسواراً عالية تجعلها أقرب

عمري في دمشق أسكن في الجبل، أفتح النافذة فأجمع دمشق كلها بنظرة واحدة وغوطتيها اللتين تعانقانها وتحفّان بها من الشرق ومن الغرب والبساط الأخضر الممتدّ إلى الجنوبي منهما حتى يلامس أقدام هضبة الكسوة وجبل المانع، فإن رحلت عن دمشق اخترت الطبقات العالية من العمارات الكبيرة، أسكن فيها فأرى منها بعض ما كنت أرى من نافذتي في دمشق. منظر لا كمنظر دمشق (¬1). وقد ذكرت الغوطتين هنا لأنني أصف ما كان، وقد ذهبَت الآن الغوطة الغربية وذهب بعض الشرقية، أكلتهما صناديق الإسمنت التي يتكدس فيها الناس كَسَمَك السردين في العلب، وضاعت تلك البساتين التي كانت تتعانق متصلة مترابطة الأيدي حتى يزيد طولها عن الأكيال. ولو عقلنا يومئذ لتركناها مسرحاً للنظر ومصفاة للهواء ومثابة للجمال، وبنينا عماراتنا من حولها على سفوح جبال المِزّة وفي سهل بَرْزة وعلى هضاب قاسيون. وقد صنعنا ذلك الآن، ولكن بعد فوات الأوان! * * * ما لي كنت أتكلم عن منزلي في الرياض فجرّتني عواطف القلب إلى داري في دمشق وإلى أيامي فيها؟ سقى الله تلك الأيام! ¬

_ (¬1) والناس حتى بعض الكبار من الكتّاب يقولون: هذا رجل ولا كالرجال، يظنون أنهم يمدحونه ويفضّلونه على الرجال، وهم إنما يذمّونه ويقولون إنه رجل ولكن لا يبلغ أن يكون مثل سائر الرجال!

كان في طريق المطار القديم في الرياض حيّ لصغار الضباط فيه دار لرجل مدني يعمل مع الجيش. و «المدني» المنسوبُ إلى المدينة المنورة، ولا أدري لماذا يُصِرّ أحد إخواننا من الأدباء من أهل المدينة على قوله في النسبة إليها «مديني»، مع أن المديني، المحدّث المشهور، منسوب إلى مدينة المنصور في بغداد لا إلى المدينة المنورة. ثم إن المدني في الاصطلاح اليوم من لم يكن عسكرياً. وجدت الدار صغيرة متداخلة ولكن حولها حديقة واسعة في وسطها بِركة كبيرة تصلح للسباحة (ولي مع السباحة قصّة ربما قصصتها عليكم يوماً قريباً، ما فيها منفعة ولكن ربما كان فيها متعة، ونحن نطلب في هذه الحياة بعض المتع والتسليات). أعجبتني الدار واتفقنا على أن تكون أجرتها أربعة آلاف ريال في السنة، وكانت أغلى دار قد استأجرها الإخوان لا تزيد أجرتها عن بضع مئات في العام. وأحببت أن أُحصي المتاع وأن أكتبه فأبى، وحسبت إباءه ثقة منه بي، فإذا هو مبيّت نية في نفسه لا ينوي مثلَها شريف، ذلك أني تسلمت الدار وأخذت مفتاحها وذهبت إلى الكلّية، فلما عدت وجدت ما كان فيها ينقص شيئاً بعد شيء؛ كان على السرير غطاء مطرَّز كالذي يكون في الأعراس (وأنا لا أريده ولو طلبه لدفعته إليه) ولكن ساءني أن يأخذه في غيابي، ثم سدّ الباب الخلفي للدار وبنى غرفة جديدة أقام فيها هو وأهله، فقيّدَتني وسلبتني بعض حرّيتي. أمّا الحديقة فلا أنكر أنها جميلة، ولكن الجدار العالي من حولها يُشعِرني كأنني محبوس فيها كما يُحبَس

العصفور في قفص من ذهب. هنالك وأنا كالذي يختنق غرقاً في لُجّ البحر مُدّت إليّ يد قوية كريمة تُخرِجني إلى الهواء الطلق، إلى النسيم الرخي على البرّ الآمن، كانت يد معالي الشيخ محمد عمر توفيق. وكنت قد عرفته قراءة له قبل أن يُكتب لي اللقاء به؛ عرفته من كتاب «طه حسين والشيخان»، فعجبت لمّا قرأته أن أجد كاتباً حجازياً لا نعرفه ولم يصل إلينا اسمه، ينقد بحكمة البنّاء الحاذق لا بمعول العامل المخرّب بناء شاده أوسع أدباء العربية شهرة طه حسين، ثم لا يضعف عنه ولا يروعه منه انتشار اسمه وكثرة أوليائه. فسألت عنه فعلمت أنه أديب معروف وله منصب عالٍ، ثم إنه يكاد يكون نصف شامي، ذلك أن الترك في خوالف أيامهم شرّدوا على عهد فخري باشا كثيراً من أهل المدينة عن منازلهم فهاجروا إلى الشام، فكانوا ضيوفاً كراماً واتصلَت العِشرة بينهم وبين أهل دمشق، ثم صارت مصاهرة، وكان من ذلك أن جدّ الشيخ محمد عمر صاهر شيخ مشايخنا الشيخ جمال الدين القاسمي. كما عرفت جماعة من أهل المدينة، منها الشيخ الخياري الذي كان يسكن شيخنا الشيخ الكافي في داره، وأحسبه كان يدفع أجرة الدار كلها وهم يُعِدّون له الطعام، أو لعلّ الصلة بينهم وبينه شيء آخر فما أعرفها على حقيقتها. وممن عرفنا من أهل المدينة الذين قدموا علينا أيام الحرب الأولى وفي أعقابها شيخ صوفي خرافي مكفوف البصر طلق اللسان، اسمه الشيخ العطية، كان يدرّس في الأموي فتجتمع عليه العامة وتتّسع حلقته حتى لا تكاد تقاربها حلقة أخرى، واتخذ داراً في حيّ النّوفرة بجوار المسجد،

فكان يُقيم فيها ما يدعوه الناس بحلقات الذكر. وما هو بالذكر المشروع وإنما هو مزيج من البدع ومن الشعوذات ومن الرقص كما كان يدعوه العلماء، ومن ذلك ما قاله ناظم «الوَهْبانية» التي يستشهد ابن عابدين في حاشيته كثيراً بما جاء فيها، ومن قوله فيها: ومَنْ يستحلّ الرقصَ قالوا بكُفرِهِ ... ولا سيّما بالدُّفِّ يلهو ويزمرُ وتفصيل ذلك في الجزء الثالث من حاشية ابن عابدين التي هي عمدة الفتوى في المذهب الحنفي. وممن عرفنا من أهل المدينة مؤذّن مدني حسن الصوت، علّم بعض المؤذّنين عندنا النغمة المدنية في الأذان، وممن أخذ عنه الشيخ مصطفى العقّاد أبو وجيه، رحمة الله عليهم جميعاً. ومنهم رجل فاضل صالح قوّام الليل كثير الصالحات، كانوا يسمّونه الشيخ توفيق الصغير، وهو والد معالي الشيخ محمد عمر. ولعلّي واهم ولعلّ هذا ليس اسمه، أو لعلّه اسمه ولكنه ليس والد صديقنا الوزير. * * * أَحبّ معالي الشيخ محمد عمر أن يعرّفني بكبار الأدباء في وليمة يدعوهم إليها. وأنا أكره الولائم وأهرب منها، ولكني كنت في حالة من الضيق لا يفرّجها عني إلاّ مثل هذه الاجتماعات، وإن تمنيت أن يكون الاجتماع على الكلام من غير طعام، فإن لم يكن بدّ من شيء فالشاي والكعك أو الفَرانيّ (جمع فُرنيّة، وهو الكاتو).

وكانت الوليمة واجتمع كثير من الأفاضل الذين شرّفني الاجتماع بهم، وكنت أرى من كان حولي منهم يتهامسون وتقول نظراتهم وقسمات وجوههم كأنهم يفتقدون واحداً، يترقبونه يتلهفون على حضوره، ثم سمعت اسم زيدان: أين الأستاذ زيدان؟ لماذا لم يحضر الأستاذ زيدان؟ وكأنهم لمّا يئسوا من حضوره خلصوا نَجِيّاً. ثم تخيّروا واحداً منهم أقاموه إلى جنبي، وكنت أتكلم على سجيتي، تأتي المناسبة بقصة فأقصها، فإذا هو يسرد قصة تكون مثلها أو قريبة منها أو هو يظنّ ذلك، وإن رويت أبياتاً من الشعر روى أبياتاً، وإن ذكرت طرفة جاء بطرفة. فراق لي ذلك ورأيت فيه شيئاً جديداً، وكنت أنا الذي يتخيّر الموضوع ويفتتح الكلام. وطال المجلس، وعرفت بضاعة الرجل كما يعرف المصارع قوة عضلات خصمه ومبلغ علمه بأبواب المصارعة بعد جولات يجولها معه، وإذا هو قد وعى شيئاً كثيراً مما في كتب الأدب المتأخرة (كالمستطرَف والكشكول) وعنده بعض الأخبار مما هو أسبق زماناً وأعلى شأناً، ونظرت فإذا أنا أستطيع أن أتكلم في موضوع لا يُحسِنه ولا يستطيع أن يجاريني فيه فأسدّ عليه طريق هذه المناظرة السخيفة، ولكني ذكرت أن المقام مقام مجاملة لا مساجلة، وأنا لم ألقَ الرجل من قبلُ ولعلّي لا ألقاه بعد يومي، فأعرضتُ عن هذا الخاطر وارتفعت بنفسي عنه وتركته يتكلم وأقللتُ من الكلام، ثم سكتُّ فرأيت البِشر على وجوه النفر الذين قدموه وبريق الظفر في عيونهم. هذا ومعالي الشيخ الداعي لم يلتفت إلى شيء من هذا، ولعلّه لم يرَه.

وكان من بركات هذا الاجتماع أن ردّني إلى نفسي ونفى عني ما كنت أحسّه من الضياع، وعرّفني بإخوة كرام. ولمّا خرجنا أبى (جزاه الله خيراً) إلاّ أن يوصلني بسيارته، وسألني عن أحوالي في الشام وعن أخي ناجي الذي كان يقرأ له بعض ما يكتب، فخبّرته أنه من قضاة دمشق ومقرّه في دوما. قال: لماذا لا يأتي فيعمل هنا؟ ففتح لي باباً للكلام كنت أتمنى ولوجَه وأتهيّب قرع بابه. وكان من بركات هذا الاجتماع أن استقدمه وجعله مستشاراً قانونياً بوزارة المواصلات التي كان يتولاها يومئذ من وزارة الحج، فلما انفصلَت وزارة الحج بقي يعمل فيها مستشاراً إلى الآن (¬1)، لأن معالي الشيخ عبد الواسع أبقاه، فله الشكر والشكر لمعالي الشيخ محمد عمر، وجزاهم الله خيراً. * * * كنت أمضي في الكلية ساعتين أُلقي فيهما درسي، فإذا قُضي الدرس فتّشت عمّن أكلّمه ومشيت مع أبعدهم داراً وأطولهم طريقاً، حتى إذا وصل ودخل بيته لم يبقَ لي مكان أذهب إليه ولا مَن آنس به. وكان ذلك قبل قدوم أخي إلى المملكة. وأين أذهب والكلية أغلقت أبوابها وانصرف مدرّسوها وطلاّبها، والدار ينتظرني فيها الفراغ والملل وضيق الصدر، وقد سئمت منظر البِركة والنظر إلى الشجرات من حولها، حتى إنني من طول نظري إليها كدت أحفظ عدد فروعها وأوراقها؟ ¬

_ (¬1) أي إلى سنة 1409 التي طُبع فيها هذا الجزء من الذكريات.

لم أكن أريد مَن يطعمني أو يسقيني ولا أفتّش عمّن يُسعِدني ويُعطيني، إنما أريد من يؤنس وحدتي ويفرّج كربتي، لأنني لا أجد ما أعمله فيما بقي من نهاري. فإذا أمسى المساء وكان الليل لم أستطع المنام، ولم تكن مكتبتي معي ولا اقتنيت غيرها كما صنعت الآن. وكنت طول عمري مرتبطاً بمجلة أو جريدة أكتب فيها، فأنا أبداً في تفكُّر في الموضوع الذي أكتب فيه، أو جمع لأجزائه، أو عكوف على إنشائه، أو انتظار المجلة أو الجريدة التي أجده منشوراً فيها. وكنت من أوائل الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي أذيع الأحاديث من إذاعة الشرق الأدنى في يافا (التي أُنشئَت بعد إذاعة مصر بسنة واحدة)، لم ينقطع حديثي إلاّ فترات قليلة خلال هذه المدة الطويلة. فغدوت الآن (أعني سنة 1383) في الرياض ولا جريدةَ ولا مجلة أكتب فيها، ولا إذاعةَ أُعِدّ الأحاديث لها، ولا عمل أؤدّيه، لأن الكلية كانت أيامَ الحجّ في شبه عطلة وقد ذهب كل من أعرفه للحج وكادت تخلو شوارع الرياض من الناس. الأستاذ الصبّاغ ترك أولاده عند زميله الأستاذ اللبابيدي وذهب مع أهله إلى الحج، والأستاذ عمر عودة الخطيب ترك أولاده عند الأستاذ الشيخ مصطفى الخنّ وذهب مع أهله إلى الحج، وذهب أخي ناجي الذي كنت آنس به بعد أن قدم الرياض وسكن معي في تلك الدار، فلم يبقَ أحدٌ أزوره. كنت أذهب إلى دار الشيخ مصطفى الخنّ فأجده بين القُدور والأطباق يُعِدّ الطعام لهذا الفيلق من الأولاد حرسهم الله، وكنت أقعد معهم أحاول أن أحدّثهم وأكتب لهم لوحات بخطّ الثلث والفارسي (وأنا أجيد

الكتابة بهما وبالقلم الديواني). وذهبت مرة إلى دار اللبابيدي أسأل زوجته مِن وراء الباب عن حالها مع أولادها وأولاد الصباغ، فشكت إليّ ما تلقى، فأخذتني نوبة مفاجئة من الأريحية والكرم ليتني ما أحسست بها! فقلت لها: هاتيهم ليُمضوا اليوم عندي في الحديقة. ويا ليتني لم أقُل، فقد جنيت على نفسي وجلبت الهمّ لها! وقلت أطبخ لهم طعاماً مثلما يطبخ الشيخ الدكتور مصطفى الخن (ولم يكن قد صار دكتوراً) ونسيت أنه أشبه الناس بأخي ورفيقي الشيخ مصطفى الزرقا على بعد ما بينهما في السن، يشبهه في إتقان كل عمل يعمله وفي سعة صدره وطول باله، فأردت أن أتشبّه به، فكان مثلي مثل القرد والنجّار في كتاب كليلة ودمنة. أعددتُ لهم طعاماً وصببته لهم في الأطباق ووضعت لهم الملاعق، وحاولت أن أعمل من أطفال صغار رجالاً كباراً. فعبثوا بالطعام وكَبّوه ولطّخ به الصغار وجوههم وأيديهم، ثم كفّوا عن الأكل وأبوا أن يُتِمّوا طعامهم لأنه لم يعجبهم ولأنهم يريدون مثل الطعام الذي تصنعه لهم أمهاتهم في بيوتهم. وأنّى؟ ثم كانت الطامة إذ نفشوا (¬1) في الحديقة فعاثوا فيها، وكانت فيها شجرة رُمّان قد أزهرت وعقدت، وكنت أنتظر يَنْعَها، فقطعوا زهرها وكسروا أغصانها، ثم جاؤوا إلى البركة يريدون أن ينزلوا فيها فحُلْتُ بينهم وبينها. وكان للأستاذ الصباغ ولد صغير جداً نسيت ¬

_ (¬1) أي انتشروا، كما في قوله تعالى: {ودَاوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القَوْم} (مجاهد).

اسمه (أظنه الآن صار أباً بعد أن مرّ على هذه الحادثة التي أحدّث بها أربع وعشرون سنة) فغطس في المياه، فوثبتُ فأخرجته وقد ابتلّت ثيابه كلها! فلم يبقَ في صبري بقية فشتمتهم وهدّدتهم بالضرب، وجئت بقضيب خوّفتهم به، ولكن الضرب لا يأتي الصغير بالثياب وثيابي لا تصلح له ولا أستطيع أن أدعه بأثوابه التي ينقط منها الماء. فنزعتها عنه وأخذت قميصي فربطته من حوله، وهو يصرخ ويأبى، ووضعت فوقه عمامة (غترة) لففته بها، وهو يرفض هذا الزيّ العجيب. والحقّ معه، ولكن ماذا أصنع له؟ ثم قلت لكبيرهم (وهو لطفي ابن الأستاذ الصباغ، وأحسبه صار الآن أستاذاً معروفاً) قلت له: يالطفي الله يرضى عليك أريد أن أنام نصف ساعة، فأسكتهم ولا تدعهم يوقظوني بصراخهم. قال: نعم. وكدت أغفو وإذا به يصرخ صرخة توقظ الأموات، قال لهم: اسكتوا، عمو الشيخ قد نام، هل تريدون أن توقظوه؟ فأيقظني بصراخه ولم أعُد أستطيع أن أنام! ثم قالوا إنهم جاعوا ويريدون طعاماً، فلم أدرِ ماذا أصنع لهم، وأخذتهم إلى بيّاع أمام الباب في دكان تُقام من العيدان ومن صفائح الحديد (يسمّيها العامة هنا «صَنْدَقَة») وكان يمانيّاً أو حضرميّاً اسمه يَسْلَم، فقلت له: اعرض عليهم ما عندك من الحلويات ومن السكاكر ومن البسكوت. فأبى أكثرهم إلاّ طعاماً كطعام بيوتهم، وقبل فريق منهم أن يأخذوا مما عُرض عليهم وأدخلوه معهم الدار، فامتلأت الدار كلها بكسارة البسكوت وعلب الحلويات، وصارت تحتاج إلى تنظيف شامل كامل.

فما كان مني إلاّ أن استأجرت سيارة حشرتهم فيها وأعدتهم إلى دار المرأة المسكينة التي أخذتُهم منها، وقلت لها: خذي استلمي الله يقوّيك ويعينك، أما أنا فقد رفعت الراية البيضاء وسلّمت واعترفت بالعجز. * * * أمضيت تلك الأيام، أيام الحج، في الرياض كما يُمضي السجينُ أيامَ سجنه؛ لم أكن أنظر إلى أحد لأنني لا أعرف أحداً، كنت أجول في الطرق وحدي لا يلتفت أحد إليّ، فأحسّ كأني صرت كالشجرة المغروسة على جانب الطريق أو العمود الذي حمل المصباح الذي يضيء في الليل الطريق، يراه الناس كلهم ولكن لا يهتمّ به أحد منهم. بل إن الشجرة والعمود كانت أثبت مني وجوداً وكان الناس أكثرَ بهما اهتماماً، لأنها إن قُطعت الشجرة أو انكسر العمود أحسّوا بفقدهما وسألوا عنهما، وأنا لم يكن يشعر أحدٌ إن حضرت أو غبت أو سرت في الطريق مع السائرين أو خلا مني الطريق. إني لأذكر هذا الآن بعدما استمررت عشرين سنة بلا انقطاع أحدّث الناس في الرائي ومن الإذاعة، يسمعونني كل يوم ويرونني كل أسبوع. أفتحسبون هذا الذي صرت إليه نعمة؟ لا والله، حلفت لكم لتصدّقوا. ليست الشهرة نعمة يُستراح إليها ويُحرَص عليها، ولا ما كنت فيه في الرياض نعمة أرضى برجوعها؛ لقد فقدت هنالك شخصيتي وكدت أنسى وجودي، وأضعت هنا الآن حرّيتي.

لقد تقلّبَت بي في المملكة الأمور وتحوّلت الأحوال، حتى كاد يختلط عليّ حلوها بمُرّها وأبيضها بأسوَدها. كنت في الرياض كمن يلبس طاقية الإخفاء التي ورد ذكرها في قصص ألف ليلة، فأنا أمشي بين الناس ولا يُبصِرني أحد من الناس كأنني استحلت إلى خيال، وأسير اليوم كأني أحمل على رأسي مصباحاً يجلب إليّ أنظار الناس، فلا أستطيع أن أدخل حديقة أو أقف على بيّاع لأن الناس يُشيرون إليّ. أما من منزلة بين المنزلتين؟ هل خلت الدنيا من التوسّط والاعتدال؟ أكُتب عليّ أن أعيش في الظلمة حتى لا أكاد أبصر طريقي أو أحدّق بعيني في عين الشمس فلا أرى شيئاً؟ إني لأعجب ممّن يسعى للشهرة ويراها شيئاً جميلاً. ما الشهرة؟ هي أن تتفتح عليك الأعيُن كلها ويراقبك الناس جميعاً فتفقد بذلك حرّيتك. * * * إني لأذكر تلك الأيام فأتمنى أن لا يمرّ عليّ مثلُها! كنت في النهار كالضائع بين الناس، فإن أقبل الليل أدبر عني المنام وأقبلَت عليّ سود الأحلام، فلا أهنأ بيقظتي ولا بنومي. وإذا خرجتُ إلى حديقة المنزل سدّت عليّ هذه الجدران العالية الاتصال بالناس فشعرت كأنني سجين، ولو كنت في الفندق لنزلت إلى البهو فرأيت الناس، إن لم أرَ النزلاء رأيت الخدم، وإن لم أرَ من أكلّمه كلّمت النادل أن يأتيني بالشاي أو بالشراب

البارد. وما بي حاجة للشراب ولا للشاي ولكن لأسمع صوتي، فقد نسيت من طول الصمت في تلك الأيام في الرياض رنّة صوتي في الأذن! * * *

لما كنت أستاذا في الكليات والمعاهد

-230 - لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد كان في كل قرية من قرى الجبل في الشام ولبنان بيّاع واحد عنده من كل شيء شيء؛ إن شئتَ طعاماً وجدت عنده ما تحتاج إليه من طعام، إن أردت الثياب فعنده الثياب معدة والقماش الذي تُصنع منه الثياب، وإن أردت الأقلام والدفاتر وما يحتاج إليه ولدك في المدرسة وجدت عنده كل ما يحتاج إليه ولدك في المدرسة. وعنده من أدوات المطبخ ومن فرش الدار ومن مصابيح الإضاءة ما يطلبه أهل القرية، بل إن عنده علبة الأسبرين وبعض المسكّنات وقارورة زيت الخَرْوَع وبعض المسهّلات والمليّنات ... فلا يطلب أهل القرية شيئاً يحتاجون إليه إلاّ وجدوه عنده. وإن شئتم مثلاً أقرب وأعلى قدراً فهو السوق الشاملة (السوبرماركت) التي عرفناها أول ما عرفناها في مصر من أكثر من خمسين سنة عند «عمر أفندي» (الذي صار اسمه «أوروزدي باك») وعند شيكوريل وصيدناوي، ثم وجدناها على مقياس أكبر في مدن أوربا الكبار. وفي مقابلها وكالات المصانع والشركات: الأولى فيها

الأنواع الكثيرة ولكن بمقادير قليلة، والوكالة فيها الكثير الكثير ولكن النوع واحد أو هي أنواع معدودة. هذا مثال العالِم المتخصص الذي قصر جهدَه على علم من العلوم فأحاط به وجمعه من أطرافه وغاص في أعماقه، والرجل الموسوعي (كما يُقال اليوم) أو الأديب (كما كان يُدعى قديماً)، وهو الذي أخذ من كل شيء بطرف كما دعاه ابن خلدون. هذا هو الفرق بينهما. لمّا جئت الكلية امتحنت نفسي فوجدت أني إن لم أبلغ أن أكون من الصنف الأول فأنا ملحَق به، أستطيع تدريس علوم الدين وعلوم العربية، ولكن بقليل من الإعداد وبعد قليل من المراجَعة، وأمّا الذي هو أسهل عليّ وأحَبّ إليّ فهو الأدب والفقه. أما الأدب فلأني كنت عاكفاً عليه عمري كله: اقرأ الشعر وأنقده وأفهمه وأحفظ منه الكثير، وقد بقيَت في ذهني إلى الآن بقايا تبلغ مئات ومئات من الأبيات المفردة والمقطوعات، وبعض القصائد المطوَّلات، لا أزال أحفظها وأرويها. ولي في شرحه للطلاب طريقة قلّ اليوم سالكوها لعلّي استفدتها من اثنين: من الأستاذ أحمد الإسكندري لمّا كنت أحضر دروسه في دار العلوم العليا (التي صارت تُدعى اليوم كلية دار العلوم) من ستين سنة كاملة، والشيخ عبد القادر المبارك الذي لم أرَ فيمَن قرأتُ عليه (وكنت تلميذاً له) ولا فيمَن رافقتُه في التدريس (وكنت زميلاً له) من كان في درسه حياة كحياة درس الشيخ المبارك. ثم إنني درست أروع ما في الأدب الفرنسي: أدب كورناي

وراسين وموليير ولافونتين وباقي الأدباء المنهجيين (أي الكلاسيك)، وأدب روسو وشاتوبريان ولامارتين ودوموسه وهوغو وأعلام الأدباء الرومانسيين. ثم اطّلعت (مجبَراً في المدرسة لا مخيَّراً) على أدب الواقعيين والوضعيين وأصحاب المذاهب التي جدّت من بعد؛ كنا نُلزَم على عهد الفرنسيين في الشام بكل ما يُلزَم به الطالب الفرنسي في باريس، ونحفظ من مختارات الشعر والنثر مثل الذي يحفظ. وأما الفقه فلأنني قرأت «مراقي الفلاح» في المدرسة (وكان مقرَّراً على طلاب الثانوية) وقسماً كبيراً من «فتح القدير»، قرأته على أبي ثم على المفتي الفقيه الشيخ عطا الكَسْم مع تلاميذ أبي الذين انتقلوا إليه لمّا مات أبي، وكتباً أخرى على مشايخ أُخَر، وكتباً قرأتها وحدي ثم لمّا وليت القضاء، عكفت على الفقه وانقطعت إليه حتى صار لي نوع إلمام بالفقه الحنفي والمعرفة بكتبه. ثم لمّا طبع أخونا الكريم الأستاذ زهير الشاويش كتبَ مذهب الإمام أحمد للشيخ علي آل ثاني أمير قطر، وكانت له رحمه الله مشاركة في العلم وفي الأدب، أهداها كلها إليّ. وأنا لا يأتيني كتاب فأنام حتى أقرأه، فإن كان كبيراً يضيق الوقت عن قراءته تصفّحته وقرأت مقدّمته ونظرت في فهرسه، واطّلعت على بعض فصوله حتى أُلِمّ بموضوعه وأعرف أسلوبه. فألممت بذلك بالمذهب الحنبلي، لا أقول إني صرت فقيهاً فيه ولكن أقول إني أَنِست به ولم أعُد غريباً عنه، وصرت أقلّده في بعض الأحكام. وكنت أعرف الشيخ عبد القادر بَدران رحمه الله، فرجعت إلى كتابه «المدخل» فازددتُ معرفة بمذهب الإمام أحمد.

فلما كُلفت بوضع مشروع قانون الأحوال الشخصية (وهو الذي صدر سنة 1953، وهو المعمول به الآن في الشام بعد تعديل طفيف) اضطُررت إلى الرجوع إلى أُمّات الكتب (¬1) ككتاب «المُغني» لابن قُدَامة الذي أحببته حتى لا أعدل الآن به كتاباً غيره، و «المجموع» للنووي، والفتاوى لابن تيمية، وكتب علم الخلاف كبداية المجتهد، وكتب أحكام القرآن للجَصّاص ولابن العربي، وكتب فقه الحديث كسبل السلام ونيل الأوطار. وكنا على عهد الطلب نقرأ الحُكم وندع دليله، بل ما كنا نسأل عن الدليل ونكتفي بعزو القول إلى إمام المذهب. فتعلمت من السيد رشيد رضا والشيخ بهجة البيطار والشيخ عبد الوهاب خلاّف والسيد الخضر حسين، ومما قرأت من كتب الشيخ سعيد الباني والشيخ جمال القاسمي، ومن دراسة علم أصول الفقه في كلية الحقوق على الفقيه الطبيب مفتي الشام الشيخ أبي اليسر عابدين رحمه الله ورحم كل من ذكرت، تعلّمت أنه لا يكفي بيان حُكم الله أن يُعزى إلى أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو غيرهم من العلماء، لأنهم جميعاً غير معصومين من الخطأ، وأن العلم قال الله قال رسوله. فما لم ترد فيه آية صريحة أو حديث صحيح صريح أو إجماع ثابت أو قياس صحيح، فليس مما يُلزَم المسلم بقبوله ولا مما يمتنع عليه ردّه، على أن يردّه بدليل لا بمجرد التشهّي والعناد. * * * ¬

_ (¬1) الأُمّات للأشياء كالأمهات للناس.

ولكني لمّا جئت الكلّيات، وهما كلّيتان: كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، والكليات جمع وإطلاق لفظ الجمع على الاثنين مذهب صحيح، فقد قال تعالى: {وداودَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِم شَاهِدين}. أقول: لمّا جئت الكليات وجدت للفقه بفروعه كلها أساتذة يدرّسونها هم أعلم مني، ولم أجد من علوم العربية خالياً من مدرّس إلاّ البلاغة. والعجيب أن الاهتمام كله كان في الكليات بالبلاغة، وأن الوقت أو أكثره لها. وأنا أرى أن دراسة البلاغة على هيئتها التي انتهت إليها الآن تكاد تكون تعباً في غير طائل، فهي لا تجعل دارسها بليغاً ولا تصله بروائع الأدب كما كانت أولَ أمرها، لمّا كانت نقداً منظَّماً يمشي مع الأدب، فكلما ابتدع الأدباء جديداً جاء هؤلاء النقّاد فوضعوا له اسماً وصنّفوه مع أشباهه ونظائره، حتى لخّص القزويني كتاب السكّاكي فوقفت البلاغة عند هذا التلخيص وعلقت به، فما استطاعت الخلاص منه ولا جاء من يُعينها على التخليص من قيد التلخيص. وانحصرت شواهدها في نطاق محدود، فلا يزال المدرّسون يكرّرونها ويعيدونها حتى ملّوا وملّ الطلاب منها، ولم يبقَ للبلاغة إلاّ نفع قليل في فهم بعض آيات الكتاب والسنّة وما وصل إلينا من روائع ما قال الأولون. فاخترت مادة الإنشاء حين لم أجد غيرها. والإنشاء يضعونه في المناهج تكملة عدد لا يُقيمون له وزناً، ولو أنصفوا لجعلوه في رأس الموادّ التي يُطلَب إجادتها من الطلاب، لأن الدعوة إلى الله إنما تكون بالقلم واللسان، عليهما يقوم البيان وبهما يثبت الإيمان وتتفاوت أقدار الإنسان.

ولكن الأسلوب الذي يُتّبع في هذه المادة في البلاد العربية التي عرفت أكثرها يزيدها هواناً على هوانها عند المدرسين والطلاب، إذ يُكلَّف الطلاّب، بل يُكلَّف التلاميذ في المدرسة الابتدائية الذين لم يبلغوا أن يُسمَّوا طلاباً، بالكتابة في موضوع يختاره لهم المدرس، ولا يكون في الغالب إلاّ موضوعاً بارداً بعيداً عن حياة الطلاب ميتاً لا روح فيه، ثم لا يرسم للتلميذ الخطة التي يسير عليها ولا ينصب له مثالاً ينحو نحوه أو يحتذيه. وأنا رجل قد احترفت الكتابة وأنا أكتب من ستين سنة، وما أخذت يوماً في درس الإنشاء درجة عالية. اخترت درس الإنشاء لأني وجدت فيه مجالاً أتحرّك فيه. وقد تعجّب معالي الوزير الشيخ حسن لمّا علم رحمه الله أنني اخترت درس الإنشاء، وكان يراني أصلح لِما هو أكبر منه كالفقه أو النحو أو البلاغة، ولكني وجدت لها أساتذة يدرّسونها، ثم إني إن تسلّمت تدريسها كنت كالذي يمشي مقيَّداً في مجال ضيّق، قد رُبطَت رجلاه وكُتّفت يداه بمنهج محدود وكتاب معيَّن لا يملك أن يخرج عنه، ولا عمل له إلاّ أن يفسّر عبارته ويُظهِر مقصد مؤلّفه. كأنه وهو أستاذ في الجامعة يعلّم في مدرسة متوسطة، والجامعة إنما كانت ليتجاوز فيها الطالب عهدَ التلقّي وإعمال الذاكرة وحدها إلى عهد المناقشة وتشغيل الفكر، وأن يتولى هو العمل لا أن يعتمد في عمله كله على أستاذه. وأنا مهما تمسّكت بفضيلة التواضع فلا أُنكِر أن لديّ ما أستطيع أن أدرّس به غير الإنشاء من المواد، فأنا طول عمري معتزل في بيتي أمضي أكثر يومي في ليلي ونهاري في المطالعة،

من حين تعلّمت القراءة وأنا ابن عشر سنين إلى الآن (وقد جاوزت الثمانين)، أقرأ كل يوم عشر ساعات أو أكثر، فما ظنّك بمن يقرأ كل يوم عشر ساعات على مدى سبعين سنة في جميع العلوم والفنون؟ وكنت بحمد الله أحفظ كل ما أقرأ وكل ما أسمع، فصرت الآن أحفظ الموضوع ولكن أنسى أين قرأته أو ممن سمعته. * * * نهجت في درس الإنشاء نهجاً جديداً لا عهد للمدارس ولا للجامعات بمثله، فلمّا ذاق الطلاب حلاوته ورأوا ساعة الدرس تضيق عنه سألوني وقتاً آخر أكمل لهم فيه ما شرعت به، فكانوا يحضرون برضاهم واختيارهم في غير ساعات الدوام، ويدخل معهم وينضمّ إليهم طلاب من الفصول الأخرى وطلاب من كلية الشريعة، ولمّا شاع أمر هذه الدروس صار يحضرها فريق من طلاب الجامعة ومن غيرهم. وأنا كنت أقترح من قديم أن نبدأ في تدريس الأدب من أدباء عصرنا لأن أساليبهم أقرب إلينا وموضوعاتهم أمسّ بنا، لا من العصر الجاهلي (كما كنا نفعل) ثم ننتقل منه إلى العصر الأموي فالعباسي. فلمّا استلمت مادة الإنشاء في كلية اللغة العربية وجدت فيها مجالاً لتحقيق هذا الاقتراح. لا أن أجعله درساً في تاريخ الأدب، بل أن أعرض على الطلاب ألواناً من أساليب الكتّاب أبيّن لهم مزاياها وعيوبها. ولست أذكر الآن كل ما ألقيته، ولم أكن كتبته فاستبقيته، ولكني أذكر أني عرّفتهم بأساليب طائفة صالحة من كتّاب العصر،

كالرافعي؛ وهو من أصحاب الأساليب المتميزة، فتجد اسمَه في كل فقرة مما يكتب وإن لم يضع اسمه على ما كتب. وميزة الرافعي في توليده المعاني، ولكنه -مع هذه القدرة على التوليد- لا يخلو من الوقوع في التعقيد، لا سيما إن كتب فيما كان يسمّيه «فلسفة الحب والجمال» في مثل كتاب «السحاب الأحمر». وكنت أنصح الطلاب أن لا يعمدوا إلى تقليده، لأنهم سيعجزون عن مثل توليده ويقعون في تعقيده! وأكثر ما كنت أنصحهم بقراءته من كتب الرافعي «تحت راية القرآن» و «وحي القلم»، أما «السحاب الأحمر» وأمثاله فأوصيهم بالابتعاد عنه. وطه حسين؛ وأسلوبه صحيح فصحيح ولكنه خالٍ من الجمال الذي يستهوي القارئ ويشدّه إليه، ثم إنه يكرّر ويعيد، ولذلك سببان أولهما أنه مكفوف يملي إملاء، ثم أنه مدرّس، ومهنة الكاتب ربما بدت ملامحها في آثاره. وتقليد طه حسين سهل، وإن كنت أنصحهم دائماً أن لا يعمدوا إلى تقليد أحد من الكتّاب بل أن يقرؤوا ما تميل نفوسهم إليه، ثم ينظروا أثره فيها ثم يكتبوا في تصوير هذا الأثر، فيرَوا أنه سيبدو في الأسلوب الذي سيكتبون به. والمازني؛ وأسلوبه من السهل الممتنع، فهو يكتب كما يتحدث فيحسّ قارئه أنه يستطيع أن يكتب مثله، فإن جرّب رآه عاجزاً مقصّراً عنه. ثم إن المازني أوتي براعة في السخرية حتى من نفسه فتجيء سخريته عفوية غير متكلّفة، فإن تَعمّد الطالب مثلَها ربما جاءت متكلَّفة ثقيلة. أما العقّاد فلا خلاف في أنه مفكّر كبير وكاتب قدير، ولكنه

ليس من أصحاب الأساليب الأدبية التي يعرف الناظرُ إليها صاحبهَا وإن لم يَرِد اسمه معها. وعلى الضدّ منه زكي مبارك، فهو صاحب أجمل أسلوب في العربية في هذا العصر، ولكنه ضحل الأفكار. ولقد قرأت كتابه «ليلى المريضة في العراق» ثلاث مرات، مرة لمّا كان ينشره مقالات في الرسالة، ومرتين لمّا جُمعَت هذه المقالات في كتاب، ولا آبى أن أقرأه مرة رابعة، ثم إن سألتَني بعد هذا كله: ماذا يعني بليلى المريضة بالعراق؟ أهي امرأة بعينها أم هي رمز من الرموز وكناية من الكنايات؟ لقلت لك إنني لا أدري! ومن الكتّاب من يكتب بأسلوب الصحفيين، لكنه أعلى منها. والأسلوب الصحفي بليغ في موضعه ولكنه لا يصلح للأدب، فليس فيه مزيّة تستدعي الإعجاب ولا عيب يستوجب النقد. ومن هؤلاء توفيق الحكم وأحمد أمين وحسين (لا حسنين) هيكل. وأكثر ما يُفيد ناشئةَ الأدب من هؤلاء وينير لهم طريق الكتابة هو أحمد أمين، لأنه يأخذ من الحياة مشهداً يشهده أو قصة يسمعها أو خبراً يقرؤه فيبني مقالته عليه، و «فيض الخاطر» في رأيي أنفع كتاب يتعلّم فيه المبتدئ الإنشاء. ولست أريد الآن (ولا أقدر إن أردتُ) أن ألخّص كل ما قلت لهم وما ألقيت عليهم، أو أن أستقصي كبار كتّاب العربية فأصف أساليبهم جميعاً، ولكني أقول إني حرصت على أن أربّي في الطلاب الحسّ الأدبيّ، وأن يفرّقوا بين الأدب الأصيل والأدب المقلَّد، بين الذهب الخالص والنحاس المطليّ بالذهب. وكنت أنبّههم إلى أن المقاييس تختلف، فما يرجح في ميزان الأدب قد يكون مرجوحاً في نظر الدين، ورُبّ أديب أو شاعر يملأ اسمُه

الدنيا ويشغل أدبه الناس لا يساوي عند الله طرفاً من جناح ذبابة، كابن هانئ وأبي نواس من الأولين، وكثير من الشعراء والأدباء في الآخِرين. وكنت أنبّههم إلى نصوص في الأدب لا يلتفت إليها المدرّسون وواضعو المناهج، ويشتغلون عنها بما كتب الحريري والصاحب بن عبّاد في المقامات، وما في ذلك كله إلاّ رصفألفاظ وتلاعب بها، كساحر السيرك حين يُخرِج من كفّه عشرات المناديل الملوَّنة ويأتي بما يحسبه الناس حقاً وهو باطل في باطل. كنت أُرشِدهم إلى نصوص في السيرة فيها قصص أدبية كاملة، تجمع مع صحّة الحديث ومع أنها حقّ لا يداخله شيء من الباطل، تجمع شروط القصة كلها؛ كقصة الإفك حين ترويها أم المؤمنين عائشة، وقصة كعب بن مالك لمّا تَخلّف عن تبوك، وقصة عمر لمّا سمع أن الرسول طلق نساءه. وكنت أنبّههم إلى كلمات تسمو إلى أعلى درجات الفصاحة والبيان ولا يكاد يهتمّ بها أساتذة الأدب والإنشاء، كتوقيعات الخلفاء والأمراء التي تجدونها في مثل «العقد الفريد»، كلمات قليلة تجمع من بلاغة اللفظ ومن عمق المعنى ما لا يكون في الكلام الطويل. وفي كتب الفقه الأولى قبل أن تفسد الملَكة ويختلّ الأسلوب كالأم للشافعي والمبسوط للسّرَخْسي. وقد كنت أقرأ فيه صفحات كثيرة لا لمعرفة الحكم الفقهي ولكن للاستمتاع بذلك البيان! وبقية الكلام في الحلقات الآتية إن شاء الله. * * *

تفسير بعض الآيات

-231 - تفسير بعض الآيات لا أزال في الحديث عن أيامي في الرياض، وإني لأعجب من نفسي: لقد كان لي يومَ ذهبتُ إلى الرياض زوج ولي بنات، فلماذا تركتهن في دمشق وقدمت الرياض وحدي؟ إني لأفكر فلا أجد لذلك إلاّ سببين: الأول أني أردت أن أجنّبهن مشقّة الغربة وآثرت أن أحتملها وحدي، والثانية أنني قضيت شطر عمري منفرداً؛ كنت في صغري لا أجد أحداً ألعب معه لأنني كبير إخوتي فليس فيهم من هو في مثل سنّي، ولم تكن لي ولا لأحد من إخوتي رفقة من أبناء الجيران، وما كنت ألعب في الزّقاق (ولم أقُل في الشارع لأنه لم يكن في دمشق شارع!) ولا كان لي من رفاق المدرسة من تُجاوز صلتي به بابَ المدرسة، فكنت إذا خرجت منها مشيت وحدي إلى الدار. ولمّا كبرت وغامرت في الحياة العامة، وجريت مع من جرى في ميدان السياسة وعملت مع من عمل في الأدب وفي الصحافة، كنت مع الناس من غير أن أداخلهم، حتى حين كنت أعلو المنابر وأخطب في الجماهير تلك الخطب التي كانت تشتعل اشتعالاً وتشعل الحماسة في صدور سامعيها، كنت وحيداً قبل

الخطبة وكنت أعود وحيداً بعدها. وحين احترفت الصحافة لم تجاوز صلتي بأهلها حدودَ المهنة، فلا أحضر مجالسهم ولا أدخل مداخلهم. ثم صرت معلّماً أولياً في قرى دمشق، فكنت أنام في القرية أحياناً: في سَقْبا في الغوطة الشرقية أولاً، ثم في زاكية من أعمال قَطَنا على ذيل جبل الشيخ، ثم في بغداد مدرّساً فيها، وفي البصرة في جنوبي العراق وفي كركوك في شماليه، وفي بيروت في الكلية الشرعية التي صارت تُدعى الآن أزهر لبنان. وبعد إعلان الحرب الثانية ذهبت مدرّساً إلى دير الزور سنة 1940، ثم جئت الرياض. وظننت أني ألِفت الوحدة بعدما صحبتها هذه السنوات الطوال وأنها سَهُلت عليّ وصارت كالطبع لي، ولم أدرِ أن ما قاسيت منها من قبل ملأ الكأس حتى قالت قَطْني، وأنه لم يبقَ إلاّ قطرة واحدة لكي تفيض، فجاءت أيامي في الرياض القطرةَ التي فاضت منها الكأس وكانت القشّةَ التي زعموا أنها قصمت ظهر البعير؛ فثقُلَت عليّ الوَحدة فيها حتى كلّت نفسي عن حملها، وما كنت أشكوه من قبلُ وجدتُه صار الآن هيّناً بجنب ما شكوته من الوحدة فيها. وكانت أمامي وأنا أكتب هذه الحلقة مجموعة كاملة جديدة من مجلة «الرسالة» تفضّل معالي الصديق النبيل الشيخ إبراهيم العنقري فأهداها إليّ، وهممت على عادتي بالاعتذار عن قَبولها، ثم تصوّرت متعة نفسي بها وعظم أثرها فيها فأخذتها شاكراً فضل

مُهديها. ورأيتها تردّني خمسين سنة في طريق العمر فتحملني إلى عهد كان من أجمل عهود حياتي، تردّني إليه حين استحال أن تردّ تلك الأيام عليّ وتحملها إليّ. وسأكتب عما كان لهذه الهدية من الأثر في نفسي وما أثارت من الخواطر والذكريات. لمّا رأيت مجموعة «الرسالة» ذكرت أن لي فيها مقالة عن الوحدة نُشرت قبل خمسين سنة كاملة، أدَع ما في أولها من كلام عن فلسفة الوحدة وأنقل هنا فقرات مما قلت فيها (¬1). قلت: عجزت عن احتمال هذه الوَحدة وثَقُل عليّ الفراغ الذي أحسّه في نفسي، فخالطت الناس واستكثرت من الصحابة، فوجدت ذلك أنساً لنفسي وجمعاً لشملي، فكنت أتحدّث وأمرح وأمزح وأُضحِك وأَضحك حتى ليظنّني الرائي أسعدَ خلق الله وأطربَهم. بَيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي حتى يعود هذا الفراغ الرهيب وترجع هذه الوحدة الموحشة. انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة وأُغرق وحدتي في لُجّة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت، وكتبت وخطبت، فكنت أحسّ وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفّق لي ويهتف، ولكني لا أخرج من النديّ وينفضّ الناس من حولي وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان وترجع الوحدة أثقل، فكأنها ما نقصَت هناك إلاّ لتزداد هنا، كالماء تسدّ ¬

_ (¬1) هي مقالة «الوَحدة»، نُشرت في «الرسالة» سنة 1937، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

مخرجه من الصّنبور (الحنفية) فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه. فماذا يُفيدني أن أُذكر في مئة مجلس أو أن يمرّ اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألماً؟ (إلى أن قلت): لذلك صرت أكره أن ألتقي بالناس وصرت أنفر من المجتمعات لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيّفاً. وجدتُني غريباً بين الناس فتركت الناس، وانصرفت إلى نفسي أكشف عالَمها وأجوب فيافيها، وأخوض بحارها وأدرس نواميسها، وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء. (إلى أن قلت): وسيظلّ الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله، ويفكّروا دائماً بأنه معهم وأنه يراهم ويسمعهم؛ هنالك تصير الآلام في الله لذّة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحّة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان أن لا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله. * * * ولكن هل بلغت أنا هذه المنزلة؟ ياأسفي! إني لأقرأ هذا الكلام الذي كتبته من خمسين سنة شمسية فأراه حقاً، ولكن أرى نفسي عنه بعيداً؛ أراني لا أزال أفتّش عمّن أضيع بالحديث معه عمري أو عن كتاب أو مجلة أمزّق بها حياتي، وأنا أعلم أن هذا العمر هو رأس مالي. ولقد فسّرت سورة العصر من زمن بعيد، بعيد جداً، تفسيراً

ما نقلتُه من كتاب، ولعلّ غيري قال مثله، ولكني لم أنقله عنه. وفهمت لماذا قال الشافعي رحمه الله: "لو لم يُنزِل الله من القرآن إلاّ هذه السورة لكفت الناس". سورة من أربع عشرة كلمة فقط جمعت فلسفة هذه الحياة وقوّمتها (ولا تقُل قيّمتها)، فقدرَت قيمتها وبيّنَت أن الخسران مآل كل من يحياها، ووضّحَت الطريق إلى اجتناب هذا الخسران. وكانت دستوراً للفرد وللجماعة وقانوناً للدنيا وللآخرة. كل ذلك في أربع عشرة كلمة فقط، فهل تأذنون لي أن أقطع سرد ذكرياتي، وأن أقف وقفة قصيرة لعلّها أنفع لكم وأجدى عليكم من تلكم الذكريات؟ أقف لألخّص في كلمات ما كنت شرحته من قبلُ مرات عن هذه السورة، وإن لم يكن الكلام فيها من صميم الذكريات. أقسم الله بالعصر. ونحن إنما نُقسِم بالشيء الذي نبالغ في تعظيمه وتقديسه، لذلك لم يَجُزْ لنا القسم بغير اسم الله وصفاته. ولكن الله يقسم ببعض مخلوقاته، لا تعظيماً لها بل تنبيهاً إلى بعض خصائصها ومزاياها لنستفيد منها. أَقسَم بالضحى والليل إذا سجى، لمّا انقطع الوحي عن رسول الله ‘ فثَقُل انقطاعه عليه واستعجل عودته إليه، فأفهمه الله بهذا القسم أن الله جعل لكل شيء موعداً، فالليل لا يأتي مع الضحى بل لا بدّ من انتظار موعد الليل. وأقسم بالتين والزيتون. لا اللذين نأكلهما كما قال بعض المفسّرين، فما شأن التين والزيتون اللذين نأكلهما بجبل الطور وهما ثمرتان وهذا جبل؟ ولكن الله أقسم بهما رداً على الكفّار الذين عجبوا أن يبعث الله محمداً في مكة ولم يعجبوا أن يبعث

موسى وعيسى في الشام وفلسطين (¬1) وهما بلد التين والزيتون، ولا أن يكلّم الله موسى عند جبل الطور، فأفهمهم أن بلد التين والزيتون وأن طور سينين كمكة البلد الأمين، فما يجوز أن يكون في تلك يجوز أن يكون في مكة. و «العصر» هنا كما أفهمه مُطلَق الزمان، فالإنسان الذي قُدّر له أن يعيش تسعين سنة إنما تكون تسعين يوم مولده، كعطلة الشهر للموظف لا تكون شهراً إلاّ حين بدايتها، فكلما مرّ الزمان عليها نقص شيء منها. والمليون إن كنت تسحب منه واحداً بعد واحد جاء وقت فرأيت أن المليون صفر، وهنالك الخسر. تذهب الحياة بذهاب العمر، ويذهب معها ما فيها من المال والبنين والذهب والفضة والجاه والسلطان، ويحوزه كلَّه هذا القبر الضيق، ثم يُهال عليه التراب، ثم يلفّه النسيان، فكأنه ما كان. فما الذي يبقى إذن؟ يبقى الإيمان والعمل الصالح: {إلاّ الذينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصّالحاتِ}. ثم لخّص بأربع كلمات المنهج الكامل للواحد وللجماعة؛ الكلمة الأولى هي «الحقّ»، فالمناهج والمذاهب والنِّحَل والمبادئ منها الحقّ ومنها الباطل، فالمؤمن يختار ما كان منها حقاً، ولكنه قد لا يقوى على تنفيذه وقد يشقّ عليه، فلا بدّ من «الصبر» على هذه المشقّة. فالحق هو اختيار الطريق الصحيح، والصبر هو سلوك هذا ¬

_ (¬1) وفلسطين جزء من الشام، والشام عند العرب تشمل سوريا وفلسطين ولبنان والأردن.

الطريق وتجنُّب الخروج عليه. هذا كله للفرد، فأين شموله للجماعة؟ إنه بكلمة «تواصَوا»، كلمة واحدة حوّلته منهاجاً عاماً، يوصي به كل مسلم أخاه وأخوه يوصيه به، وهذا هو التواصي وهذا هو التعاون والاجتماع على اختيار الصحيح من المناهج وعلى تطبيقه التطبيق الكامل. فما الذي تركته هذه السورة التي هي أقصر سور القرآن ولم تذكره؟ وهل إيجازٌ بعد هذا الإيجاز؟ وهل إعجاز بعد هذا الإعجاز؟ وهل طريق أقوم من هذا الطريق؟ (¬1) * * * نعم؛ لقد خرجت عن خطّ الذكريات، ولكن ما خرجت لاضطجع على كتف طريقها فأستريح ولا لألعب وألهو، ولكن تركته لأقطف لكم من جوانبه باقة من أغلى الأزهار ولآتيكم بسلّة من أنفس الثمار. ثَقُلَت عليّ الوحدة في الرياض. وكنت من قبلُ أمضي بعضَ يومي في الكلية، ثم لمّا ألِفت الطلاب وألفوني صاروا ¬

_ (¬1) ما ورد هنا في تفسير «العصر» إيجازٌ له تفصيل سيطّلع عليه القرّاء حين يصدر -بعون الله- كتاب «نور من القرآن»، وفيه مع تفسير سورة العصر تفسير سور أخرى من قصار السور كالإخلاص والمعوَّذتين والتكاثر، وفيه تفسيرٌ طويل للفاتحة وتفسيرٌ لآيات مختارة قليلة من القرآن. على أن نشر هذا الكتاب قد يتأخر لبعض الوقت لأنه ما زال بحاجة إلى عمل كثير وإلى بحث في بعض المواد المسجَّلة، فاسألوا الله لي العون والتيسير (مجاهد).

يجتمعون عليّ، يحسبون أن عندي علماً فهم يسألونني وأنا أجيبهم بالقليل الذي أعرف جوابه من سؤالاتهم. وكنت أجالسهم فأطيل مجالستهم، ويزداد إقبالهم عليّ فأزداد حباً لهم ودنواً منهم. أمّا الأساتذة فلم يُكتَب لي أن أخالطهم، ولم تجاوز صلتي بهم صلة الكرة بالكرة في كومة من الكرات، تجاورها وتلامسها ولكن لا تداخلها ولا تخالطها. إلاّ واحداً منهم شاباً ذكياً مكفوفاً كان من صغار المدرّسين في الكلية، ولي معه قصتان: الأولى أنه كان يجادلني في بعض ما كتبت في تأويل ما لا بدّ من تأويله وما لا يمكن أبداً حمله على ظاهره كقوله تعالى {نَسُوا اللهَ فنسيَهم} مع قوله تعالى {وَمَا كانَ ربُّكَ نَسِيّاً} وقوله {لا يضِلُّ ربّي ولا ينسى}، ويشتدّ أحياناً في نقدي وتدفعه حماسة الشباب إلى الهجوم الشديد عليّ. وأنا ما لم أكن غضبانَ أحتمل أشدّ النقد، بل إنني أقرأ في الرائي (التلفزيون) رسائل تَرِد عليّ فيها سبّي وشتمي وأرى الجرائد وفيها مقالات كلها نقد لي وسبّ وشتم فلا أبالي بها. ومرّت عليّ أيامٌ كانت جرائد دمشق كلها تهجم عليّ فيها، ومنها واحدة نسبَ إليّ كاتبٌ فيها ما لو نُسب عُشره إلى غيري لَما استطاع أن ينام في الليل ولا أن يلقى الناسَ في النهار، إنه جمع من صفات الشر ما لم يكَد يجتمع في إبليس! فما حرّك شعرة من جسدي، بل كتبتُ أنصحه وأدلّه على أسلوب الهجاء وأقول له: لو أخذتَ بعض ما نَسَبْتَ إليّ لربما صدّقه الناس، لكنك جمعتها كلّها فلم تجد من يصدّقها! جمع هذا المدرّس الشابّ كثيراً من الأقوال التي كتبتُها

في أوقات مختلفة (¬1)، منها ما لا أقول به الآن ولا أرتضيه. وأنا رجل مرّ بمراحل، فقد كانت نشأتي الأولى على يد مشايخ كلهم صوفي، فكان من ثمرات ذلك أن كرّهوا إليّ ابن تيميّة مثلاً وابن عبد الوهاب. ثم سافرت إلى مصر سنة 1347هـ لأدرس فيها، وأنا ابن عشرين سنة متفتح القلب للتلقّي، فحوّل خالي محب الدين ومَن عنده من روّاد المطبعة السلفية وجهتي، وجعلوني أحب ابن تيميّة وابن عبد الوهاب بعد أن كنت أكرههما. ثم دنوت حيناً من الشيخ زاهد الكوثري عن طريق صديقنا حسام الدين القدسي، ونشرا لي أول ما أصدرت من مطبوعات وهو «رسائل الإصلاح» التي نُشرت سنة 1348هـ وأقامت الدنيا عليّ، وردّ عليها كثير كان أشدَّهم الشيخ أحمد الصابوني الحلبي. ثم صحبتُ الشيخ بهجة البيطار فرجعت إلى ما كنت عليه مع خالي محب الدين الخطيب، وانتهيت الآن بحمد الله إلى طريق الصواب، فلا ألتزم التزاماً كاملاً إلاّ بما صحّ عن المعصوم الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وما جاء في كتاب الله الذي لا يدانيه الباطل ولا يقاربه. ¬

_ (¬1) قال في الصفحة السابقة إن له مع هذا المدرّس قصتين، وبدأ بالأولى منهما لكنه لم يتمّها، شغله عنها الاستطراد ثم انتقل إلى الثانية في هذه الفقرة. وأذكر أنني سمعت القصة من جدّي رحمه الله، فأنا أكملها هنا مما سمعت حتى لا تبقى بغير تتمة: كان هذا المدرّس يرفض التأويل ويجادل في بعض ما كتب علي الطنطاوي في تأويل ما لا بدّ من تأويله كقوله تعالى {نَسُوا اللهَ فنسيَهم}، إلخ، وكان كفيفاً كما علمتم، فبرم به جدي يوماً فقال له: أنت تنفي التأويل مطلقاً، فماذا تصنع بقوله تعالى: {وَمَن كانَ في هذه أعْمَى فَهُوَ في الآخِرةِ أعْمَى وأضَلُّ سَبيلاً}؟ فانقطع عن مجادلته في هذه المسألة (مجاهد).

كان هذا المدرّس الشابّ يطيل مناقشتي في كتاباتي القديمة، ولا يصدّق أني مررت بها ولم أقف عليها وأني رجعت عن كثير منها، فقلت له: اكتب رسالة تردّ بها عليّ. فتعجّب وقال: ألا تغضب؟ قلت: لا. فكتب رسالة طبعها له بعض أهل الخير ووُزّعت مجاناً. وكان من خبر هذا المدرّس الشابّ أنه تزوّج فدعا كل من في الكلية من مدرّسين وموظفين إلى وليمة ضخمة أقامها، ولم أذهب إليها كما أنني لا أذهب إلى أمثالها، فلما لقيتُه بعدها (وكنت أعرفه فقيراً) سألتُه: لماذا أقمتَ هذه الوليمة؟ فقال: إنها الوليمة الثالثة التي لا بدّ منها، واحدة لأهلي وأهل العروس، والثانية نسيت أنا لمن، وهذه الثالثة. قلت: لا تؤاخذني إن سألتك: من أين أتيت بالنفقات؟ فضحك ضحكاً كالبكاء، بل لقد كان يبكي فعلاً ويقطر الدمع من عينيه المطفأتين، قال: كان لي بيت فبعته! فعلّقت على ذلك في الرائي (التلفزيون) أنقد هذه العادات وأدعو الناس إلى تركها وأقول لهم: إن الزواج هو عمارة بيت، فهل صيّرتم الزواج بعاداتكم خراب البيت؟ * * * لم يكن لي في الرياض مَن أزوره إلاّ معالي الشيخ محمد عمر، وكان أخي عنده، ووكيل الوزارة وهو معالي وزير المواصلات الآن، والدكتور منير العجلاني في وزارة المعارف. والبيوت التي كنت أغشاها، وكنت أفتّش عن مبرّرات لزياراتها لأنني كنت أرغب فيها وأخاف أن أُزعِج أهلها، وربما مررت أحياناً

من أمام الباب ثم رجعت فمررت أمامه خمس مرات وأنا لا أجرؤ أن أقرع الباب خشية أن أضايق مَن وراءه، منها دار الشيخ محمد الصبّاغ، وكنت أجد فيها أنس النفس وراحة القلب، وكان معه جاره الأستاذ تيسير العيتي، وهو مدرّس فاضل، وزوجته بنت شيخ مدرّسي الرياضيات في سوريا الذي أحسبه قارب اليوم مئة عام من عمره أو زاد عليها، هو الأستاذ درويش القصاص. ودار الأستاذ عمر عودة الخطيب، ودار الأستاذ سليمان الحافظ الذي كان يسكن معه حَمُوه صديقنا الأستاذ عبد الرؤوف الحنّاوي، رحمة الله عليه وعلى من توفّاه من كل من ذكرت في هذه الحلقة. ومن طرائف ما وقع لي أننا كنا في دمشق تعوّدنا على الاجتماع في المدرسة الأمينية عقب صلاة الجمعة، واستمررنا على ذلك أكثر من أربعين سنة، نتغدى فيها ويشتري لنا الآذن (أي الفرّاش) ما نريد ويسقينا مديرها الشيخ شريف الخطيب رحمه الله أيضاً الشاي الأخضر. فانقطعتُ في الرياض عن هذا الاجتماع، فجدّدناه في دار الأستاذ السعدي، وهو شابّ رضيّ الخلق كريم النفس سكنت معه مدة قليلة. ونجتمع أحياناً في غيره من الدور. وكنت يوماً خارجاً من صلاة الجمعة فرأيت الأستاذ سليمان الحافظ وحماه (أعني أبا زوجته) الأستاذ الحنّاوي، فقالوا: هلمّ معنا إلى الغداء. فقلت: لا إلاّ أن يكون عندكم صَفيحة (و «الصَفيحة» أكلة شامية كان يتعذّر، بل يستحيل أن تكون في تلك الأيام موجودة في الرياض) فضحكا وقالا: نعم، عندنا صفيحة. ومرّا على جزّار شاميّ قد صنعها لهما فأخذاني معهما إلى دارهما!

وطالما أنِستُ بهذه الدار كما كنت آنس بدار الشيخ محمد الصباغ الذي صار الآن دكتوراً، ولا أدري أيّ اللقبَين أحَبّ إليه: الشيخ أم الدكتور؟ وكان الطلاّب يسألونني في اجتماعي بهم في غير وقت الكلية، فسألني واحد منهم مرة عن قوله تعالى: {الرحمنُ على العرشِ استوى}، فقلت له: أليس القرآن قد نزل بلسان عربيّ مبين؟ قال: بلى. قلت: فالعربية إذن وُضعت قبل نزول القرآن؟ قال: نعم. قلت: ووُضعت لمعانٍ أرضية مادية، لأشياء رآها الإنسان من نبات وحيوان وجماد فوضع لها أسماء، بل إنها من تعليم الله لآدم حين علّمه الأسماء كلها؟ قال: نعم. قلت: حتى الكلمات التي تدلّ على معنى مجرّد لا تخرج من كونها أرضية مادية. فلما خبّر ربُّنا بأنه استوى على العرش لم نستطع أن نقول إنه ما استوى فننفي ما أثبته الله، ولا نرجع إلى المعنى القاموسي فنقول إنه استوى، أي قعد على العرش كما يقعد المخلوقات، لأن الله ليس كمثله شيء والخالق لا يُشبِه المخلوق. فلم يبقَ إلاّ أن نقول إننا نؤمن بأن الله استوى على العرش لا كما يستوي المخلوق على كرسيه، فلا ننفي ما أثبت الله، ولا نشبّه الله بخلقه، ولا نعدل عن المعنى الذي يفهمه العربي الأصيل لهذه الكلمة إلى معنى غيره، إلى آخر ما كان. فلما كثرت الأسئلة، وكان قد جاء موعد المحاضرات، كُلّفت بمحاضرة فجعلت عنوانها «طريقة جديدة في تثبيت العقيدة» حضرها جمعٌ كبير من المشايخ والعلماء وأساتذة الكلية وطلاّبها كلهم، ولا أعمد إليها باختصار أو تلخيص فإنها نواة ما وضعته بعد ذلك في كتاب «تعريف عامّ بدين الإسلام» (الذي طُبع منه إلى

الآن بإذن مني وطُبع سرقة من وراء ظهري نحواً من ثلاثين طبعة، وتُرجم إلى الإنكليزية وإلى الأردية، واستأذنني ولدي الأستاذ طارق الحاج إبراهيم، وله أخ يعمل في إسبانيا، في ترجمته إلى الإسبانية فأذنت له. وعلمت أنه تُرجم بقلم بليغ بأسلوب رفيع في لغة الإسبان، وقدّم له أستاذ يُعَدّ هناك من أكبر الأساتيذ) (¬1). وخرج الطلاب من المحاضرة يتساءلون، وتساءل معم كثير من غيرهم، يقولون: هل مال إلى التأويل؟ هل قال بالتشبيه والتمثيل؟ هل جنح إلى التعطيل؟ فقالوا بأنهم ما سمعوني أقول شيئاً من ذلك. فتبيّن لي وجوب تجديد أسلوب تدريس العقيدة. إن الذين ألّفوا كتب العقيدة الصحيحة إنما ردّوا على الشُّبَه التي كانت على أيامهم، فكانت كتبهم دفعاً لها وحماية للمسلمين منها، كما كانت قلعة أجياد في مكة في يوم من الأيام تحمي البلد، فلما جدّت أسلحة لم تكن على عهد مَن بناها وبنى أمثالها صارت تحفة أثرية وعمارة تاريخية. لقد تبدّلَت طرق الهجوم على الإسلام فوجب أن نجدّد طرق الذَّبّ عنه ودفع الأعداء عن حِماه. إنه لم يعُد ينفعنا أن نردّ على الفِرَق التي بادت وفني أهلها ¬

_ (¬1) ثم تُرجم وطُبع بالفارسية والأندونيسية والتركية والبوسنية والألبانية والفرنسية والبرتغالية والدنمركية واليونانية والروسية والرومانية، وهو يُترجَم الآن إلى الألمانية والفلبينية. وقد نشرت دار المنارة مقدمة الكتاب منفردة في رسالة صغيرة باسم «تعريف موجز بدين الإسلام»، وتُرجمت هذه الرسالة إلى الألمانية والأرومية (وهي اللغة التي يتحدث بها نحو خمسة وثلاثين مليوناً في الصومال والقرن الإفريقي) (مجاهد).

ولم يبقَ منها إلاّ ما رُوي في الكتب من عقائدها، وأن نشتغل بالمذاهب الجديدة التي تكيد للإسلام كيداً أشدّ من كيد الأولين. إن محاربة الإسلام اليوم تقوم على مخطّطات مُحكَمة، تضعها عقول كبيرة جداً شريرة جداً وتؤيّدها جهات قوية جداً وتُنفَق عليها أموال كثيرة جداً، ودرسُ التوحيد في مدارسنا لا يقوى على ردّ هذه الشُّبَه، لا لأن الإسلام ضعيف يخشى هجومها، بل لأن التقصير ممّن يضع المناهج وممّن يؤلّف الكتب وممّن يُلقي الدروس. إنه ليس في الإسلام قصور، ولكنّا نحن المقصرون. * * *

من المستشفى المركزي في الرياض إلى مستشفى المواساة في دمشق

-232 - من المستشفى المركزي في الرياض إلى مستشفى المواساة في دمشق عرفتم أني انتقلت في شتاء سنة 1963 (1383هـ) إلى الرياض، وانتقل معي من دمشق شتاؤه وبرده، ولكن لم تنتقل مدافئه ولا الوسائل التي كنا نتخذها لدفعه؛ فكأنه عدوّ داهم بلدة كانت آمنة مطمئنّة لم تستعدّ لحربه، بل هي لم ترتقب هجومه. وأحسب أنه من تلك السنة بدأ الناس في الرياض يستعدّون للشتاء بالمدافئ: ما كان منها يوقَد بالحطب، وهو قليل، وما يوقَد بالنفط وما يُشعَل بالكهرباء. وكنت امرءاً يؤذيه البرد ويهون عليه معه حرّ الصيف مهما اشتدّ، لا لأني شيخ يقول: إذا جاءَ الشتاءُ فأَدْفئوني ... فإنّ الشيخَ يؤذيهِ الشتاءُ لأنني لم أكن قد صرت يومئذ شيخاً بل كنت كهلاً في الخامسة والخمسين، وكنت لا أزال على بقية صالحة من قوة الشباب واحتماله. وأنا بحمد الله حمداً كثيراً قوي البناء متين الأعضاء، أمشي سويّاً قوياً ثابت الخطو، لكنني تزحلقت في حياتي مرات،

ثم ما زلت أعود فأتزحلق فأقع على ظهري أو جنبي، فأبقى مُلقى أياماً ربما طالت حتى صارت أسابيع وشهوراً. وكان الذي أتزحلق به حصاة صغيرة جداً لا تزيد في مقدارها على الحمصة، بل ربما نقصَت عنها. ولو كانت على الطريق لدعست عليها (ولا تقُل دهست) أو لتنحّيت عنها، ولكنها كانت حيث لا تصل يدي إليها ولا أملك أن أحرّكها فأدفع أذاها، كانت في الكُلْية أو في حوضها (وهذا أهون ما يكون من شرّها) أو كانت في الحالب. وهو مجرى ضيّق، إذا كانت ساكنةً فيه سكَتَ عني ألمُها، فإن تحرّكت أو شدّ عليها فضاق عنها كان الذي عرفت من ألمها. فهذا الألم يجيء في لحظة، كما يجيء القدَر النازل نعوذ بالله منه، ويذهب في لحظة، فكأن الذي كان ما كان. * * * وبتّ الليلة لا أشكو شيئاً، فلما كان هزيع من الليل سُمع في الحيّ صوت: آه، يقتلعها مرسلُها من قرارة القلب ويبعثها مسربَلة بالألم، يسمعها الجيران مرّة كل دقيقتين، ثم صارت مرّتين كل ثلاث دقائق، ثم تسارعت حتى صارت تمشي مع دقة الثواني في الساعة، فكلما قالت الساعة «طق» قال هذا الصوت «آه»! وكان مطلقها هو أنا. وكنت أعرف هذه الآلام من القديم، ما شكوت في عمري غيرها. تقول التي تصاب من النساء بها (وهي تعرف آلام الولادة) أن آلامها تُشبِه آلام الولادة، فهل سمعتم بما تقاسي الوالدة حين الطلْق وما تتحمل حتى يخرج الولد إلى هذه الدنيا؟ لذلك كان أحطّ الناس وأخسّ الناس وألأم الناس من يعقّ أمه، وينسى صنيعها له ويعاملها بالشرّ والأذى.

ولي مع هذا المرض تاريخ طويل طويل، دخلتُ معه المستشفيات في دمشق والمستشفى الأميركي في بيروت ومستشفى الرياض هذه المرة، ودخلت مستشفى قصر العيني في مصر مرة، ودخلت بعض المستشفيات في أوربا، وما أشكو في ذلك كله إلاّ هذه الحصاة. وربما حدّثت القراء يوماً حديثها إن سمحوا بذلك ووعدوا أن يصبروا عليه. وسمع صوتي جارُنا في غرفته التي بناها خلسة فنقمت عليه بناءها، ولكنني وجدتها الآن نعمة. وما في الدنيا شرٌّ لا خيرَ معه ولا خيرٌ لا شرَّ معه إلاّ طاعة الله وابتغاء الآخرة، فهذا هو الخير الخالص. وكان جارنا، صاحب الدار، يعلم أنه ليس معي من يحتشمه من النساء، ولم يكن أخي ناجي تلك الليلة في الدار، ففتح الباب بالمفتاح (وهو معه) ودخل عليّ، ودخل معه جار آخر سمع من صراخي ما سمع فأقبل معه لمّا أقبل، جفَوا فراشهما الدافئ في هذا الليل البارد وجاءا يؤدّيان حقّ الجار على الجار، فجزاهما الله خيراً. وجعل يسائلني، وما بي طاقة على الجواب إلاّ أن أختلس لحظة بين آهتين من آهاتي، وسمعني في هذه اللحظة أذكر اسم الأستاذ محمد الصباغ والأستاذ سليمان الحافظ، فاتصل بهما. ولم يكن في الرياض في تلك الأيام هواتف في البيوت، ما كانت فيها إلاّ هواتف قليلة تُدار باليد، ولكن الحيّ حيّ عسكري فسَهُلَ عليه أن يتصل بمن يذهب إلى أحد الأستاذين فيخبرهما بما أنا فيه. ومن مزايا المسلمين أنهم عند الشدة يصيرون كأبناء الأم الواحدة والأب الواحد، وما من ذلك شيء إلاّ شيئاً قليلاً عند

الذين نسمّيهم بأهل الحضارة من أهل أوربا أو أميركا (وكان أجدادنا يدعون أوربا «أورَفّي»، بتشديد الفاء). ولست أعمّم الحكم ولكن أقول عمّن رأيت منهم وعمّا سمعت عنهم. ولم يكن الطب في المملكة في تلك الأيام قد بلغ عُشر ما نجده عليه الآن ولا أقلّ من العُشر، ولكن المستشفى المركزي في الرياض كان عامراً بالأطباء، وكان مديره شاباً نبيلاً سامي الخلق حسن العشرة محبوباً، لا يردّ طالب إسعاف ولو لم يكن يعرفه، فكيف بهؤلاء الإخوان وفيهم مَن هو صديقه ورفيقه؟ وكان في المستشفى جناح أُعِدّ لكبار المرضى من ذوي الأقدار والمنازل، فأنزلوني فيه كرماً منهم. وكان فيه ممرّضتان يبدو أنهما ألِفتا رؤية المتمارضين من الشباب ممّن كان ينزل عندهما رغبة في لقائهما، كان همهم هذا اللقاء لا التداوي والشفاء. فما أدري كيف ضربهما العمى فلم تبصرا في رأسي ووجهي الشيب والصلع، وأصابهما الصمَم فلم تسمعا صراخي؟ وأظنّ أنهما حسبَتاني مثل أولئك الشباب ولم تدركا أني إلى حقنة مورفين (وما كان يسكّن الآلام في تلك الأيام غيره) أحوَج مني إلى معاقرة كؤوس الجمال ومطارحة أحاديث الغرام. فتلفّتَت إحداهما تقول: حضرة الأستاذ من طنطا؟ وتكركر ضاحكة: هئ هئ، من طنطا بتاعتنا؟ هئ هئ! والمرأة إن ضحكَت غالباً قالت: «هي هي»، والرجل يقول: «ها ها»، والولد يقول: «هو هو». فصببتُ نقمتي كلها عليها، ووجّهت إليها كلاماً ما سمعَته حتى انكمشت وتضاءلت وكفّت عما كانت فيه. وجاء مدير المستشفى يزورني يسأل عن حالي مع طائفة من الإخوان الكرام وعما آمر به، فقلت له: أول ما أطلبه أن

تصرف عني هذه الممرضة الحمقاء. فلما تدفّق الإخوان عليّ وتَكرّم بزيارتي الوزيران الصديقان الشيخ محمد عمر توفيق وزير المواصلات ووزير الحج بالنيابة، والشيخ حسن رحمة الله عليه وزير المعارف ووزير الصحة بالنيابة، زادت عناية القوم بي واهتمامهم بمرضي. وتَبيّن أنه لا بدّ من عملية جراحية، ففضّلت أن أعملها في الشام؛ لا لأنه لم يكن في مستشفى الرياض أطباء يقدرون عليها، بل لأن هناك من أعرفه من قديم وهناك أهلي وأقربائي، والمريض يأنس بزيارة أهله وأقربائه. وكان على رأس الأطباء الذين يُعنَون بي في الشام الدكتور حسني سبح، وهو شيخ جاوز التسعين (وقد بلغني أنه توُفّي من قريب، رحمه الله)، وهو بقية جماعة كانوا أساتذة أطباء الشام جميعاً. منهم الدكتور حمدي الخياط، وقد خلّف ولداً عبقرياً نابغاً طبيباً عالِماً هو الدكتور هيثم الخياط، ومنهم الدكتور عِزّة مريدن، وكان يومئذ عميد كلية الطب في الشام، ومنهم الأخ الطبيب الحبيب الدكتور مظهر المَهايني، الذي أجرى لي في مستشفى كلية الطب من قبلُ ثلاثَ عمليات لم يأخذ عليها لنفسه أجراً. فجزاه الله وجزاهم خيراً. * * * وأخذوني إلى مستشفى المواساة الذي أقامه جماعة من كرام الشاميين بسعي من الدكتور حسني سبح رحمة الله عليه، الذي توفّي وهو رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، وهو أحد الأطباء الذين جمعوا بين الطب في أحدث ما سما إليه وبين اللغة العربية، إحاطة بها وتحقيقاً لفصيحها وشواردها. وسأكتب عنه إن شاء الله

فصلاً طويلاً حين أعود فأكتب عمّن عرفت من الرجال. ودمشق كما يعرف الناس أجمل مدينة على وجه الأرض، وموضعُ مستشفى المواساة (الذي كان يُدعى من قبل مَصْطبة الهبل) أجمل موقع في دمشق. وكان مديرُه أحسنَ مدير لمستشفى عرفته في عمري وأضبطَه لعمله، على رقّة فيه ولطف، وهو الأستاذ كامل الرّوماني، وكان من قبل زميلاً لنا في التعليم، ولست أدري أهو حيّ فأهديه سلامي أم قد توفّاه الله فيمَن توفّى من أصحابي فأسأل الله الرحمة له؟ وعرفت عدداً من الأطباء الشباب يومئذ الذين كانوا يتدرّبون في هذا المستشفى، منهم الدكتور مأمون العظمة الذي صار بعدُ طبيباً كبيراً. وكان في غرفة إلى جنب غرفتي رفيقُ عمري وشقيق نفسي أنور العطار، مريضاً مثلي، لا يقدر أن ينتقل إليّ حتى أراه ولا أستطيع أن أنتقل إليه فأزوره، فكنت معه كما قال المعرّي في هذا البيت الذي تضمّن معنى عجيباً وتشبيهاً نفيساً غريباً، حين قال: كتَجَاوُرِ العينينِ لم يتلاقيا ... وحِجازُ بينِهِما رقيقُ جِدارِ وكان إخواننا يخافون أن يقع لي ما وقع في المرّة الماضية (سنة 1957) في مستشفى المُجتهِد، وهو أكبر مستشفيات وزارة الصحّة في دمشق في تلك الأيام، حين جاء طبيب داخلي يتدرّب فيه وكان شيوعياً خبيثاً، فأدخل في دمي جرثومة نادرة هي التي تُسمّى بالعربية «العُصَيّات الزّرقاء»، فكان من أثر ذلك أن بقيت في هذا المستشفى ثم في مستشفى كلية الطب حين انتقلت إليه أربعة عشر شهراً.

ذكر الإخوان ذلك فخافوا أن يقع مثله، فندب نفسَه ولدي الأستاذُ زهير الشاويش فأبى إلاّ أن يقف على العملية، وجاهد وجالد وسعى حتى سمحوا له أن يلبس ما يلبس الأطباء وأن يضع مثل القناع الذي يضعونه وأن يقف معهم يراقب ما يصنعون. وما كنت أخشى الدكتور مظهر فهو أخي وصديقي، ولكن أخشى بعض صغار الأطباء، ومَن لدغه الثعبان خاف الحبل. وأنا أسائلكم ياأيها القراء: لو كان لي ولد من صلبي هل كان يصنع أكثر مما صنع الأستاذ زهير أو هل كان يصنع مثله؟ فجزاه الله وجزى إخواننا المخلصين خيراً. ولمّا كنت في مستشفى كلية الطب كان أخي عبد الغني مريضاً في عمارة أخرى من عمارات المستشفى، وكان الذي أجرى له العملية هو الدكتور مظهر المهايني. وكان من خبر أخي أن جداراً من بناء كان يبنيه انهار عليه ففتّت عظام فخذه، حتى لقد خبّرني الدكتور مظهر أنه رصف قطع العظام كما تُرصَف قطع الفُسَيفساء الصغيرة، ووفّقه الله ونجحت العملية ولكن قصرَت إحدى الساقين قليلاً. والدكتور مظهر المهايني جرّاح عامّ، ولكن الله وفّقه فنجح في كل عملية أجراها في حياته الطويلة مع العمليات، فأرجو ممن يعرف مكانه أن يبلغه هذا الذي كتبته عنه، وأن يُخبِره أنني مهما عشت فلن أنسى حبّه وبراعته وفضله عليّ. ولم تعاودني النوبة بعد ذلك اليوم. وكلما صوّرت كُلْيتي صورة شعاعية بدَت الحَصاة في مكانها (ولكنها لا تُحدِث حدثاً ولله وحده الحمد ولم يعُد لها ألم)، حتى في الصورة التي استخرجها اثنان من

أعظم مصوّري الأشعة هما الدكتور عيد ابن صديقنا الشيخ ياسين عرفة في دمشق والدكتور بيضون ابن صديقنا وزميلنا في محكمة النقض الأستاذ محمد علي بيضون، وهو يعمل اليوم في مستشفى عرفان وتُحال عليه حتى من المستشفيات في أميركا الحالات التي تحتاج إلى صورة لا يقدر إلاّ قليل من الأطباء على مثلها. ومن الذين لمستُ براعتهم في التصوير الشعاعي ومعرفتهم به الدكتور الإسكندراني الذي عرفته في المستشفى العسكري بجدة. وأشهد شهادة حقّ لا أبتغي عليها جزاء ولا أنتظر من أحد شكراً، أن الطب في المملكة قد سما حتى قارب أن يصل إلى الذروة التي لا نعرفها إلاّ في قليل من بلاد أوربا وأميركا. * * * ومرّت السنة وقاربت نهايتها، وبعثوا يسألون المعاقِدين (الواحد «معاقِد» والاثنان «متعاقدان»): من يريد منهم تجديد العقد؟ فقلت لهم وأنا راضٍ شاكر عارف بالفضل: أعفوني من التجديد. فحاول الإخوان أحسن الله إليهم استبقائي وظنّوا بأن شيئاً آذاني، فأخبرتهم صادقاً أنني ما وجدت والله إلاّ كل خير من سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، وهو المشرف الأعلى على الكليات، ومن أخيه الشيخ عبد اللطيف، وهو المشرف القريب عليها، ومن الأخ الكريم الشيخ عبد العزيز المسند الذي كان يديرها، ومن مدير الكلية ومن الزملاء ومن الطلاب. ماوجدت من الجميع إلاّ خيراً سأظل أذكره وأشكره، ولكن القلوب بيد الله يوجّهها حيث يشاء، وقد صرف الله قلبي في تلك السنة عن الرياض

زادها الله عمارة وازدهاراً وأمناً، وعُدت إلى الشام. وكانت العطلة الصيفية وجاءت معها العطلة القضائية، فطُلبت على الهاتف، فرفعت السماعة، وإذا الذي يطلبني السفارة السعودية في شارع أبي رمّانة (وهو أقبح اسم لأجمل شارع). فذهبت لأرى ما الخبر، وتوقّعت وأنا أهمّ بدخول السفارة أنهم سيطلبون مني العودة إلى الرياض، فدعوت الله وأنا على الباب بدعاء الاستخارة المأثور وتركت الأمر لله، فلما دخلت وجدت السفير، وكان يشرّفني بصداقته وكنت أُكثِر من زيارته، ووجدت عنده شيخنا الشيخ بهجة البيطار ومبعوثاً من قِبَل سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمة الله عليه وعلى جميع من مضى من هؤلاء)، فقال السفير: إن سماحة المفتي يرغب أن تعود إلى العمل. وأيّده الشيخ بهجة، فقلت: أنتم الثلاثة لكم عليّ حقّ، تأمرون وأنا أطيع، ولكن لا تكلّفوني إلاّ بما لا أُطيق، وقلب الإنسان بين أصبعين من أصابع الرحمن يوجّهه حيث شاء والله يحول بين المرء وقلبه، وأنا لا أدري والله لماذا صرف الله قلبي عن العودة إلى الرياض في تلك الأيام، للوحدة التي وجدتها فيها أم للمرض الذي أصابني؟ وطال الحديث بيننا فقال السفير: تذهب إلى مكة؟ فقلت بلا تردُّد: نعم. فقال: على بركة الله. * * * وكان أمر القضاء في سوريا إلى مجلس القضاء الأعلى، وهو مؤلَّف من القضاة أنفسهم من سبعة من كبارهم، ما لوزير

العدل معه أمر ولا نهي ولا له على القضاة حكم، وهذا هو استقلال القضاء. فخجلت أن أطلب منهم إذناً جديداً بأن أعود إلى المملكة وقد جئت منها بالأمس، ولكنهم جزاهم الله خيراً ما تأخّروا بإصدار هذا القرار. وكان أخي الشيخ الدكتور مصطفى السباعي على عزم الذهاب إلى مكة ليدرّس معنا في كلية الشريعة (أو في كلية التربية)، وكان قد أعدّ الأمر وسعى فيه صديقنا الشيخ الصوّاف، وهو الذي جاء بالأستاذ المبارك رحم الله السباعي والمبارك وجاء بآخرين، لأن الشيخ حسن رحمه الله فوّضه في سنة من السنين أن يختار هو المدرّسين المعاقِدين. واتفقنا على أن نسافر معاً، وكان له أخ في مكة بل أخوان اثنان ينتظرانه، فودّعته على أن ألقاه يوم السفر. فلما كانت صبيحة اليوم التالي رنّ جرس الهاتف، فذهبت أرى من المتكلم فإذا هو بسّام الأسطواني الذي كان يلازم الشيخ السباعي، وأحسبه هو الذي أنشأ دار القرآن للطباعة، فقال لي: عظّم الله أجركم بالدكتور. فخطر على بالي اسم كل دكتور أعرفه إلاّ الشيخ السباعي، لأنني لم أكن أدعوه بالدكتور بل بالشيخ ولأنني ما توقّعت أبداً بأن يسارع إليه الله الأجل، وإن كانت الآجال بيد الله لا تدري نفس متى تموت ولا بأيّ أرض تموت. وكنت أنتظر اليوم الذي أصحبه فيه إلى مكة، وكان مريضاً ولكنه صبر على مرضه وعلى ما يقاسي منه، جعل الله ذلك زيادة في ثوابه عنده رحمة الله عليه. وجئت مكة. * * *

في مكة سنة 1384هـ

-233 - في مكة سنة 1384هـ أنا أقرأ الجرائد كلها وأشكر أصحابها الذين يبعثون إليّ بها، إلاّ قليلاً منها لا يصل إليّ، وأنا لا أخرج في العادة من داري لأشتريها وليس عندي من يُحضِرها لي، ومن هذا القليل جريدة البلاد. وقد حمل إليّ اليوم ولدي ومُخرِج برنامجي الأستاذ عبد الله رواس عددَين منها: في أحدهما مقالة عن رسالتي «حلم في نجد» التي نُشرت في مجلة من المجلات من أكثر من ثلاثين سنة وطبعها وحدها طبعاً جميلاً صاحبُ «دار الأصالة» في الرياض بإذن مني، وشكرت له أمانته وأصالته، وما وجدت لكثير من الناشرين أمانة ولا وجدتهم أُصَلاء. والمقالة للأستاذ عبد الله الداري، وهي أحلى من رسالتي التي كتبها عنها فله الشكر عليها. وفي الثاني مقالة للشاعر الشاعر (ورُبّ معروف بالشعر ليس بشاعر) يصف فيها مرضه شفاه الله منه، وإن أعجز هذا المرض الأطباء فليس بمعجز الله، فالله على كل شيء قدير. لم يمنعه ما يكابد من المتاعب والأوجاع عن أن يجعل من مقالته قصيدة كلها درر، وإن كان درّها منثوراً، وأن يستبكي فيها من غير أن يبكي، ويستمطر الحب له دمعاً من عيون مُحِبّيه ودعاء صادقاً من قلوبهم.

وللعامة من أهل الشام كلمة يقولونها للمريض إذا عاودوه، لو أن أديباً بليغاً أعمل فكره وبيانه لَما جاء بأجود منها ولا أجمع، هي قولهم: «أجر وعافية»؛ عافية من المرض في الدنيا وأجر عليه في الآخرة. كتبهما الله للأستاذ طاهر الزَّمَخْشري، وشكر له ما أفضل به عليّ فيما قاله عني. لقد ذكّرني بزيارتي الأولى لمكة حرسها الله سنة 1353هـ، وقد عرفت فيها جماعة من الأفاضل تكلّ اليوم ذاكرتي عن إحصائهم، منهم الأستاذ الشيخ محمد سعيد العامودي، والشيخ ابن بليهد، وشاعر الملك عبد العزيز الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم الغزّاوي، والأستاذ حسن عوّاد. وأطلعني الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار -وكنت أزوره في داره- على مقالة كتبها يومئذ عني، وكان كما أظن طالباً، قرأها عليّ من كتاب كان في يده، وما عرفت اسم الكتاب لأحتفظ بالمقال. وممن كان يوليني يومئذ رعايته اثنان لا يكادان وأنا في مكة يفارقانني، ثم لمّا عدت إلى الشام كانا يراسلانني، أمّا أحدهما فقد شغلته الدنيا عني حتى إني لم أره (وأنا مقيم في مكة من قرابة ربع قرن) إلاّ مرة واحدة مصادفة على باب الحرم، وما بي حاجة إليه ولكن كنت أوثر أن أستديم ودّه. وأما الآخر فقد داوم على الودّ وحفظ العهد وبقي إلى أن توفّاه الله يواصلني، هو الأستاذ عبد الله المَزْروع. وكان عند الأستاذ المزروع دفتر كلما قدم مكة حاجٌّ أو زائر له اسم في الناس استكتبه فكتب بخطه في هذا الدفتر، يصف ما شاهده ويصوّر ما أحس به. واجتمع له مقدار من خطوط هؤلاء

النبلاء لم يجتمع لغيره، وكنت كلما ذكرت هذا الدفتر بعثتُ أسأل بناته الفُضْلَيات عنه وأرجو أن يصوَّر ويُطبَع مصوَّراً فتبدو فيه خطوط كاتبيه، فيكون منه مرجع تاريخي وأدبي واجتماعي لا أعرف له مثيلاً. وأنا أتمنى الآن أن يتحقق هذا الرجاء على يد مؤسسة تِهامة وقد تولّى الإشراف عليها الأستاذ محمد محمود. * * * كان ذلك من ذكريات زيارتي الأولى أثاره في نفسي ما كتب الأستاذ الزمخشري شفاه الله وعافاه، فلما جئت مكة هذه المرة أول العام الجامعي 1384هـ كان أول من لقيته ممن أعرف الشيخ محمد علي الصابوني، وجدته في المطار حملَته الطيارة التي حملتني إلى جدة ومعه أهله وأولاده، فدلّني على فندق شبرا. وأنا رجل مبتلى بالسهر جلّ نومي بعد صلاة الفجر، أنام حين يستيقظ الناس، فطلبت غرفة منعزلة فأعطوني غرفة تُفضي إلى أخرى، فأخذتهما ابتغاء الهدوء وخشية الإزعاج وأغلقت على نفسي البابين: الباب البرّاني والباب الجوّاني، فما كدت أغرق في النوم حتى أيقظتني حركة عند رأسي وكلام قريب يقع في أذني، فصحوت وقمت مذعوراً أحسب أن قد دخل عليّ أحد، وإذا الحركة والكلام من وراء الجدار الرقيق الذي يفصل بين المكانين. فشدّ ذلك أعصابي وأطار النومَ من أجفاني، فذهبت إلى الحرم، وكان يخلو في الليل حتى ما تلقى في المطاف إلاّ أفراداً يُعَدّون، فلم يَعُد الآن يخلو ساعة من ليل أو نهار. ووجدت في المَطاف الدكتور عبد الحميد الهاشمي، وكان قد جاء المملكة قبلي بسنة، يطوف معتمراً ومعه أهله، وهي سيدة

فاضلة من قوم فضلاء أبوها الشيخ إبراهيم زينَل، عرفته في كراتشي فعرفت فيه كرم النفس ونبالة الأصل. ورحّب الدكتور بي، وسألته عن مكان أنزله فدلّني على العمارة التي يسكن فيها، وهي عمارة الكعكي إلى جنب فندق شبرا، ضخمة عالية فيها عشرة أدوار ولها مصعد أحسب أنه أول مصعد رُكّب في مكة. وكانت المساكن في الأدوار الدنيا من العمارة من غرفتين وفي العليا من أربع، فأخذت داراً في الدور الثامن، وهو في الواقع تاسع أو فوق التاسع لأنه لا يوصل إلى المصعد من أرض الشارع إلاّ بارتقاء سُلّم فيه اثنتان وثلاثون درجة. أخذت الدار بأربعة آلاف ريال في السنة، وسألوني: متى تأتي بالأثاث؟ فضحكت وقلت: قريباً إن شاء الله. ولم يكن عندي من الأثاث شيء. ووجدت بين سكان العمارة الأستاذ صلاح الدين الأزهري، ولم أكن أعرفه من قبل. وهو من اللاذقية، أزهريّ الاسم وأزهري الدراسة، وهو رجل نبيل كريم. ومن عجيب أمري أني ذهبت إلى أقصى الشرق حتى قاربت أستراليا وإلى أقصى الغرب حتى بلغت شمالي هولندا، ولم أرَ اللاذقية ولا الساحل السوري إلى الآن! لقيت من الأستاذ الأزهري كل رعاية وعناية، نزل معي إلى السوق فاشترينا سريراً وفراشاً وسجادة، وكان في السوق شابّ متخرج في كلية الشريعة، ولكنه آثر العمل الحرّ فاشتغل بالتجارة، فاشترينا منه أدوات المطبخ. ثم ذهب بي فاشترينا ثلاّجة. ولا نعرف أنواع الثلاجات، ولكن وجدنا اسمها «جبسون»، وكان رئيس أمريكا «جونسون»، فقلت بأنها رئيسة في الثلاجات كالرئيس جونسون في الدول، وإن اختلف فجاءت نقطته من فوق ونقطتها من تحت، ولم يبقَ

في هذه الأيام فرق بين فوق وتحت، فقد اختلطت طبقات الناس ولم يعُد يميّز العالي من الواطي إلاّ قليل. وأخذنا صندوق الثلاجة فجعلنا كل وجه منه وجهاً لنضد (طاولة)، ثم اشترينا خشباً ومنشاراً وما تحتاج إليه النجارة. أقول «اشترينا» و «أخذنا»، وإنما الذي اشترى وأخذ هو أخونا الأزهري جزاه الله خيراً. ثم صنعنا (أعني أنه صنع، وأنا أعمل تحت يده) طاولات للأكل وللكتابة، جميلة كاملة لا يعيبها إلاّ أنها تسقط بك إن استندت إليها وتميل معك إن ملت معها وتهتزّ إن هززتها! ثم اشترينا ستة من كراسيّ الخيزران، فاكتمل فرش الدار. وزارني الأستاذ الشيخ سعيد العامودي مع صديق له شيخ لوبي (أي ليبي، من طرابلس الغرب) فصيح اللهجة يُشبِه في كلامه وفصاحة لسانه صديقَنا العالِم الأستاذ عبد الغني الباجقي رحمة الله عليه، وربما كتبت عنه إذا عُدت إلى الكتابة عمّن عرفت من الرجال. زارني الشيخ سعيد وصاحبه، فلم يكن عندي من فرش الدار الذي حسبته اكتمل إلاّ سجادة ليس حولها مساند ولا مخدات، فقعدوا عليها وظهورهم إلى الجدار. * * * وكان الأستاذ سعيد العامودي رئيسَ تحرير مجلة «الحج»، وكانت إدارتها في العمارة التي تقابل دارنا، فكنت كلما وجدت وقتاً فارغاً من العمل ملأته بالمتعة بمجلس الشيخ سعيد والاستفادة منه، وذكّرني بمجلس خالي محب الدين في المطبعة السلفية في مصر ومن كان فيه من مرتاديه، وعلى رأسهم اثنان كانا من الأعلام

في مصر في تلك الأيام: أحمد تيمور باشا والشيخ الخضر الحسين التونسي الذي صار شيخ الأزهر، ومنهم الشيخ عبد الوهاب النجار والشيخ أحمد إبراهيم، وكنت ألقى فيها الرافعي أحياناً وأحمد زكي (أبا شادي) حيناً. وبمجلس أستاذي الزيّات في «الرسالة»، وأهل هذا المجلس هم كبار الأدباء الذين كانوا يكتبون فيها (وإن لم يجتمعوا جميعاً معاً)، كالرافعي والعقاد وزكي مبارك والمازني أحياناً. وبمجلس الأستاذ أحمد أمين في لجنة التأليف والترجمة والنشر (وكان رئيسها) ومَن يضمّ هذا المجلس من الأعلام الكبار في مصر. ومجلس الشيوخ في دمشق الذي سبق الكلام عنه، شيوخ الأدب والعلم لا شيوخ السياسة. ومجلس الأستاذ كرد علي في داره وفي المجمع العلمي، ومجلس الشيخ عبد القادر المغربي، ومجالس أخرى لست أُحصيها. ولست أدري لماذا بدّلوا اسم مجلة «الحج» بعدما شرّق وغرّب وعرفه الناس وصار عنواناً لها وعلَماً عليها دهراً طويلاً؟ والناسُ يحرصون على الأسماء المشهورة لا يفرّطون بها، فمَن الذي أمات هذا الاسم ومحاه وسمّاه باسم جديد لا يعرفه أحد، فسمّوها مجلة «التضامن الإسلامي»؟ كما أنهم بدّلوا الآن اسم مجلة «رابطة العالم الإسلامي» وجعلوه «الرابطة» (فقط)! رابطة العلماء؟ رابطة الأدباء؟ رابطة سائقي السيارات ومرقّعي الإطارات؟ الرابطة اسم عامّ، ثوب يصلح لكل لابس، فكأنهم كرهوا اسم العالَم الإسلامي، وإن كتبوا كلمة «الإسلامية» بخطّ صغير لا يُرى إلاّ بالمجهر الكهربي (الإلكتروني). * * *

أقمت في عمارة الكعكي عشرين سنة، فما رأيت من صاحبَيها تعدّياً أو ظلماً أشكوه منهما، ولا لمست فضلاً أو نبلاً أذكره فأشكره لهما. إنما وجدت الفضل والنبل حقيقة عند الشيخ إبراهيم الجفالي رحمة الله عليه. والثلاثة من كبار رجال المال والأعمال، ولكن الرجال إنما تتفاوت أقدارها بما قدمت من فعال. وكان عملي في كلية التربية، وهي بنت كلية الشريعة. وكلية الشريعة في مكة أمّ الكليات كلها وأول معهد عالٍ أُقيمَ للناس في هذا البلد، وكانت بنتها، كلية التربية، قد بلغت في تلك السنة السنّ التي تستغني فيها عن الحضانة، فخرجت تستقلّ بنفسها وتسكن وحدها، فانتقلت نقلة واحدة من أقصى المدينة، من «الزّاهر» حيث كانت كلية الشريعة إلى «الحوض»، حيث لم يكن إلاّ بناء صغير أُقيمَ ليكون مدرسة ابتدائية فاستولَت عليه الكلّية وجعلَته داراً لها. وكنتُ إذا جاوزتُ الشُّشَّة وبلغت دار الملك فيصل عليه رحمة الله فقد بلغت آخر العمران، الطريق عندها شعبتان: شعبة إلى اليمين تسلكها إلى الكلية في الحوض ثم تنتهي إلى عَرَفات، وشعبة إلى اليسار تمشي فيها إلى «الشّرائع» (¬1). وما بعد دار الملك فيصل رحمه الله (التي صارت الآن مقرّ إمارة العاصمة المقدسة) إلاّ الطريق يتمدّد وحده بين الجبال، حتى يصل إلى الثانوية العزيزية التي كانت تقوم منفردة في هذه المنطقة، ما معها غيرها وليس حولها من البنيان سواها. وكان قِبَلها جندي في غرفة صغيرة من الخشب كالتي يتخذها الحراس، قائمة في صلب الجبل يراقب ¬

_ (¬1) الذي لا يعرف مكة لن يعرف ما هي هذه الشرائع والشُّشّة والزّاهر والحَوْض، وهي كلها أحياء من أحياء مكة المكرمة (مجاهد).

منها الطريق، وكلما مررتُ به أشفقت عليه ورثيت لحاله. وأنا أسكن اليوم في حيّ العزيزية، ومن حولي من كل جانب شوارع معبَّدات وعمارات عاليات وحدائق ذات بهجة فيها زرع ونبات وأشجار باسقات، فأحاول أن أتذكر: أين كان يقف ذلك الجندي؟ وأين كان مصنع الثلج الذي كنا نراه أبعد شيء عن مكة، ونذهب إليه في العَشيّات وفي الليالي المُقْمرات؟ لقد تبدّل كل شيء؛ مُحيت صورة ونُقشت صورة جديدة تماماً. إن الأحياء التي وُجدت هنا أكبر مساحة من مكة التي عرفتها في أول زيارة لي إليها، فكيف إذن إن ذهبت إلى تبوك؟ سموّ الأمير دعاني لإلقاء محاضرة هناك ونسي أني لم أعُد أستطيع أن أرحل هذه الرحلات الطِّوال. إني أرى في الرائي (التلفزيون) مناظر تبوك فما أكاد أصدّق ما أرى؛ إن تبوك التي أعرفها ما فيها إلاّ المحطة تقف خالية تراقب هذا الخط الذي لا يمشي عليه قطار، وإلى جنبها غرف صغار كانت يوماً مستشفى ملحقاً بالمحطة (والصورةُ منطبعة في نفسي كأنني أراها الآن) وأمام المحطة فضاء واسع في صدره بيوت من الطين ما أظن أنها تزيد عن مئة بيت، وإلى شمالك وأنت تنظر إليها بستان واسع على نبع يشرب منه الناس لأن له صلة -كما يقولون- بغزوة تبوك! * * * كان نائب عميد كلية التربية لمّا جئتها الدكتور خالد القِرِمْلي، وكانت هيئة التدريس لا يصل عدد أفرادها إلى ستة عشر ما بين أستاذ ومدرّس ومعيد. وفي يدي الآن رسالة رسمية تاريخها 10/ 2/1385هـ (ورقمها 165/ 1) أُثبِتها هنا للتاريخ:

"كلية التربية بمكة. إلى الأساتذة: علي الطنطاوي، رشيد العبيدي، الدكتور جعفر، الدكتور محمد المعتصم، الدكتور محمد الحاج حسن، الدكتور باقر سماكة، الدكتور إبراهيم المشهداني، الدكتور محسن الهمذاني، الدكتور مسارع الراوي، الدكتور محمد جواد رضا، الدكتور سيد رضوان علي، الدكتور علي توفيق قادر، الدكتور علي أبا حسين، الأستاذ فيّاض النجم، الأستاذ رشاد الزَّمْريق، الأستاذ حكمت عبد الكريم. بعد التحية، بمناسبة انتهاء العام الدراسي 84/ 85 فإنه يتوجب عليّ إبلاغ إخواننا المدرسين الذين مُنحوا تأشيرة العودة للعمل في الكلية للعام الدراسي القادم وهم أوفر نشاطاً وأكثر قوة بأن حضورهم قد حُدّد بتاريخ 18/ 5/85 استعداداً لامتحان الدور الثاني الذي يبدأ في 20/ 5/85، وإحاطتكم علماً بأن من يصل في الوقت المحدد تُصرف له الرواتب من تاريخ توقفها وأما من يتأخر عن ذلك فيُصرف له من تاريخ المغادرة ويُعتبر تاريخ بدء عقده. ويطيب لي أن أنتهز هذه الفرصة فأوجّه لإخواننا المدرسين جميعاً المجدَّدة عقودهم والذين حالت ظروفهم عن العمل في العام الدراسي القادم شكري الجزيل على ما بذلوا من جهد وإخلاص وحسن تجاوب خلال تأدية عملهم، متمنّين للجميع أياماً سعيدة. عميد كلية التربية بالنيابة، السيد محسن أحمد باروم". وأنتم ترون أن أكثر مَن ذُكرت أسماؤهم من العراق؛ ذلك أنها لمّا بدأت النهضة التعليمية في المملكة اضطُرّت (كما يُضطرّ كل من كان في مثل حالها) إلى الاستعانة بإخوة لها هم أقدم عهداً بالتدريس في الجامعات وفي العمل في الدوائر. فكان الخبراء على

عهد الملك المؤسّس عبد العزيز رحمه الله أكثرهم من الشام، أي من سوريا، هم الذين وضعوا الأساس، أذكر منهم الآن الشيخ يوسف ياسين ثم خير الدين الزِّرِكْلي في الخارجية، ورشدي مَلْحَس الذي كان أخوه الأستاذ عبد الفتاح أستاذاً لنا في مكتب عنبر، وهو فلسطيني، والدكتور حمدي حمودة والدكتور بشير الرومي والدكتور مدحت شيخ الأرض، وهم من الشام، للصحّة. والشيخ كامل القصّاب، وقد ساعده الشيخ بهجة البيطار للمعارف. ثم جاء الحُسامي ونسيب السباعي ومن كان معهما للمالية. وأقول بالمناسبة إن الأستاذ نسيب السباعي كان مدير المال في دوما يوم كنت القاضي الشرعي فيها، وكان فيها موظفون يمثّلون وزارات الدولة كلها، كبيرهم قائم المقام، يليه في التشريفات القاضي الشرعي، ثم القاضي المدني (أي حاكم الصلح)، ثم مدير المال. فلما قدمتُ المملكة كان أول مَن قصدته في الزيارة الأستاذ نسيب، فهرب مني، ولعلّه حسب أني جئته أطلب منه شيئاً، وأنا بحمد الله مستغنٍ عنه. وتجاهلني وفرّ من مقابلتي. وكنا نأخذ سيارة الأجرة (التاكسي) إلى حيث شئنا من أحياء مكة بريالين، وكان أبعد مكان حديقة الزاهر التي كانت عروس الحدائق، فجاء مَن نَقَصها من أطرافها فأعطى المركز الإعلامي قسماً منها وأعطى ملاعب الأطفال قسماً، وما بقي جعلوه لقصور الأفراح. يُدخِلون الناس إلى الملاعب والقصور بالمال، وإنما جُعلت الحديقة لتكون للناس كلهم بالمجان! كنا نركب بريالين إلى حيث شئنا، فإذا قلت للسائق: أريد أن أذهب إلى الحوض، قال: بثلاثة. يشترطها عليّ من أول الطريق لئلاّ نختلف في آخره، والمثل

العامي يقول: «شرطٌ في الحقل خير من خصومة في البَيْدَر». * * * وأنا أختار من العلوم عادة -إذا درّست- ما يكون مجال القول فيها واسعاً، فلا أتقيد بمنهج ضيق ولا كتاب معيَّن، بل لا يجوز في العرف الجامعي أن نُلزِم الطلاب بكتاب يدرّس المدرس منه ويراجع الطالب فيه. فإن كان الكتاب من تأليف أحد المدرّسين، وسايره زملاؤه فقرّروه على الطلاب لإرضائه أو لجلب منفعة له، كان ذلك أسوأ. فإن تبادلوا المنافع، يقرّر هذا كتاب ذاك أو يُعين على تقريره، فيعود الآخر فيجزيه صنيعاً بصنيع ويقرّر له كتابه (كما هو واقع الآن في بعض الجامعات في بعض البلاد) يكونوا قد بلغوا الغاية التي ليس في السوء غاية بعدها. اخترت أن أدرّس الثقافة الإسلامية لأني كنت أولَ من درّسها في الشام لمّا وُضعت في المناهج من نحو خمسين سنة (ولم تكن معروفة قبل ذلك)، ولأن فيها مجالاً للتجديد النافع وللبحث المنتج، ولأن الطلاب جميعاً، طلاب الأقسام كلها، يدرسونها؛ فلا يبقى فيهم من لم يمرّ عليّ ويستمع مني. وأكثرُ القائمين الآن على إدارة الجامعة والتدريس فيها كانوا يومئذ (سنة 1384هـ لمّا جئت مكة) كانوا طلاّباً. وأنا في العادة يُحبّني الطلاب لأني لا أقيّدهم، بل أقول لهم: مَن شاء أن يخرج فليخرج، ومن أراد أن يدخل فليدخل، ومن لم يُعجِبه قولي فليفتح كتاباً فليقرأ فيه، ولو كان قصة من القصص أو مجلة من المجلات، أو يكتب رسالة أو يَنْظم شعراً أو يسمع ما

يشاء، بشرط واحد: هو أن لا يُخرِج صوتاً، لا مِن فيه ولا من أي ثغرة أخرى فيه! ومن كان له سؤال فليطرحه عليّ، ولكن بعد أن أكمل الجملة وأصل إلى موضع يصحّ الوقف عليه، لا أن يدخل بسؤاله بين الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر، فيقطع عليّ كلامي ويبعثر أفكاري. ومن كان له اعتراض فأنا أستمع اعتراضه، بشرط أن يكون عالِماً بما يقول وأن يكون له عليه دليل، وإن تبيّن أن الحقّ معه رجعت إلى قوله وشكرته عليه. وقد وقع لي في أول قدومي مكة أن جاء ذِكر حكم فقهي في مسألة من المسائل في مذهب الإمام أحمد، فذكرت ما أعرفه، فقال لي طالب من الطلاب: إن الحكم في المذهب على غير هذا. فقلت له: درستَ الفقه في المدرسة المتوسطة ثم في الثانوية وأنت لم تتعلم بعد حكمَ هذه المسألة؟ وأطلتُ لساني عليه، وكان مهذَّباً فسكتَ، فلما رُحت إلى الدار رجعت إلى كتب الفقه، فإذا الذي قاله هو الصواب. أفتدرون ماذا صنعت؟ جئت من الغد فقلت للطلاب: سمعتم بالأمس ما قلته لأخيكم هذا. وقد تبيّن لي أن الحقّ معه وأنني أنا المخطئ، لذلك أعتذر إليه أمامكم، أعتذر إليه مرتين: مرة لأني خطّأته وهو المصيب، ومرة لأنني خالفت أخلاق العلماء فأطلت لساني عليه وظلمته بما أسأت به إليه. وقد كان درساً عملياً أفاد الطلاب أكثر مما تُفيدهم الدروس النظرية التي ألقيها عليهم. * * *

في كلية التربية في مكة

-234 - في كلية التربية في مكة اشتغلت بالتعليم قبل أن أكمل التعلّم، فكنت طالباً في أواخر المدرسة الثانوية ومعلماً لصغار التلاميذ في أوائل الابتدائية، ولبثت أعلّم: علّمت صغاراً وكباراً، وبنين وبنات، ومشايخ وأفندية، في المدارس العادية والمدارس الشرعية، في الثانويات وفي الجامعات، قبل أن ألي القضاء ومع ولايتي القضاء، فما شكوت ولله الحمد يوماً من اضطراب الفصل ولا من شغب الطلاب. كنت أُطِلّ على الطلاب بوجهي فأبدأ الكلام فلا أدع ثغرة ينفذون بكلامهم منها، وأمضي فيه حتى أخرج من الفصل وأنا أتكلم. وكنت أتتبع المناسبات، فلا أمسك النكتة إن حضرَت ولا يؤذيني ضحك الطلاب إن أضحكَتهم، ولا أدع مسألة ولو كانت خاصة بي ينفعهم أو يُمتعهم سماعها إلاّ ذكرتها، وإن مرّ اسم كتاب وصفت الكتاب، أو اسم عالِم عرّفت بالعالِم. أحافظ على أصل الموضوع ثم أعلّق عليه ما يحتمله من الحواشي والتعليقات والفوائد، لأني عرفت بالتجرِبة أن الموضوع الأصلي قد يُنسى ولكن تبقى هذه الفوائد والتعليقات والحواشي. وقد نسيت الآن بعد إكمال الدراسة بستين سنة، نسيت أكثر المنهج الذي كان

مقرَّراً، ولكني لا أزال أحفظ كلمات قالهنّ المدرس في بعض المناسبات. ويبقى حبهم إياي ما بقي الامتحان بعيداً، فإذا حلّ الامتحان فهي نهاية الحب! وكان شيخنا الشيخ عبد القادر المبارك رحمه الله يقول: إني أعطي ربع راتبي طول عمري لمن يقوم عني بالامتحان. وأنا من أكثر من نصف قرن أكتب عن الامتحان، أقول: فتّشوا عن طريقة أخرى تسدّ مسدّه وتقوم مقامه، فإنه ليس المقياس الصحيح. ولقد عرضوا مرة مئة ورقة على مدرس ليقدّر ما تستحقّ من الدرجات فقدرها، ثم عرضوها عليه بعد حين فاختلف التقدير! وكلّفوا مرة أستاذاً كبيراً أن يكتب هو الجواب الصحيح الكامل، فكتبه، فبدّلوا فيه قليلاً وكتبوه بخطّ آخر وعرضوه عليه بين الأوراق فأعطاه درجة فوق الوسط! ويختلف حكم الأستاذ على الجواب باختلاف حاله: رضا وسخطاً وانبساطاً وانقباضاً. وقد يرى الغلطة الصغيرة حيناً ويمرّ حيناً آخر بالكبيرة فلا يراها، وإن كان في خصام مع زوجته، قد هاجت أعصابه وفسد مزاجه، ظهر ذلك في ميزان حكمه على أوراق الطلاب. ثم إن الامتحان في بلادنا، البلاد العربية، أكثره امتحان للذاكرة وحدها لا للتفكير ولا للعلم. ولقد وقع لصديق لنا من قديم أن أرسل ولده يدرس الاقتصاد في إنكلترا، فاستوعب كتبه وأحاط بقواعده، فلما كان الامتحان لم يجئ السؤال مما حفظ، بل قالوا له: هذا مصرف رأس ماله كذا وله من الديون على الناس كذا وعليه كذا، ووصفوا له حاله ثم قالوا له: استعمل ما تعلمت

خلال دراستك من العلوم برفع شأن المصرف. وإذا كان الامتحان في الطب مثلاً لا يسألونه عمّا حفظ من أعراض الأمراض ودرجاتها وأدويتها، وإنما يعرضون عليه مريضاً ليكشف عليه وليفحص عن أمره، وليعرف حقيقة مرضه وليصل إلى دوائه. وقد حاولت لمّا كنت مدرّساً في القسم العالي أن أبدّل من نظام الامتحان، وتحت يدي وثيقة رسمية أُثبِتها بنصها للتاريخ: "كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، مكة المكرمة، قسم الدراسات العليا، التاريخ 3/ 3/1390 الرقم 263/ 14. نُرفِق لفضيلتكم صورة من اقتراح الأستاذ علي الطنطاوي الذي أدلى به شفاهياً في جلسة قسم الدراسات العليا للاطّلاع عليه ودراسته في الجلسة القادمة التي تُعقَد يوم الإثنين 5/ 3/1390هـ (الموافق 11 مايو). عميد كلية الدراسات الإسلامية بمكة عبد الله عبدالمجيد بغدادي". أما الاقتراح فهذا نصّه: "السادة أعضاء مجلس قسم الدراسات العليا، السلام عليكم ورحمة الله تنفيذاً لقرار المجلس الكريم في جلسة 22 صفر أعرض عليكم خطّياً الاقتراح الذي كنت أدليت به شفهياً في الجلسة ليدرسه المجلس إذا وجد فيه ما يستحقّ الدراسة. هو أن القسم العالي إنما أُنشئَ ليتخرج فيه علماء في الشريعة. والعلم كما قالوا: «في الصدور لا في السطور»، ولا بدّ للعالِم من أن يكون في ذهنه

صورة واضحة لقواعد العلم الأساسية ومسائله المشهورة، ولكنْ لا يُطلَب منه أن يستظهر فروع المسائل وغرائبها ولا أن يُحيط بدقائق العلم بحيث يُجيب كل مستفتٍ مِن حِفظه، ولا أن يعرف درجة كل حديث ومخرّجه ويحفظ ذلك عن ظهر قلب. بل يجوز له، بل ويحسن به، أن يرجع إلى الكتب قبل أن يُفتي. أي أن عمل العالِم أن يعرف المراجع أولاً، فإن كان مسؤولاً عن حكم فقهي عرف مظانّ وجوده، وإن كان يريد التحقّق من درجة حديث عرف أين يبحث عنه، ثم يقوّم هذه المراجع بأن يميّز ما يُعتمَد عليه ويُوثَق به منها وما لا يُوثَق به ولا يُعتمد عليه. ثالثاً: أن يعرف موضع المسألة من المرجع. رابعاً: أن يفهم العبارة إذا وصل إليها ويدرك المراد منها. لذلك أقترح أن يكون الامتحان امتحانين: امتحاناً لاختبار ملَكة الطالب ومبلغ إلمامه بمسائل العلم واستظهاره لأُمّات (أي لأمّهات) مسائله، يُجيب فيها بلا استعانة بكتاب ولا رجوع إلى مرجع كما هي الحال في الامتحانات العادية. وامتحاناً أهمّ، يُلقى عليه فيه (في الفقه مثلاً) مسائل مما يقع للناس ويسألون عنه العلماء ليُفتي فيها، أو نُلقي عليه في الحديث حديثاً مما يشتهر على الألسنة ويتردد على الأقلام ليبيّن درجته ومبلغ الحُجّية فيه. ونسمح له أن يستعين بما شاء من المراجع القديمة، لا المباحث العصرية الجديدة، بشرط أن لا يكون عليه تعليقات خطّية ولا إشارات إلى بعض الصفحات ولا هوامش ولا تعليقات. وإذا كان الامتحان الأول (أي اختبار الملَكة) شفهياً كان أحسن. وبذلك نختبر علم الطالب ومقدرتَه على المراجعة. أمّا أن

يقتصر السؤال على مواد الكتاب الذي درسه أو المقدار الذي درسه من الكتاب فلا يختلف عن امتحان المرحلة الابتدائية والإعدادية. هذا اقتراحي أقدّمه مع تحياتي، 23 صفر 1390هـ. علي الطنطاوي. * * * وأنا هنا كالطبيب الذي يعالج المريض؛ إن جامله وأرضاه فكتم عنه مرضه يكون قد خانه، بل لا بدّ أن نبيّن المرض لنجد له الدواء. والمشاهَد أن كثيراً من التلاميذ مشوا في الدراسة على غير طريق وأقاموا بناءهم على غير أساس، فكانوا -وهم طلاّب في الجامعة- يخطئون في النحو والصرف، بل هم لا يُحسِنون معرفة قواعد الإملاء! وأنا أكاد أحتمل من الطلاب كل شيء إلاّ أن أرى طالباً جامعياً عربياً ما أتقن ما يُطلَب إتقانه من تلميذ الابتدائية. ولقد كنا في الشام على أيام الحكم الفرنسي نحاسب التلاميذ على قواعد الإملاء، وكل غلطة منها يُقتطَع عليه درجتان من عشر (وكانت الدرجات الكاملة عشراً)، فإن اجتمع للتلميذ خمس غلطات أُعطيَ صفراً، فلم ينفعه بعده أن ينال أعلى الدرجات في العلوم كلها. فكيف أتغاضى عن مثلها من الطالب الجامعي في البلد العربي؟ من هنا، من الامتحان يتحوّل حب الطلاب لي بغضاً أو شيئاً قريباً من البغض، ويكون فتقٌ ما له رَتْق وعلّة ما لها دواء؛ لاالطالب بعدما وصل إلى الجامعة يستطيع أن يعود فيتعلم ما كان عليه أن يتعلمه في الابتدائية من مبادئ النحو والصرف وقواعد

الإملاء، ولا أنا أستطيع، ولا يحتمل ضميري ولا يرضى لي ديني، أن أشهد لشابّ لا يعرف كيف يكتب أنه صار عالِماً. وعُدت أشرح لهم قواعد الإملاء. وهي تُشرَح في بعض ساعة من الزمان إن أرادوا الفهم وأحسنوا الإصغاء؛ وهي أن الهمزة في أول الكلمة لا تكون إلاّ على الألف، أما التي تجيء في وسطها وتجيء المشكلات منها فقاعدتها هي: إن أقوى الحركات الكسر، ثم الضم، ثم الفتح. فإن كانت الهمزة مكسورة أو كان ما قبلَها مكسوراً كُتبت على نَبِرة (أي على سنّ). فإن لم يكن كسْر وكان ضمّ كُتبت على واو، وإن كانت مفتوحة فعلى ألف، إلاّ إن كان قبلها ياء (مثل: هَيْئَة) فتُكتب على سنّ. والهمزة في آخر الكلمة تَتبع حركةَ ما قبلَها، فإذا كان ما قبلَها ساكناً وُضعت على السطر وحدها. في هذه الجُمَل المعدودة خلاصة شاملة عن كتابة الهمزة في وسط الكلمة. وكنت أسخر من نفسي إذ أعلّم أمثال هؤلاء أمثال تلكم الأشياء! * * * يا إخواننا، الدين النصيحة. وإني ناصح لكم، فاهتمّوا بمعلّم الابتدائية قبل أستاذ الجامعة، وأعطوه الكثير ثم طالبوه بالكثير، فإنه الأساس. والبناء الذي يعلو مئة طبقة في الهواء ولكن يكون أساسه ضعيفاً يهوي وينهار. لا أعرف أمة في الدنيا يجهل أبناؤها لسانَها جهلَ أبناء العرب

بلغة العرب. إني لأكاد أسمع اللحن المنكَر والخطأ الفاحش في كل مكان وأراه يمشي على كل لسان، حتى على ألسنة مَن نعُدّهم من كبار الأدباء، لا سيما إن قرؤوا نصاً مروياً. ولو عملتم مسابقة بين الأدباء في قراءة صفحة واحدة بلا غلط ولا تسكين أواخر الكلمات من كتاب أدبي (ككتاب البيان والتبيين مثلاً، أو أمالي أبي علي القالي أو كامل المبرّد) وجعلتم لذلك جائزة ما نالها إلاّ القليل. وقد كنت وأنا شابّ أقول لإخواني: افتحوا لي أيّ كتاب واختاروا أية صفحة من هذا الكتاب وهاتوها أقرأها لكم، فإن أمسكتم عليّ غلطة فلكم حكمكم. وكنت أخطب مرتجلاً الساعة وما يقرب من الساعة وما يقرب من الساعتين فلا يزلّ لساني بلَحْنة، فسرى إليّ الآن الداء، بل أدركني الوَباء، فصرت أسمع في بعض أحاديثي المسجَّلة لحناً يسبق إليه لساني حيناً. لا تبدؤوا الإصلاح من الجامعة بل من الابتدائية. إن جدار الإسمنت يومَ صَبِّه يُدخِل الصبي فيه أصبعه فتحدث فيه خَرقاً يبقى ما بقي الجدار، فإن جئتَ تُزيله بعدما يبس وصار كالصخر الجلمد أو أردت أن تُحدِث مثله وطرقته بالمطارق الثقال لم تصنع فيه شيئاً. لسان الأمة من مقوّمات حياتها، فإن فرّطَت فيه فقد فرّطَت فيها. فإن جئت إلى أمتنا المسلمة، إلى أمة محمد ‘، لا سيما من كان من أبنائها عربياً، وجدت اللسان العربي الفصيح الصحيح حياتَه كلها، لأنه يرتبط به قرآنُه الذي هو قوام دينه ودنياه؛ لذلك يحرص جنود إبليس وخصوم الإسلام على إضعاف العربية

وصرف أبنائها عنها، وما يريدون إلاّ أن يصرفوهم عن القرآن. * * * ما كنت وأنا أدرّس أريد أن أعلّم الطلاّب مسائل بعينها ليحفظوها، بل أن أضع في نفوسهم حب العلم حتى يتعلموا هم المسائل كلها. ما كنت أقصد أن يحفظوا بل أن يعرفوا كيف يراجعون؛ كنت أريد أن أعلّمهم صيد السمك لا أن أغدّيهم سمكاً. لذلك كنت أدفعهم إلى معرفة الكتب وما فيها ومحبتها ومعرفة الرجوع إليها. وجرّبت في سنتين متعاقبتين في القسم العالي أن آذن للطلاب أن يحملوا معهم ما شاؤوا من المراجع، أو أن أجعل الامتحان في المكتبة حيث المراجع موفورة أمامهم ليرجعوا إليها. وكنت أختار لهم من فيض الرسائل الهائلة التي تَرِد على برنامجَيّ: «نور وهداية» في الرائي و «مسائل ومشكلات» في الإذاعة، أختار لهم بعضها مما يكون فيه مسألة فقهية، ليُجيبوا هم عليها بعد أن يرجعوا إلى ما شاؤوا من الكتب التي هي أمامهم. ولا يضرّ العالِمَ إذا أراد أن يفتح الكتاب، بل إن ذلك لَيحسُن به. وما أدري لماذا يُقبَل من المدرّس أن يفتح الكتاب وأن ينظر فيه عند إلقاء الدرس أو المحاضرة ولا يُقبَل ذلك من الطالب يوم الامتحان، بل نمسكه إذا فعله بالجرم المشهود ونُقيم القيامة على رأسه ونعقد مجلس الأساتذة لمحاكمته ولعقوبته. هل يُحرَّم على التلميذ ما يكون حلالاً للأستاذ؟! * * *

لم يكن في حيّ العزيزية لمّا جئتها سنة 1384هـ إلاّ أبنية معدودة: كلية التربية، وكانت كما عرفتم بناء واحداً صغيراً، وإلى جواره بضعة مساكن، وقبله الثانوية المركزية ولا شيء غير ذلك. وكان الحيّ يُعرف بالحوض، أو «حوض البَقَر»؛ إذ كان فيه حوض يسيل إليه الماء من مجرى عين زَبيدة، فلما وسّعها الملك عبد العزيز رحمة الله عليه وضمّ إليها عيوناً أخرى سُمّيَت العزيزية، ثم صار ذلك اسماً للحيّ كله. وهو حوض قديم موقوف تشرب منه البقر والجمال والغنم. وكنت أمرّ بالثانوية كل يوم في ذهابي إلى الكلية وفي عودتي منها، فدعَوني يوماً إلى إلقاء محاضرة فيها، فقبلت على أن تكون محاضرتي أجوبة على أسئلة الطلاب. ذلك أن أصعب شيء عليّ هو اختيار الموضوع الذي أتكلم فيه، لا لقلّة ما عندي بل لكثرته! ولا تحسبوا قولي من باب الفخر والحماسة والتفاخر بالعلم، بل هو من باب تقرير الواقع؛ فقد تعلمت القراءة وأتقنتها سنة 1337هـ قبل سبعين سنة، ولم أكن ألعب مع الصبيان في الزقاق ولا أصاحب الأقران في الغدوات والروحات ولا أقعد في مقهى ولا أؤمّ ملهى، فكان وقتي كله للمطالعة. وكان في دارنا مكتبة كبيرة هي لأبي وكانت قبله لجدّي، فكنت أتخيّر منها الكتاب بعد الكتاب أفتحه فأنظر فيه، فإن فهمته وأعجبني موضوعه قرأته وإن لم أفهمه أعدته إلى مكانه. وكنت أقرأ كل يوم عشر ساعات أو أكثر منها ما لم أكن مسافراً أو أكن مشغولاً، وقلّما كنت أُشغَل أو أسافر. فما ظنكم بمن كان يقرأ كل يوم عشر ساعات واستمرّ على ذلك سبعين سنة؟ إنه لو كان أغبى الأغبياء لاجتمعَت عنده

من هذه القراءات في كل موضوع يقع بصره عليه وتصل يده إليه، لاجتمع عنده حصيلة كبيرة. ولكني كنت أحتار: ما الذي أقدّمه منها في المحاضرة وما الذي أختاره لموضوعاتها؟ لذلك كنت أُحيل اختيار الموضوع على الحاضرين، يسألون وأجيب. أمّا أصل المسألة فهو أنني ذهبت إلى مصر سنة 1945، أي منذ اثنتين وأربعين سنة، بعد أن غبت عنها غيبة امتدّت سبع عشرة سنة. وكنت قد تركت الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه وهو شابّ كسائر الشبان، وإن كان يميّزه عنهم تديُّن صادق وخُلُق عظيم يحبّبه إلى الناس جميعاً. فلما جئت هذه المرة وجدته قد صار عَلَم البلد وأظهرَ شخصية فيها: ذِكره في كل مكان واسمه على كل لسان، والإخوان صاروا أقوى الجماعات وأنشطها نشاطاً وأظهرها أثراً. فاحتفى بي في دار الإخوان بالحلمية الجديدة، وكان اجتماعٌ خطابيّ حاشد فيه غذاء للعقل وللقلب وفيه دعوة إلى الله. وسألني عن الإخوان، فقلت إنهم قد بلغوا الغاية في اليقين والإيمان ولكن ما بلغوها في العلم والاطّلاع، وهم يحتاجون إلى مَن يعرّفهم بما لا بدّ منه من الحلال والحرام وأحكام الإسلام. قال: لماذا لا تساعدنا على ما تقترحه؟ قلت: أنا جندي في الجبهة الإسلامية، وإن كنت جندياً متطوّعاً، أُومَر فأنفّذ ابتغاء الثواب ورجاء الأجر، فكلّفني بما تريد مدةَ إقامتي هنا الآن، وأنا مقيم شهرين إن شاء الله. فجمع لي جماعة يسمّونهم «أسرة»، وهم أفراد من أسر شتّى تجمعهم الصلة بالشيخ البنا وبجماعة الإخوان. وكانت لهم

عادة مستحَبّة هي أن يعرّفوا بأنفسهم أولاً، وكانوا يقولون قديماً في مثل هذا المقام: ينتسبون، أي يكشف كلٌّ عن نسَبه ليُعرَف به. فلما عرّفوا بأنفسهم وجدت أن فيهم أستاذاً في الجامعة وتلميذاً في المتوسطة ونجّاراً وبدّالاً (ويدعون «البَدّال» «البَقّال»، والأولى أصحّ)، وربما جمعَت هذه الأسر بين فرّاش الدائرة ورئيسها! فلما رأيت ذلك حرت كيف أكلّمهم وبأيّ أسلوب أخاطبهم، ومن هنا وتخلّصاً من اختيار الموضوع طلبتُ منهم أن يسألوا هم عمّا يريدون لأجيب أنا. وقلت لهم: إنني لا أعرف جواب كل مسألة، فما عرفت جوابه وكان الجواب مقرَّراً متفَقاً عليه أجبت به، وما كان فيه خلاف بين العلماء أشرت إلى هذا الخلاف، وما كان غائباً جوابه عني الآن وأستطيع أن أراجعه استمهلتكم فرجعت إلى الكتب وجئتكم بالجواب، وما لا أعرف جوابه أقول: «لا أدري». ومن قال «لا أدري» فقد أجاب؛ ذلك لأن الجواب درجات، فمَن أجاب بعلم وقال صواباً فهذا هو المطلوب، ومن قال لا أدري فقد أيأسك منه وأحالك على غيره، وهذا هو الحدّ الوسط، أما ما هو الأدنى وما لا يُقبَل من عالِم فهو أن يُجيب بجهل، فيغشّ السائل ويتعرض للإثم. واتّبعت هذه العادة حتى ألِفتها وسَهُلَت عليّ، ومشيت عليها في كل محاضرة أُدعى إليها وفي أحاديثي في الإذاعة وفي الرائي، وقلّدني فيها جماعة من الأساتذة الأجلاّء، فمنهم من مشى قليلاً ثم وقف، ومنهم من استمرّ برنامجه إلى الآن ولكنه يكاد يقتصر على الأحوال الشخصية، يبين أحكامها ويؤلّف بحكمته وعلمه بين أعضاء الأسرة الواحدة، ولا يتعرض لغيرها من المسائل العلمية الأخرى.

وأنا أتمنى لو أن أحاديث رمضان كانت على هذه الصورة، فإنني لا أمرّ بأيام هي أثقل عليّ من أيام الإعداد لأحاديث رمضان، لأن مَن فكّر في موضوع واحد أو موضوعات قليلة جمع لها ذهنه وحشد لها فكره، وأنا أسجّل كل رمضان ثلاثين حلقة في بضعة أيام، فيتشتّت الذهن ولا يكون التركيز. ثم إن عنوانها من أسباب صعوبتها عليّ، العنوان: «على مائدة الإفطار»، والأحاديث التي تُلقى على المائدة تكون في العادة خفيفة ظريفة تفتح الشهية وتُنعِش السامع، وأحاديثي هذه السنة ستكون -كما طلب المشاهدون لمّا استفتيتهم- أحاديثَ دينية جدّية نافعة. فماذا يقول عني مَن يسمعها وهو يأكل فتعطّل هضمه؟ أسأل الله المعونة عليها. * * * ووفّق الله وكان لقاء الثانوية المركزية بالعزيزية ناجحاً، ووجدتهم قد جمعوا فيه الأساتذة كلهم والطلاب جميعاً، أمّا الطلاب فإن بضاعتي تصلح لهم والأثواب على طول أجسادهم، وإن كان فيهم من هو أطول وأعرض وأذهب ارتفاعاً في الجوّ من ربع بني آدم، ولكن ما بال الأساتذة؟ المشكلة في الأساتذة. هل جاؤوا بهم ليمتحنوني؟ إذن سيجدونني راسباً وسأرفع الراية البيضاء وأعترف بالهزيمة سلفاً، لكنهم كانوا كراماً فغضّوا البصر عني فتسامحوا معي، فجزاهم الله خيراً. ثم توالت الاجتماعات. فكنت مرة في المعهد العالي للمعلمين، ففاجأت الطلاب بسؤال: لماذا دخلتم هذا المعهد ولماذا اخترتم مهنة التعليم؟ وتبيّن لي أن أكثرهم، بل أن أكثر

الناس يعملون ما يعملون بلا نيّة، ولو استحضروا نيّة لكان كل عمل لهم عبادة؛ يأكلون ويكون أكلهم عبادة، وينامون ويكون نومهم عبادة، ويجتمع أحدهم بأهله ويكون هذا الاجتماع عبادة ... تَبيّن لي أن أكثر الطلاب ما فكّروا بشيء من هذا، بل بلغوا سنّ المدرسة فأدخلوهم إليها، وانتقلوا من صف إلى صف حتى أكملوا الابتدائية، فدخلوا مع مَن دخل في المتوسطة، ثم تدرّجوا فيها درجة درجة سنة بعد سنة، حتى وصلوا إلى الدراسة العالية. فنبّهتُهم إلى النية وأثرها في أعمال الإنسان، وأنها هي التي تجعل المباح الذي لا يُثاب فاعله ولا يُعاقَب عبادةً تستحقّ من الله بكرمه الثواب. وكان حديث الناس يومئذ في محاولة الصعود إلى القمر، وكان كثير من المشايخ يُنكِرون أنهم صعدوا. فسألني الطلاب، فقلت لهم: نعم، لقد وصلوا إلى القمر. فقام شيخ من ورائي من بين الأساتذة فقال بأن هذا مستحيل لأن القمر في السماء، والبشر لا يمكن أن يصلوا إلى السماء. فحاولت أن أردّ عليه رداً رفيقاً، فأبى واشتدّ في الإباء، فقلت للطلاب: إذا قيل لكم إن ما سمعتم من صعودهم إلى القمر كان كذباً فهل تكذّبونه؟ قالوا: لا، قد صعدوا حقيقة وجاؤوا بحجارة من القمر. فقلت للأستاذ: إذا كنت لا تستطيع أن تقنعهم بأن خبر الوصول إلى القمر خبر كاذب، وكانوا مقتنعين وأنا مقتنع معهم بأنهم وصلوا، وكنتَ تُصِرّ على أن الشرع يمنع الوصول إلى القمر، أفليس في ذلك حمل لهم على تكذيب القرآن أو الشك في الإسلام؟ وقلتُ للطلاّب: إن الإسلام لا يحملكم على إنكار ما ترون

وما تشاهدون، والإسلام دين الواقع، والناس لا يتعلمون من العلم إلاّ ما أذن الله لهم بأن يتعلموه: {ولا يُحيطونَ بشيءٍ مِنْ عِلمِهِ إلاّ بما شاءَ}. وليس القمر في السماء، القمر قريب منا، ولو أن مركبة كانت تسير بسرعة الضوء (ثلاثمئة ألف كيل في الثانية) لبلغوا القمر في ثانية وثلث الثانية. هذا بُعدُه عنا بسرعة الضوء، والشمس على بُعدِها الشاسع يصل ضوؤها إلينا في ثماني دقائق، وهذه الأجرام التي ترونها نقطاً مضيئة في السماء الصافية في الليلة الساجية منها ما يبعد عنا سنين ومئات من السنين وآلافاً وملايين، فما بُعد القمر بالنسبة لهذه الأجرام؟ ثم إنها كلها تسبح في هذا الفضاء الذي لم يدرك العلم مداه ولم يعرف عنه إلاّ أقلّ من القليل. هذا الفضاء حولَه كرةٌ كبيرة جداً تحيط به من جوانبه كلها، بناء من مادة حقيقية ليس خطاً وهمياً، فيها أبواب تُفتَح وتُغلَق، هذه هي السماء الدنيا، كرة تُحيط بالفضاء كله وما فيه ولها سُمكٌ، الله أعلم بسُمكها. وبعدها فضاء لا نعرف عنه شيئاً، ثم كرة أخرى تحيط بها من جوانبها لها سُمك كسُمكها وبعدها فضاء كفضائها، تلك هي السماء الثانية، وكذلك حتى تبلغ سبع سماوات لا يستطيع العقل ولا الخيال أن يُلِمّ بها أو أن يتصوّر ضخامتها، وبعدها مخلوقات هي أكبر من هذا كله وأعظم وأجلّ، هي الكرسي والعرش الذي هو أكبر من الكرسي. فأين القمر وبُعدُه عنا؟ وهذه الصورة الهائلة للسماء وما بعدَها مصغَّرةٌ تصغيراً لا يُدرِك العقل مداه ويعجز الخيال عن تصوُّره، مصغَّرة في الذرّة وما في الذرّة من كهارب بعضُها يدور وبعضها يُدار به.

وأفضت في هذا الموضوع بمقدار ما أعرف. وهذا الوصف للسماء لم أقرأه في كتاب من كتب العلماء لأن العلم لم يصل إليه ولم يدركه، ولكن فهمته مما جاء في القرآن في وصف السماوات السبع وأنها طِباق، وأن السماء الدنيا قد زُيّنت بهذه الكواكب، فالكواكب إذن دونَها، وأن السماء مبنيّة بناء وأن لها أبواباً؛ كل ذلك مما استفدته من آيات القرآن وما فهمته منه بعقلي الكليل، ولعلّي إن شاء الله قريب من الصواب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر مقالة «ما قدَروا الله حق قدره» في كتاب «نور وهداية» الذي يصدر قريباً من وقت صدور هذه الطبعة الجديدة من الذكريات بإذن الله، ومقالة «ما هي السماء؟»، في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» الذي أرجو أن يصدر غير بعيد إن شاء الله (مجاهد).

يوم الجلاء عن سوريا

-235 - يوم الجلاء عن سوريا أشكر أخي الأستاذ الأكرم، فلقد كتب عن يوم الجلاء فذكّرني. وما كنت ناسياً، فما أنا بالذي ينسى يومَ الجلاء ولا يومُ الجلاء بالذي ينساه مثلي. والأستاذ أكرم شاميّ من نابلس، ولئن كانت زحلة -كما دعاها شوقي- جارة الوادي فنابلس جارة الجبل، جبل النار الذي طالما كتبت عنه لمّا كان مثابة الأبطال ومثوى الرجال (¬1). ما نسيت، ولكن الليالي السود العوابس التي عشناها قبله وبعده حجبَت عنا هذا الفجر الباسم، الذي برق لنا ثم غاب عنا، فبكينا بعده على عهد كنا نبكي فيه على ما كان قبله. قلّ مَن فرح بالجلاء مثل فرحي، لأنه قلّ مِن أرباب الأقلام في الشام مَن كتب عن الفرنسيين وعهدهم مثل كتابتي. وقد مرّ في هذه الذكريات شيء منها، وفي كتابي «دمشق» مقالات أخرى ¬

_ (¬1) انظر قصة «جبل النار» في كتاب «قصص من الحياة». أما الأستاذ أكرم فهو أكرم زعيتر، وكانت له في «الشرق الأوسط» مقالة أسبوعية يوم كانت هذه الذكريات تُنشر فيها (مجاهد).

عنها. أما مقالتي عن يوم الجلاء فهي في العدد 670 من «الرسالة» الذي صدر يوم 6 أيار (مايو) سنة 1946، رجعني إليه معالي الشيخ إبراهيم العنقري الذي تفضّل عليّ فأهدى إليّ مجموعة الرسالة كاملة، فله الشكر كاملاً. ولا بأس عليّ أن أُعيد نشرها بعد إحدى وأربعين سنة لقرّاءٍ تسعون في كل مئة منهم ما عرفوها ولا قرؤوها، فهي عندهم جديدة. ولكن الذين نظموا موكب الاحتفال ما تركوه خالصاً للوطن، بل أدخلوا فيه غرائزهم وشهوات نفوسهم، فظهرت الثمرة المسمومة للغرسة التي غرسها الفرنسيون في بلادنا. احتفلنا بجلاء جيوشهم عنا واستبقينا بعض رذائلهم فينا، وماذا يعوّضنا عن أعراضنا وشرف بناتنا إن نحن أضعناها وفرّطنا فيها؟ تلك هي المناظر التي أشار إليها الأستاذ أكرم ومرّ بها مرور الكرام فلم يعلن إنكارها، وأنا واثق أنه ينكرها وأنه يأباها لبناته ولنساء أسرته، وهُنّ أهل الصيانة والعفاف. أفيمكن أن يرضاها لبنات المسلمين ونسائهم؟ وأنا لا أُنكِرها الآن بعد إحدى وأربعين سنة، بل أنكرتها في حينها ونشرت ذلك في أكبر مجلة عربية هي «الرسالة»، بعد أن نشرت في تمجيد يوم الجلاء مقالتي التي ستجدون فقرات منها بعد هذا الكلام. الجلاء نعمة من الله. والمسلم إن أنعم الله عليه شَكَرَ النعمة بطاعة المُنعِم، ونحن شكرناها يومئذ بمعصيته، فخالفنا بهذا الذي صنعناه أحكامَ ديننا وخلائق عروبتنا.

وكان مما قلت يومئذ في مقالتي التي أعقبَت الجلاء (¬1): شهدت بناتٍ في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة، وشهدت بنتاً جميلة زُيّنت بأبهى الحلل وأُلبست لباس عروس وركبت السيارة وسط الشباب، قالوا إنها «رمز الوحدة العربية»! ولم يدرِ الذين رمزوا هذا الرمز أن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها. ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحيي ولا يخجل. وبنت أخرى قالوا إنها «رمز سوريا الأسيرة قد فُكّت قيودها»، والشباب يُحيطون بها وهي تُبدي ما أمر الله بستره من أعضائها ... وأمثال هذا الهذيان الذي لا معنى له إلاّ استغلال اليوم الوطني في هدم أركان الفضيلة وتمزيق حجابها، وأُخذت صور هذا كله فنُشرت في الجرائد وعُرضت في السينمات! * * * وهذه مقالة يوم الجلاء (¬2). كتبت بين يديها قوله تعالى: {ما ظَنَنتُمْ أنْ يَخرُجُوا، وظنّوا أنّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهم مِنَ اللهِ، فأتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ لم يَحْتَسبوا وقذَفَ في قُلوبِهِمُ الرُّعبَ، يُخرِبون بُيوتَهم بأيديهِمْ وأيدي المؤمنينَ، فاعْتَبروا ياأولي الأبْصارِ}. ¬

_ (¬1) المقالة اسمها «إبراهيم هَنانو قال لي»، وهي في كتاب «مع الناس». وقد سبق الحديث عن يوم الجلاء وما كان فيه من عدوان على الأخلاق وعُرضت مقتطفات من هذه المقالة في الحلقة 148 من هذه الذكريات وعنوانها: «دفاع عن الفضيلة» (مجاهد). (¬2) وهي في كتاب «دمشق»، وقد نُشرت فيه باسم «الجلاء عن دمشق» (مجاهد).

ثم قلت: ماذا في دمشق؟ ففي كل ميدان فيها عرسٌ وفي كل حي فرحٌ وفي كل شارع مهرجان. ما هذه الزحمة وما هذه الوفود؟ الطرقات كلها مُترَعات بالناس ما فيها موطئ قدم، وحيثما سرتَ رأيت قباباً من الزهر وستائر من الحرير، وعلى دمشق سماء من صغار الأعلام، ومصابيح الكهرباء قد انتظمتها حبال طويلة فدارت بها ثم انعقدت على أشكال العقود والتيجان، فكانت منظراً عجباً إذا رأيتها في الليل «حسبتَ سماءً رُكِّبَتْ فيها» (¬1) فسطعَت كواكبها ولألأت نجومها، وإذا أبصرتَها في النهار ظننت الربيع قد عاد مرة ثانية، فكان في كل شارع روضة فتّانة وفي كل بناء عريشة ورد وفل وياسمين، وأغلى الطنافس مبسوطات على الجدران وأحلى الصور معلَّقات على الطنافس، والسيوف المذهَّبة والتحف الغالية، ما يضنّ الناس بقيّم ولا يبخلون بشيء. (إلى أن قلت): لقد أُوقدَ الليلة في دمشق خمسمئة ألف مصباح ونُشر فيها ألفُ ألف علَم عُدّت عداً، ورُفع فيها مئة قبّة من النور يعدو تحت إحداها الفارس من سعتها، ووُضع في أرجائها مئة مذيع مكبّر، يخرج منه النداء والهتاف والخطاب فيُسمَع في أقصى الغوطة ويردّد صداه الصخرُ من قاسيون، ومشَت فيها خمسة آلاف عَراضة (¬2) وموكب، وأقيمت ألف دَبْكة (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الشطر للبحتري من قصيدته في وصف البِركة. (¬2) في هذا الموضع في كتاب «دمشق» حاشية قال جدّي فيها: والعَراضة موكب شعبي يتقدمه قَوّال يقول فيردد الناس مقالَه (مجاهد). (¬3) وهنا أيضاً وضع حاشية قال فيها: الدَّبْكة رقص قروي له أغانٍ خاصة، وأبرعُ الناس فيه أهل لبنان (مجاهد).

ففي كل مكان ازدحام وعلى كل ثغر ابتسام وفي كل قلب فرحة، وكل الناس مبتهج مسرور: الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. والهتاف متّصل ما ينقطع، والنشيد دائب ما يسكت، والخطب والمحاضرات والزغاريد والأغاني، والصواريخ المضيئات تنفجر في الجوّ فتتساقط منها الأنوار أمطاراً، والجيش يحمل مشاعله ينشد ويزمر ويشارك الأمة في أفراحها. وما عهدنا هذا الجيش يشاركنا في فرح ولا ترح، ما عهدناه إلاّ عوناً للغاصب علينا ضاحكاً في مآتمنا عابساً في أفراحنا. يدور بالمشاعل في شوارع دمشق، يذكّر بالجيش الإسلامي لمّا حمل القرآنَ، مِشعَلَ النور الهادي فأضاء به الأرض وهدى أهلها. وعلى كل جبل من جبال دمشق نيران ضخمة أضرموها، كما أُضرمت من قبل نيران الفتح على جبال مكة إيذاناً بتطهير الكعبة وتهديم الأصنام وإجلاء الشرك عن البيت الحرام. فماذا في دمشق؟ أيّ يوم هذا من أيامها، عظُمَت أيام دمشق وكبرت وجلّت؟ إلاّ أنه يوم الفرحة الكبرى، إنه اليوم الذي كان يتمنى كل شامي أن يراه ولا يبالي إذا رآه أن يموت من بعده؛ إنها الغاية التي سرنا إليها خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، نطأ الحِراب ونخوض اللهَب، نمشي في الدم ونتخطى الجثث وننشق البارود. إنها الأمنيّة الكبرى التي كان يتمناها كل سوري وكل عربي وكل مسلم: إنه يوم الجلاء. لقد جُنّت دمشق وحُقّ لها أن تُجَنّ، فلقد عاد الحبيب بعد طول الفراق، وآب المسافر بعدما امتدّ الغياب، وعانقَت الأم وحيدَها بعدما ظنّت أنْ لا لقاء، وتَحقّق ما كان يُرى مستحيلاً،

فخرج الفرنسيون من الشام وزال الانتداب. إنه يوم الجلاء. فيا أيها الذين عادوا من مَيْسَلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتلّ وطغيانه ووحشيته، والعرش الذي أقاموه على دماء قلوبهم وعزائم سواعدهم هوى، والبلاد التي بَرَأها (أي خلقها) الله واحدةً قُسّمت فجُعلت دولاً، والوطني المخلص نُفي أو سُجن أو حُكم عليه بالموت شنقاً، والخائن الملعون قد أُعطيَ الرُّتَب والذهب. ويا أيها الذين خرجوا على الظلم وعرّضوا أرواحهم للموت، على شعفات الصخر من جبال اللاذقية إلى جبل العرب، وعلى السهول الفِيح من أعالي حلب إلى أداني حمص، وعلى ثرى الجنّات من أرض الغوطة، لم يخشوا فرنسا حين كانت تخشاها الدول ويرهب بأسها الأقوياء. ويا أيها الذين نشؤوا في عهد الانتداب فرأوا في كل مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي، والمدير (أي الناظر) تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك والوزير صنم، وفي كل منطقة مستشاراً هو الحاكم وهو المنفّذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدوّ وعلى الجبال قلاعاً له قد وجّهت مدافعها إلى البلد لتضرب أبناءه إذا طالبوا بحقّ أو أبوا ظلماً، لا إلى الفضاء لتردّ عنه الأعداء. ويا أيها الشهداء الذين قضوا بنيران العدوّ الباغي في سبيل الله ثم في سبيل الحرية، وهل تسمع أرواحُكم دعائي ياأيها الشهداء؟ ويا معشر العرب في كل قاصٍ من الأرض ودانٍ: إننا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه وجلّ جلاله، فلقد أكمل نعمته وأتمّ

منّته وأخرج الفرنسيين وجندهم من الشام، لم يُبقِ منهم أحداً. اذهبوا الآن إلى المزّة وادخلوا القلعة وأُمّوا (أي اقصدوا) الثكنة الحميدية، فإنه لا يمنعكم حارس وجهه يقطع الرزق ولا يردّكم ضابط فرنسي ولا تحجزكم سلك (¬1) ذات أشواك، وسيروا في طريق الصالحية فادخلوا قصر المفوَّض السامي الذي كان يتنزّل منه وحي الضلال على قلوب الخوَنة المارقين من طلاب الحُكم وعُشّاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلّة وعلى أبناء بلدهم عتاة فَراعين مستكبرين، ولِجُوا قصرَ المندوب الذي كان ينصبّ منه بالأمس الموتُ الزؤام على من يدنو من حِماه، واسرحوا وامرحوا حيث شئتم، فالبلاد بلادكم. (إلى أن قلت): اليوم يوم الجلاء. اليوم يبكي رجال «منا» كانوا يأكلون الطيّبات وينامون على ريش النعام من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب ويأكلون الخبز اليابس. اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين. اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلاّت الاستخبارات أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأَجْراء (جمع جرو) في المزبلة بعدما مات الكلب. ولكن الشعب كله يضحك اليوم، وتضحك معه الدنيا. اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام، ويضحك بالليل بالأضواء والمشاعل، وتضحك المنائر بالتكبير، وتضحك الأرض والسماء. اليوم يرى الشاميّون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب ¬

_ (¬1) السلك جمع سِلْكة، وجمع الجمع أسلاك.

الأطفال والشباب فلا تُمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكّرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان. لقد نامت دمشقُ البارحةَ ملء جفونها بعدما صرّمَتْ تسعةَ آلاف وثلاثَمئة وسبعاً وتسعين ليلة (¬1) وهي تنام مفزَّعة الفؤاد مقسَّمة اللبّ، تخشى أن تُصيبها من الفرنسيين بادرة طيش أو نوبة لؤم تذهب بدار عامرة أو تضيع حقاً ظاهراً أو تريق دماً بريئاً. وأغفت تحلم بالمجد والحرّية، وقد مرّت عليها تلك الآلاف من الليالي لا تحلم فيها إلاّ بتهاويل الظلم والموت والخراب. وتأنس بطيوب الأحبّة من جند العرب في نجد والحجاز ومصر والعراق، وقد زهَت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً، بل إخواناً وأصحاب البلد. لقد نامت دمشق البارحة وهي تودّع عهد الانتداب، عهد الجهاد والعذاب، لتستقبل عهد الحرية، عهد البناء. ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤمّ الشوارع التي يعرض فيها جيش الحرّية، فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور العمارات، في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسّنْجَقْدار وميدان المرجة وضفاف النهر وفوق قباب التكية السليمانية وعلى أشجار المسالك وفي كل مكان يُشرِف على الطريق، ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خالٍ من رِجل إنسان قد قام ¬

_ (¬1) من يوم الاحتلال، 25 تموز (يوليو) سنة 1920 إلى يوم الجلاء 17 نيسان (إبريل) سنة 1946.

لينظر ويتطلّع، وأُجّر المقعد الواحد بعشر ليرات (¬1) ومكان الوقوف بليرتين، فكان هذا المنظر أحد الأعاجيب. (إلى أن قلت): لقد ضاع حلمك ياغورو وتبدّد، وخابت أمانيك ياديغول، وحقّق الله الأمنيّة التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة شهيد ميسلون. وسيحقّق أماني سعد في مصر ورشيد في العراق وعبد الكريم في المغرب وعمر المختار في لوبيا (ليبيا) وعبد القادر في الجزائر وجناح في الهند. ولِمَ لا؟ وأهل سوريا التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلاّ قليلاً عن سكان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم أقلّ من مسلمي الهند؟ (¬2) فتيهي يادمشق واعتزّي، فلقد كنت عاصمة العرب في أول الدهر حين أُنشئَ فيك المُلك الضخم وأقيمت الدولة العظمى، ورسا عرش عبد شمس على ثراك فطالت -بالإسلام- فروعُه النجمَ وأظلّت المشرق والمغرب وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمناً، وعُدتِ اليوم عاصمة العرب حين كنتِ أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، فلا يشاركهم فيه جيش حليف ولا منتدب ولا وصيّ ولا مستعمر. يا دمشق، لقد عادت أيام معاوية وعبد الملك والوليد، لقد اتصل التاريخ الذي كان انقطع منذ قرون. (إلى أن قلت، والمقالة طويلة): في عمر الإنسان ساعات ¬

_ (¬1) لمّا كان مرتَّب القاضي سبعين ليرة في الشهر. (¬2) وقد حقّق الله ذلك كله الآن.

هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون متحدّرة في درك الماضي مسرعة إلى هوّة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى، مشرقة لا تغيب. وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها ما قام لها بنيان ولا ثبت لها وجود، أيام قد عمّت بركاتها وشملت خيراتها البشرَ جميعاً، أيام هي ينابيع الخير والحقّ والعدل في بَيداء الزمان، وهي المَفْخَرة لأمة أرادت الفَخار، وما أكثر هذه الأيام الغُرّ في تاريخنا. تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالَم كله وسمونا به إلى ذُرى الحضارة: يوم الهجرة، ويوم بدر والقادسية واليرموك ونهاوند، وأيام قتيبة وابن القاسم في المشرق وعقبة وطارق في المغرب ومحمد الفاتح في الشمال، ويوم عين جالوت وحطين، واليوم الأغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين وكان فجرَ نهار جديد للعرب، بل للمسلمين أجمعين، هو يوم الجلاء. (إلى أن قلت): وقد زعم العُداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين الذي يطلب فلساً فيُمنَح ديناراً. كلاّ، إننا لم نأخذ إلاّ الأقلّ من حقّنا؛ إن الجلاء ليس عجباً وإنما العجب العُجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال، العجب أن لا نحكم نحن الأرضَ وقد خُلقنا من أصلاب مَن حكموها وورثنا القرآن الذي به دانت لهم الرقاب. وزعموا أن هذا الجلاء قد أتى عفواً بلا تعب وأننا لم نُوجِف عليه بِخَيل ولا رِكاب، ولولا أنها أتت به مصلحة الإنكليز ما

جاء. وكذب هؤلاء الزاعمون ولَؤُموا، أو فليخبروني: أجاهدت أمة -على ضعفها وقلّة عددها وعلى كثرة عدوّها وقوّته- مثلما جاهدنا؟ إن في مصر العزيزة تسعة عشر مليوناً (بتعداد تلك الأيام) وفي أندونيسيا ثمانين وفي الهند مئة وعشرين من المسلمين (قبل إنشاء باكستان)، ونحن لا نُعَدّ كلنا، بَدْوُنا وحضرنا رجالنا ونساؤنا، أكثر من ثلاثة ملايين (الكلام قبل أربعين سنة)، وقد ابتُلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والعدد والآفات. فسلوا الفرنسيين: هل أرحناهم يوماً واحداً من يوم ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمس مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارْن: أما أباد حملتَه مجاهدون منا ما تَعلّموا في مدرسة حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كلها فلم يعُد من الحملة بعد معركة المزرعة إلاّ مئتان وخمسون جندياً فقط؟ سلوا الغوطة عن معارك الزور وعمّا صنع حسن الخراط. سلوا النَّبْك وجبالها، وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة مجاهدينا، إن لم أعدّهم اليوم فما يجهلهم أحد. أما ضرب الفرنسيون دمشق، أقدم مدن الأرض العامرة، بالقنابل مرتين في عشرين سنة؟ أما أحرقوا حيّ الميدان وهو ثلث دمشق ودمّروه، فلم ينهض من كبوته إلى اليوم (أي إلى يوم كتابة المقال)؟ أما أضرموا النار في جَرْمانة والمَنيحة (المَليحة) وزبدين وداريّا وقرى أخرى لا يُحصيها من كثرتها العدّ؟ بل سلوا شوارع دمشق ومسالكها وساحاتها عن إضراباتها

ومعاركها ومظاهراتها، أما لبثَت في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مُضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون؟ فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، يطوي ليلَه مَن لم يجد الخبز ويبيت بلا طعام، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، بل كانوا جميعاً: من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية، ولم نسمع أن دكاناً من هذه الدكاكين قد مُسّ أو اعتدي عليه أحد، ولم يُسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير. فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في الدنيا في أوربا أو أميركا أو في المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً والمال معروض أمامهم فلا يمدّون إليه أيديهم حرمة للنضال؟ لقد بقي الأولاد في المعسكر العامّ في الجامع الأموي أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجرٌ محلّه ذهبوا فأغلقوه. ففتح حلواني، حلواني مشهور، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور الكنافة والبقلاوة، إلى المسجد. وتشاوروا بينهم: ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له. فصاحوا به: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلاّ جائع يشتهي قطعة منها. فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريس ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟ وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً، فكان أصحابها يدَعونها مفتوحة ولا يقتربون منها وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم، فلا يمدّ أحد يده إليها.

والتبرعات. ألم يكن الناس يعطونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثير من الفقراء أخذ الإعانات وقالوا: أعطوها غيرَنا ممن هم أحوج إليها منا، نحن نجد طعاماً هذا النهار؟ لقد وقع هذا وشاهدته أنا مراراً. فأي وطنية أعظم من هذه الوطنية، وأي اتحاد أوثق من هذا الاتحاد الذي تصبح فيه المدينة كلها أسرة واحدة؟ والبطولة والجهاد. ألم يفعل الشاميون الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد ويقاوموا بالحجارة أروعَ وأبشع ما وصلت إليه حضارة الغرب من ضروب التقتيل والإهلاك والتدمير؟ (¬1) ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العزّل للجيش اللَّجِب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمونه صدمة الندّ للندّ، ثم لا ينجلي الغبار إلاّ عن حقّ يُظفر أو شهيد يُقتل أو جريح يُؤسر؟ ألم تلبث دمشق مدة الانتداب وهي في حرب؟ ساحاتها وشوارعها وميادينها لا تكاد تختفي منها الخنادق والأسلاك والرشاشات والدبابات حتى تعود فتظهر مرة أخرى، ولا تهدأ النار في ركن من أركانها حتى يندلع لسان النار في ركن آخر، وسوريا ثابتة على جهادها؟ ألم تشيّع الأمهاتُ أبناءَهنّ إلى المقبرة راضيات هاتفات؟ ألم يجاهد الطفل الصغير والمرأة العجوز والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون بالأبرياء؟ ألم تَضِق المقابر بالشهداء؟ ¬

_ (¬1) لقد تكرّر ذلك على بُعد أكبر في معارك فلسطين مع اليهود سنة 1988 و1989.

فهل تكلّم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آذانهم؟ هل عرفوا لهذا الشعب حقاً؟ هل قدّروا له تضحية؟ هل رفعوا قبّعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟ هل خشعت قلوبهم لسيل دمائهم؟ إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة، دعوى أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الاستعباد والاستبداد، ونسوا ما كتبه روسّو وفولتير ومنتسكيو وما قاله ميرابو وسييس ولافييت، وما كان يكذب به الفرنسيون على الشعوب إذ يُعلِنون أنهم نصراء المظلومين. إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرّخ فيها جهاد الشام، فإنها تؤلَّف فيه الأسفار الضخام ويخلد حديثه على طول المدى، وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين لأتقصى أخباره وأجمع حوادثه، وإنما أردت أن أردّ كذبة ما زلنا نسمعها حتى من الأصدقاء: أن الجلاء إنما جاءنا بلا تعب ولا عناء! (إلى أن قلت): إنها ما جاهدَت أمة مثل جهادنا ولا حملت مثل ما حملنا. إنا قد رأينا الموت وألِفنا الفقر واعتدنا الجوع، وأصبحَت مدينتنا بلاقعَ وأهلُها مفجوعين ونساؤها ثاكلات، أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟ إننا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا، ولو والله عاد ليستلبَه منا أهلُ الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم دونه حتى نستعيده كاملاً أو نموت. وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت، لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته. والمقالة طويلة، فمن شاء أن يحيط بها رجع فقرأها. * * *

لما علمت البنات

-236 - لمّا علّمتُ البنات نبّهني بعض أهلي من أيام إلى ندوة تُعرض في الرائي يتكلم فيها الشيخ الدكتور صبحي الصالح. وأنا في العادة لا أميل إلى هذه الندوات لأن عريفها يضايقني غالباً حين يُقيم من نفسه شيخ كُتّاب، ويجعل من المنتدين (أي أعضاء الندوة) تلاميذَ له، ولعلّ فيهم مَن هو أعلم منه، فيقول: اسكت أنت، وربما قطع على المتحدث كلامه ليقول شيئاً يخطر على باله لعلّه لا يفيد السامع علماً ولا يَزيد عمّا يقوله المتحدث شيئاً، ولكنه يريد أن يقول: أنا هنا! بيد أن حضور الشيخ صبحي رحمه الله الندوةَ رغّبني في سماعها، لأني كنت أحبه في الله. ولمّا كنت أشرف على تحرير مجلة الرسالة سنة 1947 لمرض الأستاذ الزيات رحمة الله عليه (أو تمارُضه) زارني يوماً الشيخ صبحي. وكان طالباً يَدرس في مصر، وجاءني بمقالة له يريد نشرها، فلمست فيها وفيه فضلاً ونبلاً، فنشرتها له وشجّعته ثم كنت أتابع ما يكتب وما ينشر. وما جئت الآن لأثني عليه هنا وإن كان يستحقّ الثناء،

ولا لأرثيه وإن كان أهلاً للرثاء، وحسبه أنه نال أقصى ما يطمع عالِم مسلم بنبله وهو الشهادة في سبيل الله، رحمه الله ورحم كل من فاضت روحه من المسلمين في هذه الفتنة العمياء التي عمّت لبنان، فلم تُبقِ ولم تَذَر. بل لأنني فوجئت حين رأيت في الندوة طالبات سافرات كاشفات يجلسن إلى جنب شباب كبار مجلس الإخوة مع الأخوات أو الأزواج مع الزوجات، يختلطن بمن حرّم الله عليهن الاختلاط بهم والتكشّف أمامهم. ثم رجعت إلى نفسي فعجبت من عجبي، وسألتها: كيف صدمني هذا المشهد؟ كأنني لم أرَ مثله من قبل وكأنني لم أعلّم بنات بالغات كبيرات ولم أرَ من قبلُ اختلاطاً وتكشُّفاً، في الشام وفي مصر وفي بيروت وما زرت من مدن أوربا الغربية، وإن كنت قد دخلت أكثر من عشرين مدينة كبيرة فيها أرى منها ما يراه الماشي في الطريق، لم أدخل ملاهيها ولا مواطن الفجور فيها، فلم أرَ فيها كلها (أقول الحقّ) ولا فيما زرت من مدن آسيا: الهند وسنغافورة وأندونيسيا وطرفاً من سيام (التي صارت تُدعى الآن تايلاند)، لم أرَ فيها كلها ما كنت أراه في الطريق في بيروت: في الزيتونة ورأس بيروت وعلى طول الساحل الذي تستلقي عليه آلاف من البنات، ما يسترن من أجسادهن إلاّ ما يقبح مرآه وما عدا ذلك بادٍ مكشوفٌ يراه كل من يمرّ في الطريق حتى الحمار. فكيف إذن فوجئت بما رأيت في هذه الندوة بعد كل هذا الذي رأيت من قبل؟ وفكّرت فعرفت السبب. لقد كنت كمَن يضمّه المجلس الحافل في الغرفة المغلقة التي تختلط فيها الأنفاس، من الفم والأنف ومن غيرهما من منافذ الجسم! ويطول المجلس

ساعات لا تُفتَح فيها النوافذ ولا يتجدّد فيه الهواء، ولكنّ مَن فيه لا يحسّ بفساد هوائه. فإذا خرج ساعة إلى النسيم الرخيّ والهواء النظيف ثم عاد إلى المجلس أدرك ما كان في جوّه من فساد. أو كالمزكوم الذي عطّل الزكامُ شمّه، أو كذي الفم المُرّ الذي وصفه المتنبي: «يجِدْ مُرّاً بِهِ الماءَ الزُّلالا» (¬1). ذلك هو السبب. فالحمد لله أن أقامني في المملكة نحواً من ربع قرن وألزمني البقاء في مكة، لم أخرج من حدودها وحدود جدّة من تسع سنين ولم أجاوزهما إلى غيرهما، فأذهبَ ذلك عن أنفي الزكام وعن لساني المرارة، وأعاد إليّ صفاء النفس ومضاء الحسّ، وعُدت أنكر ما ينكره الشرع. وكنت أفكر في اختيار موضوع لهذه الحلقة من الذكريات كما أفعل كل مرة، أفتّش عنه، فوجدته في هذه الندوة التي عرضها الرائي من أيام، فجئت أصل الآن كلامي عن تعليم الطلاب في الكلية في مكة بالحديث عن تدريس الطالبات فيها. * * * نشأت في دمشق قُبَيل الحرب الأولى وفي أثنائها، يوم لم تكن هذه الحضارة قد وصلت إلينا إلاّ لماماً وما عرفناها إلاّ من بعيد، نسمع أخبارها ولكن لا نُبصِر آثارها. فلما انتهت الحرب الأولى سنة 1918، وكنت في أواخر المدرسة الابتدائية، هجمَت ¬

_ (¬1) هذا هو الشطر الثاني من البيت، وصدره: «وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ» (مجاهد).

علينا فكسرت الباب وصارت بيننا، وجاءت معها بخيرات وجاءت معها بشرور، وكان من شرورها فتح الطرق التي تقصر وتسهل تارة أو تطول وتتوعّر تارة أخرى، ولكنها توصل في النتيجة إلى ارتكاب المحرَّمات وهتك الحرمات. ولقد قلت من قديم بأن أول مادة في قانون إبليس وأول درس في منهجه هو كشف العورات واختلاط الشبان بالبنات: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِبَاسَهُما لِيُريَهُما سَوْءاتِهما}. وكانت مدارس البنات من الأبواب التي دخل منها جنود إبليس من الإنس والجنّ علينا. ومدارس البنات إن خلت من الفساد ضرورية نافعة لا بدّ منها لرقيّ البلاد وصلاح العباد، فليس اعتراضي عليها ولكن على ما يعرض لها. ومدارس البنات في دمشق قديمة جداً، ولقد كانت لي عمّة رحمها الله تحمل الشهادة الرسمية من المدرسة الرّشْدية (أي المتوسطة) تاريخها سنة 1300هـ، أي قبل مئة وسبع سنين. وهذه المدارس في مصر أقدم تاريخاً وأسبق ظهوراً. وكان العامل الأول على إنشائها في الشام مربّي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، ولقد كتبت عنهُ فيما مرّ من هذه الذكريات، وحضر امتحان عمّتي من وراء ستار نُصب بين لجنة الامتحان وبين البنات والمعلّمات. وأنا لم أدرك من الشيخ طاهر إلاّ أنهم سيّرونا في جنازته لمّا مات في أعقاب الحرب الأولى، وكنا تلاميذ في الابتدائية وكان وزير المعارف أحد تلاميذه المقرَّبين وهو أستاذنا محمد كرد علي. وكانت التلميذات في المدارس الابتدائية فضلاً عن الثانوية

بالحجاب الكامل، حتى إن أختين لي وزوجتي كُنّ يذهبنَ إلى المدرسة الابتدائية بالملاءة السابغة وعلى وجوههن هذا النقاب، أي القماش المثقَّب الذي كان يُدعى عند العامة «المنديل». وأذكر أن دمشق أضربت مرة وأغلقت أسواقها كلها وخرجت المظاهرات تمشي في جادّاتها لأن وكيلة مدرسة دار المعلمات جاءت المدرسة سافرة (أي كاشفة الوجه)، وهذه الوكيلة هي بنت أستاذنا في كلية الحقوق، العالِم الجليل الذي ولي الوزارة مرات، شاكر بك الحنبلي رحمه الله. ومن أدرك تلك الأيام من أهل الشام يشهد بصحة هذا الخبر، ومن هؤلاء الصديقُ رفيق العمر الأستاذ سعيد الأفغاني الذي يدرّس الآن في جامعة الملك سعود، وقد قارب الآن الثمانين من العمر، وإن هم افتقدوه -لا قدّر الله- فلن يجدوا بعده مثله، فهو المرجع في النحو والصرف. * * * ثم بدأ الصدع في الجدار والشقّ في الثوب، ثم اتسع الخرق على الراقع وامتد الصدع حتى كاد يهدد الجدار. وقد حدّثتكم في هذه الذكريات عما انتهت إليه مدارسنا على عهد الوحدة مع مصر عبد الناصر وما دخل عليها. كما حدّثتكم عن البنت التي دُعيتُ إلى تدريسها درساً خاصاً، وكانت صبية جميلة في السابعة عشرة وأنا شابّ أكاد أقول -لولا الحياء- إني كنت جميلاً في الرابعة والعشرين. وكان الدرس في الأدب العربي، وكان الموضوع هو شعر بشّار وأبي نُواس، وكان الكتاب الذي نرجع إليه هو «الأغاني»

وكتاب أخبار أبي نُواس لابن مَنْظور صاحب «لسان العرب». ومن عرف هذا الكتاب منكم عرف ما فيه من أشعار أبينواس التي يخجل من روايتها الساقي في حانات الخمور ومواطن الفجور، فكيف يرويه للطالبات المعلّمُ الذي زعم شوقي أنه كاد يكون رسولاً (¬1) لولا أن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل فلا رسول ولا نبي بعده. وكان أجري على الدرس كبيراً وكنت في أشدّ الحاجة إليه، ولكن خفت والله من الوقوع وقد بلغت حافّة الهاوية ولم يبقَ بيني وبينها إلاّ شبر واحد، فتركت الدرس وعفت المرتَّب ونجوت بنفسي. وفي سنة 1949 كان أخي أنور العطار رحمه الله يدرّس الأدب العربي لطالبات الثانوية الأولى للبنات ودار المعلّمات، فنُقل وسط السنة المدرسية إلى وزارة المعارف وكُلّف أن يجد مَن يحلّ محلّه، وإلاّ فقد الوظيفة الجديدة التي كان يسعى إليها ويتمنى الحصول عليها، فلجأ إليّ فقبلت. ولم يكن في المدرسة كلها -على كبرها وعلى أنها المدرسة الأولى في دمشق- إلاّ نساء: مدرّسات وطالبات، ولم يكن فيها من الرجال إلاّ البوّاب على الباب والأستاذ أنور الذي حللت محلّه وشيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، وهو والدنا وأستاذنا وقد ارتفع بدينه وسنّه وسيرته فوق الشبهات. ووجدت الطالبات يغطين رؤوسهن في درسي ودرس الشيخ ¬

_ (¬1) في قوله: «كاد المعلم أن يكون رسولا»، والفصيح أن تُحذف أن.

بالخمار (الإيشارب)، وإن كان منه ما لا يستر إلاّ ربع الرأس. وما كنت أختلط بالمدرّسات بل أعتزلهن أنا والشيخ، إلاّ مرات قليلة لم يكن لنا فيها بُدّ من الاجتماع بهن. وما خرجت في هذه الاجتماعات وفي دروسي مع الطالبات عن موضوع البحث أو الدرس إلاّ مرة واحدة، كنا فيها في اجتماع المدرّسات فسمعت إحداهن تشكو صاخبة غاضبة أن الآذنات (الفرّاشات) لا يهيّئن الشاي مع أن السكر موفور والماء موجود والمدفأة موقَدة، فأحببت أن أرطّب الجو بنكتة فقلت لها: إنه لا ينقصك إلاّ إبريق الشاي، فاشربي كأساً من الماء البارد وخذي ملعقة من السكر وملعقة من الشاي واقعدي على المدفأة، فيكون الشاي المطلوب في معدتك. واستمرّت الحال لا أُنكِر منها شيئاً، حتى سمعت يوماً وأنا أُلقي درسي أصواتاً التفتُّ بلا شعور إلى مصدرها، فإذا أربعون من الطالبات في درس الرياضة وهُنّ يلبسن فيه ما لا يكاد يستر من نصفهن الأدنى إلاّ أيسره، وكُنّ في وضع لا أحب ولا أستجيز أن أصفه فهو أفظع من أن يوصف. فذهبت بعد الدرس إلى شيخنا الشيخ بهجة وخبّرته، فقرّرنا أن نترك التدريس، وكان قد بقي إلى الامتحان ونهاية العام نحو عشرة أيام. وقد نبغ من الطالبات اللواتي كنتُ أدرّسهن نابغات، منهن وزيرةٌ الآن في سوريا كانت مضرب المثل في حجابها وفي دينها وكانت من العوامل على تعويد بناتي على الحجاب، وقد أثنيت عليها في مقالة لي في أواخر عهد «الرسالة» بالصدور، ثم زاغت فأزاغ الله قلبها. ولست أدعو عليها وإنما أدعو لها بأن يردّها الله إلى

دينها وإلى حجابها وإلى استعمال ما آتاها الله من المواهب ومن البيان ومن طلاقة اللسان فيما كانت فيه أول أمرها من الدعوة إلى الله، وأن ترجع إلى نهج أبيها وأخيها وأختها الفاضلة التي ثبتت على دينها وحجابها، وأن لا تُؤْثر الدنيا الزائلة على الآخرة الباقية. وما دام في القلب جذوة بالإيمان فإن الله قادر على أن يُحييه في قلبها، ومن الواجب على المسلمين إذا رأوا انحرافاً من واحد منهم أو واحدة أن يَدْعوا الله لها بالهداية، والله لا يهدي إلاّ من يريد الهداية، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن والله يحول بين المرء وقلبه، فادعوا لها بأن يحوّل الله قلبها إلى ما يرضيه عنها وما ينفعها في آخرتها لا بما يمتعها هذه المتعة القصيرة في دنياها. * * * فلما جئت مكة أدرّس فيها لم يكن في المملكة إلاّ مدرسة واحدة للبنات (فيما أعلم أنا) هي «المدرسة النَّصيفية» التي أنشأها الرجل العظيم الشيخ محمد نَصيف رحمة الله عليه، فكان رائداً في فتح مدارس البنات، أما الرائد الأول الذي كان أباً للتعليم حقاً في هذه المملكة وكان نادرة بين الرجال قلّما يجود الزمان بمثله، والذي أفضل الله به على أكثر المتعلمين الآن من الشيوخ ومن الكهول، فهو الشيخ محمد علي زَيْنَل، وقد لقيته في كراتشي سنة 1954 لمّا زارها الملك سعود رحمه الله وقدم الشيخ محمد علي للسلام عليه. ثم أقمت أياماً في بومباي مع الشيخ أمجد الزَّهاوي رحمة الله عليه فكنت أزور الشيخ محمد علي كل يوم، وكلما زرته ازدادت منزلته في قلبي رسوخاً ومكانته ارتفاعاً.

لمّا قدمت المملكة سنة 1383 كلّفني الشيخ الأفندي محمد نصيف رحمة الله عليه بأن أعقد ندوة في المدرسة النصيفية أجيب فيها على البنات، فاعتذرت وتنصّلت. قال: ولِمَ؟ هل هذا حرام؟ قلت: التحريم لا بدّ فيه من دليل وأنا ما عندي من دليل، ولا أقول بأن ذلك حرام، بل ربما قلت بأن تعليم البنات أمرَ دينهن واجبٌ على المسلمين، فإن كان المدرّس كبيراً مأموناً وكُنّ متحجبات يكون ذلك مفروضاً لا مرفوضاً، ولكنني أخشى أن أستنّ في المملكة سُنّة يُساء اتّباعها فيكون عليّ وزرها ووزر من عمل بها، لذلك لا أبدأ أنا بها. ولكن إن أُلقيَت محاضرتان تكون محاضرتي الثالثة إن شاء الله، ولا أكون أنا فاتحَ هذا الباب. فسكت وإن ظهر على وجهه أنه لم يقتنع بما قلت، ثم زرته بعد حين فقال لي: إنها قد ألقيت الآن محاضرتان ونحن نطالبك بوعدك. وكانت الأولى للشيخ عمر الداعوق مؤسّس جماعة «عباد الرّحمن»، وهو رجل فاضل، إن كان حياً فإنني أدعو له بزيادة التوفيق وإن توفّي فعليه رحمة الله، ونسيت مَن ألقى الثانية، ولعلّه كان أخانا وابن شيخنا الأستاذ محمد المبارك رحمة الله عليه. وجئت وفاءً بوعدي فوجدت حجاباً كاملاً وجواً إسلامياً شاملاً، ولا عجب في ذلك ومديرةُ المدرسة هي أم الأساتذة النُّجُب العلماء: الدكتور عبد الله نصيف وأخوه الدكتور عبد العزيز وسائر الإخوة الأفاضل. وأخذتُ معي زوجتي وبنتين لي وقد حضرنَ معي من الشام، وكان اجتماعاً موفَّقاً والحمد لله. * * *

ولمّا كثرت الطالبات في كلية التربية في مكة، ولم يكن هذا الرائي (التلفزيون) الداخلي الذي تُلقى منه اليوم الدروس على البنات فيسمعنَها ويرين المدرس ولا يراهن، كُلّفتُ بتدريس الطالبات في مسكنهن في الحفائر، وكانت المشرفة عليهن يومئذ الأستاذة السيدة إصلاح. فوجدت الطالبات مستعدّات، وكُنّ بالحجاب السابغ ومنهن من يُبدين الوجوه فقط، فألقيت عليهنّ الدرس كما ألقيه على الطلاب، أشرح لهنّ كما أشرح لهم وأجيب على أسئلتهنّ كما أجيب على أسئلتهم. ومرّ العام بسلام، فلما كانت السنة التي بعدها كثر الكاشفات عن الوجوه، ثم أخذ بعضهن يرتفعن بالخمار قليلاً حتى يكشف عن بعض الشعر، فقلت: لا؛ إني في السنّ كالجدّ لأكبركن ولكني لا أعدو أن أكون رجلاً أجنبياً، وإن جاز كشف الوجه من غير فتنة بالمرأة ولا فتنة عليها ولا خلوة للأجنبي بها، فلا يجوز تجاوزه إلى الشعر ولا إلى العنق ولا تجاوز الكفّين إلى الذراع، والستر مع ذلك كله أولى وأفضل. ولقد عرفت نساء بلدي وأنا صغير بالملاءة، حتى النصرانيات واليهوديات في الشام لا يخرجهن بغيرها، وكل ما يصنعن أنهن يسفرن عن وجوههن فتُعرف بذلك النصرانية من المسلمة. فما زلنَ بالملاءة حتى جعلنها قسمين، ثم استبدلنَ بالقسم الأعلى خماراً ساتراً حول الرأس ويغطّي المنكبين، ثم صغّرنَ الخمار وجعلنَ ينقصنَ من أطرافه وحواشيه، ويقصّرنَ الإزار ويضيّقنَه، وكذلك جعل الثوب يقصر إصبعاً إصبعاً والرأس ينكشف شعرة شعرة، حتى انكشف الشعر كله والعنق وأعلى الصدر والساعد

والساق! ثم قلّدنا اليهود فجعلنا للبنات درساً سمّيناه «درس الفُتُوّة» لتدريبهن -كما زعموا- على الجندية، كأن الشباب لا يملؤون المقاهي والملاهي ولا يتسكعون في الطرقات، وكأنه لم يبقَ للدفاع عن البلاد إلاّ البنات! ثم عمدنا إلى تعميم السفور والحسور حتى جعلنا للبنات مسابقات في السباحة أمام الرجال باسم الرياضة. ولم يبق إلاّ أن نجعل للبنات كلية عسكرية! فباسم الرياضة تارة وباسم الفن تارة وباسم الدفاع المدني تارة، وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان استبحنا ما حرّم الله. وعمّمنا الاختلاط في المدارس والجامعات، بدأنا بذلك من رياض الأطفال وقلنا: صغار ما لهم عورة ولا يعرفون المعاني الجنسية. ونسينا أن الصغير يكبر وأن ما غُرس في ذاكرته يبقى فيها. نقلد في ذلك غير المسلمين. ولقد قرأت في جرائد اليوم، الجمعة العاشر من رمضان، أن الإنكليز وغيرهم من الأمم التي ندعوها أمم الحضارة بدأت تعدل عن سنّة إبليس في خلط البنين في المدارس بالبنات وتعود على الفطرة التي فطر الله البشر عليها، فتجعل للذكور مدارس ما فيها إناث ومدارس للإناث ما فيها ذكور. وقد سبقَت إلى ذلك روسيا أم الشيوعية وبنت الصهيونية، ونحن لا نزال سائرين في غيّنا. بل لقد بلغ منا التقليد أن أقمنا مدرّسين شُبّاناً يدرّسون البنات البالغات ومدرّسات شابات للطلاب البالغين، ممّا حمى الله هذه المملكة منه ومن أمثاله، وأسأله أن يُديم حمايتها منه وإبعادها عنه. * * *

خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات

-237 - خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات قلت لكم إن مَن تدعونهم أهل الحضارة من سكان أوربا وأميركا توهّموا أن الحرية المطلقة هي التقدم وهي الرقيّ وأن الخير فيها والسعادة من ثمراتها، فأطلقوا أبناءهم وبناتهم من كل قيد ورفعوا من بينهما كل حجاب وأباحوا لهما كل ممنوع، فهما يعملان ما يشاءان، وصارت البنات متكشفات، وصار مُعلَناً حتى في الحدائق والساحات ما كان يجري في المخدع بين الأزواج والزوجات. ثم صُوّر ذلك في المجلاّت، بل لقد أثبتوه في شرائط ما يدعونه الفيديو بالأصوات والحركات، ثم عرضوا ذلك للبيع يصل إليه مَن ملك ثمنه! وألِف ذلك الكبار وأحبّه ونشأ عليه الصغار، وجعلوا مما يُدرس في المدارس وصف تلك الأعضاء. ولمّا كنت في المؤتمر السنوي الذي يعقده المركز الإسلامي في آخن، وكان معقوداً في تلك السنة في دوسلدورف، جاءني أخ مسلم من الإخوان الطيّبين ومعه بنت له قد راهقت سن البلوغ، يسألني أن أوضح لها أمراً لا يمكن ذكره هنا يتصل بالأعضاء التناسلية للرجل، ففتحت عيني دهشة وحسبته مجنوناً أو مازحاً

مزحاً ثقيلاً، وإذا به يُخرِج لي الكتاب الذي تدرس فيه البنت في المدرسة وفيه الصور الملوّنة الواضحة الفاضحة لهذه الأعضاء عند الرجال وعند النساء في حالاتها كلها! وقد روى الطبيب العالِم الأستاذ في كلية الطب الدكتور محمد علي البار، في كتابه الذي أتمنى أن يقرأه الناس جميعاً «عمل المرأة في الميزان»، روى أن مدرّسة شابة كانت تنزع ثيابها على مهل أمام الطلاب البالغين الكبار الذين جعلوها مدرّسة لهم لتعلّمهم بالمشاهدة والعيان بيان ما قرؤوا وصفه في الكتاب، وأنها لمّا منعَتها وزارة المعارف قامت كبريات الجرائد البريطانية تدافع عنها وتنشر صورتها على الحالة التي وصفتها، لتضمن تأييد القراء لها في دفاعها عن الرذيلة، فأيدوها حتى ألزموا وزارة المعارف بإعادتها إلى عملها والإذن لها بأن ترجع إلى ما كانت تصنع! وكانوا يقولون لنا دائماً إن أسباب الشذوذ الجنسي هو حجاب النساء الذي أمر به الإسلام. فلماذا ينتشر هذا الشذوذ في بلاد ما فيها حجاب كإنكلترا؟ حتى لقد أباحوه فيها للبالغين بقانون، وبارك كبير أساقفة كونتربري -كما نشروا في الصحف- هذا القانون! وكانوا يقولون لنا إننا لو عوّدنا الصغار على الاختلاط من رياض الأطفال لانقطعت أسباب الفساد، فما لهم وقد تعوّدوا عليه هناك لم يزدادوا إلاّ فساداً؟ لم يهدّئ ذلك سُعارَ الشهوة في نفوسهم ولم يخفّف من عنفه لديهم، حتى إننا لَنسمع كل يوم في كل بلد من بلادهم أخبار جرائم الاغتصاب والعدوان على عفاف النساء. ارجعوا إلى كتاب الدكتور البار تجدوا ما تشيب له

رؤوس الصغار مما يقع في المدارس وفي الجامعات، وما وقع للمدرّسة حاملة الماجستير مع الأستاذ الكبير الذي أقاموه مشرفاً على رسالتها التي تُعِدّها للدكتوراة، فلم يقنع بأن يكشف ما في رسالتها من علم بل طلب أن تكشف له عما تحت ثيابها من أعضاء الجسم! وكانَ ما كانَ ممّا لستُ أذكرُهُ ... فظُنَّ «خيراً» ولا تسألْ عنِ الخبَرِ وأخبار البنات اللواتي جعلوهن مجنَّدات وشرطيات مع الضبّاط والرؤساء. خبّروني ماذا كانت عاقبة هذه الحرية؟ هذه العاقبة أمامكم وترونها وتسمعون الحديث عنها. هذه السويد وجاراتها التي قطعت أبعد الأشواط في هذا المضمار، ماذا حلّ بها؟ هل وجدت سعادة الحياة؟ هل وصلت إلى طمأنينة النفس، أم زادت فيها الأمراض النفسية وانتشر القلق والاضطراب والهرب من الحياة بالمخدرات، ثم الفرار بالانتحار؟ هذا هو المَثَل أمامكم: إحصاءات رسمية وحقائق مشاهَدة. والأمراض التي ابتُليَت تلك الأمم بها ولم تكن من قبلُ تعرفها، والتي هي بوادر مما خبّر به رسول الله عليه الصلاة والسلام مما أطلعه الله عليه من بعض الغيب، وهو لا يعلم الغيب، حين بيّن أنه ما فشا الزنا في قوم إلاّ انتشرت فيهم أمثال هذه الأمراض، قال ذلك رسول الله ‘ من نحو خمسة عشر قرناً، من قبل أن يظهر الإيدز ومن قبل المرض الإفرنجي السفلس والسيَلان وتلك المصائب الكبار، أفيشكّ منصف بعد هذا أنه رسول الله؟ * * *

إنه لا يزال منا مَن يحرص الحرص كله على الجمع بين الذكور والإناث في كل مكان يقدر على جمعهم فيه: في المدرسة، وفي الملعب، وفي الرحلات؛ الممرّضات مع الأطباء والمرضى في المستشفيات، والمضيفات مع الطيّارين والمسافرين في الطيارات. وما أدري (وليتني كنت أدري!) لماذا لا نجعل للمرضى من الرجال ممرّضين بدلاً من الممرّضات؟ هل عندكم مِن علم فتُخرِجوه لنا؟ هل لديكم برهان فتُلقوه علينا؟ إن كان كل ما يهمّكم في لعبة كرة القدم أن تدخل وسط الشبكة، أفلا تدخل الكرة في الشبكة إن كانت أفخاذ اللاعبين مستورة؟ خبّروني بعقل ياأيها العقلاء. لقد جاءتنا على عهد الشيشكلي من أكثر من ثلاثين سنة فرقة من البنات تلعب كرة السلّة، وكان فيها بنات جميلات مكشوفات السيقان والأفخاذ، فازدحم عليها الناس حتى امتلأت المقاعد كلها، ووقفوا بين الكراسي وتسوّروا الجدران وصعدوا على فروع الأشجار. وكنا معشر المشايخ نجتمع يومئذ في دار السيد مكي الكتاني رحمة الله عليه، فأنكرنا هذا المنكَر وبعثنا وفداً منا فلقي الشيشكلي، فأمر (غفر الله له) بمنعه وبترحيل هذه الفرقة وردّها فوراً من حيث جاءت. فثار بي وبهم جماعة يقولون إننا أعداء الرياضة وإننا رجعيّون وإننا متخلفون، فكتبتُ أرد عليهم أقول لهم: هل جئتم حقاً لتروا كيف تسقط الكرة في السلة؟ قالوا: نعم. قلت: لقد كذبتم والله، إنه حين يلعب الشباب تنزل الكرة في السلة سبعين مرة فلا تُقبِلون عليها مثل هذا الإقبال وتبقى المقاعد نصفها فارغاً، وحين لعبَت البنات نزلت الكرة في السلة ثلاثين مرة فقط،

فلماذا ازدحمتم عليها وتسابقتم إليها؟ كونوا صادقين ولو مرة واحدة واعترفوا بأنكم ما جئتم إلاّ لرؤية أفخاذ البنات. وقد سبق مثل هذا الكلام فيما سبق من هذه الذكريات. * * * إذا أنشأَت الحكومة حديقة فغرسَت فيها سنديانة، ومرت عليها ثلاثون سنة حتى صارت دوحة عظيمة ممتدة الجذور، فمن يستطيع أن يقتلعها بيديه وأيدي العُصبة من أصحابه؟ وإن غُرزت دعامة من الإسمنت وجُعل لها أساس ضخم في باطن الأرض وأذرعة تمتدّ من هذا الأساس إلى الجوانب كلها، وجفّت الدعامة ويبست حتى صارت كالراسيات من صخرات الجبل، فمَن يقدر أن يقتلعها؟ إن الشهوة التي غرسها الله وغرزها في نفس الذكر للأنثى والأنثى للذكر أمتن من تلك السنديانة وتلك الدعامة. إنها غريزة غرزتها وغرستها يد الله، فهل تنزعها أو تزعزعها يد بشر؟ وشريعة الإسلام إنما شرعها الذي خلق هذه العوالم كلها، فما كان الله ليُقِرّ فينا غريزة ثم يأمرنا بانتزاعها. ما قال لنا الشرع اقتلوها ولكن قال لنا هذّبوها، وما أمرَنا برهبانية نقاوم فيها طبيعة الله في نفوسنا، ولكن نهانا عن إباحية تقتل أكرم صفات البشر فيها. إن هذه الغريزة كالسيل الدفّاع الذي ينزل من شِعب الجبل نزول القضاء فلا يستطيع أحدٌ أن يقف في وجهه إذا انطلق، وما قال لنا الله قفوا في وجهه، ولا تركنا نهمله حتى يجرفنا ويُهلِكنا

ويهدم دورنا، ولكن قال لنا: شقّوا له في الأرض شقاً يمشي فيه تستفيدوا منه وتدفعوا عن أنفسكم أذاه. وأنا أحمد الله على أن مدارس البنات هنا في المملكة لا تزال على خير، ولكن كل صحيح الجسم معرَّض للعدوى إذا كان يحفّ به من كل جانب مَن يحمل جرثومة المرض، وإذا نحن لم نتخذ أسبابَ الوقاية كلها ولم نبقَ على حذر دائم أصابنا المرض. والمسؤول الأول آباء البنات؛ هم المسؤولون عند الله الذي استرعاهم بناتهم واستحفظهم إياهنّ، ومنعهم أن يسلكوا بهن سبيل المعصية أو يتوجّهوا بهنّ الوجهة التي توصل إليها. لا تسافر البنت وحدها، بل لا يسافر الأب بها ولا بإخوتها الصغار إلى بلاد الكفار بلا داعٍ يدعو إلى ذلك، فتنطبع في نفوسهم صور تُفسِد عليهم مستقبل أيامهم وتُبعِدهم عن طريق دينهم وأخلاقهم. ولا يدع ابنته تنزل إلى السوق وحدها، ولا تتصل بالهاتف بالشبان، ولا تشير من النوافذ إلى أبناء الجيران. لقد كان مما ابتُلينا به هذه البيوت التي آثرناها على بيوتنا واستبدلناها بها، حيث تتقابل النوافذ فيرى الشابّ بنت الجيران وتراه، ولو أطاع هوى نفسه ووسواس شيطانه واتبعَت هي هواها وشيطانها لكلّمها وكلّمَته، ثم لقابلها عند الباب ثم ماشاها في الطريق. ولو كان يَعقل لَعَلِمَ أن لبنت الجيران أخاً وأن له هو أختاً، وأن ما يتمنّاه منها يتمنّى من أخته أخوها، ثم يكون بعد ذلك موقف الحساب أمام رب الأرباب، فماذا يُعِدّان له من جواب؟ ومن أسباب الفساد الذي جدّ هذه السيارات يتّخذها فُسّاق

الشبان مصيدة لاصطياد البنات. على أن البنت إن صدّته ما أقدم، وإن عبسَت في وجهه ما ابتسم. ولقد كان من الطالبات لمّا كنت أدرّس في الثانوية الأولى في الشام واحدة جمع الله لها الذكاء مع الجمال والمال، وكادت تكون مكمَّلة لولا شيء فيها من الزهو ومن الكبرياء. تركتُ التدريس ومرّت ثلاث سنوات فقط، فلمحتها مرة وأنا على قوس المحكمة بين الداخلات إلى الغرفة الثانية. وكانت في محكمتنا يومئذ في الشام غرفتان لكل غرفة قاضيها، وكان ذلك سنة 1952، وكان معها أبوها، فوجدتُ أن من المروءة والوفاء أن أستدعي الأب أسأله عن حاله وحالها لعلّي أقدر أن أساعده أو أساعدها. فدعوت به وجاءت البنت معه، وكان العهد بها أن وجهها المورَّد ينضح صحّة وشباباً وأن جبينها يعلو كبراً وترفُّعاً، وكان أبوها في العادة شامخ الأنف ظاهر الكبر معتزاً بمنزلته وغناه، فإذا أنا أراه لمّا وصل إليّ قد ذلّ واستكان، وإذا هي شاحبة الوجه غائرة العينين سعفاء الخدّين، كأنها لم تكن الطالبة التي عرفتها وكأنها كبرَت عشر سنين في هذه السنوات الثلاث. فسألتُ أباها ما شأنها وهل أستطيع أن أساعده بشيء؟ قال: شكراً. قلت: هل لكم دعوى؟ أي قضية؟ فسكتت هي وامتلأت بالدمع عيناها وأرخت حياءً بصرها، وقال هو: نعم، إنها دعوى تفريق، إنها تطلب الطلاق من زوجها. وأشار إلى رجل ما إن رأيته حتى عرفته؛ لقد كان خادماً في دارهما، وكان شاباً ناضر الشباب قويّ الجسد عريض المنكبين، فدخل الشيطان بينه وبينها حتى أوصلهما إلى الغاية التي يسعى إليها، فلم يجد أبوها إلاّ أن يزوّجه بها ستراً

لفضيحة، فما ستر الزواج فضيحته ولكن أظهرها، ووقع بينهما الخلاف حتى انتهى إلى المحكمة، وكانت هذه عاقبة الانحراف عن طريق الشرع إذ جمع أبوها بينها وبين هذا الخادم في الدار. * * * وهذا الذي سردته ليس منه والحمد لله شيء في مدارس المملكة ولا تزال على الطريق السويّ، ولكن مَن رأى العبرة بغيره فليعتبر، وما اتخذ أحدٌ عند الله عهداً أن لا يحلّ به ما حلّ بغيره إن سلك مسلكه. فحافظوا ياإخوتي على ما أنتم عليه، واسألوا الله (وأسأله معكم) العون. إن المدارس هنا لا تزال بعيدة عن الاختلاط قاصرة على المدرّسات والطالبات، ولمّا كنت أذهب إلى مسكن الطالبات في الحفاير، وكان ذهابي على موعد مضروب في وقت محدّد، كنت أقف مع ذلك على الباب لا أدخله حتى يحتجبن جميعاً، وكانت سيارة الرياسة تأخذهن من بيوتهن وتُعيدهن من المدرسة إلى بيوتهن، وكانوا لا يختارون السوّاقين إلاّ من المسنين من أهل الخُلق والدين. المدارس هنا لا تزال على خير، ولكن بعض الآباء يغفلون ويقصّرون. الأب هو الذي يَقِفُه الله يوم الحساب ليسأله عن بنته. فلا يدَعْها تذهب وحدها إلى السوق، فلقد سمعت أن من الفُسّاق من يتحرش بالنساء في الأسواق، ولا يدَعْها تكشف للبيّاع عما أمر الله بستره. وليفهما أن سائق سيارة الأسرة وخادم دارها، كل أولئك أجانب شرعاً عنها ليست منهم وليسوا منها، فلا تنبسط إليهم ولا ترفع الكلفة معهم، وأن الطبيب له أن يرى من المرأة

ما لا بدّ من رؤيته إن كانت مريضة حقاً ولم يكن في البلد طبيبة أنثى تقوم مقامه وتُحسِن عمل ما يعمله، فلطالما عرفت أطباء يتخذون العيادة شبكة لصيد الغافلات وغرفةَ الفحص للمرض الجسمي مخدعاً لريّ الظمأ الجنسي. ولست أقصد أحداً بذاته ولا أعيّن بلداً، ولست أقول مع ذلك إلاّ حقاً. فإذا لقيَت المرأة الطبيب في غير ساعة الفحص فإنها تلقى رجلاً أجنبياً ككل رجل يمشي في الطريق، لأن كشفها أمامه ضرورة أو حاجة، والضرورات تُقدَّر بقدرها. ولا يدع الأبُ بنتَه تذهب إلى رحلة مدرسية أو حفلة كالحفلات التي تكون في ختام العام، فلقد رأيت فيما رأيت من أيامي التي عشتها أن هذه الرحلات وهذه الحفلات من أعظم الأسباب التي تؤدّي إلى البلايا والطامّات. * * * وأقرّر مع ذلك بأنه لا بدّ من تعليم البنات ومن إلقاء المواعظ على النساء غير الطالبات، وأؤكّد لكم أنها لا تصلح حالنا إلاّ إذا أوصلنا الدين إليهن رأساً، وأن ذلك من سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي خصّ النساء بمجلس يعظهن فيه وحدهن. ولقد حاضرتُ النساء عشرات المرات في كثير من البلاد العربية وفيما زرت من غيرها من البلدان، شرعت في ذلك من عشرين سنة من حين جاوزت من العمر ستين، فوجدت ووجد الناس في هذه المحاضرات وهذه الدروس مني ومن أمثالي منفعة لانجد مثلها إن ألقيناها على الرجال لينقلوها هم إلى النساء؛ ذلك لأن المرأة أسرع تأثّراً وأرق -في الجملة- قلباً وأقرب إلى التذكّر

إن ذُكِّرت. ثم إن أسباب الصلاح والفساد بيدها هي لا بيد الرجل، لأنها معلمة المدرسة الأولى التي تكون قبل مدارس الحضارة، مدرسة البيت، في السنّ التي تُغرَس فيها (كما قلت من قبلُ مرات ومرات) بذور الإيمان والكفر والخير والشرّ، تُغرس كلها في السنوات الخمس الأولى من العمر. فلنجعل للنساء مجالس في المساجد نختار لها من العلماء من كان حاضر القلب مع الله، إن قال استمعنَ إلى قوله وإن وعظ استجبنَ إلى وعظه، يخصَّص لذلك ساعة بعد صلاة العصر يُفتح فيها الباب للنساء ويُمنَع دخول الرجال. وأنا أرجو أن لا يذهب هذا الاقتراح هدراً وأن يجد الاهتمام من أخي في الله، الرجل الصالح المصلح العالِم المعلّم، الشيخ عبد العزيز بن باز ومَن معه من أفاضل العلماء، وسترون إن شاء الله أثره الخيّر بعد حين. * * *

لغتكم يا أيها العرب (1)

-238 - لغتكم يا أيها العرب (1) أعود إليكم بعدما انقطعت عنكم، فمَن سرّته عودتي فأنا أحمد الله إليه على أن أعادني، ومَن ظن أنه استراح مني وسرّه فراقي فأسألُ الله أن يصبّره عليّ وعلى مصائب الدهر، فما يخلو الدهر من مصائب. ولو كانت هذه الدنيا مسرات كلها كانت جنة. أما الذي شغلني فأحاديث رمضان في الرائي (التلفزيون). وأنا أجزع من قدوم رمضان في كل سنة، لا خوفاً من صيامه ولا هرباً من قيامه ولا إشفاقاً من شدة حرّه وطول أيامه، فكل ذلك محتمَل إن وطّنتُ النفس على احتماله، تراه في أوله شهراً طويلاً وتنظر إليه الآن بعدما انقضى فتبصره ساعة واحدة. وكذلك الحياة كلها، فإذا كان يوم البعث وسُئل الناس: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. لكن جزعي وإشفاقي من أحاديث رمضان؛ فالكاتب حين يهمّ بإنشاء فصل يوجّه همَّه كله إليه ويضع فكره كله فيه، فإن كلّفتَه بكتابة فصلين معاً انشعب ذهنه وتَقسّم بينهما فكره، فلم يستقرّ على واحد منهما. وأنا أُكلَّف كل سنة بإعداد ثلاثين حديثاً

معاً لأيام رمضان الثلاثين، وتسجيلها كلها في يومين أو ثلاثة. وإن تقاعست أو تردّدت سلّطوا عليّ مخرج البرنامج، ولدي عبدالله رَوّاس، فطوّقني وسدّ عليّ السبل بأدبه ولطفه، وأعانه ابن أخ له كاتب أديب وإذاعي ناجح، هو عصام الروّاس. لا ينفع معهما اعتذار ولا يمكن منهما الفرار! فلا أفرغ من تسجيلها حتى أشعر كأني خارج من معركة، أو كأن عربة صغيرة مرّت عجلاتُها على جسدي فحطّمت أضلاعي. لذلك قررت وأعلنت أني إن مدّ الله في الأجل فلن أعود إليها في رمضان المقبل، ولو جاء مع الرواس وابن أخيه كل أصحاب الرؤوس جميعاً (¬1). وأنا في هذا البلاء من أكثر من خمسين سنة؛ كنت أكتب في الجرائد، وتُرجم بعض ما أكتب وصدر في كتاب بالفارسية بقلم أديب بليغ اسمه أحمد آرام، وعنوان الكتاب «كفتار رمضان». ثم صرت أُذيع من إذاعة دمشق، ثم جاءنا هذا الرائي من نحو ثلاثين سنة فكان أشدّ علينا وأقسى، لأني كنت متوارياً لا أُرى، وربما قرأت من ورقة أو رجعت إلى مذكّرة، فصرت الآن كالذي يخرج إلى الشارع بلا ثياب، إن تحركت حركة أو سرقت من ورقة نظرة رأوها مني وسجّلوها عليّ! ولقد أبصرت مرة في السينما من قديم في «جريدة الأخبار»، قبل أن يكون هذا الرائي، مناظر لامتحانات التلاميذ، فرأيت ¬

_ (¬1) قلت هذا سنة 1407، فلما جاء رمضان سنة 1408 حملوني على المجيء فجئت معهم.

تلميذاً صغيراً في الابتدائية، نظر في ورقة جاره فأخذ بعينه منها ما نقله إلى ورقته، وحسب أنه لم يرَه أحد، فسجّلَتها عليه عين السينما، ثم عرضَتها في كل دار عرض فرآها الملايين، وافتُضح المسكين فضيحة ما كان يحسب حسبانها (¬1). هذا في الدنيا بهذه الآلات التي وفّقَنا الله إليها، فكيف بالفضيحة الكبرى يوم العرض على الله، يوم يُنشَر المَطويّ من الصحف ويُعلَن المَخفيّ مما دُوّن فيها، وهي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصتها. يا ربّ أيقظ قلوبنا لنتوب فتغفر لنا، فإني امرؤ قسا قلبه حتى لتمرّ به المواعظ فلا يتعظ ويمر هو بالعِبَر فلا يعتبر، وقد صرت على أبواب القبر، قد جاوزت الثمانين، فيا ربّ متى يستيقظ ضميري وينتبه إيماني فأعود إليك، ولا مفرّ من العودة إليك؟ ويا أحبائي القراء أسألكم الدعاء، فما لي عمل أُقبِل به على الله إلاّ رجائي بكرمه ثم بدعائكم لي -إن كنتم تحبونني- بظهر الغيب. * * * قلت لكم إنها شغلتني أحاديث رمضان. ولقد مرّ بي من نحو عشرة أعوام أو تزيد رمضان أعددتُ فيه تسعين حديثاً معاً: ثلاثون منها للرائي هنا وثلاثون للإذاعة وثلاثون للأردن. لذلك أسرع فيها حتى أفرغ منها، أسلقها سلقاً، فإذا سمعتها بعد ذلك ¬

_ (¬1) انظر مقالة «أين التائبون» في كتاب «نور وهداية» الذي أرجو أن يصدر في وقت قريب من صدور هذه الطبعة من الذكريات (مجاهد).

مُذاعة قلت: ياأسفاه! ليتني قلت كذا، ليتني لم أقُل كذا، ليتني وسّعت ما ضيّقت وفصّلت ما أجملت! وأخرى لا أقول إنها مصيبة، فليست مصائب حقيقية أجارنا الله من المصائب، هي أنني تعودت من سنين طوال أن لا أكتب أحاديثي ولا محاضراتي. وأنا كجميع من أدمن قراءة كتب الأدب العربي القديمة، لا سيما كتب الجاحظ، مُولَع بالاستطراد، ولعلّ من أسباب ذلك أنني أجد في ذهني بحمد الله الكثير وأنني أحب أن أقدّم للقارئ كل ما أجد في ذهني، فتجرّني المسألة إلى مسألة تشبهها أو تتصل بها، فلا أزال أبتعد عن الطريق الذي كنت أمشي فيه حتى أنتهي من هذه الأفكار العارضة، فأقف وأريد أن أعود إلى الموضوع الأصلي، إلى الجادة التي كنت أمشي فيها فلا أدري من أين خرجت عنها ولا كيف أعود إليها، فأقف كما وقف حمار الشيخ في العقبة، وأنظر فاتح الفم كالأبله أرقب النجدة ولا من منجد. وقد وقع لي ذلك مرات في أحاديث رمضان هذه السنة (على مائدة الإفطار)، وقد وقع لي قبل ذلك مرات. كانوا يدعونني إلى المواسم الثقافية التي تُقام في الأردن، ولا سيما على عهد الدكتور إسحاق الفرحان، وهو مِن خير أو هو خير من ولي الوزارة من الإسلاميين، فيدورون بي على البلاد. وقد كنت مرة في جَرَش في حشد عظيم في رحبة واسعة صُفَّت فيها الكراسيّ واجتمع فيها الآلاف، فوقفت مثل هذه الوقفة، فقلت للناس: ماذا كنت أقول؟ أسألهم العون حتى أعود إليه، فما ردّ عليّ أحد، فقلت لهم: السلام عليكم. وأدرت ظهري لأنزل من فوق المنبر، فصاحوا من جوانب المكان يطلبون أن أعود،

فقلت: إذا كنتم لا تنتبهون إليّ ولا تدركون ماذا أقول فما فائدة القول؟ فقام واحد منهم فذكّرني بما كنت أقول، فقلت له: جزاك الله خيراً، لقد أنقذتني وأنقذت المجلس فبارك الله فيك. فضحكوا جميعاً. ومن هذه المتاعب أنني كنت أكتب الحلقة من هذه الذكريات وأنا لا أدري ماذا سأكتب بعدها، فإذا تصوّرت الذي أكتبه ودوّنت عنوانه أو سجّلت فقرات منه وضعتُها إلى جنبي، فإذا مرّت أيام جرفها السيل وضاعت فيه، في سيل الجرائد والمجلات التي تَرِد عليّ فيما يحمله البريد إليّ، وما أستخرجه من أوراقي ثم لا أردّه إلى موضعه، ثم أحتاج إليه فلا أعرف مكانه. ويطالبني ولدي الكريم السيد طاهر أبو بكر الذي يتلقى هذه الحلقات بالهاتف فيسجّلها ويطبعها، ثم يسلّمها إلى صهري الأستاذ محمد نادر حتاحت أو إلى حفيدي المهندس الأديب مجاهد ديرانية ليقرأها عليّ (¬1). ولطالما تولّت بنتي (وهي محاضرة في جامعة عبد العزيز) وحفيدي هذا ترتيب أوراقي وكتبي مرات ومرات، واشتريا لي خزائن فيها نحو خمسين من الأدراج ووضعا على كل دُرْج منها عنواناً لما فيها، وخزائن أخرى في كل واحدة عشرون رفاً ضيقاً، لأضع في كل درج وعلى كل رفّ مجموعة من هذه الأوراق. واتخذ حفيدي مجاهد، ومن قبله أخوه الطبيب مؤمن، دفاترَ ¬

_ (¬1) انقطعت الفقرة قبل تمام المعنى. ولعله أراد أن يقول إن طاهراً يطالبه بالحلقة الجديدة ليطبعها، فلا يكاد يعثر عليها وسط هذا الركام الذي أشار إليه من الصحف والأوراق (مجاهد).

فيها فهارسُ مرتَّبةٌ على الحروف، حتى إذا طلبتُ ورقة وجدتها. فيستمرّ هذا النظام أياماً ثم تعود إلى ما كانت عليه، لأنه «لا يُصلِحُ العطّارُ ما أفسدَ الدهرُ». ولأنهم قالوا من القديم: متى يَبلُغُ البُنيانُ يوماً تَمامَهُ ... إذا كُنتَ تَبنيهِ وغيرُكَ يهدِمُ؟ * * * كتبت هذا كله وشغلت به أذهانكم وأضعت به من أوقاتكم وما استفدتم منه شيئاً، لأقول إنه لا يزال لديّ من الذكريات التي لم أنشرها الكثير الكثير، ولكن ليس لديّ شيء مكتوب منها، لذلك أتصيّد المناسبات فأدخل منها إلى ما نسيت من هذه الذكريات. ومن هذه المناسبات أن جماعة خبّروني عن إمام في بلد من بلدان المملكة لا أحبّ أن أدلّ عليه لئلاّ أفضح هذا الإمام الذي أتكلم عنه، كان يصلّي بهم صلاة التراويح فقرأ: «ألف لام ميم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك»، فصاح الناس من جوانب المسجد: «ألَمْ ألَمْ»، فلم ينتبه وكادت تفسد الصلاة. وعلمت -بعدُ- أن هذا الإمام شابّ طالب في الدراسات العليا في جامعة من الجامعات، وأنه يُعِدّ رسالة لينال بها شهادة الدكتوراة. وأنا لا أذمّ الشهادات ولا أحقّر الدكتوراة، ولكنها كلما كثرت وانتشرت رخصت بعد عزّ وهَزُلت حتى سامها كل مفلس. ولكني لم أكن أتصور أنها تنزل إلى هذه الدركة الدنيا! وأنا أعلم أن من الدكاترة علماء نالوها بحقّ وكانت شهادة عدل لا شهادة

زور، ومنهم من نالها ببعض الباطل، أعدّ بحثاً عن شاعر مثلاً، فألمّ بجوانب حياته ودرَس شعره وجمع أخباره وأورد ما قيل فيه وما قاله، ولكنه لم يعرف من شعراء عصره غيره، بل هو لا يستطيع أن يُقيم لسانه بأبيات له، وإن هو قرأها لم يفهمها، وإن هو فهمها لم يقدر أن يشرحها! ولقد رأيت مسوَّدات رسائل ماجستير ودكتوراة نالت بعد ذلك الدرجة العالية، فكنت أجد فيها من الغلط والخبط والأخطاء والجهالات ما لا أرتضيه من طالب المدرسة المتوسطة. ولقد رأيت من حرص الدول على الشهادات واعتبارها وحدَها مقياس العلم عجائب وغرائب، حتى إنني كنت أُسأل هذا السؤال الرسمي وأنا أدرّس في الجامعة هنا، السؤال الذي يقول: ما هي مؤهّلاتك؟ فكنت أتهرب منه لأنني إن اكتفيت بما قرأته في الجامعة وفي المدارس قبلها أظلم نفسي، فالذي قرأته فيها لا يبلغ واحداً من ألف مما قرأته بعدها. ثم إن عملي في حياتي الذي انقطعت إليه واشتغلت به وكتبت فيه هو الأدب وعلوم الدين، وليس عندي مؤهّل رسمي في واحد منهما. ولمّا ذهبنا لوضع نظام الدراسات العليا يوم دعا إليها وعمل على إنشائها أخونا الدكتور محمد أمين المصري، وحقّق له ما يريد حتى افتتح أول قسم للدراسات العليا في مكة معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ، رحمه الله ورحم المصري وجزاهما خيراً. كنا جماعة، فرجعوا إلى أعمالهم وبقيتُ هناك أجادل أطلب أن لا تكون الشهادة وحدها هي مقياس الأستاذية في الجامعة. وكان مما قلته لهم: خبّروني عن الذي حمل أول شهادة دكتوراة

في الدنيا، مَن الذي منحه إياها؟ إن قلت إنه دكتور دخلنا في متاهات الدور والتسلسل الذي لا يوصل إلى غاية، وإن اعترفتم بأن الذي منح أول دكتوراة كان لا يحملها (وهذا هو الواقع) أقررتم معي بأن الشهادة ليست وحدها مقياس العلم. وكان مما قلت لمعالي الشيخ حسن رحمة الله عليه: خبّرني ياسيدي، لو بعث الله جدّك الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو الإمام أحمد بن حنبل، هل كنت تستطيع أن تعيّن واحداً منهما معلّماً في مدرسة ابتدائية وأنت لا تعترف بمقياس إلاّ مقياس الشهادة وحدها؟ وأنا أعرف سيدة تدرّس من سنوات طوال في جامعة من جامعات المملكة، درّسَت النحو والصرف ودرّست البلاغة ودرّست الثقافة الإسلامية وأصول النقد ودرّست الأدب العباسي والأندلسي، وكانت في ذلك كله بشهادة الجميع من أنجح المدرّسات، تحمل شهادة الماجستير وهي تحاول من سنوات أن تُقبَل في امتحان الدكتوراة، وطرقَت أبواب جامعات المملكة كلها فلم تُقبَل فيها. كأن تدريسها هذه المواد طوال هذه السنين لا يعدل الدراسة المطلوبة سنة أو سنتين! هذا مثال على التقيّد الكامل بنظام الشهادات. ثم إنه جاءنا الآن مقياس آخر أبعد من العقل وإن كان أقربَ إلى الدقّة، وهو الكمبيوتر (¬1). عرضوا مرة على الكمبيوتر ساعتين اثنتين، إحداهما واقفة لا تمشي أبداً والثانية تؤخّر دقيقة واحدة، ¬

_ (¬1) الذي سمّيتُه «المِحْساب»، لأن اشتقاق اسم الكمبيوتر في الفرنسية والإنكليزية من مادة «حسب».

فكان جواب المحساب أن الواقفة التي لا تمشي أبداً أضبط من التي تؤخّر دقيقة! لا تعجبوا، فالواقفة تُعطي -كما قال الكمبيوتر- الوقتَ المضبوط مرتين كل أربع وعشرين ساعة، والثانية لا تُعطي الرقمَ المضبوط إلاّ كل سبعمئة وستة وثمانين ألفاً ومئتين وثلاث وأربعين سنة ... أو غير ذلك فاحسبوها. * * * على أنه ليس يعنيني من هذا الكلام كله إلاّ هذا الضعف الذي نراه في اللغة العربية، حتى حاق الخطر بها وكاد الناشئون يبتعدون عنها ويجهلونها. ولقد كتبت في العدد الذي صدر يوم 30 شوّال سنة 1366هـ (1947م) من مجلة «الرسالة» مقالة مضى عليها الآن إحدى وأربعون سنة ولكنها لا تزال تصوّر حقيقة قائمة، فاسمحوا لي أن أسرقها من كاتبها وأن أُثبِتها هنا، وأحسب أن كاتبها يأذن لي بأن أنقلها. كان عنوان المقالة «مستقبل الأدب» (¬1)، قلت فيها: تزدحم المساجد قُبَيل الامتحان في مصر بجماعات الطلاب، يتحلّقون فيها حِلَقاً يطالعون ويقرؤون. وقد مررت بحلقة فيها نفر فهمت من كلامهم أنهم من طلبة العربية والأدب في المدارس العالية، فقعدت قريباً منهم أستمع إليهم، وكان واحدٌ منهم يقرأ في كتاب، فما رأيته سلِمَت له خمسة أسطر متتابعات، وما مرّ على خمسة أسطر إلاّ رفع فيها منخفضاً وخفض مرتفعاً وحرّف ¬

_ (¬1) وهي منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).

الكَلِم عن مواضعها وأزالها عن منازلها، ولم يدع لغوياً ولا نحوياً ولا عالِماً بالعربية من لَدُن أبي عمرو بأول الدهر إلى الأشموني في آخره، إلاّ نبش قبره وبعثر عظمه وشتم -بجهله- أباه وأمه! أمّا الطلاب الحاضرون فكان منهم من يتنبّه للّحنة الظاهرة فيردّه عنها ويغفل عن الخفيّة، وسائرهم (أي باقيهم) يغفل عن ظاهرها وخفيّها. فضاق صدري حتى خفت أن يتفجّر بغَضْبَة للعربية لا أدري ما عاقبتها، فحملت نعلَيّ وخرجت هارباً أسعى. وذهبت فسألت إخواني من المدرّسين، فعلمت أن هذا القارئ ليس بدعاً في الطلاب وليس المتفرّد في هذه العبقرية في الجهل وهذا النبوغ فيه، وإنما هي النموذج الصادق لأكثر طلاب المدارس في مثل هذه الأيام. واجتمعتُ بعد ذلك بكثير من طلاب المدارس العالية، فما كدت أجد في أكثرهم من يشبه أو يداني أصحابَنا يوم كنا في أوائل الدراسة الثانوية. لا أقول هذا فخراً بأصحابنا، ولكن تَذْكِرة لهؤلاء وحثّاً لهم على الجِدّ في طلب العلم وبياناً لِما هبطوا إليه وما رضوه لأنفسهم من ترك العلم اعتماداً على شهادات ينالونها، أي كراسيّ في المستقبل يركبونها أو وظائف (أي رواتب) يقبضونها، حتى صارت الشكوى من الضعف في العربية عامة في مصر والشام والعراق وكل بلد عربي، وحتى صار من أبواب التسلية للأدباء أن يفكّروا في تيسير تعلُّم العربية بقلب قواعدها وتنكيس أوضاعها وابتداع البِدَع في نحوها وصرفها، أو بهدم بنيانها وصرم نظامها بتسكين أواخر كلماتها وترك إعرابها، أو بنسفها من أساسها وقلعها من جذورها واستعمال الحروف اللاتينية أولاً والكلمات العامية ثانياً، وما

لا يعرفه إلاّ الله ثالثاً ورابعاً. وما إلى شيء من ذلك حاجة ولا له فائدة، وما باللّغة تعسير حتى نبتغي لها أوجه التيسير (¬1)، ولكنْ في العزائم خَوَر وفي الهمم ضعف وفي الشباب انصراف عن العلم. هذه هي الحقيقة، وإلاّ فهل صَلُحَت العربية برسمها، أي بكتابتها وخطّها وعلومها، هذه القرون الأربعة عشر، وصبرَت على حكم التُّرك أولاً، ثم الفرس، ثم المغول، ثم الأتراك أخيراً، ورأت عصور الانحطاط وعهود التخلّف، وكانت في كل ذلك طاهرة ظاهرة، حتى لم يخلُ عصرٌ من مؤلّفين في النحو والصرف والبلاغة والأدب، وحتى أُلِّف «القاموس» أشهر معاجمنا في عهد العثمانيين وأُلّف شرحه الجليل بعد الألف للهجرة (¬2)، وحتى كان الطلبة في الدهور كلها عاكفين على النحو والصرف والبلاغة، إن لم ينالوا ثمرتها فقد حفظوا قواعدها، وإن لم يحصّلوا سليقة العرب فقد أحاطوا بعلوم الأدب ... هل صَلُحَت العربية في هذه القرون وبدا الآن فسادها؟ وهل استسهلها الفرس والروم والأتراك والهنود المسلمون (والإسلام لا يفضّل عربياً في ذاته على غير العربي، ولكن الكلام في اللغة) هل استسهلها هؤلاء كلهم حتى ظهر منهم علماء أجلاّء فيها، ولم تصعب إلاّ على أبناء العرب ¬

_ (¬1) على أن جدي (رحمه الله) دعا من قديم، من قبل هذه المقالة باثنتي عشرة سنة، إلى إصلاح النحو وتيسيره ونَعَى عليه تعقيدَه واضطرابه وبُعدَه عن الغاية. انظر مقالة «آفةُ اللغة هذا النحو» في كتاب «فِكَر ومباحث»، وقد نُشرت سنة 1935 (مجاهد). (¬2) «تاج العروس» للزَّبيدي المُتوفّى سنة 1205هـ، واقرأ قصته في مقالة «شارح القاموس»، وهي في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

الأقحاح بعدما طلع فجر النهضة وبدا نور النهار؟ وما لشبابنا وحدهم -دون شباب العرب في كل العصور- هم الذين عجزوا عن تعلّمها والتمكّن منها؟ أهُم أقلّ ذكاء وأضعف عقلاً منهم جميعاً، بل ومنا لمّا كنا في مثل أسنانهم قبل عشرين سنة؟ إنهم في الحقيقة أذكى منا، ووسائل التعليم في هذه الأيام أكثر مما كانت على أيامنا وطريقته أسهل، ورُبّ بحث كنا نتصيد مسائله من متفرقات الكتب يُرى الآن مجموعاً في كتاب واحد ينادي: مَن يقرأ فيّ؟! وما لهم يستصعبون العربية؟ وهل العربية أصعب عليهم من الكيمياء والجبر والهندسة؟ وهذه الألسن التي يَزحم بعضُها في رأس الطالب بعضاً من تعدُّدها، وما لأكثرها من فائدة تُلمَس أو عائدة تُحَسّ: اللاتينية (كتبتُ المقالة ونشرتها في مصر) التي أخذناها تقليداً بلا علم، والسريانية والعبرية والفارسية والتركية، ثم الفرنسية والإنكليزية وما لست أدري ماذا أيضاً ... أهذه العلوم وهذه الألسن كلها سهل جميل، كأنها قصة من قصص الغرام يشربها الطالب مع الماء ويأكلها مع الحلوى، والصعوبة كلها في العربية؟! وإذا كانت هذه العلوم وهذه الألسن صعبة كلها فما هو السهل الذي يذهب الطالب إلى المدرسة ليتعلمه؟ ولماذا نفتح المدارس ونُرهِق الأمة بنفقاتها، ونحمل المتخرجين فيها على أعناق الناس حملاً بما حصّلوا من العلم وما نالوا من الشهادة؟ لا، ليس في العربية صعوبة ولا في كتابتها وعلومها عسر، هذه ضلالة يجب أن ينتهي حديثها وأن لا نعود إلى إضاعة الوقت وإفساد النشء في الكلام فيها، ويجب أن نحبّبها إلى الطلاب

ونرغّبهم في مطالعة كتبها حتى يألفوها ويسهل عليهم فهمها. ولقد كنا في المدارس الابتدائية نقرأ الكتب الكبيرة، حتى إنني قرأت كتاب الأغاني كله (متخطياً إسناده والكثير الذي لا أفهمه منه) في عطلة الصيف التي أمضيتها بعد السنة الثانوية الأولى. وكنا يومئذ نُحسِن المراجعة في حاشية الخضري وفي المغني لابن هشام، وكان فينا من يَنْظم ويكتب، وعندي مقالات كتبتها في تلك الأيام قد لا تُرضيني أفكارها ولكن أسلوبها في الجملة يُرضيني اليوم. وكنا نختلف إلى بعض العلماء، نسمع دروسهم العامة في المساجد ودروسهم الخاصة في البيوت، فما أكملنا الدراسة الثانوية حتى أتقنّا قراءة النحو على المشايخ وقراءة البلاغة والفقه والأصول والحديث، وحضرنا كتباً في التفسير والكلام، وعرفنا عشرات من أمّات كتب العلم وقرأنا فيها وتصفّحناها أو رجعنا إليها، وحفظنا أسماء مئات (مئات حقاً) من أعلام الإسلام من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدّثين والمفسّرين والفلاسفة والقُوّاد والأدباء والشعراء، حتى صارت أسناد الحديث والأدب مألوفة لنا لكثرة مَن عرفنا من رجالها، ومن لا نعرفه نرجع إلى ترجمته، وكنا في الثانوية نرجع إلى الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب وتهذيب الأسماء واللغات وابن خَلِّكان والفَوَات (فَوَات الوَفَيات) ومعجم الأدباء وطبقات السّبكي وتاريخ الخطيب وابن عساكر والديباج المُذهَّب وطبقات الحنفية وبغية الوعاة وتاريخ الخلفاء وابن أبي أُصَيْبعة ... وكانت هذه الكتب كلها وأخرى مثلها في مكتبة أبي، وكانت تحت يدي من تلك الأيام.

وقد نبغ في صفّنا (أي فصلنا) جماعة من الأعلام، كسعيد الأفغاني وجميل سلطان وأنور العطّار وزكي المحاسني وعبدالكريم الكَرْمي ووجيه السمّان وجمال الفَرّا، وما كانت تمرّ سنة لا ينبغ فيها نابغون في الأدب والعلم، وممن نبغ في صفّنا في كلية الحقوق مصطفى الزرقا ويونس السّبْعاوي وصِدّيق شَنْشَل وعادل العَلْواني، وممن كان في الصف الذي بعده معروف الدّواليبي. (لم ينته الكلام والبقية في الحلقة الآتية إن شاء الله). * * *

لغتكم يا أيها العرب (2)

-239 - لغتكم يا أيها العرب (2) ولست أستطيع الآن -بعد أربع وخمسين سنة من إكمالي الدراسة في الجامعة- أن أعدّ من نبغ من رفاقنا من الذين قامت نهضتنا في هذا القرن على أكتافهم وصنعتها أيديهم، كان أكثرهم من أصحابنا، ممن كان معنا أو سبقنا قليلاً أو تأخّر عنا قليلاً. كان منهم أكثر رجال السياسة وأرباب الحكم وأعلام الأدب والعلم وأقطاب التربية والتعليم؛ ذلك أننا كنا في صباح نهار جديد طال علينا الليل قبله، واستمرّ قرناً أو قرنين قضيناهما نائمين متخلّفين عن ركب الحضارة بعيدين عن كل جديد، في الفنّ أو في الفكر. ومَن طلع عليه الصباح بعد الليل الطويل والنوم العميق يقوم كأنه نشط من عقال، فهو ممتلئ قوة وتوثُّباً، وكذلك كنا. كنا نستبق العمل، كل في المجال الذي يستطيع أن يمشي فيه والعمل الذي يقدّر أنه يؤدّيه، وكان إقبالنا أكثره على اللغة، نعود إليها بعدما ابتعدنا عنها، نقبل ما ورثنا من روائعها ونصوصها ونجمع فُصُحَها وشواردها، نتصيّدها ونمسك بها، فعرفنا الأدب القوي العبقري بعدما غبرنا دهراً على مثل أدب ابن الوردي:

اعتزِلْ ذِكْرَ الأغاني والغَزَلْ ... وقُلِ الفَصْلَ وجانِبْ مَنْ هَزَلْ وأقبلنا على أصول كتب الأدب بعد أن كان عكوفنا على المستطرَف وعلى الكشكول وعلى المِخلاة وعلى كتب ما ندعوه الآن -اصطلاحاً- بعصر الانحطاط، وما كنا نحسب أنه هو غاية الأدب التي لا نعرف أبعد منها وذروته التي نحاول أن نعلوها ونظن أنه لا يُعلى عليها، وكانت مقامات الحريري وبديع الزمان وهذا الأدب المصنوع من اللفظ المسجوع أبعدَ ما كنا نتمنى. ولقد خبّرني بشارة الخوري، الشاعر الذي لقّب نفسه (لنصرانيّته) بالأخطل الصغير، خبّرني أنه جاوز العشرين ولم يقرأ شيئاً لأبيتمام ولا للبحتري ولا لابن الرومي. وقد نشأنا نحن في أوائل هذه النهضة، فكانت حياتنا حياة جِدّ وإقبال على القراءة وتصيُّد لكتب الأدب، نقضي في ذلك فضل وقتنا كله. والطبقةُ التي كانت قبلنا وشهدَت مولد هذه النهضة كانت أكثر منا جداً وحفاظاً على الوقت وإقبالاً على الدرس، سمعتُ تفصيل ذلك من أستاذنا محمد كرد علي ومن خالي الأستاذ محب الدين الخطيب ومن الأمير شكيب أرسلان، وممن كُتب لي أن ألقاه أو أن أستفيد منه من رجال هذه الطبقة. وكنا نحن أكثر إقبالاً على المطالعة وعلى الصبر عليها وعلى العكوف على أمّات كتب الأدب من الطبقة التي جاءت بعدنا، وما زال النقص مستمراً والهبوط متتالياً حتى وصلنا إلى ما نراه الآن. ولمّا كنت أدرّس الطلاب في المدارس الثانوية في عقد الثلاثينيات من هذا القرن كانت قد ظهرت الرسالة والثقافة

والكاتب المصري، ومن قبلهما السياسة الأسبوعية، وقبل ذلك كانت الهلال والمقتطَف والزهراء والمنار، وكان في ذلك كله مقالات، لا أنظر إليها الآن بنظرة الدين فأبيّن معروفها من منكَرها ولا صالحها من فاسدها (على معرفتي بالتفريق بين النوعين) ولكن كلامي من جهة البلاغة أقيس بمقياس الأدب، فكان الطلاب يجدون في هذه المجلات مقالات بليغة تصلح أن يحذوا حذوها وأن ينسجوا على منوالها وأن يقتدوا بأصحابها، في التعبير لا في التفكير. وكانوا يختارون للطلاب في كتب المحفوظات روائع الشعر والنثر مما يجمع القول البليغ من الأدب المصفّى، يتخيّرونه لهم من الشعر ومن النثر، ليبقى لهم زاداً في البيان يحملونه ليتزودوا به طول العمر. فهبطنا حتى جاءتني مرة في الشام -من أكثر من خمس وعشرين سنة- حفيدة لي بكتاب المحفوظات الذي فرضته وزارة المعارف عليها لأشرح لها بعض ما فيه، فإذا فيه شيء قال الكتاب إنه قصيدة شعر، فما قرأته حتى غثَت منه نفسي واختلّ مزاجي، وانقلب وجهي حتى أصاب البنتَ الرعبُ مني، وبدا لها كأني أكلت ليمونة بقشرها وشربت بعدها كوباً من زيت الخَرْوَع. على أن ذلك -لو أُكرهتُ عليه- أهون من قراءة هذا الذي سمّوه قصيدة شعر! أهون من قراءته فضلاً عن فهمه وشرحه وبيان مقاصد قائله، وما له معنى يُفهَم وما لقائله مقصد يُدرَك؛ إن هو إلاّ رجل أراد أن يكون شاعراً، وما أرادت له ذلك مواهبه ولا محفوظاته من الشعر الجيّد، ولم يستطع أن يصعد إلى حيث الشعر في شرفات القصر فجرّب أن ينزل بالشعر إلى حيث يقف هو في قعر البئر.

أفهذا وأمثاله ما تريدون أن تربّوا به البلاغة في نفوس أبنائكم وتضعوا الفصاحة على أسلات أقلامهم وأطراف ألسنتهم؟ على أنني لم أكن أرتضي كل ما كان في كتب المحفوظات قديماً، ولا أحبّذ أن يُختار للطلاب مما كتب أمثال الصاحب ولا ابن العميد ولا القاضي الفاضل ولا تلك الخطب وهاتيك الرسائل، بل أريد أن نختار لهم الأدب السهل الممتنع البليغ السائغ، الذي يصلح لهذا العصر كما صلح للعصور التي مرّت من قبل؛ من مثل: قصة الإفك التي روتها بلسانها أم المؤمنين عائشة، وقصة كعببن مالك لمّا تخلّف عن غزوة تبوك، وقصة عمر لمّا جاء شريكه يخبره بما شاع في المدينة من أن الرسول عليه الصلاة والسلام طلّق نساءه، وأمثال ذلك من النصوص التي نجدها في السيرة وتاريخ الطبري وفي الأغاني، وفي توقيعات الخلفاء والأمراء. وخير من ذلك أن نختار لهم الأحاديث الطويلة التي رُويَت باللفظ لا بالمعنى، وأفضل منها آيات القرآن. نبدأ بالسور القِصار نعلّمها للصغار، لا ليفهموها بل ليقرؤوا بها في صلاتهم، فلا يستطيع الصغار أن يفهموها لأن «جزء عمَّ» يصعب فهمه واستيعاب معانيه ومراميه. ولكن نختار لهم من كتاب الله أمثال قصة نوح وابنه، وإبراهيم وأبيه، وموسى وفرعون والسحرة، وقصة موسى وبنتَي شُعَيب، وقصة موسى والعبد الصالح (الخضر)، وقصة ذي القرنين، وفي القرآن من أمثال هذا كثير جداً يستطيع أن يفهمه التلاميذ بأيسر شرح وأن يحفظوه، وأن يكون ذخراً لهم في البلاغة. وهل أبلغ من كلام ربّ العالَمين؟ * * *

ولقد كتبت من القديم، من عشرات السنين، أقترح أن نبدأ بتدريس الأدب من عصرنا الذي نعيش فيه ثم نعود إلى ما مضى، فيكون آخر ما يقرؤه الطلاب ويكلَّفون بحفظه المعلقات وشعر الجاهلية، لا أن نبدأ بها على بُعد موضوعاتها عنا وعلوّ أسلوبها عن أفهامنا. إلاّ القرآن فإنه لكل زمان. ونستطيع أن نختار من أدب العصر الكثيرَ الجيّد. ولقد كنت كتبت من أكثر من ثلث قرن مقالة عنوانها «ماذا يُراد بالأزهر؟» (¬1) أردّ بها على الدكتور طه حسين لمّا اقترح (أو كاد) إلغاء الأزهر، وكان فيما قلت عنه أن أسلوبه فيه كثير من التكرار المملّ. ثم قرأت له كتاباً سمّاه ناشره «مذكّرات طه حسين»، ولعلّه تتمّة الجزء الأول من كتاب «الأيام»، فوجدت فيه -أشهد بالحق- أسلوباً بلغ الغاية في القوة، وأجمل ما فيه الجملة القرآنية فهو يُكثِر منها. فلو أردت أن أرشد الطلاب إلى كتاب من كتبه لأرشدتهم إلى هذا الكتاب ونبّهتهم إلى ما فيه ممّا لا يُسيغه القارئ المسلم. وإلى بعض ما كتب البِشْري والزيّات والرافعي والعقّاد والمازني وزكي مبارك، ولكل من هؤلاء أسلوب ولا تخرج هذه الأساليب كلها عن حدّ الجودة. ولعلّ من أنفعها للطلاب كتاب «فيض الخاطر» لأحمد أمين، وإذا لم يكن لهم بُدّ من أن يحذوا حذْوَ كاتب من الكتّاب فليأخذوا أحمد أمين، لأنه يعمد إلى مشهد من مشاهد الحياة رآه أو فكرة من الأفكار قرأها أو سمعها، فيذكر ما يتصل بها وما يتفرع عنها، ويمشي يميناً وشمالاً ثم يعود إلى الطريق ¬

_ (¬1) هي في كتابي «فصول إسلامية».

الذي بدأ منه، واتباع هذه الطريقة سهل على الطلاب. وقد وجدت خلال تدريسي الطويل (وأنا -كما قلت لكم قبل الآن- أعلّم من نحو ستين سنة، بدأت التعليم قبل أن أكمل التعلّم، وكنت أدرّس الإنشاء الذي صاروا يدعونه الآن فنّ التعبير، وقد نشأ ممن كنت أدرّبهم وأعلّمهم جماعة من الأعلام)، وجدت أن الطلاب يحبّون دائماً أن يأتوا بالغرائب، وقلما كانوا يبدؤون الموضوع وهم على الأرض ولكن ينزلون إليه من فوق، فيبدؤون فصولهم غالباً بمثل "أشرقت الغزالة بأشعتها الذهبية" ... فكنت أقول لهم: ياأولادي، دعوا الشمس وأشعتها وابدؤوا من الأرض التي تقفون عليها. فكانوا يسألونني: كيف ندخل في الموضوع؟ فكنت أضحك وأقول: ادخلوا كما تدخلون البيوت، اقرعوا الباب، فإذا فُتح لكم فضعوا على عتباته أرجلَكم ثم ادخلوه بأجسامكم؛ قولوا رأساً الذي تريدون أن تقولوه، دعوا المقدّمات الطويلة والدهاليز الممتدة، فإنها قد تُضِلّكم عن المقصد وتُدخِل الملل على نفوس القارئين فلا يقرؤون لكم. كنت أجد في تلك المجلات من المقالات ما يُنير للطلاب السبيل ويأخذ بأيديهم إلى الغاية، فصرنا اليوم ... هل أستطيع أن أتكلّم بحرية؟ هل أستطيع أن أقول ما الذي صرنا إليه؟ هل أقدر أن أضرب المثل بما يجري في بعض الصحف والمجلات؟ أمثّل بصفحة الأدب في «المجلة» فهي أخت هذه الجريدة (¬1)، ¬

_ (¬1) أي «الشرق الأوسط» التي نشرت هذه الذكريات.

وما يختاره أو يكتبه مَن يسمّى بلند الحيدري. ولو شمّ رائحة البلاغة لبدّل اسمه. بلند؟ وما بلند، وما هو من أسماء العرب ولا العجم ولا الإنس ولا الجن، ولا أعرف له معنى! أنا أعرف البَلَنْط، وما في هذه الصفحة من «المجلة» كله بَلَنْط في بلنط! (¬1) وأنا ما أريد أن أسيء لأحد ولا أن أسمّع به، إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، ما بي عداوته، وكيف أعاديه وأنا لم أشرف بمعرفته ولم أحظَ بلقائه؟ وسّعوا صدوركم واذكروا أن لكلمة «الشعر» معنى محدداً استقرّ في أذهان أهل العربية من عهد الأفْوَه الأَوْدي (الذي كان كما قالوا على عهد سيدنا المسيح بن مريم عبد الله ورسوله ‘)، فهل تظنّون أنكم تستطيعون بمئة مقولة غير معقولة كهذه التي سمّيتموها قصيدة أن تمحوا من نفوس الناس معنى للشعر بقي فيها أكثر من ألف وسبعمئة سنة؟ إني أكرّم عقولكم، وأنتم لا شكّ من أصحاب العقول، عن أن أظنّ بها هذا الظنّ، وإني لأحسب أنكم لا تنشرون هذا الكلام الذي يُشبِه كلام المريض حينما يصحو من البنج بعد العملية، أو المخمور الذي تتقاذفه الجدران أو الذي أدمن المخدرات! أنا أعلم أنكم لا تنشرونه إلاّ من باب الطرفة والنكتة. ولا ضير في هذا، فمن حقّ الناس علينا أن نسرّهم وأن نُضحِكهم، فالدنيا مليئة بالهموم والأحزان فلِمَ لا نسلّيهم عنها؟ فالتسلية مطلوبة ولكن لا على حساب البلاغة والأدب ولا على حساب الدين. ¬

_ (¬1) البلنط مادة كالرخام، إلا أن الرخام ألين منها (مجاهد).

والإضحاك فنّ من الفنون، فأنا أجد في كثير من هذا الأدب الجديد نوعاً من مسرحيات إسماعيل ياسين أو عادل إمام، أو الإمام الآخر الذي يُضحك بثقل دمه ومحاولته أن يكون باحثاً عالِماً يُنشئ الفصول الطوال، يريد بها الجِدّ فلا يأتي منه إلاّ رواية مضحكة، لكنها تُضحِك بسخافتها لا بخفّتها ولطافتها، ويَذهب به الغرور حتى ليحسب أنه صار إمام الوطن العربي! (¬1) إني أتابع قراءة «المجلة»، فهل تصدّقون أني لم أجد إلى الآن في قسم الأدب شيئاً يمكن أن يُقال له «أدب»، إلاّ شيئاً قليلاً يأتي بين حين وحين. فهل مات البُلَغاء ولم يبقَ ممّن يُنشر له ما يَكتب إلاّ هؤلاء الذين تُنشر مقالاتهم و «أشعارهم»؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم إن كنت أسأت فيه إلى أحد، وما أظن أنهم ينشرونه، فإن نشروه كان ذلك دليلاً ظاهراً على أن مؤسسة آل حافظ الصحفية مؤسسة تقدّر الحرّية، حرّيتي أنا في أن أقول، وقد قلت، وحرّية من شاء أن يقول عني ما يشاء. وأنا أُعلِن من الآن أني لن أردّ إلاّ على واحد من اثنين: رجل له منزلة في الأدب وكلمة مسموعة في الناس لا يَحسُن الإعراض عن قول مثله، ورجل جاء بقولة لا يَحسُن السكوت عنها لأن فيها فكرة يوجب الدين إنكارها أو تلزم مصلحة الناس أو منطق العقل ردّها، وما عداها فليقُل فيه من أراد أن يأمن ردّي عليه ما يريد. دفعني إلى ما قلت الألمُ ممّا آلت إليه حالنا والخشيةُ مما هو أشدّ منه؛ ففي المجلات ما يجمع إلى إهمال العربية محاربةَ ¬

_ (¬1) غسّان الإمام، وكان يكتب في مجلة «الوطن العربي» (مجاهد).

الدين ومناصرة الملحدين. أمّا الدين فإن الله حافظه وناصر أهله حتى يكونوا هم الغالبين، أمّا العربية فقد تعاورتها العلل وتوالى عليها الهُزال حتى كاد يجهلها مَن هم مدرّسوها. * * * أنقل فقرة أخرى من مقالة الرسالة التي نشرتها يوم 30 شوال سنة 1366هـ. لقد قلت فيها: "فالحكاية ليست حكاية كتابة تُسهَّل ولا قواعد تُيسَّر، ولا مقاصد ربما كانت خبيثة يحقّقها ناس ليسوا منا ولا يريدون الخير لنا، ولكنها مشكلة المعلّم أولاً. وما دمنا نطلب معلّمين أصحاب شهادات ولو لم يكونوا أُولي علم، وإنما خطفوا مسألة خطفاً وحفظوها حفظاً حتى أدّوا فيها الامتحان ونالوا الشهادة، ولم يعكفوا على كتب العربية حتى تكون ملَكة لهم ... (إلى أن قلت): فهاتوا المعلّم القوي في علوم اللغة: متنها وصرفها ونحوها، صاحب الاطّلاع على لغات قبائلها والحفظ لشعرها والذوق في فهمها، يُصلِح هو فسادَ المناهج ويقوّم اعوجاجَ الكتب. إلى آخر ما قلت. * * * لقد ورد أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدّد لها دينها؛ أي ينقّيه مما علق به من أوضار البدع والمُحدَثات حتى يردّه إلى أهله كما نزل به الوحي وبيّنه الرسول ‘، أي يغسله كما يُغسَل الثوب المستعمَل ويكوى ويطيَّب حتى يعود كالجديد. كذلك يُحيي الله بالرجل الواحد بلداً ميتاً فيه الأدبُ

والعلم، ورُبّ رجل واحد يكون على يده نهضة شعب. فعليكم بالبقية الباقية من أقطاب الأدب؛ أطلقوا أيديهم في مناهج العربية وكتبها، لا تجعلوا الشهادات وحدها هي الميزان، فإن كثيراً ممن أعرف اليوم من أكثر الناس معرفة بالأدب العربي الحق وممّن درس كتبه الكبرى (كالكامل للمبرد والأمالي للقالي) لم يكونوا يحملون شهادة، وإن كان يقعد بين أيديهم ويتلقى عنهم حَمَلة الشهادات من أساتذة الجامعات، من هؤلاء الذين أعرفهم محمود محمد شاكر في مصر وعبد الغني الدقر في الشام. أدعو إلى جلب أمثال هؤلاء للانتفاع بهم قبل أن يستأثر الله بهم. * * *

ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1)

-240 - ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1) بيان واعتذار: كان النقد عند الطبقة التي قبلنا من الأدباء مثل المصارعة الحرة؛ لَيّاً للأيدي وخلعاً للأكتاف وكسراً للأصابع، نطحاً وبطحاً ورفساً وعضاً ورفعاً وخفضاً، وكل ما تصنع الوحوش المتقاتلة في الغاب وما لا تصنعه الوحوش، حتى إن الواحد ليرفع الآخر في الهواء ويداه ممدوتان ثم يُلقي به على الأرض فيختلط طوله بالعرض! وكنتُ -ولا فخر- من أقدر أصحابي ومَن هم في طبقتي في هذا، وكنت أشَدّهم على الخصم وأكثرَهم احتمالاً من الخصم، على أنني ما كنت أضرب وأهرب، بل أقف مُقيم الصلب مبدياً صفحة الصدر قد شددت عضلاتي، أدعوه ليضربني خمساً أو ستاً فلا أتزلزل ولا أتزعزع، وأضربه ضربة واحدة فيخرّ منها للوجه ولليدين. ثم قُلبت صفحة وفُتحت صفحة جديدة، أرادوا (وإن لم يحقّقوا ما أرادوا) أن يكون النقد -كما قالوا- موضوعياً ناعماً، ليس فيه لكم ولا لطم ولا رفس ولا دعس، ولكنه شيء كالعناق والتقبيل ومسّ بالأيدي الناعمة وتربيت على الأكتاف الليّنة، أو أن يغمض الناقد عينيه (إن لم يكن ذا خبرة بهذا الفنّ) ويلوح بذراعيه

ويضرب بلا قصد، لا يبالي أين تقع يده، كأنه لا يفكّر برأسه الذي بين كتفيه بل بإبهاميه اللذين في قدمَيه، فيخرج من المعركة محطَّماً سواء في ذلك أكانت المعركة له أو كانت عليه. وقد تركت من قديم خوض المعارك وابتعدت عنها وألزمني الكِبَر ابتغاء السلامة منها، ولكن غاظني من بعض المجلات أن فيها صفحة للأدب ولكن ليس فيها أدب، ما فيها إلاّ كلام مصفوف بلا نظام مرصوف بلا إحكام، ألفاظ لها مثل صوت الطبل وهي فارغة فراغ الطبل. يُعلِنون عن القصيدة الجديدة للشاعر الكبير، فتأخذ أنت المجلة فلا ترى قصيداً ولا رجزاً ولا موشَّحاً ولا شيئاً مما يُقال له شعر، ولا ترى شاعراً كبيراً ولا صغيراً ولا وسطاً بين الكبير والصغير، ما ترى إلاّ صافّاً كلاماً لا تفهم منه شيئاً لأن كاتبه ما عنده شيء يريد أن تفهمه منه. يقولون إنه «الغموض» وإن من مزايا الشعر الحديث هذا الغموض. لقد عرّفه شاعر فرنسي عبقري مشهور عُرف به هو بول فاليري، الذي ألقى عنه محاضرة سبق أن أشرتُ إليها وبيّنت رأيه فيها، وهو صاحب القصيدة التي اشتهرت في الأدب الفرنسي الحديث، «المقبرة البحرية»، فكانت قطعة أدبية رائعة ولكنها غامضة، فكان كل ناقد يفسّرها تفسيراً جديداً، حتى إن أستاذاً جامعياً يهودياً اسمه كوهين ألقى محاضرة في شرحها حضرها الشاعر نفسه، فلما انتهى منها قال له: شكراً، لقد أفهمتَني شعري! فما عرف الناس أيشكره حقيقة أم يسخر منه. ولقد عرف العرب نوعاً من الغموض، ولكنه غموض

يفتح آفاق الفكر وأبواب الخيال وينبّه أذهان السامعين، كقول الشاعر: لو كُنتُ أعلَمُ أنّ آخِرَ عهدِكُمْ ... يَومُ الفِراقِ فعَلتُ ما لم أفعَلِ فذهب النقاد يبحثون عن هذا الذي يمكن أن يفعله. وكقول شوقي: إنْ رأَتني تميلُ عنّي كأن لم ... تَكُ بيني وبينَها أشياءُ فذهبوا المذاهب في بيان هذه الأشياء، وأمثال هذا كثير في الشعر. لقد نسيت أنه قد مضى عهد النقد الذي عرفناه وترك الناس (وتركتُ معهم) أسلوبَ الشيخين الرافعي والعقاد وأمثالهما، وأنها قد رقّت الأجساد واسترخت العضلات وأرهفت المشاعر، ولم يعُد الأديب أو الشاعر (ولو كان من أهل الحدَث الأكبر الذي يوجِب الغُسل، أعني «الحداثة» في الشعر) لم يعُد ذلك المصارع الذي يكيل للخصم الضربات ويحتمل منه الضربات، بل صار كالأغيَد الناعم: خَطَراتُ النّسيمِ تجرَحُ خدَّيـ ... ـهِ ولَمسُ الحريرِ يُدمي بنانَهْ قلت هذا الكلام لأبيّن ما كان في الحلقة السابقة ولأعتذر مما وقع فيها من الخلل، ذلك أني كتبت في نقد هذا المذهب الجديد في الشعر وفي الأدب على طريقة الرافعي والعقاد التي كنا نكتب بها، ونسيت أن الزمان قد جاوزها وأن النفوس لم تعُد تحتملها. فلما نبّهوني في الجريدة إليها فوّضتهم أن يعدّلوها،

فكان من هذا التفويض وهذا التعديل ما وقع من الاضطراب في الحلقة السابقة (¬1). هذا، وأرجو أن لا ترقّ النفوس حتى عن احتمال هذا الاعتذار فيحذفوه، فإن لم يفعلوا وقرأتموه منشوراً فاحمدوا الله. * * * جاءتني رسالة من طالب يستأذنني أولاً أن أسمح له أن يدعوني «جَدّه»، لأنني أشبهه كما قال ولأنه يحبّني كما كان يحبّه، ولأن جدّه مات قريباً في الحادية والثمانين، وأنه يراني مثله. فإذا اكتمل هذا الشبه بيننا حتى في العمر فقد بقيَت لي ستة أشهر لألحق به. يقول لي: ألا تخبرنا ياجدّي عن العطلة الصيفية على أيامكم ماذا كنتم تصنعون فيها؟ كيف كنتم تقضونها؟ هل تقصدون المصايف هرباً من الحرّ أو تسافرون في البلاد؟ إلى آخر ما قال، هذه أفكاره كتبتها بأسلوبي أنا. أمّا الجواب فأقول: يا حسرة على مَن دعوتَه جدّك، ياحسرة عليّ، ما عرفتُ العطلة الصيفية قط. لقد كنت في مدارس تعمل دائماً، تصل الصيفَ بالشتاء والشتاءَ بالصيف، وتكاد تُلحِق الليل بالنهار، لا تستريح ولا تُريح. ولذلك قصة لا بدّ من بيانها، ولو أفضتُ في هذا البيان فإنه تاريخ لم يعُد يعرفه إلاّ القليل. ¬

_ (¬1) لم يعد هذا الاضطراب ظاهراً، فقد أصلحته ما استطعت (مجاهد).

كانت مدارسنا في دمشق في تلك الأيام أصنافاً ثلاثة: مدارس حكومية كنا ندعوها المدارس الأميرية (¬1)، وهي قليلة ما كان عندنا منها إلاّ أربع ابتدائيات للبنين وقريب منها للبنات، وثانوية واحدة معها دار للمعلّمين، وثانوية للبنات معها دار للمعلّمات، ومدارس أوّلية قليلة نمرّ منها إلى الابتدائية. كانت في دمشق -لمّا دخلت أنا المدرسةَ قُبَيل الحرب الأولى، حرب 1914 (أي نحو سنة 1332هـ) - أربع ابتدائيات للبنين هي: «مدرسة الملك الظاهر»؛ ما سُمّيَت باسمه إحياء له أو تبرُّكاً به كما تُسمّى المدارس الآن، بل لأنها افتُتحت في مدرسته التي فيها قبره عالياً مزخرَفاً تحت قبّة رفيعة جميلة، تُعَدّ تحفة في الآثار ولكنها ليست إلاّ مخالفة وبدعة في الدين. وبابُها العظيم (بقوسه الشامخ جداً ومُقَرْنَصاته الرائعة) يقابل بابَ المدرسة العادلية الذي يماثله في روعته وفنه، ووراءه المجمع العلمي (الذي صار يُدعى الآن مجمع اللغة العربية، وهو أكبر المجامع سناً وأقدمها قِدَماً، أنشأه الأستاذ محمد كرد علي سنة 1919). و «مدرسة المهاجرين». وحيّ «المهاجرين» أقامه ناظم باشا الوالي المصلح على سفح جبل قاسيون للمهاجرين من جزيرة كريت (إقريطش) لمّا سقطت بيد اليونان، وبنى لهم فيه بيوتاً ¬

_ (¬1) الصنف الأول هو «المدارس الأميرية» الآتي ذكرها، ولم تكن كثيرة، والثاني «المدارس النصرانية» وهي قليلة أيضاً، والثالث «المدارس الأهلية»، وهي كثيرة تضم جلّ أبناء البلد كما سيأتي بعد بعض الاستطراد (مجاهد).

صغيرة متشابهة ذات سقف مائل (وبقيَت كذلك مدة طويلة) وجعلها نمطاً واحداً صفوفاً وراء صفوف، بينها طرق صاعدة إلى الجبل وجادّات معترضة أدناها، أوسعها الجادة الأولى التي يسير فيها خطّ الترام من تلك الأيام، وتأتي بعدها الجادة الثانية، ثم تصاعدت الجادّات وتعاقبت حتى بلغت (أو كادت) ذروة الجبل. وبنى في آخرها (¬1) قصراً كبيراً على هيئة دار المعلّمين التي أقامها على كتف بردى، بناهما على هيئة الحصون الصغيرة في أوربا في القرون الوسطى. ثم أقام مصطفى باشا العابد إلى جنبه قصراً آخر، وصار قصر ناظم باشا فيما بعد دار رياسة الجمهورية، حتى كان الرئيس شكري بك فتشاءمت منه أمه فبادل العابد، وصار قصر العابد هو قصر الرياسة الآن. و «مدرسة البحصة». وهي قائمة في النصف الذي سرقوه من صحن جامع يَلْبُغا، حتى إن البِركة الكبيرة قسموها بين المدرسة والجامع، وأقاموا بينهما حاجزاً. ولقد ذكرت الآن وأنا أُملي هذا المقال أني كتبت هذا من قبل (¬2)، فإن كنتُ فعلت فسامحوني، فإن الشيوخ يكرّرون الأحاديث، ويسمعهم الناس ويستحيون منهم فلا يخبرونهم. ولقد صرت شيخاً كبيراً، وهل أجرؤ أن أُنكِر هذا وقد جاوزت الثمانين؟ فإن رأيتموني أُعيد حديثاً سبق أن حدّثت به في هذه الذكريات أو في الرائي أو في أحاديثي في الإذاعة ¬

_ (¬1) آخر البيوت لا آخر الجادّات (مجاهد). (¬2) في الحلقة السادسة، وكانت هذه المدرسة تسمى «السلطانية الثانية». وأكثر مادة هذه الحلقة سبق فيما مضى من هذه الذكريات (مجاهد).

فنبّهوني يكن ذلك التنبيه فضلاً منكم، واذكروا أن «العصا قُرِعت لذي الحِلْم». وأنتم تعرفون هذا المثل وقصته (¬1)، فإن لم تكونوا تعرفونه فاشتروا كتاب «مجمع الأمثال» للميداني واقرؤوا فيه شرح المثل، ولكن دعوا قصته فإن أكثر قصص الأمثال مصنوعة مركَّبة وُضعَت في الزمن الأخير. والمدرسة الابتدائية الرابعة هي «مدرسة الميدان» (الذي كان يُدعى قديماً «ميدان الحصى»، وفيه الآن الحيّ الجنوبي من دمشق)، وكان يدرّس فيها الشيخ بهجة البيطار والشيخ زين العابدين التونسي والشيخ رفيق السباعي والأستاذ جميل سلطان. وكانت هذه المدارس الأميرية قليلة، وكان إلى جانبها مدارس نصرانية قليلة أيضاً، وكان أكثر المدارس أهلية تضم جلّ أبناء البلد، ومنها ثانويات كبيرة أكبرها المدرسة التي دعوها «اتحاد وترقّي مكتبي إعدادي سي» (ومعناها في العربية: «مدرسة الاتحاد والترقي الإعدادية»، ولكن اللغة التركية التي كانت اللغة الرسمية في الشام تقدّم المضاف إليه على المضاف وتربطهما بلفظ سي) فترك الناس هذا الاسم الطويل ودعوها «المدرسة التجارية»، وكان يموّلها ويُنفِق عليها جماعة من أفاضل التجار، وكانت ثانوية وإعدادية وابتدائية، وكان لكل قسم من هذه الأقسام مدير والمدير ¬

_ (¬1) زعموا أن ذا الحِلْم هذا هو عامر بن الظّرب العدواني، وكان من حكماء العرب في الجاهلية، فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: إنه قد كبرت سنّي وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المِجَنّ بالعصا (مجاهد).

العامّ لها كلها هو أبي الشيخ مصطفى الطنطاوي. وقد كانت هي والمدرسة الكاملية التي أنشأها الرجل الكبير الذي كان له في التعليم وكان له في السياسة أبرز مقام، هنا في المملكة وفي الشام، كانت المدرسة الكاملية والمدرسة التجارية أكبرَ الثانويات في البلد، تَخرّج فيهما كثير من الأطباء الأولين كالدكتور حمدي الخياط شيخ الأطباء والدكتور محمد سالم والدكتور طاهر الطنطاوي والدكتور سهيل الخياط (وقد ذهبوا جميعاً إلى رحمة الله)، وتخرّج فيها كبار الموظفين كالأستاذ فؤاد المحاسني. وكانت المدرسة التجارية من أوائل المدارس التي عُنيَت بالرياضة وأقامت لها ملعباً فنياً فيه من الأدوات ما كان جديداً في تلك الأيام، كما أن المدرسة الكاملية كانت من أوائل من اعتنى بالتمثيل، وكان الذي يؤلّف الرواية ويُعِدّها (ويجهل أكثر الناس أنه من رواد التمثيل) هو الدكتور أسعد الحكيم رحمه الله. كما جاء بعده بعشر سنين رائد آخر كان يتفجّر يومئذ نشاطاً وعملاً وإنتاجاً، يؤلّف الرواية ويعلّم التلاميذ تمثيلها ويدرّبهم على إلقاء حوارها، وهو الذي ابتدع فنّ الإلقاء، فكان يضع للقصيدة الشعرية مثل النوتة الموسيقية التي يضعها الملحّن للأغنية، هنا يُشَدّ الصوت وهنا يُرخى وهنا يعلو وهنا ينخفض وهنا يُمَطّ وهنا يُقطَع ... وأنا أستحي أن أذكر اسمه لأنه يشبه اسمي! وقد مُثّلت له في المدارس مسرحيات ربما حضر بعضَها قريبٌ من الألف، كما كانوا يحضرون مسرحيات الرائد الأول الدكتور أسعد الحكيم، وكان يُعاد تمثيلها ليالي كثيرة متعاقبة، وكان يعاونه على إخراجها وتلفيق الثياب الصالحة لها ونصب مسرحها رجل عبقري ولكن لا

حظَّ له، كان ضابطاً في الجيش العثماني ثم صار محامياً، وكان أديباً يكتب ويَنْظم ولكن لم يعرفه الناس، عاش فقيراً مغموراً، هو الصديق الأستاذ أحمد حلمي العلاّف رحمه الله ورحم كل من ذكرت. ومن المدارس الأهلية التي كان لها دور ظاهر في النهضة التعليمية «الكلية العلمية الوطنية»، وكانت مدرسة ثانوية سُمّيت كلّية يوم لم يحدَّد المعنى الاصطلاحي لكلمة الكلية، أسّسها الشيخ محمد خير (أو أبو الخير الطبّاع)، وكان مديرها على عهدي الدكتور منيف العائدي الأستاذ في كلية الطب التي كانت تُدعى معهد الطب. وكان في الجامعة السورية معهدان (أي كلّيتان) هما معهد الطب ومعهد الحقوق، ولمعهد الطب فرعان: للصيدلة ولطب الأسنان. ثم افتُتحت دار التوليد وبُني لها هذا البناء، فرع للقابلات والمولّدات، فلا يجوز أبداً في شرعة الدين ولا في قانون الأخلاق أن يولّد المرأةَ طبيبٌ أجنبي عنها، لا يجوز له النظر إلى ساعدها ولا إلى ساقها فكيف يكشف -بلا ضرورة ولا داع- عن أخفى مكان فيها؟! والإسلام دين وسط، لا يقول للمرأة ولا لزوجها ولا لأبيها إذا تعسّرَت ولادتها وتعرّضَت للخطر: دعها تموت كيلا يراها الأجنبي! ولا يأذن لها ولا لأبيها ولا لزوجها أن تكشف للطبيب الأجنبي عمّا أمرها الله بستره عنه بلا داعٍ ولا ضرورة، فليتنبّه لذلك النساء وليتنبّه لذلك الأزواج والآباء. وكان في المدارس المشهورة مدرسة قديمة يقوم عليها مربٍّ قديم، لبث يعلّم أكثر من سبعين سنة، تَعلّم والدي عنده ثم صار معلّماً في مدرسته، وتعلّمت أنا عنده ثم صرت معلماً في

مدرسته، ورأيت في السجلاّت أنه كان من تلاميذه الولد وأبوه وجدّه، ثلاثة بطون تعاقبت على الدراسة في مدرسته والتلقّي عنه! وكان معلّماً قديراً وكان خطّاطاً وكان مربّياً عظيماً، وهو من الذين تركوا في نفسي أعمق الأثر، هو الشيخ عيد السّفَرْجلاني الذي كتبتُ عنه كثيراً وتحدّثت عنه كثيراً ولم أوفِه من حقّه إلاّ قليلاً. لم يكن يجمعنا ليُلقي الموعظة علينا يبدؤها كما تبدأ خطبة الجمعة بالحمد لله والصلاة على النبي ‘، وإن كان ذلك من السنّة لا نكران له ولا اعتراض عليه، ولكنه كان يراعي حالة الطلاب فيُلقي الكلمة علينا حين تجيء مناسبتها، يلقيها جاداً وهازلاً ومبتسماً وعابساً، وقد تأتي معها كلمة تأنيب أو شتيمة تنبّه لا تؤذي. وهي سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما قال لمعاذ: «ثكلَتك أمك»، أي «عدمتك»، وما أراد الدعاء عليه، ولو دعا عليه لاستجاب الله دعاءه في الحال. وكما قال: «عليك بذات الدين تَرِبَت يداك»، أي صرتَ على التراب، كما نقول نحن اليوم: "أفلس فلان حتى صار على الحديدة" وكما تقول العرب: "أرمل القوم" أي صاروا على الرمل، وفي القرآن {يَتيمَاً ذا مَتْرَبة}. وقد وجدتُ بالتجرِبة الطويلة أن هذا الأسلوب في الوعظ هو الذي يبقى وهو الذي يُفيد. كان القائمون على هذه المدارس شيوخاً صالحين يخافون الله ويحرصون على تنشئة الأولاد على خوف الله، ولكن أسلوبهم في التربية ونظامهم في التعليم أسوأ أسلوب يخطر على البال وأبشع نظام؛ كانوا يراقبون التلميذ في المدرسة، ويبعثون من رفاقه من يراقبه في الطريق فيرفع عنه التقارير السرّية إلى المدير.

يعلّمون الطلاب التجسّس على إخوانهم! وكانت عمدة التربية بالفلق (الفلق الذي يسمّيه العامة الفلقة أو الفلكة)، وكان الآباء يعاونون المعلّمين على هذا فيقولون لمدير المدرسة حين يسلّمونه أولادهم: لك اللحم ولنا العظم! كان الضرب بالعصا ووضع الأقدام في الفلق هو عماد التربية، ولقد رأيت بعيني مشاهد أخشى إن رويتُها أن لا تصدّقوها، ولعلّي أشرت فيما مضى من هذه الذكريات إلى بعض منها، هي أن مدير مدرسة كان عنده تلميذ جاء أبوه يطلب أن يأخذه معه قبل أن تنتهي الدروس، وكان الأب من قبل تلميذاً عند الشيخ (¬1)، فأبى أن يسمح له بإخراجه، فجادله الأب، فأمر الشيخ شابّين قويَّين أن يمسكا الأب ويضعا قدميه في الفلق وضربه أمام الولد وأمام التلاميذ! ومما رأيت أن مديراً آخر (¬2) أراد أن يدرّب الطلاب الكبار في مدرسته على تعليم الأطفال الصغار، ومرّ عليهم يرى تدريسهم فأبصر من أحدهم خطأ فضربه أمام التلاميذ الذين يعلّمهم! ولقد كان من أثر هذه التربية وأثر الكُتّاب الذي قضيتُ فيه قبلها يوماً واحداً أو بعض يوم أن أورثَتني كرهاً دائماً للمدرسة وبغضاً لا يزول لها من نفسي، حتى إنني لأفرح يوم العطلة كما أفرح إن غاب المدرّس أو شُغل عن الدرس، وبقي ذلك بعدما صرت معلّماً ابتدائياً ثم صرت مدرساً ثانوياً ثم صرت أستاذاً جامعياً. بل إنني لأفرح الآن إذا هتف بي (أي كلّمني بالهاتف) ¬

_ (¬1) هو الشيخ شريف الخطيب مدير المدرسة الأمينية، وهو ابن خالتي. (¬2) هو الشيخ محمود العقاد تلميذ أبي وأستاذي.

مخرج برامجي في الرائي أو الإذاعة يُخبِرني أن يوم التسجيل قد أُجِّل أو خُبِّرت أن المحاضرة التي حُدّدت ساعة إلقائها قد أُلغيَت أو أن المقالة التي كُلِّفت بها قد صُرف النظر عنها. صِرتُ أوثر الكسل وأكره العمل وأؤخره إن لم أجد منه مهرباً إلى اللحظات الأخيرة، فلا أكتب المقالة ولا أُعِدّ الحديث ولا أهيّئ المحاضرة إلاّ حين لا يبقى بيني وبين إلقائها إلاّ وقت إعدادها. وإني لأعجب أن أجد الآن فيما أقرأ من المقالات أو أستمع في الندوات مَن يحنّ إلى عهد الفَلَق ويبكي عليه ويتمنى أن يعوّد أولاده عليه! وأعجب منهم الذين يَدْعون إلى إرجاع الكتاتيب ويُثنون عليها ويحمدون أيامها. ولقد كان في حيّنا في دمشق، حي العُقَيْبة أمام جامع التوبة، مدرسة أثرية هي المدرسة الآجرّية (التي صارت الآن مكتبة عامة) كان فيها كُتّاب أخذني جدي إليه وأنا ابن خمس سنين، وكان الكتّاب مغلق الباب مسدود النوافذ، ولم يكن فيه مقاعد، وكان الأولاد يجلسون على الأرض في صفوف تتراصّ حيناً وتنفسح حيناً، تبعاً لحالة السوق وكثرة الأولاد. إلاّ أن المعروف عن الكُتّاب أنه كجهنم لا يردّ آتياً، وأن الشيخ مستعدّ أبداً لحشوه بالتلاميذ وواثق أنه لن ينفجر من قلّة الهواء وكثرة التنفس وانعدام النوافذ. وكان الصبيان يخلعون أحذيتهم (وأنا أقول «أحذيتهم» على المجاز، وإلاّ فهي القباقيب غالباً) يخلعونها عند الباب ثم يدخلون فيقبّلون يد الشيخ، أو يضعونها أمامهم بجانب اللوح والصبرة (أي كتاب الهجاء والغَداء) ويجلسون جلسة واحدة إلى المساء، لا يقومون إلاّ للشرب من البِركة القريبة من الكُتّاب ذات

الماء الملوَّث، يُدخِلون فيها رؤوسهم ويعبّون عبّاً كالجمال، وإلاّ لقضاء الحاجة، ويسمّونها «الدّستور»، فإذا رفع الولد أصبعه وقال «دَسْتور» عرف الشيخ أنه خارج لقضاء حاجته في مراحيض المسجد أمام الكُتّاب. أما الطعام فكانوا يأكلونه وهم قعود في أماكنهم عندما يسمعون المؤذّن ينادي بالظهر، أو يلتهمون اللقمة إثر اللقمة في غير وقت الظهر من غير أن يراهم الأستاذ، أعني الشيخ. وللحديث بقايا عن المدارس والكَتاتيب، وعن المصايف والاصطياف، وعن الاستفادة من العطلة في تغذية العقل بالمطالعة وتقوية الجسد بالرياضة. بقايا ستأتي إن شاء الله. * * *

ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2)

-241 - ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2) وضعت عنواناً لهذه الحلقات «العطلة الصيفية في دمشق»، ولكن طال الطريق إليها فلم أطرق بابها، وإنما تكلّمت عن المدارس التي كنت فيها ولم تكن تعرفها. تكلمت عن «الكُتّاب» ولم أكمل حديثه، وما هو بالحديث اللَذّ الممتع، ولولا أن أساتذة أفاضل يكتبون في الثناء عليه والدعوة إلى العودة إليه ما عرضت له ولا تكلمت فيه. قلت لكم إن جدّي أخذني إليه فبقيتُ فيه بعض يوم، ولكن مرارته لم تذهب من حلقي إلى اليوم؛ لا أزال أحسّ بها كأنما تجرّعت بالأمس غصصها! وقد مات جدي الذي أخذني إلى الكتّاب سنة 1332هـ، أي من ثلاثة أرباع القرن، ولكن ثلاثة أرباع القرن لم تُشفِني من الصدمة التي ضعضعت نفسي في تلك الساعات الثلاث التي قضيتها في الكتّاب. أفلا يتصور دعاة الرجوع إليه أن للأطفال قلوباً ومشاعر، وأنهم يُسَرّون ويَألمون كما يألم الكبار ويُسَرّون، وأن ذكريات المسرّات والآلام في بواكير العمر تُختزَن في نفوسهم فتضيء لهم طريق العمر كله أو تجعله ظلاماً؟

قلت لكم إننا كنا نقعد على الأرض، على حصير قديم لعلّ تحته حديقة حيوانات صغيرة فيها من كل حشرة زوجان! وإن علينا أن نقرأ النهار كله، أو نحرّك ألسنتنا ونُخرِج أصواتاً كأننا نقرأ، وأن نضجّ ضجّة مستمرّة يسمعها مَن يمشي في الطريق فتكون إعلاناً عن الكتّاب، يقول للناس: "أنا هنا"، ويا ليته ما كان هناك! وإننا كنا نختلس قضمة من الطعام الذي حملناه معنا ووضعناه بين أيدينا، فإن رآنا الشيخ بعينه تناولَتنا يده بعصاه وهو قاعد مكانه لا يفارقه، لأن بين يديه عصيّاً ثلاثاً: طويلة وقصيرة وعصا بين الطول والقصر، ينظر مكان الصبي ثم يتناوله بالتي تصل إليه منها. والشيخ دائم العبوس، لا يبتسم إلاّ يوم الخميس حين يأتيه الولد بالخميسية، وهي الأجرة المفروضة عليه. وتكون سعة ابتسامته بمقدار كثرة القروش التي تُحمل إليه! ثم يعود إلى العبوس والتقطيب، كأنه شمس شباط (فبراير) في الشام حين تُطِلّ لحظات ثم يطويها تراكم السحاب. أخذني جدي إليه فاحتفل به شيخ الكُتّاب احتفالاً عظيماً، لِما كان له من العلم والفضل والوجاهة أو لِما يطمع فيه من خميسيته المباركة. وبالغ في هذا الاحتفال حتى إنه وضع حذائي تحت سريره إلى جنب حذائه، أي حذاء الشيخ، وكان ذلك شرفاً عظيماً ما ناله من قبلي أحد. وما أدري أكان ذلك لمجرد الحفاوة والإكرام أم لزيادة التضييق والمراقبة، ولكن الذي أدريه أن جدّي قد خرج، فذهبت لألحق به فأمسكوني وأجلسوني عنوة، ولمّا صحت وبدأت أحتجّ لوّح الشيخ بعصاه فوق رأسي وكشّر لي عن أنيابه، فتكونَت في نفسي تلك اللحظة النفرة من المدرسة

والكراهية لها، وبقيَت إلى الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات. وقعدت يائساً لا أعلم لماذا يحجزونني ويخنقونني، وقد كنت أعيش كما أريد لا تُرَدّ لي رغبة ولا يقف دون إنفاذ مطالبي شيء، وكنت أربّى تربية الدلال لأن جدّي رُزق عشرة من الولد فذهبوا جميعاً ولم يبقَ منهم إلاّ أبي، وكنت ولده البكر، فدلّلوني هذا الدلال الرخو المائع الذي بلغ من أمره أنهم أقاموا حفلة في البيت عندما كسرتُ أول إناء: "لقد كبر الصبيّ ولله الحمد وصار يستطيع أن يكسر الأواني"! وإنه كان عندنا مرة حفلة عائلية، فخطر في بالي أن ألعب بالزائرات فأُقيم هذه على قدم واحدة وأرفع ذراعَي هذه، فكان لي ما أردت واضطُرّت زائراتنا الكريمات إلى الخضوع لهذه الرغبات، أي هذه الحماقات! فكيف انتقلت منها مرة واحدة إلى حياة الكُتّاب السمجة الثقيلة؟ نقلة لم يستطع عقلي الصغير أن يفهم لها تأويلاً، فقعدتُ أنظر إلى الباب كما ينظر القطّ إلى الفريسة لينقضّ عليها، فلما رأيت جدّي ماراً في الطريق خارجاً من المسجد وجدت الفرصة قد جاءت، فقفزتُ قفزة واحدة كالقطّ وتبعته حافياً، وكان ذلك نتيجة لِما كنت فيه وما صرت عليه، ليس فيه شيء من قصد الإجرام ولا من روح الشرّ وليس بالإمكان أن يكون الطفل مجرماً، ولكن شيخي عدّها جريمة، وأطلق ورائي صبيان المكتب كما يُطلق الصيّادُ كلابَه وراء الأرنب المسكين، فازددت منهم فزعاً وللمدرسة بغضاً وأطلقت ساقَيّ الصغيرتين للريح، ولكني اضطربت فلم أدرِ أيّ طريق آخذ بعد اختفاء جدّي عن عيني، فسقطتُ وسال الدم من أنفي، وأدركني الأولاد فلم يرحموني

ولم يمسحوا عني دمي، ولكنهم اقتادوني إلى شيخهم كما يُقتاد المحكوم عليه إلى خشبة المشنقة. * * * يقول الذين يمدحون هذه الكتاتيب أنها تحفّظ القرآن، وهذا صحيح، ولكنْ من أين لهم أنّ القرآن لا يُحفَّظ إلاّ بهذا الأسلوب؟ ألا يمكن أن يحفظه الأولاد وأن يجوّدوه وأن يُحسِنوا تلاوته من غير عصا شيخ الكتّاب؟ أسألكم والمثَل قائم أمامكم: هذه مدارس تحفيظ القرآن التي انتشرت في كل مدينة وكل قرية في المملكة، جزى الله مَن فكّر فيها ومَن أيّدها ومن أعانها ومن يقوم عليها خير الجزاء. ألا تسمعون وترون الولد الآن يحفظ الجزء الكامل من القرآن ويتلوه مع التجويد والأحكام قبل أن يُتقِن تعلّم الكلام، ويحفظ الأجزاء الثلاثة أو الأربعة أو القرآن كله أحياناً وهو ابن أحد عشر عاماً؟ أين هذه المدارس من تلك الكتاتيب؟ تلك كنا نُساق إليها باكين وهذه يتسابق الأطفال إليها ضاحكين، تلك كانوا يُدفَعون إليها بالعصا وهذه يُدعَون إليها بالهدايا والرغائب. يمكن إذن أن نصل إلى الثمرة من الجادة السهلة النظيفة، فلماذا تريدون أن نعود إلى الطريق الوعر الوسخ المليء بالأشواك وبالأوحال؟ أما المدارس الأهلية التي كنت فيها فقد كان فيها خير كثير، علّمتنا الدينَ ونشّأتنا على التقوى، ولكن الثمن كان غالياً

والطريق شاقاً. فهذه الكتاتيب وهذه المدارس الأهلية كالدنيا: فيها ليل ونهار. فما لنا نذكر نهارها وننسى ليلها؟ ما لنا نُبصِر مزاياها ونُغمِض عن عيوبها؟ إنها تهتمّ بالدين، والدين هو الأساس لكل بناء خير، ولكنهم كانوا يلقّنون الدين بطريقة تنفّرنا من الدين؛ يسقوننا الشراب النافع، ولكن لا يرغّبوننا فيه ويجمّلونه في أعيننا ويضعونه في الآنية النظيفة على المائدة التي فيها الورد والفلّ، بل يضجعوننا كما تُضجَع النعجة للذبح ويمسكون بأيدينا حتى لا نتحرك، ويفتحون أفواهنا بذنَب الملعقة ويصبّونه فيها صباً يكاد يخنقنا! وكان من السهل عليهم (لو أنهم أرادوا) أن يفتحوا شهيتنا إليه ويثيروا رغبتنا فيه فنمدّ إليه أيدينا راضين ونشربه فرحين، ولكنها كانت هي الطريقة المتّبَعة على ما فيها من عوج. وقد بقي من هذه الطريقة بقيّة إلى اليوم قاصرة -مع الأسف- على بعض دروس الدين. * * * هذه المدارس لم تكن فيها عطلة صيفية؛ كنا نذهب إليها كل يوم في الصيف وفي الشتاء، في أيام الفطر وأيام الصيام، لا نعطل إلاّ أيام الجمعة وسبعة أيام في العام هي أيام العيد. وما كانت الطرق مزفَّتة (ولا تقولوا مسفلَتة) ولا نظيفة، بل كانت أرضها في الشتاء إذا نزل المطر وحلاً نخوض فيه إلى قريب الركب، يملأ رشاشه ثيابَنا من الظَّهر إلى قرب الخصر، فإذا جاء الصيف جفّ فصار تراباً يملأ أكتافنا ويستقرّ في صدورنا. وكانت السيارات في دمشق كلها تُعَدّ على أصابع اليدين، بل على أصابع

اليد الواحدة. وأنّى لأمثالنا ركوب السيارات؟ وعربات الخيل كانت غالية علينا، ثم إنها لا تمشي إلاّ في الطرق العِراض ونحن نسلك إلى المدرسة أزقّة وحارات، والترام له خطوط محدودة لا يصل إلاّ إلى أحياء السفح، سفح قاسيون وإلى الميدان، فكنا نمشي على أقدامنا. هذه كانت حياتنا، وكنا صابرين عليها راضين بها، ما كان عندنا ما يشغلنا عن الدراسة وعن الجِدّ وعن العمل النافع إلاّ ألوان قليلة من اللهو الحلال الذي لا مضرّة فيه ولا خشية من عواقبه. ما كان عندنا ولا كان في الدنيا كلها إذاعات نستمع إليها، ولا رائيات (تلفزيونات) نعكف الساعات الطويلة عليها، ولا مجلات مسلّية (أو مُفسِدة) نقرؤها. وأكرر القول إننا كنا مع هذا كله راضين، فما لأبناء هذه الأيام لا يقدّرون ما أنعم الله به عليهم وأوصله إليهم: السيارات تحملهم من باب الدار إلى باب المدرسة، والدراسة لا تجاوز نصف النهار، والعطلة قد تأخذ ربع السنة أو أكثر (وقد امتدت في العام الماضي أربعة أشهر)، وأساليب التدريس اليوم لانت شدّتها وسَهُلت وعورتها، والضرب ممنوع والعصا قد أُلغيت. على أن الناس لم يكونوا على أيامنا يحتملون هذه العطلة، فكان تلاميذ المدارس الأميرية يأخذهم آباؤهم إلى المدارس الأهلية التي لا عطلة فيها ليقضوا فيها أيام الصيف، فكانت تمتلئ إذا فرغت الأخرى. وكان التجّار من أهل الشام يصحبون أولادهم معهم إلى متاجرهم بعد خروجهم من هذه المدارس التي أدخلوهم في الصيف إليها، يعلّمونهم من الصغر كيف يبيعون ويشترون وكيف

يأخذون ويعطون، فيكبرون وهم لا يزالون في عهد الصغر. وأهل الشام أبرع الناس في التجارة وأحرصهم عليها، إلاّ الأقل الأقل منهم. وكنت أنا وإخوتي من هذا الأقل، إذ لم يكن أبي تاجراً ولا جدّي، وإنما كان صاحب علم وجليس كتاب. وبراعة أهل الشام في التجارة فيها تفسير هذه الظاهرة التي كُتب عنها كثير من الكتب، هي أن اليهود قبل أن يسرقوا فلسطين وقبل أن يظاهرهم ويعينهم على سرقتها قوم آخرون، كانوا في كل بلد دخلوه أصحاب المال فيه وكانوا كبار تجّاره والقابضين على أزمّة اقتصاده، إلاّ الشام، فما جاوز اليهودُ عندنا أن يكونوا أصحاب ربابيكا (كما يقول العامة في مصر) عملهم الأوحد هو أن يحملوا أكياساً طويلة ويدوروا على البيوت ينادون: "أَواعي (¬1) عُتُق للبيع، أشياء عتيقة للبيع، أشياء عتيقة للبيع". كان هذا عملهم، وكان لهم عمل آخر اختصّوا به هو المتاجرة بنسائهم، لأن اليهود في البشر كالخنازير في الحيوان، ليس عندهم غيرة على إناثهم. ولم ينفرد أهل الشام في البراعة في التجارة، بل كنت أرى وأنا صغير جماعة من أهل نجد يمشون إلى العراق وإلى الشام، وقد استقرّ فريق منهم فيها؛ رأيتهم في الزُّبَير لمّا ذهبت ماشياً إليها مع طائفة من تلاميذي في البصرة، وقد سبق الحديث عن هذا، ورأيتهم في البصرة وكانوا من وجوه أهلها، وقد دعانا مرة رجل كريم بيته مفتوح للضيوف هو من آل أبا الخيل (وقد نسيت اسمه، ¬

_ (¬1) هي الملابس باللغة الدّارجة في الشام. ولعل أصلها من مادة «وعى»، فمن معانيها ما يحتمل تنزيلَه على اللباس (مجاهد).

ويذكره الشيخ محمد محمود الصوّاف الذي أخذني إليه)، كما عرفت من الشباب الصالحين السيد سعود العقيل كان من طلاب الثانوية في البصرة. وكان هؤلاء النجديون يُعرفون عندنا بالعقيل (أو العقيلات)، يتاجرون بالإبل وغير الإبل ويدلّون القوافل على الطريق لمّا كان الحج بالبَرّ، وكانوا معروفين بصدق القول واستقامة السيرة وحسن المعاملة، وأظنّ أن ممّن كان عندنا منهم آل الروّاف وآل البسّام وآل الشبل، وجماعة آخرين نسيت أسماءهم. ومن مدن الشام، والشام في عرف العرب كل ما ولي تبوك من الشمال، بل ربما اتصلت به أطراف العراق: بلد واحد فرقه الأعداء، كما قال صديقنا الكبير الشيخ رضا الشّبيبي (الذي سبق ذكر فضله عليّ لمّا كان وزيراً للمعارف سنة 1936 وكنت مدرّساً في العراق)، قال: ببغدادَ أشتاقُ الشآمَ وها أنا ... إلى الكَرْخِ من بغدادَ جَمُّ التّشَوُّقِ هما بلَدٌ فردٌ وقدْ مزّقوهما ... رمى الله بالتشتيتِ شملَ المُمَزِّقِ أقول: إنه كان من مدن جنوبيّ الشام بلاد لم يستطع أن يعيش فيها قبل ضياع فلسطين يهوديّ واحد، كالخليل ونابلس، فصاروا الآن يجولون فيها ويصولون ويعيثون فساداً في الأرض لأنهم شعب الفساد والإفساد. وما بقوّتهم سطوا، ولكن بضعفنا وتفرُّقنا وأننا أبعدنا الإسلام عن معركتنا في فلسطين، فلم نجعلها جهاداً إسلامياً (¬1) بل حرباً وطنية ومعركة قومية، فكأن الله يقول لنا الآن: ¬

_ (¬1) حتى جاءت هذه الانتفاضة سنة 1408، خرجَت من المساجد تلبس ثوب الإيمان، فأعطاها الله النصر وأدهش منها أهل الأرض.

"لِتَنصرْكم قوميتكم وعروبتكم ما دمتم أعرضتم عن نصرة ربكم فلم تنصروه لينصركم". فهل اعتبرتم؟ لقد خسرتم فما أغنَت عنكم قوميتكم ولا عروبتكم، فهل تعودون الآن إلى ربكم، تستغفرونه وتتوبون إليه وتجاهدون في سبيله ولإعلاء كلمته، وتستمطرون النصر منه باتّباع دينه والتمسّك بشريعته؟ أم أنتم محتاجون أن تستمرّ التجرِبة حتى تضيّعوا آخر ما بقي لكم؟ إنه والله لعجب يعجب منه العجب: رجل يقاتل عدوّه بالبندقية القديمة الصدئة التي ورثها عن جدّه، وأمامَه الرشّاش فلا يمدّ إليه يده وبين يديه القنبلة فلا يلتفت إليها ولا يحارب بها! أليست دعوة القومية المخالفة للإسلام هي البندقية القديمة الصدئة؟ أليست هي العصبية الجاهلية التي نهانا الإسلام عنها؟ لماذا نطلب المساعدة من عشرين مليوناً من العرب غير المسلمين (إن كانوا يبلغون العشرين)؟ نُقبِل عليهم وهم يُعرِضون عنا، ونبسم لهم وهم يعبسون في وجوهنا، ونُخلِص لهم وهم يكيدون لنا، يكذّبون رسولنا ويحاربون ديننا ويكونون دائماً مع عدوّنا علينا، وندع ثمانمئة مليون مسلم غير عربي هم منا، يمدّون الأيدي مخلصين إلينا، دينهم ديننا وقرآنهم قرآننا وعقيدتهم عقيدتنا! لقد جرّبنا، فهل بعد التجرِبة من برهان؟ جرّبنا رفع راية الإسلام بيد صلاح الدين فكانت حطّين، وكان بعدها استرداد فلسطين ثم كان طرد الواغلين الغاصبين، فخبّروني يامن رفعتم راية القومية ونكستم راية الإسلام، وقلتم «عرب» ولم تقولوا «مسلمون»، تنادون كل يوم من إذاعتكم صباح مساء: "أيها الإخوة في العروبة"، ونسيتم الأخوّة التي قرّرها ربّ

العالَمين وهي أخوّة الإيمان، خبروني: ماذا أجْدَت عليكم؟ * * * أمّا سؤال صاحب الرسالة عنا في الصيف: أين كنا نصطاف وكيف كنا نهرب من حرّ دمشق؟ فجوابه في الحلقة الآتية إن شاء الله. * * *

هذه الحلقة من الذكريات مسروقة

-242 - هذه الحلقة من الذكريات مسروقة كان العزم أن يكون موضوع هذه الحلقة عن الاصطياف، ولكن هل يحتاج مَن يسكن دمشق إلى اصطياف ودمشق كلها مَصِيف؟ ولقد كان من إخواننا من كرام الأساتذة في المملكة وفي العراق مَن يؤمّ دمشق نفسها يقضي الصيف فيها، كان صيفها كالربيع في بلاد الناس، فما الذي بدّل حالها؟ أنا حين أسمع الآن في النشرة الجوية أن الحرارة في دمشق قد جاوزت الثلاثين أفرك أذني، أتبيّن هل سمعتا حقاً أم أسمعتاني ما لم يقُل المذيع؟ لقد بلغتُ هذا العمر وما عرفت في دمشق يوماً تصل حرارته إلى الثلاثين أو تقاربها. ولعلّ دمشق التي أتكلم هنا عنها غير دمشق التي يراها الناس اليوم، إنما أعني دمشق طفولتي وصباي، فكيف أحدّ لكم حدودها وأعرض عليكم معالمها، وقد ذهب ذلك كله مع أمسِ الدابر وجاء بعده بلد جديد؟ إذا رأيتَ الرجل الكبير، وكنت تعرفه طفلاً صغيراً حلواً مبرّأ من العيب خالصاً من الشرّ، بعينيه الصافيتين اللتين تُشِعّان

بالإخلاص وتوحيان بالحب، وفمه الباسم الذي لا ينطق بالفحش ولا يعرف الكذب، وروحه التي تحسّ بها شفّافة تنشر الطهر كأنها قطعة ألماس ينبعث منها مئة شعاع من النور ... هل تستطيع أن تُريني ذلك الطفل وأنا أبصر هذا الرجل؟ إنه منه ولكنه ليس إياه، إنه هو نفسه ولكنه غيره. أترونها أحجية من الأحاجي (أو هي حزّورة أو فزّورة كما يقول العوام)؟ إن الإنسان نفسه أحجيّة الوجود؛ «جرمٌ صغيرٌ وفيه انطوى العالَمُ الأكبرُ»، واقف في مكانه وذهنه يتحرك يقطع ما بين المشرق والمغرب، بل ما بين الأزل والأبد، في أقلّ من ثانية. ضعيف ولكنه قوي، ضعفه محقّق وقوته تتحقق إن كان لها مدد من قوة الله، وإلاّ فهي قوة مزعومة لا تقوى على أهون ما خلق الله من دقائق الحيوانات التي لا تراها عين ولا تلمسها يد، ومنها ما لا يُرى حتى بالمجاهر الكهربية. لا أقول إن دمشق التي فتحتُ عيني عليها وقضيت صباي فيها كانت خالية من الآثام معصومة من المعاصي، فالبشر بشر، ما كانوا قطّ ملائكة، ولو خلا ذلك من بلد لخلت البلدة التي مشى رسول الله ‘ على أرضها وعاش فيها ودُفن في ثراها، لخلَت مدينة رسول الله على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو نجا من ذلك جماعة لكان الناجون صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا أنقى الجماعات البشرية وأتقاها وأطهرها وأفضلها، حاشى الأنبياء والرسل. ولقد وقع فيها حتى على عهد رسول الله ‘ شيء من المعاصي، من السرقة ومن الزنا، ولكنه قليل قليل حتى ليُعَدّ من النادر، والنادر -كما قيل- لا حكيم له. وكان في دمشق شيء من اللهو الحرام نسمع به من بعيد

ولانراه، يقوم به غير المسلمات، فالمغنّيات اللواتي كانت تتسرّب إلينا أسماؤهن (بنات مكنو) كُنّ من اليهوديات، ومن أغراه الشيطان فطلب الفاحشة وجدها أكثر ما يجدها في حارة اليهود، فاليهود هم شِرار الناس والشرور مصدرها دائماً إبليس واليهود. * * * ولقد هممت قبل أن أتكلم عن الاصطياف في دمشق التي عرفتها وأنا صغير أن أجلو للقراء صورة منها ووصفاً لها، فوجدت مقالة منشورة من قديم، فأغراني الشيطان بأن أسرقها. وأحسب أنكم تذكرون حديثي في الرائي (التلفزيون) من سنين عن السرقات الأدبية قديمها وحديثها، الذي فصّلت فيه من أمرها ما لا أستطيع أن أعود إليه اليوم. وإن كانت السرقات مستمرّة باقية لا يكاد يسلم منها إلاّ قليل ممن عصم الله. ولقد نشرَت الجرائد من عهد قريب أن أحد كبار رجال الدعوة إلى الله، وهو شابّ له على شبابه وحداثة سنّه منصب عالٍ في مجال الدعوة يكاد يكون أحد الرؤساء فيها، قالت الجريدة إنه سرق من «الظلال» فصلاً نسبه إلى نفسه وطبعه في رسالة نشرها باسمه. وعجبتُ وأنكرت الفعلة ولا سيما أنها جاءت من مثله، وكنت أرقب أن يعجب الناس وأن يُنكِروا هذا المنكَر، ولكن الخبر مرّ مرّ النسيم، لا يحرّك غصناً من شجرة ولا يُثير غباراً من قاع، فكأن الناس قرؤوه ولم يبالوا به. وكتاب «في ظلال القرآن» طالما عدا عليه العادون وسرقوا منه فصولاً جعلوها رسائل وكتباً، وأرجو أن يكون ذلك زيادة في ثواب مؤلفه رحمه الله. ولي مع الشهيد السعيد سيد قطب

تاريخ طويل، فلقد رافقته في دار العلوم بالمنيرة في القاهرة سنة 1347هـ، وكنا في مقعد واحد. ثم نسيني ونسيته، وكانت معركة الرافعي والعقاد، فدخلت فيها وما أنا من أقطابها، فكنت مع العريان وشاكر عليه، فشتمني وشتمته. ثم كتب الله له الخير، والله يُعطي من يشاء بغير حساب، فسلك غير طريق النقد وتبرّأ من أكثر ما كان كتب فيه وصار من أركان الدعوة إلى الله، فأحببته من قلبي، وأظن أنه أحبّني، وطالما لقيته بعدُ ولقيَني ونُشرَت لنا صور وجمعتنا مجالس. ولست أعيد هنا ما كنت قلت في السرقات الأدبية فإن القول فيها لا يزال ذا سعة: عمّن يريد أن يكون كاتباً وهو لا يزال طالباً، ومن يحب أن يغدو عالِماً وهو ما انفكّ متعلّماً، ومن يهوى (والهوى ليس هوى الغيد الحسان فقط، بل إن في الدنيا هوى المجد المبكّر والغنى المستعجَل والجاه الهيّن السريع، وكل هوى يُعمي ويُصِمّ) قلت: إن في الناس من يهوى أن يكون معروفاً قبل الأوان وأن «يتزبَّبَ قبل أن يَتَحَصْرَم» كما تقول العرب؛ وتفسيره أنه يريد أن يكون زبيباً قبل أن ينعقد حصرماً. نرى ذلك كله ونسمع من الإذاعات مثله؛ إننا نسمع من الإذاعة كل إحدى عشرة ساعة نشيداً يُذاع ستّ مرّات على أنه من نظم فلان ومن تلحين فلان، وما فلان الأول إلاّ مقلّد وما الثاني إلاّ سارق، وأصل النشيد لشيخنا الرافعي ومطلعه «بلادي بلادي فداكِ دمي»، وهو الذي يقول فيه بيتاً أنكرتُه عليه ونشرت إنكاري، فما غضب منه بل أقرّه، وهذا البيت هو: غرامُكِ أوّلُ ما في الفؤادِ ... وذِكرُكِ آخِرُ ما في فمي

/فقلت له: بل آخر ما يتمنى المسلم في فمه ذكر الله وشهادة أن لا إله إلاّ الله، فاعترف بذلك رحمه الله ولم يُنكِره عليّ، بل شكره بلسانه لي، هذا وأنا أُقِرّ أنني تلميذ من تلاميذ الرافعي. نشيد الرافعي هذا جاء مَن بدّل كلماته فقال (وأشهد أنه أحسن فيما قال): «بلادي بلادي منار الهدى»، وجاء من أخذ اللحن نفسه وادّعاه له وزعم أنه هو الذي وضعه، مع أنني أحفظ هذا اللحن ويكاد يحفظه من المصريين من لست أحصيهم عدداً من قبل أن يولَد هذا الأخ الكريم الذي يدّعي أن اللحن من وضعه، فكان مثاله كمن يزعم أن قلعة أجياد هي دار جده، ورثها عنه أبوه وانتقلت بالإرث إليه من أبيه! السرقات كثيرة، وطالما سرق كبار الكتاب وأنكر الناس عليهم سرقاتهم: العقّاد سرق فكرة من شوبِنْهاور وأفكاراً من غيره، والمازني سرق من قصة ترجمها هو للكاتب الروسي هاتزيباشيف، ومن لم يسرق اقتبس كما قبس الموسيقي محمد عبد الوهاب من موسيقى الإفرنج جملاً كثيرة لا يعرفها ويميزها إلاّ من له بصر بالموسيقى، حتى إنني لأظن أن أغنيته «ما احلاها عِيشة الفلاّح» مقتبَسة -ولو من بعيد- من الأغنية المشهورة: «على بلدِ المحبوب ودّيني». وأعجب سرقة وأخفاها هي كتاب «الأحكام السلطانية». ومن يسرق كتاباً في النحو أو البلاغة أو الأدب لا يكاد يُكشف أمره لأنها علوم معروفة وطرق مسلوكة ومسالك مطروقة، أما كتاب الأحكام السلطانية فإن موضوعه مبتكَر، ما أُلّف فيه قبله ولا كُتب بعده -فيما أعلم أنا- إلاّ ما أُخذ منه. و «الأحكام السلطانية» كتابان

بين أيدي الناس، عنوانهما واحد وموضوعها واحد وترتيبها واحد وكل شيء فيهما واحد، إلاّ أن أحدهما يستشهد بأحكام الفقه الشافعي والآخر بأحكام من الفقه الحنبلي، ومؤلفاهما كانا يعيشان في عصر واحد وفي بلد واحد، وكلاهما كان قاضياً، وأحسب أنهما كانا في محكمة واحدة، وكلاهما عالِم كبير في مذهبه، هما: الماوَرْديّ الشافعي الملقَّب بأقضى القضاة، والقاضي أبويَعْلَى الذي إذا أُطلِقَ اسم القاضي عند الحنابلة انصرف إليه. فمَن منهما الذي أخذ من الآخر؟ معضلة مرّت عليها القرون ولم يستطع أحدٌ أن يحكم فيها بدليل. ولكن الذي يميل القلب إليه أن المؤلّف الأصلي هو الماوَرْدي الشافعي لأن له كتباً أخرى تشبه هذا الكتاب، وأبو يعلى -على علوّ قدره في الفقه- ما في كتبه ما يشبه هذا الكتاب، لا في ترتيبه ولا في أسلوبه. هذا والله وحدَه هو العالِم بحقيقة ما كان. * * * أمّا المقالة التي سرقتُها فقد وجدتُها في الرسالة في عدد 8 جمادى الأولى سنة 1366هـ، أي قبل إحدى وأربعين سنة. على أن الذي أغراني بالسرقة ومهّد لي طريقها وأعانني عليها، ولولا الحياء لقلت إنه شريكي فيها، هو وزير عريق في الوزارة، فهل يمسك الشرطيُّ مَن يكون شريكه في صنيعه الوزير؟ إنه معالي الشيخ إبراهيم العنقري الذي أهدى إليّ من شهور أثمن هدية وصلت يوماً إلى يدي وأحبّ الهدايا إلى قلبي، وهي المجموعة الكاملة لمجلة «الرسالة»، التي ردّت إليّ أياماً مضت من حياتي،

أعني أنها أعادت إليّ ذكراها، أما الأيام فلا يستطيع أن يُعيدها أحد. فكنت من فرحي بها أمسك مجلداً أقلّب فيه وأدعه فأمسك آخر، لا أملّ الرجوع إليها ولا النظر فيها، فوجدت مقالات لي عن دمشق كثيرة، دمشق التي أحبّتني حيناً كما أحببتها ثم أعرضَت عني وأولتني الصدّ بدل الودّ، وما عدلت أنا عن ودّها ولا جزيتها صداً بصدها، بل قلت ما قاله الشاعر القديم: وإنّ الذي بيني وبينَ بني أبي ... وبينَ بني عمّي لمُختلفٌ جدّا فإنْ أكَلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ ... وإنْ هدَموا مجدي بنَيتُ لهم مَجدا وبعد، فهذه المقالة كنت ناسيها، فلما وجدتها أحسست كأني وجدت بها الشباب، أروي منها ما يتّسع له المقام (¬1): دخلت مخزناً في القاهرة (وكنت تلك السنة مقيماً فيها) أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ كبير السنّ أبيض الشعر، كأن رأسه ولحيته -كما يقول العرب- الثَّغَامَة (وإن لم أرَ إلى الآن شجرتها ولم أعرف حقيقتها)، فالتفت إليّ وقال: أنت من دمشق؟ قلت: نعم. فسطع على وجهه نور وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة أحسستُ أنها مرّت في رأسه، وأخذ بيدي هاشّاً لي باشّاً في وجهي فأقعدني معه وقال لي: أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تَشرّفنا ياولدي. فتعالَ، تعالَ ¬

_ (¬1) مقالة «حديث عن دمشق»، وهي في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

حدّثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي وزاد إليها اشتياقي. حدّثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن الميزان: ألا يزال مثابة الطهر وموئل الجمال وجنّة الدنيا؟ ألا يزال السُّراة والتجار يصلّون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حقّ النفس بالتأمل كما قضوا في المساجد حقّ الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين ويعطيهم نعيم الدارَين؟ ألا يزال زاخراً بحِلَق الأحباب وجماعات الصحاب عاكفين على سَمَاوَرات الشاي، يشرفون على قَنَوات وباناس (من فروع بردى) وهما يخطران على العَدْوَة الدنيا من الربوة متعانقَين متخاصرَين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمَين خلال الورد والفلّ والياسمين كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة فيُلقيان عليهما حجاباً من زهر المشمش والرمّان، وعلى العَدْوَة القُصوى زوجان آخران حبيبان يمضيان يتناجيان: يزيد وتورا؟ وبردى، ألا يزال يدبّ في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بَنيه، ثم يلوي عن مشهدهم بصره وينطلق في طريقه لا يبالي، عاف الحب وملّ الغرام، وعلّمته تجارِب العمر أن كل ما في هذه الحياة باطل إلاّ ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو ومتاع زائل؟ وقاسيون، الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وماانفكّ شاباً، وشاخ ابن أخيه بردى ولم يشِخ. ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة الملك الجبار، قد رفع رأسه ومدّ ذراعيه فأحاط بهما دمشق وغوطتَها من الرَّبْوَة إلى بَرْزَة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب؟ واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس، ألا تزال الشمس تضحك لبردى

وأبنائه، وتستحمّ أشعتها في مائه وتسبح أنوارها في سمائه؟ وصدر الباز ومصطبة الإمبراطور والصوفانية والشاذِرْوان؟ حدّثني عنها، حدّث عن دمشق: ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ حدّثني عن برَكة ديارها ووَفرة ثمارها وكثرة خيراتها ورخص أسعارها واستقامة جمهور تجّارها: ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر فيغلقون دكاكينهم فيمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم، ثم يتعشّون قُبَيل المغرب ويؤمّون المساجد، فإذا صلّوا العشاء خرجوا فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى درس الشيخ، ومنهم من مشى إلى «الدَّوْر»؟ قُل لي: ألا يزال «الدَّوْر» يَجمع الإخوان المتآلفين والأحبّة المتصافين، يسمرون كل ليلة في منزل واحد منهم، يقعد الرجل مع صاحب المنزل وإخوانه، والمرأةُ مع نسائه، يُنشِدون الأشعار ويسوقون النوادر ويروُون المضحكات، ويطالعون الكتب ويتجاذبون أطراف الحديث، ويأكلون ألوان الحلويات ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم وقد استمتعوا أوفى ما يكون الاستمتاع وسُرّوا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة ولا أمّوا ملهى ولا جالسوا غريباً ولا أتوا محرَّماً ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟ ألا تزال منازل المشايخ في زقاق النقيب والقيمرية وأمثالهما معاهدَ إرشاد ومدارس علم ودارات ملوك؟ قُل لي: من بقي من تلك الأسر العلمية؟ آل حمزة وآل عابدين والعطّار والعاني والطنطاوي والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام، أم تَنكّب الخَلَف طريقَ السّلَف، واستبدلوا الدنيا بالدين والمالَ

بالعلم والمنصب بالتقوى، والتزلفَ إلى الحكام بالقيام بواجب النصح للحكام؟ خبّرني عن العلماء: ألا يزالون أعزّة بالدين، يزهدون في الدنيا فتُقبِل عليهم الدنيا ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلاّ الله والدار الآخرة، يُثنون لذلك رُكَبهم ويُحيون فيه ليلهم ويَكِدّون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما يسدّ الرمق ويحمل الجسد ويستر العورة، لا يسألون عمّا غاب من ذلك أو حضر لأنهم فكّروا في غيره وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملَهم وكانت المطالعة شغلهم وكان ثواب الله مبتغاهم؟ ألا يزال الناس سعداء راضين، قد انصرف العالِم لعلمه والتاجر لتجارته والطالب لدَرْسه والمرأة لبيتها، لا يشتغل أحد بغير شغله ولا يدخل فما لا يعنيه؟ فقلت للشيخ: منذ كم فارقتَ دمشق ياسيدي؟ فتنهّد وقال: منذ سنة 1897، فارقتها شاباً ولم أدخلها بعد ذلك أبداً. فرحمتُ الشيخ من أن أفجعه في أحلى ذكرياته وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته، فتلطّفت وودّعته ولم أقُل له شيئاً. وماذا ترونني كنت أقول؟ * * * قولوا أنتم ياأيها القراء، فقد عجزت عن الجواب سنة 1947، فبماذا تُجيبون سنة 1987؟ * * *

عندكم نابغون فتشوا عنهم بين الطلاب

-243 - عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب لمّا جئت المملكة سنة 1383هـ وعلّمت في الرياض لم تكن فيها إذاعة، لكنْ كان فيها بناء كبير أُعِدّ لها، ولم يكن فيه إلاّ موظف واحد هو الأستاذ موسى المجدّدي، أحد أبناء الشيخ الجليل الشيخ صادق المجدّدي، نسبة إلى الشيخ السَّرْهَندي الذي كان يُلقّب بمجدد الألف الثاني. وكانت بيني وبينه رحمه الله مودّة. عرفته في مصر يوم كان الوزيرَ المفوض للأفغان أيام الملكية، وكان عميد السلك الدبلوماسي فيها. ولي معه جلسات طويلة، حدّثني في بعضها عن الملك «أمان الله» وثورة العلماء عليه لمّا أراد الخروج عن أحكام الإسلام حديثاً مفصّلاً تمنيت لو أنني دوّنته في حينه. وكان مما سألته عنه ما أُذيعَ من أن الشيخ جمال الدين الأفغاني كان إيرانياً ولم يكن أفغانياً كما كتب أخونا رحمه الله الأستاذ محمد حسين، فأكّد لي الشيخ صادق بأنه أفغاني أصيل. والشيخ صادق من العلماء المنجبين أبناؤه كثيرون، منهم الشيخ هاشم ومنهم الشيخ صبغة الله، أحد قادة الجهاد الإسلامي الرائع في بلاد الأفغان الآن.

أقول: كانت الإذاعة من جدة، وكنت يوماً في الرياض أدير مفتاح الرادّ، فسمعت إذاعة غريبة ليست من جدة ولا من مصر، ولم أكن أسمع في الرياض يومئذ غيرهما، إلاّ إذاعة بغداد أسمعها أحياناً. فوجدت هذه الإذاعة الغريبة تذكر أشياء عن المملكة وعن الرياض بالذات، فأصغيت أنتظر أن أسمع في آخرها اسم البلد الذي يخرج منه الصوت، فإذا هو من الرياض، وإذا هو يذكر اسم «طامي». فسألت إخواني: وما طامي هذا؟ وتطوّع واحدٌ منهم فجاء به إليّ فعرّفني به، وإذا هو شابّ سعودي مهذّب لا يبدو عليه أنه من أصحاب الدراسات ولا من حَمَلة الشهادات، وأخذني إلى عمارة عالية في شارع الوزير (وكان يومئذ أحد شوارع قليلة لم يكن في الرياض غيرها) وأدخلني عمارة فصعد بي إلى سطحها، فوجدت غرفتين صغيرتين ما لهما ثالثة، فيهما قطع آلات وأسلاك وأزرار في لوحات فقلت: ما هذا؟ فضحك وقال: هذه إذاعة طامي. إنها قطع اشتريتها من مخلّفات الجيش البريطاني لمّا عرضها للبيع، فرتّبتها وجعلت منها هذه الإذاعة. وسألني أن أحدّث الناس منها، فحدّثت ووصفت ما رأيت. وخبّرني الناس بعد ذلك أنهم سمعوا حديثي، سمعوه في الرياض وعلى بُعد عشرة أكيال (كيلومترات) في كل جهة من جهاتها الأربع. * * * أليس هذا هو النبوغ؟ بل أليست هذه هي العبقرية؟ هل كانت بداية أديسون أكبرَ من هذه البداية؟ أم كان أديسون أكثر

علماً وأوسع اطّلاعاً على علوم الطبيعة؟ هذا الطامي (الذي لم أعُد أسمع اسمه ولا أعرف خبره) كان يمكن أن يكون لنا منه أديسون آخر، يخترع مثل ما اخترع، لو أننا أخذنا بيده وشجّعناه. وهل كان أديسون (وأصحابه وأمثاله الذين وضعوا أسس هذه الحضارة المادية) أذكى منا ذكاء وأكبرَ عقولاً وأوسعَ مدارك؟ إن الذي صنعناه بالأمس البعيد والحضارةَ التي شيّدناها والمعارفَ التي بلغناها نستطيع أن نصنع الآن مثلها. لا تقُلْ قد ذهَبَتْ أربابُهُ ... كلُّ مَنْ سارَ على الدّربِ وصَلْ هذه اليابان: ماذا كانت اليابان قبل مئة سنة أو تزيد قليلاً، وماذا صارت الآن اليابان؟ بل أحدّثكم عمّا هو أقرب عهداً وأدنى بلداً؛ حالنا نحن لمّا كنا طلاباً وحال الطلاب الآن: لماذا كان ينبغ منا نابغون كل عام لا يكاد يظهر أمثالهم الآن في الأعوام الطِّوال، في الأدب وفي الفنّ وكل علم، شعراء وكتّاب وأطباء ومهندسون؟ لا أعني أنهم أكملوا الدراسة ونالوا الشهادة فقط، فإن الذين يحملون الشهادات لا يُعَدّون، ولكن أقصد أنهم عباقرة متميزون أو نابغون سابقون، فما لنا لا نرى الآن أمثالهم؟ ما لنا لا يكاد يظهر منا في السنين المتطاولة علماء وأدباء، بل لا نرى إلاّ حَمَلة الشهادات؟ هل انقطع النبوغ وجفّ الينبوع، وأصبح الطلاب اليوم أقلّ حظاً من الذكاء ونصيباً من الفهم؟ أقول: لا. أقولها مطمئناً إليها واثقاً منها، بل إن الشباب الآن أوسع مدارك وأكثر اطّلاعاً مما كنا عليه في أيام شبابنا، فما السبب

إذن؟ ما هو الشيء الذي كان عندنا وكان سبب نجاحنا ولم نعُد نراه عندهم؟ لا شيء. إذن فما هو الشيء الذي نجده عندهم ولم يكن عندنا، فصرفهم عن العلم وشغلهم بالشهادات وبالمظاهر؟ هنا مربط الفرس كما يقول الناس. * * * لماذا أجمعَت كلمة رجال التعليم على الشكوى من الضعف العامّ في قواعد اللغة العربية وفي الإملاء بعدما ظهرَت نتائج الامتحان هذا العام؟ إن من المعروف أن من العلوم ما يمكن أن يعي التلميذُ المقدارَ المقرَّر عليه من مباحثه، أو أن يحفظه كما هو في الكتاب ويضعه في ورقة الامتحان، لا يخطئ منه شيئاً ولا ينقص منه شيئاً، فيُضطر المصحّح أن يقدّر له درجة النجاح. ولكن درسين من الدروس لا ينفع فيهما هذا الأسلوب، بل لا بدّ فيهما من الإلمام بكل منهما إلماماً كاملاً لأنهما كل لا يتجزّأ وجميع لا يفترق، وهما اللغات والرياضيات. ولقد كنت وكان إخواني في السنة الأولى من المدرسة الثانوية نميز الخطأ من الصواب، ونعرف كيف نراجع في القاموس المحيط، ونقرأ في كتب الأدب فلا نخطئ (أو نخطئ خطأ يسيراً). فإن لم نعِش في البلد الواحد فإننا نعيش في بلدان متشابهة، فما الذي كان لنا فأعاننا الله به على تحصيل الملَكة في العربية وحُرموا منه فمنعهم فَقْده من تحصيلها؟ إني لأنظر فأجد أنهم أذكى منا وأوسع أفقاً وأرفه عيشاً. كنا نقاسي من كثير من الشدائد فهوّن الله عليهم تلك الشدائد،

وكنا نجد صعاباً كثيرة فسهّل الله لهم تلك الصعاب: كانت كتبنا المدرسية على عهد الترك ونحن صغار خلال الحرب الأولى أكثرُها بلسانهم، فلما انقضت الحرب وقامت الدولة العربية في الشام وصارت هي لسانَ التعليم لم نكن نجد في أول الأمر كتباً، فكنا ننسخ بأيدينا ما يُمليه الأساتذة علينا. فما السبب إذن؟ لعلّ قلة المدارس يومئذ دعتهم أن يأتوا بأكبر الأساتذة للتدريس فيها. وليس المدرّس القوي في مادته الواسع في علمه الذي علّم آلافاً من الطلاب في عشرات من السنين كمَن نال الشهادة يوم الأربعاء فجعلوه مدرّساً أو معيداً يوم الأحد، وكلّفوه أن يكون هو المدرّس لمن كانوا بالأمس معه إذ سبقهم قليلاً، كما سبق عريف الفصل إخوانه فيه. فكيف يكون مدرّساً لمن كانوا رفاقه قبل أسبوع؟ وكيف يُقرَن بمن كانوا أساتذته قبل أسبوع؟ وابنُ اللَّبونِ إذا ما لزَّ في قرَنٍ ... لمْ يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ * * * هذه الأولى، والثانية كتب المطالعة (ونسمّيها في الشام «القراءة»)، وما يختارون فيها للطلاب من فنون الأدب ليكون لهم قدوة وإماماً ويكون نبراساً يستضيئون به. اختار لنا الأستاذ سليم الجندي أولَ قدومه علينا في مكتب عنبر سنة 1923 قصيدة «وا حَرَّ قلباهُ مِمّنْ قلبُهُ شَبِمُ» التي ودّع بها المتنبي سيفَ الدولة لمّا فارق حلب قاصداً مصر، وشرحها لنا؛

لاكما يشرح المدرسون اليوم، يفسّرون مثلاً كلمة يتعاضدون بأنهم يتعاونون، بل يمرّ بنا على تاريخ الكلمة: كيف وُضعت، وما هو الجذر الذي اشتُقّت منه، وكيف تَحوّل معناها عن طريق التوسّع والمجاز والعُرف، فيقول مثلاً: إن أصلها من العَضُد، لأن الاسم أسبق دائماً في الوضع من الفعل، ولأن صيغة تفاعلوا تدلّ على المشاركة فالتعاضد هو لفّ العضُد على العضُد، والتكاتف إسناد الكتف بالكتف. وأعرض عنه: أي أعطاه عرضه فلم يُقبِل عليه بوجهه. وصفح عنه: منحه صفحة خدّه، أي لم يواجهه باللوم. وأمثال ذلك. ومشيت أنا في تدريس الطلاب على هذه الطريقة. ولو وجدت من تلاميذي، أو لو وجد الأستاذ الجندي أو زميله المبارك منا نحن تلاميذه مَن يدوّن ما يقول لكان من ذلك كتب في الأمالي كأمالي الأولين. ثم عاد من الحصة المقبلة بعد أن شرح القصيدة يقول لنا: اصرفوا أنظاركم عنها، لا تحفظوها لأن المتنبي في عُرف أهل اللغة شاعر مولَّد لا يُحتجّ بعربيته. وجعل يحفّظنا الشعر الجاهلي والإسلامي (أي الأموي)، فحفظنا المعلقات وجانباً كبيراً من الشعر الإسلامي، لا يزال في ذهني إلى اليوم قصائد كثيرة منها أحفظها برمّتها ولا أزال أرويها. انظروا أين كنا وإلى أين هبطنا. قرأت في مجلة من نحو أسبوع هذه الكلمة، أنقلها بنصّها وإن كنت أكرم قلمي عن أن يخطّ مثلها وأصون صحفي عن أن أسوّدها بها، وهي: "قرأت في عدد من أعداد «المجلة» قصيدة

عمودية للأستاذ الحيدري، والواقع أنني لم أُعجَب بهذه القصيدة، ولم أكن أتصوّر أن شاعراً كبيراً كالحيدري سيعود إلى مثل هذا الشعر الذي كان شائعاً في العشرينات من هذا القرن". انتهى، وأشهد أن لا إله إلاّ الله! هل كنتم تظنون أن يأتي على الناس يوم يخجل فيه واحدٌ منا أن نعود إلى شعر العشرينات (يقصد العشرينيّات) من هذا القرن؟ أي إلى شعر شوقي وحافظ ومِن قبلهما البارودي! فهل ترونه يرضى لنا أن نعود إلى شعر أبي تمام والبحتري فضلاً عن جرير والفرزدق، فما بالك بعودتنا إلى شعر النابغة وزهير ولبيد؟ أيريد بخمسة أسطر في هذه المجلة أن يمحو خمسمئة ألف بيت من الشعر قيلت في ألف وستمئة سنة من عمر الدهر؟! إن للشعر معنى محدّداً وصورة ثبتَت في أذهان الناس من أيام الأفْوَه الأَوْديّ (الذي كان يعيش كما قالوا على عهد سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام)؛ إن الشعر عندنا لا يمشي إلاّ على ساقين من الوزن والقافية، فإن فقد إحداهما مشى على العكاكيز، وإن فقدهما صار شعراً كسيحاً لا يتحرّك إلاّ على كرسيّ ذي دواليب. رحم الله الأستاذ العقّاد، عندما كان رئيس لجنة الشعر قدّموا إليه بعض هذا الذي يسمّونه «شعر الحداثة» فأحاله إلى لجنة النثر، لأنه أراد أن يدخل مدينة الشعر بجواز مزوَّر فردّه إلى موطنه، ولولا أنه رحمه وأشفق عليه لأحاله إلى محكمة الجنايات بتهمة التزوير! * * *

المختارات التي تضعونها في كتب المطالعة وتُلزِمون التلاميذ بفهمها وحفظها هي العامل الأول في تنمية الملَكة الأدبية في نفوسهم وتقويتها أو في إضعافها وإماتتها. ولقد صرنا نجد مَن يكتب في الصحف يسخر من شوقي ومَن لو أنصف الناس لنصبوه وإخوانه على الأعمدة ليكونوا عِبرة لمن يتجرّأ على الحقّ وينصر الباطل، يسخرون من شوقي وما ظهر من قرونٍ مَن هو أشعر من شوقي. شوقي الذي قال وهو في طراوة الشباب قبل أن يقوى عوده ويشتد أَسْره: صوني جَمالَكِ عنّا إنّنا بشَرٌ ... مِنَ التّرابِ، وهذا الحُسنُ رُوحاني أوْ فابتغي فَلَكاً تأوينَهُ ملَكاً ... لا تنصِبي شرَكاً للعالَم الفاني قابِلوا -ناشدتكم الله- بين هذا الكلام وبين ما يقوله شعراؤكم أهل الحداثة (أو الحدث)! شوقي القائل: أفضى إلى ختمِ الزّمانِ ففَضَّهُ ... وحبا إلى التاريخِ في محرابِهِ وطوى القُرونَ القَهْقَرى حتّى أتى ... فرعَونَ بينَ طعامِهِ وشرابِهِ شوقي الذي أنطق في قصيدة «الأزهر» أكبرَ ناطق وهو الدنيا، وأسمع أعظمَ سامع وهو الزمان حين قال: قُمْ في فَمِ الدّنيا وحَيِّ الأزهرا ... وانثُرْ على سَمْعِ الزّمانِ الجَوْهرا شوقي الذي قال في قصيدته عن نابليون: وُضِعَ الشَّطْرَنجُ فاستقبَلْتَهُ ... ببَنانٍ عابثٍ باللاعبِينْ صِدتَ شاهَ الرُّوسِ والنّمسا معاً ... مَنْ رأى شاهَينِ صِيدا في كَمينْ؟ * * *

وشيء آخر لعلّه من أسباب ضعف الطلاب في الدروس كلها وفي العربية على التخصيص، أخشى إن قلتُ الحقّ فيه أن أُغضِب ناساً ما لي إلى إغضابهم رغبة، هو أن الاهتمام بالشيء بمقدار الحاجة إليه، وتُعرَف الحاجة إليه بمقدار الخسارة في فقده. ونحن نحتاج إلى مَن يعلّم أولادنا ومن يداوي مرضانا ومن يضمن إقامة العدل فينا ويؤدّب الجانحين والمجرمين منا. ونحتاج قبل ذلك إلى مَن يدلّنا على طريق النجاة في آخرتنا والوصول إلى رضا ربنا، فهل إدخال الكرة في شبكة في الملعب أهمّ من هذا كله؟ هذا هو السؤال، فلا تغضبوا إن أنا سألتكم فما أريد إلاّ أن أتعلّم: لماذا نهتمّ بهذا اللاعب أكثرَ من اهتمامنا بالطبيب وبالمدرس وبالأستاذ وبالواعظ؟ وكيف نرغّب الطلاب في القواعد والإملاء وهم يرون هؤلاء ينالون من التكريم أكثر مما يناله الخليل والمبرّد وأئمة اللغة أجمعين، لو بعثهم الله القادر على كل شيء من قبورهم فمشوا بيننا وعاشوا معنا؟ وأنا لا أقول لكم اتركوا العناية بالرياضة، فإنها من القوة التي أمر الإسلام بإعدادها، والقوةُ زينة الرجال: قوة العلم وقوة الجسم وقوة الإيمان، ولكن الذي أقوله لكم أن لا تدفعوا ثلاثمئة ريال مثلاً في بضاعة مهما غلت لا تساوي إلاّ خمسة عشر ريالاً. * * * أعود إلى كتب المطالعة وما تضعونه فيها، فهل تريدون الحقيقة الصادقة والنصح المخلص أم أنكم لا تحبون الناصحين (وأعيذكم بالله من ذلك)؟ جنّبوا كتب المطالعة هذا الأدب الذي

تسمّونه يوماً بأدب الحداثة ويوماً بالشعر المنثور ويوماً بالنثر المشعور (كما قال المازني رحمه الله مازحاً ساخراً لمّا سألوه عنه) ويوماً بقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البليغ؛ كالثعلب لمّا لم يصل إلى عنقود العنب قال إنه حامض. واختاروا لهم ما يقوّي ملَكتهم العربية، لأن العربية والإسلام لا يكادان يفترقان. لقد حاقت بالعربية نكبات واعترضت طريقها عقبات ونزلت بها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مرّ بها يومٌ هو أشد عليها وأنكى أثراً فيها من هذا الأدب المزوَّر الذي سمّيتموه «أدب الحداثة». إنه ليس انتقالاً من مذهب في الشعر إلى مذهب ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام بدأ به أعداؤه لمّا عجزوا عن مسّ القرآن لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهّد بحفظه، فداروا علينا دَورة وجاءونا من ورائنا. وكذلك يفعل الشيطان، يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم. فعمدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية؛ إنها بدعة لم يسبق لها من قبل نظير (¬1)، إنها ردّة عن البلاغة كالردّة عن الإسلام التي كانت عقب انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، ولكنها ردّة (كما يقول أخونا الأستاذ أبو الحسن الندوي): ردّة ولا أبا بكر لها. * * * ¬

_ (¬1) اقرؤوا كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» الذي قدّم له الشيخ عبدالعزيز بن باز المفتي العامّ جزاه الله وجزى مؤلّف الكتاب خيراً.

عزمت أن أطوي أوراقي وآوي إلى عزلة فكرية

-244 - عزمتُ أن أطوي أوراقي وآوي إلى عزلة فكرية لمّا شرعت أكتب هذه الذكريات ما كنت أقدّر أن تبلغ أربعاً وعشرين حلقة، فوفّق الله حتى صارت مئتين وأربعين، وما استنفدت كل ما عندي ولا أفرغت كل ما في ذهني، فقد جاءت على نمط عجيب، ما سرتُ فيها على الطريق المعروف ولا اتّبعت فيها الأسلوب المألوف، فلم تجِئ مرتَّبة مع السنين ولا مقسَّمة تقسيم الأحداث والوقائع، وما كانت تستقيم دائماً على الجادة بل تذهب يميناً وتذهب شمالاً، أبدأ الحديث فلا أُتِمّه وأشرع في آخرَ فلا أستكمله، وما أدري كيف احتمل القراء واحتمل الأستاذان الكريمان الناشران هذا كله مني. وأنا أعرف أن من عيوبي الاستطراد، ولكني لا أملك التخلص من هذا العيب، ولعلّه من أثر إدمان النظر في كتب الأدب العربي القديم، كتب شيخنا الجاحظ ومن نحا منحاه واتّبع أثره. وأنا عاكف على هذه الكتب أنظر فيها لا أفارقها، من يوم تعلّمت القراءة وأنا ابن عشر سنين إلى أن جاوزت الثمانين.

ومن سيّئ عاداتي أنني أكتب من ستين سنة كاملة ولكني لا أكتب إلاّ للنشر، وأني أسوّف وأؤخّر حتى لا يبقى بيني وبين موعد تسليم المقالة أو إلقاء المحاضرة أو إعداد البحث إلاّ الوقت الذي لا يتّسع إلاّ له، فأركض ركض الأرنب لا أمشي مشي السلحفاة. وأنا أقول من قديم أنْ قد كذب لافونتين وافترى، فما سبقَت السلحفاة أرنباً قطّ ولو نام على الطريق! وكنت أفارقكم كل خميس على أن ألقاكم في الخميس الذي بعده، ولكن فراق اليوم إلى غير لقاء. لقد أحسستُ أنكم مللتم من ذكرياتي، وحقّ لكم أن تملّوا، فما أنا بالسياسي الذي يشارك في صنع التاريخ فيسرد عليكم جانباً من التاريخ الذي شارك في صنعه، ولا بالزعيم الذي يعمل على توجيه الشعب فيحدّثكم عمّا وجّه إليه شعبه، ولا بالناقد الذي استحدث مذهباً في الأدب مشى فيه ودعا إليه، فيحدّد لكم مذهبه ويبيّن لكم معالمه. ما أنا إلاّ واحد من غمار الناس، إن كتبت فلقد كتب كثيرون مثلَ الذي كتبت، وإن علّمت التلاميذ أو قضيت بين الناس فلقد كان واحداً من مئات المعلّمين والقضاة، ولكن الله أكرمه فجاء مبكّراً ونبغ قبل أوان نبوغ أمثاله. وقد يُقبَل من السابق ما لا يُقبَل من اللاحق، ولو أن رجلاً صنع الآن طيّارة كالتي طار بها رايت وأخوه وعرضها للبيع لَما اشتراها أحد بمئة ريال، ولكن طيارة الأخوين لو وُجدت لبيعت بمئات الآلاف. وسيارة فورد التي كنت أركبها إلى مدرستي في غوطة دمشق التي كنت أعلّم فيها الأولاد سنة 1931 لو طُرحت في المزاد لعدل ثمنها أثمان عشر سيارات جديدة.

لقد ظهرتُ مبكّراً فالتفتَت إليّ الأنظار. وما كان ذلك لأنني جئت بما لم تجئ به الأوائل أو لأن عندي عبقرية قلّ مثيلها بين الناس، بل لأن الساحة كانت خالية، أو كأنها لقلّة مَن فيها كالخالية. والبِركةُ الساكنة إن ألقيتَ فيها حصاة حرّكتها وانداحت فيها -كما يقول ابن الرومي- الدوائر، والنهر الهادر الجياش المتحدّر من الأعالي إلى الأعماق إن رميتَ فيه صخراً لم تجد للصخر أثراً. والدهر أيام ثلاثة (¬1): ثلاثةُ أيامٍ هيَ الدهرُ كلُّهُ ... وما هُنّ غيرُ الأمسِ واليومِ والغدِ أما الغد فللشبان يصبّون فيه أحلامهم ويستودعونه أمانيّهم وآمالهم ويتوقعون منه المستحيل، لقد كانوا يُنشِدون ذلك النشيد الذي كان يوماً على كل لسان وكان يُسمَع في كل محفل ونادٍ: «نحنُ الشبابُ لنا الغدُ». أمّا الأمس فللشيوخ، يستعيدون بالذكرى أيامه ويبكون بعد الفقد أحلامه، يتصورون مُرَّه حلواً وسوادَه بياضاً، لا يرون غيره، لا يقول أحدهم: سأكون؛ ولكن يقول: كنتُ، لذلك دعا العرب الشيخ الكبير «الكُنْتِيّ» (نسبة على غير قياس إلى قوله «كُنْتُ»). وأمّا اليوم فلغافل جاهل وقفَت به همّته حيث تقف الأنعام، فكان مطلبه الشراب والطعام، فإن أخذ حاجته منهما طلب الزواج، فهمّه طعامه وشرابه ونكاحه، لا يكاد يذكر ما مضى ولا ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر الحلقة الآتية هي المقدمة التي كتبها علي الطنطاوي لكتاب أخيه ناجي «كلمات نافعة»، ونشرته دار المنارة (مجاهد).

يستعدّ لِما هو آتٍ. وعلى ذلك أكثر الناس، وقليل منهم مَن يعمل في حاضره لمستقبله ويزرع في يومه ليحصد في غده، فمَن زرع قمحاً حصد قمحاً، ومن ترك أرضه للشوك لم يحصد إلاّ الشوك في أصابعه والدم يخرج منها. المستقبل للشباب. ولَطالما قاسيت من هذا المستقبل لمّا كنت شاباً، كان يقول لي أبي: اعمل لمستقبلك، ويسألني معلّمي: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فإذا أجبتُ جاء معلّم آخر غيره فأعاد عليّ السؤال، حتى تَكرّر عليّ خمسين مرة بدّلت فيها الغايات وعددتُ الطرق، وما كان شيء مما قدّرت. كنت والمستقبل كحصان ربطوا بظهره عصا طويلة ثم علّقوا فيها حزمة من الحشيش وقالوا له: اسعَ لتدركها! فمهما سعى فلن يصل إليها لأنها معه مربوطة به، تمشي إن مشى وتقف إن وقف. أطلب المستقبل في غد، فإذا جاء الغد صار المستقبل حاضراً وذهبتُ أفتّش عن مستقبل غيره. كنت كراكب زورق في بحر هائج يوجّه زورقه الوجهة التي يراها، فتضربه موجة عاتية فتحوّله فتبدّل وجهته حيث تتجه الموجة لا حيث يريد الراكب. أحسستُ أني كصاعد الجبل، كلما بدت له صخرة حسبها الذروة فحاول الوصول إليها، حتى إذا بلغها بدت له ذروة أخرى من ورائها، فإذا بلغ أعلى الجبل فلم يبقَ أمامه ما يسمو إليه هبط من الجهة الأخرى. وأنا الآن قد بلغت الذروة التي استطعت الوصول إليها ولم يبقَ أمامي ما أسمو إليه، فرجعت أهبط من الوجه الآخر للجبل. عُدت من هذه الرحلة الشاقة، رحلة العمر، وما معي مما رأيت وما سمعت وما

لذذت وما أَلِمْت وما سعدت وما شقيت، إلاّ بقايا صور في ذهني وأحاديث على لساني. هي هذه الذكريات التي طالت حتى سئمتموها ومللتم منها، فسأدع الآن حديثها. لقد عزمت على أن أطوي أوراقي وأمسح قلمي، وآوي إلى عزلة فكرية كالعزلة المادية التي أعيشها من سنين، فلا أكاد أخرج من بيتي ولا أكاد ألقى أحداً من رفاقي وصحبي. ثم قلت: أسأل القرّاء وأسأل صاحبَي الجريدة، فإن شاؤوا اعتزلت. ولقد وضعت استقالتي تحت أيديهما من سنين ثلاث. وإن شاؤوا جعلت بدل الذكريات خواطر ومشاهدات (¬1)، على أن يسمحا لي ويسمح القراء قبل أن أدعها أن أُكمِل شيئاً شرعتُ فيه. * * * كان أمامي قبل أن أشرع في كتابة هذه الحلقة كتاب أُنجز طبعه ولم تُخَرّم كراريسه ولم يوضَع غلافه، اسمه «كلمات نافعة»، ¬

_ (¬1) هذا ما كان؛ فقد وقف الشيخ رحمه الله ذكرياته وبدأ بمقالات أسبوعية جعل عنوانها «صور وخواطر»، بدأها بمقالة عنوانها «مرضى الوهم» صدرت يوم الخميس 22/ 10/1987، وقد أودعتُها كتاب «فصول اجتماعية». وفي صدر تلك المقالة -لمن شاء أن يقرأ من القراء- مقدمة كتبها للسلسلة الجديدة. وقد تنوعت المقالات الجديدة هذه بين قديم سبق نشره، وهو فيما صدر من كتب، وجديد لم يُنشَر من قبل، وهذا وضعته (أو سأضعه) في كتب الشيخ التي صدرت (أو ستصدر) ممّا لم يصدر في حياته رحمه الله (مجاهد).

حملته إليّ «دار المنارة» في جدة لأقدّم له مقدّمة. ولقد سبق أن قدّمت لأكثر من خمسين كتاباً في أكثر من خمسين سنة، أولها كان لصحفي ناشئ اسمه عباس الحامض، صار من بعد صحفياً معروفاً ثم مضى حيث يمضي الأحياء رحمه الله، وآخرها مقدّمة شرّفني بها الداعية الكبير أخي الأستاذ أبوالحسن الندوي الذي تعرفونه فلا أحتاج أن أعرّفكم به. هذه الكراريس التي وُضعت أمامي لكتاب ألّفه أخي ناجي، القاضي من قبلُ في الشام والمستشار الشرعي الآن في وزارة الأوقاف هنا من نحو ربع قرن، فكيف أكتب مقدّمة لكتاب لأخي؟ كنت أعرف عن مؤلّفي الكتب التي أقدّمها القليل فأصوغ منه الفصل الذي يطلبونه، ولكنني اليوم حيال حياة طويلة أخبارها كلها ماثلة لعيني، أعرفها من يوم وُلد سنة 1332هـ (وكان عمري نحو ستّ سنين) إلى حين بلغت الواحدة والثمانين، فهل يمكن أن أختصر حياة طولها خمس وسبعون سنة حتى أُدخِلها في خمس صفحات تكون مقدّمة لكتاب؟ حياة رأى فيها ورأيت مثل ما يرى الناس جميعاً: أياماً بيضاً وأياماً سوداً، عرفنا فقراً وإن لم يبلغ حدّ الحاجة، واكتفاء وإن لم يصل إلى الغنى، عرفنا السرور عن طريق الحلال وعرفنا الكدر، ورأينا أزواجاً وأشكالاً من البشر، منهم الصالح ومنهم الطالح، ومنهم الوفي ومنهم الغادر، ومنهم الأمين ومنهم الخَؤون. حياة تبدّلت فيها الدنيا التي نشأنا فيها مرّات، دالت دول وحالت أحوال، ومات أقوام ووُلد أقوام، وبادت مذاهب في الفكر وفي الأدب ونشأت مذاهب، وكانت حرب وكان سلام ... فما دام سرور وما دام كدر، وما دام نفع وما دام ضرر.

كان عالَمنا صغيراً ولكنا كنا نراه على صغره كبيراً، لم يكن عندنا إلاّ القليل ولكننا كنا راضين بقليلنا، كانت مسرّاتنا محدودة ولكنا لم نكن نطمح إلى أكثر من تلك المسرّات. لقد كنا سعداء، ولكن لم ندرك إلاّ الآن بعدما فات الأوان أننا كنا سعداء. يحسب الإنسان أنه كلما زاد ماله واتسع اطّلاعه وعلَت منزلته كَبُرَت سعادته، وينسى أن السعادة هي قِصَر المسافة بين ما تجده وما تتمناه؛ فمن كان يجد عشرة ويتمنى عشرين فسعادته تنقص عشرة، ومن كان معه ألف وهو يطلب ألفين فنقص سعادته ألف. فنحن نحنّ إلى أيام الطفولة ونتمنى عودتها ونأسى على فَقدها، لأننا لم نكن نطلب فيها إلاّ القليل. ولست أريد أن ينشأ الشباب بلا طموح، فقد صدق شوقي لمّا قال: شبابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهمْ ... وبُورِكَ في الشّبابِ الطامحينا * * * كان عالَمنا بيتنا الصغير في الحارة الضيقة في حيّ في طرف دمشق، بلغ من ضيق الحارة أنه لو مشى فيها اثنان ومدّا أيديهما لنالا جانبَيها. والمسجد الصغير الذي كان أبي إمامه، فلما توفّاه الله ولّوني أنا الإمامة وأنا لم أكمل السابعة عشرة، فقالوا لي: لا بدّ للإمام من عمامة (وإن لم يكن قد اشترطها الشارع ولا أوجبها الدين) فأدرتُ على طربوشي عمامة فصرت شيخاً صغيراً. قالوا: ولا بدّ له من لحية. قلت: العمامة أتينا بها من عند البزّاز (أي بائع القماش) فمن أين آتي باللحية؟

فإذا أردنا تبديلاً ذهبنا إلى بيت خالتي أم المشايخ: الشيخ شريف والشيخ سهيل والشيخ طه والسيد ثابت، وهي الشقيقة الكبرى لمحب الدين الخطيب التي ربّته وكانت له أماً بعد أن فقد أمه طفلاً. وكان هذا البيت مثلاً عجيباً للبيوت الشامية المتداخلة: يركب من جهة على بيت الجيران، له الطابق الأرضي وما فوقه للجيران، وهم يركبون ظهره من الجهة الأخرى فيكون السفل لهم وما فوقه له. ويدخل في بيت عمّي بيتُ جيرانه من الجهة الثالثة، فيكون له الوسط ولهم ما تحته وما فوقه! هندسة عجيبة. والبيوت متصلة السطوح، حتى إننا كنا نستطيع أن نقطع الحيّ كله من أوله إلى آخره من غير أن نضع أقدامنا على الأرض. وكان الثوار (أيام الثورة السورية سنة 1925) يمشون من جوار الأموي إلى قرب باب الجابية على السطوح المتصلة. ولبعض هذه الدور بابان (كدار الشيخ هاشم الخطيب ودار الشيخ صلاح الدين الزعيم، وهو الأخ الأكبر لحسني الزعيم صاحب بدعة الانقلاب) فكان المتظاهرون يدخلون الحارة يتعقّبهم الفرنسيون ومَن كان معهم بسلاحهم ليحصروهم، فإذا ولَجوا لم يجدوا فيها أحداً. كانوا (أي الثوار) يدخلون من باب الخيضرية (الخضيرية) إلى زقاق البرغل عند باب الجابية، فيجتازون خُمس دمشق من داخل بيت الشيخ هاشم الخطيب رحمه الله! كما يدخلون بيت الشيخ صلاح الزعيم في حيّ السمّانة من طرف دمشق فيخرجون من الباب الآخر إلى طرف بساتين الغوطة. كان متنفَّسنا حين نريد متنفَّساً أن نذهب إلى بيت خالتي عند المدرسة البادرائية بين الأموي وباب السلام، الذي كان يُدعى

قديماً باب السلامة. وهو أحد أبواب دمشق السبعة، وقد بقيَت ستة منها على حالها كما بقي أكثر السور سليماً. ولدمشق سوران وبينهما حي لا يزال يُسمّى إلى الآن «حيّ بين السّورين» (وإن كانت العامة تبدل السين صاداً). فإذا مشيت من باب السلام مشرّقاً بلغت باب توما ثم الباب الشرقي، وهو آخر الطريق المستقيم الذي ذُكر -كما أظنّ- في التوراة، فيكون بذلك أشهرَ شارع في التاريخ. وقد ورد في الأثر أن المسيح ينزل في آخر الزمان عند «المنارة البيضاء» شرقيّ دمشق، والله أعلم بصحّة الذي رُوي (¬1). وأول هذه الطريق بابُ الجابِيَة الذي دخل منه أبو عبيدة دمشق صلحاً، كما دخلها خالد من الباب الشرقي فتحاً فالتقيا وسط معبد دمشق، الذي كان معبداً وثنياً ثم صار كنيسة نصرانية، ثم غدا مسجداً من أقدم مساجد الإسلام وأجملها، فقسموه بين المسلمين والنصارى، فكان ما حازه خالد عنوة مسجداً وما كان في حيّز أبي عبيدة بقي بالصلح كنيسة، فلما كان عهد الوليد ارتفع الصوت بالشكوى: المسلمون يشكون من قرع النواقيس وقت الصلاة والنصارى يشكون من ارتفاع الأذان، فبنى الوليد للنصارى الكنيسة الكبرى، بُنيت لهم بأموال المسلمين وبأيديهم ونقلهم برضاهم إليها، وأخذ منهم الكنيسة فضمّها إلى المسجد. ¬

_ (¬1) لا أعلم سبب هذا التعليق هنا؛ فحديث الدجّال الذي فيه خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، هذا الحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، وفي شرح النووي لصحيح مسلم أنه من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب (مجاهد).

ولي كتاب صغير عن «الجامع الأموي» ألّفته لوزارة الأوقاف أيام الوحدة، جمعتُ فيه تاريخ المسجد: أبوابه ومآذنه ومحاريبه وكل ما يتصل بخبره، ولم أذكر فيه المراجع التي رجعت إليها لأني وجدت أساتذة كباراً جداً أخذوا ما كنت جمعت من أخبار أبي بكر وعمر في الكتابين الجامعَين اللذين ألّفتهما عنهما وطُبعا في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي (نحو سنة 1352هـ) أخذوها ونسبوها إلى المصادر التي نقلتُ عنها، وهم لم يروا هذه المصادر ولم يصلوا إليها لأن بعضها مخطوط في الظاهرية! وأبطلوا جهدي وهدروا تعبي، ولذلك حديث طويل ليس هنا مكانه. * * * وكنا إذا أردنا نجعة أكبر وتبديلاً أكثر ذهبنا إلى بيت عمّي الأكبر الشيخ عبد القادر، الذي كان المرجع في علم الفلك الإسلامي وكان منزله في العفيف في أوائل حيّ المهاجرين. وقد أنشأ هذا الحيَّ الأتراكُ للمهاجرين من أهل إقريطش (كريت) وما والاها لمّا غلبهم الكفار على أرضهم وانتزعوا منهم جزيرتهم، وكان موضع «المهاجرين» ممتلئاً بالمدارس، تقوم صفاً متصلاً على كتف نهر يزيد متجاورة لا يكاد يُحصى عددها، من الصالحية إلى السفح المطلّ على الوادي. وفي قاسيون واديان: الوادي الأكبر الذي يجري فيه بردى، ويقدّر العلماء أن مجراه هو الذي أنشأ الله به هذا الوادي في سوالف الدهر. وهو من أجمل أودية الدنيا، لا أعرف مثله إلاّ وادي الآرْدِن في بلجيكا الذي يجري فيه نهر الموز، وفيه قرية دينان حيث كانت المعارك في الحربين العالميتين بين الحلفاء والألمان.

فإذا رمينا بأبصارنا إلى بعيد وبلغناه بخيالنا تصوّرتُ مصر وفيها خالي محب الدين الخطيب، وإسطنبول وفيها عمّي الشيخ عبد الوهاب، يلاحق قضية لنا مع آل الصلاحي بقيت في المحاكم بين دمشق وإسطنبول ثلاثاً وثمانين سنة. وكانت أمي رحمها الله تُلزِمني أن أكتب إلى أخيها رسالة، وكان ذلك سنة 1335هـ لمّا بدأت أتعلم الكتابة وأنشئ الرسائل. تقول لي كل يوم، وربما كرّرت لي القول مرتين في اليوم: ياعلي الله يرضى عليك اكتب لي مكتوباً إلى خالك في مصر. ولم يكن يُرضيها أن تكون الرسالة من إنشائي أنا فلم يكن يعجبها إنشائي، بل أن أختار لها ديباجة حلوة من كتاب «الإنشاء العصري»، وكان يشتمل على جميع أشكال الرسائل: رسائل الاستعطاف والاعتذار والتهنئة والتعزية، التي تُرسَل إلى الوزراء أو الرؤساء أو الأهل والأقارب أو الإخوان أو الأصدقاء. وتقول لي: اقرأ الديباجة حتى أسمعها. لأنها رحمها الله لم تكن تقرأ أو تكتب، مع أن عمّتي (وهي أسَنّ منها بخمس عشرة سنة) كانت تكتب وتقرأ وتحفظ كثيراً من آيات الكتاب ومن أحكام الفقه، وكانت قد تعلّمته من رسالة لمحمود الحمزاوي، أشهر مُفتٍ في دمشق في القرن الماضي، اسمها «علم حال»، وهو كُتيّب في أصول الدين وأصول الفقه وفي الحلال والحرام وفي الآداب والأخلاق وضعه لتلاميذ المدارس الابتدائية، ولم يكونوا يفهمون منه شيئاً فكانوا يحفظونه غيباً ويردّدونه كما تردّد الببغاء ما يُلقى عليها! وكانت عمّتي مع أول فوج تَخرّج في مدارس البنات التي أُنشئت بهمّة الشيخ طاهر الجزائري في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وكان

تاريخ شهادتها سنة 1300هـ. أقول وأعود إلى الموضوع بعد أن خرجتُ عليه: إن أمي كانت ترتضي الديباجة فتكلّفني نقلها من الكتاب إلى الورق ثم إرسالها إلى أخيها. فمكرتُ يوماً فكتبتُ إليه: "السلام عليكم ورحمة الله، نحن بخير، والرسالة في الصفحة كذا من كتاب الإنشاء العصري. أقول هذا توفيراً لوقتك ووقتي وتسهيلاً عليك وعليّ"، فرَدّ عليّ مسروراً بما فعلت بكتاب لا يزال عندي، يثني فيه على فعلي لأنني -كما قال- حفظت له وقته. أما عمّي الذي في إسطنبول فما كنت أكتب إليه لأنني لا أعرف عنوانه. * * * يا لله كم تبدّلَت الدنيا من تلك الأيام إلى الآن! ذهب عالَم وجاء عالم آخر. كنت أصدر سنة 1348هـ رسائل متتابعة اسمها رسائل «في سبيل الإصلاح»، جعلتُ إحداها صورة أدبية خيالية لِما تكون عليه دمشق بعد تسعين عاماً وجعلت ذلك عنوانها، أفتدرون ما الذي كان من ذلك مما نراه الآن، لا بعد تسعين عاماً بل بعد ستين فقط؟ إن الذي تصورتُه بخيالي الجامح الذي لا يقف عند حدّ لم يبلغ ربع ما وقع الآن. * * *

رسائل الإصلاح وسيف الإسلام انتقدت الشيوخ الجامدين والشبان الجاحدين

-245 - رسائل الإصلاح وسيف الإسلام انتقدت الشيوخ الجامدين والشبان الجاحدين طبعتُ رسالتي «دمشق بعد تسعين عاماً» سنة 1348هـ، وأنا أتخيل الآن ماذا تكون حالي لو أنني نمت عشية ذلك اليوم في الكهف الذي نام فيه الفتية الذين آمنوا بربهم فلم أستيقظ إلاّ سنة 1408هـ، فإذا الأرض غير الأرض والناس غير الناس، وإذا كل شيء قد تبدّل: انقلبت الموازين واختلّت المقاييس، كَبُرَ الصغير وصَغُرَ الكبير، وعزّ الذليل وذلّ العزيز، ولم تعُد العظمة دائماً بما تحوي الرؤوس ولكن بما تصنع الأقدام، فالذي يرمي الكرة برجله فيُدخِلها الشبكة في الملعب أشهر وأكبر في الناس من الذي يكشف في العلم مجهولاً، أو يحلّ معضلة، أو يبني في صرح الأدب رفرفاً يكون لأمّته ذخراً وفخراً. والذي يسلّي الناس على المسرح أشهر من الذي يعظهم في المسجد على المنبر، أو يعلّم في الجامعة أبناءهم، أو يداوي في المستشفى مرضاهم. وغدا أمثال عادل إمام ودريد لحّام أعرفَ في الناس من مدير الجامعة أو من شيخ الأزهر وأذْيَعَ اسماً وأشهر.

ولكن من نعم الله على الإنسان أن الطفرة لا مكان لها في نظام هذا الكون وأن كل شيء يتبدّل ولكنه يجري في تبدُّله على مهل؛ إنك ترى ظل الشمس عند الجدار تحسبه ثابتاً لا يتحرك، ولكن عد إليه بعد ساعتين تجده قد انتقل من مكانه، والعقرب الصغير في الساعة تبصره واقفاً ولكنه يمشي. والإنسان ينتقل من الضعف إلى القوة ويعود بعد القوة إلى الضعف. يكون طفلاً لا يملك نفعاً ولا ضراً، لا يستطيع أن يطرد الذباب إذا حطّ على أنفه الذباب، ثم يقوى حتى يطوي الأرض فيعلو متن الهواء ثم يخترق طرف الفضاء. ولو سألته: في أيّ ساعة من أيّ يوم انتقلتَ من الطفولة إلى الشباب ومن الشباب إلى الكهولة؟ لما استطاع أن يُجيب. والليل يكون أسْوَدَ داجياً، فمَن كان في غرفة مغلقة لا يبصر مما حوله شيئاً، إذا أخرج يده لم يكَد يراها، فإذا كانت الظهيرة من الغد ملأ الضوء المكان وكشف كل ما فيه، فهل انتقلنا من ظلمة الليل إلى وهج الظهيرة في لحظة واحدة؟ إن سنّة الله في خلقه أنه يولج الليل في النهار، وأنه يُخرِج من الطفل الضعيف رجلاً قوياً، ثم يعود القوي ضعيفاً كما بدأ. لقد صدر في أعقاب الحرب الأولى، يوم كنت تلميذاً في أواخر المدرسة الابتدائية، كتاب تُرجم إلى أكثر اللغات وقُرئ في أكثر البلدان، ألّفه شبنكلر، ينتقد ما يقرَّر على الطلاب في المدارس من أن القرون الأولى تنتهي بسقوط روما وأمثال هذه التحديدات. ومثلها ما يدرَّس عندنا في تاريخ الأدب من أن العصر

الأموي قد خُتم بقتل مروان، الذي كان يُدعى لصبره بالحمار مدحاً له لا ذمّاً وانتقاصاً. فلو أن روما سقطت يوم الجمعة فهل كان يوم الخميس قبلَها من القرون الأولى ويوم السبت من القرون الوسطى؟ ولو قُتل مروان يوم السبت هل يكون الأحد من العهد العباسي؟ إن من الشعراء من عاش في العهدين، نظم فيهما الشعر وقال فيهما القصائد، فهل القصيدة التي قالها بشار مثلاً في العهد الأموي تختلف بخصائصها وصفاتها عن التي قالها في العهد العباسي؟ الدنيا التي عاش فيها أبي ووُلدتُ فيها أنا وأكثرُ إخوتي ما زالت تنقص من أطرافها وتتغير معالمها حتى لم يكَد يبقى منها إلاّ أقلّ من القليل، وجاءت دنيا جديدة. فلو أن أبي بعثه الله من مرقده الآن لَما عرف كيف يمشي في دمشق ولا عرفه أحدٌ من أهل دمشق، ولغدا جاهلاً بها مجهولاً من أهلها، وقد كان علَماً من أعلام علمائها. ولرأى ولده سعيداً الذي تركه ابنَ ثلاثة أشهر صار في الخامسة والستين. ولقد غدونا كلنا -نحن الإخوة الأربعة وأختان لنا- كلنا صرنا أكبرَ سنّاً من أبينا ومن أمنا اللذين قضيا ولم يجاوز أكبرُهما الثالثةَ والأربعين. فهل رأيتم أو سمعتم بأولاد أبواهم أصغر سنّاً منهم؟ * * * أنا إنما أنشأت هذا الفصل ليكون مقدّمة لكتاب من كتب أخي ناجي. وناجي وأخواه عبد الغني وسعيد كلهم أنبغ مني، ولكني خطفتُ الأضواء منهم كما يقولون في التعبير الحديث. دخلت

حلبة المصارعة (وما الحياة إلاّ مصارعة) بطبل وزمر وضجّة وصخب؛ نشرتُ سنة 1348هـ «رسائل في سبيل الإصلاح» التي أتكلم الآن عنها، فانتقدت فيها المشايخ وأساليبَهم في التدريس واختيارهم للكتب وبُعدَهم عن العلوم الجديدة، فأثَرتُهم عليّ حتى أُلّفت في الردّ علي كتب منها «الإفصاح عن رسائل الإصلاح» للشيخ أحمد الصابوني رحمه الله. وقد كان خطيباً من أبرع مَن عرفت من الخطباء، يخطب في المساجد يذمّ الشباب المنحرفين ويدعو إلى التمسّك بالدين، يضرب المثل بي وبرسائلي، ولا يخرج حتى يبيع ما يحمله أتباعُه من رسالته. ولمّا تيقّن أنني بعيد عما اتهمني به من مخالفة الدين كتب في آخر الرسالة أنه يسلّني مما قال سلَّ الشعرة من العجين، ولكن ذلك لم يمنعه أن يبيع الكتاب وفيه العجين وفيه الشعرة التي سلّها، وأن يحدّث عنه في المساجد! ثم أصدرتُ السنة التي بعدها «رسائل سيف الإسلام» التي كانت تُطبع على نفقة طائفة من خيار التجار وتوزَّع بالمجان، هجمتُ فيها على الشبان الجاحدين كما هجمت في الرسائل الأولى على الشيوخ الجامدين، فوضعتُ نفسي بين حجرَي الرحى، وصرت كالواقف في الحرب بين الصفّين يتلقى السهام من الجانبَين. نبّهت الناس إليّ فظلمتُ إخوتي الذين هم أنبغ مني؛ ذلك لتعلموا أن الشهرة ليست مقياس العظمة ولا المدار عليها في تقدير قِيَم الرجال. لقد عرفت الشهرة وذاع اسمي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، ولي كتاب اسمه «الهيثميات»، لأنني كنت أنشر بإمضاء

«أبو الهيثم»، وكنت أولَ من سمّى نفسه به في دمشق، وكلُّ مَن تعرفونه باسم «هيثم» في دمشق إنما وُلد بعد إصدار هذا الكتاب (¬1). وتحت يدي الآن العدد الأول من مجلة «البعث» التي كنت أُصدِرها من نحو ستين سنة، قبل أن يولد حزب البعث وقبل أن يتخذ لنفسه هذا الاسم. وكان المسؤول عنها أمام الحكومة والذي يتولى إدارتها جمعية التهذيب والتعليم، ورئيسها الشيخ هاشم الخطيب رحمه الله. في هذا العدد الذي صدر في غرة جمادى الأولى سنة 1350هـ قصيدة لشاعر لم يصرّح باسمه، ولكنْ وقّع في ذيل قصيدته باسم «أبو النضر». جاء فيها: وَيلٌ لِمَن ملَكَ القويُّ قِيادَهُ ... وغدا يُبدّدُ مالَهُ وبلادَهُ ويُذيقُهُ مُرَّ العذابِ وليسَ مَنْ ... يُنجِيه من مَضَضٍ أذابَ فؤادَهُ ما للقويِّ سوى الضعيفِ فريسةٌ ... والذئبُ يَلقى في الشياه مُرادَهُ يعدو على الحَمَلِ البريءِ مُقادِعاً ... فيُريه منه البِشْرَ كي يَصطادَهُ فِعلَ الفِرَنْجَةِ بالضّعيفِ منَ الشعو ... بِ، توَدُّهُ إذ تبتغي استعبادَهُ يا شرقُ فاذكُرْ عهدَ عِزٍّ قدْ مضى ... كيما تُعيدَ إلى الوجودِ تِلادَهُ أيامَ كانَ العِلمُ فيكَ ونورُهُ ... يَهدي ببازغِ شَمسِهِ رُوّادَهُ أيامَ كنا للوجودِ أئمّةً ... ونُري الوجودَ ضَلالَهُ ورَشادَهُ اُذكُرْ أُسودَ اللهِ مَنْ حكَموا الورى ... بسيوفِهمْ يتسلّمونَ قِيادَهُ وانظُرْ ديارَهُمُ تراها بَلْقَعاً ... والغربُ يُؤوي ربعُها أجنادَهُ ملَكوا أئمّتَها وساموا شعبَها ... خسفاً وهدّوا ظالمينَ عمادَهُ الضَّعفُ في شَرعِ الحياةِ جريمةٌ ... يا وَيلَ مَنْ ملَكَ القويُّ قِيادَهُ ¬

_ (¬1) أحسب أن من تمام الجملة السابقة ذكر السنة التي نُشر فيها كتاب «الهيثميات»، فلعلّه أراد أن يقول "ولي كتاب اسمه «الهيثميات» أصدرته سنة 1349هـ"، ثم شغله الاستطراد بالإشارة إلى اسم «الهيثم» الذي تكنّى به عن إتمام الجملة، والله أعلم (مجاهد).

وَيلٌ لِمَن ملَكَ القويُّ قِيادَهُ ... وغدا يُبدّدُ مالَهُ وبلادَهُ ويُذيقُهُ مُرَّ العذابِ وليسَ مَنْ ... يُنجِيه من مَضَضٍ أذابَ فؤادَهُ ما للقويِّ سوى الضعيفِ فريسةٌ ... والذئبُ يَلقى في الشياه مُرادَهُ يعدو على الحَمَلِ البريءِ مُقادِعاً ... فيُريه منه البِشْرَ كي يَصطادَهُ فِعلَ الفِرَنْجَةِ بالضّعيفِ منَ الشعو ... بِ، توَدُّهُ إذ تبتغي استعبادَهُ يا شرقُ فاذكُرْ عهدَ عِزٍّ قدْ مضى ... كيما تُعيدَ إلى الوجودِ تِلادَهُ أيامَ كانَ العِلمُ فيكَ ونورُهُ ... يَهدي ببازغِ شَمسِهِ رُوّادَهُ أيامَ كنا للوجودِ أئمّةً ... ونُري الوجودَ ضَلالَهُ ورَشادَهُ اُذكُرْ أُسودَ اللهِ مَنْ حكَموا الورى ... بسيوفِهمْ يتسلّمونَ قِيادَهُ وانظُرْ ديارَهُمُ تراها بَلْقَعاً ... والغربُ يُؤوي ربعُها أجنادَهُ ملَكوا أئمّتَها وساموا شعبَها ... خسفاً وهدّوا ظالمينَ عمادَهُ الضَّعفُ في شَرعِ الحياةِ جريمةٌ ... يا وَيلَ مَنْ ملَكَ القويُّ قِيادَهُ أترون هذه الأبيات؟ فلمن تحسبوها؟ إنها لطالب في الثانوية في السابعة عشرة من عمره، وأكثر طلاب الثانوية الآن في كثير من البلدان لا يستطيعون قراءة أمثالها بلا خطأ. وفي عدد جمادى الأولى 1352هـ من مجلة «الرسالة» قصيدة مترجَمة شعراً عن أندريه شينيه، الشاعر الفرنسي المولود في إسطنبول سنة 1762 (كما وُلد فيها أخوه الأديب ماري جوزيف شينيه بعده بسنتين)، وهو شاعر معروف. وترجمة الشعر شعراً مع المحافظة الممكنة على المعنى من أصعب الصعاب. عنوان القصيدة «اللقاء العجيب»، هذه أبياتها تصوّر الشاعر العاشق وصاحبتَه تائهَين في الغاب، كلٌّ يطلب الآخر ولا يجده ويبحث عنه ولا يصل إليه، فتقول هي: أيها الغابُ، هل رأيتَ حبيبي ... قُربَ ماءِ الغديرِ عندَ الغروبِ؟ كمْ صباحٍ أتاكَ بلْ كمْ مساءٍ ... عندَ همسِ الصَّبا وشدوِ الجنوبِ؟ سوفَ أُصغي لكلِّ صوتٍ بعيدٍ ... فلعلّي أحظى بِهِ مِنْ قريبِ ويقول هو (وهو في الجهة الأخرى من الغاب، لا يراها ولا يعرف مكانها): إيهِ ياموجةَ الغديرِ سلاماً ... يا عروسَ الماءِ النّميرِ السَّكوبِ اِحمِلي لي حبيبتي فهْيَ عندي ... زهرةُ الحبِّ، فَوقَ غُصنٍ رطيبِ

كمْ لثمتُ العشبَ الذي وطِئَتهُ ... قدماها في الغاب دونَ رقيبِ هي: آهِ لو يعلَمُ الحبيبُ بشوقي ... وحنيني وحُرْقتي وشُحوبي هلْ أراهُ في الغابِ؟ إنّ خيالي ... لَيراهُ في ذا المكانِ الرّحيبِ سوفَ أدعوهُ بابتسامٍ وعطفٍ ... فعساهُ يكونُ يوماً مُجيبي هو: رَبِّ هبْ لي رُحماكَ صبراً جميلاً ... إنّما الصبرُ جنّةُ المَكْروبِ هلْ أتاها أنّي لَيخفِقُ قلبي ... لِسَماعِ اسمِها الجميلِ الطَّروبِ؟ سأنادي دوماً بصوتٍ حنونٍ ... علّها أن تُجيبَ صوتَ الحبيبِ هي: آهِ إني لمَحتُه فأعِنّي ... يا لساني في ذا اللقاءِ الرهيبِ أهُنا أنتَ؟ إنّ ذا لَعجيبٌ ... أنا وحدي في ذا المكانِ الرّحيبِ لم أفكّرْ في أن أراكَ ولكنْ ... جُزتُهُ نحوَ بيتِيَ المحبوبِ هو: أنا ألهو برؤيةِ الموجِ وحدي ... وذُرى الزَّيْزَفونِ تجلو كُروبي لم أفكّرْ في أن أراكِ أمامي ... لم أفكّر في ذا «اللقاءِ العجيبِ» * * * هاتان المقطوعتان نُشرتا من نحو ستين سنة لطالب كان يومئذ في المدرسة الثانوية، هو أخي ناجي الطنطاوي. نظم بعدها ما لا يُحصى من المقطوعات ومن القصائد ولكنه لم يجمع منها شيئاً، ولولا أنني وجدت بعضه في مجموعة «الرسالة» ومجموعة

مجلة «البعث» من قبلها لضاعتا فيما ضاع. وناجي أحد الذين يجري الشعر على ألسنتهم كما يجري الماء، ينظمونه عفواً ويرتجلونه ارتجالاً. ولقد عرفت من الشعراء الكبار في هذا العصر مَن يرتجل، منهم الشاعر الكبير الشيخ عبدالمحسن الكاظمي. قال له مرة الأستاذ خير الدين الزركلي في مصر: وجدت أبياتاً أحب أن تُجيزها. قال: هاتِ. فقرأ عليه أبياتاً من بحر الطويل وقافية الراء، فتدفّق الكاظمي بقصيدة من البحر والرويّ، فلما بلغ منها بضعة عشر بيتاً قال له خير الدين: لا لا، عفواً بل من البحر الكامل وقافية النون. قال له: هل تمتحنني ياخير الدين؟ وأجاز هذه الأبيات بقصيدة ارتجلها بلغَت أبياتها خمسة وأربعين بيتاً، تدفّق بها تدفّقاً من غير إعداد ولا تحضير. وحدّثني بها الأستاذ الزركلي رحمه الله والأستاذ أحمد عبيد. وجُزتُ يوماً بأخي ناجي، وكان وحده في الدار يعالج شيئاً فيها. قلت: ماذا تصنع؟ قال: هذا القميص وجدتُه متوسّخاً فنزعته. قلت: هذا كلام موزون فأتمِم القصة. قال: هذا القَميصُ معَ اللّباسِ (¬1) وجَدتُهُ ... متوسّخاً فنزَعتُه وخلَعتُه ووجَدتُ قِدراً فارغاً فوضَعتُهُ ... فيها وماءً صافياً فنقَعتُه ووضَعتُ «تَيْداً» فوقَهُ ومزَجتُهُ ... وترَكتُهُ في جوفِها ونقَعتُه وخرَجتُ منْ بيتي وقدْ أقفلتُهُ ... ورأيتُ قُربي مسجداً فدخَلتُهُ والفرضَ خلفَ إمامِهِ أدّيتُهُ ... ومشَيتُ في سوقٍ هناكَ رأيتُهُ ¬

_ (¬1) «اللباس» هو التعبير الدّارج في لغة عامة أهل الشام عن السّراويل الجوّانية التي تُلبَس على الجسم تحت البنطال (مجاهد).

متجوّلاً فيهِ وقدْ أحببتُهُ ... ورجعتُ للبيتِ الذي خلّفتُه وبدا القميصُ لناظري فأخذتُهُ ... وبهمّةٍ وعزيمةٍ نظّفتُهُ ومضى يكمل القصة على هذا النمط. وما هذا بالشعر السامي ولا بالفن الرفيع، ولكنه لسهولته ولقربه من الناشئة يصلح أن يُتّخَذ لنظم الأشعار للأطفال كما يصلح للمسرحيات المنظومة. وأنا أعرف من الشعراء القدماء والمحدَثين من كان له مثل هذا الأسلوب، وليست تحت يدي وأنا أكتب هذا الفصل مراجع أرجع إليها فأكتفي بما أحفظ من أسماء الشعراء وبما بقي في ذهني مما قالوا (¬1)، فمن هؤلاء البهاء زهير وأحفظ قوله: مِنَ اليومِ تعارَفْنا ... ونطوي ما جرى مِنّا فلا كانَ ولا صارَ ... ولا كُنتُمْ ولا كنّا ومن الشعراء المعاصرين شاعر عندي ديوانه في مكتبتي في الشام اسمه رستم (ونسيتُ بقية الاسم)، ديوانه كله من هذا النمط الذي يمكن أن تسميه العامي الفصيح كقوله: لقَدْ زُرتُ زيداً وما زارني ... وما عجَبٌ أنْ قبلتُ اعتذارَه فإنّ الحمار بإصطبْلِهِ ... يُزارُ وليسَ يَرُدّ الزياره وفي أول الديوان بيتان عالقان في ذهني هما: قالوا: متى يطلُعُ ديوانُكُمْ؟ ... فوقَعوا في غلطةٍ مُفظِعه صوابُه: «ينزِلُ»، إذْ أنّهُ ... في الطابقِ الأعلى منَ المطبعه ¬

_ (¬1) ولشوقي من هذا الشعر طائفة تصلح أن تُطبَع ديواناً للأطفال، وهي في الجزء الرابع من «الشوقيات» (مجاهد).

وقد لحظتم أن الشطر الثاني من البيت الأول حشو ليس له مكان إلاّ إقامة الوزن. * * * وأخي ناجي شاعر وفقيه. ولا تعجبوا أن يجمع رجل بين الفقه والفتوى والقضاء وبين الشعر منظوماً ومترجَماً عن لغة أخرى، فإن تاريخنا العلمي مترَع بأمثال هذه النماذج، وحسبكم واحداً هو ابن رشد الحفيد، وقيل «الحفيد» لأن جدّه كان أيضاً فقيهاً وكان قاضياً، فهو في هذا كتقي الدين ابن تيميّة المشهور الذي كان جده مجد الدين مثلَه فقيهاً معروفاً، ولكن اسم الحفيد غطّى على اسم الجَدّ. ابن رشد مثلاً كان قاضي الجماعة في الأندلس. ولقب «قاضي الجماعة» فيها يعدل لقب «قاضي القضاة» في بغداد. وكان من أكبر فقهاء المذهب المالكي، مع مشاركة قوية واطّلاع واسع على المذاهب الأخرى، ويكفي دليلاً على ذلك كتابه العظيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو من أجود الكتب فيما يدعونه الآن في كلّيات الشريعة بالفقه المقارن، وهي ترجمة حرفية لاسمه عند غيرنا، ولو رجعوا إلى ما كان يسمّيه به أجدادنا لكان خيراً وأجدى وهو «علم الخلاف»، فإذا قالوا «فلان عالِم باختلاف الفقهاء» قصدوا اختلاف العلماء في المذهب الواحد، وإذا قالوا «علم الخلاف» فإنما يريدون به ما يُراد الآن باسم الفقه المقارن. ابن رشد هذا كان أكبر الفقهاء، وكان في الوقت نفسه أكبر الأطباء وكان المرجع في علم الطب يُرجَع فيه إليه ويؤخَذ عنه،

وكان أكبر عالِم بالفلسفة، ردّ على الغزالي بعد موته بزمن طويل. وذلك أن الغزالي كان أستاذاً في «المدرسة النظامية» يوم كانت تُعَدّ الجامعةَ الكبرى في العالَم المتحضر، فلخّص مذاهب الفلاسفة وشرَحها شرحاً واضحاً بيّناً على عادته في كل ما يكتب، وصار كتابه هذا «مقاصد الفلاسفة» مرجعاً لكل من درَسها، ثم ردّ عليها ونقدها في كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، هذا الذي ردّ عليه ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت»، وقد طُبع الكتابان معاً (ومعهما رسالة لمؤلّف ليس من طبقتهما ولا من أقرانهما، حشر نفسه أو حشروه معهما). * * * ولابن رشد أمثال من الذين جمعوا علوماً مختلفة أو كانوا أدباء وكانوا فقهاء وعلماء، أعرف من هؤلاء الكثير الكثير، ولكن لمّا ضَعُفَت الملَكات وكان ما يُدعى بعصر الانحطاط، انفكّت الصلة بين الأدب والعلم وضاعت الملَكة البيانية فافتقدها أكثر المؤلّفين. ولمّا كنا صغاراً كان العلماء بين اثنين: عالِم بالعلوم الشرعية لكنه وقف عند القديم الموروث فلم يجاوزه وجَهِلَ مااستُحدث في العلوم بعد عصر النهضة فلم يعرفه، وعالِم درس العلوم الحديثة (التي كانوا يدرسونها على أيامنا في إسطنبول، ثم صاروا يدرسونها في لندن أو باريس أو أمريكا). كان من علمائنا في الشام من يُنكِر كروية الأرض، مع أن المسلمين عرفوها من قديم، بل إنهم قاسوا طول خطّ الاستواء أيام المأمون إذ أوفد (كما أحفظ، ولعلّي لا أكون ناسياً أو

مخطئاً) أوفد بعثتين، واحدة إلى صحراء سِنْجار والثانية إلى جوار تدمر (¬1)، فرصدوا نجم القطب ومشوا بخطّ مستقيم حتى رأوه قد ارتفع درجة واحدة، فقاسوا المسافة على الأرض وضربوها بثلاثمئة وستين التي هي درجات الدائرة عرفاً، فعرفوا طول محيط الأرض. والرقم الذي وصلوا إليه لا يختلف عن الرقم المعترَف به الآن علمياً إلاّ بقدر يسير. فجاء من مشايخنا الذين كنا نقرأ عليهم بعد أكثر من ألف ومئتَي سنة مَن يشكّ في كروية الأرض، ثم جاء شيخنا الشيخ الكافي التونسي (الذي كتبتُ عنه في ذكرياتي هذه) فألّف في الشام لمّا هاجر إليها كتابَيه «الأجوبة الكافية» أولاً و «المسائل الكافية» ثانياً، ذهب فيها شتّى المذاهب وجاء بما توهّمه دليلاً (وليس بدليل) على إنكار حركة الأرض والزعم بأنها ثابتة والشمس تدور من حولها، كما كان يعتقد الفلاسفة من اليونان. وعن الشيخ الكافي أخذ مَن قال هذه المقالة من العلماء هنا. ثم رأينا من يُنكِر حقائق فلكية ثابتة فلا يصدّق أن الشمس إنما تُكسَف في أوائل الشهر العربي وأن القمر إنما يُخسَف في أواسطه. وكان منهم من يدَع الطبّ الحديث ويلجأ إلى تذكرة داود الأنطاكي في الصيدلة، وإلى كتب الطبّ القديمة التي تأخذ عن جالينوس وأبقراط. وأصغر تلميذ اليوم في كلية الطب يعرف من ¬

_ (¬1) هذا صحيح، وذكر ابن خَلّكان في «وَفَيَات الأعيان» أن المأمون كلّف بهذا العمل أبناءَ موسى بن شاكر الثلاثة فنفّذوه. وأحسب (ولا أحقق) أن صحراء سِنجار قريبة من الموصل، والله أعلم (مجاهد).

الطب أكثر مما كان يعرف أبقراط وجالينوس! (¬1) والعجيب أن أسامة بن منقذ لمّا كانت الهدنة بين المسلمين والإفرنج خلال الحروب الصليبية ورُفعَت الحواجز بينهما ذهب فخالط الإفرنج من قرب، فرأى كيف كانوا يداوون المرضى بالسحر والطلاسم وبأشياء يقرؤونها عليهم لطرد الشياطين منهم لاعتقادهم أن الجنّ تدخل في الإنسان فتُمرِضه. وكان من مشايخنا من يقول بهذا ويصدّقه! والعجيب أن علماء كباراً جداً يتكلمون عن الصرع ينسبونه إلى الأرواح السفلية والأرواح العلوية والأرواح الطيّبة والأرواح الشريرة والنزاع بينها، يأخذون ذلك عن اليونان ولا يتنبهون -على جلالة أقدارهم وعلى علوّ منازلهم- إلى أن هذا من فروع تعدُّد الآلهة (أي الشِّرك) عند اليونان الذين كانوا يجعلون لكل شيء إلهاً، ثم يجعلون لهؤلاء الآلهة مكاناً يجتمعون فيه هو جبل الأولمب، ورئيساً لهم يُشرِف عليهم هو زيوس (الذي سمّاه الرومان لمّا أخذوا هذه «المثولوجيا» عن اليونان جوبيتير). ¬

_ (¬1) ما بقي من هذه الحلقة ليس من أصل مقدمة كتاب «كلمات نافعة»، وقد بقيَت من المقدمة الأصلية ثلاث صفحات لم تُدرَج هنا، فمَن شاء قرأها في كتاب «مقدّمات الشيخ علي الطنطاوي»، وفي آخرها:"لقد فتحتَ عليّ -يا ناجي- بابَ الذكريات، ولو دخلتُه لم أخرج منه ولبلغَتْ هذه المقدمة مئةَ صفحة، كانت فيها أيام لم يبقَ منها إلا ذكريات. وأين منا الآن تلك الأيام؟ وأين مَن كان فيها من الأهل والإخوان والأصدقاء والخِلاّن؟ لقد مضوا، ونحن ماضون على آثارهم. فاللهمّ لك الحمد أن نَسَلتَنا من أبوين مسلمَين صالحَين، وأن أنشأتنا في دار علم وتقى، ونسألك اللهمّ أن تجعل نهايتنا خيراً من بدايتنا وأن تختم لنا بالحسنى". قلت: اللهمّ آمين (مجاهد).

وزعموا أن للأرواح بعض التصرّف بالكون وأن منها الخيّر وأن منها الشرير. والإسلام يأبى ذلك كله ويرفضه، ولا يؤمن المسلم بالنفع والضرر إلاّ من الله أو بالأسباب والقوانين الواضحة التي وضعها الله لهذا الوجود. وقد بيّن الله في القرآن بياناً شافياً أن الجنّ (أو كفّار الجنّ الذين هم الشياطين) لا يملكون إلاّ الوسوسة، ففي صريح القرآن أنه إذا كان يوم المحاكمة الكبرى أمام ربّ العالَمين يقول الشيطان للكافرين: {ومَا كانَ لي عليكُمْ مِنْ سُلطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُم لي، فلا تَلوموني ولوموا أنفسَكمْ}. والله يقول: {إنّ كَيدَ الشّيطانِ كانَ ضعيفاً}، فالشيطانُ لا يعلم الغيب ولا يملك النفع ولا الضرر وليس عنده إلاّ الوسواس، وما نُشر رداً عليّ في مجلة «المجتمع» وفي مجلة «أخبار العالم الإسلامي» عندي ما ينقضه من أساسه وليس فيه دليل شرعي قطعي واحد على دخول الجني في أجساد الناس، ولا ثبت ذلك بدليل شرعي صحيح ولا بدليل عقلي ثابت. أمّا أن تتكلم المرأة بصوت الرجل فيكون هذا دليلاً على أن رجلاً خفياً من غير الإنس يتكلم بلسانها فهذا كلام إذا قيل على أنه نكتة لطيفة فهو مقبول، وإن قيل على أنه جِدّ فيكون الممثل عبد العزيز الهزّاع قد دخل فيه عشرون جنياً، لأنه يؤلّف رواية كاملة ينطق فيها الرجل بصوته وتنطق فيها المرأة بصوتها ويتكلم فيها الصبي بصوته، وكل ذلك يخرج من فمه! * * *

الخاتمة

الخاتمة هذه نهاية الجزء الثامن من «الذكريات»، ولكنها ليست نهاية الذكريات. ولا أحسب الذكريات تنتهي حتى تنتهي الحياة، لأن الإنسان كلما عاش يوماً رأى فيه مشهداً أو سمع خبراً أو مرّ بتجرِبة، وتمحّص الأيامُ هذه المرئيات وهذه المسموعات، فيأكل كثيراً منها النسيانُ وما بقي منها استحال إلى ذكريات. وقد علّمونا ونحن صغار أن الأمور مرهونة بأوقاتها، ولكنّا لا نعرف هذه الأوقات إلاّ حين لا تنفعنا معرفتنا بها، أي بعد حدوث الأمور، ولو عرفناها قبلها لأعددنا لها عدّتها. كنت عازماً على كتابة هذه الذكريات من قديم، حتى إني أعلنت عنها في مقدّمة كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام»، ولكني لم أبدأ بها إلاّ حين جاء وقتها، وشرعتُ فيها وما في ذهني خطّة لها أتبعها ولا صورة لها أحقّقها، فجاءت على أسلوب غير ما عرفنا من أساليب المذكرات، فرضي عنها ناس وسخط ناس. وكان الذهن موجَّهاً إليها والقلم ماشياً بها، وكان بالإمكان أن أكتب مثل الذي كتبتُ ونشرت، ولكني توهّمت أنها طالت وأن القراء بَرِموا بها والجريدةَ ضاقت بها. وما ضاقت الجريدة ولابَرِم القراء، ولكني توهّمت أمراً فرأيته حقيقة فقطعتها. والله وحده

يعلم: هل لي عودة إليها أم قد صُرفت عنها فأحتسبها؟ فالذكريات في نفسي ولكن التوفيق من الله. فأسألُ الله أن يوفّقني في هذه وفي غيرها إلى ما يُرضيه وأن يُرضيني بما يرضاه لي. وله الحمد، ثم لجريدة «المسلمون» التي بدأَتها و «الشرق الأوسط» التي نشرَتها مقالات، ولدار المنارة التي أخرجَتها في هذا الكتاب. مكة المكرمة، العزيزية يوم ذكرى مولدي: 23/ 5/ 1409هـ الذي يوافق هذه السنة غرة سنة 1989م

المحتويات الحلقة (215) وداع المحكمة الشرعية ... 5 الحلقة (216) في محكمة النقض في القاهرة ... 21 الحلقة (217) أشتات من الذكريات ... 37 الحلقة (218) زياراتي القديمة لمكة ... 51 الحلقة (219) حجة 1381: خواطر وأفكار ... 65 الحلقة (220) أبو الحسن النَّدْوي ومذكّراته (1) ... 79 الحلقة (221) أبو الحسن النَّدْوي (2) ... 91 الحلقة (222) أبو الحسن النَّدْوي (3) ... 103 الحلقة (223) في مطلع العام 1987 ... 117 الحلقة (224) مؤتمر القمة الإسلامي ... 131 الحلقة (225) الفقيدان الوزير والمدير، ومن قبلهما فقدنا الأمير ... 145 الحلقة (226) لبّيكَ اللهمّ لبّيكَ ... 159 الحلقة (227) كيف جئتُ المملكة؟ ... 173 الحلقة (228) وقفة على المخيَّمات ... 185 الحلقة (229) منزلي في الرياض ... 197 الحلقة (230) لمّا كنت أستاذاً في الكلّيات والمعاهد ... 211 الحلقة (231) تفسير بعض الآيات ... 221

الحلقة (232) من المستشفى المركزي في الرياض إلى مستشفى المواساة في دمشق ... 235 الحلقة (233) في مكة سنة 1384هـ ... 245 الحلقة (234) في كلية التربية في مكة ... 257 الحلقة (235) يوم الجلاء عن سوريا ... 273 الحلقة (236) لمّا علّمتُ البنات ... 287 الحلقة (237) خواطر ومشاهدات عن تعليم البنات ... 299 الحلقة (238) لغتكم ياأيها العرب (1) ... 309 الحلقة (239) لغتكم ياأيها العرب (2) ... 323 الحلقة (240) ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (1) ... 333 الحلقة (241) ذكريات العطلة الصيفية في دمشق (2) ... 347 الحلقة (242) هذه الحلقة من الذكريات مسروقة ... 357 الحلقة (243) عندكم نابغون فتّشوا عنهم بين الطلاب ... 367 الحلقة (244) عزمتُ أن أطوي أوراقي وآوي إلى عزلة فكرية ... 377 الحلقة (245) رسائل الإصلاح وسيف الإسلام: انتقدت الشيوخ الجامدين والشبان الجاحدين ... 389 الخاتمة ... 403

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق ... 1935 2 ـ قصص من التاريخ ... 1957 3 ـ رجال من التاريخ ... 1958 4 ـ صور وخواطر ... 1958 5 ـ قصص من الحياة ... 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح ... 1959 7 ـ دمشق ... 1959 8 ـ أخبار عمر ... 1959 9 ـ مقالات في كلمات ... 1959 10ـ من نفحات الحرم ... 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) ... 1960 12ـ هتاف المجد ... 1960 13ـ من حديث النفس ... 1960 14ـ الجامع الأموي ... 1960 15ـ في أندونيسيا ... 1960 16ـ فصول إسلامية ... 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) ... 1960 18ـ فِكَر ومباحث ... 1960

19ـ مع الناس ... 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات ... 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) ... 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام ... 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي ... 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) ... 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) ... 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) ... 2001 27ـ فصول اجتماعية ... 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) ... 2002 29ـ نور وهداية ... 2006 إلى القرّاء الكرام لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب. مجاهد مأمون ديرانية [email protected]

§1/1