ديوان المعاني

العسكري، أبو هلال

الجزء 1

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على جلائل نعمه وفواضل آلائه وقسمه والرغبة إليه فيما يزلف لديه ويمهد المنزلة عنده ويوجب الحظوة قبله والصلاة على خير بريته محمد وعترته. قال الشيخ أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل رحمه الله تعالى: جمعت في هذا الكتاب أبلغ ما جاء في كل فن وأبدع ما روى في كل نوع من أعلام المعاني وأعيانها إلى عواديها وشذاذها، وتخيرت من ذلك ما كان جيد النظم محكم الرصف غير مهلهل رخو ولا متجعد فج، وهذا نوع من الكلام لا يزال الأديب يسأل عنه في المجالس الحافلة والمشاهد الجامعة إذا أريد الوقوف على مبلغ علمه ومقدار حفظه فإن سبق إليه في بالجواب جل قدره وفخم أمره، وإن نكص عن ميدانه وشال في ميزانه قلت الرغبة فيه وانصرفت القلوب عنه، وذلك مثل ما أخبرنا به أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد رحمه الله تعالى قال: كان بعض من ينتحل الأدب يريد الدخول في جملة أبي الفضل محمد بن الحسن بن العميد لمنادمته، وشفع له في

ذلك جماعة من بطانته فأحضره يوما وفاوضه ليقف على مقداره في المعرفة فقال له فيما قال: ما أحسن ما قيل في صفة شعر؟ فبقي مليا يتفكر فقال أبو الفضل: فند عند خاطرك حداجة، ثم قال هات أيها الشيخ فقلت أحسن ما قاله قديم في ذلك قول الشاعر: (فإن أهلك فقد أبقيتُ بعدي ... قوافا تُعجبُ المتمثلينا) (لذيذات المقاطع محكمات ... لو أنَ الشعرَ يُلبَسُ لارتُدينا) وأحسن ما قاله محدث قول أبي تمام: (ووالله لا أنفك أهدى شواردا ... إليك يحملن الثناء المنخلا) (تخال به بردا عليك محبرا ... وتحسبها عقدا عليك مفصلا) (ألذ من السلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقا وأيسر محملا) (أخف على روح وأثقل قيمة ... وأقصر في سمع الجليس وأطولا) (وُيزهى به قوم ولم يمدحوا بها ... إذا مثل الراوي بها أو تمثلا)

وقوله: (إن القوافي والمساعى لم تزل ... مثل النظام إذا أصاب فريدا) (هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألفته ... بالشعر صار قلائدا وعقودا) (في كل معترك وكل مقامة ... يأخذنَ منها ذمةً وعهودا) (فإذا القصائد لم تكن خفراءها ... لم ترضَ منها مَشهدا مشهودا) (من أجل ذلك كانت العربُ الألى ... يدعون ذلك سؤددا محدودا) (ونند عندهم العلا الأعلى التي ... جعلت لها مُرَرُ القريض قيودا) قال وبقى الرجل لا يفيض بكلمة ثم خرج ولم يعد. قوله فند يعني أن خاطره بطئ. وفند هذا مخنث كان بالمدينة مولى لعائشة بنت أبي وقاص، وكانت بعثته ليقتبس نارا فأتى مصر وأقام بها سنة ثم جاء بنار وهو يعدو فعثر فتبدد الجمر فقال تعست العجلة فقالت فيه: (بعثتك قابساً فلبثتَ حولا ... متى يأتي غياثُك من تغيث) وقال الشاعر: (مارأينا لغراب مَثَلا ... إذ بعثناه لحمل المشمله) (غير فند أرسلوه قابساً ... فثوى حولاً وسب العجله) فتمثلت العرب به فقالت أبطأ من فند. وحداجة رجل يضرب به المثل في السرعة فقيل أسرع من حُداجة. وممن سبق إلى الجواب عن هذا النوع فحظي النضر بن شميل أخبرنا أبو

(إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز) فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشيم حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله

أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد قال حدثنى أبى قال حدثنا إبراهيم بن حامد قال حدثنا أبو بشر محمد بن ناصح الاصبهاني عن النضر بن شميل المازني قال: كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت عليه ذات ليلة وعلي قميص مرقوع فقال يا نضر ما هذا القشف فقلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحر مر وشديد فأتبرد بهذه الخلقان، قال لا ولكنك قشف فأجرينا الحديث إلى أن أخذ المأمون فى ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال قال رسول الله (إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز) فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشيم حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال (إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز) قال وكان متكئاً فاستوى جالسا فقال يا نضر كيف قلت سداد قلت يا أمير المؤمنين السداد ههنا لحن قال ويحك أتلحنني قلت إنما لحن هشيم وكان لحانه فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال فما الفرق بينهما قلت السداد القصد في الدين والسبيل، والسداد البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد، قال وتعرف العرب هذا؟ قلت نعم العرجى يقول: (أضاعوني وأى فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر) قال قبح الله من لا أدب له، ثم أطرق مليا ثم قال: أنشدني أخلب بيت قالته العرب قلت حمزة بن بيض يقول في الحكم بن مروان:

(تقول لي والعُيونُ هاجعةٌ ... اقم علينا يوماٌ فلم اقم) (أى الوجوه انتجعت قلت لها ... وأى وجه إلا الى الحكَم) (متى يقل صاحبا سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم) (قد كنت أسلمتُ فيك مقتبلا ... فهات أدخل أو قى سلمى) فقال أحسن ما شاء، أنشدني أنصف بيت قالته العرب قلت أبو عروه المدني حيث يقول: (إني وان كان ابن عمي واغرا ... لمزاحم من خلفه وورائه) (وممده تصرى وإن كان امرأ ... متزحزحا في أرضه وسمائه) (وأكون والى سره فأصونه ... حتى يحين علي وقتُ أدائه) (واذا الحوادثُ أجحفت بسوامه ... قرنتُ صحيحتنا الى جربائه) (واذا دعا باسمى لنركب مركبا ... صعباً قعدتُ له على سيسائه) (وإذا رأيت له رداءً ناضراً ... لم يلفنى متمنياً لردائه) فقال أحسن ما شاء، أنشدني أقنع بيت للعرب قلت الراعي حيث يقول: (اطلب ما يطلبُ الكريمُ من الرزق ... لنفسى فاجملُ الطلبا) (واحلبُ الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا) (إني رأيتُ الفتى الكريمَ إذا ... رغبته في صنيعة رغبا) (والنذلٌ لا يطلبٌ العَلاءَ ولا ... يٌ عطيك شيئاً إلا إذا رهبا) (مثلُ الحمار الموقع السوء لا ... يحسن شيئاً إلا إذا ضربا) (ولم أجد غرة الخلائق الا ... الدين لما اعتبرتُ والحَسَبا)

(قد يُرزَقٌ الخافق وما ... شدَّ لعيس رَحلاً ولا قتبا) (ويحرم الرزق ذو المطية والرحل ... ومن لا يزالُ مغتربا) فقال أحسن ما شاء، ما مالك يا نضر؟ فقلت أريض لي بمرو أتصابها وأتمززها قال ألا نفيدك مع ذلك مالا؟ قلت إني الى ذلك محتاج قال فأخذ القرطاس وكتب ولا أدري ما كتب، قال كيف تقول من التراب اذا أمرت أن تترب؟ قلت أتربه، قال فهو ماذا؟ قلت مترب، قال فمن الطين؟ قلت وطنه، قال فهو ماذا؟ قلت مطين، قال هذه أحسن من الأولى ثم قال يا غلام أتربه وطنه، ثم صلى بنا العشاء ثم قال لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل. فأتيته فلما قرأ الكتاب قال يا نضر إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم أكذبه فقال لحنت أمير المؤمنين فقلت كلا إنما لحن هشيم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع الفقهاء، فأمر لى الفضل بثلاثين ألفاَ فأخذت ثمانين ألفا بحرف استفاده منى. وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الصولي قال أخبرنا أحمد بن يحيى المهلبي قال حدثني أبي قال جرى في مجلس الواثق بالله تعالى ذكر ما قيل في أصحاب النبيذ فأمرت أن يسأل أبا محلم عن أحسن ما قيل في ذلك فسئل بعد أن أحضر فقال أحسنه قول حكيم وهو شاعر عصره النمر بن تولب العكلي: (وفتية كالسيوف أوجههم ... لا حصر فيهم ولا بخل) (بيض مساميح في الشتاء وإن ... أخلف نجم عن وبله وبلوا) (لا يتأرون في المضيق وان ... نادى مناد أن انزلوا نزلوا) (لا يعترى شربنا اللحاء وقد ... توهب فينا القيان والحلل) فاستحسن الواثق الأبيات ووهب أبا محلم.

فحاجة الأديب إلى هذا الفن شديدة وفاقته إليه عتيدة، وأولى ما يصنف ويؤلف ويقرب مأخذه ويسهل ما كانت الحاجة إليه هذه الحاجة فوقعت العناية عليه وانصرفت بالاهتمام إليه حتى تهذب وتثقف وتشذب وتدانت شعبه وتقاربت سبله ولم أبال ما ألفى فيه من زيادة تعب وفضل كد ونصب إذ لم يكن الإنسان يبلغ ما يريد وينال ما يريغ إلا بتكلفة لغوب ومواصلة دؤوب لا يسما إذا كان الغرض الذي ينزع إليه جسيما يكسبه حسن الذكر ويمنحه طيب النشر من علم يتقنه أو يصنفه ويدونه أو رياسة أرادها فارتادها وسيادة طلب أقتيادها وليس ذلك للمتوانى المتهاون ولا المتواكل المتواهن، وقد قيل: (سهرت عيونهم وأنت ... عن الذي قاسوه حالم) وقيل: (وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلعها طويل) وقيل: (إن السيادة والرياسة والعلى ... أعباؤهن كما علمت ثقال) وقيل: (وإن جسيمات الأمور منوطة ... بمستودعات في بطون الأساود) وقلت: (إن الأمور مريحها في المتعب) وفي المثل (عند الصباح يحمد القوم السرى ... ) وقيل: ما لمن لم يركب الأهوال حظ وقلت: (ولم يتسهل للفتى درك العلا ... إذا هو لم يصبر على المتصعب) ومن كانت له حاجه في الشئ اشتغل به وفرغ له واستندب التعب فيه حتى بلغ مراده منه وقيل: (طوامِس لي من دُونِهنَّ عدَاوَةٌ ... ولي من وراء الطامسات حبيب) (بعيد على من ليس يطلب حاجة ... وأما على ذى حاجة فقريب) والذى حدانى على جمع هذا النوع ايضا أني لم أجد فيه كتابا مؤلفا ولا كلاما مصنفا يجمع فنونه ويحوى ضروبه، ورأيت ما تفرق منه في اثناء الكتب وتضاعيف الصحف غير مقنع يشفى الراغب ويكفي الطالب فجمعته ههنا واضفت إلي كل نوع منه

ما يقاربه من امثاله وما يجرى معه من اشكاله ليكون مادة للمناقضة وقوة للمفاوضة، وجعلته نظما ونثرا وخبرا وشعرا لأ بعث به نشاط الناظر واجلى به صداء الخاطر لأن الخروج من ضرب الى ضرب أنفى للملال وأعدى على الكلالا من لزوم نهج لا يتعداه والاقتصار على امر لا يتوخى سواه. وجعلته اثنى عشر بابا: الباب الأول: في التهاني والمديح والافتخار. الباب الثاني: في الخصال. الباب الثالث: في المعاتبات والهجاء والاعتذار. الباب الرابع: في الغزل واوصاف الحسان. الباب الخامس: في ذكر النار والطبخ وانواع الطعام وصفات الشراب وما يجرى مع ذلك. الباب السادس: في ذكر السماء والنجوم والشمس والقمر وما يجرى مع ذلك. الباب السابع: في ذكر السحاب والمطر والثلوج والمياه وصفات البساتين والرياض والاشجار والثمار والرياضين والنسيم وما يجري مع ذلك. الباب الثامن: في ذكر السلاح والحرب وما يشبه ذلك. الباب التاسع: في ذكر القلم والخط والكتاب وصفة البلاغة وما يجرى مع ذلك. الباب العاشر: في ذكر الخيل والابل والسير والفلوات والسراب وصفة سائر الحيوانات. الباب الحادي عشر: في ذكر الشباب والمشيب والعلل والموت والمراثي والتعازي والزهد. الباب الثاني عشر: في صفات اشياء مختلفة. ثم رأيت اصحابنا يشكون طوله وكبر حجمه وبعد غايته فجعلت كل باب منه ينفرد بنفسه ويتميز من جنسه ليخف محمله ويقرب مأخذه، على ان فوائد الكتاب على قدره في صغره وكبره ولكن ينبغى أن يحمل على كل بقدر طاقته ويكلف

كتاب المبالغة

على حسب مقدرته ويحدث بما ينشط لاستماعه ويتسع لوعيه، وتقريب الحكمة حكمة ثانية ويكسوها المحبة ويوجد اليها الرغبة، وأرجو أن أوافق الصواب في جميع ما ضمنت هذه الأبواب. وأن وجد في فصوله خطل أو تعرض فيه زلل أو تخلله خلل فغير بديع ولا قبيح شنيع لأن النقصان منوط بالانسان لايسلم منه خلقه وخلقه وقوله وفعله وقد شمل العيب كل شئ حتى صارت في وجنة القمر سفعة، وقد قلت: (وفي كل شئ حين تخبر أمره ... معايب حتى البدر اكلف اسفع) والشئ إذا سلم جله فقد حسن كله وبالله التوفيق: (كتاب المبالغة) في المديح والتهاني والافتخار وهو الباب الأول من كتاب ديوان المعاني وهو ثلاثة فصول (الفصل الأول في المديح) سمعت أبا أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد رحمه الله تعالى يقول أمدح بيت قالته العرب قول النابغة الذبياني. (ألم تَرَ أنّ اللَّهَ أعطاكَ سُورة ... تَرى كلَّ مَلْك دُونها يَتَذَبْذَب)

(بانك شمس والملوك الكواكب ... إذا طلعت لم يبْدُ منهنّ كوكبُ) ثم قال اخبرنا أبو بكر محمد بن يحي بن العباس قال حدثني أبو ذكوان قال: أدخلت إلى إبراهيم بن العباس وهو بألاهواز لخدمته فقال ما تقول في شعر النابغة ألم تر أن الله أعطاك سورة البيتين فقلت ما عندي فيه إلا الظاهر المشهور يقول فضلك على الملوك كفضل الشمس على الكواكب فقال نفهم معناه قبل هذا إنما يعتذر إلى النعمان من مدحه آل جفنه الغسانيين وتركه له ويريد أن له في مدحه لهم عذراً ألا ترى إلى قوله: (ولكنني كنت امرأ لى جانب ... وأقرب من الأرض فيه مسترادٌ ومَذْهَبُ) (مُلُوك وإخوان إذا ما أتيتهم ... أحكم فى اموالهم واقرب) (كحكمك في قوم أراك اصطفيتهم ... فلم تَرَهم في شُكر ذلك أذنبوا) يقول لا تلمني على شكري وقد أحسنوا إلي إذ لجأت إليهم وإن كانوا أعداءك كما أحسنت إلى قوم فشكروك عند أعدائك فقد أحسنوا ولم يذنبوا، ثم قال اعمل على أني أذنبت فمن أين تجد من لا يذنب فقال: (ولستُ بمُسْتَبقٍ أخاً لا تلمُّهُ ... على شَعَثٍ أى الرجال المهذب) (فأن أك مظلوما فبعد ظلمته ... وإن يك ذا عتبي فمثلك يُعتبُ) يقول مثلك يعفو ويحسن وإن كان عاتباً فى كرمك ما يفعل ذلك ولك العتبي والرجوع إلى ما يجب، ثم فضله عليهم فقال: (ألم تَرَ أنّ اللَّهَ أعطاكَ سُورة ... تَرى كلَّ مَلْك دُونها يَتَذَبْذَب) (بأنك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبْدُ منهنّ كوكبُ) يقول ما صلحت لي أنت فإني لا أريد غيرك من الملوك كما أن من طلعت عليه

الشمس لم يحتج إلى النجوم. قال أبو ذكوان وما رأيت أعلم بالشعر منه ثم قال لوأراد كاتب بليغ أن ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به في أضعاف كلامه، وكان يفضل هذا الشعر هذا الشعر يفضل على جميع أشعار الناس. وقد سبق بعض شعراء كندة النابغة إلى هذا المعنى فقال يمدح عمرو بن هند: (تكادُ تَمِيدُ الأرضُ بالناس إن رأوا ... لِعَمْرو بن هِندٍ غضبَةٌ وهو عاتب) (هوالشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كل ضوءٍ والملوك كواكب) وقالت صفية الباهلية: (أخبني على مالكٍ ريبُ الزمان ولا ... يُبقي الزمانُ على شئ ولا يَذَرُ) (كنا كأنجُمِ ليلٍ بيننا قمر ... يجلوا الدُّجَى فهوَى من بيننا القمر) ومن ههنا أخذ أبو تمام: (كأن بني نبهانَ يومَ وفاته ... نجومُ سماء خَرّ من بينها البدرُ) وقال نصيب في معنى النابغة: (هو البدر والناس الكواكب حَوْلَهُ ... وهل يشبه البدرَ المضئَ الكواكبُ) ومثل قول النابغة (احكم في أموالهم وأقرب) قول الأشجع: (لاتعذلوني في مديحي معشرًا ... خَطَبوا المديح إليَّ بالأموالِ) (يتزحزحُونَ إذا رأوني مُقْبلا ... عن كل مُتَّكإ من الإجلال) وسمعت أبا أحمد يقول: أبرع بيت قيل في المديح قول النابغة: (فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي ... وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسعٌ) ثم قال أخبرني محمد بن يحي قال أخبرنا عون بن محمد الكندي أخبرنا قعنب بن محرز قال سمعت الأصمعي قال سمعت أبا عمرو يقول كان زهير يمدح السوقة ولو ضرب أسفل قدميه مائة على أن يقول مثل قول النابغة (فإنك كالليل الذي هو مدركي)

ما قاله فما لا يقول مثله زهير كان غيره أبعد منه. أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد عن السكن بن سعيد عن محمد بن عباد قال سمعت أبا عبد الله نفطويه يذكر عن الفراء قال قال الكسائي حضرت مجلساً للخليل بن أحمد وقد جمع بينه وبين يونس بن حبيب عند العباس بن محمد في مفاتقه اللغات ومجاريها ونوادر الإعراب ومذاهب العرب ومجازها وأخبارها فكان الخليل كالسابق قرن به ذو الزوائد الحطم في حلبة المضمار إلى أن تذاكروا الأشعار والشعراء فأكثر يونس من ذكر زهير وتقديمه وذكر الخليل النابغة وقدمه وعظم أمره فقال العباس للخليل بم تذكر النابغة قال كان النابغة أعذب على أفواه الملوك وأبسط قوافي شعر كأن الشعر ثمرات تدانين من خلده فهو يجتنيهن اختياراً، له سهولة السبك وبراعة اللسان ونقاية الفطن لا يتوعر عليه الكلام لعذوبة مخرجه وسهولة مطلبه. أخبرنا شيخ لباهلة يكنى أبا جحار أن النابغة وفد على النعمان معتذراً من تلك البلاغات ومعه اعتذاره الذي يقول فيه: (فإنك كالليل الذي هو مدركي) فقال النعمان أقبل منك عذرك وأصفح لقدرك عنك ثم أمر فخلع عليه خلع الرضا وكن حبرات خضرا مطرفة بالدر في قضب الذهب وانصرف إلى منزله. قال الباهلي وإن النابغة جاء يوماً مستأذناً معتذراً فقال له الحاجب الملك على شرابه قال فهو وقت الملق والشعر تقبله الأفئدة عند السكر فإن يبلج لي فلق المجد عن غرر مواهبه فأنت قسيم ما أفدت. فقال الحاجب والله ما تفي عنايتي بك بدوت شكرك لي فكيف أرغب فيما تصف ودون ما ترغب رهبة التعدي فهل من سبب يمكن الاستئذان. فقال النابغة فعلت ما يجب عليك في الأدب وقضاؤها معقود

بشكرك فمن عنده؟ قال خالد بن جعفر الكلابي فقال أين أنت عنه بما أقول لك قال قل قال تقول له خالياً إن زياداً يقول إن قدرك فوق الغمام ووفاءك وفاء الكرام وقال الفراء تقول له خالياً إن زياداً يقول إن من قدرك نيل الدرك بك وزكاة الجاه رفد المستعين، وناحيتي من الشكر ما علمت وحاجتي ملاطة الأسباب حتى يحرك ذكراً يمكن بمثله الاستئذان وقال الفراء يجري ذكراً فلما صار خالد إلى بعض ما يبعث موارد الشراب نهض فاعترضه الحاجب فقال ليهنك أبا البسام حادث النعم قال خالد هنأك عيشك كل ما نحن فيه تجديد للتفضيل وإتمام للشرف وكل ذلك ببقاء الملك وحسن مواده فما ذاك فأخبره بما قال النابغة فقال آذنه بالطاعة وانتظار المراجعة وكان خالد رفيقاً يتأنى الأمور والأسباب لطفاً وحسن بصيرة في الارتياد فدخل متبسماً وهو يقول: (ألا لمثلكَ أو مَن أنتَ سابقهُ ... سبقَ الجواد إذا استولىَ على الامَد) ثم قال واللات والعزى لكأني أنظر إلى أملاك ذي رعين وذى فايش وقد مدت لهم قصبات المجد إلى معالي الأحساب ومناكب الأنساب في حلية أنت أبيت اللعن غرتها فجئت سابقاً متمهلاً وجاؤا لم يتم لهم سعي، وجاء زياد فقال النعمان والله لأنت في وصفك أبلغ احسانا من إحسان النابغة فينافي نظم قوافيه، فقال خالد أيها الملك واللات ما أبلغ فيك حسناً إلا غمره قدرك استحقاقاً للشرف الباهر ولو كان النابغة حاضراً لقال وقلنا، فقال النعمان النابغة يا غلام فخرج الحاجب فقال النابغة ما وراءك قال رفع الحجاب وأذن في السيادة والافضال فدخل فانتصب بين يدي النعمان وحياه بتحية ثم الملك ثم قال أيفاخرك أبيت اللعن ابن جفنة وأنت سائس العرب وغرة الحسب واللات لأمسك أبهى من يومه ولقذالك.

أحسن من وجهه وليسارك أسمح من يمينه ولعبدك أكثر من قومه ولنفسك أكبر من جده وليومك أشرف من دهره ولوعدك أنجز من رفده ولهزلك أصوب من جده ولفترك أبسط من شبره ولأمك خير من أبيه، ثم أنشأ: (أخلاقُ مَجدك جَلَّتْ مالها حصر ... في البأس والجودِ بَينَ البدْوِ والحضَرِ) (مُتَوَّجٌ بالمعالي فوقَ مَفْرَقِهِ ... وفي الوغى ضَيغمٌ في صُورَة القَمر) قال فتهلل وجه النعمان بالسرور وأمر فحشى فمه دراً، وقال لمثل هذا ترتاح القلوب وبمثله تمدح الملوك، ثم قال الخليل أفيحسن زهير أن يقول مثل هذا؟ فقال يونس للعباس إني لأعجب مما حدث عن قصة النابغة وشعره قوله: (وفي الوغى ضغيم في صورة القمر ... ) أجود شئ قيل في الحسن مع الشجاعة من شعر المتقدمين ومن شعر المحدثين قول أبي العتاهية يمدح الرشيد وولده: (بَنُو المصطفى هارون حول سريره ... فخير قيامٍ حَوله وقُعُود) (يُقلب ألحاظَ المهَابة بَينهم ... عُيونُ ظِباء في قلوب أسُود) وأخذه مسلم بن الوليد فقال (كأن في سرجه بدراً وضرغاما ... ) وقلت: (فتى على نفسه من نفسه رَصدٌ ... يصّده ان نطق الشين والذاما) (مازال يَغنَم مالاً ثم يغرمُه ... مازال للمال غَنّاما وغَراما) (أغر أروع يحكي الغيثَ مكْرمُه ... والنجمَ مَنزلة والطودَ أحلاما) (تجله حين يبدو أن تقول له ... كأن في سَرجه بدراً وضِرغاما) وقد تداول الناس معنى قوله (فأنك كالليل الذي هو مدركي ... )

فقال الفرزدق: (ولو حملتني الريحُ ثم طلبتني ... لكنت كحى أدركته مغادره) وهو دون قول النابغة لأن الليل أعم من الريح والريح أيضاً أيضاً يمتنع منه بأشياء، والليل لا يمتنع منه بشئ. وأخذ الأخطل قول الفرزدق فقال: (فأنتَ كالدهر مبثوثا حبائله ... والدهرُ لا ملجأ منه ولا هَرَب) (ولو ملكتُ عنانَ الريح أصرفُه ... في كل ناحية ما فاتكَ الطلبُ) وأخذ مسلم البيت الأول من الأخطل فقال: (وإنّ أميرَ المؤمنينَ وفعلَه ... لكالدهر لاعار بما فَعل الدهرُ) وهو أيضاً مأخوذ من قول النابغة، وأخذه أبو تمام فقال: (خشَعوا لصولتك التي هي عندهم ... كالموتِ يأتي ليس فيه عار) (فالقول همسٌ والنَداء إشارةٌ ... خَوفَ انتقامِك والحديثُ سرارُ) وأخذه علي بن جبلة فقال: (وما لامرئ حاولته منك مهرَبٌ ... ولو رَفَعته في السماء المطالعُ) (يلي هارب لا يهتدي لمكانه ... ظلامٌ ولا ضَوْء من الصبحِ لامِعُ) وقال البحتري:

(ولو أنهم ركُبوا الكواكبَ لم يَكُن ... لِمُجِدِّهِمْ من خَوف بأسكَ مهرَب) وقلت في قريب منه: (ويدنو له المطلوبُ حتى كأنما ... يواكب ضوء الصبح في كل مطلَبِ) وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول أبي الطمحان: (أضاءَتْ لهم أحسابُهم وَوجُوهُهم ... دُجَى الليل حتى نظمَ الجزعَ ثاقبة) (نجومُ سماء كلما انقضَّ كوكبٌ ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه) (وما زال منهم حيث كان مسودٌ ... تسيرُ المنايا حيثُ سارتْ كتائبه) ومثله قول الحطيئة: (نمشي على قول أحسابٍ أضأت لنا ... كما أضاءت نجوم الليل للساري) ومثله قول الآخر: (وجُوهٌ لَوَ أنّ المُدْلجين اعْتشوا بها ... صد عن الدُّجَى حتى يُرى الليلُ ينجلي) وقال بعض الأعراب في رجل: ما دفعته في سواد إلا محاه ولا قابلت به ملماً إلا كفاه. ومثل قوله صد عن الدجى قول بعض المحدثين: (ومِصباحُنا قَمرٌ زَاهِرٌ ... كقوسِ لُجَينٍ يَشقُّ الدُّجَى) وقلت: (وانْشقَّ ثوبُ الظَلامِ عن قمر ... يَضْحكُ في أوجه الدُّجُناتِ)

(كأنما النجم حين قابله ... قبيعة في نصاب مرآة) وقلت: (بليل كما ترفو الغزالةُ أسودٍ ... على أنه مِنْ نُورِ وَجْهكَ أبيضُ) (كواكبه زهر وصُفْر كأنها ... قبائع منها مُذَهبٌ ومُفَضضُ) وقلت: (وذي غنجٍ يأوي إلى فرعه الدُّجى ... ولكنها عن وَجْههِ تتفرج) (ففيه ظَلامٌ بالصباح مُقنعٌ ... وفيه ظَلامٌ بالصباحِ مُتوَّجُ) وقول أبي الطمحان مولى ابن أبي السمط: (فتى لا يُبالي المدْلجونَ بنوره ... إلى بابه ألَّا تضئ الكواكبُ) (له حاجبٌ عن كل أمر يَشينهُ ... وليس له عن طالبِ العُرفِ حاجب) وقول الآخر: (من البيض الوُجوه بني سنانٍ ... لَو أنكَ تستضئ بهم أضاؤا) وقول الآخر: (غلامٌ رماه الله بالحسن يافعا ... له سيماء لا تشقُّ على البصرِ) (كأن الثريا عُلقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي وجهه القمر) (ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردَّى بثوب واسع الذَّيل واتزر) (إذا قيلت العوْراءُ غض كأنه ... ذليلٌ بلا ذُّلٍّ ولو شاء لانتصر) وقول الآخر: (اخترْ فِناءَ بني عَمْرو فإنهمُ ... أولُو فضولٍ وأقدار وأخطارِ) (إن يُسألوا الخير يُعطَوهُ وإن جهدوا ... فالجهد يخرج منهم طيبَ أخبار) (وإن تودَّدتهم لانوا وإن شتموا ... كَشَفْتَ أذمارَ سرٍّ غير أسرار) (هْينون ليْنون أيسارٌ ذوو يُسرِ ... أربابُ مَكرُمة أبناء إيسارِ) (من تلقَ منهم تقلْ لاقيتُ سيدَهم ... مثلَ النجوم التي يُهدَى بها الساري)

وهذا عندي أمدح شئ قيل في وصف جماعة. وأنشدنا أبو أحمد لعيسى بن أوس في الجنيد بن عبد الرحمن: (الى مستنير الوجه طال بسؤدد ... تقاصرَ عنه الشاهِقُ المتطاوِلُ) (مَدَحْتكَ بالحق الذي أنتَ أهله ... ومن مِدَحِ الأقوامِ حقٌ وباطلُ) (يعيش الندى مادمت حياً فإن تَمُتْ ... فليس لحيٍّ بعد موتك طائل) (وما لامرىء عندي مُخِيلَة نِعمة ... سِواكَ وقد جادَت عليَّ مخايلُ) وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول الأعشى: (فتىً لو ينادي الشمسَ ألقت قِناعَها ... أو القمرَ الساري لألقى المقالِدا) وهذا وقول أبي الطمحان من الغلو، والغلو عند بعضهم مذموم وليس كذلك ولو كان مذموماً لما جعلوا هذين البيتين من أمدح ما قالت العرب وهما من الغلو على ما هما عليه، ومثل هذا الغلو قول طريح بن إسماعيل: (أنتَ ابنُ مُسلنْطح البطاحِ ولم ... يضرب عليك الحنيّ والولج) (لو قلت للسيل دع طريقك ... والموج عليه كالهضب يعتلج) (لارتدَّ أوساخ أو لكانَ له ... في جانبِ الأرضِ عنك مُنعَرج) وهذا من أعلى الغلو لأن السيل لا ترد وجهته هيبة ولا مخافة، والعرب تقول أجرأ من السيل فيهمز ولا يهمز والهمز من الجراءة وترك الهمز من الجري، ويقال في المثل لا أفعل كذا حتى يرد وجه السيل، وليس هذا الشعر بمختار الرصف واللفظ وإنما جئت به لمكان غلوه، ومن الغلو المشهور المستفيض الذي قبله الناس واستحسنوه ورووه بكل لسان قول أبي تمام في المعتصم: (بيمن أبي أسحق طالتْ يدُ العلَا ... وقَامتْ قَناةُ الدِّينِ واشتدَّ كاهله)

(هوَ البحرُ مِن أيِّ النواحِي أتَيته ... فَلُجَّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحِلُهْ) (تعوَّدَ بَسطَ الكفِّ حتى لو أنه ... أرادَ انقباضاً لم تُطِعْهُ أنامِله) (ولو لم يكنْ في كفهِ غيرُ نفسه ... لجادَ بها فليتق الله سائِله) وقلت في قريب منه: (وكيف يبيتُ الجارُ منك على صدى ... وكفُّكَ بَحرٌ لُجةُ البحرِ ساحلهْ) أخبرنا أبو أحمد قال سمعت أبا بكر يعني ابن دريد يحكى عن أبي حاتم قال قال الأصمعي سمعت أعرابياً يقول: انكم معاشر أهل الحضر لتخطئون المعنى إن أحدكم ليصف الرجل بالشجاعة فيقول كأنه الأسد ويصف المرأة بالحسن فيقول كأنها الشمس، لم لا تجعلون هذه الأشياء بهم أشبه ثم قال لانشدك شعراً يكون لك إماما ثم أنشدني: (إذا سألت الورى عن كل مَكرمةٍ ... لم تلفِ نسبتَها إلّا إلى الهَوْل) (فتىً جَواداً أعاد النيل نائله ... فالنِّيلُ يشكرُ منه كثرة النيل) وليس هذا الشعر مختاراً عندي: (والموتُ يرهبُ أن يَلقَى مَنيتهُ ... في شِدَّةٍ عند لفِّ الخَيل بالخيلِ) (لو عارض الشمسَ أبقى الشمسَ مُظلمةً ... أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل) (أو بارز الليلَ غطَّته قوادِمُه ... دونَ القَوافي كمثل الليلِ بالليلِ) (أمضَى من النَّجمِ إن نابتهُ نائبةٌ ... وعندَ أعدائِه أجرى من السيل) ومن الجيد في هذا المعنى قول الآخر: (عَلَّم الغيثَ الندَى حتى إذا ... ما حكاه عَلمَ البأسَ الأسدْ) (فلهُ الغيث مُقِرُ بالندى ... وله الليث بمقر بالجلَد) وقد أنكر عبد الملك ما أنكره الأعرابي من تشبيه الممدوح بالأسد والصخر والبحر فأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو بكر أخبرنا عبد الأول بن مزيد أحد بني أنف الناقة عن ابن عائشة عن أبيه قال قال عبد الملك يوماً وقد اجتمع

الشعراء عنده: تشبهوننا بالأسد والأسد أنجر وبالبحر والبحر أجاج والجبل والجبل أوعر ألا قلتم كما قال أيمن بن خزيم بن فاتك في بني هاشم: (نَهاركمُ مكابدةٌ وصومٌ ... وليلكُمُ صلاةٌ واقتراءُ) (أأجعلكم وأقواماً سواءً ... وبينكمُ وبينهمُ الهواء) (وهم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأعينهم وأرؤسهم سماء) وهذا من قول أمية بن أبي الصلت وهو أول من أتى به قوله في عبد الله ابن جدعان: (أأذكرُ حاجتي أمْ قد كفاني ... حياؤكَ أن شيمتكَ الحياءُ) (كريم لا يُغيره صباحٌ ... عن الخُلقِ الكرِيم ولا المساءُ) (وأرضُك أرضُ مكرمةٍ بنتها ... بَنو تَيم وأنتَ لهم سماء) ونحوه قوله: (لكلِّ قبيلةٍ شرفٌ وعزٌّ ... وأنت الرأسُ يقدمُ كلَّ هادي) وتصرف فيه المحدثون فقال ابن الرومي: (قومٌ يَحُلونَ من مَجد ومن شرف ... ومن غناء محل البيضن واليلب) (حلوا محلها من كل جمجمةٍ ... نفعاً ورفعاً وإطلالاً على الرتب)

(قومُ همُ الرأس إذ حسادهم ذنب ... ومن يمثِّلُ بينَ الرأس والذَّنب) ومنه قول الحطيئة: (قوم همُ الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ ... ومن يسوّي بأنفِ الناقةِ الذَّنبا) وقال غيره: (الناسُ أرضُ بكل أرضٍ ... وأنتَ من فوقهم سماءُ) وقلت: (أبشر فإنك رأسٌ والعلا جسدٌ ... والمجدُ وجهٌ وأنتَ السمع والبصر) (لولاك لم يك للأيامِ منقبةٌ ... تسمو إليها ولا للدِّهر مفتخرُ) وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو بكر بإسناد ذكره عن الهيثم بن عدي قال دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فقال يا أمير المؤمنين قد امتدحتك فاستمع مني فقال إن كنت شبهتني بالصقر والأسد فلا حاجة لي بمدحك وإن كنت قلت كما قالت أخت بني الشريد لأخيها صخر فهات فقال الأخطل وما قالت يا أمير المؤمنين قال هي التي تقول: (فما بلغتْ كف امرئ متناولٍ ... بها المجدَ إلاّ حيثُ ما نلتَ لطول) (ولا بلغَ المهدونَ في القولِ مِدحةً ... ولو أطنبوا إلاّ الذي فِيكَ أفضلُ) فقال الأخطل والله لقد أحسنت القول ولقد قلت فيك بيتين ما هما بدون قولها قال هات فأنشد: (إذا متَّ مات العرفُ وانقطعَ النَّدى ... من الناسِ إلا في قليلٍ مُصرَّدِ) (وردَّتْ أكفُّ السائلينَ وأمسكوا ... من الدين والدنيا بخِّلف محرد) وليس يحسن عندي أن يقال للممدوح إذا مت فإن استماع ذلك مكروه وإن كانت الشعراء قد استعملته في كثير من مقاماتها أنشدنا أبو أحمد عن ابن دريد: (إذا مُتَّ لم توصلْ بعرفٍ قرابةٌ ... ولم يبقى في الدنيا رجاءٌ لنائل) وهو من قول النابغة: (فإن يهلك أبو قابوسَ يهلكْ ... ربيع الناس والشهر الحرم)

(ويمسك بعدُه بذناب عيشٍ ... أجبّ الظهرِ ليس له سنامُ) وهذا أجود من الأول لأنه لم يخاطب به الممدوح ولو قيل لولا لكان لقيل كذا وكذا لكان كما قال علي بن جبلة: (لولا أبو دلف لم تحتى عارفة ... ولم ينؤنؤ مأمول بأماله) (يا ابن الأكارم من عدنان قد علموا ... وتالدُ المجدِ بين العمِّ والخال) (وناقلُ الناس من عُدم إلى جدةٍ ... وصارفُ الدهرِ من حالٍ إلى حال) (أنتَ الذي تنزلُ الأيامَ منزلها ... وتمسك الأرضَ عن خسفٍ وزلزال) (وما مددتَ مدى طرفٍ إلى أحد ... إلا قضيتَ بآجالٍ وآمالِ) (تزور سخطا فتمسى البيضُ راضية ... وتستهلُّ فتبكي أوجهُ المالِ) وأخبرنا أبو أحمد في كتاب الورقة عن ابن داود قال قال أبو هفان اجتمع الشعراء بباب المعتصم فقعد لهم محمد بن عبد الملك الزيات فقال إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم من كان يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد: (خليفةُ الله إن الجود أودية ... أحللك الله منها حيثُ تجتمعُ) (إن أخلف القَطرُ لم تُخلفْ مخايله ... أو ضاقَ أمرٌ ذكرناه فَيتَّسِع) فقال ابن وهب فينا من يقول مثله: (ثَلاثةٌ تشرقُ الدُّنيا بِبَهجِتها ... شَمسُ الضحَى وأبو أسحق والقمرُ) (تحكِي أفاعيلهُ في كلِّ نائبةٍ ... الغيث والليث والصَّمصامَة الذكر) قال فأجازه وفضل ابن وهب. ولبعض الشعراء في المهلب: (أمْسَى العراقُ سليبا لاأنيس لهُ ... إلّا المهلَّبُ بَعدَ الله والمطرُ)

(هذا يَجودُ ويَحمِي عن ذِمارِهم ... وذا تعيشُ به الأنْعامُ والشجرُ) ومنه أخذ ابن وهب. وقلت في معناه: (لمَ تَزلْ للورَى ثلاثُ شُموسٍ ... وَجهُكَ المستضيءُ والقَمرَانِ) وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول زهير: (َتراه إذا ما جِئتَهُ مُتهلِّلا ... كأنك تُعطِيهِ الذِي أنتَ سائِلُهْ) وعاب بعضهم هذا البيت فقال جعل الممدوح فرحاً بعرض يناله وليس هذا شأن الكبير الهمة، والجيد قول أبي نوفل عمرو بن محمد الثقفي: (ولان فرحت بما ينيلك إنه ... لبما ينيلك من نداه أفرح) (مازال يعطى ناطقا أوسا كتا ... حتى ظننتُ أبا عقيل يَمزَحُ) فجعله يفرح بما ينيل. ومثله قول أبي تمام: (أسائلَ نصر لاتسله فإنهُ ... أحنُّ إلى الإرفادِ منكَ إلى الرِّفْدِ) وقال بعض الأعراب: ما زال فلان يعطيني حتى حسبت أنه يودعني، ونحو ذلك أن الحجاج قال لإياس بن معاوية أي الناس أحب إليك؟ قال من أعطاني قال ثم من؟ قال من أعطيته. وقال أبو السمح الطائي فى خلاف ماقال زهير: (فتى لايرى سوقَ المهورِ غرابةً ... ولا غالياتِ المالِ حَلياً على نحر) (فتى كان مكراما لنفسه كريمة ... مهينا لدنيا غيرِ مأمونةِ الغدْرِ) وعندي أن بيت زهير أجود ما قيل من الشعر القديم، وممن أبدع في ذلك البحتري في قوله: (سلامٌ وإن كانَ السلامُ تحيّةً ... فَوجْهُكَ دُونَ الرَّدِ يكفي المُسلِّما) ومن الجيد في ذلك قول ابن الرومي:

(كأنَّما القطرُ مِنْ ندى يَدهِ ... والبرْقُ مِنْ بِشرهِ ومِنْ ضَحكهْ) وقول أبي الأسد: (وَلائمةٍ لّامتك يا فَيْضُ في الندَى ... فَقلتُ لها لن يَقدَحَ اللومُ في البحرِ) (أرادتْ لتثني القبض عن عَادة الندَى ... وَمن ذا الذي يثني السحابَ عن القطرِ) (إذا ما أتاهُ السائِلونَ تَوَّقدَتْ ... عَليهِ مَصابيحُ الطلاقَةِ والبشرِ) (له في بني الحاجات أيد كأنَّها ... مواقِعُ ماءِ المزْنِ في البلدِ القفرِ) وقريب منه قول أبي تمام: (عَهِدي بِهمْ تَستنيرُ الأرضُ إن نزلوا ... فيها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا) (ويَضحكُ الدَّهرُ منهم عن غَطارفةٍ ... كأنَّ أيامهمْ من أنسها جُمعُ) وقلت: (إذا عبس الزمان فمل إليه ... تجده البشر في وجه الزمانِ) وقلت: (كأنك في خدِّ الزمان تورد ... وفي فمه ضحكٌ وفي وجهه بشرُ) (فمنْ يكُ ممدوحاً بنظم يصوغهُ ... فإنك ممدوحٌ بك النظمُ والنثرُ) وقال البحتري: (وتَواضُعٌ لولا التكرُّمُ عاقةُ ... عنه علوٌّ لم يَنلهُ الفرقدُ) (وفُتوةٌ جمعَ التقى أطرافَها ... وندى أحاط بجانبيه السؤدد) (وشبيبةٌ فيها النُّهى فإذا بدتْ ... لذوي التوسمِ فهي شيبٌ أسودُ) (طلقُ اليدين إذا تفرقَ ماله ... جمع العلا فيما يفيد وينفد) (جذلان يطرب للسؤال كأنما ... غناه مالك طئ أو معبدُ) وقال ابن الرومي:

(أغرُّ أبلجُ يكسو نفسَه حُللِّا ... من المحامِد لا تبلَى على الحقبِ) (تلقاه من نهضه للمجد في صمد ... ومن تواضعه للحق فيصبب) (كأنه وهو مشول وممتدح ... غناه أسحق والأوتارُ في صَخَبِ) (يهتزُّ عطفاه عند الحمدِ يسمعهُ ... من هزةِ المجدِ لا من هزةِ الطربِ) وهذا المصراع من قول أبي تمام: (موكل بيقاع الأرض يشرفه ... من خفةِ الخوفِ لا من خِفةِ الطربِ) وقلت: (وقد يؤنسُ الزوارِ منك إذا التقوا ... سخاء عليه للطَّلاقة شاهدُ) وقلت: زهير قول بعضهم ... كأنك بالمِنْقاش تَنتفُ شارِبَهْ) وقد أحسن جحظة في هذا المعنى أنشدناه أبو أحمد عنه " (قومٌ أحاول نيلهم فكأني ... حاولتُ نتفَ الشَّعر من آنافِهِمْ) (قُم فاسقنيها بالكبيرِ وغنّني ... ذَهبّ الذينَ يُعاشُ في أكنافهمْ) وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول جرير: (ألَسْتم خيرَ مَن ركبَ المطايا ... وأندىَ العالمينَ بطونَ راحِ) وليس هذا الاستفهام للشك وفي القرآن الشريف {أليس الله بعزيز ذي انتقام} {أليس الله بأحكم الحاكمين} {أليس الله بكآفٍ عبده} وسئل بعض العرب عن أشعر الناس فقال جرير وذلك أن بيوت الشعر أربعة المديح والهجاء والافتخار والغزل وفي كلها سبق جرير: قال: في المديح: (ألَسْتم خيرَ مَن رَكبَ المطايا ... وأندَى العالمينَ بُطون راحِ)

وقال في الهجاء: (فَغُضَّ الطرفَ إنك من نُمير ... فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا) وقال في الافتخار: (إذا غَضَبت عَليكَ بَنو تَميم ... حَسبتَ الناسَ كلهمُ غِضابا) وقال في الغزل: (إنَّ العيونَ التي في طَرفها حَوَرٌ ... قَتلْننا ثمَّ لم يُحيينَ قتلانَا) (يَصر عن ذا اللبَّ حتى لا حراكَ به ... وهنَّ أضعفُ خلقِ الله أركانا) وقال التنوخي في هذا المعنى: (فكلّما ازدادت قوَى أجْفانِها ... ضَعْفاً تقوينَ على ضَعف القوى) وأمثال هذا كثيرة نوردها فيما بعد، ونقض بعضهم قوله: (إذا غضبت عليك بنو تميم) فقال (لقد غَضبت عليك بنو تميم ... فما نكأتْ بغضبتها ذُبابا) وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول حسان: (يغشون حتى ملتهر كلابُهم ... لا يسألونَ عن السَّواد المقبلِ) يقول قد أنست كلابهم بالزوار فهي لا تنبحهم وهم من شجاعتهم لا يسألون

عن جيش يقبل نحوهم لقلة أكتراثهم يهم ولثقتهم ببسالة أنفسهم وشدتهم على أعدائهم. ومثله ما أنشد أبو تمام: (إذا استنجدوا لم يَسألوا من دعاهُم ... لأيَّةِ حَرْبٍ أو لأيِّ مكانِ) وقال ابن هرمة في أثر الكلب بالضيف: (ومُستَنبح تَستكشطُ الريحُ ثَوْبه ... ليسقطَ عنه وهو بالثوب معصمُ) (عوىَ في سوادِ الليلِ بعد اعتسافه ... لينبح كلب أو ليفزع نُومُ) (فجاوبه مستسمع الصوت للقرَى ... له عند أقيان المهبين مطعمُ) (يكادُ إذا ما أبصرَ الضيفَ مُقبلا ... يكلمهُ من حُبه وهو أعجمُ) وقال عمران بن عصام، ويروى لنصيب: (لعبد العزيز على قَوْمِه ... وغيرهم مننٌ غامرهْ) (فبابُك ألينُ أبوابِهم ... ودارُك مأهولةٌ عامره) (وكلبُك آنسُ بالمعتفينَ ... من الأمِّ بابنتِها الزائره) (وكفُّكَ حينَ ترى السائلين ... أندَى من الليلة الماطرة) (فمنكَ العَطاء ومنا الثناء ... لكل مُخبرة سائره) وقال الحطيئة في خلاف ذلك: (مَلوا قِراه وهرَّتْه كلابُهم ... وضرَّسُوه بأنيابٍ وأضراسٍ) (وقال بشارٍ في قريب من المعنى الأول: (سقى اللَّهُ القبابَ وتَل عيدي ... وبالشّرفينِ أيامَ القبابِ) (وأيام لنا قَصَرت وطالتْ ... على فرعان نائمة الكلاب) وقال آخر: (وما يكُ فيَّ من عيب فإني ... جبانُ الكلبِ مهزولُ الفصيل) معناه أن الكلب يضرب إذا نبح الضيف فهو جبان ويؤثر الضيف باللبن والفصيل

مهزول. وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول النابغة الجعدي: (فتى تمَّ فيه ما يسرُّ صديقَه (على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا) (وهذا غاية المدح لأن الرجل إذا قدر على النفع والضر فقد كمل، ولهذا قيل في البرامكة: (عندَ الملوكِ مضرةٌ ومنافع ... وأرى البرامكَ لا تضرُ وتنفعُ) لا يعرف أهجاهم أم مدحهم لأنه إذا نفى عنهم أن يضروا وافقد قصرهم، وقد قيل: (إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يُراد الفتى كما يضرُّ وينفعُ) وقد تداول الناس معنى النابغة فقال بعضهم وهو من أحسن ما يروى عنه: (متى تهزز بني قطن تجدهم ... سيوفاً في عواتقهم سيوفُ) (جلوسٌ في مجالسهم رزانٌ ... وإن ضيفٌ ألمَّ فهم وقوفُ) (إذا نزلوا حسبتهم بدوراً ... وإن ركبوا فإنهمُ حتوفُ) وقال آخر: (فذللَ أعناق الصعاب ببأسه ... وأعناق طلاب الندىَ بالفواضلِ) (فما انقبضت كفاهُ إلَّا بصارم ... ولا انبسطت كفاه إلَّا بنائلِ) وقال محمد بن بشر الأزدي: (فتًى وقفَ الأيامَ بالعتب والرضا ... على بذلِ مال أو على حدَ منصلِ) (وما إن له من نظرةٍ ليس تحتها ... غمامةُ غيث أو ضبابةُ قسطل) وقال آخر: (فتًى دهرُه شطرانِ فيما ينوبه ... ففي بأسه شطرٌ وفي جوده شطرُ) (فلا من بغاة الخير في عينه قذى ... ولا من زئير الأسد في أذنه وقرُ) وقد أحسن البحتري في هذا المعنى وهو قوله: (هو العارضُ الثجاجُ أخضلّ جودهُُ ... وطارتْ حواشي برقِه فتلّهبا) (إذا ما تلظّى في وغىً أصعقَ العِدى ... وإن فاض في أُكرومَةٍ غمر الرُّبا) (رزينٌ إذا ما القومُ خفت حلومُهم ... وَقُورٌ إذا ما حادِثُ الدهرِ أجْلبا)

(حياتُك أن يلقاك بالجود راضياً ... وموتُك أن يلقاكَ بالبأسِ مُغضَبَا) (حرونٌ إذا عاززتَه في ملمَّة ... فإن جئتَه من جانب ِالذَّلِّ أصحبا) (إذا همَّ لم يقعدْ به العجزُ مَقعداً ... وإنْ كفّ لم يذهبْ به الحزنُ مَذهبا) وقال الأسدي في نفي الخبر والشر عن المذكور وهو من أشد الهجاء وأدله على الخمول: (فحسبكَ في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غنيّ مضرُ) (وأنت مليح كلحم الحوار ... فلا أنتَ حلوٌ ولا أنت مر) وقال غيره: (شيخ من بني الجارود ... لا خيرٌ ولا شر) وقال آخر: (ولقد نزلت على زياد مرت ... فظننته شيخاُ يضرُّ وينفعُ) (فإذا زيادٌ في الديارِ كأنهُ ... مشطٌ يقلبهُ خصيُّ أصلعُ) وقد أحسن البحتري في المعنى الأول وهو قوله: (هو الملكُ الموهوب للبأس والتقى ... فالله تقواهُ وللمجدِ سائُره) (له البأسُ يُخشى والسماحةُ تُرتجى ... فلا الغيثُ ثانية ولا الليثُ عاثره) كأنه من قول منصور وهو من المعنى الذي نحن فيه: (هو الملكُ المملوكُ للمجد والتقى ... وصولتهُ لا يستطاعُ خطارُها) (لقد نشأت ْللشامِ منك سحابةٌ ... يؤملُ جدواها ويُخشى ذمارها) (فطوبى لأهل الشامِ أم ويل أمها ... أتاها حياها أم أتاها بوارها) (فإن سلموا كانت غمامة نعمةٍ ... وخيرٍ وإلّا فالدماءُ قطارها) (أبوكَ أبو الأملاك يحيى بن خالدٍ ... أخو الجود والنعمى اللباب صغارها) (وكائن ترى في البرمكيين من به ... ومن سابقات لا يشق غبارها)

(طبيبٌ بأخبار الأمور إذا التوت ... من الدهر أعناقُ فأنت قصارها) وبعد بيت النابغة الجعدي قوله: (فتى كملتْ أخلاقهُ غير أنه ... جوادٌ فما يبقي من المالِ باقيا) (أشم طوال الساعدين شمردلٌ ... إذا لم يرح للمجد أصبحَ غاديا) أخبرنا أبو أحمد أخبرنا محمد بن علي الأجري ببغداد حدثنا أبو العيناء قال قال الأصمعي أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي حتى انتهيت إلى قوله: (أشم طوال الساعدين شمردلٌ ... إذا لم يرحُ للمجد أصبح غاديا) فقال الرشيد ويله ولم لم يروحه للمجد ألا قال: (إذا راح للمعروف اصبح غاديا ... ) فقلت وأنت والله يا أمير المؤمنين أعلم منه بالشعر، وكان الرشيد جيد المعرفة ثاقب الفطنة، قال لأبي نواس لم وثب بك أهل مصر قال لقولي: (فإن يكُ باقي إفك فرعونَ فيكمُ ... فإن عصا موسى بكفِّ خصيبِ) قال فوثبوا بي وأرادوا قتلي وقالوا جعلت معجزة موسى لخصيب فقال له الرشيد ألا قلت: (فإن كان باقي إفك فرعونَ فيكمُ ... فباقي عصا موسى بكفِّ خصيبِ) فيكون شعرك أحسن ويكون سالماً من التبعة فقال والله يا أمير المؤمنين إنك لأشعر مني وإني لم أفطن لذلك، وأنشده العماني الراجز في صفة الفرس: (كأنَّ أذنيه إذا تشوّفا ... قادمةً أو قلماً محرّفا) فقال له الرشيد دع (كأن) وقل (تخال) حتى يستوي شعرك، وكان قد لحن العماني

ولم يعرف ولم يفطن له أهل المجلس حتى قال له الرشيد ذلك فتعجبوا من علمه وفطنته. وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول حسان: (بِيض الوجوه كريمةُ أحسابهم ... شم الأنوفِ من الطراز الأولِ) (يغشونَ حتى ما تهرُّ كلابُهم ... لا يَسألون عن السوادِ المقبل) وقبله: (لله در عصابة نادمتهم ... يوماً بجلقَ في الزمانِ الأولِ) (أولاد جفنةَ حولَ قبر أبيهم ... قبر ابن ماريةَ الكرِيم المفضل) ثم قال: (فلبثتُ أزماناً طوالاً فيهم ... ثم ادكرت كأنني لم أفعل) (وفتىً يحب المجدَ يجعل ماله ... من دون والده وإن لم يسأل) قوله (بيض الوجوه) معناه مشهورون ببهاء ولم يعن بهم البياض وقد تضمن هذا اللفظ معنى البأس والجود وغيرهما من خلال الخير لأن الإنسان لا يكون نبيهاً مشهوراً حتى يقال عنه أبيض الوجه وأغر ووضاح إلا إذا جمعها وما يجري معها قال الراجز (فهن يحملن فتى وضاحا ... ) وقال أبو طالب في النبي &: (وأبيض يستسقى الغمامُ بوجههِ ... ثمالُ اليتامَى عصمةُ للأراملِ) وقال السموءل: (وأيامُنا مشهورةٌ في عدونا ... لها غررٌ معروفةٌ وحجولُ) أراد بالغرة والحجول الشهرة. وقلب بعض أهل البصرة قول حسان: (بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... ) فقال: (سودُ الوجوهِ لئيمةٌ أحسابُهم ... فطسُ الأنوفِ من الطراز الآخرِ) كما قلب بعضهم بيت أبي نواس: (يا قمراً أبصرتُ في مأتم ... يندبُ شجواً بين أترابِ) (يبكي فيذري الدرَّ من نرجسٍ ... ويلطمُ الوجهَ بعنّابِ) فقال: (وأعور أبصرتُ في مأتمٍ ... يندبُ شجواً بتخاليطِ)

(يبكي فيذري البعر من كوةً ... ويلطم الشوك ببلوط) وأخذ حسان قوله: (ثم ادكرت كأنني لم أفعل ... ) من قول أبي كبير: (فأذنْ وذلك ليس إلّا حينه ... وإذا مضى شئ كأن لم يفعل) وقال ابن شبرمة أمدج ما قالت العرب قول الحطيئة: (أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا ألبنا ... وإن عاهدوا وفوا وإن عقدوا اشدوا) (وإن كانتِ النعماءُ فيهم جَزَوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا) (أقلوا عليهم لا أبا لأبيكُم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّوا) (ويعذلني أبناءُ سعدٍ عليهمُ ... وما قلتُ إلّا بالذي علمتْ سعدُ) (يسوسونَ أحلاماً بعيداً أناتُها ... وإن غضبوا جاء الحفيظةُ والحدُ) ولعمري إن معاني هذه الأبيات أبكار ليس للعرب مثلها وكل من تناولها فإنما استعارها من الحطيئة وهي جامعة لخصال المدح كلها، وقوله (جاء الحفيظة والحد ... ) وروي والجد والحد من قولك حد السيف وحد السنان، والجد خلاف الهزل والمختار الحد بالحاء. يقول الحطيئة في بني لأي بن شماس من قريع، وكان الزبرقان بن بدر لقي الحطيئة في سفر فقال من أنت فقال أنا حسب موضوع أبو مليكة فقال له الزبرقان إني أريد وجهاً فصر إلى منزلي وكن هناك حتى أرجع فصار الحطيئة إلى امرأة الزبرقان فأنزلته وأكرمته فحسده بنو عمه وهم بنو لأي فدسوا إلى الحطيئة وقالوا له إن تحولت إلينا أعطيناك مائة ناقة ونشد إلى كل طنب من أطناب بيتك حلة محبرة وقالوا لامرأة الزبرقان إن الزبرقان إنما قدم هذا الشيخ ليتزوج بنته فقدح ذلك في نفسها فلما أراد القوم النجعة تخلف الحطيئة وتغافلت امرأة الزبرقان عنه فاحتمله القريعيون ووفوا له بما قالوا فأخذ في مدحهم وهجا الزبرقان فقال: (أزمعتُ يأساً مبيناً من نَوالكم ... ولا تَرى طارداً للحرِ كالياس) (دعَ المكارمَ لا ترْحلْ لبغيتها ... واْقعد فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي) (من يفعلِ الخيرَ لا يعدم جوازيهُ ... لا يذهبُ العرفُ بين اللهِ والناسِ)

فاستعدى الزبرقان عليه فحكم عمر حسان فقال حسان ما هجاه ولكن سلج عليه ثم حبس عمر الحطيئة فقال يستعطفه: (ماذا تقولُ لأفراخ بذي مَرَخٍ ... حمرِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ) (ألقيتَ كاسبَهم في قعد مظلمةٍ ... فاغفرْ عليكَ سلامُ الله يا عمرُ) (ما آثروكَ بها إذ قدموك لها ... لكنْ لأنفسِهم كانت بكَ الأثر) فأخرجه عمر وأجلسه على كرسي وأخذ شفرة وأوهمه أنه يريد قطع لسانه فضج وقال إني والله يا أمير المؤمنين قد هجوت أمي وأبي ونفسي فتبسم عمر وقال ما الذي قلت قال قلت لأبي وأمي: (ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا نبيك فساءَني في المجلسِ) وقلت لأبي خاصة (فبئس الشيخُ أنتَ لدى تميم ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالى) (تنحى فاجلس مني بعيداً ... أراحَ الله منكِ العالمينا) (أَغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحدثين) وقلت لامرأتي خاصة: (أطوّف ما أطوّفُ ثم آوي ... إلى بيتٍ قَعيدتُهُ لَكاعِ) وقلت لنفسي: (أبت شفتاي اليومَ إلاّ تَكَلُماً ... بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائلهُ) (أرى ليَ وجهاً قبّحَ اللهُ خلقهُ ... فقبّحَ من وجهٍ وقُبحَ حاملهُ) وقد هجا أيضاً من أحسن إليه فقال: (منحَت ولم تبخلْ ولم تعطِ طائلاً ... فسّيان لا ذمُ عليك ولا حمدُ) ثم خلى سبيله عمر وأخذ عليه ألا يهجو أحداً وجعل له ثلاثة آلف درهم

اشترى بها من أعراض المسلمين فقال يذكر نهيه إياه عن الهجاء ويتأسف: (وأخذتَ اطرار الكلام فلم تدع ... شتما يضرُ ولا مديح ينفعُ) (ومنعتني عِرضَ البخيل فَلم يخفْ ... شتمي وأصبح آمناً لا يجزعُ) وكان الحطيئة يذم البخل كما ترى وهو أبخل الناس اعترضه رجل وهو يرعى غنماً له فقال له يا راعي الغنم وكان بيد الحطيئة عصاً يزجر بها الغنم فرفعها وقال عجراء من سلم فقال الرجل إنما أنا ضيف فقال: للأضياف أعددتها فتمثلت به العرب وقالوا أبخل من الحطيئة، وكان أحد الحمقى أوصى عند موته بأن يحمل على حمار وقال لعلي أن حلمت عليه لا أموت فإني ما رأيت كريماً مات عليه قط وقال: (لكل جديد لذةٌ غير أنني ... رأيتُ جديدَ الموتِ غيرَ لذيذِ) وقيل له أوصى فقال أوصي أن مالي للذكور دون الإناث قالوا فإن الله لا يقوله قال لكني أقوله، وقالوا له قل لا إله إلا الله قال أشهد أن الشماخ أشعر غطفان. وأخذ قوله: (أغربلا إذا استودعت سرا ... ) من قول كعب بن زهير حيث يقول: (ولا تَمسك بالعهدِ الذي عهدتْ ... إلّاُ كما يمسك الماءَ الغرابيلُ) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن أبي خليفة عن دماذ عن أبي علي القداح وعباد بن سليم الحضرمي قال أنشد الحطيئة عمر: (مهاريسُ يُروي رِسلُها ضيف أهلها ... إذا النار أبدت أوجه الخضرات) (عظام مقيل الهام غلب رقابها ... بتاكر ورد الماء في السَّبراتِ) (يُزيلُ القتادَ جذبُها عن أصولِه ... إذا ما غدت مقورةً خرِصاتِ) وكان هجا قومه فلما بلغ إلى قوله: (فإن يصطنعني الله لا أصطنعكمُ ... ولا أعطكم مالي على العثراتِ) (لكم دَفَرٌ مثلُ التيوسِ ونسوةٌ ... مماجينُ مثل الآتُنِ التَّعِراتِ)

قال عمر بئس الرجل أنت تمدح إبلك وتهجو قومك فخرج وقال: (رأيتُ ابنَ خطاب تجاهل بعدما ... رأيتُ له عقلاً وما كان جاهلا) (ألا قد علمنا أن ما قال هكذا ... ومن قال حق غير ما قال باطل) وقالوا أمدح أبيات قيلت ما أنشدناه أبو أحمد عن مهلهل بن يموت عن أبيه عن الجاحظ: (اختر فناء بني عمرو فإنهمُ ... أولُو فضولٍ وأقدار وأخطارِ) (إن يُسألوا الخير يُعطَوهُ وإن جهدوا ... فالجهد يخرج منهم طيبَ أخبار) (وإن تودَّدتهم لانوا وإن شتموا ... كَشَفْتَ أذمارَ سرٍّ غير أسرار) (هْينون ليْنون أيسارٌ ذوو يسرٍ ... أبناءُ مَكرمةٍ أبناءُ إيسارِ) (من تلقَ منهم تقلْ لاقيتُ سيدَهم ... مثلَ النجوم التي يسري بها الساري) وهي على الحقيقة أمدح أبيات قيلت. وقالوا أمدح بيت قيل قول الخنساء في أخيها: (أغرُّ أبلجْ تأتمُّ الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ) أخبرنا أبو أحمد حدثنا الأنباري عن أبي عكرمة الضبي أخبرنا أبو دعامة عن صالح بن محمد بن المسيب قال سمعت المفضل الضبي يقول أتاني رسول المهدي فقال أجب فهالني ذلك فمضيت معه حتى دخلت وعنده علي بن يقطين وعمر بن بزيع والمعلى مولاه فسلمت فرد وقال اجلس فجلست فقال أخبرني بأمدح بيت قالته العرب فتحيرت ثم جرى على لسان قول الخنساء: (وإنَّ صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا يشتو لنحارُ) (أغرُّ أبلجْ تأتمُ الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ) فقال أخبرت هؤلاء فأبوا علي فقلت يا أمير المؤمنين كنت أحق بالصواب فقال يا مفضل أسهرتني أبيات ابن مطير الأسدي: (وقد تغدرُ الدنيا فيضحي غنيها ... فقيراً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها)

(وكم قد رأينا من تَكَدُّرٍ عيشةٍ ... وأخرى صفا بعدا اكدرارٍ غديرُها) (فلا تَقربِ الأمرَ الحرامَ فإنه ... حلاوتها تفني ويبقى مريرها) ثم قال حدثني يا مفضل فقلت أي الأحاديث يشتهي أمير المؤمنين قال أحاديث الأعراب فحدثته حتى كاد النهار ينتصف فقال كيف حالك فقلت كيف حال رجل مأخوذ بعشرة آلاف درهم فقال يا عمر بن بزيع أعطه عشرة آلاف درهم لقضاء دينه وعشرة آلاف درهم لنفقة عياله فانصرفت بها. وكانوا يقولون قاتل الله الخنساء ما رضيت أن جعلت أخاها جبلاً حتى جعلت في رأسه ناراً فبالغت أشد المبالغة. واعترض ابن الرومي قولها فقال: (هذا أبو الصقر فرداً في مكارمِه ... من نسل شيبانَ بين الطّلح والسّلم) (كأنه الشمسُ في البرج المنيفِ به ... على البريةِ لا نارٌ على علمِ) وتبعته فقلت: (خيرُ الورى لخيارِ الناس كلهِم ... وشرُّهم لشرارِ الناسِ سوارُ) (منبه الذكرِ معروفٌ طرائقه ... كالشمسِ لا عَلمٌ في رأسه نار) ومن جيد ما قيل في النباهة قول الأول أنشده أبو تمام: (إني إذا خفي الرجالُ وجدْتَني ... كالشمسِ لا تخفى بكلِّ مكانِ) وقال بشار: (أنا المرعَّثُ لا أخفى على أحدٍ ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني) وقلت: (أتأملُ أن تنالَ ندى كريمٍ ... نداهُ أوَّلٌ والغيثُ ثاني) (ويجري والمجرة في عنانٍ ... فلا يخفى على ناءٍ ودانِ) (تصوَّر في القلوب فليس ينأى ... على نأي المحلةِ والمكانِ) (إذا عبسَ الزمانُ فمِل إليهِ ... تجدْهُ البشرَ في وجهِ الزمانِ) وقلت: (تريدون أن أخشى وأخضعَ للأذى ... وجار ابن عيسى كيف يّخشى ويخضعُ) (فتىً بأسُه كالدهر مأمن ملجأ ... ولا فيه إقصارٌ ولا عنهُ مرجعُ) (أغرُّ شهيرٌ في البلادِ كأنما ... به البدرُ يعلو أو سنىَ الصبحِ يسطع)

ومثله قول القاسم بن حنبل رحمه الله تعالى: (من البيض الوجوهِ بني سِنانٍ ... لو أنك تستضئ بهم أضاؤا) (لهم شمسُ النهار إذا استقلتْ ... ونورٌ لا يفنيه العماء) (همُ حلوا من الشرفِ المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاؤا) (فلو أنَّ السماءَ دنت لمجد ... ومكرمةُ دنت لهم السماء) وقالوا أمدح بيت قالته العرب قول الحظيئة: (متى تأتهِ تَعشو إلى ضوءِ نارهِ ... تجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقدِ) وقالوا أمدح المدح ما يكون بالتفضيل وهو أن يقول فلان خير من فلان وفلان أكرم من فلان، ومن أجود ما جاء في ذلك قول أبي تمام: (كم من وساعِ الخطو في طلبِ الندى ... لما جرى وجريتُ كنت قطوفا) (أحسنتما صفدي ولكن كنتَ لي ... مثلَ الربيع حيّاً وكان خريفاً) (وكلاكما اقتعد العلا فركبتَها ... في الذّروة العليا وكان رديفا) وقال: (كواكبُ مجدٍ يعلم المجدُ أنها ... إذا طلعتْ باءت بصفر كواكبُهْ) وقال ابن الرومي: (تلوحُ في دولُةِ الأيامِ دولتهم ... كأنها ملةُ الإسلامِ في المللِ) وقلت: (نصرتَ على الأعداء فليهنك النصر ... ودانتْ لك الدنيا وذَلَّ لك الدهرُ) (فأنت كإقبالِ الشبيبة والصبا ... تطيبُ بك الدنيا وينعمرُ العمرُ) (وليس كرامُ الناسِ إلّا كواكبا ... على صَفْحَتَيْ ليلٍ وأنت لهم بدرُ) (وفي الناس أجوادٌ كثيرٌ وإنما ... أولئك أثماد وأنت لهم بحرُ) (فإنْ أظلم الأحداثُ واسودَّ ليلُها ... فهم شفقٌ فيها وأنت بها فجرُ)

(أبا قاسمٍ فخراً على المجد والعلا ... فإن العلا روضٌ وأنت به زهرُ) (غدت أرضنا منكم سماءً مظلَّةً ... لها أنجمٌ من زهر أخلاقكم زهرُ) وبعد بيت الحطيئة: (وأنت امرؤٌ من تعطه اليوم نائلاً ... بكفيك لم يمنعْك من نائلِ الغدِ) (ترى الجودَ لا يدني من المرء حتفه ... كما البخل للانسان ليس بمخلدِ) ومثله قول ليلى الأخيلية في توبة: د (فلا يبعدنك الله يا توبُ إنها ... لقاءُ المنايا دارعاً مثلُ حاسرِ) (فنعمَ فتى الدنيا وإن كان فاجراً ... وفوقَ الفتى إن كان ليس بفاجرِ) (فتىً كان أحيا من فتاةٍ خريدةٍ ... وأشجعَ من ليثٍ بخفان خادرِ) (فتى ينهل الحاجات ثم يعلها ... فيطلعها عنه ثنايا المصادر) يقول لا يمنعه قضاء الحاجة الأولى عن قضاء الأخرى كما قال الآخر: (وأرضعُ حاجةً بلبانِ أخرى ... كذاك الحاجُ ترضع باللبانِ) يقول فبرفعها المثنون عليه حتى كأنها ثنية رجع: (فأُقسم أبكى بعد توبةَ هالكاً ... وأفعل من نالت صروفُ المقادر) وكان بيت الأعشى: (تشب لمقرورين يَصطليانها ... وبات على النارِ الندَى والمحّلقُ) يستحسن حتى قال الحطيئة (متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... ) على أن قول الأعشى (وبات على النار الندى والمحلق) ، من أجود الكلام وأبلغه، والمحلق الممدوح، ومثله قول حماس بن ثامل: (فقلتُ له أقبل فإنكَ راشدٌ ... وإنَّ على النارِ الندى وابن ثامل) وأخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو الحسن الأخفش أخبرنا ثعلب قال اجتمعنا

عند أحمد بن إبراهيم فأنشده رجل: (أمر مالك قاصرٌ فقره ... على نفسه ومشيعٌ غِناهُ) فقال أحمد قد جاء مثل هذا كثيراً فأنشد: (فتى إذا عدت تميم معاً ... سادتها عدوه بالخنصرِ) (ألبسه اللَّهُ ثيابَ العلا ... فلم تَطل عنهُ ولم تَقصرِ) فقال أحمد وقد جاء مثل هذا فأنشد الرجل: (أعدد ثلاثَ خلالٍ قد عرفنَ له ... هل سَب من أحد أو سُبَّ أو بخلا) فقال أحمد وقد جاء مثل هذا فغاظني فقلت هات فقال نعم المدح الغريب الذي لم يؤت مثله: (لله درُ أبي المغيثِ فإنه ... حسنُ الفعالِ ضعيفُ خَبطِ الدرهمِ) وقريب من هذا قول أبي البحتري (حتى توهمناه مخروق اليد ... ) وفي خلاف قوله (فلم تطل عنه ولم تقصر ... ) قول ابن الرومي: (مدحت سليمان المغلب مدحةً ... تجاوزُ حدَّ الحسنِ لو كان يَشكرُ) (فعمي عنها ناظراهُ كأنما ... بعوراءِ عيني جدِّه كان ينظرُ) (سبغت عليه حليةً ليس عيبُها ... سوى أنها ظلت تطول وتقصر) يهجو سليمان بن عبد الله بن طاهر. وسمعت عم أبي يقول أمدح شئ قيل قول الأول: (قوم سنان أبوهم حينَ تنسبهم ... طابوا وطابَ من الأولاد ما وَلدوا) (لو كان يَقعدُ فوقَ الشمسِ من كرمٍ ... قومٌ بعزهم أو مجدهم قعدوا) (محسَّدون على ما كانَ من نِعمٍ ... لا ينزعُ الله عنهم ماله حُسدوا) فأخذ جماعة قوله: (محسَّدون على ما كان من نعم ... ) فصرفوه فيه وحده. ومنها قول أبي تمام:

(لولا التخوفُ للعواقبِ لم يزل ... للحاسدِ النُّعمى على المحسودِ) (لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورَتْ ... ما كان طيبُ يعرف العودِ) وقال البحتري: (ولن يستبينَ الدهرَ موضعَ نعمةٍ ... إذا أنتَ لم تدللْ عليها بحاسدِ) وقال: (محسدون كأن المكرماتِ أبتْ ... أن توجدَ الدهر إلا عند محسود) وقال غيره: (محسدونَ وشرُّ الناسِ منزلةً ... من عاش في الناس يوماً غيرَ محسودِ) وسمعته يقول من أوائل المدح الجيد الذي لانظير له قول أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان: (عطاؤكَ زينٌ لامرئٍ ان حبوته ... ببذل وما كان العطاء يَزينُ) (وليس بشينٍ لامرئٍ بذلُ وجهه ... إليكَ كما بعضُ السؤال يَشين) وقال زهير: (من يلقَ يوماً على عِلَّاتِه هَرِماً ... يلقَ السماحةَ منه والندَى خُلقا) (لو نال حيٌّ من الدنيا بمكرمة ... أفقَ السماءِ لنالت كفه الأفقا) (قد جعلَ المبتغونَ الخيرَ في هَرِمِ ... والسائلونَ إلى أبوابه طُرقا) وروى بعض الرواة للنابغة وروي لسعيد: (واللِّه واللِّه لِنعمَ الفتى ... الاعرجُ لا النكسُ ولا الخامل) (الحاربُ الوافرُ والجابر ... المحروب والمرجل والجامل) (والطاعنُ الطعنةَ يومَ الوغى ... ينهلُ منها الأسلُ الناهلُ)

(والقائل القولَ الذي مثله ... يمرع منهُ البلدُ الماحلُ) (والغافرُ الذنبَ لأهل الحِجا ... والقاطعُ الأقرانَ والواصل) وقال بعض الإسلاميين وأحسن: (خُلقتْ أناملهُ لقائِم مُرهَفٍ ... ولبثِّ فائدةٍ وذروة منبرِ) (يلقى الرماح بوجهه ويصده ... ويقيمُ هامته مقام المغفرِ) (ويقول للطِّرفِ اصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجدان لم تعقر) (وإذا تأمل شخصَ ضيفٍ مُقبلٍ ... متسربلٍ سربالَ ليل أغبرِ) (أومأ إلى الكوماءِ هذا طارق ... نحرتني الاعداء إن لم تنحر) وسمعت الشيخ أبا أحمد يقول أمدح شئ قاله محدث قول مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة الشيباني: (بنو مطرٍ يومَ اللقاءِ كأنهم ... أُسودٌ لها في غيل خفان أشبل) (هم المانعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكينِ مَنزلُ) (بهاليلُ في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول) (همُ القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعوا ... أجابوا وإن أعطَوا أطابوا وأجزلوا) (ثلاثٌ بأمثال الجبالِ حيَاهمُ ... وأحلامُهم منها لدى الوزنِ أثقلُ) (ولا يَستطيعُ الفاعلونَ فعالهم ... وإن أحسنوا في النائباتِ وأجملوا) ثم أخبرنا المفجع أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد قال بلغني أن يحيى بن خالد البرمكي قال لشراحيل بن معن بن زائدة أي شعر قاله ابن أبي حفصة في أبيك أشعر قال قوله:

(نعمَ المناخُ لراغبٍ أو راهبٍ ... ممن تصيبُ جوائحُ الأزمانِ) (معن بن زائدةً الذي زيدت به ... شَرفاً إلى شرفٍ بنو شيبانِ) (مطر أبوكَ أبو الأهلةِ والذي ... بالسيف حاز هجاينَ النعمان) (نفسي فداء أبي الوليد إذا علا ... رهج السنابك والرماح دواني) فقال يحيى أنت لا تعلم ما قيل في أبيك أين أنت عن قوله: (بنو مطرٍ يومَ اللقاءِ كأنهم ... أُسودٌ لها في غِيلِ خفّان أشبلُ) وأنشد الأبيات المتقدمة وزاد: (تشابَهَ يوماهُ علينا فأشكلا ... فما نحنُ ندري أيّ يَوميه أفضلُ) (أيوم نداه الغمرِ أم يوم بأسِه ... وما منهما إلاّ أغرُّ محجّلُ) وأخبرنا قال أخبرنا محمد بن يحيى بن علي عن أبيه عن اسحق الموصلي أخبرنا أبو يوسف القاضي وكان عديل الرشيد في طريق الحج قال اعترضه أعرابي فأنشد أبيات فزبره وقال ألم أنهكم عن قول مثل هذا الشعر ألم أقل لكم امدحوني بمثل قول القائل (بنو مطر يوم اللقاء كأنهم) وذكر الأبيات المتقدمة، قال أبو يوسف فقلت له فيمن قيلت؟ قال في أب هذا الشاب الذي يسير في ظل القبة فقلت للشاب من أنت قال شراحيل بن معن بن زائدة قال أسحق فسمعت شراحيل يقول: ذلك اليوم آثر عندي من الدنيا بحذافيرها وأنشد بعض أهل الأدب قول ابن أبي طاهر وقال لو استعمل الإنصاف لكان هذا أحسن مدح قاله متقدم ومتأخر. (إذا أبو أحمدٍ جادتْ لنا يدُه ... لم يحمد الأجودان الماء والمطر) (وإن أضاءت لنا أنوار غرته ... تضائل النَّيران الشمسُ والقمرُ) (وإن مضى رأيه أو حَدَّ عزمته ... تأخر الماضيان السيفُ والقدر)

(من لم يكن حذراً من حدِّ صولتهِ ... لم يدر ما المزعجان الخوفُ والحذرُ) (حلوُ إذا أنت لم تبعث مرارتَه ... فإن أمرَّ فحلوٌ عندَه الصبرُ) (سهلُ الخلائقِ إلاّ أنه خشنٌ ... لَيّنُ المهزةِ إلاّ أنه حجرُ) (لاحيةٌ ذكرٌ في مثلِ صَوْلته ... إن صال يوماً ولا الصمامة الذكر) (إذا الرجالُ طغت آراؤهم وعموا ... بالأمر رُدَّ اليه الرأي والبصر) (الجودُ منه عِيانُ لا ارتيابَ به ... إذ جودُ كلِّ جواد عنده خبرُ) ومن المديح القليل النظير قول علي بن محمد بن الأفوه: (أوفوا من المجدِ والعلياءِ في قُللٍ ... شُمٍّ قواعدهنَّ البأسُ والجودُ) (سبطُ اللقاءِ إذا شِيمت مخائلهم ... بُسل اللقاءِ إذا صيدَ الصناديدُ) (محَّسدون ومن يَعلقْ بحبلهم ... من البرية يُصبحْ وهو محسودُ) وقال الفرزدق وهو أجود ما قيل في الجود عوداً على بدء: (له راحةٌ بيضاءُ يندي بنانُها ... قليلٌ إذا اعتلّ البخيلُ اعتلالُها) (جوادٌ إذا اعطْتكَ يوماً يمينُه ... وُعدتَ غدا عاد عليك شمالُها) ونحوه قول الأعرابي في عبد الملك: (ولقد ضَربنا في البلادِ فلم نجد ... أحدا سواك الى المكازم ينسب) (فاصبر لعادتنا التي عودتنا ... أولا فأرشدنا إلى من نذهب) وقول الآخر وهو من أجود ما قيل في حمد الرجل مكانه من قومه: (رأيتكمُ بقيةَ حيِّ قيسٍ ... وهضبتة التي فوقَ الهضابِ) (تُبارونَ الرياحَ إذا تبارتْ ... وتمتثلونَ أفعالَ السحابِ) (يذكرني مقامي في ذُراكم ... مقامي أمسِ في ظلِّ الشبابِ) ومن عادة الناس أن يتكرهوا ما هم فيه من العيش وما هم عليه من الأحوال، وقد حمد هذا حاله معهم وعيشه فيهم حتى شبهه بعيشه في ظل الشباب وهو من أجود ما قيل في هذا المعنى.

وقالوا أمدح بيت قاله محدث قول علي بن جبلة المعروف بالعكوك في أبي دلف: (إنما الدنيا أبو دُلفٍ ... بين مبداه ومحتضَرِهْ) (فإذا ولّى أبو دلفٍ ... ولَّت الدنيا على أثرِه) قال بعض من حضر: لا يجوز أن يكون مثل هذا الشعر لهذا، وإنما ازدراه لدمامته وعمشه فقال له أبو دلف أما تسمع ما يقول الناس فيك إن الشعر لغيرك لأن ألفاظه ألفاظ كاتب متأدب قال الإمتحان يزيل الظنة عني وما ظلم من استبرأ فكيف رأى الأمير في الامتحان قال نعطيك صدوراً لتردفها بأعجاز قال ما اشتططت ولا كلفت إلا الذي من نكب عنه حق عليه القول فدعا أبو دلف بدواة وقرطاس وكتب: (ريعتْ لمنشورٍ على مفرقهِ ... ذمَّ له عهدَ الصبا حين انتسب) (اهدام شيب جُدد في رأسهِ ... مكروهة الجدة انضاء العقب ... ) ثم ناوله الدرج فقال كم لي في ذلك من الأجل قال شهر قال فانطلق بهما إلى رحلي قال ليس الامتحان للشاعر في بيته بمزيل للظنة عنه ولكن تبوأ حجرة من القصر قال فليأمر الأمير بها ففعل وركب إلى دار المأمون فأبطأت كرته فلما رجع دخل عليه علي والدرج بيده قال قد أجزت البيتين بقصيدة قال لقد خشيت عليك النقص من الإعجال قال إليك تساق الرفاق ثم أنشدني بيتي أبي دلف ثم قال: (أشرقنَ في أسودَ ازرينَ به ... كان دُجاه لهوى البيضِ سَببْ ... ) (فاعتضن أيام الغواني والصبا ... عن ميِّتٍ مطلبه فن الأدبْ) (فنازلٌ لم يُبتهج نزوله ... وراحل أبقى جوىً حين ذهب) (لم أرَ كالشيب وَقاراً يُحتوىَ ... وكالشباب الغضِّ ظلاً يُستلب) (كان الشبابُ لمّةً أزهى بها ... وصاحباً حراً عزيز المصطحب) (إذ أنا أجري واثباً في غيّه ... لا أعتب الدهرَ إذا الدهرُ عتبْ)

(وأذعر الربربَ عن أطفاله ... بأعوحى دلفى المنسب) (مطردٌ يرتجُّ في أقطارِه ... كالماءِ جالتْ فيه ريح فضطرب) (تحسبه أقعد في استقبالهِ ... حتى إذا استدبرتهُ قلتَ أكبّ) (وهو على إرْهاقه وطيّه ... يقصرُ عنه المحرمان واللبب) (تقولُ فيه جنبٌ إذا انثنى ... وهو كمثل القدحِ ما فيه جنبْ) (يخطو على عُوجٍ يناهبن الثرى ... لم يتوا كل عن شظاً ولا عصب) (تحسبها ناتئةً حين خطا ... كأنها واطئةٌ على نكب) (يرتاد بالصيد فعارضنا به ... أو ابدا الوحش فأجدى واكتسب ... ) (لا يبلغُ الجهدَ به راكبُه ... ويبلغُ الريحَ به حين طلب ... ) (إذا تظنينا به صدقنا ... وإن تظني فوتَه الطرفُ لزب) (ثم انقضى ذاك كأن لم تبقه ... وكل بُقيا فإلى يوم عطب) (وخلفَ الدهر على أعقابه ... في القدح فيه وارتجاع ما وهب) (فحمّل الدهر ابن عيسى قاسماً ... ينهض به فراج همّ وكرب) (كرونق السيف انبلاجا بالندى ... أو كغراريه على أهل الريب) (لا وسنتْ عينٌ رأت غُرتهُ ... واستيقظت نبوته من النوب) (لولا الأميرُ لغدونا هملاً ... لم يمتثل مجد ولم يرع حسب) (ولم يقم ببأسٍ يومٍ وندىً ... ولا تلاقى سببٌ إلى سبب) (تكادُ تبدي الأرضُ ما أضمره ... إذا تداعى خيله هلا وهب) (ويستهلُّ أملاً وخيفةً ... إذا استهلَّ وجههُ وإن قطب) (وهو إن كان ابنُ فرعي وائلٍ ... فبسماعيه ترقَّى في الحسب) (وبعلاهُ وعُلا آبائه ... تُحوى غداةَ السبقِ أخطارُ القصب) (يا واحدَ الدنيا ويا بابَ الندى ... ويا مُجيرَ الرعبِ في يوم الرَّهَب)

(لولاك ما كان سدى ولا ندى ... ولا قريشٌ عُرفت ولا العرب) (خذها امتحاناً من ملئ بالحجا ... لكنه غيرُ ملئ بالنشبْ) (وقرَّ بالأرض أو استقر بها ... أنتَ عليها الرأسُ والناسُ ذنبْ) قال فجعل ينشد وأبو دلف يرجف إليه حتى مست ركبتيه فلما بلغ قوله (لكنه غير ملئ بالنشب ... ) قال لاملأني الله إن لم أملأك يا غلام كم في بيت المال؟ قال ما قبضته من عامل الجبل وهو مائة ألف درهم قال أعطه إياها وقليل له ذلك، قال فأقبل عليه عقيل أخوه يعذله ويقول له أنت على باب أمير المؤمنين وبين ظهراني قواده وأمرائه ولا وجه لما لا يرد عليك من الجبل فادفع إليه البعض قال إليك عني والله لو شاطرته عمري لكان ذلك دون ما يستحقه علي. ومن المديح الجيد قول مروان بن أبي حفصة: (كفى القبائلَ معنٌ كلَ معضلةٍ ... يُحمى بها الدينُ أو يُرعى بها الحسبُ) (كنز المحامدِ والتقوى ذخائرهُ ... وليس من كنزهِ الأوراق والذهب) (أنتَ الشهابُ الذي يُرمَى العدوُ به ... فيستنيرُ وتخبو عنده الشهب ... ) (بنو شريك همُ القومُ الذين لهم ... في كل يوم رهان تحرزُ القصبُ) (إن الفوارسَ من شيبانَ قد عُرفوا ... بالصدق إن نزلوا والموتِ إن ركبوا) (قد جَرَّب الناسُ قبل اليومِ أنهم ... أهلُ الحلومِ وأهل الشغب إن شغبوا) (قل للجواد الذي يسعى ليدركه ... أقصر فما لكَ إلاّ الفوتُ والطلب) قوله فما لك إلا الفوت والطلب من أحسن معنى وأجوده وأبينه بياناً وأشده إختصاراً وهو من قول زهير: (سعى بعدهم قومُ لكي يُدركوهم ... فلم يفعلوا أو لم يلاموا فلم يألوا) وقال طريح:

(قد طلب الناسُ ما طلبتَ فما ... نالوا ولا قاربوا وقد جهدوا) (يرفئك الله بالتكرم والتقوى ... فتعلو وأنت مقتصدُ ... ) وقلت في قريب منه: (إذا عن مجدٌ أو تعرض سؤددٌ ... تسامى له ضخمُ الهمومِ هُمام) (إذا اهتزَّ للهيجاءِ فهو مهندٌ ... أو اهتزَّ للإفضال فهو غمام) (تواضعَ وهو النجمُ عِزاً ورِفعةً ... وخفَ على الأرواحِ وهو شمام ... ) (أرجيهِ يوماً أو ألاقيه ساعةً ... فيخصب لي عامٌ ويمرع عام) (يٌ ريدونَ منه أن يَضنَّ وإنما ... أرادوا جمودَ الغيم وهو رُكام) (ولا عيبَ فيه غير أن ذوي الندَى ... خساسٌ إذا قيسوا به ولئام) (بلغتَ من العلياءِ ما فاتهم معا ... كأن لم يروموا ما بلغتَ وراموا) (فمن مُبلغٌ عني إلا كارمَ أنهم ... إذا استيقضوا للمكرمات نيامُ ... ) وأجمع بيت قيلِ في المديح قول أبي العميثل في عبد الله بن طاهر (قالت ركعتَ فقلتُ إن وراءكم ... أن قد كبرت ومن يعمّرْ يركعِ) (وعهدتني أمضي لشأني مطلقاً ... فبليتُ بعدك بالنَّسَا والأجدعِ ... ) (يا من يؤملُ أن تكون خِلاله ... كخلال عبد الله أنصت واسمع) (فلأ نصحك في المشورةِ والذي ... حجَّ الحجيجُ إليه فاْقبلْ أودع) (أصدق وعفَ وجدوا أنصت وأحتمل ... وأصفح وكاف ودار واحلم واشجع)

وقد جمع هذا البيت جميع خصال المدح، وسمعه المتنبي فأراد أن يعيب على قالبه فأتى بما لا ينطق به اللسان ولا ينطوي عليه الجنان. ومن الأبيات الجامعة في المديح قول ابن الرومي: (هو الغرة البيضاءُ من آلِ هاشمٍ ... وهم بعده التحجيلُ والناسُ أدهمُ) ومن الأبيات الجامعة لمعاني الحسن قول البحتري: (ذات حسن لو استزادت من الحسن ... إليه لما أصابْت مَزيدا) (فهي الشمسُ بهجةً والقضيب اللدن ... ليناً والريمُ طرْفاً وجيدا) وقال في هذه القصيدة: (وإذا ما عددت يحيى وعمرا ... وإياساً وعامراً ووليداً ... ) (وعَبيداً ومُسهِراً وجديا ... وتدولاً وبحتراً وعتوداً) (لم أدع من مناقبِ المجد ... ما يقنع مَن همَّ أنْ يكون مجيدا ... ) وقلت في المديح: (حليفُ عَلاءٍ ومَجد وفخرٍ ... وبأسٍ وجودٍ وخَير وخِير) (أضاءَ فاطرقَ ضوءُ الشموسِ ... وتمّ فأغضى تمّامُ البدورِ) وقلت في المديح أيضاً: (من الغرِ لا حوا أشمساً ومضوا ظى ... وصالوا أُسوداً واستهلوا سواريا) ومن المديح البليغ قول الأول: (متبذِّلٌ في الحيِّ وهو مُبجّلٌ ... متواضعٌ في القومِ وهو مُعظم) وما أحسن في ذكر التواضع أحد كإحسان أبي تمام في قوله:

(إذا أحسن الأقوامُ أن يَتطاولوا ... بلا مِنة أحسنتَ أن تتطولا) (فعظمتَ عن ذاك التعظم منهم ... وأوَصاك نبلٌ القَدر أن تتنبلا) وقال البحتري في التواضع مع علو الرتبة: (دنوتَ تَواضعاً وعلوتَ قَدْرا ... فحالاك انحدارٌ وارتفاعُ) (كذاك الشمسُ تبعّد أن تسامى ... ويدنو الضوءُ منها والشعاعُ) فأتيت بهذا المعنى في بيت: (تواضع إذا مد العلاء بضبعه ... كما انحطَّ ضوءُ البدور وارتفعَ البدرُ) وأجود ما قيل في صفة الرجل الحازم الجلد من قديم الشعر قول لقيط بن يعمر: (فقلدوا أمرَكم للهِ درُّكم ... رحبَ الذراعِ بأمر الحق مضطلعا) (لا مترفاً إنْ رخاءُ العيشِ ساعدَه ... ولا إذا عضَّ مكروهٌ به خَشَعا) (ما انفكَّ يحلب هذا الدهر أشطرهَ ... يكون مُتعباً طوراً ومُتَّبعا ... ) (لا يطعمُ النومَ إلاّ ريث يبعثه ... همٌ يكادُ حشاه يحطم الضِّلعا) (حتى استمر على شزرمريرته ... مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا) ومن هنا أخذ الشاعر قوله: (ولستُ بمفراح إذا الدهرُ سرّني ... ولا جازعٍ من صَرفهِ المتقلّبِ) وقول دريد بن الصمة: (ينازلُ اخدانَ الرجالِ وإنّه ... لمجدُ ثناءِ ثمّ يزدد) (ويخرجُ من العزاءِ الشدة مصدقاً ... وطولُ السُّرى درى عَضْبٍ مهنّدِ)

هذا البيت أجود ما قيل في سعة الخلق من قديم الشعر: (كميشُ الإزار خارجٌ نصفُ ساقهِ ... صبورٌ على العزّاءِ طلاعُ أنجُدِ) (قليلُ التشكي للمصيباتِ حافظٌ ... من اليوم أعقابَ الأحاديثِ في غدِ) (إذا سارَ بالأرضِ الفضاءِ تزينت ... لرؤيته كالمأتم المتبددِ) (فلا يبعدنك الله حياً وميتاً ... ومن يعله ركنٌ من الأرض يبعد) موضع هذه الأبيات من باب المراثي وإنما أوردتها هنا لأن قوله فيها (قليل التشكي للمصيبات ... ) شبيه بما تقدم من قول الآخر: (ولا جازع من صرفه المتقلب ... ) ومن شعر المحدثين قول أبي تمام: (وعززتُ بالسبعِ الذي بزئيرهِ ... أمستْ وأصبحتِ الثغورُ عزيفا) (قطب الخشونةِ والليان بنفسه ... فغدا جليلاً في العيونِ لطيفا) (هزّته معضلةُ الأمورِ وهزّها ... وأخيفَ في ذاتِ الآله وخيفا) (يقظان أحصدت التجاربُ جزمه ... شزراً وثقّف عزمَه تثقيفاً) (وسلكن من أترابه الشعل التي ... لو أنهن طبعن كنَّ سيوفا) وإنما أخذ وصف هذا البيت من ديك الجن وكان أبو تمام كثير الاناخة عليه وهو قوله في مرثيته: (ماء من العبرات حدى أرضُه ... لو كان من مطرٍ لكان هزيما) (وبلابل لو أنهن مآكل ... لم تخطئ الغسلين والزقوما) (وكرمي بر وعسى لو أنه ... ظلّ لكانَ الحر واليحموما) ونقل البيت الأول أبو تمام إلي موضع آخر فقال: (مطر من العبرات حدى أرضه ... حتى الصباح ومقلتاى سماءه)

ومن ذلك قول أبي تمام: (وإذا رأيتَ أبا يزيدٍ في ندى ... ووغىً ومبدى غارةٍ ومُعيدا) (أيقنت أن السماح من الشجاعة ... تدمي وإن من السماحة جوداً) (ومكارماً عُتُقَ النِّجارِ تَليدةً ... إن كان هَضب عما يتين تليدا) (متوقدٌ منه الزمانُ وربما ... كان الزمانُ بآخرين بليدا) وقال البحتري: (أغرُّ لنا من جُوده وسماحهِ ... ظهيرٌ عليه ما يخيبُ وشافعُ) (ولمّا جرى للمجدِ والقومُ خلفَهُ ... تغوّل أقصى جهدِهم وهو وادعُ) (وهل يتكافا الناسُ شتى خلاهم ... وما يتكافئ في اليدين الأصابع) (إذا ارتد صمتا فالرؤس نواكسٌ ... وإن قال فالأعناقُ صُورٌ خواضِعُ) (وأغلبُ ما ينفكُ من يَقَظَاتهِ ... ربايا على أعدائه وطلائِعَ) (جنانٌ على ما جرَّت الحربُ جامعٌ ... وصدرٌ لما يأتي منَ الدهرِ واسعُ) (جديرٌ بأن ينشقَ عن ضَوْءِ وجههِ ... ضبابةُ نقع تحتهَ الموتُ ناقعُ) (تذودُ الدنايا عنه نفسٌ أبيه ... وعزم كصدر الهند وإني قاطعُ) (بعيدُ مقيلُ السرِ لا يدركُ التي ... يحاولها منه الأريبُ المخادع) (ومنكتمُ التدبيرُ ليس بظاهرٍ ... على طَرف الرائي الذي هو تابعُ) (ولا يعلمُ الأعداءُ من فرطِ عزمهِ ... متى هو مصبوبٌ عليهم فواقعُ) لم يبق وجه من وجوه المدح في الجود والشجاعة وتصوب الرأي ومضاء العزيمة والدهاء وشدة الفكر إلا قد اجتمع ذكره في هذه الأبيات ولا أعرف أحداً يستوفي مثل هذه المعاني في أكثر مدائحه إلا البحتري. وقال بعضهم أجود ما قيل في صفة الرجل الحازم قول زينب بنت الطثرية: (إذا جَدَّ عندَ الجدِّ أرضاك جدهُ ... وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطلهْ)

(يَسرك مظلوماً ويُرضيك ظالماً ... وكلّ الذي حملته فهو حامله) ومثله قول الآخر: (أخو الجد إن جَدَّ الرجالُ وشمروا ... وذو باطلٍ إن كان في الناس باطلُ) ومن المديح المفرط قول منصور النمري في هارون: (إذا ما عددَت الناسَ بعد محمدٍ ... فليس لهارونَ الإمامِ نظيرُ) فضله على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا مكروه جداً وأكره منه قول أبي نواس: (تنازعَ الأحمدانِ الشبةَ فاشتبها ... خَلقاً وخُلقاً كما قُد الشرا كان) فجعل النبي & ومحمد بن هارون سواءً في الخلق والخلق. وبعد بيت النمري أبيات جياد منها قوله: (منيع الحمى لكنّ أعناقَ ماله ... بظلّ الندى يسطو بها ويسورُ) كأنه من قول كثير: (غُر الرداءِ إذا تبسمَ ضاحكاً ... غلقت لضحكته رقابُ المال) وهذا من قول الأخطل: (خرجتُ أجرُ الذيلَ حتى كأنني ... عليك أميرَ المؤمنين أمير) (وقفتُ على حاليكما فإذا النَدى ... عليك أميرَ المؤمنين أميرُ) (يروحُ ويغدو ساجياً في وقاره ... على أنه يوم المرام ذكير) (وليس لأعباءِ الأمور إذا عرت ... بمكترثٍ لكن لهنَ قَهور) (يرى ساكنَ الأوصال باسط جهده ... يريك الهوينا والأمورَ تطير) ولا أعرف في هذا المعنى أجود من هذا البيت. وقالوا أمدح بيت قاله محدث قول النمري في هارون: (إن المكارمَ والمعروفَ أوديةٌ ... أحلك الله منها حيثُ تجتمعُ)

أخذه من قول أبي وجزة السعدي: (أتاك المجدُ من هنّا وهنا ... وأنتَ لهُ بمجتمع السيولِ) وأخذه ابن أمية الكاتب فقال في غزل: (تركت فيك التي ... ... .؟ ... وأنت منها بمجمع الطرقِ) ونقلته إلى الهجاء فقلت: (أتغدو بمستن العيون مخيما ... وأنتَ بعيبِ العالمين موكلُ ... ) وفي قصيدة النمري أبيات قليلة النظير منها قوله: (مستحكم الرأيِ مُستغن بوحدته ... عن الرجال بريب الدهرِ مضطلعُ) (يقري العدوَّ المنايا والقناةُ ندى ... من كلِّ ذاك القرى أحواضه ترعُ) (إذا بلغنا جمالَ الأرض لم ترنا ... للحادثاتِ بحمدِ الله نختشع ... ) (لما أخذتُ بكفيِ حبلِ طاعته ... أيقنت أني من الأحداثِ ممتنع) (إن الخليفةَ هارونَ الذي امتلأت ... منه القلوبُ وجارتْ تحته ترع) (إن أخلف الغيثُ لم تخلف مخائله ... أو ضاقَ أمرٌ ذكرناه فيتّسعُ) أخبرنا أبو أحمد رحمه الله تعالى عن الصولي عن المبرد وغيره قال شكا منصور إلى العتابي طلقاً استمر بامرأته ثلاثة أيام تخوف عليها منه فقال العتابي دواؤه معك أقرب منها وقل (هارون) فإن أمرها يسهل فغضب منصور فقال له لا تغضب فأنت قضيت بذلك في قولك: (إن أخلف الغيثُ لم تخلف مخائلهُ ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسعُ ... ) فأسكت منصور. ومن المديح البارع قول بشار: (ألا أيها الطالب المبتغي ... نجومَ السماءِ بسعيٍ أمَمْ) (سمعتَ بمكرمةِ ابن العلاءِ ... فأنشأتَ تطلبها لست تم) (إذا عرضَ الهمُ في صدره ... لها بالعطاء وصوب البهُم)

(فقل للخليفةِ إن جئتهُ ... نصيحاً ولا خيرَ في المتهم) (إذا أيقظتك جسامُ الأمور ... فنبه لها عمراً ثمَّ نَمْ) (فتىً لا يبيتُ على رمقهِ ... ولا يشربُ الماءَ إلاّ بدم) (يحبُ العطاءَ وسفكَ الدماءِ ... فيغدو على نِعَمِ أو نِقم) وقال البحتري: (إذا المهتدي بالله عُدت خلالهُ ... حسبتَ السماءَ كاثرتك نجومُها) وقلت: كم غاية لكُم تقاصرَ دُونها ... مَنْ رامها فكأنه ما رامها) (يعلو كرام العالمين وإنما ... يعلو كرامُ العالمين لثامَها) (وإذا تسامى الأكرمون إلى العلا ... نالوا مناسمها ونلت سنامها) (أمِنَ المكارم أن يُبددَ شملها ... لما رأتك نظامهُ ونظامها) (ذلت له نُوَبُ الزمان وأصبحت ... في عقوتيه جبالها آكامها) وقال البحتري: (إذا ذُكِرت أسلافُه وتُشُوهِرَت ... أماكنها قلت النجوم قبورُها) (إذا ماتت الأرضُ ابتدوها كأنما ... إليهم حياها أو عليهم نشورها ... ) (ودون عُلاهُم للمُسامين برزخٌ ... إذا كلفته العير طال مَسيرُها ... ) (بتدبير مأمونِ على الأمر رأيهُ ... ذكيرٌ وأمضى المرهقات ذكورها) (وذو هاجس جسٍ لا يحجبُ الغيبُ دونه ... تريه بطونَ المشكلات ظهورُها) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن عبد الله بن الحسن عن البحتري قال سمعت إبراهيم ابن الحسن بن سهل يقول: كان المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء ويقول انقضى الشعر مع ملك بني أمية، كان عمي الفضل بن سهلٍ يقول الأوائل حجة وهؤلاء أحسن تعريفا إلى أنه أنشده يوماً عبد الله بن أيوب التميمي شعراً يمدحه فيه فلما بلغ إلى قوله (ترى ظاهرَ المأمون أحسن ظاهر ... وأحسن مما قد أسر وأضمرا) (يناجي له نفساً تردع بهمة ... إلى كل معروفٍ وقلباً مُطهرا ... )

(ويُخشع إجلالاً له كلُّ ناظرٍ ... ويأبى لخوف الله أن يتكبرا) (طويلُ نجاد السيفِ مضطمر الحشا ... طراه طراد الجيش حتى تجسرا) (رِفِلٌّ إذا ما السلمُ رفل ذيله ... وإن شمرت يوماً له الحرب شمرا) فقال الفضل ما بعد هذا مدح وما أشبه فروع الإحسان بأصوله. ومن المدح القليل النظير قول أمامة بنت الجلاح الكلبية: أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو الحسن البرمكي أحمد بن جعفر حدثني محمد بن ناجية الرصغاني قال كنت أحد من وقعت عليه التهمة أيام الواقعة بمال مصر فطلبني السلطان طلباً شديداً حتى ضاقت علي الأرض برحبها فخرجت إلى البلاد مرتادا رجل عزيزاً منيع الدار أعوذ به وأنزل عليه حتى انتهيت إلى بني شيبان ابن ثعلبة فدفعت إلى بيت مشرف بظهر رابية منيعة وإلى جانبه فرس مربوط ورمح مركوز يلمع سنانه فنزلت عن فرسي وتقدمت فسلمت على أهل الخباء فرد عليه نساء من وراء السجف يرمقنني من خلل الستور بعيون كعيون أخشاف الظباء فقالت إحداهن اطمئن يا حضري فقلت وكيف يطمئن المطلوب أو يأمن المرعوب وقلما ينجو من السلطان طالبه والخوف غالبه دون أن يأوي إلى جبل يعصمه أو معقل يمنعه فقالت يا حضري لقد ترجم لسانك عن قلب صغير وذنب كبير قد نزلت بفناء بيت لا يضام فيه أحد ولا يجوع فيه كبد ما دام لهذا الحي سبد أو لبد هذا بيت الأسود بن قنان إخوانه كلب وأعمامه شيبان صعلوك الحي في ماله وسيدهم في فعاله لا ينازع ولا يدافع له الجوار وموقد النار وطلب الثار وبهذا وصفته أمامة بنت الجلاح الكلبية حيث تقول: (إذا شئتَ أن تَلقى فَتًى لو وزنته ... بكل معدي وكل يماني) (وفى بهم حلما وجودا وسؤددا ... وبأس فهذا الأسودُ بنُ قنان) (فتىً كالفتاة البكر يسفر وجهه ... كأن تلالي وجهه القمرانِ) (أغر أبر أبني نزار ويعرب ... وأوثقهم عقدا بقول لسان)

(وأوفاهمُ عهداً وأطولهم يداً ... وأعلاهمُ فعلاً بكل مكان) (وأضربهم بالسيفِ من دون جاره ... وأطعنهم من دُونهِ بسنانِ) (كأن العطايا والمنايا بكفه ... سحابان مقرونان مؤتلفان) فقلت الآن ذهبت عني الوحشة وسكنت الروعة فأنى لي به قالت يا جارية اخرجي فنادي مولاك فخرجت الجارية فما لبثت إلا هنيهة حتى جائت وهو معها في جمع من بني عمه فرأيت غلاماً حسناً اخضر شاربه واختط عارضه وخشن جانبه فقال أي المنعمين علينا أنت فبادرت المرأة فقالت يا أبا مرهف هذا رجل نبت به أوطانه وأزعجه سلطانه وأوحشه زمانه وقد أحب جوارك ورغب في ذمتك وقد ضمنا ما يضمنه لمثله مثلك فقال بل الله فاك قال أخذ بيدي وجلس وجلست ثم قال يا بني أبي وذوي رحمي أشهدكم أن هذا الرجل في ذمتي وجواري فمن أراده فقد أرادني ومن كاده فقد كادني وما يلزمني من أمره من حال إلا ويلزمكم مثله فليسمع الرجل منكم ما يسكن إليه قلبه وتطمئن إليه نفسه. فما رأيت جوابا قط أحسن من جوابهم إذ قالوا بأجمعهم ما هي أول منة مننت بها علينا ولا أول يد بيضاء طوقتناها وما زال أبوك قبلك في بناء الشرف لنا ودفع الذم عنا فهذه أنفسنا وأموالنا بين يديك. ثم ضرب لي قبة إلى جانب بيته فلم أزل عزيزاً منيعاً حتى سنح لي السلطان ما أملت فانصرفت إلى أهلي. ومن المديح البارع قول الأخطل: (شمس العداوة حتى يستقادَ لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قدروا) أخذه خارجة بن مليح المكي وأحسن: (آل الزبير نجوم يستضاء بهم ... أذا إحتبى الليل في ظلمائه زهروا) (قومٌ إذا شومسوا لجَّ الشماسُ بهم ... ذاتَ الإباءِ وإن ياسرتهم يسروا)

ومنه قول كثير في عبد الملك: (أبوك الذي لما أتى مرجَ راهط ... وقد ألبوا من جمعهم ما تألبا) (تسنأ للأعداء حتى إذا أتوا ... لما شاء منهم طائعين تحببا) وقال البحتري: (حَرونٌ إذا عاززتَه في مُلمةٍ ... فان جئته من جانب الذل أصحبا) نحوه: (كريمٌ يغضُّ الطرفَ فضلُ حيائه ... ويدنو وأطرافُ الرماحِ دواني) (وكالسيفِ إن لا ينته لانَ مَتنهُ ... وحدّاه إنْ خاشنته خَشنان) ومثل قول خارجة (إذا احتبى الليل في ظلمائه زهروا) قول الأشجع: (إذا غاب عنا الفجرُ خُضنا بوجهه ... دُجى الليلِ حتى يَستنيرَ لنا الفجرُ) وقال خارجة أيضاً: (ويسفر للساري إذا جُنَّ ليلهُ ... سبيل المطايا بالوجوه السوافرِ) وقال إدريس بن أبي حفصة: (لما أتتك وقد كانت منازعةً ... وَافَى الرضا بين أيديها بأقياد) (لها أمامك نور تستضئ به ... ومن رجائك في أعقابها حادي) (لها أحاديثُ من ذكراك تشغلُها ... عن الرتوعِ وتلهينا عن الزاد) وقال غيره: (إذا أشرقت في جنح ليل وجوهُهم ... كفى خابطَ الظلماءِ ضوءُ المصابحِ) (وإن ناب خَطبٌ أو ألمت مُلمةٌ ... فكم ثمَّ من آسي جراحٍ وجارح) ومن أجود ما قيل في صفة الرجل الجواد قول أبي الأسود الدينوري: (ولائمة لامتك يا فيضُ في الندَى ... فَقلتُ لها لن يَقدَحَ اللومُ في البحرِ) (أرادتْ لتثني الفيضَ عن عَادة الندَى ... وَمن ذا الذي يَثني السحابَ عن القطرِ)

(مواقع جودِ الفيضِ في كلِّ بلدة ... مواقع ماءِ المزنِ في البلد القفرِ) ولا أعرف في معناه مثلها. وقلت: (تقضي مآربه من كلِّ فائدة ... لكن من المجد ما تقضي مآربُهُ) (أفاده العِزَّ آباءٌ ذوو كرم ... وزادهُ الخلقُ المخضر جانبه) (لقد فضلتَ كرامَ الناس كلهم ... فهم مناسمُ مَجد أنت غاربه) (يا ليتَ شعري هَل يستطيعُ شكرَكم ... دهرٌ مساعيكم فيه مَناقبه) (وحينَ أرضيتم كنتم نوافله ... وأنتمُ حين أسخطتم نوائبه) (منكم على الدهر عينٌ لا تناومه ... وللحوادث قِرن لا تغالبه) ومن أجود ما قيل في ذكر الجود قول الأشجع في جعفر بن يحيى: (يرومُ الملوكُ جدى جعفر ... ولا يَصنعونَ كما يَصنعُ) (وكيف ينالونَ غاياتِه ... وهم يَجمعونَ ولا يَجمعُ) (وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفه أوسع) (فما خلفه لآمرئ مطمع ... ولا دونه لامرئ مقنع) (إذا رفعت كفه معشرا ... أبي العزو والفضل أن يوضعوا) (ولا يرفعُ الناسُ من حطهُ ... ولا يضع الناسُ من يَرفعُ) (رأيتُ الملوك تغض العيون ... إذا ما بدى الملكُ الأتلعُ) (بديهتهُ مثلُ تدبيره ... متى هجتهُ فهو مُستجمع) أخذ قوله بأوسعهم في الغنى من قول الأول: (له نارٌ تشبُّ بكلِّ أرض ... إذا النيرانُ جللتِ القناعا) (وما أن كان أكثرهم سواداً ... ولكن كان أرحبهم ذِراعا)

وقال بعض المولدين: (وما رأيُتك في حالٍ تكونُ بها ... أدنى إلى كلّ خيرٍ منك في العدمِ) ومن أجود ما قيل في الصلة على بعد الدار قول نهشل بن حري: (جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... بني الصلتِ إخوان السماحةِ والمجدِ) (أتاني وأهلي بالعراق نداهُمُ ... كما صاب غيثٌ من تهامةَ في نجد) (فما يتغيرُ من زمانٍ وأهله ... فما غير الأيام مجدَكُمُ بَعْدِي) فأخذه البحتري أخذاً ما رأيت أعجب منه وقد وجه إليه بنو السمط برمي حمص إلى منيج فقال: (جزى اللَّهُ خيراً والجزاء بكفه ... بني السمط إخوان السماحة والمجد) (هم حضروني والمهامهُ بيننا ... كما ارفضَّ غيثٌ من تهامةَ في نجدِ) إلا أن قوله (هم حضروني والمهامة بيننا) أبدع وأحسن من قول نهشل (أتاني وأهلي بالعراق نداهم) وأخذه ابن المولى فقال: (فرحتُ بجعفرٍ لما أتانا ... كما سُرَّ المسافرُ بالإيابِ) (كممطورٍ ببلدتهِ فأضحى ... غنياً عن مطالعةِ السّحابِ) وأخذه أبو السمط بن أبي حفصة فقال في عبد الله بن طاهر: (لعمري لنعمَ الغيثُ غيثٌ أصابنا ... ببغدادَ من أرضِ الجزيرة وابُلهْ ... ) (ونِعمَ الفتى والسدُ بيني وبينه ... بسبعينَ ألفاً صبحتني رسائله) (فكنا كحيّ صبَّح الغيثُ دارهُ ... ولم يحتمل أظعانه وجمائله) وأخذه أبو تمام فقال: (لم أستطع سيراً لمِدحةِ خالد ... فجعلتُ مدحتهُ إليه رسولا) (فليرحلنَّ إليك نائلُ خالدِ ... وليكفينَّ رواحلي الترحيلا) وأخذه أبو عفان فقال في أحمد بن محمد بن ثوابة: (نفسي فداءُ أبي العباس من رجلٍ ... لم ينسني قطٌ في نأيٍ ولا كَثَب)

(يقري وبالرقةِ البيضاءِ منزلهُ ... من بالعراقينِ من عُجم ومن عربَ ... ) (أغنيتني عن رجالٍ أنت فوقهم ... في المكرماتِ ودونَ القوم في النشب) وأصل ذلك كله من قول جرير: أخبرنا أبو أحمد عن علي بن سليمان الأخفش عن ثعلب عن محمد بن سلام قال قال أبو الغراف بعث عبد العزيز بن مروان إلى جرير بمال من الشام فتجهز يريده فأتاه نعيه فقال جرير يرثيه: (بنفسي امرأً والشامُ بيني وبينهُ ... أتتني ببشرى بردهُ ورسائله) قال أحمد أبو الحسن لا يجوز عندنا (إلا امرؤ) إلا أن الرواية هكذا، معناه أفدى: (أتى زمنُ البيضاءِ بعدك فانتحى ... على العظم حتى أثلمته حواملُه) (فيومانِ من عبد العزيزِ تفاضَلا ... ففي أيِّ يومَيه تلومُ عواذلُه) (فيومٌ تحوطُ المسلمين جيادهُ ... ويومٌ عطاه ما تغبّ نوافله) ومن المديح البارع قول إبراهيم بن العباس: (أسدٌ ضارٍ إذا هيجته ... وأبٌ برٌ إذا ما قدرا) (يعلمُ الأ بعد إن أثرى ولا ... يعلمُ الأدنى إذا ما افتقرا ... ) ومن بليغ المديح ما أنشدناه أبو أحمد في جملة خبر أخبرناه عن أبيه عن أحمد ابن أبي طاهر النديم عن عبد الله بن السري عن أحمد بن سليمان قال قال عبد الله ابن زيد القسري كنت قائماً على رأس ابن هبيرة وعنده سماطان من وجوه الناس إذا أقبل شاب لم أر مثل جماله وكماله فقال أصلح الله الأمير إني امرؤ فدحته كربة وأوحشته غربة ونأت به الدار وأقلقه الأمعار وحل به عظيم خذله أخلاؤه وشمت به أعداؤه وحفاه القريب وأسلمه البعيد فقمت مقاماً لا أرى فيه معولاً ولا جازى نعمه إلا رجاء الله تعالى وحسن عائدة الأمير وأنا أصلح الله الأمير ممن لا تجهل

أسرته ولا تضيع حرمته فإن رأى الأمير أن يسد خلتي ويجبر خصاصتي فعل فقال ابن هبيرة ممن الرجل؟ قال من الذين يقول لهم القائل (فزارة بيتُ المجدِ والعزِّ فيهم ... فزارةُ قيسٍ حَسبُ قَيس فعالُها) (لها العزة القعساءُ والشرفُ الذي ... بناهُ لقيسٍ في القديم رجالُها) (وهل أحدُ إنْ مدَ يوماً بأنفهِ ... إلى الشمسِ في جوَ السماءِ ينالها) (لهيهات ما أعيا القرونَ التي مَضتْ ... مآثرُ قيسٍ واعتلاها خصالها) فقال ابن هبيرة إن هذا الأدب حسن مع ما أرى من حداثة سنك فكم أتت لك؟ قال تسع وعشرين فلحن الفتى فتبسم ابن هبيرة كالشامت به وقال ألحن أيضاً مع جميل ما أتى عليه منطقك، شبته بأقبح عيب فأبصر الفتى ما وقع فيه فقال غن الأمير أصلحه الله تعالى عظم في عيني وملأت هيبته صدري فنطق لساني بما لا يعرفه قلبي. فقال له ابن هبيرة: وما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده ويحضر بها سلطانه ويزين بها مشهده ويتبوأ بها على خصمه أو يرضى أحدكم أن يكون لسانه مثل لسان مملوكه وأكاره وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم فإن كان سبقك لسانك وإلا فاستعن على إصلاحه ببعض ما أوصلناه إليك ولا يستحي أحدكم من التعلم فإنه لولا هذا اللسان لكان الإنسان كالبهيمة المهملة قاتل الله الشاعر حيث يقول: (ألم ترَ مفتاحَ الفؤادِ لسانُه ... إذا هو أبدى ما يقولُ من الفمِ) (وكائنْ تَرَى من صامِت لك مُعجبٍ ... زيادَتُه أو نقصهُ في التكلم) (لسانُ الفتى نصف ونصفٌ فؤادهُ ... فلم يبقَ إلاّ صورةُ اللحمِ والدَّمِ) ومن بارع المديح: (ولي منك موعودٌ طلبتُ نجاحهُ ... وأنتَ امرؤ لا تخلفُ الدهرَ مَوْعِدا) (وعَوَّدتَني أن لا تزال تُظلني ... يدٌ منك قد قدمتَ من قبلها يدا ... )

(فلو أن مجداً أو ندى أو فضيلةَ ... تخلدُ شيئاً كنتَ أنتَ المخلدا) ومن بليغ المديح ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي عن أبي العيناء عن الأصمعي للصموت الكلابي وقال مرة للصموت الكلابية امرأة: (لله دَرُّكَ أيُّ جُنّةِ خائف ... ومتاع دُنيا أنتَ في الحدِثان) (متخمط يطأ الرحال غُلَّبةً ... وطأ الفنيق دوارج القردان) (وتفرج البابَ الشديدَ رتاجُه ... حتى يكونَ كأنه بابان) وتبعه أبو تمام فقال في ابن أبي داود: (فلتبكِ الأحسابُ أي حياةٍ ... وحيا أزمةٍ وحيّةٍ واد) (عاتقٌ معتقٌ من اللومِ إلاّ ... من مقاساةِ مغرمٍ أو نجادِ) ومن أجود ما قيل في صفة الكمال قول كشاجم: (ومهذبِ الألفاظ منطقهُ ... ما فيه من خطلٍ ولا مَينِ) (ما شئتَ من ظَرفٍ ومن شيم ... ما في محاسنهن من شين) (ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيبٍ يوقيه من العين) قد أحسن وظرف ولم يقصر في تفليل الحز واصابه المفصل. ومثله قوله: (يا كاملَ الآدابِ مُنفردَ العلا ... والمكرمات ويا كثير الحاسدِ) (شخصَ الأنامُ إلى كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيبٍ واحدِ) وقال ابن الرومي يمدح بعض العمال وقد نكب: (لا يستطيعك بالتنقُّصِ حادثٌ ... وأبى لك التكميلُ أن تتزيدا) (وكأنني بك قد نحوتَ محمد ... في النائباتِ كما دعيت محمدا) (فطلعتَ كالسيفِ الحسامِ مجرّداً ... للحقِّ أو مثل الهلالِ مجددا)

(شهد النهارُ وكشفه غُممَ الدجى ... إنّ الزمانَ مبيضٌ ما سودا) ومثله قول الآخر: (فما كنت إلاّ السيف جُرد في الوغى ... وأخمد في الهيجا وردّ إلى الغمد) ومن أبلغ المديح: (بديهته وفكرتهُ سواءٌ ... إذا ما نابهُ الخطبُ الكبيرُ) (وصدرٌ فيه اللهم اتساعٌ ... إذا ضاقت من الهمَ الصدور) ومن أبلغ المديح قول البحتري: (أخذوا النبوةَ والخلافةَ وانثنوا ... بالمكرُماتِ كثيرِها وقليلِها) (وإذا قريشٌ فاضلتك فضَلْتَها ... بأبي خلائفها وعم رسولها) (وجوادُها ابن جوادِها وكريُمها ابن ... كريمها ونبيلُها ابن نبيلها) (لو سارت الأيامُ في مسعاتهم ... لتنالها لتقطّعت في طُولها) (رفعتهمُ الآياتُ في تنزيلها ... وَقَضتْ لهمِ بالفضلِ في تأويلها) (وإذا انشعبتَ أخذتَ خيرَ فروعها ... وإذا رجعتَ أخذت خيرَ أصولها) وقلت: (لئن قلَ أربابُ المكارم والعلا ... ليحيى كثيرٌ في العلا والمكارمِ) (يذكرني جودَ الغمائم جودُهُ وشكري له شكرَ الثرى للغمائمِ) (تخال به بدراً مع الليل باهراً ... يلوحُ على عرف من الليل فاحم) (يديلُ من الأيام والدهرُ مُنصف ... بعزم على الأيام والدهر حاكم) (يبزُ من الأنجاد كل مساور ... ويعلو من الأمجاد كل مكارم) (بخلق كمتنِ الصخر في كفِّ لامسٍ ... وطور كجري الماء في عين حائمِ) (ورأي كصدر الراغبيةِ شارع ... وعزم كحدِّ المشرفية صارم) (على بلدة يسقي الضراغمَ ماؤها ... ويسقي بها الألى دماء الضراغمِ) ومن بارع المديح قول أبي تمام:

(رأيت لعياشٍ خلائفَ لم تكن ... لتكملِ إلاّ في اللباب المهذّبِ) (له كرمٌ لو كان في الماء لم يَغِض ... وفي البرق ما شامَ امرؤٌ برقُ خلّبِ) (أخو عَزَماتٍ بذُله بذلُ مُحسنِ ... إلينا ولكن عُذرهُ عُذرُ مذنبِ) (يَهولُك أن تلقاه في صدرِ مَحْفل ... وفي نحر أعداءٍ وفي قلبِ مَوكبِ) (وما ضيقُ أخطارِ البلادِ أضاقني ... إليك ولكن مذهبي فيك مذهبي) (وهذي ثيابُ المدح فاجرر ذيولها ... عليك وهذا مركبُ الحمدِ فاركبِ) وقد أحسن التنوخي في أبيات له منها: (وفتية من حِمُيرَ حُمر الظُّبى ... بيض العطايا حينَ يسودُّ الأمل) (شموسُ مجدٍ في سمواتِ علا ... وأسدُ موتٍ بين غابات أسل) وقلت: (ما المجدُ إلاّ سماءٌ أنت كوكبها ... والجود إلاّ غمامٌ أنت سلسله) (فكل سابقِ قوم أنتَ سابقه ... وكل فاضل حزب أنت تفضله) (بالعقد تحكمه وبالأمر تبرمُهُ ... والعرض تَمنعهُ والمال تَبذلهُ) وللمحدثين أبيات بارعة سائرة في المديح منها قول أبي تمام: (أيامنُا مصقولةٌ أطرافُها ... بك والليالي كلُّها أسحارُ) مأخوذ من قول عبد الملك بن صالح حدثنا أبو أحمد أخبرنا الصولي حدثنا شيخ ابن حاتم العكلي حدثنا يعقوب بن جعفر قال لما دخل الرشيد منبج قال لعبد الملك أهذا البلد منزلك قال هو لك ولي بك قال كيف بناؤك فيه قال دون منازل أهلي وفوق منازل غيرهم قال فكيف صفة مدينتك هذه قال هي عذبة الماء باردة الهواء قليلة الأدواء قال كيف ليلها قال سحر كله قال صدقت إنها لطيبة قال لك طابت وبك كملت وأين بها عن الطيب وهي تربة حمراء وسنبلة صفراء وشجرة خضراء فياف فيح بين قيصوم وشيح. فقال الرشيد لجعفر بن يحيى هذا الكلام أحسن من الدر المنظوم فأخذه ابن المعتز فقال: (يا رُبَّ ليلٍ سَحَرٌ كلُّه ... مفْتضِحُ البدرِ عليلْ النسيمِ)

(تلتقطُ الأنفاسُ بردَ الندَى ... فيه فتهديه لنارِ الهمومْ) وقال ابن الرومي (كأن أيامهن كالبُكَرِ) وقلت: (أيامُنا في جوارُه بكرُ ... وليلنا في فِنائه سحر) ومنها قول أبي نواس: (أنت الخصيبُ وهذه مصرُ ... فتدفقا فكلاكما بحرُ) وقوله: (وليس على الله بمستنكرٍ ... أن يجمعَ العالمَ في واحد) وقوله: (فتى يشتري حسنَ الثناءِ بماله ... ويعلمُ أن الدائراتِ تدورُ) (فما جازه جودٌ ولا حل دونه ... ولكن يصيرُ الجودُ حيثُ يصير) وقول ابي العتاهية: (أتته الخلافةُ منقادة ... إليه تجررُ أذيالها) (ولم تكُ تصلحُ إلاّ لهُ ... ولم يكُ يَصلحُ إلاّ لها) (ولو رامَها أحدٌ غيرُه ... لزلزلتِ الأرضُ زلزالَها) وقول مسلم إلا أنه مرثيه: (وأني وإسماعيل يومَ وفاته ... لكالغمد يوم الروع فارقهُ النصلُ) (فإنْ أغشَ قوماً بعده أو أزرهُمُ ... فكالوحش يدنيها من الأَنسِ المحل) الأنس جمع مثل خدم. وقول بعض الأعراب في معن بن زائدة: (أنتَ الجوادُ ومنك الجودُ أوله ... فإن فقدت فلا جود لمجود) (أضحت يمينُك من جودٍ مصورة ... لا بل يمينك منها صورةُ الجودِ) (من نور وجهك تضحي الأرض مشرقة ... ومن ثنائك يجري الماءُ في العودِ) وقول البحتري: (وقد قلتُ للمعلي إلى المجدِ طَرفَهُ ... دَع المجدَ فالفتحُ بنُ خاقان شاغلهُ) (صفْت مثلَ ما تصفو المُدامُ خلالَه ... ورقتْ كما رقّ النسيمُ شمائلهُ) والعرب تتمدح بطول القامة فمن أجود ما قيل فيه قول أبي تمام:

(أناس إذا يدعى نزالِ إلى الوغى ... رأيتَهمُ رجلىَ كأنهم ركْبُ) (من المطرّيينَ الأولى ليس ينجلي ... بغيرهم للدهرِ صِرفٌ ولا كرْبُ) (جعلتَ نظام المكرمات فلم تدرْ ... رحا سؤددٍ إلاّ وأنت لها قُطبُ) (إذا افتخرت يوماً ربيعةٌ أقبلتْ ... مجنبتي مجدٍ وأنت لها قلبْ) ومن أجود ما قيل في قدم الشرف ووضوح النسب قول أبي تمام: (نَسبٌ كأن عليه من شمس الضّحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا) (عريان لا يبكوا دليلٌ من عمًى ... فيه ولا يبغي عليهِ شهودا) (شرف على أولى الزمان وإنما ... خَلَقُ المناسبِ ما يكون جديدا) (لو لم تكن من نبعةٍ نجديّة ... علوّية لظننتُ عودك عودا) (مطرٌ أبوك أبو أهلةً وابل ... ملأ البسيطة عدة وعديدا) (ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا ... جمعوا جدوداً في العلا وجدودا) (أكفاؤه تلدُ الرجالَ وإنما ... ولد الحتوفُ أساوداً وأسودا) أخذه السري فقال في المهلبي: (نسبٌ أضاءَ عمودهُ في رفعه ... كالصبح فيه ترفُّعٌ وضياءُ) (وشمائلٌ شهدَ العدوُّ بفضلها ... والفضلُ ما شهدت به الأعداء) وهذا من قول البحتري: (لا أدعي لأبى العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليها عِداهُ) وقلت: (قد نلتَ بالرأي والتمييز منزلةً ... ما نالها أخواك البحر والمطرُ) (وبالتكرم والأفضال مرتبةً ... لم يُعطها خادماك السيفُ والقدر) (قالوا أيمطرُ من محل ألمَّ به ... فقلتُ قد تمطر الأنهارُ والغدرُ) (مالٌ يبددُهُ في جمع مَكرُمةٍ ... فالمجدُ مجتمعٌ والماءُ منتشرُ) (كروضةٍ أخذت بالغيثِ زُخرُفَها ... فالروضُ منتظمٌ والغيثُ منتشرُ)

(مناقبٌ ما يكادُ الدهرُ يهدمُها ... كأنّها أصَلٌ للدهرِ أو بُكرُ) (فابشر فإنك رأسٌ والعلا جسدُ ... والمجدُ وجهٌ وأنتَ السمعُ والبصرُ) (لولاكَ لم تكن للأيامِ منقبةٌ ... تسمو إليها ولا للدِّهر مفتخرُ) وقلت: (هل أنت إلاّ البدرُ تمَّ تمامُه ... والغيث باكر وبله وسجامه) (والسيفُ أرهفَ للمضاءِ غرارُه ... والرمحُ قوَّمَ لِلِّقاءِ قوامُه) (أنت الربيعُ الغضُّ رقَّ نسيمُه ... واخضرَّ روضته وصاب غمامه) (خُلقٌ كنشرِ الروضِ طلّ نباتهُ ... أو مثل صرفِ الراحِ فُضَّ خِتامه) (للأولياء رخاؤه ورخاؤه ... وعلى العداة سموه وسِمامُه) (يا من أدلّ على الزمانِ زمانُه ... وزرى على أيامِه أيامُه) (يدنو فيغمرُ كلَّ شئ فضلُه ... كالخصب يُنعش كل خلق عامهُ) (ما أن يزال من المآثر والعلا ... في موكب منشورة أعلامه) (عالٍ تَسَوَّرَ فوق قِمة سؤددٍ ... أوفى على قمم النجوم سَنامه) (يبدو فيبدي الصبحُ غُرةَ وجهه ... والليل قد قَبض العيونَ ظلامهُ) (سبق الجيادَ فما يُشقُّ غُبارُه ... وعلا القرينَ فما يُرام مرامه) (ولئن أبرَّ على الحسام عزيمتة ... فكما أبرَّ على القضاءِ حُسامُه) (وكأنما أقلامُه أسيافُهُ ... وكأنما أسيافُه أقلامُه) (ما المجدُ إلاّ العقدُ جودُك شذرُه ... ونداك لؤلؤةُ وأنت نظامُه) (والجودُ في يدِك اليمين عِنانه ... والبأسْ في يدك الشمال خطامه) (مازال فوتك في اللواءِ موليا ... مولي المخافة خلفه وأمامُه) (فاعمر على زمنٍ أغر محجّل ... قد تمَّ فيك على الورى إنعامُه) وقال آخر وأحسن:

(كم صغروا منهمُ والله يكلؤهم ... نعماء ما صغرت إلاّ لأن عظموا) وقال أبو يعقوب الخريمي: (فلو لم يكن إلاّ بنفسِك فخرُها ... لكان لها يومَ الفخارِ بك الفضلُ) (جريتَ على مهل فأتعبت من جرى ... فلا تعبٌ يدني إليك ولا مهل) (ويبذل دنياه ويمنع دينهُ ... فلا مثلَ ذا بذلٌ ولا مثلَ ذا بُخْلُ) وقلت: (وقفتُ على يحيى رجائي وإنما ... وقفتُ على صوبِ الربيع رجائيا) (إذا ما الليالي أدركت ما سعت له ... تمطيت جدواه ففقت اللياليا) (إذا غاب جاء المزن في الجود سابقا ... وإن آب جاء المزن في الجود تاليا) (إذا الغيثُ باراه ثنى الغيثَ مقصرا ... أو البرق جاراه ثنى البرق كابيا) (فتى لم نزنه بالقوافي وإنما ... حططنا إليه كي نزينَ القوافيا) (من الغرِّ لاحوا أشمساً ومضوا ظبى ... وصالوا أسوداً واستهلوا سواريا) (رأيت جمالَ الدهر فيك مجدداً ... فكن باقياً حتى ترى الدهرَ فانيا) وقلت: (في فتية أخلاقُهم وفعالهم ... عِرسٌ تكامل حسنها وعرائس) (حَلَّ السرور حباهمُ في مجلس ... للمجد والعلياء فيه مجالس) (فهمُ إذا نظروا الصديق كواكبٌ ... زهرٌ وإن نظروا العدوَّ حنادس) (أو قيل تلتف الجياد بمثلها ... فهم ضراغم والعداة فرائس) (فالليل منهم شامس والصبح منهم ... دامسٌ والدهرُ منهم وارس) وأظن ابن الرومي سبق إلى معنى قوله: (نفائس ماله أدناه مجنىً ... من الأيدي جميعاً والأماني) (كذاك فوارضُ الثمراتِ تدنو ... لجانيها فتمكِن كلَّ جاني) وأخبرنا أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد قال أتي شاعر أبا البحتري وهب ابن وهب وكان من أجود قريش كان إذا سمع المادح له ضحك وسرى السرور بجوانحه وأعطى وزاد فأنشده هذا الشاعر:

(لكلِّ أخي فضلٍ نصيبٌ من العلا ... ورأس العلا طرا عقيد الندى وهب) (وما ضر وهب عيبُ من جحد الندى ... كما لا يضر البدرَ ينبحه الكلب) فثنى له الوسادة وهش إليه ورفده وحمله وأضافه فلما أراد الرحيل وهو أشد خلق الله اغتباطا لم يخدمه أحد من غلمان أبي البحتري ولا عقب له ولا حل فأنكر ذلك مع جميل ما فعل به فعاتب بعضهم فقال إنما نعين النازل على الإقامة ولا نعين المرتحل على الفراق فبلغ ذلك جليلاً من القرشيين فقال والله لفعل هؤلاء العبيد أحسن من رفد سيدهم. ومن بليغ المعاني في المديح قول ابن الرومي: (لعل من عاثر لك يا ابن يحيى ... يموتُ الكاشحونَ وأنت تحيا) (على أن المماتَ لكل حيّ ... وقيتَ به من الحِدثان محيا) وقال خلف بن خليفة: (إن استجهلوا لم يغرب الحلمُ عنهمُ ... وإن آثروا أن يجهلوا عَظم الجهلُ) (همُ الجبلُ الأعلى إذا ما تناكرت ... ملوكُ الرجالِ أو تخاطرتِ النزلُ) (مواعيدُهم فعلٌ إذا ما تكملوا ... بتلك التي إن سُميت وَجب الفعلُ) (ألم ترى أن القتلَ غالٍ إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطن رَخُصَ القتلُ) وقلت: (لقد علمت يحيى موافية العلا ... فضائل آباء تلتها فضائلهُ) (فحاز طريفَ المجدِ بعدَ تليدهِ ... رفيع يطول النجمَ حين يطاوله) (فتى غُرَّهُ الأيام حسنُ صنيعه ... وتيجانُها أخلاقُهُ وشمائله) (وما هو إلّا المزن تصفوا خلاله ... ويعلو مبواه ويبكرُ هاطلُهْ)

الفصل الثاني من الباب الأول في الأفتخار

(الفصل الثاني من الباب الأول في الافتخار) قالوا أفخر بيت قالته العرب قول جرير: (إذا غَضبَتْ عَليكَ بنو تَميم ... حَسبتَ الناسَ كلهم غضابا) وقالوا قال عبد الملك بن مروان للفرزدق وجرير والأخطل من أتاني منكم بصدر هذا البيت (والعود أحمد) فله عشرة آلاف درهم فما كان فيهم مجيب فأدخل أعربي من عذرة إليه فأنشده: (فإن كان مني ما كرهتَ فإنني ... أعودُ لما تهواهُ والعودُ أحمدُ) فقال عبد الملك أحسنت ولكن لم تصب ما أردتُ فأنشد: (جزينا بني شيبانَ قِدماً بفعلهم ... وعُدنا بمثل البدءِ والعودُ أحمدُ) قال لم تصب ما أردت فأنشد: (وأحسن عمرٌ في الذي كان بيننا ... فإن عاد بالإحسان فالعودُ أحمدُ) فقال هذا طلبت. ثم قال أخبرني عن أهجى بيت قالته العرب قال قول جرير: د (فغضَ الطرفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا) (ولو وضعت فقاحُ بني نميرٍ ... على خبثِ الحديدِ إذاً لذابا) قال فأخبرني عن أمدح بيت قالته العرب قول جرير: (ألَسْتم خَيرَ مَن رَكبَ المطايا ... وأندَى العالمينَ بُطونَ راح) قال فما أفخر بيت قالته العرب قال قول جرير: (إذا غضبتْ عَليكَ بنو تَميم ... حسبتَ الناسَ كلهمُ غِضابا) قال فما أغزل بيت قالته العرب؟ قال قول جرير: (إن العيونَ التي في طَرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا) (يَصرعنَ ذا اللبِّ حتى لا حَراكَ بهِ ... وهُنَ أضعفُ خلق الله أركانا ... )

قال فما أحسن بيت قيل؟ قال قول جرير: (وطوى الطراد مع القياد بطونها طي التجار بحضرموت برودا) قال فما أقبح بيت قيل؟ قال قول جرير: (ألمَ تَرَ أنَ جمثنَ وَسطَ سعدٍ ... تُسمى بَعدَ قِضتها الرحابا) (ترى برصَاً بأسفل إسكتيها ... كعنفقةِ الفرَزْدَق حينَ شابا) قال فما أهجن بيت قيل قال قول جرير: (طرقتك صائدةُ القلوب وليس ذا ... حين الزيا فارجعي بسلام) قال فهل تعرف جريراً؟ قال لا ولكن ترد علينا أقاويل الشعراء فلم أرَ شعراً أرق في الوزن ولا أملأ للفم من شعره فقام جرير فقبل رأسه وجعل جائزته في هذا العام له وأضاف عبد الملك إليها مثلها وكتب إلى عامله باليمامة أن ينصف من خصم تظلم منه. وقد قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: (بدأتم فأحسنتم فأثنيتُ جاهداً ... وإن عدتمُ أثنيتُ والعودُ أحسن) وقال ابن المعتز أو غيره: (خليليَّ قد طابَ الشرابُ المبرَّدُ ... وقد عُدتُ بعد النسك والعودُ أحمد) وقال ابن حبيب دخل رجل من بني سعد على عبد الملك بن مروان فقال له ممن الرجل؟ قال من الذين قال لهم الشاعر: (أذا غَضبتْ عليكَ بنو تميمِ ... حسبتَ الناسَ كلّهم غِضابا) قال فمن أيهم أنت؟ قال من الذين يقول لهم القائل: (يزيد بنو سعد على عدد الحصى ... وأثقل من وزن الجبال حلومها) قال فمن أيها أنت؟ قال من الذين يقول لهم الشاعر:

(ثيابُ بني عوفٍ طهارى نقيةُ ... وأوجههُم عند المشاهد غُرّانُ) قال فمن أيهم أنت؟ قال من الذين يقول لهم الشاعر: (فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنو المكارم حيث شاؤا) قال فمن أيهم أنت؟ قال من الذين يقول لهم الشاعر: (قوم همُ الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ ... ومن يسوّي بأنفِ الناقةِ الذنبا) قال اجلس لا جلست والله لقد خفت أن تفخر علي. وقالوا أفخر بيت قالته العرب قول الفرزدق: (ترى الناس ما سرنا يسرون خلفَنا ... وإن نحنُ أومأنا إلى الناس وقَّفوا) ورواه لنا أبو علي بن أبي حفص (أربأنا) قال والإرباء الإشارة إلى خلف والإيماء إلى قدام، والناس يجعلون هذا البيت لجميل في قصيدته التي يقول فيها: (وكانت تجيدُ الأسدُ عنا مُخافةً ... فهل يقتلني ذو بنان يطرفُ) (لقد أخلفت ظني وكانت مخيلة ... وكم من مخيل يرتجي ثم يخلفُ) (إذا انتهبَ الأقوامُ مجداً فإننا ... لنا مِغرفا مجدٍ وللناسُ مغرفُ) (وضعنا لهم صاعَ القصاصِ رَهينةً ... بما سوفَ نُوفيه إذا الناسُ طفّفوا) (ترى الناسَ ما سِرنا يَسيرونَ خلفَنا ... وإن نحنُ أومأنا إلى الناس وقَّفوا) وكان جميل جيد الافتخار: (والشاعر المتألي الشاعرون به ... كي يلمسوه وأين اللمسُ من زُحَل) وعند الناس قصيدته الفائية أحسن وأسلس من قصيدة الفرزدق. وأخذ بعضهم قوله (وكم من مخيل يرتجى ثم يخلف) فقال وأحسن: (ظننتُ به ظناً فقصّرَ دونهُ ... فيا رُب مظنونٍ به الخيرُ يُخْلِفُ) (وما الناس بالناس الذين عرفتهم ... وما الدارُ بالدار التي كنتُ أعرف) (وما كلُّ من تَهواه يَهواك قلبه ... وما كلُّ من أنصفته لك منصف)

أخبرنا أبو أحمد عن المبرمان عن أبي جعفر بن العسي عن العسي قال ما أحسن ما مدح به الرجل نفسه قول أعشى ربيعة: (وما أنا في نفسي ولا في عَشيرتي ... بمنهضمٍ حقي ولا قارع سني) (ولا مسلمٍ مولايَ عند جنايةٍ ... ولا خائف مولاي من شرِّ ما أجني) (وإن فؤادي بينَ جنبيَّ عالمٌ ... بما أبصرتْ عيني وما سمعت إذني) (وفضلي في الشعر اللب أنني ... أقولُ على علمٍ وأعلمُ ما أعني) (فأصبحتُ إذا فضلت مروانَ وابنه ... على الناس قد فَضلت خيرَ أب وابن) وأنشدنا أبو أحمد عن أبي بكر عن أبي حاتم عن الأصمعي قال وهو من أجود ما امدح به الرجل نفسه، قال أبو هلال وهو لمسكين الدارمي: (ورُبّ أمون قد بريت لحاءها ... وقومت من أصلابها ثم رشتُها) (أقيم بدارِ الحزمِ ما لم أهَن بها ... فإن خفتُ من دار هوانا تركتها) (وأصلحُ جل المال حتى حسبتني ... بخيلا وإن حق عران أهنتُها) (ولستُ بولّاجِ البيوتِ لفاقَةٍ ... ولكن إذا استغنيتُ عنها ولجتها) (إذا قصّرت أيدي الكرامِ عن العلا ... مددتُ لها باعاً طويلاً فنلتُها) (وعوراء من قيل امرىء ذي عداوةٍ ... تصاممتُ عنها بعد أن قد سمعتها) (رجاء غدٍ أن يعَطفَ الودُّ بيننا ... ومظلمة مني بجنبي عركتُها) غيره: (ومالَي وجهٌ في اللئام ولا يدٌ ... ولكنَّ وجهي في الكرام عريضُ) (أصح إذا لاقيتهم وكأنني ... إذا أنا لقيت اللئامَ مريض) وقلت في معناه: (وخلِّ الجهولَ وبغضي له ... فأني لبيب أُحبُّ اللبيبا) (يصادُفني الضيف طلقاً ضَحوكاً ... وإن كنت لم أرى بدعا عجيبا) (وأستعملُ الحلمَ ما لم أكن ... أضبت من الذلِّ فيه نصيبا)

(من الحلمِ ضربٌ إذا رُمته ... لقيتَ من الذلِّ فيه ضروبا) وأنشدنا أبو أحمد قول أبي هفان (فإن تسألي عنا فإنا حلى العلا) ثم قال ليس لقوله (فإنا حلى العلا) نظير، وأنشدنا له: (لعمري لئن بُيِّعت في دار غَربةٍ ... ثيابي إذ ضاقت عليّ المآكلُ) (فما أنا إلّا السيف يأكلُ جفنَه ... له حليةٌ من نفسهِ وهو عاطل) وقد زاد في هذا البيت على النمر بن تولب في قوله وهو أول من أتى بهذا المعنى: (فإن تكُ أثوابي تمزق عن بلى ... فإني كمثلِ السيفِ في خَلَقَ الغمدِ) ولأبي هفان أيضاً: (تعجّبَتْ دُرّ من شيبي فقلتُ لها ... لا تعجبي من بياضِ الصبحِ في السَّدف) (وزادها عجباً أن رحتُ في سَمَل ... وما دَرَت دُرُ أنّ الدرَّ في الصّدفِ) فرأيت في هذا المعنى تكلفا فقلت: (عيرتني أن رحتُ في سَملٍ ... والدرُ لا تزري به الصدفُ) وله أيضاً في هذا المعنى: (يُعيرني عريي رجالٌ سفاهةً ... فعزيتُ نفسي مصدراً ثم مورِدا) (بأني مثل السيف أحسن ما يُرى ... وأهيب ما يُلقى إذا هو جُردا) في ألفاظه فضول لا يحتاج إليها. ومثله في المعنى قول علي بن الجهم أورده في مصراع وهو: (والسيف أهيبُ ما يُرى مسلولا ... ) ولا أعرف في الافتخار أحسن مما أنشده أبو تمام: (فقل لزهيرٍ إن شتمتَ سَراتنا ... فلسنا بشتّامِين للمتشتمِ) (ولكننا نأبى الظلامَ ونعتصي ... بكلِّ رقيقِِ الشفرتين مصمصَم) (وتجهلُ أيدينا ويَحلمُ رأينا ... ونَشتمُ بالأفعالِ لا بالتكلّم) هذا أحسن من كل شئ في الافتخار، وقريب من هذا المعنى قول

لقيط بن زرارة: (أغركمُ أني بأحسنِ شيمةٍ ... بصيرٌ وأني بالفواحشِ أخرقُ) (وأنك قد ساببتنا فغلبتَنا ... هنيئاً مريئاً أنت بالفحشِ أحذقُ) أخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الجوهري عن عمر بن شبة قال يروي أنه قيل للفرزدق أي بيت قالته الشعراء أفخر؟ قال قول امرئ القيس: (فلو أنّ ما أسعى لأدنى مَعيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ) (ولكنني أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ ... وقد يُدرك المجدَ المؤثّلَ أمثالي) قيل له فأيها أحكم قال قوله: (الله أنجحُ ما طلبتَ به ... والبرُ خيرُ حَقيبةِ الرّجُلِ) قال فأيها أرق قال قوله: (وما ذَرّفت عيناكِ إلّا لتضربي ... بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتّل) قال فأيها أحسن قال قوله: (كأن قلوبَ الطيرِ رَطباً ويابساً ... لدى وَكرِها العنابُ والحشفُ البالي) وقالوا أفخر بيت قالته العرب قول كعب بن مالك الأنصاري: (وببئرِ بدرٍ إذ يردُ وجوهَكم ... جبريلُ تحتَ لوائنا محمد) ومن يبلغ الافتخار قول الجحاف: (صبرت سليمٌ للطعانِ وعامرٌ ... وإذا جَزعنا لم نجد من يصبرُ) (نحن الذين إذا عُلوا لم يَضجروا ... يومَ اللقاَ وإذا عَلوا لم يفخروا) وقال ضمرة بن ضمرة: (أذيقُ الصديقَ رأفتي وإحاطتي ... وقد يشتكي مني العداةُ الاباعدُ) (وذى تِرةٍ أوجعتهُ وسبقته ... فقصر عني سعيهُ وهو جاهدُ) (قصر وهو جاهد) بليغ جداً، ومنه أخذ المحدثون.

ومن جيد الافتخار بالجود وطيب النفس به قول بعض العرب: (تُسائلني هوازنُ أينَ مالي ... ومالي غير ما أنفقتُ مالُ) (فقلتُ لها هوازن إنَّ مالي ... أضرَ به الملماتُ الثَّقالُ) (أضربه نَعَم ونَعَم قديماً ... على ما كان من مالٍ وبالُ) المعنى حسن جداً، وفي الألفاظ تكرير شائن. أبلغ ما افتخر به في كثرة العدد قول الأول: (ما تطلعُ الشمسُ إلاّ عند أولنا ... ولا تغيبُ إلاّ عند أخرانا) وقول أبي جندب: (فلو نُزاد ألفَ ألفٍ لم نزد ... ولو فَقدنا مثلهم لم نفتقد) وهو من أبيات أخبرنا بها أبو أحمد قال أخبرنا أبو بكر بن دريد عن عمه عن أبيه عن ابن الكلبي، وأخبرنا به غيره فأوردنا أجود اللفظين وأصح الروايتين قال بلغني أن عبد الرحمن بن حسان كان يخبر عن أبيه قال خرجت حاجاً في الجاهلية فإذا أنا بشاب حسن العينين وضيء وبشيخ يسابه قال فسبه الفتى ثم إن الشيخ عيره بأن أمه من بني الأصفر فخزي الفتى فبلغ ذلك أمه فأقبلت ترقل إرقال الناقة الصعبة حتى أخذت بمنكبي الشيخ وهزته وقالت: (سائل وخَلل في إياد بنِ معدَ ... هل كانت الرومُ عبيداً لاحدْ) (همُ الربيعُ والسَّنام المعتمدْ ... والذُروة العلياءُ والركن الأشدْ) (وأنت حرميٌ لئيمُ المستندْ ... عُصارة اللؤمِ التي فيها تلدْ) فسألت عن الشيخ فقيل المغيرة بن عبد الله المخزومي وسألت عن الشاب فقيل ورقة بن نوفل، ثم مررت من فوري حتى آتي منى فإذا رجل على جمل عظيم لايمر بقوم إلاهجاهم لأنه مر بالأوس والخزرج فهامهم لا هجوته فنظر إلى قباب بيض في شرقي الجبل فقال لمن هذه فقيل لقرد بن تميم من هذيل فأمها وقال: (هل ههنا من ولد قرد من أحدْ ... أعطيهم من رجزي اليومَ وغدْ)

فخرج أبو جندب وهو يقول: (نِعمَ غلامٌ منهمُ جَلد عَتَد ... إني وربّ الراقصاتِ في السند) (ينفرن من وقع العصني والقدَد ... إني لذو اليومِ وذو أمسِ وغَدْ) (وابن هُذيل وابن أشياخِ معدّ ... ثم لِفَهَمٍ ولفهمٍ العدد) (فلو نزادُ ألفَ ألف لم نزد ... ولو فقدنا مثلهم لم نفتقدْ) (فارجع إلى مِعزاك تيساً ذا جِيَدْ ... أوفىِ على رأس يقاع فصخد) قال فحلفت إني لا أهجو أحداً ما دام أبو جندب. حياً والعرب تفتخر بكثرة العدد وتذم قلته قال الأخطل (الأكثرين حصي والأطيبين ثري) واحتج السموأل لقلة العدد فأحسن: (تُعيرنُا أنا قليلٌ عَديدنا ... فقلت لها إن الكرامَ قليلُ) (وما قلَ من كانت بقاياه مِثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهولُ) (وما ضَرَّنا أنا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ) وهذه قصيدة في الافتخار ليس لها نظير وإنما تركت إيرادها كلها لشهرتها. ومن أجود ما افتخر به محدث قول أبي تمام: (لنا جوهرٌ لو خالطَ الأرض أصبحت ... وبطنانها منه وظهرانها تبرُ) (مقاماتنا وقفٌ على الحِلمِ والحِجا ... وأمردُنا كهلٌ وأشيُبنا حَبرُ) (إذا زينةُ الدنيا من المالِ أعرضتْ ... فأزينُ منها عندنا الحمدُ والشكرُ) (ليفخرَ بجودٍ من أرادَ فإنه ... عوانٌ لهذا الخلقِ وهو لنا بِكر) (جرى حاتمٌ في حلبةِ منه لو جرى ... بها القطرُ يوماً قيلَ أيهما القطر) (فتى ذخرَ الدنيا أناسٌ ولم يزل ... لها باّذلاً فانظر لمن يقي الذخر) (ومنها: كماةٌ إذا طل الكماةُ لدى الوغى ... وأرماحهم حُمرٌ وألوانهم صفر) (بخيلٍ لزيد الخيل فيها فوارسٌ ... إذا نطقوا في مسهبٍ خرسَ الدهرُ) (طوى بطنها الإسادُ حتى لوانه ... بدا لك ما شكَّكتَ في أنه ظَهر)

(صبيته ما أن تحدثُ نفسها ... بما خلفها ما دامَ قُدّامَها وترُ) (فإن ذمتِ الأعداءُ سوءَ صباحها ... فليس يؤدي شكرَها الذئُب والنسرُ) (مساعٍ يضل الشِّعر في طُرقِ وصفها ... فما يهتدي إلاّ لأصغرِها الشعرُ) (وقوله: مضوا وكأنّ المكرِماتِ لديهم ... لكثرةِ ما أوصَوا بهنَّ شرائعُ) (بهاليلُ لو عاينتَ فَيضَ أكفهم ... لأيقنتَ أن الرزقَ في الأرضِ واسعُ) (وأيُّ يدٍ في المجدِ مُدت فلم تكن ... لها راحةٌ من جدوهم وأصابع) (أصارت لهم أرضَ العدوَ قطائعا ... نفوسٌ لحدَ المرهفاتِ قطائع) (إذا ما أغاروا فاحتووا مالَ معشرٍ ... أغارت عليهم فاحتوته الصنائعُ) (فيعطي الذي يعطيهم الجود والقنا ... أكفّ لإرث المكرماتِ موانعُ) (يمدون بالبيض القواطع أيديا ... وهنَ سواء والسيوف القواطعُ) وقلما تجد في الافتخار شعراً يداني هاتين القطعتين. وقلت: (خليليَّ باعُ الدهرِ بالعرُفِ ضيقٌ ... على كلِّ ذي عقل وبالنكرِ واسعُ) (وواقع نعماه عن الحرَ طائرٌ ... وطائر بلواه على الحرِّ واقعُ) (متى ما يُصبني بالقوارع طرفهُ ... أصابته هماتي وهُنَ قوارع) (وهماتُ مثلي للخطوب جوالبٌ ... كما أنهنَ للخطوب دوافع) (تريك اشتعالاً بالنجوم طوالعاً ... وهُنَ إذا لاحت نجومٌ طوالع) (وتزري على البيضِ الطوالع أن مضتْ ... وهنّ على العّلاتِ بيضٌ قواطعُ) (تخافنيَ الأيامُ فهي تخيفني ... وللنكسِ تهديدٌ إذا ريعَ رائعُ) (ولو كنّ في عيني لما قذيتْ بها ... فكيف ترى أني إذا صلنَ خاشع) (أتطلعٌ منها في دياري طوالعٌ ... بسوءٍ وهماتي عليها طلائع) (يقارعُ مني باسلاً ذا حفيظة ... يقومُ إزاء النصرِ حينَ يُقارع) (فتى بأتمِّ الفضلِ ليس بقانعٍ ... ولكن بأدنى بُلغة العيشِ قانع) (فما صحبته للأنام صنيعةٌ ... ويصحبهم منه وفيه صنائعُ)

(ولم يتواضع في مصاداةِ منةٍ ... وكلّ مصادي منةٍ متواضعُ) (له شرفٌ في آلِ ساسانَ باذخٌ ... وذكرٌ بأطرافِ البسيطةِ شائعُ) إلى أن قلت: (تؤدبُهُ الأيامُ حين تضرهُ ... وكم ضَررَ للمرءِ فيه منافعُ) (وما ضاعَ مثلي حيثُ حلت ركابهُ ... بلى حيثُ ضاعَ المجدُ مثلي ضائعُ) (ومثلي مخضوعٌ له غيرَ أنه ... إذا كان مجهولَ الفضائلِ خاضع) (ومثليَ متبوعٌ على كلّ حالةٍ ... فإن ينقلبْ وجهُ الزمانِ فتابعُ) وقال ديك الجن يفتخر بكلب: (كلبٌ قبيلي وكلبٌ خيرُ من وَلدت ... حواءُ من عرب غُرٍ ومن عجمِ) (وعيرتنا وما إن طلَّ را؟ كل وحدُّك والدينُ لم يُرم) (غلاة موته والإشراكُ مكتهلٌ ... والدينُ أمردُ لم ييفع فيحتلم) (إن تعبسي لدمٍ منا هُريقَ بها ... فقد حقَّنا دمَ الإسلام فابتسمي) (أقعد وقم عالماً أن لو تطوقها ... بغير أحمدَ لم تقعد ولم تقم) (أقام حصنٌ عليهم حصن مكرمةٍ ... يرتج طوداه من نُعمى ومن نِقَم) (إذا غدت خيلهم تستنجد المطي؟ ... لنجدة عُدّتِ الآجال في الحُوم) (كم عرَضُوا أيدياً بيضاً مُكَرمةً ... للعدم من طولِ ما انتاشوا من العدم) (أسدٌ يرون الردَى المفضي بأنفسهم ... إلى الثرى عمراً يُفضي إلى الهرمِ) وقال الحماني: (ونحنُ سَننا الصبرَ في كلِّ مَوطن ... وحطّتْ مساعينا على حطط الفخر) وقال: (بنا يستشارُ العزُّ عن مستقرِّه ... وعن سخِطنا تدنى ألوفُ المتالفِ) وقال ابن المعتز: (فقري غنى وشبابي كهلُ ... وكلُ فضلٍ لي عليه فضلُ) (أشكي لجودي حين يشكي البخلُ)

وقرأت لقابوس بن وشمكير الختلي رسالة في الافتخار والعتاب ليس لها نظير في علوها وإفراطها وهي: الإنسان خلق ألوفا وطبع عطوفا فما بال الاصبهذ لا يحيل عوده ولا يرجى عوده ولا يحال لفيئه مخيلة ولا تحال عن تنكره محلية أمن صخر تدمر قلبه فليس يلينه العتاب أم من الحديد جانبه فلا يميله الاعتاب أخلق من صفاقة الدهر حجر نبوه فقد نبا عليه غرب كل حجاج أو من قساوته إباء مزاج إبائه فقد أبى على كل علاج ما هذا الاختيار الذي يعد الوهم فهما وهذا التمييز الذي يحسب الجهل علما وهذا الرأي الذي يزين له قبح العقوق ويمقت إليه رعاية الحقوق وما هذا الإعراض الذي صار ضربة لازب والنسيان الذي أنساه كل واجب أين الطبع الذي هو للصدور صدود وللتألف ألوف ودود وأين الخلق الذي هو في وجه الدنيا البشر وفي مبسمها الثنايا الغر وأين الحياء الذي يجلى به الكرم وتحلى بمحاسنه الشيم كيف يزهد فيمن ملك عنان الدهر فهو طوع قيادة وتبع مراده ينتظر أمره ليمتثل ويرتقب نهيه ليعتزل وكيف يهجر من تضاءلت الأرض تحت قدمه فصارت له في الانقياد كبعض خدمه إذا رأت منه هشاشة أعشبت وإن أحست منه بجفوة أجدبت وكيف يستغنى عمن خيله العزمات والأوهام وأنصاره الليالي والأيام من هرب منه أدركه بمكائدها ومن طلبه وجده في مراصدها وكيف يعرض عمن تعرض رفاهة العيش بإعراضه وتنقبض الأرزاق بانقباضه وأضاء نجم الاقبال إذا أقبل وأهل هلال المجد إذا تهلل وكيف يزهى على من تحقر في عينه الدنيا وترى تحته السماء العليا وقد ركب عنق الفلك واستوى على ذات الحبك فتبرجت له البروج وتكوكبت لعبادته الكواكب واستجارت بعزته المجرة وآثرت لمحاسنه أوضاح الثريا بل كيف يهون من لو شاء عقد الهواء وجسم الهباء وفصل تراكيب الأشياء وألف بين النار والماء وأخمد ضياء الشمس والقمر وكفاهما عناء السير

والسفر وسد مناخر الرياح الزعازع وأطبق أجفان البروق اللوامع وقطع ألسنة الرعود بسيف الوعيد ونظم صوب الغمام نظم الفريد ورفع عن الأرض سطوة الزلازل وقضى ما يراه على القضاء النازل وعرض الشيطان بمعرض الإنسان وكحل العيون بصور الغيلان وأنبت العشب على البحار وألبس الليل ضوء النهار أولم يعلم أن مهاجرة من هذه قدرته ضلال ومنابذة من هذه صورته خبال وأن من له هذه المعجزات يشتري رضاه بالنفس والحياة ومن يأتي بهذه الآيات يبتغي هواه بالصوم والصلاة ومن لم يتعلق منه بحبل كان بهيماً لا شية به ومن لم يأو منه إلى ظل ظليل ظل صريعاً لا عصمة له ولم لا يسترد عازب الرأي فيعلم أنه ما لم يعاود الصلة مأفون ويستعيد غائب الفكر فيفهم أنه إن أقام على الفرقة مغبون أظنه يقدر أن الاستغناء عني هو الغناء والغنى ولا يظن أن الالتواء علي هو البلاء والبلى ويخال أنه مكتفٍ بماله وعرضه ومتعزز بسمائه وأرضه ولا يشعر أني كل لبعض وطول في عرض وأن قوة الجناح بالقوادم دون الخوافي وعمل الرماح بالأسنة دون العوالي، ليس إلحاحي على سيدي مستعيداً وصاله ومستصلحاً بالالحاف خصاله وعدي عليه هذه العجائب لاستمالته من جانب إلى جانب لأني ممن يرغب في راغب عن وصلته أو ينزع إلى نازع عن خلته أو مؤثل حالاً عند من ينحت أثلته ومقبل بوده على من لا يجعله قبلته فإني لو علمت أن الأرض لا تسف تراب قدمي لما وضعت عليها جانباً وإن السماء لا تتوق إلى تقبيل هامتي لما رفعت إليها طرفاً ولكني أكره أن يعرى نحره من قلادة الحمد ويجنب جبينه إكليل المجد ويظل وجه الوفاء يقبضه على يده مسوداً وركن الإخاء بفته في عضده منهداً ولا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول وبأذن لطوالع معاليه بالأقول فإن فضل سيدي الخمود على الوقود والعدم على الوجود ونزل من شامخٍ إلى خفضٍ ومن حالق إلى دحض وجاهزاً بهجره وأصر على صرمه ومال إلى الملال ولم يصل نار الوصال حللت عنه معقود خنصري وشغل عن الشغل به

خاطري بل محوت ذكره من صفحة فؤادي واعتددت وده فيما سال به الوادي: (وفي الناس إن رثَّت حبالُك واصلٌ ... وفي الأرضِ عن دارِ القِلى مُتحوَّلُ) وفي بعض ألفاظ هذه الرسالة تكلف إلا أني أوردتها لعلو معانيها. وقال بعضهم: (ومن يَفتقر منا يَسلُ حُسامهُ ... ومن يَفتقر من سائرِ الناسَ يَسألُ) وقال ابن المعتز: (سألتكما باللهِ ما تُعلمانني ... ولا تكتما شيئاً فعندكما خُبري) (أأرفعُ نيرانَ القِرى لعْفاتها ... وأصبرُ يومَ الروعِ في ثغرةِ الثّغر) (واسألُ نيلاً لا يُجادُ بمثلهِ ... فيفتحهُ بِشري ويختُمه عُذري) (ويا ربَ يومٍ ما توارى نجومُهُ ... مددتُ إلى المظلومِ فيه يدَ النصر) وقال: (وقمت إلى الكوم الصفايا بمنصلي ... فصيرتُها مجداً لقومي وأحسابا) وأنشدنا أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر لعبد العزيز بن زرارة: (قد عشتُ في الدهرِ أطواراً على طُرُقٍ ... شتى فصادفتُ فيه اللينَ والقطعا) (لا يملأُ الأمرُ صدري قبلَ موقعهِ ... ولا يضيقُ به ذَرعي إذا وقعا) (كُلاًّ لبستُ فلا النعماءُ تُبطرني ... ولا تخشعتُ من لأوائها جَزعا) وسألني بعض أدباء البصرة فقال ما أدل بيت على عقل صاحبه وحزمه؟ فقلت قول الأقيبل القيني: (إذا لم أجد بُداً من الأمرِ خِلتني ... كأنَّ الذي يأبى علىَ يسيرُ) فقال ما عدوت ما في نفسي. ومثله قول أبي النشناش: (على أي شئ يصعبُ الأمر قد ترى ... بعينك أن لا بدَّ أنك راكبه)

وفي ألفاظ هذا البيت زيادة. وقلت في معناه: (علامَ تستصعبُ ... الأمرَ لا ترى منهُ بُدا) (بادر وخلَ الهوينا ... وجدَ كيما تجدا) (فلن تلاقيَ جداً ... حتى تلاقيَ كدّا) ومن بليغ الافتخار بذلاقة اللسان قول جرير: (وليس لسيفي في العظام بقيةٌ ... ولا السيفُ أشوى وقعةً من لسانيا) وهي من قول حسان (ويبلغ مالا يبلغُ السيفُ مِذودي) (وقلت ولي لسانٌ إذا أطلقتهُ عرضا ... سعى مساعيَ ضرغامٍ وثعبانِ) (وقد نمتني أمجادٌ حجا جحةٌ ... من تجل ساسانَ تزهو نجل ساسانِ) (همُ الكواكبُ في أطرافِ داجية ... أو القنان على أثباج أعنانِ) (قومٌ إذا ما أتوا بالسوءِ ما اعتذروا ... ولا يمنونَ إن منوا بإحسانِ) وقلت: (من يكن صائلاًَ بمثلِ لساني ... لم يضرهُ أن لم يَصُل بسنانِ) وأخبرنا أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال قلت لرجل من جذام وأكثر من وصف ملوك الحيرة: لو كان هؤلاء الأنصار لم ترد فقال لئن كان هؤلاء لقوم نصروا الدين لقد نصر أولئك الكرم ولئن كان هؤلاء خصوا بالاسلام لقد خص أولئك بلانعام ولئن حاز هؤلاء شرف اليوم وغد لقد سبق لأولئك شرف هو باق على الأبد ولو علا فعل هؤلاء على الهواء لجارت مكارم أولئك أعنان السماء ومن يقرن بالبلد الخراب اليباب بلداً تحل به السحاب في كل مغدى ومآب. ومن جيد الافتخار قول مبشر بن هذيل الشمخي: (ألم تعلمي يا عَمركِ الله أنني ... كريمٌ على حين الكرامُ قليلُ) (وإني لا أخزى إذا قيل مُملقٌ ... جوادٌ وأخزى أن يُقال بخيلُ) (فإن لم يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بإخصال الصالحاتِ وصول) (وإن أكُ قَصْداً في الرجالِ فإنني) إذا حلَ أمرٌ سَاحتي لجليلُ)

(إذا كنتُ في قومٍ طوالٍ فضلتهم ... بعارفةٍ حتى يُقالَ طويل) (ولا خيرَ في طولِ الجسومِ وعَرضها ... إذا لم تَزِنْ طولَ الجسومِ عقولُ) (ولم أرَ كالمعروفِ أمَّا مذاقهُ ... فحلوٌ وأما وجههُ فجميلُ) وقلت: (غنايَ غنى نفسي ومالي قناعتي ... وكنزيَ آدابي وزيي عفافيا) (وفخريَ أسلامي وذخري أمانتي ... وجنديَ أشعاري وسيفي لسانيا) (ولي عزماتٌ كالسيوفِ قواضِبا ... إذا عَنَ خطبٌ والحتوفُ قواضيا) (وتغشى صدورَ النائباتِ صدورُها ... كما غشيتْ سُمرُ العوالي التراقيا) (ألا لا يذمُّ الدهرَ من كان عاجزاً ... ولا يعذلُ الاقدارَ من كان دانيا) (فمن لم تبلغهُ المعاليَ نفسُهُ ... فغير جديرٍ أن ينالَ المعاليا) ولا أعرف في افتخار الجاهلية أجود ولا أبلغ من قول عمرو بن كلثوم: (ونحنُ العاصمون إذا أطعنا ... ونحن العارمون إذا عصينا) (ونحنُ التاركونَ لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا) وقد أحسن إبراهيم بن العباس في قوله: (أما تَريَني أمامَ القوم متبعاً ... فقد أرى من وراء الخيل أتبعُ) (يوما أنيخُ فلا أدعى على نشبٍ ... واستبيحُ فلا أبقى ولا أدعُ) (لا تسألي القومَ عن حيٍّ صحبتهمُ ... ماذا صنعت وماذا أهله صنعوا) وقال: (أميلُ مع الذمامِ على ابن عمي ... وأقضي للصديقِ على الشقيقِِ) (أفرقُ بين معروفي وبيني ... وأجمع بين مالي والحقوق) (فأما تلقني حُراً مطاعا ... فإنك واجدي عبدَ الصديقِ) وهذا من قول الأول:

الفصل الثالث من الباب الأول في التهاني

(وإني لعبدُ الضيفِ ما دامَ ثاويا ... وما فيَّ إلاَّ ذاك من شيمة العبدِ) وقال الآخر (وعبد للصحابة غير عبد ... ) وسمعت بعض الشيوخ يقول أبلغ شئ قيل في الافتخار قول الآخر: (أبَني حنيفة أحكموا سُفهاءكم ... إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا) قوله (أخاف عليكم أن أغضب ... ) بليغ في الوعيد وفي دلائل القدرة على ما يسوؤهم، قال أبو هلال هو لجرير فهدد فيه بالهجاء ولو كان لمن يتمكن من القتل والاسر والنكاية لكان أفخر بيت قيل. وأخبرنا أبو أحمد عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه قال ذكر أعرابي قوما فقال: ما نالوا بأطراف أناملهم شيئاً إلا وطئناه بأخامص أقدامنا وان أقصى مناهم لأدنى فعالنا. وقال أبو دلف للعجلي: (وكن على الدهرِ فارساً بطلا ... فإنما الدهرُ فارسٌ بطلٌ) (لابُدَ للخيلِ أن تحولَ بنا ... والخيلُ أرحامنا التي نصلُ) (فمرةً باللّجين ننقلها ... ومرةً بالدماء تنتقلُ) (حتى ترى الموت تحتَ رايتنا ... تُطفأ نيرانُها وتشتعلُ) 3 - (الفصل الثالث من الباب الأول في التهاني) لم تكن من الأقسام التي كانت العرب تصوغ فيها شعراً وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبب والمراثي حتى زاد النابغة فيها قسماً سادساً وهو الاعتذار فأحسن فيه ولا أعرف أحداً من المحدثين بلغ مبلغه فيه إلا البحتري فانه قد أجاد القول في صنوفه وأحسن وأبلغ ولم يذر لأحد مزيداً حتى قال بعضهم هو في هذا النوع النابغة الثاني. ولا عرف للعرب

شيئاً ينسب إلى التهاني ومهما جاء عنهم من شكلها شئ فهو عند العلماء معدود في جملة المديح مثل قول أبي الصلت الثقفي يذكر سيف بن ذي يزن وإتيانه بالفرس ومحاربته بهم الحبشة حتى أزالهم عن أرضه وهو قوله بعد ذكر الفرس: (فاشرب هنيئاً عليك التاجُ مرتفقاً ... في راس غمدان دار منك محلولا) (تلك المكارم لاقعبان من لبن ... شيبت بماء فعادا بعد أبوالا) أخذ بعض شعراء الجبل فقال في بعض رؤسائه (فاشرب هنيئاً عليك تاج مرتفعاً ... في شاذ مهرودع غمدانَ لليمنِ) (فأنت أولى بتاج الملكِ تقصدُهُ ... من هوزة بن عليّ وابن ذي يزن) ولست أختار من التهاني بالأعياد على أبيات أشجع شيئاً: (لازلت مبشر أعياداً وتطويها ... تمضي بها لك أيام وتثنيها) (مستقبلاً غرة الدنيا وبهجتَها ... أيامها لك نظمٌ في لياليها) (العيد والعيد والأيام بينهما ... موصولةٌ لك لا تفنى وتفُنيها) (ولا تقضتْ بك الدنيا ولا برحت ... تطوي بك الدهر أياماً وتطويها) (لينهك النصرُ والأيامُ مقبلةٌ ... إليك بالفتحِ معقودٌ نواصيها) (أمست هرقلةُ تدمي من جوانبها ... وناصرُ الملكِ والإسلامِ مُدميها) (إن الخليفةَ سيفٌ لا يجردُهُ ... إلا الذي يملك الدنيا وما فيها) (ما قارعَ الدين والدنيا عدوهما ... بمثل هارون راعيه وراعيها) وقلت: (ما الليالي والأيامِ منقبةٌ ... غراءُ تسمو بها إلا مَساعيكا) (ربي يبقِّيك ما تهوَى على فرحٍ ... كما يلقيك ما تهوى ويعليكا ويعليكا) (لألف فصل كهذا الفصل تبلغه ... باليمنِ والخيرِ تبليهِ وينميكا) (ولا تزالُ لك الأيامُ موطأة ... تمضي قضاياكَ منها في أمانيكا)

ووجدت بخط أبي أحمد من أجود ماقيل في التهنئة بالنوروز قول هارون بن علي لعلي بن محمد الحواري: (علي ياذا الجودِ والمعالي ... يا معدنَ الإنعام والإفضالِ) (يا مَن به نيطت عُرى الآمال ... فحكمَّ الآمالَ في الاموالِ) (جودٌ بلا منٍّ ولا اعتلالِ ... مبتدأ يُغنى عن السؤال) (قابله النوروزُ بالإقبالِ ... ونِعَمٌ تأتي على اتصالِ) (محروسةً مأمونةُ الزوالِ ... شبهك في تصرفِ الأحوالِ) (فليلهُ أزهرُ ذو اشتعالِ ... كأنه وجهك في الجمال) (وصبحهُ بالمالِ ذو انهمال ... يحكي ندَى كفّك ذا الأسيالِ) (جرى بماءٍ وجرت بمالَ ... ) ومنها: (قولٌ غدا يوفي على الأقوالِ ... كمثل ما توفي عل الرجال) (فاشتبهَ ألاجوادُ بالبُخَّالِ ... وعدت مسروراً رَضِيَّ البالِ) (في نعمةٍ ضافية الاذيالِ ... بعزِّ ذي العزةِ والجلال) وأخبرني بعض أصحابنا قال كتب أحمد بن أبي طاهر إلى إسماعيل بن بلبل: أنا إن كنت في عدد الحشم والأتباع الذين يخرجون من تفضيل الخاصة ويرتفعون عن الدخول في جملة العامة فإني في وسط القلادة منهم وبمكان من نظام نعمتك التي تجمعهم وهذا يوم من أيام الملوك السادة الذين لم تزل تجري لهم ألسنة على عبيدهم وأصحابهم وقوادهم وكتابهم بالاهداء اليهم وقبول ما أهوه منهم ليعرف مكان التشريف في مرتبته من مكان المنحط عن منزلته وموضع النعم من المنعم عليه في التقدم بقبول ما يهديه إليه وكل يهدي على قدر بضاعته ورتبته ومقداره في نفسه وهمته وعلى حسب موضعه من سيده ومالكه وما يحويه ملكه وتبلغه مقدرته وكرهت أن أمسك عن البر فأخرج عن جملة

العبيد والحشم وأهدي ما يقصر عن الواجب اللازم والحق المفترض فجعلت هبي مع الثقة بعذرك والاعتماد على تفضيلك وصفحك أبياتاً اقتصرت فيها على الدعاء لك والثناء عليك أسأل الله تعالى أن يقرنه بالإجابة فيك كما قرن مدحي لك بالتصديق فقلت: (أبا الصقرِ لا زالتِ من اللَّه نِعمةٌ ... تجدِّدُها الأيام عندك والدهرُ) (ولا زالتِ الأعيادُ تَمْضِي وتَنقضي ... وتبقى لنا أيامُك الغُررُ الزُّهر) (فإنَّك للدنيا جمالٌ وزينةٌ ... وإنَّك للأحرارِ ذخرٌ هو الذخر) (رأيت الهدايا كلها دونَ قدرهِ ... وليس لشئ عند مقداره قدر) (فلا فضلَ إلاَّ وهو من فضل جُوده ... ولا بِرَّ إلاَّ دونهُ ذلك البرُ) (فأهديتُ من حَلْي المديحَ جَواهراً ... منصلةً يزهى بها النظمُ والنثرُ) (مدائح تبقَى بعد ما نفذ الدهر ... وتبهى بها الأيامُ ما اتصل العمرُ) شكرتُ لإسماعيل حُسنَ بلائهِ ... وأفضل ما تُجزى به النعمُ الشكرُ) أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن أحمد بن أبي طاهر عن ابن هفان قال دخلت على سعيد بن حميد في يوم نيروز وهو مستعد يكتب إلى إخوانه فقرأت عليه كتابك وشعرك إلى أبي الصقر يعني الكتاب والشعر الذي تقدم فكتب وأنا حاضر إلى الحسن بن مخلد: أيها السيد النجيب عشت أطولَ الأعمار في زيادة من النعم موصولة بقرائنها من الشكر لا تقضي حق نعمة حتى تتجدد لك أخرى ولا يمر بك يوم إلا كان موفياً على ما قبله مقصراً عما بعده قد تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة في هذا اليوم والتمست التأسي بهم في الإهداء إليك وإن قصرت الحال عن الواجب لك فرأيتني أن أهديت نفسي فهي لك لاحظ فيها لغيرك ورميت بطرفي إلى كرائم مالي فوجدتها منك فكنت ان أهديت شيئاً كمهدي مالك إليك ولم يزد على أن نبه على نعمتك واقتضى نفسه بشكرك وفرغت إلى مودتي وشكري فوجدتهما لك خالصتين قديمتين غير مستجدتين وإني إن جعلهتما هديتي لم أجدد لهذا اليوم براً ولا لطفاً ولم أقس منزلة شكري بمنزلةٍ

من نعمتك إلا كان الشكر مقصراً عن الحق والنعمة زائدة على ما لم تبلغه الطاقة ولم أسلك سبيلا ألتمس بها ما أعتد به في مجازاتك إلا وجدت فضلك قد سبقني إليها فقدم لك الحق وأحرز لك السبق فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك تفي ما يجب لك والعذر في العجز عن برك براً أتوصل به إليك: (إنْ أهدِ نفسي فهو مالكها ... ولهُ أصونُ كرائمَ الذُخرِ) (أو أهدِ مالاً فهو واهبهُ ... وأنا الحقيقُ عليه بالشكرِ) (أو أهدِ شُكري فهو مُرتهنٌ ... بجميلِ فعلك آخرَ الدهرِ) (والشمسُ تَستغني إذا طلعت ... أن تستضئ بسة البدرِ) ثم قرأه علي فقلت أبا عثمان الساعة قرأت عليك لابن أبي طاهر هذه المعاني بأعيانها قال والساعة عملتها وليس بيننا حشمة. ولا أعرف لهاتين الرسالتين في هذا الباب نظيراً في رقة معانيها وحسن تخريجها، ورسالة سعيد بن حميد أكثرهما معاني. وأول من افتتح المكاتبة في التهاني بالنوروز والمهرجان أحمد بن يوسف أهدى إلى المأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه وكتب معها هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد السادة وقد قلت: (على العبد حقٌ فهو لا شكَ فاعُلْه ... وإن عَظمَ المولى وجلت فضائِلُهْ) (ألم ترنا نُهدي إلى اللهِ مالهُ ... وإن كان عنهُ ذا غِنىً فهو قابِلُهْ) (ولو كان يُهدي للجليل بقدرهِ ... لقصر عسل البحر عنك وناهلُهْ) (ولكننا نُهدي إلى من نجلهُ ... وإن لم يكن في وُسعنا ما يُشاكُلهْ) فأخذ سعيد بن حميد هذه المعاني وكتب إلى ابن صالح بن يزداد: النفس لك والمال منك والرجاء موقوف عليك والأمر مصروف إليك فما عسانا أن نهدي لك في هذا اليوم وهو يوم قد شملت فيه العادة للأتباع الأولياء بإهدائهم إلى السادة العظماء وكرهنا أن تحليه من سننه فنكون من المقصرين أو ندعي أن

في وسعنا ما يفي بحقك علينا فنكون من الكاذبين فاقتصرنا على هدية تقضي بعض الحق وتقوم عندك مقام أجمل البر وهي الثناء الجميل والدعاء الحسن فقلت: لا زلت أيها السيد الكريم دائم السرور والعطية في أتم العافية وأعلى منازل الكرامة تمر بك الأيام المفرحة والأعياد الصالحة فتخلقها وأنت جديد. فأول كلامه مأخوذ من قول المعلى بن أيوب للمعتصم: النفس لأمير المؤمنين والمال منه وليس فيما أوجبه الحق نقيصة ولا على أحد فيه غضاضة، وباقيه من كلام أحمد بن يوسف، والدعاء الذي في آخره لعلي بن عبيدة الريحاني لم يزد سعيد بن حميد فيه شيئاً. وأحسن ما سمعت من الدعاء قول علي بن هارون بن يحيى المنجم: أمتع الله الأمير بما خوله واستقبل به من العمر اسره وأطوله وملأه من العز أمده وأكمله وألبسه من الإنعام أسبغه وأجزله ومهد له من العيش أرغده وأفضله وجمع له من الخير آخره وأوله. وللصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد فصول في التهاني قليلة النظير منها ما كتب يهنئ بالوزارة: أنا أهنئ أطال الله بقاء سيدي الوزارة بإلقائها إلى فضله مقادتها وبلوغها في ظله ارادتها وانحيازها إلى ذراه واضحة المجد والفخر وتوشحها من كفايته بغرة سائلة على وجه الدهر واشكر له حسن أثره عليها وعطفه عنان الفكر إليها حتى قرت لديه قرارها وأثقبت بيديه نهارها بعد أن هفا قلبها إشفاقاً من استشراف أيادي النقص لها وحرج صدرها من تحدث احلاس الجهل بها ولا غرو فهي وليدة ذراه قد آلت لا تخطت خطته وعاهدت لا برحت ساحته فالحمد لله الذي أقر عين الفضل ووطأ مهاد المجد وترك الحساد يتعثرون في ذيول الخيبة ويتسقطون في فضول الحسرة حمداً يديم أيام مولانا ويطيل بقاءه ويحرس عزه وينصر لواءه فقد شرح صدور المجالس وشد ظهور المحامد بتفويض الصدر إلى وليمة بحقين قديم وحديث وبفضلين مكتسب وموروث.

وكتب: الأستاذ الربيع الذي يتصل مطره من حيث يؤمن ضرره ويدوم زهره من حيث يتعجل ثمره لا زالت الأيام مسعودة بقرعها إلى إنفاذه وتقديره والأزمان محسودة بانحيازها إلى إمضائه وتدبيره فما اكتسى الدهر حلة أبهى من حصول عنانه في يديه ومثوله من جملة العبيد لديه لا زال آمراً ناهياً سامياً عالياً تتهنأ الأعياد بمصادفة سلطانه وتستفيد المحاسن من رياض إحسانه. وكتب: الأستاذ عيد الزمان وربيع الأيام وهذا الفضل الجامع لأحكام الفضل معتز إليه معتز بما لديه فغيثه متشبه بكفه واعتداله مضاهٍ لخلقه وزهره موازٍ لنشره وان تسعد به سعادات لا يبلغ حدها ولا يحصر عدها وهو أطال الله بقاءه يحظر المهاداة بما يحضر ما خلا الكتب التي لا يترفع عنها كبير ولا يمتنع منها خطير لا زال جنابه موروداً بالعلم ومحتملاً عنه بالغنم. ومثله ما كتب: قد أقبل النوروز إلى الأستاذ ناشراً حلله التي استعارها من شيمته ومبدياً حليه التي أخذها من سجيته ومستصحباً من أنواره ما اكتساه من محاسن أيامه ومن أمطاره ما اقتبسه من جوده وإنعامه مؤكداً الوعد بطول بقائه حتى يتحلى العمر ويستغرق الدهر ويستكمل من الرتب أعلاها ويحل من المنازل أسماها ويرى السادة الفتيان قد اقتفروا سعيه واقتفوا هديه وأسعده سعادة تستوفي معها الهمة وما ترتقي إليه والأمل وما يشرف عليه. وكتب: أما بعد تهناء سيدي الموهبة التي ساقها إليه ومد رواقها عليه إذا كانت من عقائل المواهب مسفرة عن خصائص المراتب وكيف لا تكون كذلك وقد صدرت عن مالك الأرض وولي البسط والقبض ومصرف الثقلين ومدبر الخافقين أدام الله سلطانه وأيد أعوانه مكنوفة بكرم رأيه وشرف اختصاصه واجتبائه وخطبتها عناية مولانا الأمير أدام الله أيامه ونصر أعلامه وحلت من سيدي محل الإيجاب والاستيجاب والاستحقاق دون الاتفاق فعرفه الله ميامن أعزر شريعة بأشرف ذريعة وأبرع فضيلة حصلها بأرفع وسيلة.

وكتب في فصل له يهنئ فيه عضد الدولة وقد ولد له ابنان توأمان: وصل كتاب الأمير بالبشرى التي أبت النعمة بها أن تقع مفردة وامتنعت العارفة فيها أن تسنح موحدة حتى تيسرت منحتان في موطن وانتظمت موهبتان في قرن وطلع من النجيبين أبي القاسم وأبي كالنجار أدام الله عزهما طالعاً ملكٍ ونجماً سعدٍ وشهابا عزٍ وكوكبا مجدٍ فتأهلت بهما رباع المحاسن ووطئت لهما أكناف المكارم واستشرفت إليهما صدور الأسرة والمنابر، وفهمته وشكرت الله تعالى شكر من نادى الآمال فأجابته مكبة ودعا الأماني فأجابته مصحبة وحمدته حمداً مكافئاً جسيم ما أتاح وعظيم ما أفاد واكتنفني من السرور ما فسح مناهج الغبطة وسهل موارد وسعت ما ورد اتساعه شرحت صدور الأولياء بمسارها وأزعجت قلوب الأعداء عن مقارها وسألت الله اتمام ما أدناه من الأميرين السيدين من سعادة لا يهتدي إليها الاختيار علواً ولا ترتقي إليها الأفكار سمواً وسلطان تضيق البحار عن اتساعه وتنخفض الأفلاك عن ارتفاعه وتبليغهما أفضل ما تقسمه السعود وتعلو به الجدود حتى يستغرقا مع السابقين أخويهما مساعي الفضل ويشيدا قواعد الفخر ويرحما صروف الدهر ويغبطا أطراف الأرض وهو تعالى قريب مجيب. وله تهنئة بتجدد رتبة: وصل كتاب الأستاذ من الحضرة البهية يشير أن آنسها الله وحرسها بذكر ما لقاه كرم مولانا ورقاه إليه من مراتب تشريف لا تكمل القرائح لاقتراحها واستدعائها ولا تتسع الخواطر لالتماسها واقتضائها فحمدت الله ولي الحمد والشكر وأخذت بالحظ من قوة القلب وانشراح الصدر وسألته أن يطيل بقاء مولانا في العز الراهن والسلطان القاطن ويعرف الاستاذ بركة ما درعه من شرف لا مدخل مقيمه ولا تيحيف عميمه إنه فعال لما يريد. وكتب في تهنئة بالسلامة من الغرق: لولا أن الله تعالى عز اسمه حماني عن سماع المكروه إلا في ضمان المحبوب حتى تقدم نبأ التبشير ذكر السبب المحذور لما

وجدت في التماسك به بصيرة ولا من ترك التهالك ذخيرة إلا أن لطف الله وعطفه عجلا إلي خبر البشرى فانتفت الروعة قبل استقرارها وانتقلت الوحشة قبل استمرارها فتلقيت جميل صنع الله بالحمد لله رب العالمين أفضل ما قوبلت به النعم وشكرت الرغائب والقسم. وللبحتري تهنئة للمتوكل ببلوغ المعتز يقول فيها: (يا كالئ الإسلامِ في غَفلاتهِ ... ومقيمَ نَهجي حَجِّه وجهادهِ) (يهنيكَ في المعتزَّ بشرى بيَنت ... فينا فضيلةَ هديهِ ورشادهِ) (قد أدركَ الحلمَ الذي أبدى لنا ... عن حِلْمِهِ ووقارهِ وسَدَادِهِ) (ومباركٌ ميلادُ مْلكك مخبرٌ ... بقريبِ عهدٍ كان مِن ميلادِهِ) (تمت لنا النعماءُ فيك مُمتعا ... بعلوَ همّته وورى زناده) (وبقيتَ حتى تستضئ برأيه ... وترى الكهولَ الشيبَ من أولادِهِ) وقلت في تهنئة بمولود: (قد زادني عددُ الكرام كريمُ ... محضٌ صريحٌ في الكرامِ ضميمُ) (عالي المحلةِ لا يزالُ كأنه ... للعزِّ قرنٌ والسَّماكُ نديمُ) (فلأمره التتميم كيف تصرفت ... حالاته ولشأنِهِ التفخيمُ) (فأبشر فقد وافاك يومَ رُزقته ... حظٌ بتخليدِ السرور زعيمُ) (َفرْعٌ تكفَّلَ دهرُهُ بنمائه ... حتى يكرَ الدهرُ وهو أروم) (إن الهلالَ يصيرُ مدة كاملاً ... ويهد سدَّ الليلِ وهو بهيم) (وهو الوجيهُ إذا تبدَّى وجههُ ... وغداً إذا نزل العظيمُ عظيمُ) (وجهٌ كتنويرِ الرياضِ وتحته ... خلقٌ لمحسود الرياحِ وخيمُ) (فلأهله شرفٌ به متوطدٌ ... ولديهمُ شرفٌ أشمُ عميمُ) (فاقْرِرْ به عيناً فإنَّ خلالهُ تصفو وتسلسُ أو يقال نسيمُ)

(ولحده التصميمُ حين تلاحقت ... أقرانهُ ولشأوه التقديمُ) ومن أعجب ما جاء في التهنئة والتعزية قول عبد الملك بن صالح: أخبرنا أبو أحمد عن الصولي قال قيل للرشيد إن عبد الملك بن صالح يُعدُ كلامه فأنكر الرشيد ذلك وقال بل هو طبع فيه حتى جلس يوماً ودخل عبد الملك فقال للفضل قل له: ولد لأمير المؤمنين في هذه الليلة ابن ومات له ابن ففعل الفضل ذلك فدنا عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين سرك الله فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجعلها واحدة بواحدة ثواب الشاكر وأجر الصابر. فقال الرشيد: أهذا الذي زعموا أنه يصنع الكلام ما رأى الناس أطبع من عبد الملك في الفصاحة. وقلت في تهنئة بمولود: (فاستقبل الخيرَ في نجيب ... عما يَعيبُ الورى نزيهِ) (شمسُ نهار وبدرُ ليلٍ ... يَملك أبصارَ ناظريهِ) (يملأها بهجة إذا ما ... كشفَ عن وجهه الوجيهِ) (رزُقته كاملاً سوياً ... تكثر علات عائبيهِ) (جنىً لذيذُ المذاق حُلوٌ ... يقربُ من كفَ مجتنيهِ) (وعن قليلٍ يصيرُ شهما ... يشقى به جدِ كاشحيهِ) (ألا فعش في ضمانِ خيرٍ ... حتى ترى الشيبَ من بنيهِ) وقلت في تهنئة بإملاك: (تجلى لك الأملاكُ عما تحبه ... فإنك قد فصلتَ بالتبر جواهرا) (فصيرتهُ للدهرِ عِقداً مفصَّلا ... وطيرتهُ في الأفق نَشراً مُعطرا) (هو اليُمن لم يعدِمْك محبوبةً دنت ... ومكروهةً شطت وصعباً تيسرا) ومن عجائب المعاني تهنئة لأبي إسحاق الصابئ مشوبة بالعقد لرجل زوج أمه: قد جعلك الله وله الحمد من أهل التحصيل والرأي الأصيل وخلوص اليقين فكما أنك لا تتبع الشهوة في محظور فكذلك لا تطيع الأنفة في مباح تحظره ويأوي

إلينا من إيقاعك بين الوالدة نفس الله لها في مدتك وأحسن بالبقية منها امتاعك وبين فلان ما علمنا أنك فيه بين طاعة الديانة توخينها ومشقة فيها تجشمنها وانك قد جدعت أنف الغيرة لها وأضرعت خد الحمية فيها وأسخطت نفسك بارضائها وعصيت هواك لرأيها فنحن نعزيك على فائت مرادك ونسأل الله الخيرة لك وان يجعلها أبداً معك فيما شئت وأتيت وتجنبت وأنبت والسلام. قال الشيخ أبو هلال رحمه الله تعالى جدعت أنف الغيرة من قول رسول الله & وقد رأى علياً وفاطمة عليهما السلام في بيت فرد عليها الباب وقال: (جدعَ الحلالُ أنفَ الغيرة) . وهنأ بعضهم بخروج اللحية وهو أبو نصر بن هبة الله: الحمد لله الذي له عند خلقه في الأحوال التي يتصرفون فيها والطبقات التي ينتقلون بينها والمراتب التي يندرجون عليها لطائف من حكمه وفوائد من نعمه توافق مصالحهم وتطابق حوائجهم في تصاريف نشوهم الطفولية والإيفاع والشبيبة والاجتماع والبلوغ والاكتهال والانتهاء والكمال وجعل لكل واحد منهم في كل حد من الحدود وسنٍ من الأسنان قدراً من الأسر والقوة وصنفاً من اللون والصورة ومسافةً في السعي والهمة وغايةً في الطلب والبغية يكون به قوام عيشه وسداد أمره محطوطاً من الاضطراب بزيادة في بعض ذلك يعطاها قبل بلوغ أدواته منتهاها يناقص سائره وينافي نظائره فيفتح بالزيادة في الزوائد صورته ويظهر بالنقصان في الناقص آفته حتى إذا تعالى في المراتب أمد النهاية وتوافت إليه أقسامه في الكفاية كمل الله إحسانه إليه وأتم إنعامه عليه ولله المنة والفضل وبه القوة والحول، الحمد لله الذي كساك باللحية حلة الوقار ورداك بها رداء الأبرار وصانك عن ميسم الصبا ومطامع أهل الهوى ماجلك من الهيبة البهية وألبسك من لباس ذوي اللب والروية وألحقك في متصرفاتك بمن يستقل بنفسه ساعيا ويستغني عمن يصحبه حافظاً وجعلك بما جمل من صورتك وكمل من اداتك وآلتك قرناً لمن جاذبك وخصماً لمن نازعك ونفى عنك ذلة الاحتقار من أهل المراتب والأخطار تسوى معهم في المجالس الحافلة

وتجري مجراهم في المشاهد الجامعة مسموعاً قولك إذا قلت مصغي لك إذا نطقت آمناً من انصراف الأبصار عنك لقرب ولادك ونبو الاستماع من حديثك لقلة الثقة بسدادك وجارياً مجرى جلة على الحملة إلى أن تكشف مخابرك بالمحنة وتعطي المهابة من الذاعر العادي ومن السبع الضاري إذا اتفق لكما مقام يخلو فيه كل واحد منكما من رفد يمده وناصر يؤيده يملكه الاشفاق من صاحبه ويقطعه من مواليه إليه من ترك إبقائه في السطوة عليه ولو كان عاريا من هذه الكسوة الشريفة والحلية النفيسة لسبقت إليه بالازدراء الأعين وبالاستصغار القلوب والألسن وبالطمع أصناف الحيوان من البهيمة والإنسان ثم لا يحسن من نفسه قوة على الدفع عنها ولا من حريمه قدرة على ما يدهاه منها وتلك نعمة من الله حباك بمزيتها في جمال غشاك وكمال أتاك فليصدق بها اعترافك وشكرك وليحسن ثناؤك ونشرك قضاءً لحق الله عليك واستدراراً للمزيد في إحسانه إليك وكتب الصاحب تهنة بتزوج أم وتعزية بموت أب الأيام أطال الله بقاءك تجري على أنحاء مختلفة وشعب متفرقة وأحكامها تتفاوت بيننا بما يسوء ويسر وينفع ويضر وبلغني من نفوذ قضاء الله في شيخك رحمه الله تعالى ما أزعجني وأبهم طرق السلوة دوني وان كان من خلفك غير خارج عن رؤبة الأحياء ولا حاصل في زمرة الأموات والله يأسو كلمك ويسد ثلمك وقد فعل ذاك بأن أتاح الله لك بعد أبيك أباً لا يقصر عنه شفقة عليك وحنواً وإيثاراً لك وبراً وقد لعمري وفقت حين وصلت بحبلك حبله وأسكنت الكبيرة حرسها الله ظله لئلا تفقد من الماضي عفا الله عنه إلا شخصه فالحمد لله الذي أرشدك لما يعيد الشمل مجتمعا بعد فراقه والعدد موفوراً بعد انتقاصه حمداً يقضي لك بالمسرة ويحسم دونك مواد الوحشة ويلقيك ثواب ما قضيته من الحق وتحملته فيه من الأرق إنه فعال لما يريد وكتب تهنئة بقدوم قد جدد الله وله الحمد جمال الدنيا وضاعف بهاءها وزادها محاسن ترفل في حللها وتتبختر في حليها واكتنفها بميامن يمرع جنابها ويفتح بالخيرات أبوابها ما استأنف جل اسمه من النعمة الشاملة والمنة الكاملة في

بسم الله الرحمن الرحيم

ثقريب ركاب مولانا أطال الله بقاءه وكبت أعداءه وكب حساده حساده وزادهم رغماً بزيادته تعالى إياه نعما لا يرحل مقيمها ولا يتحيف عميمها ما اختلف العصران وتعاقب النيران واستقبل به في وفدته ما ينقاد له أقصب الاسار ويحتوي عليه أربعة غايات الاختيار بمنه وجوده بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً لا يبلغ نداه ولا ينفصل أخراه من أولاه حتى يستغرق نعمه ويستوفي فواضله وقسمه وأني ذلك وهي متطرفة إلى غير غاية وممدودة إلى غير نهاية لا يتخطى إلى شكر بعضها إلا بتجدد أمثاله من جملتها وترادف نظائره من جماعتها والحمد لله الذي أعطى كثيراً وقبل من الشكر قليلا وأوجب به مزيدا والصلاة على نبيه محمد وآله وسلم كثيراً وهو حسبنا ونعم الوكيل كتاب المبالغة في أوصاف خصال الإنسان المحمودة من الجود والشجاعة والعلم والحلم والحزم والعقل وما يجري مع ذلك وهو 3 - (الباب الثاني من كتاب ديوان المعاني) سمعت الشيوخ رحمهم الله تعالى يقولون أجود بيت قالته العرب قول مسلم بن الوليد.

(يجودُ بالنفس إن ضنَ الجوادُ بها ... والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ) وأول من جاء بهذا المعنى علقمة بن عبدة: (تجودُ بنفس لإيجادُ بمثلها ... فأنتَ بها يومَ اللقاءِ خصيبُ) وهذا مثل قول يزيد بن أبي يزيد الشيباني من جاد بنفسه عند اللقاء وبماله عند العطاء فقد جاد بنفسيه كلتيهما وقال أعرابي من جاد بماله فقد جاد بنفسه وإن لا يكن جاد بها فقد جاد بقوامها. وقال علي بن الجهم: (طلبت هديةً لك باحتيالي ... على ما كانَ من حسي ونسي) (فلما لم أجِدْ شيئاً نَفيساً ... يكونُ هديةً أهديتُ نفسي) وكتب العباس بن حرب إلى بعض الأمراء وأهدى إليه هديه: لا أعلم بمنزله توحشه من الأمير أعزه الله ولا توحشه مني أنا موقر من بلائه وفي الطاعة له كيده وفي المودة له كنفسه وفي الخاصة كأحد أهله وإنما ألطفه من ماله وقد بعثت إليه ما يصلح ليومه وأهديت له نفسي التي هي لبذلته وخدمته. قال أبو تمام: (ولو لم يكن في كفهِ غيرُ نفسهِ ... لجادَ بها فليتقِِ اللهَ سائِله) وقد أنكر خلف بن خليفة إهداء النفس: قدم أخ له من سفر فاقتضاه خلف الهدية فقال أهديت نفسي فقال خلف: (أتانا أخٌ من غَيبةٍ كان غابها ... وكنتُ إذا ما غابَ أنشدهُ الركبا) (فقلتُ لهُ هل جئتنا بهديةٍ ... فقال بنفسي قلتُ انحفْ) (هيَ النفسُ لا آسى عليها إذا نأت ... ولا أتمنى ما حييتُ لها قُربا) (إذا هي وافت من ثمانينَ قامةً ... فلا السهلَ لقاها الآلةُ ولا الرحبا)

وقالوا قول مروان بن أبي حفصة كأنه حين يعطي المال يغنمه (أجود من قول زهير ... ) (كأنك معطيه الذي أنت سائله) لأن للغنيمة حلاوة ليست للعطية. وأجود ما قيل عندي قول أبي العتاهية: (لو قيلَ للعباس يا ابن محمدٍ ... قل لا وأنت مخلدٌ ما قالها) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي حدثنا الحسن بن الحسين الأزدي حدثنا محمد ابن حبيب، وعن الصولي أيضاً عن إبراهيم، بن المعلى عن ابن حبيب قال قال أبو العتاهية يمدح العباس بن محمد: (لو قيلَ للعباس يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلدٌ ما قالها) (إن السماحةَ لم تزل معقولةً ... حتى حللتَ براحتيك عِقالها) (وإذا الملوكُ تسايرت في بلدةٍ ... كانوا كواكبها وكنتَ هلالَها) فلم يثبه فقال: (هززتُك هزَّة السيفِ المحلَّى ... فلما أن ضربتُ بك انثنيتُ) (فهبها مِدحةً ذهبت ضياعاً ... كذبتُ عليك فيها وافتريتُ) فلما قرأ العباس الأبيات غضب وقال والله لأجهدن في حتفه قال فمر أبو العتاهية بإسحاق ذفقال له إسحاق بن العباس أنشدني شيئاً من شعرك فأنشده: (ألا أيها الطالبُ المستغيثُ ... بمن لا يفيدُ ولا يَرفدُ) (ألا تسأل الله من فضله ... فإن عطاياه لا تنفد) (إذا جئت أفضلهم للسؤال ... ردَ وأحشاؤه تُرعَد) (كأنك من خشيةٍ للسؤالِ ... في عينه الحيةُ الأسودُ)

(ففرَ إلى اللهِ من لؤمهم ... فأبى أرى الناسَ قد أصلدوا) (وإني أرى الناسَ قد أبرقوا ... بلؤمِ الفعالِ وقد أرعدوا) ثم مضى فقيل لإسحاق ما هذا الشعر إلا في أبيك فقال إسحاق أولى له أن عرض نفسه وأحوج أبي العتاهية إلى مثل هذا مع ملكه وقعدته. ومثل قوله (كذبت عليك فيها وافتريت ... ) قول علي بن جبلة وقال له أبو دلف أن تحسن أن تمدح ولا تحسن أن تهجو فقال الهدم أيسر من البناء ثم قال: (أبو دلفٍ كالطبل يذهب صوتهُ ... وباطنهُ خلوٌ من الخيرِ أخربُ) (أبا دلف يا أكذبَ الناسِ كلهم ... سواي فأني في مديحك أكذبُ) وأخذ البحتري قوله: (كانوا كواكبَها وكنت هلالها ... ) فقال في المتوكل إذا غبتَ عن أرض ويممتَ غيرها ... فقد غابَ عنها شمسُها وهلالُها) (غدْت بك آفاقُ البلادِ خَصيبةً ... وهل تمحلُ الدنيا وأنتَ ثِمالُها) فأما قوله: (كأنك من خشيةٍ للسؤالِ ... في عينه الحيةُ الأسودُ) فمن قول بعض العرب: (من دون سيبك وجهُ ليل مظلم ... وخفيفُ نافحة وكلب موسدُ) (وأخوك محتملٌ عليك ضغينة ... وخسيفُ قومك لائمٌ لا يحمدُ) (والضيفُ عندك مثل أسودَ سالخٍ ... لا بل أحبهما إليك الأسودُ) ومن جيد ما جاء في خلاف ذلك من الحث على الإنفاق ومجانبة الإمساك قول ديك الجن: (قالوا السلامُ عليكِ يا أطلالُ ... قلتُ السلامُ على المحيل محالُ) (عاج الشقيّ مراده دِمَن البلى ... ومرادُ عيني قلةٌ وحجالُ) (لأنادمن الراجَ وهي زُلال ... ولأطرقنَ البيتَ فيه غزال) (ولأتركن حليلها وبقلبهِ ... حُرقٌ وحشوُ فؤاده بلبال)

وليشفين حبي فمٌ وحتى يد ... وكلاهما لي باردٌ سلسال) (ماذا الغنى والبخل مالك من غنى ... وكذاك ياذا المال مالك مال) (أطلقْ يديكَ فإن بين يديك ما ... يرديهما ووراءَ حالك حال) (قد تسلم الأوكالُ وهي مواكلٌ ... للترهاتِ وتقتلُ الأبطال) (ورجالُ هذي النائباتِ وإن رَأوْا ... شظفاً من الأيام فهي رجال) وقلت: (ماذا يسرك من مال تجمعهُ ... أو ما يغمك منه إذ تفرقهُ) (ولم يكن لك مالٌ يوم تكسبهُ ... لكنه لك مالٌ يومُ تنفقهُ) (تحبُ من أجلهِ الدنيا وتورثها ... وسوف توبقك الدنيا وتوبقه) (سترتهُ عن عيونِ الناسِ كلهم ... ولستَ تعلم أن الدهرَ يرمقه) (إن لم تبكر إليهِ في نوائبهِ ... فسوف يطرقهُ ركضاً فيرهقة) وقد أحسن القائل: (إذا أعجبتك خصالُ امرئ ... فكنهُ تكن مثلَ ما يعجبكْ) (فليس على الجودِ والمكرمات ... حجابٌ إذا جئتهُ يحجبك) (هو المالُ إن أنت لم يخترب ... أباحَ لك الدهرُ ما يخربك) وإذا كان أفضل الجود ما كان مع الحاجة على حسب ما مدح الله تعالى به الأنصار فقال {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وأجود ما قيل قول عروة بن الورد: (فلا تشتمني يا ابنَ ورد فإنني ... تعودُ على مالي الحقوقُ العوائدُ) (ومن يؤثر الحقَ النؤوبَ يكن به ... خصاصةُ جسم وهو طيَّانُ ماجد) وقال عبد الملك بن مروان ما وددت أن أحداً من العرب ولدني إلا قائل هذه الأبيات

ومن جيد ما قيل في الإيثار على النفس قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كتبه عبيد الله بن سليمان حين ولي الوزارة: (أبى دهرنُا إسعافنَا في نفوسنا ... فأسعفنا فيمن نُحبُ ونكرمُ) (فقلت له نعماكَ فيهم أتمها ... ودَعَ أمرنَا إنَّ المهمَ المقدَّمُ) وهذا غاية لأنه جعل أمر الممدوح أهم له من نفسه وإصلاح شأنه. ومن جيد ما قيل في جود على قوم دون قوم قول البحتري: (سحابٌ عداني جودهُ وهو هامرٌ ... وبحرٌ خطاني فيضُه وهو مفعَمُ) (وبرقٌ أضاءَ الأرضَ شرقاً ومغرباً ... وموضعُ رجلي منهُ أسودُ مظلمُ) ومن أجود ما قيل في كبر الهمة قول بعض العرب: (لهُ هِممٌ لا مُنتهى لكبارها ... وهمتهُ الصغرى أجلُ من الدهرِ) (له راحةٌ لو أن معشارَ جُودها ... على البرَ كان البرُ أندى من البحر) أخذه المتنبي فقال وقصر: (تجمعتْ في فؤاده هممٌ ... ملءُ فؤادِ الزمانِ إحداها) وموضع التقصير فيه أن الأول جعل همته الصغرى أجل من الدهر وجعل المتنبي إحدى همه ملء فؤاد الزمان فإذا كان ملء فؤاده فليس بأجل منها. ومما يذكر في وصف كبر الهمة أن سيف بن ذي يزن دخل على كسرى فتطأطأ في طاق رفيع من طيقان قصره وجلس فدفعت إليه مخدة فجعلها على رأسه وكسرى يرمقه فلما سأل سيف حاجته قيل له إن الملك قد رأى منك خلتين عجيبتين وضع المخدة على رأسك وإنما أعطيتها لتجلس عليها وتطأطؤك في الطاق الرفيع فقال أما المخدة فرأيت عليها صورة الملك فوضعتها على أكرم موضع عندي وأما تطأطئ في الطاق الكبير فإن همتي أكبر منه. فاستحسن كلامه وضم إليه جيشاً أزاح بهم الحبشة عن بلده. ومن بليغ ما قيل في كبر الهمة يقول علي بن محمد البصري:

(قلبي نظيرُ الجبلِ الصعب ... وهمّتي أكبرُ من قلبي) (فاستخر الله وخذْ مُرهفاً ... وافتك بأهلِ الشرقِ والغربِ) (ولا تمت إن حَضرت ميتةٌ ... حتى تميتَ السيفَ بالضربِ) ومن المذكور في ذلك قول أبي تمام: (رأى ابنُ دهرٍ عَرَقا في خيلهِ ... أعلم منه بحُدَاءِ ابلِهِ) (قد لعبت أيدي النَّوَى بشملهِ ... ممتَّعاً مُضْطَلِعاً بحملهِ) (مُنصلتاً كالسيفِ عند سلهِ ... مولودةٌ همتهُ من قَبْلهِ) (قد دانَ ذو الفضل له بفضلهِ ... كالصابِ من يذقه لا يستحلهِ) (إلاَّ بأن يسكنَ تحتَ ظِلّهِ ... ) وقال: (هِمَّةٌ تنطحُ النجومَ وجدٌ ... آلف للحضيضِ فهو حضيضُ) وأبلغ ما قيل في يمن النقيبة قول الأعشى: (ولو رُحتَ في ظلمةٍ قادحاً ... حصاةً بنبعِ لأوريتَ نارا) الحصاة مع النبع لا تورى قال فأنت من يمن نقيبتك لو قدحت بهما لأوريت. وقال بعض الأعراب: (يذكّرني سعداً دعاءٌ بالقرى لو أشرفَ القومُ على أرضِ العِدى) (واختلطَ الليلُ بألوانِ الحصى ... وأرسلوا سَعداً إلى الماءِ سرى) (من غير دلوٍ ورِشاءٍ لاْستقى ... ) وهو بليغ في هذا المعنى جداً: وقلت: (ليس للعينِ وراء شأوِه ... إلى العلى والمكرماتِ مُطَّرَحْ) (قد شحَّ بالعرض وجاد باللُّهى ... فحوى المجد بما جاد وشَحّ) (فإذا هَمّ بأمرٍ نالَه ... فسواءٌ جدَ فيه أو مَزَحْ)

وقلت: (إذا ما بدت فينا عطاياهُ عقبت ... وكم بادئ للمزنِ غير معقب) (ولما يفرره تقلّب دهره ... فقلت لعلَ الدهرَ لم يتقلب) (ويدنو له المطلوبُ حتى كأنما ... يواكب ضوء الصبح في كل مطلب) أبلغ ما قيل في اهتمام الرجل بأمر أخيه قول بعضهم: (سأشكرُ عمراً إن تراخَتْ مَنيّتي ... أياديَ لم تُمنن وإن هي جلَّتِ) (فتى غير مفراح إذا الخيرُ مسهُ ... ولا مظهر الشكوى إذا النعلُ زلت) (رأى خلتي من حيثُ يخفي مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت) وقوله (قذى عينه) لا يقوم مقامه شئ في شدة الاهتمام لأن الانسان إذا قذيت عينه صرف الهمة إلى تقذيتها من غير اشتغال بشئ غيرها وهو على قوله (من حيث يخفي مكانها) أبلغ لأنه يدل على تفقد شديد وعناية تامة. ومما هو في هذه الطريقة قول أمية بن أبي الصلت: (إذا ليلةُ نابتك بالشكوِ لم أبت ... لشكواك إلا ساهراً أتململُ) (كأني أنا المطروقُ دونك بالذي ... طرقتَ به دوني فعيني تهمُلُ) وقالوا أشجع بيت قالته العرب قول عباس بن مرداس السلمي: (أشدُ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها) قالوا أربعة من الشجعان تتبين دلائل الجبن في شعر ثلاثة منهم فمن الثلاثة عنترة في قوله: (فإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يكلمِ) (وإذا صحوتُ فما أقصِّر عن ندىً ... وكما علمتِ شمائلي وتكرمي)

(وخليل غانية تركتُ مجدلا ... تمكو فريصتهُ كشدق الأعلم) (هلا سألتِ الخيل يا ابنة مالكٍ ... إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي) (يخبرك من شهدَ الوقيعةَ أنني ... أغشىَ الوَغى وأعفُ عند المغنم) (ومدججٍ كرهَ الكماةُ نزالهُ ... لا ممعن هَرَباً ولا مستسلم) (سبقت يدايَ لهُ بعاجلِ طعنةٍ ... ليس الكريم على القنا بمحرمِ) (نبئت عمراً غير شاكر نعمتي ... والكفرُ مخبلةٌ لنفسِ المنعمِ) ثم قال: (إذ يتقون بي الأسنةَ لم أقحم ... عنها ولكني تضايقَ مقدمي) قالوا فدل على أنه وقف ولم يقدم واعتذر بتضايق المقدم. وكان عنترة هجيناً أمه أمة فاستعبده أبوه، وهذه كانت العرب عادتها في الهجناء فكان يرعى ثم اتخذ سلاحاً وصنع مهراً فأغارت طيئ على عبس فسبوا أهله وجيرانه فركب مهره واتبع القوم ثم جنبهم حتى أتى من أمامهم فما زال يطعن في أعين القوم حتى ردوا عليه أباه وأمه ثم عمه وابنته عبلة ثم قال لا انصرف بأهلي وأترك جيراني فكر عليهم فقتل منهم أربعين فردوا عليه جيرانه وكان يقول له أبوه وعمه كر فيقول لا يحسن العبد الكر وإنما يحسن الحلب والصر يقرعهم بذلك إذ كانوا قد استعبدوه فاستلحقه أبوه يومئذٍ وزوجه عمه عبلة ابنته وكان عنترة يسمى الفلحاء وكانت أمه حبشية تسمى زبيبة وقال النبي & (ما سمعتُ بأعرابي فاشتهيتُ أن أراه إلا عنترة) والآخر قول عمرو بن معد يكرب في قوله: (ولقد أجمعُ رجليَ بها ... حذرَ الموتِ وإني لفرورُ) (ولقد أعطفها كارهةً ... حينَ للنفسِ من الموت هريرُ) (كل ما ذلك مني خلق ... وبكل أنا في الورع جدير) فقال (وإني لفرور) وقال بعض أهل الأدب إنما هو (لقرور) بالقاف

لأن الشجاع لا يمدح نفسه بالفرار سيما باللفظ البليغ من فرور. وليس كذلك لأن قوله (كل ما ذلك مني خلق) على أنه ذكر حال فرار وحال ثبات فحال الثبات قوله (ولقد أجمع رجلي بها) والحال الأخرى حال للفرار إذا كان ذلك أحزم ولو ذكرنا حالا واحدة لم يحسن أن يقول كل ماء لك مني خلق وإنما دل على أصالته وعقله في ثباته وقت الثبات وفراره ساعة الفرار وليس الشجاعة أن يحمل الرجل نفسه على الهلكة إنما ذلك هوج والشجاعة أن يتقدم وغالب ظنه أن يظفر فأما أنه إذا علم أنه إذا أقدم هلك ثم أقدم فإن ذلك جنون لأن كل أحد يقدر أن يقدم على الهلكة فيهلك وإنما الشأن في أن يحمد غب إقدامه وفي قريب من ذلك قوله: (فجاشت إلىَ النفسُ أولَ مرة ... فُردت على مكروهها فاستقرتِ) فما جاشت نفسه إلا وجبن، ولو وصف عمرو هذه الأشياء من نفسه قيل إنه ممن يصدق عن نفسه، على أنه ربما كذب الكذبة الصلعاء روى لنا أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد وعن غيره قال وقف عمرو بن معدي كرب وخالد بن الصقعب النهدي في جماعة بالكناسه يتحدثون فقال عمرو أغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصعقب فحملت عليه فطعنته فأرديته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه فقال خالد حلاً أبا ثور فان قتيلك هو المحدث فقال عمرو يا هذا إذا حدثت بحديث فاسمع فانما نرهب هؤلاء المعدية. مسترعفين أي متقدمين، وقوله حلا أبا ثور أي قل إن شاء الله ويقال حلف ولم يتحلل أي لم يستثن. ويروى عن العرب كذب كثير فمن ذلك ما يزعمون أنهم يرون الجن ويكلمون الغيلان والسَعالي حتى زعم تأبط شراً انه طلب نكاح السعلاة في قوله: (وادهمَ جبت حلبابه ... فيا جارتا أنت ما أهولا) (فطالبتها بعضها فانثنت ... بوجه تهوّل واستغولا)

(وكنت إذا ما هممتُ اعتزمت ... وأخرى إذا قلتُ أن أفعلا) وقال آخر: (أخو قَفراتٍ حالفَ الجنَ واتقى ... من الإنسِ حتى ما تقضت رسائلُهْ) (له نسبُ الإنسيِّ يعرفُ نحله ... وللجنَ منهُ خَلقه وشمائلُهْ) وقال عبيد بن أيوب: (فللَّه درُ الغولِ أيُّ رفيقةٍ ... لصاحبِ قفرٍ خائفٍ متقفرِّ) وكان كثيرٌ من شعرائهم يدعي أن له شيطاناً يعلمه الشعر منهم الفرزدق كان يكنى شيطانه أبا لبينى وذكر أنه ذهب إلى جبل فناداه فجاء مثل الذباب فدخل في حلقه فقال قصيدته التي أولها (عزفت بأعشاشٍ وما كنت تعزف) وقال أبو النجم: (وجدت كلَ شاعرٍ من البشرْ ... شيطانهُ أنثى وشيطاني ذكر) وزعموا أن عروة بن عتبة صرخ بقومه فأسمعهم من مسيرة ليلة. ورووا أن لقمان بن عاد لما ضعف بصره كان يفصل بين أثر الذكر والأنثى والذر إذا دب على الصفا في الليلة الظلماء. وقال رجل لأبي حنيفة ما كذبت قط قال هذه كذبة أشهد بها عليك. وسأل الحجاج قاصاً عن اسم بقرة بني اسرائيل قال حنتمة فقال له رجل من أولاد أبي موسى الأشعري في أي كتاب وجدت هذا قال في كتاب عمرو بن العاص. ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية فقال اسمع أبياتاً قلتها: (إذا أنتَ لم تنصف أخاكَ وجدتَهُ ... على طرفِ الهجرانِ إن كان يعقلُ) (ويركبُ حدَ السيفِ من أن تضيمهُ ... إذا لم يكنَ عن شفرةِ السيفِ مزحلُ) ثم دخل معن بن أوس المزني فأنشد (لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ) حتى صار إلى البيتين فقال معاوية ما هذا يا أبا بكر فقال أنا أصلحت المعاني وهو

ألف الكلام وهو بعد ابن ظئري وما قال من شئ فهو لي وكان عبد الله بن الزبير مسترضعاً في مزينة: والثالث عمرو بن الأطنابة حيث يقول: (وقولي كلماَجشأتْ وجاشَتْ ... مكانَكِ تحمدى أو تستريحي) فزعم أن نفسه جشأت وجاشت وليس ذلك إلا من الجبن. أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد عن الرياشي حدثنا العتبي عن أبيه قال دخل الحارث بن نوفل بابنه على معاوية فقال ما علمت ابنك؟ فقال القرآن والفرائض فقال روه من فصيح الشعر فإنه يفتح العقل ويفصح المنطق ويطلق اللسان ويدل على المروءة والشجاعة ولقد رأيتني ليلة صفين وما يحبسني ألا أبيات عمرو بن الأطنابة حيث يقول: (أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ) (وإعطائي على المكروهِ مالي ... وضربي هامةَ الشيخ المشيحِ) (وقولي كلما جشأتْ وجاشَتْ ... مكانكِ تحمدي أو تستريحي) (لأدفعَ عن مآثرَ صالحاتٍ ... وأحمي بعدُ عن عرضٍ صحيحِ) (بذي شطبٍ كلونِ الملح صافٍ ... ونفس لا تقرُ على القبيحِ) قالوا والذي يدل على الشجاعة الخالصة قول العباس بن مرداس: (أشدُ على الكتيبةِ لا أبالي ... أحتفي كان فيها أو سواها) وهذا على مذهب من ذكرنا قبلُ هوج، والذي يدل على أن التثبت والتأني وسكون النفس من تمام الشجاعة قول بلعاء بن قيس: (وفارس في غمارِ الموتِ مُنغمس ... إذا تأنَّى على مكروهِهِ صدقا) (غشيتهُ وهو في جأواء باسلةٍ ... عضباً أصابَ سواءَ الرأس فانفلقا) (بضربةٍ لم تكن مني مخالسةً ... ولا تعجلتها جبناً ولا فرقَا) فذكر أن مخالسة الضرب من الجبن. وأحسن ما قيل في التقدم في الحرب قول زهير:

(ليث بعثّر يصطادُ الرجالَ إذا ... ما الليثُ كذّب عن أقرانهِ صَدَقَا) (يطعنهمُ ما ارتَمَوا حتى إذا ظعنوا ... ضَارَبَ حتى إذا ما ضارَبُوا اعتنقا) وصفة بالتقدم على كل حال. وقل أحد منهم لم يصف نفسه بالتأخر، قال حصين ابن حمام: (تأخرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجد ... لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدّما) (فلسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ... ولكن على أقدامنا تُقطِر الدما) ذكر أنه تأخر ثم رأى أن التقدم أحرز لظفر يعيش به عزيزاً أو موتٍ يموته شريفاً. وأخبرنا أبو أحمد رحمه الله تعالى عن أبيه عن علي قال قال المهدي لابن داب أنشدني أحسن ما قيل في وصف الفتى الشجاع فأنشده للشماخ (وأشعثَ قد قدَ السفارُ قميصَه ... يجر شِواءً بالعصا غيرَ مُنضَجِ) (دعوتُ إلى مانبني فأجابني ... كريمٌ من الفتيان غيرِ مُزلَّجِ) (فتى يملأ الشِّيزى ويُروي سِنانهُ ... ويضربُ في رأس الكميِّ المدجّجِ) فالتفت إلى عبد الله بن مالك الخزاعي وقال هذه صفتك. وقالوا أشجع بيت قالته العرب قول كعب بن مالك: (نصلُ السيوفَ إذا قَصُرنَ بخطونا ... قِدْماً ونُلحِقها إذا لم تَلحَقِ) ورأى بعض العرب سيفاً فقال ما أجوده لولا قصر فيه فقال صاحبه نصله بخطوة فقال الرجل تلك الخطوة أشد من مشيتي إلى الصين. وأبلغ ما قيل في سعة الخطو في الحرب قول أبي تمام: (خطوٌ ترى الصارمَ الهنديَّ منتصراً ... به من المارنِ الخطىَ منتصفاً)

يقول لسعة الخطو ينتصف صاحب السيف من صاحب الرمح. وقالوا أشجع ما قيل قول الشاعر: (أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثلها ... أقلِّي شكوكا إنني غيرُ مدبرِ) وأجود ما قيل في صدق اللقاء مع قلة العدد قول أبي تمام: (قلّوا ولكنهم طابوا فانجدهم ... جيشٌ من الصبر لا يُحصى له عددُ) (إذا رأوا للمنايا عارضاً لبسوا ... من اليقينِ دُروعاً ما لها زردُ) (ناءٍ عن المصرحِ الأدنى فليس لهم ... إلا السيوفُ على أعدائهم مددُ) وأجود ما قيل في وصف الفتى الشجاع وصاحب الحرب من شعر المحدثين قول مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد الشيباني: (لولا يزيد لأضحى الملكُ مضطرداً ... أو مائلَ الرأسِ أو مسترخيَ الطولِ) (حاطَ الخلافةَ سيفٌ من بني مَطَرٍ ... أقام قائمهُ مَنْ كان ذا مَيل) (سدَ الثغورَ يزيدٌ بعد ما انفرجت ... بقائم السيف لا بالختل والحِيَلِ) (موف على مهجٍ في يوم ذي رهجٍ ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ) (ينالُ بالرفقِ ما يَعْيَا الرجالُ به ... كالموتِ مستعجلاً يأتي على مَهَلِ) (يكسو السيوفَ نفوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذبل) (يغدو فتغدو المنايا في أسنّتِه ... شوارعاً تتحدى الناسَ بالأجلِ) (قد عودَ الطيرَ عادات وثقنَ بها ... فهن يتبعنه في كل مرحل) (إذا انتضى سيفهُ كانت مسالكهُ ... مسالكَ الموتِ في الأبدان والقُلَلِ) (الزائدُّيون قومٌ في رماحهم ... خوفُ المخيفِ وأمنُ الخائفِ الوَجِلِ) (كبيرهُم لا تقومُ الراسياتُ له ... حلماً وطفلهمُ في هُدى مكتهل) (إسلم يزيد فيما في الملكِ من أودِ ... إذا سلمتَ ولا في الدينِ من خلل)

(وافخر فمالك في شيبانَ من مثلٍ ... كذاك ما لبني شيبانَ من مثلِ) (لله من هاشمٍ في أرضهِ جبلٌ ... وأنتَ وابنُك ركنا ذلك الجبلِ) وقوله: (سلَ الخليفةُ سيفاً من بني مطر ... يمضي فيخترقُ الأحشاءَ والهاما) (كالدهرِ لا ينثني عمَّا يهُمُّ به ... قد أوسعَ الناسَ إنعاماً وإرغاما) (تظلمَ المال والأعداء من يده ... لا زالَ للمالِ والأعداءِ ظلاَّما) (إذا بدا رفعَ الأستار عن ملك ... تُكسى العيونَ به نُوراً وإظلاما) (تمضي المنايا لما تمضي أسنّتهُ ... كأنّ في سرجهِ بدراً وضِرغاما) وله أيضاً: (يلقى المنّية في أمثال عُدتِها ... كالسيلِ يقذفُ جُلموداً بجلمودِ) (كالليثِ بل مثلهُ الليثُ الهصورُ إذا ... غنَّى الحديدُ غناءً غير تغريدِ) وقالوا أشجع يبت قاله محدث قول أبي تمام: (فما بلّ في مستنقع الموتِ رجله ... وقال لها من تحتِ أخمصك الحشرُ) (وقد كان فوتُ الموت سهلاً فردهُ ... عليهِ الحِفَاظُ المرُ والخلقُ الوعرُ) (غدا غَدْوَةً والحمد نسجُ ردائهِ ... فلم ينصرف إلا وأكفانُهُ الأَجرُ) أخذ معنى البيت الأول من قول عوف بن قطن بقوله يوم الجمل: (لا أبتغى اللحدَ ولا أبغي الكفنْ ... من ها هنا محشرُ عوفِ بن قطنْ) وأجود ما قيل في سكون الجأش في الحرب قول البحتري: (لقد كانَ ذاك الجأشُ جأش مسالمٍ ... على أنَ ذاك الزيَّ زيُ محاربِ) (تسرعَ حتى قالَ من شهدَ الوغى ... لقاء عداءٍ أم لقاء حبائب) (وصاعقة في كفه ينكفي بها ... على أرؤسِ الأقران خمسُ سحائب) وهذا البيت أجود ما قيل في معناه جعل السيف صاعقة وأصابع الضارب سحائب تجود على مؤملين بغيتها وتقتل معاوية بصاعقتها.

(أصدق بيت قالته العرب) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن أبي العيناء قال قال الأصمعي أصدق بيت قالته العرب وأحكمه قول الحطيئة: (من يفعل الخيرَ لا يَعدم جوازيهُ ... لا يذهبُ العرفُ بين الله الناس) وقال المحدث في معناه (ما ضاع عرف وان أوليته حجراً ... ) وقال الأفوه: (والخيرُ تُزدادُ منهُ ما كفيتَ بهِ ... والشرُ يكفيكَ منهُ قلما زادَ) وقيل خير من الخير فاعله وخير من الذهب معطيه، وقال عبيد ابن الأبرص: (الخيرُ يبقى وإن طالَ الزمانُ بهِ ... والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زاد) وأخبرنا أبو أحمد رحمه الله تعالى أخبرنا الجوهري أخبرنا عمر بن شبة حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا سفيان بن سعيد عن عبد الملك بن عمير قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يحدث بحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله & أصدق كلمة قالتها العرب: (ألا كل شئ ما خلا الله باطلُ ... وكلُ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ) (وكل أناس سوفَ تدخلُ بَيْنَهُم ... دويهيةٌ تصفرُ منها الأناملُ) وأخبرنا أبو أحمد رحمه الله تعالى أخبرنا الجوهري أخبرنا أبو زيد حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن عثمان بن مظعون كان في جوار الوليد بن المغيرة وكان لا يؤذى كما يؤذى أصحابه يعني من المسلمين فسأل الوليد أن ينزل من جواره فبرئ منه فلما جلس مع القوم ولبيد ينشدهم (إلا كل شئ ما خلا الله باطلا) فقال عثمان صدقت ثم أنشد لبيد رأس البيت (وكل نعيم لا محالة زائل) فقال عثمان كذبت فأسكت القوم ولم يدورا ما أراد ثم أعاد ثانية فصدقه عثمان وكذبه لأن نعيم الآخرة لا يزول فقال لبيد ما هكذا كانت مجالسكم فنزا رجل من قريش فلطم عين عثمان فأحضرت فقال

له الوليد كنت في ذمة معنية فخرجت منها وكنت عن الذي لقيت عينك غنيا فقال بل كنت إلى الذي لقيت فقيراً وعيني التي لم تلطم إلى مثل ما لقيت صاحبتها فقيرة فقال إن شئت أجزتك ثانية فقال لا أرب لي في جوارك، وأول هذه القصيدة: (ألا تسألانِ المرءَ ماذا يُحاولُ ... انحبٌ فيُقضَى أم ضلالٌ وباطلُ) (حبائلهُ مبثوثةٌ بسبيله ... ويفنيَ إذا ما أخطأتهُ الحبِائلُ) (إذا المرءُ أسرَى ليلةً ظنَ أنهُ ... قضى عملاً والمرءُ ما عاشَ عاملُ) وأجود من هذا سبكاً ورصفاً قول الصلتان: (نروحُ ونغدُو لحاجاتنا ... وحاجةُ من عاش لا تنقضي) وأخبرنا أبو أحمد عن رحالة قال قيل لرجل سماه أنشدنا أصدق بيت قالته العرب قال الناس يقولون (كل امرئ في شأنه ساعي ... ) وأنا أقول: (كأن مُقلا حين يغدو لحاجة ... إلى كلَ من يلقى من الناس مذنبُ) وأصدق بيت قاله محدث قول البحتري: (نصليك في الأكروُمتين فإنما ... يسودُ الفتى من حيثُ يسخو ويشجع) (رزعتُ رجاءً في ذراك مُبكراً ... وجلُ حصادِ المرءِ من حيثُ يزرعُ) أجود ما قيل في القناعة قول الشاعر: (إذا سُدَ بابٌ عنك من دونِ حاجةٍ ... فدعها لأخرى لينٌ لك بابُها) (وإن قرابَ البطنِ يُغنيك ملؤه ... ويكفيك سوآت الأمورِ اجتنابها) أخذه ابن الرومي فقال وأحسن: (إذا ما شئت أن تعرفَ ... يوماً كذبَ الشهوه) (فكل ما شئتَ يغنيك ... عن العذبة الحلوة) (وطأ من شئتَ يغنيك ... عن الخناء في الذروه) (فكم أنساك ما نهواه ... نُيلُ الشئ لم نهوه) وقال ابن هرمة:

(إذا مطمعُ يوماً غزاني غزوتهُ ... كتائب ناس كرّها واطرِّادُها) (أمصّ ثِمادي والمياه كثيرة ... أعالج منها حضرَها واكتدادَها) (وأرضى بها من بحر آخر أنه ... هو الرأي أن ترضى النفوس ثمادِها) وأبرع بيت قيل من قديم الشعر قول أبي ذؤيب: (والنفسُ راغبةٌ إذا رغبّتها ... وإذا تردُ إلى قليلٍ تقنعُ) وقد أحسن أبو العتاهية في قوله: (أنتَ محتاجٌ فقيرٌ أبدا ... دون ما ترضى بأدْنَى ما لديك) وذم بعضهم القناعة فقال هي خلق البهيمة، معناه أنها إذا وجدت أكلت وإن لم تجد باتت على الخسف ليس لها محالة دون الانطواء على الجوع ولا نكير دون الإقرار بالهزل كما قيل: (ولا يقيم على ضيمٍ يُرادُ به ... إلا الأذلاَّن غير الحي والوتدُ) (هذا على الخسفِ مربوطُ برمتهِ ... وذا يشجُ فلا يَرثي له أحدُ) وإلى هذا المذهب ذهب على بن محمد في وقوله: (إذا اللئيمُ مطَ حاجبيّهِ ... وذادَ عن حريم درهميهِ) (فاترك عنانَ البخل في يديهِ ... وقم إلى السيفِ وشفرتيهِ) (واستنزل الرزقَ بمضربيهِ ... إن قعدَ الدهرُ فقم إليهِ) وقلت: (سأستعطفُ الأيامَ حتى تردَّني ... إلى جانب منها يلينُ ويسهلُ) (وأقنعُ لا أن القناعة لي هوى ... ولكنَ صونَ العرض بالحر أجمل) وقال ديك الجن: (لا تقم للزمانِ في منزلِ الضيم ... ولا ترتبطكَ رقةُ حالِ) (وإذا خفتَ إن يراهقك العدم ... فعذ بالمثقفات العوالي) (وأهن نفسك الكريمةَ للموت ... وقحم بها على الأهوال)

(فلعمري للموتُ أجملُ بالحرَ ... من العيشِ ضارعاً للرجال) (أي ماءٍ يجولُ في وجهك الحرَ إذا ما امتهنتهُ بالسؤال) (ثم لا سيما وقد عصفَ الدهرُ بأهل الندَى وأهل النوال) (فقليلٌ من الورَى من تراهُ يُرتجي أن يصونَ عرضاً بمال) وفي المعنى الأول ما أنشدنا أبو أحمد رحمه الله تعالى أنشدنا أبو بكر بن دريد أنشدني أحمد بن المعدل لأخيه عبد الصمد: (رأت عدمي فاستراثت رحيلي ... سبيلك إن سواها سبيلي) (يرجى اليسار لها بالقفول ... لعلَ المنيةَ قبل القفولِ) (لعمر التي وعدتك الثراءَ ... بجدوَى الصديقِِ وبرّ الخليلَ) (لقد قذفتْ بك صعبَ المرامِ ... واستجملت لك غير الجميلِ) (سأقني العفاف وأغني الكفال ... فليسَ غِنَى النفس جودُ الجزيلِ) (ولا أتصدَّى لشكر الجوادِ ... ولا استعدُ لذمَ البخيلِ) (وأعلمُ أن بناتِ الرجاءِ ... تحلُ العزيزَ محلَ الذليلِ) (وأن ليس مستغنياً بالكثيرِ ... من ليسَ مُستغنياً بالقليلِ) قال أبو أحمد لو كان شعر عبد الصمد كله هكذا لرأيته نبي الشعر. وقال البصير: (قلتُ لأهلي وراموا أن أميرَهُم ... بماء وجهي فلم أفعلْ ولم أكدِ) (لا تجمعوا أن تهينوني وأكرمكم ... ولا تمدُّوا إلى نيل اللئامِ يدي) (تبلغوا وادفعوا الحاجاتِ ما اندفعت ... ولا يكن همكم في يومكم لغدِ) (فربَ ملتمسٍ ما ليس يُدركهُ ... ومدركٌ ما تمنى غير مجتهدِ) أبلغ ما قيل في مساعدة الرجل أخاه وأجوده قول دريد بن الصمة وقد أغار هو وأخوه عبد الله على نعم لقيس فاستاقوها فلما كانوا ببعض الطريق نزل عبد الله ليريح ويستريح ويقسم المال بين أصحابه فنهاه دريد فبينما هما كذلك رأوا غبرة

فقالوا لرقيبهم ما ترى قال خيلاٌ كالعقبان عليها فوارس كالصبيان فقال فزراة ولا بأس ثم رأوا غبرة أخرى فقالوا له ماترى قال خيلا كأن قوائمها تنقلع من صخر قال تلك عبس والموت فلما خالطوهم قتل عبد الله فقال دريد: (أمرتُهم أمرى بمُنعرجِ اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلاضُحى الغدِ) (فلما عصَوني كنتُ منهم وقد أرى ... غَوايتهم أني بهم غير مهتدي) (وما أنا إلا من غَزيةَ إن غوتْ ... غويتُ وإن تَرشُد غزيةُ أرشَدِ) وأسر دريد ثم نجا فغزاهم من قابل فقتل قاتل أخيه. ووجه المبالغة في هذا الكلام أنه أخبر بموافقة أخيه على علمه بأنها غي وترك مخالفة مع معرفته أنها رشد كراهة الخروج من هواه وترك مطابقة على رضاه. وقريب منه قول عمر بن أبي ربيعة وروي لغيره: (وذي ودٍ أملتُ إليه نصحاً ... وكان لما أشيرُ به سميعا) (أطافَ بغيهِ ونهيتُ عنها ... وقلتُ تجنبِ الأمرَ الفظيعا) (أردتُ رشادهُ جَهدي فلما ... عصى وأبى ركبناها جميعا) وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي عن الحسن بن محمد المهري عن التوزي: (تنخلتُ آرائي وسقتُ نصيحتي ... إلى غير طلقٍ للنصيح ولا هشَ) (فلما أبى نُصحي سلكتُ سبيلهُ ... وأوسعتهُ من زور قول ومن غشَ) وقال آخر: (ألم تعلما يا ابني دجاجةَ أنني ... أغشُ إذا ما النصحُ لم يُتقبل) ومن جيد ما قيل في النصيحة قول مخيس بن أرطأة: (عرضتُ نصيحةً مني ليحي ... فقال غششتني والنصحُ مرُ) (وما بي أن أكونَ أعيب يحيى ... ويحيى طاهرُ الأخلاق برُ) (ولكن قد أتاني أن يحيى ... يُقالُ عليه في نقعاء شرُ)

(فقلتُ له تجنبْ كلَ شئ ... يقالُ عليك إن الحرَ حرُ) ومثل ما تقدم قول الشاعر أنشدناه أبو أحمد عن جماعة: (إن أخا الصدق الذي لن يخدعك ... ومن يضرُ نفسهُ لينفعكَ) (ومن إذا صرفُ زمانٍ صدعك ... شتتَ شملَ نفسه ليجمعَك) (وإن غدوتَ ظالما غدا معك ... ) فسروه يكفك عن الظلم، وليس كذلك لأن معنى الأبيات لا يقتضيه وإنما أراد أنه يعاونك على الظلم على حسب ما قال عمر بن أبي ربيعة (ركبناها جمعيا) وقال ابن ميادة في النصيحة: (نصحتك يا رباحُ بأمرِ حزم ... فقلت هشيمةٌ من أهل نجد ... ) (نهيتك عن رجال من قريش ... على محبوكةِ الأصلابِ جُردِ) (ووجداً ما وجدتُ على رباح ... وما أغنيت شيئاً غير وجدي) وقال العباس بن جرير: (إرعَ الإخاءَ أبا محمد ... الذي يصفو وصنهُ) (وإذا رأيتَ منافساً ... في نيل مَكرُمَة فكنهُ) (أن الصديقَ هو الذي ... يرعاك حينَ تغيبُ عنه) (وإذا كشفتَ غِطاءهُ ... وأحمدتَ ما كشفَ عنهُ) (مثل الحسام إذا انتضاه ... أخو الحفيظةِ لم يَخُنْهُ) (يسعى لما تسعى له ... كرماً وإن لم تَسْتَعِنْهُ) ومن أبلغ ما قيل في إرضاء الرجل عن أخيه قول الراجز: (لم أقضِ من صحبةِ زيدٍ أربي ... فتًى إذا نبهتهُ لم يغضبِ) (أبيض بسَّام وإن لم يعجبِ ... ولا يَضن بالمتاع المحقبِ) (موكل النفسِ بحفظِ الغيبِ ... أقصى رفيقين له كالأقربِ) وهذا خلاف ما قيل (من غاب نصيبه ... ) وقلت في قريب منه:

(بذلتُ من شكري ما لم يبذل ... لماجد أجملَ إذ لم أُجْمِلِ) (يحمل من ثقليَ ما لم يحملِ ... فعزَّ في عينيَ حين ذَلَّ لي) (إن جمالَ الحرَ في التجمُّلِ ... وقد يكونُ العزُ في التذللِ) (والمجد شهد يُجتَنى من حنظلِ ... ) ومن قديم ما جاء في هذا النحو قول أوس: (وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يلومكَ إن ولى ويرضيكَ فقبلاً) (ولكنهُ النائي إذا كنت آمِنا ... وصاحبك الأدني إذا الأمرُ أعضلا) أبلغ ما قيل في التأني وأجوده وأشده اختصاراً ما أنشدناه أبو أحمد للمرار الفقعسي: (تقطع بالنزول الأرض عنا ... وبعد الأرض يقطعه النزولُ) وهذا مأخوذ من قول النبي & أل إن هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفقٍ فإن المنبت لا أرضاً قطعَ ولا ظهراً أبقى) وتقول العرب شر السير الحقحقة، وهي شدة السير. وقلت في نحو قول المرار: (وحطّ بها أكوار خوصٍ لواغب ... يُقلل إكثار الذميلِ ذميلُها) (نغض عبرة حلَ الفراقُ عقالها ... وأقلقَ هجران الحبيبِ مقيلها) (فلا غروَ إن فاضت دموعُ متيمٍ ... على الدار يسقي ظلهن طلوعها) ومن المشهور في التأني قول القطامي: (قد يُدرك المتأني بعض حاجتهِ ... وقد يكونُ مع المستعجلِ الزللُ) وقال غيره: (ومستعجل والمكثُ أدنى لرشدهِ ... ولم يدر ما يلقاه حين يبادرُ) وقيل لبعض العلماء لم لم يقل (كل حاجته) فيكون أبلغ قال ليس (كل) من كلام الشعر، وقد صدق ولو قال كل حاجته لكان متكلفاً مردوداً وكثيراً ما يقع (كل) في الشعر قلق المكان كوقوعه في بيت ابن طباطبا: (فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمةُ كلَ الناسِ ما يحسنونهُ)

ولا أعرف أن (كلا) وقع في بيت أحسن منه في بيت أبي العتاهية: (أعلمتُ عُتبةُ أنني ... منها على أجلٍ مطل) (وشكوتُ ما ألقى إليها ... والمدامعُ تستهلُ) (حتى إذا بَرمتَ بما ... أشكوكما يشكو الأذل) (قالت فأي الناسِ تعرفُ ... ما تقولُ فقلتُ كل) (ومن الذي يهوى فلا ... يزَهى عليه ولا يذل) وقد أصاب القائل في صفة العقل: (وجدتُ العقلَ نوعين ... فمطبوعٌ ومسموعُ) (ولا ينفعُ مسموعٌ ... إذا لم يكُ مطبوع) أجود ما قيل في الاختيار قول ابن المعدل أظنه: (إذا لم تَقدحي زَندْيك يوماً ... فما يدريك أيهما الوريُّ) وأول الأبيات: (رأتنا أمُّ عمرو فازدرتنا ... ونقضُ الحرب منظرهُ زريُّ) (إذا لم تَقدحي زَندْيك يوماً ... فما يدريك أيهما الورى) (سلي بي بختري أني طروب ... إلى الإيسار أبلجُ بختريُّ) (وإني حين تختلف العوالي ... إلى الإبطالِ أكيس قسوريُّ) (كِليني للندَى والبأسِ إني ... بكل بسالة وندىً حَرِيُّ) ومثله قول الآخر: (زِني القومَ حتى تعرفي عندَ وزنهم ... إذا رُفع الميزانُ كيفَ أميل) وقال النبي & (أخبر تقله) معناه اختبر من شئت تجد دون ما تظنه فيه وتطلع على ما تكره منه فتبغضه، وليس في جميع ما قيل في هذا المعنى أبلغ منه ولا أوجز وقد شرحه ابن الرومي فقال:

(دعتني إلى فضلِ معروفكم ... وجوهٌ مناظرُها مُعْجِبَهْ) (فأخلفتمُ ما توسمته ... وقلَ حميدٌ على التجرِبَةُ) (وكَمْ لمْعة خلتُها رَوْضَةً ... فألفيتُها دِمنة مُعِشبَهْ) (ظلمتكم لا تطيبُ الفروعُ ... إلا وأعراقها طيبة) (وكنت حسبت فلما حسبت ... عفَّى الحساب مع المحسِبَهْ) (فهل تعذروني كعذريّكم ... بأنَ أصولكم المذنبة) (جزيتُ موازينكم بالسواء ... وعذرٌ بعذر فلا مَعتبه) وقد قال الناس: المطأنينة قبل التجربة حمق، والمثل السائر لا تحمدن امرأ حتى تجربه سمعت عم أبي يقول ما سمعنا في الشكر أوجز من قول يحيى بن خالد (الشكر كفؤ النعمة) ولا أطراف من قول البحتري (الشكر نسيم النعمة) وأنا أقول لم يسمع أجمع في الشكر من قول إبراهيم بن العباس أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن إسماعيل قال قال إبراهيم بن العباس الشكر داعية المزيد وقيمة العارفة ورباط النعمة ولسان المعطفة. وأبلغ ما قيل في الشكر من الشعر قول يحيى بن زياد الحارثي أنشدناه أبو أحمد عن الصولي: (حلفت بربِّ العيسِ تهوِي بركبها ... إلى حرم ما عنه للركبِ معدلُ) (لما بلغ الأنعامُ في الفضل غايةً ... تفضلُ إلاَّ غايةُ الشكر أفضلُ) (ولا بلغت أيدي ألنميلين بَسطة ... من الطولِ إلاَّ بسطةُ الشكر أطولُ) (ولا ثقلت في الوزنِ أعباءُ منةٍ ... على المرء إلاَّ منَّةُ الشكر أثقلُ) (فمن شكرَ المعروفَ يوماً فَقد أتى ... أخا العرف من جنس المكافاة من علُ) وقال الآخر: (فعلتَ خيراً كثيراً ... وأنت أكثرُ منهُ) (ونحنُ أكثرُ منه ... لشكرنا لك عنهُ) وأجود ما قيل في عظم النعمة وقصور الشكر من قديم الشعر قول طريح بن إسماعيل:

(سعيتُ ابتغاءَ الشكر فيما صنعت بي ... فقصرت مغلوباً وإني لشاكرُ) قوله وإني لشاكر مع قوله مغلوباً حسن الموقع، وهو مأخوذ من قول الآخر: (فراق حبيب لم يَبنْ وهو بائنٌ) (لأنك توليني الجميلَ بداهةً ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر) (فأرجعُ مغبوطاً وترجع بلتي ... لها أولٌ في المكرماتِ وآخرُ) وقول الآخر: (ولو أن لي في كلِّ منبتِ شعرةٍ ... لساناً يبثُ الشكر فيك لقصرا) وقول دعبل: (هُجرتُك لاعن جفوةٍ وملالةٍ ... ولا لقلى أبطأتُ عنك أبا بكر) (ولكنني لما أتيتك راغباً ... فأفرطتَ في برِّي عجزتُ عن الشكر) (فملآنَ لا آتيك إلا مِعذراً ... أزورُك في الشهرين يوماً أو الشهر) (فإن زدتَ في بري تزايدتُ جفوةً ... فلا نلتقي حتى القيامة والحشرِ) وقول أبي نواس: (قد قلتُ للعباسِ مُعتذراً ... من ضعف شُكريه ومعترفا) (أنتَ امرؤٌ قلدتني نعماً ... أوهت قوَى شُكري وقد ضعفا) (لا تسدينَّ إليَّ عارِفَةً ... حتى أقومَ بشكر ما سَلفا) وهو أول من أتى بهذا المعنى إلا أنه عبر عنه عبارة طويلة، وأحد أدواء الكلام فضل ألفاظه على معانيه. وقال البحتري: (هتايك أخلاقُ إسماعيل في تعبٍ ... من العلا والعلا منهن في تعبِ) (أدأبتُ شُكري فأمسي منك في نصب ... اقصر فما لي في جَدواك من أرب) (لا أقبلُ الدهرَ نيلاً لا يقومُ لهُ ... شُكري ولو كان مسديهِ إليَّ أبي) (لما سألتك وافاني نداك على ... أضعاف شكري فلم أظفر ولم أخِبِ)

وقلت في معناه: (تقاصرَ عن نداه باعُ شكري ... قصورَ الزجَ عن زلقِِ اللسانِ) (وآسى أن تطولَ بداي منهُ ... إلى ما لا يُطاوِلُهُ لساني) (كأن ندى يديه عناقُ بينٍ ... فليس يَسرُّني إلا شجاني) (لهجتُ بذكره لأبينَ عنه ... فضاقَ بوصفه ذرعَ البيان) (حناني ثقله ولو أنَّ قوساً ... تلقى منكبيّ لما حناني) (فها أنا منه مفتقرٌ وغان ... وقلبي فيه منطلقٌ وعان) وقال البحتري: (إني هجرتك إذ هجرتك وحشةً ... لا العودُ يذهبها ولا الابداءُ) (أخجلَتني بندى يديك فسوَّدتْ ... ما بيننا تلك اليدُ البيضاءُ) (وقطعتني بالجودِ حتى إنني ... متخوفٌ أن لا يكون لقاء) (صلةٌ غدتْ في الناسِ وهي قطيعةٌ ... عجباً وبرٌ راحَ وهو جفاء) (لَيُواصِلَنَّكَ ركبُ شعرٍ سائر ... يرويه فيك لحسنهِ الأعداء) (حتى يتمَّ لك الثناءُ مخلَّداً ... أبدا كما تّمت لك النّعماء) (فتظلُ تحسدَك الملوكُ الصِّيد بي ... وتظلُّ تحسُدني بكَ الشعراء) وقد أحسن ثمامة فيما كتب إلى بعضهم: قد حيرني سوء رأيك في فما أهتدي لطلب الاعتذار وأنت مولى نعمة أنا عبد شكرها فلا تفطمني من حسن رأيك فأضوي ولا تسقطني عن حيطتك فأثوي وقريب من المعنى الأول قول البحتري: (مَن مُعيني منكم على ابنِ فُراتٍ ... ومكافاةِ ما أنالَ وأسدَى) (كلما قلتُ أطلقَ الشكرُ رقي ... رجعتني لَهُ أياديه عبدا) سمعت عم أبى يقول ما سمعنا بالرضا بالقسمة والشكر أحسن من قول صالح بن مسمار: ما أدري أنعمة الله فيما بسط عليَ أفضل أم نعمته فيما زوى عني فجعل ما منعه نعمة والناس يجعلونه محنة ونقمة. وكتب بعضهم في المعنى الأول: أنا وإن كنت

ذافاقة إلى طولك فليست لي طاقة بما حملتنيه من برك وما أجد لنفسي معقلاً ولا أعرف لها متعللا إلا في الاقتداء بمن عجز عن شكر ما أولى فجبر نقيصته بالاعتراف والتقصير واعتمد من شكره على تصريف المعاذير. وكتب إلي بعض الأصدقاء وصل كتابك مقرونا بالتوقيع في معنى المعيشة فأعاد الأمل جديداً والجد سعيدا والهمة سامية تمسح وجه النجم وتقبل عارض الشمس وتمسك بعنان البدر فآذن بعمارة الجاه وتكفل برفع القدر وضمن أعلاه الأولياء وكبت الحساد وكب الأعداء إلى غير ذلك من أنس أورده وسرور جدده ووحشة صرفها وكربة كشفها، وفهمته وتأملت التوقيع فتصور لي الغناء بصورته وقابلني بصدق مخيلته وعرفت أن الدهر قد غضت جفونه ونامت عيونه وتنحت عن ساحتي خطوته وهذه نعم أعيا بذكرها فكيف أطمع في أداء شكرها بل عسى أن يكون الاعتراف بقصور الشكر عنها شكراً لها ومقابلة لما خلص إلي منها وأنا معترف بذلك اعتراف الروض بحقوق الأنواء إذا تحلى بيواقيت الأنوار ولآلئ الأنداء. وجعل جعفر بن يحيى البرمكي الشكر بإظهار حسن الحال أبلغ من الشكر بالقول. أخبرنا أبو أحمد أخبرنا المبرمان أخبرنا أبو جعفر بن القتيبي عن القتيبي قال أراد جعفر بن يحيى حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعي فدفع إلى خادم له كيساً فيه ألف دينار وقال إني سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي ثم سيحدثني ويضحكني فإذا ضحكت فضع الكيس بين يديه فلما رجع ودخل عليه فرأى حُباً مكسور الرأس وجرة مكسورة العنق وقصعة مشعبة وجفنة أعشار ورآه على مصلى بالٍ وعليه بركان أجرد فغمز غلامه أن لا يضع الكيس بين يديه فلم يدع الأصمعي شيئاً مما يضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه فما تبسم ثم خرج فقال لرجل يسايره من استرعى الذئب ظالم ومن زرع سبخة حصد الفقر إني والله لما علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل ما حفلت بنشره له باللسان وأين يقع مديح اللسان من آثار العيان إن اللسان قد يكذب والحال لا يكذب لوله در نصيب حيث يقول:

(فعادوا فأثنوا بالذي أنتَ أهلهُ ... ولو سكتوا أثنْت عليك الحقائبُ) ثم قال أعلمت أن ناس أبرويز أمدح لأبرويز من شعر زهير لآل سنان. قد أتى جعفر في هذا الفصل من المعاني بما لم يأتي به أحد قبله وشرحه شرحاً ليس مثله لأحد سواه. وقالت الحكماء لسان الحال أصدق من لسان الشكوى. وقد أجاد ابن الرومي في هذا المعنى فقال: (حال تبيحُ بما أوليتَ من حسنٍ ... وكل ما تدعيه غيرُ مردودِ) (كلي هجاءٌ وقتلي لا يحلُ لكم ... فما يداويكمُ مني سوى الجودِ) وقالوا: شهادات الأحوال أعدل من شهادات الرجال. ومما يجري في باب الشكر وهو من أبدع ما قيل في معناه ما أنشدناه أبو أحمد قال أنشدنا الصولي قال أنشدنا أحمد بن إسماعيل الخطيب لنفسه: (وإني وإنْ أحسنتُ في القولِ مرَّةً ... فمنك ومن آثارك امتار هاجسي) (تعلمتُ مما قلتهُ وفعلتهُ ... فأهديتُ غصناً من حناي لغارسي) أخذه ابن طباطبا فقال في ابن رستم الأصبهاني: (لا نفكرن اهداءَنا لك منطقاً ... منك استفدنا حُسنهُ ونظامهُ) (فالله جَلَّ وعزَّ يشكرُ فعلَ من ... يتلو عليه وَحْيَهُ وكلامه) وفي غير هذا المعنى يقول أبو تمام: (كم غارةٍ لك في المكارمِ ضخمةٍ ... غادرتَ فيها ما ملكتَ قتيلا) (فرأيتَ أكثر ما بذلتَ من اللُهى ... نزراً وأصغرَ ما شُكرتَ جزيلا) وقد أحسن ابن الرومي: (هاجرتُ عنك إلى الرجال ... فكانَ عرفهم كنكرك) (ورجعتُ من كثب إليكَ مفرغاً نفسي لشكرك) (ولما أروم بما أقل ... زيادةً في رفع ذكرك) (لكنه حق أو فيه ... عِوانَك بعدَ بِكركْ)

(كم نعمةٍ لك ملء ... فكري لا تُلاحِظها بفِكْركْ) (أحسن ما قيل في الصبر) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن ابن الرياشي عن أبيه عن الأصمعي قال قال أبو عمرو أحسن ما قيل في الصبر قول أبي خراش: (تقولُ أراهُ بعدَ عروة لاهيا ... وذلك رزءٌ لو علمت جليلُ) (فلا تحسبي أني تناسيتُ عهدهُ ... ولكنَ صبري يا أميمُ جميلُ) وبعده: (ألم تعلمي أنْ قد تفرقَ قبلنا ... خليلا صفاء مالكٌ وعقيلُ) وقال الأصمعي أحسن ما قيل فيه مع الشرح قول أبي ذؤيب: (وتجلّدي للشامتين أريهمُ ... أني لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ) (حي كأني للحوادثِ مروةٌ ... بصفا المشقر كل يوم تقرع) وقوله: (وإني صبرتُ النفسَ بعدَ ابن عنبس ... وقد لجَ من ماء الشؤون لجوجُ) (لأحسبَ جلداُ أو لينبأ شامتٌ ... وللشرِّ بعد القارعات فروج) وأجود ما قاله محدث فيه قول ابن الرومي أنشدناه أبو أحمد عن ابن المسيب رواية ابن الرومي عن أبيه الرومي: (أرى الصبرَ محموداً وفيه مذاهبُ ... فكيف إذا ما لم يكن عنهُ مذهبُ) (هناك يحقُّ الصبرُ والصبرُ واجبٌ ... وما كان منهُ كالضرورةِ أوجب) (فشدَ امرؤٌ بالصبر كفّاً فإنه ... له عصمةٌ أسبابها لا تقضبُ) (هو المهربُ المنجى لمن أحدقتْ به ... مكارِهُ دهرٍ ليس عنهنَ مهربُ) (لبوسُ جمال جنةٌ من شماتة ... شفاءُ أسى يثني به ويثوب) (فيا عجباً للشئ هذي خلالهُ ... وتاركُ ما فيه من الحظ أعجب) (وقد يتظني الناسُ أنّ أساهمُ ... وصبرهمُ فيه طباعٌ مركب) (وإنهما ليسا كشئ مصرَّفٍ ... يصرفهُ ذو نكبةٍ حين ينكبُ) (فإن شاءَ أن يأس أطاعَ له الأسى ... وإن شاء صبراً جاءهُ الصبر يجلبُ)

(وليسَ كما ظنوهما بل كلاهما ... لكل لبيبٍ مُستطاعٌ مسببُ) (يصرفه المختار منها فتارةً ... يرادُ فيأتي أو يزاد فيذهب) (إذا احتجَّ محتجٌّ على النفس لم يكد ... على قدر ما يمنى له تتعتب) (وساعدها الصبرُ الجميلُ فأقبلت ... إليها له طوعاً جنائب تجنب) (وإن هو مناها الأباطيلَ لم تزل ... تقاتلُ بالغيب القضاء فتغلب) (فتضحي جزوعاً إن أصابت مصيبة ... وتمسي هلوعاً إذ تعذر مطلب) (فلا يعذرنَّ التارك الصبر نفسه ... بأن قيل إن الصبر لا يتكسب) ومن أجود ما قيل في ذم الحقد قول ابن الرومي: (الحقد داءٌ دفينٌ لا دواء له ... يبري الصدور إذا ما جمرهُ حرثا) (فاستشفِ منه بصفحٍ أو معاتبةٍ ... فإنما يبرئ المصدورَ ما نفثا) (واجعل طلابك بالأوتار ما عظمت ... ولا تكن لصغيرِ الأمر مكترثا) ثم قال يمدحه: (وخيرُ سجيّات الرجالِ سجيةُ ... توفيكَ ما تُسدي من القرض والقرض) (وما الحقدُ إلا توأمُ الشكر في الفتى ... وبعضُ السجايا ينتسبنَ إلى بعضِ) (فحيثُ ترى حقداً على ذي اساءةٍ ... فثمَّ ترى شكراً على حسنِ القرْضِ) (ولولا الحقودُ المستكناتُ لم يكن ... لينقض وتراً آخرَ الدهرِ ذو نقضِ) وأول من مدح الحقد عبد الملك بن صالح في قوله: إن كنت تريد الحقد بقاء الخير والشر عندي إنهما الباقيان. وأجمع كلمة قيلت في الصبر قول بعضهم الصبر مظنة النصر. وقال الآخر: الصبر مطية لاتكبو وإن عنف عليه الزمان. وسمعت عم أبي يقول: الصبر شرية تثمرارية وقال: (نفرج أيام الكريهة بالصبر) وقال آخر: (وهل جزعٌ يُجدي عليَّ فأجزعُ) فجعل الصابر الصبر ضرورة لعلمه أن الجزع غير مجد. وقلت:

(قالوا صبرتَ وما صبرتُ جلادةً ... لكن لقلةِ حليتي أتصبرُ) وليس في الحيوان شئ أصبر من الحمار والجمل وذلك أنهما يحملان الحمل الثقيل على الدبر ويبلغان به الغاية البعيدة على الحفا حتى قالت العرب (أصبر من ذي ضاغط) وهو أن يضغط موضع الأبط أصل الكركرة حتى يدميه ويقولون: (أصبرُ من عودٍ بجنبيه جلبٍ ... قد أثّر البطانُ فيه والحقب) قاله حلحلة بن قيس من أشيم فصار مثلاً، وقال سعيد بن أبان بن عينية بن حصن: (أصبرُ من ذي ضاغِط مُعَرَّكِ ... ألقى بواني صدرهِ للمِبركِ) ويقولون أصبر من ضب لما هو فيه من القشف واليبس. وقالوا ميله من لا ميله له الصبر. وسمعت والدي يقول لعن الله الصبر فإن مضرته عاجلة ومنفعته آجلة وذلك أنك معجل الصبر ألم القلب لتنال المنفعة في العاقبة ولعلها تفوتك لعارض يعرض وكنت قد تعجلت الضرر من غيره أن تصل إلى نفع. فنظمته بعد ذلك وقلت: (الصبرُ عمن تحبه صبرُ ... ونفعُ من لامَ في الهوى ضررُ) (من كان دون المرادِمصطبراً ... فلستُ دون المرادِ أصطبرُ) (منفعةُ الصبرِ غيرُ عاجلةٍ ... وربما حالَ دُونها الغير) (فقم بنا نلتمسْ مآربنا ... أقامَ أو لم يقم بنا القدر) (ان لنا أنفساً تسودنا ... أعانهن الزمان أويذر) (وابغ من العيشِ ما تسرُ به ... إنْ عذَل الناس فيه أو عذروا) وقال أبو هلال أجمع كلمات سمعناها في الحلم ما سمعت عم أبي يقول الحليم ذليل عزيز وذلك أن صورة الحليم صورة الذليل الذي لا انتصار له واحتمال السفه والتغافل عنه في ظاهر الحال ذل وان لم يكن به. وقيل الحليم مطية الجهول لااحتمال جهله وتركه الانتصاف منه. وقال الأول:

(وليس يتمُ الحلمُ للمرء راضياً ... إذا كان عندَ السخطِ لا يتحلمُ) (كما لا يتمُ الجودُ للمرء موسراً ... إذا كان عندَ العسرِ لا يتكرمُ) ولهذا قال الشيخ من الأعراب وقد قيل له ما الحلم قال الذي تصبر عليه وقال الشاعر: (لن يدرك المجدَ أقوامٌ وإن كرمَوا ... حتى يذِلوا وإن عزوا اأقوام) (ويُشتَموا فترى الألوان مُسفرةً ... لا صفح ذلُ ولكن صفحَ أحلام) وسمعته يقول الحلم عقال الشر وذلك أن من سمع مكروهة فسكت عنها انقطع عنه أسبابها وإن أجاب أتصلت بأمثالها. وأنشدوا في هذا المعنى: (وتخرج نفسُ المرءِ عن وقع شتمةٍ ... ويشتمُ ألفاً بعدها ثم يَصبرُ) ولا أعرف في الحلم معنى أحسن من معنى معاوية في قوله إني لأرفع نفسي أن يكون ذنبٌ أورثه من حلمي وما غضبي على من أملك أو ما غضبي على من لا أملك. يريد إني إذا كنت مالكا للمذنب فإني قادر على الانتقام منه فلم ألزم نفسي الغضب وإن لم أكن أملكه فليس يضره غضبي فلم أغضب عليه فأضر نفسي ولا أضره. وقال الشاعر في الحلم والاغضاء عن المكروه مع القدرة على التغيير: (مغض على العوراء لو ... لا الحلمُ غيرهُ انتصارهُ) وأسمع بعضهم الشعبي فقال له إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. وهذا أعجب ما جاء في هذا الباب وأحسنه. وأجود شئ قيل في الحلم من الشعر ما أخبرنا به أبو أحمد ابن دريد أخبرنا أبو عثمان عن الأخفش قال نال رجل من الخليل بن أحمد وأسمعه فقال الخليل: (سألزم نفسي الصفحَ عن كلَ مذنبٍ ... و " ن كثرت منهُ عليَّ الجرائمُ) (وما الناسُ ألا واحدٌ من ثلاثةً ... شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم) (فأما الذي فوقي فأعرفُ فضلهُ ... وأتبعُ فيه الحقَّ والحقُّ لازم) (وأما الذي مثلي فأن زلَ أو هفا ... تفضلتُ إنَّ الفضلَ بالعزِّ حاكم) (وأما الذي دوني فأن قالَ صُنتُ عن ... إجابتهِ عرضي وإن لامَ لائمُ)

قسم هذا الشاعر ثم فسر فأحسن ولم يدع مزيداً. ومن عجيب ما روي في الحلم ما أخبرنا به أبو أحمد عن رجاله قال جيء قيس بن عاصم بابن له قتيلاً وابن أخ له كتيفا وقيل له هذا قتل ابنك فلم يقطع حديثه ولا نقض حبوته فلما فرغ من حديثه التفت إلى بعض بنيه فقال قم إلى ابن عمك فأطلقه وإلى أخيك فادفنه وإلى أم القتيل فاعطها مائة ناقة فإنها غريبة لعلها أن تسلو عنه ثم اتكأ على شقة الأيسر وقال: (إني امرؤٌ لا يعتري خُلُقي ... دَنَسٌ يغيرُهُ ولا أفنُ) (من مِنقرٍ في بيتِ مَكرُمَةٍ ... والفرعُ يَنبتُ فوقهُ الغصنُ) (خُطباءُ حينَ يقولُ قائلهم ... بيضُ الوجوهِ مصاقعُ لُسنُ) (لا يفطنونَ لعيبِ جارهمِ ... وهمُ لحفظِ جوارهم فُطنُ) ويوصف الحلم بالرزانة وأجود ما قيل في ذلك قول مروان بن أبي حفصة: (ثلاثٌ بأمثالِ الجبالِ حياهمُ ... وأحلامُهم منها لدَى الوزنِ أثقلُ) وقد ذكرناه. والعرب تسمي العلم حلماً قال المتلمس: (لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا ... وما عُلّم الإنسانُ إلا ليعلما) ومن أشرف نعوت الإنسان أن يدعى حليماً لأنه لا يدعاه حتى يكون عاقلاً وعالماً ومصطبراً محتسباً وعفواً وصافحاً ومحتملاً وكاظماً، وهذه شرائف الأخلاق وكرائم السجايا والخصال. وقد خولف هؤلاء فقيل في خلاف مذهبهم هذا أنشد المبرد: (أبا حسنٍ ما أقبحَ الجهلَ بالفتى ... وَللحلُم أحياناً من الجهلِ أقبحُ) (إذا كانَ حلمُ المرءِ عَوْنَ عدوِّهِ ... عليه فإن الجهل أعفى وأروحُ) وقال غيره: (قليلُ الأذى إلا عن القرن في الوغى ... كثيرُ الأيادي واسعُ الذرعِ بالفضلِ) (ويحلم ما لم يجلب الحلمُ ذلةً ... ويجهلُ ما شدت قوى الحلمَ بالجهل) وقال غيره:

(ترفعتُ عن شتم العشيرةِ أنني ... رأيت أبي قد كفَّ عن شتمهم قبلي) (حليمٌ إذا ما الحلمُ كان جلالةً ... وأجهلُ أحياناً إذا التمسوا جهلي) وقال غيره: (إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم) وقالوا ليس شئ خيراً من الحق إلا العفو وذلك أن عقاب المستحق للعقاب حق والعفو خير منه، ومن أحسن ما جاء فيه قول بعضهم: لو أن المسئ لي عبد لأخ لي لرأيت تغمده والصفح عنه إجلالاً لقدر مولاه وإعظاماً لحق صاحبه فأنا بالصفح عن عبد الله أولى. وفي ذم العفو قول عمارة بن عقيل: (وما ينفكُّ من سعد إلينا ... قطوعُ الرحم بادية الأديمِ) (ونغفرها كأن لم يفعلوها ... وطولُ العفوِ أدربُ للظلومِ) أجود ما قيل في المشهورة قول بشار أخبرنا أبو أحمد أخبرنا محمد بن يحيى حدثنا الغلابي حدثنا محمد بن عبد الرحمن التميمي قال دخل بشار على إبراهيم بن عبد الله ابن الحسن بن الحسين فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور ويشير برأي يستعمله في أمره فلما قتل إبراهيم خاف بشار فقلب الكنية وأظهر أنه قالها في أبي مسلم، أولها: (أبا جعفرٍ ما كلُّ عيشٍ بدائم ... وما سالمٌ عما قليلٍ بسالمِ) (على الملك الجبارِ يقتحمُ الردى ... ويصرعُهُ في المأزقِ المتلاحمِ) (كأنك لم تسمع بقتل متوّجٍ ... عظيم ولم تعلم بهلك الأعاجم) (تقسم كسرى رهطه بسيوفهم ... وأمس أبو العباسِ أحلامَ نائم) (وقد ترد الأيام عزاً وربما ... وردن كلوماً باديات الكشائم) (ومروانُ قد دارت على نفسه الردى ... لاجرامه لا بل قليل الجرائم) (وأصبحت تجري سادراً في طريقهم ... ولا تتقي أشباه تلك الفقائم) (تجردت للإسلام تعفو رسومه ... وتُعري مطايا لليوث الضراغم) (فما زلتَ حتى استنصر الدينُ أهلَه ... عليك فعاذوا بالسيوفِ الصوارم)

(لحى الله قوماً رأسوك عليهم ... وما زلَت مرؤساً خبيثَ المطاعمِ) (أقول لبسامٍ عليه جلالةٌ ... غَدَا أريحياً عاشقاً للمكارمِ) (من الفاطميين الدعاةِ إلى الهدى ... جهاراً ومن يهديك مثل ابن فاطمَ) (سراجُ لعين المستضئ وتارةً ... يكونُ ظلاماً للعدوِّ المزاحم) (إذا بلغَ الرأي المشورةَ فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم) (ولا تجعل الشورَى عليك غضاضةً ... فإن الخوافي قوةٌ للقوادم) (وما خيرُ كفٍّ أمسك الغُلُّ اختها ... وما خيرُ سيفٍ لم يؤيَّد بقائم) (وخلِّ الهوينا للضعيف ولا تكن ... نؤوماً فإنَّ الحزمَ ليس بنائم) (وحارب إذا لم تُعطَ إلا ظُلامةً ... شبا الحرب خيرٌ من قبول المظالم) هذا ما أورده أبو هلال العسكري وفي بعض الكتب زيادة في هذه القصيدة وهي: (فآذن على الشورى المقرب نفسه ... ولا تُشهدِ الشورى أمرأً غير كاتمٍ) (فإنك لا تستطردُ الهمَّ بالمنى ... ولا تبلغُ العليا بغير المكارم) (وما قارعَ الأقوامَ مثلُ مشَّيع ... أريبٍ ولا جلى العمى مثلُ عالمِ) وما خير كف البيت. قال أبو بكر فحدثني الجمحي قال سمعت المازني يقول سمعت أبا عبيدة يقول ميمية بشار هذه أحب إلي من ميميتي جرير والفرزدق. وقيل لبشار ما أحسن أبياتك في المشورة فقال المستشير بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه فقيل له هذا والله أحسن من شعرك. ومن الأفراد التي لا شيبه لها قول عبد الملك بن صالح في ذم المشورة: ما استشرت أحداً إلا تكبر علي وتصاغرت له ودخلتني لذلة فعليك بالاستبداد فإن صاحبه جليل في العيون مهيب في الصدور فإذا افتقرت إلى العقول حقرتك العيون فتضعضع شأنك ورجفت بك أركانك واستحقرك الصغير واستخف بك الكبير وما عز سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصحائه فذم المشورة كما ترى وهي ممدوحة بكل لسان. وقال رومي لفارس نحن لا نملك من يشاور فقال الفارس نحن لا نملك من

لا يشاور، وقد أجمع الناس أن الفرس أعقل من الروم. ومن أوجز ما قيل في الطمع قول بعضهم إذا طمعت مللت. ويقولون الطمع طبع، والطبع الدنس وأنشد: (لا خيرَ في طمع يدعو إلى طبعَ ... وغفةٌ من قوام العيش تكفيني) والغفة القوت وأصلها الفأرة وسميت بذلك لأنها قوت للنسور. وأنا أقول إن أول الطمع ذلة وأوسطه شقوة وآخره حسرة. وقال ثابت قطنة: (ألا ئمتى عميرة أن رأتني ... عزفت النفس عما لم ينالا) أحزم كلمة سمعناها عن العرب قولهم (إن ترد الماء بماء أكيس ... ) معناه ينبغي أن تحتفظ بما عندك حتى تصل إلى غيره ولا تلقي ما في يدك رجاء لما هو أكثر منه فلعلك لا تناله لحادث يحدث. ومثل ذلك قولهم (لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا ... ) أي لا يترك معتمداً إلا إذا وجد مثله. وأصله في الحرباء لا يترك ساق شجرة حتى يمسك بساق أخرى، قال الشاعر: (أنى أيتحَ لها حرباء تنضبة ... لا يرسل الساقَ إلا ممسكاً ساقا) أجود ما قيل في الحياء قول الخنساء: (ومخرقٌ عنه القميص تخالهُ ... بين البيوتِ من الحياءِ سقيما) (حتى إذا رفعَ اللواء رأيتَهُ ... تحت اللواءِ على الخميسِ زعيما) أخذه بعضهم وأحسن: (يشبهون سيوفاً في صرامتهم ... وطول أنظيةِ الأعناقِ والقممِ) (إذا غدا المسكُ يجري في مفارقهم ... راحوا كأنهمُ مرضى من الكرم)

وقال غيره: (كريمٌ يغضُّ الطرف فضلُ حيائه ... ويدنو وأطرافُ الرماحِ دوانِ) (وكالسيف إن لاينته لان مسهُ ... وحداه إن خاشنته خشان) وقال أبو دهبل: (نَزْرُ الكلامِ من الحياءِ تخالهُ ... صمتاً وليس بجسمه سُقمُ) (عُقِمَ النساءُ فلا يلدن شبيههُ ... إن النساءَ بمثله عقمُ) غيره: (إني كأني أرى من لا حياءَ لهُ ... ولا أمانةَ بين الناسِ عُريانا) أجود ما قيل في تفضيل الجد على العقل والاخبار بأن الحظ والعقل لا يجتمعان قول الأول: (وما لبُّ اللبيبِ بغيرِ حظٍ ... بأغنى في المعيشة من فتيلِ) (رأيتُ الحظَّ يسترُ عيبَ قومٍ ... وهيهاتَ الحظوظُ من العقولِ) والعرب تقول (اسع بجد أو دع) وأجود ما قيل في التنزه والتصون وترك السؤال قول بعضهم: السخاء أن تكون بمالك متبرعاً وعن مال غيرك متورعا. فجعل اليأس مما في أيدي الناس سخاءُ لأن النفس إذا سخت وسمحت لم تتطلع إلى مال الغير كما أنها إذا ضاقت وحرصت تاقت إلى ما ليس لها، وهو معنى حسن دقيق أخذه ابن أبي حازم فقال: (منتظر سؤالك بالعطايا ... وأفضل من عطاياه السؤال) (إذا لم يأتك المعروفُ طوعاً ... فدعهُ فالتنزه عنه مالُ) وما أحسب أني سمعت في هذا المعنى أحسن من هذا وقلت: (ألا أنَّ القناعةَ خيرُ مالٍ ... لدى كرمٍ يروحُ بغيرِ مال) (وان تصبر فإنّ الصبر أولى ... بمن عثرت به نُوَب الليالي) (تجمل إن بُليتَ بسوءِ حالٍ ... فإنَّ من التجملِ حسن حالِ) وأجود ما قيل في مضاء العزم وثبوت الرأي والفطنة من الشعر القديم قول أوس بن حجر:

(الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظن ... كأنْ قد رأى وقد سمعا) وقالت الحكماء لا ينتفع الرجل بعلمه حتى ينتفع بظنه. وكان عمر رضي الله عنه يقول إذا أنا لم أعلم ما لم أر ما علمت ما رأيت. وقلت: (أما أنك مصروفٌ إلى كلِّ راهبٍ ... وسيُبك موقوفٌ على كل راغبِ) (تباشرتِ الدنياِ بجدواك واكتفت ... فلم تتباشر بالغيوثِ الصوائب) (تبسمَ منك الدهرُ عن زائن له ... وعين عليه في اختلافِ النوائب) (بصيرٌ له دونَ العواقبِ فكرةٌ ... تكشف عن رأي وراءَ العواقب) (ليشكركَ مجدٌ لا تزال تحوطهُ ... وتحميهِ بالنصلينِ عزمِ وقاضب) (كأني إذا أمسكتُ منك بعروةٍ ... أخذت بأهدابِ الغيومِ السواكبِ) وليس في المضاء والعزيمة أجود من قول أبي تمام: (وَرَكبْ كأطراف الأسنةِ عرّسوا ... على مثلها والليلُ تسطو غياهبه) (لأمرٍ عليهم أن تتمَّ صدورُهُ ... وليس عليهم أن تتمَّ عواقبُه) مأخوذ من قول الأول: (غلام وغى تقحمها فأودى ... وخانَ بلادَهُ الزمنُ الخؤونُ) (وكان على الفتى الأقدامُ فيها ... وليس عليهِ ما جنتِ المنون) وقوله: (وقد علم الأفشينُ وهو الذي به ... يُصانُ رداء الملك من كل جانبِ) (بأنك لما استخذل الأمر واكتسى ... إهابي سيفي في وجوه التجارب) (تجللتهُ بالرأي حتى أريته ... به ملءَ عينيه مكانَ العواقبِ) (سللت له سيفين رأياً ومنصلاً ... وكلٌّ لنجمٍ في الدُّجُنَّةِ ثاقب) (وكنت متى تهزز لخطب تغشه ... ضرائب أمضى من رقاق المضارب) وقال: (وسارت به بين القنابل والقنا ... عزائمُ كانت كالقنا والقنابلِ)

ومن جيد ما قيل في كتمان السر قول الأول: (تلافت حيازيمي على قلب حازم ... كتوم لما ضمت عليه أصابعهْ) (أواخي رجالاً لستُ أطلعُ بعضهم ... على سرِّ بعضٍ ان قلبي واسعة) وقال الآخر: (سأكتمه سري وأحفظُ سرَّهُ ... ولا غرَّني أنّي عليه كريمُ) (عليمٌ فينسى أو جهولٌ يذيعهُ ... وما الناسُ إلا جاهلٌ وعليمُ) والمثل السائر: (إذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سِرَّ نفسهِ ... فصدرُ الذي يستودعُ السر أضيقُ) أحسن ما قيل في العقل ما أنشدناه أبو أحمد عن ابن دريد: (وأفضلُ قسم الله للمرءِ عقلهُ ... فليسَ منَ الخيرات شئٌ يقاربه) (إذا كملَ الرحمنُ للمرء عقلَه ... فقد كملت أخلاُقه وضرائبه) (يعيشُ الفتى بالعقل في الناسِ أنه ... على العقل يجري علمهُ وتجاربه) (ومن كان غلاباً بعقل ونجدةٍ ... فذو الجدِّ في عقل المعيشة غالبه) (يزين الفتى في الناس صحةُ عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه) (ويزري الفتى في الناس قلةُ عقله ... وإن كرُمَتْ أعراقه ومناسبه) ونحوه قول الآخر: (ولم أرَ مثلَ الفقر أوضع للفتى ... ولم أرَ مثلَ المالِ أرفع للنذلِ) (ولم أرَ من عدمِ أضرّ على الفتى ... إذا عاشَ بين الناسِ منعدم العقل) وقال سهل بن هارون: العقل راية الروح والعلم راية العقل والبيان ترجمان العلم. أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أحمد بن عبد الواحد أخبرنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال قال قُس بن ساعدة أفضل العقل معرفة الرجل بنفسه وأفضل العلم وقوف

المرء عند علمه وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه وأفضل المال ما قضيت منه الحقوق. ومن العجب أن العرب تمثلت في جميع الخصال بأقوام جعلوهم أعلى ما فيها فضربوا بها المثل إذا أرادوا المبالغة فقالوا أحلم من الأحنف ومن قيس بن عاصم وأجود من حاتم ومن كعب بن أمامة وأشجع من بسطام وأبين من سحبان وأرمى من ابن تقن وأعلم من دغفل، ولم يقولوا أعقل من فلان فلعلهم لم يستكملوا عقل أحد على حسب ما قال الأعرابي وقد قيل له حد لنا العقل فقال كيف أحده ولم أره كاملاً في أحد قط. ووصف بعضهم الحجاج بالعقل وعكس أمره آخر فوصفه بالحمق قال عتبة بن عبد الرحمن رأيت عقول الناس تتقارب إلا ما كان من عقل الحجاج بن يوسف وإياس بن معاوية، ثم قال أبو الصفدي كان الحجاج أحمق بني مدينته في بادية النبط ثم حماهم دخولها فلما رحل عنها دخلوها من قرب وقال يونس بن حبيب كان والله يفتق ولا يرتق ويخرق ولا يرفق وقال بعضهم ما دخل العراق أكثر أدباً من الحجاج فلما طال مكثه في ولايته واشتد في سلطانه وترك الناس الرد عليه فسد أدبه، وقال له عبد الملك إن الرجل لا يكون عاقلاً حتى يعرف نفسه وأمير المؤمنين يقسم عليك لتخبره، عن نفسك فقال أنا حديد حقود ذو قسوة حسود، فانتحل الشر بحذافيره وجمعه بزوبره. ومن العجب أنهم قالوا من عرف نفسه نجا وقد عرف الحجاج نفسه وهو هالك. وقالوا العاقل لا يخبر بعيب نفسه وقال بعضهم لا يعرف الرجل حقيقة ما اشتمل عليه من العيب كما أن آكل الثوم لا يجد رائحته من نفسه وقلت في ذلك: (لو تم شئ من الدنيا لذي أدب ... لا نضاف مال إلى علمي وآدابي) (قمَ جاهيَ عندَ الناسِ كلهم ... وطابَ عيشيَ في أهلي وأصحابي) (عز الكمالُ فلا يحظى بهِ أحدٌ ... فكلُ خلقٍ وان لم يدرِ ذو عاب) وقال إسماعيل بن غزوان كل علم لا يكون في مغرس عقل وبيان لا يكون في نصاب علم وخلق لا يجري على عرقه فليس له ثبات إذا احتيج إلى الثبات وقال أبو داود:

(على أعراقهِ يجري المذكى ... وليس على تكلفةِ وجهده) وقال بعض الملوك لحاجبه: أدخل عليَّ رجلاً عاقلاً فأدخل عليه رجلاً قال بم عرفت عقله قال رأيته يلبس الكتان في الصيف والقطن في الشتاء واللبيس في الحر والجديد في القر. وما قيل في علامة العاقل أعجب إلي من قول الأول: علامة العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شانه. وقال بعضهم إنما تنفع التجارب من كان عاقلاً. ومما يدخل في الباب ما أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن عبد الرحمن عن عمه قال لم يقل أحد في التفرح بالمنادمة إلى الإخوان والتسلي بمناسمة أهل الحفاظ بمثل قول بشار حيث يقول: (وأبثثتُ عُمراً بعضَ ما في جوانحي ... وجرعتهُ من مر ما أتجرعُ) (ولا بدَ من شكوى إلى ذي حفيظةٍ ... إذا جعلْت أسرارُ نفسي تطلّعُ) ومن أجود ما قيل في ترك الشئ إذا أدبر قول بعض الأعراب: (إذا ضيعتَ أولَ كلِّ أمرٍ ... أبت إعجازهٌ إلا التواء) (وإن حملتَ أمركَ كلَّ وغدٍ ... ضعيفٍ كان أمركما سواء) (وإن داويتَ دنيا بالتناسي ... وبالليان أخطأت الدواء) وقال الأعشى: (إذا حاجةٌ ولّتكَ لا تستطيعها ... فخذ طرقاً من غيرها حينَ تسبقُ) (فذلك أحرى أن تنالَ جسيمَها ... وللقصدِ أهدى في المسيرِ وألحقُ) ومن أجود ما قيل في المهابة من قديم الشعر ما ينسب إلى الفرزدق وهو لغيره في علي بن الحسين رضي الله عنهما: (يغضي حياءً ويُغضى من مهابته ... فما يكلمُ إلاّ حينَ يبتسمُ) جعله مهيباً في السكون والإغضاء ولو جعله مهيباً مع الصولة والبطش لما كان

كذلك فهو بليغ جداً. وأنشدناه أبو أحمد عن بعض رجاله لشاعر في بعض العلماء هو الأمام ملك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى: (يأبى الجوابَ فما يراجعُ هيبةً ... والسائلونَ نواكسُ الأذقانِ) (هدى التقيّ وعزُ سلطانِ النهى ... وهو المهيبُ وليس ذا سلطانِ) ومن أحسن تشبيه جاء في الهيبة قولهم (كأن على رؤوسهم الطير) وذلك أن الهائب تسكن جوارحه فكأن على رأسه طائراً يخاف طيرانه إن تحرك وقال أبو نواس: (أضمرُ في القلبِ عِتاباً لهُ ... فإن بدا أنسيتُ من هيبته) ومثل هذا في النسيب كثير وشبيهه قول الأول: (أهابكَ إجلالاً وما بك قدرةٌ ... عليَّ ولكنْ ملءُ عُين حبيبها) (وما هجرتك النفسُ أنك عندها ... قليلٌ ولا أن قل منك نصيبها) لا ترى أجود من قوله (ملءُ عين حبيبها) ولا أحسن ولا أبلغ ولعلك لا تجد لفظة تقوم مقامها، ويقولون حسن يملأ العين. وهيبة تملأ الصدر. وقال (وتملأ عين الناظر المتوسم) وقال ابن الرومي: (في قية من ولدَ المنصورِ ... أملأ للعين من البدورِ) وقال آخر: (إذا ذكَرت أمثالها تملأ الفما) وقد أجاد أبو تمام في صفة الهيبة والمخافة فقال: (ثبتُ المقامِ يرى القبيلة واحداً ... ويُرى فتحسبهُ القبيلُ قبيلا) وقال: (قد أترعْت منه الجوانحُ هُيبة ... بطلْت لديها سورةُ الأبطالِ) (لو لم يزاحفْهم لزاحفَهم لهُ ... ما في قلوبهم من الأوجال) ومثله قول ابن المعتز: (أنا جيشٌ إذا غدوتُ وحيداً ... ووحيدٌ في الجحفل الجراء)

وقلت في نحو ذلك: (قبيلكُم في العزَ يعلو قبائلاً ... وواحدكم في المجدِ يكثر معشرا) وقال الأشجع في إبراهيم بن نهيك وقد ولى المعونة: (شدَ الخطامَ بأنفِ كلِّ مخالفٍ ... حتى استقامَ له الذي لم يخطم) (لا يصلح السلطان إلا هيبةً ... تلقي البرئَ بفضلِ جرم المجرمِ) (منعت مهابتك النفوسَ حديثها ... بالشيء تكرهه وإن لم تعلم) (ونهجتَ من حزمِ السياسة منهجاً ... فهمت مذهبه الذي لم يفهم) وأبلغ من هذا كله ما أنشدناه أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد: (وأتيت حياً في الحروب محلهم ... والجيش باسم أبيهم يستهزم) بقول به الجيش يستهزم إذا ذكر فليس أبلغ منه. ومثله قول الفرزدق: (لبيكِ وكيف خيلُ ليلٍ مغيرةٌ ... تساقي الحمامَ بالرُّدينيةِ السُّمرِ) (لقُوا مثلهم فاستهزموهم بدعوة ... ودعوها وكيفا والجيادُ بهم تجري) ومثله قول الآخر: (سماؤك تمطر الذهبا ... وحربك يلتظي لهبا) (وأي كتيبة لاقتك ... لم تستحسنِ الهربا) فجعلها تستحسن الهرب إذا لاقته ولا تخشى اللائمةَ إذا فرت منه فهو غاية. ومما هو بليغ في باب المهابة قول الأشجع: (وعلى عدوك يا ابنَ عمِّ محمد ... رصدان ضوءُ الصبحُ والأظلامُ) (فإذا تنبهَ رعتهُ وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلامُ) فنقله أبو نواس إلى غزل فقال: (قاسيتُ فيهِ الهمومَ والأطما ... وصرتُ فيه بينَ الورى علما) (أكون يقظان في تذكرهِ ... حتى إذا نمتُ كانَ لي حلما)

ومما هو أبلغ من ذلك كله قول النبي & (نصرت بالرعب) وما وصف أحد هيبة صاحب السلطان إذا بدا كما وصفها البحتري في قوله: (إذا ما مشى بين الصفوفِ تقاصرت ... رؤسُ الرجالِ عن أشمّ سميدعِ) (يقومون من بُعدٍ إذا أبصروا بهِ ... لأبلج موقورِ الجلالةِ أروعِ) (ويدعونَ بالأسماءِ مثنى وموحداً ... إذا حضروا بابَ الرّواق المرفعِ) (وإن سار كفَ اللحظ عن كلِّ منظر ... سواه وغُضَّ الصوتُ عن كلِّ مَسمَعِ) (فلستَ ترى إلا إفاضةَ شاخص ... إليهِ بعينِ أو مشير بأصبعِ) وقوله: (تراءوك من أقصى السماطِ فقصروا ... خُطاهم وقد جازوا الستورَ وهم عجل) (ولما قضوا صدرَ السلامِ تهافتوا ... على يدِ بسام سجيتهُ رسلُ) (إذا أسرعوا في خطبة قطعتهمُ ... جلالةُ طلقِ الوجهِ جانبهُ السهل) (إذا نكسوا أبصارَهم من مَهابة ... ومالوا بلحظٍ خلتَ أنهم قبلُ) وقال أبو بكر الصولي وهو من البليغ: (إذا ما بدا والقومُ فوقَ سروجهم ... تناثرتِ الإشرافُ منهم على الأرضِ) وقال البحتري: (ومبجل وسطَ الرجالِ خفوفهم ... لقيامهِ وقيامهم لقعودهِ) (فالله يكلؤهُ لنا ويحوطهُ ... ويعزهُ ويزيدُ في تأييده) أبلغ ما جاء في وصف العلم قول علي رضي الله تعالى عنه: قيمة كل امرئ ما يحسنه. وشذ به بعضهم فقال: قيمة كل امرئ علمه. ولا أعرف في مدح العلم وعدَ خصاله أبلغ من كلامه رضي الله تعالى عنه خاطب به كميل بن زياد أثبته لك هنا وإن كان مشهوراً: أخبرنا أبو أحمد حدثنا الهيثم بن أحمد ابن الزيدني حدثنا علي بن حكيم الأذري حدثنا الربيع بن عبد الله المدني حدثنا عبد الله بن حسن عن محمد عن علي عن آبائه عم كميل بن زياد قال أخذ بيدي علي رضي الله تعالى عنه فلما أصحرنا قال يا كميل إن هذه القلوب أوعية وخسرها أوعاها

فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يأووا إلى ركن وثيق يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، يا كميل محبة العلم دين تدان به تكتسب به الطاعة في حياتك وجميل الأحدوثة بعد وفاتك والعلم حاكم والمال محكوم عليه، يا كميل مات خزان المال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة هاه إن ههنا لعلماً جماً لو أصبت له حملة بلى أصبت لقناً غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا فيستظهر بحجج الله على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحق لا بصيرة له في أجنائة فيقدح الشك في قلبه عند أول عارض من شبهه، أو لا ذا ولاذا فمنهم باللذات سلس القياد للشهوات ومغرم بالجمع والادخار ليس من رعاة الدين أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة إما ظاهر وإما خائف لئلا تبطل حجة الله وتبيانه وكم وأين أولئك الأقلون عدداً الأعظمون قدراً بهم يحفظ الله تعالى حججه حتى يودعوها أسماع نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقائق الأمور فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعده المترفون وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، يا كميل أولئك أولياء الله من خلقه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه هاه شوقاً إلى رؤيتهم. ومما حث به على تحفظ العلوم قول بعض الأوائل: خير العلم ما إذا غرقت بسفينتك سبح معك، وقال الخليل: (افخر وكاثر بالقريحة ... إنها فخرُ المكاثر) (وأعلم بأنَّ العلمَ ما ... أوعيتَ في صحف الضمائر) وقال أبو هلال رحمه الله تعالى لو قال (ما ضمنته صحف الضمائر) كان

أجود، وقال غيره: (استودعَ العلم قرطاساً فضيعهُ ... وبئس مستودعُ العلمِ القراطيسُ) وقلت: (تقل غناء عن جهولٍ مغمر ... دفاتر تلقى في الظروفِ وترفع) (تروح وتغدو عنده لا في مضيعةٍ ... وكائن رأينا من نفيسٍ يضيع) ومن المختار في طلاقة اللسان قول الآخر: (إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ ولم يثن اللسانَ على هُجر) (يصرفُ بالقولِ اللسانَ كما انتحى ... وينظرُ في اعطافهِ نظرَ الصقر) ونحوه: (لا خيرَ في حشوِ الكلام ... إذا اهتديتَ إلى عيوبه) وأجود ما قيل في إقامة الإعراب وترك التغيير ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي: (ويعجبني زيُّ الفتى وجمالهُ ... ويسقط من عينيَّ ساعةَ يلحنُ) (على أن للأعرابِ حداً ورُبما ... سمعت من الأعراب ما ليس يحسنُ) (ولا خيرَ في اللفظ الكريه استماعه ... ولا في قبيح اللحن والقصدُ أزينُ) سمعت أبا أحمد يقول أحسن ما سمعت في السؤال قول عبد الله بن العباس وقد سئل بم أدركت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب وعقول. ثم أخبرنا قال أخبرنا الحسن بن علي بن عاصم ثنا الهيثم بن عبد الله حدثنا علي بن موسى الرضى حدثني أبي حدثني أبو جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهم قال قال رسول الله & (العلم خزائن مفتاحها السؤال فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة السائل والمستمع والعالم والمحب لهم) وأجود ما جاء في السؤال من الشعر ما أنشدناه أبو أحمد أنشدنا ابن الأنباري عن أبيه: (شفاء العيِّ في طولِ السؤالِ ... وعدلك في المقالِ وفي الفعالِ) (وبحثك في الأمورِ عن المعاني ... وتخريج المقالِ من المقالِ) (وقولك بالصواب إذا أنارت ... شواهدهُ ورفضك للجدال) (وصمُتك حينَ تسمعُ من حكيم ... ليفهمك الصحيحَ من المحال)

وأجود ما قيل في صفة اللسان وأتمه ما أخبرنا به أبو أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد قال أحمد بن عيسى العكلي حدثنا الخليل عن عبد الله بن صالح بن مسلم القاضي قال قال بعض الحكماء لابنه يا بني اللسان أداة يظهر بها البيان وشاهد يخبر عن الضمير وحاكم يفصل به الخطاب وناطق يرد به الجواب وشافع تدرك به الحاجة ومعز يرد الأحزان وواعظ ينهى عن القبيح ومزين يدعو إلى الحسن وزارع يحرث المودة وحاصد يذهب بالضغين وملهٍ يوقف الأسماع ألا ترى أن الله تعالى رفع درجة اللسان بأن أنطقه بالتوحيد وليس شئ من الجوارح ينطق به غيره. ومن أجود ما أحتج به للكلام ما أخبرنا به أبو أحمد حدثني أبي حدثنا أحمد ابن أبي طاهر حدثنا أبو تمام قال تذاكرنا الكلام في مجلس سعيد بن عبد العزيز التنوخي وحسنه والصمت ونبله فقال سعيد ليس النجم كالقمر إنك إنما تمدح السكوت بالكلام ولا تمدح الكلام بالسكوت وما أنبأ عن شئ فهو أكبر منه. ومثله ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن أحمد حدثنا أبو تمام حدثنا أبو عبد الرحمن الأموي قال ذكر الكلام في مجلس سليمان بن عبد الملك فذمه أهل المجلس فقال سليمان كلا إن من تكلم فأحسن قدر أن يسكت فيحسن وليس كل من سكت فأحسن قدر أن يتكلم فيحسن. ومن أجود ما أحتج به للصمت ما أخبرنا به أبو أحمد أخبرنا أبي أخبرنا أحمد بن أبي طاهر حدثنا حبيب بن أوس حدثني عمرو بن هاشم البيروتي قال تحدثنا بباب الأوزاعي وفينا أعرابي من بني عليم بن جناب لا يتكلم فقيل له بحق ما سميتم خرس العرب ألا تتحدث مع القوم فقال إن الحظ للمرء في أذنه وإن الحظ في لسانه لغيره وإنما جعل للمرء أذنان ولسان ليكون استماعه ضعف كلامه. قال فحدثنا الأوزاعي فقال والله لقد حدثكم فأحسن. وقد سوى بعضهم بين الصمت والكلام فحدثني أبو أحمد عن أبيه عن أحمد بن أبي طاهر عن أبي تمام حدثني يحيى بن إسماعيل الأموي حدثني إسماعيل

وهو من أجمع ما مدح به البيان: حدثنا أبو القاسم عبد الوهاب بن إبراهيم أخبرنا أبو بكر أحمد بن حماد العقدي أخبرنا أبو جعفر أحمد بن الحارث الخزاز أخبرنا المدائني قال قال أبو الحسن بن مسلم بن محارب بن مسلم بن زياد عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله

ابن عبيد الله قال قال جدي: الصمت منام العاقل والنطق يقظته ولا منام إلا بيقظة ولا يقظة إلا بمنام. قال أبو هلال: وأنا أقول الصمت يورث الحبسة والحصر وإن اللسان كلما قلب وأدير بالقول كان أطلق له: أخبرني بعض أصحابنا قال ناطقت فتى من بعض أهل القرى فوجدته ذليق اللسان فقلت له من أين لك هذه الذلاقة قال كنت أعمد كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ فأقرأها برفع صوت فلم أجر على ذلك مدة حتى صرت إلى ما ترى. وسمى البيان سحراً لدقة مسلكه وأول من نطق به رسول الله وهو من أجمع ما مدح به البيان: حدثنا أبو القاسم عبد الوهاب بن إبراهيم أخبرنا أبو بكر أحمد بن حماد العقدي أخبرنا أبو جعفر أحمد بن الحارث الخزاز أخبرنا المدائني قال قال أبو الحسن بن مسلم بن محارب بن مسلم بن زياد عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله قال لعمرو بن الأهتم أخبرني عن الزبرقان بن بدر فقال مطاع في أذنيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه حسدني. فقال عمرو أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الوالد لئيم الخال وما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى رضيت فقلت أحسن ما أعلم وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم فقال رسول الله إن من البيان لسحرا وان من الشعر لحكمة وانما تعجب رسول الله من نقضه وإبرامه في حال واحدة ومثل هذا من البلاغة أصعب مراماً وأعجز مطلباً وقد أشبعنا القول فيه في كتاب صنعة الكلام. ومما يدخل في بابه ما أخبرنا به أبو أحمد أخبرنا الصولي حدثني الطيب بن محمد الباهلي قال موسى بن سعيد بن مسلم عن أحمد بن يوسف الكاتب قال دخل خالد بن صفوان التميمي على أبي العباس السفاح وعنده أخواله من بني الحارث بن كعب فقال له ما تقول في أخوالي قال هم هامة الشرف وخرطوم الكرم وغرس الجود إن فيهم لخصالاً ما اجتمعت في غيرهم من قومهم إنهم لأطولهم أمماً وأكرمهم

شيماً وأطعمهم طعماً وأوفاهم ذمماً وأبعدهم همماً هم الجمرة في الحرب والرفد في الجدب والرأس في الخطب وغيرهم بمنزلة العجب. فقال لقد وصفت أبا صفوان فأحسنت فزاد أخواله في الفخر فغضب أبو العباس لأعمامه فقال أفخر يا خالد فقال أعلى أخوال أمير المؤمنين فقال نعم وأنت من أعمامه فقال وكيف أفاخر أقواماً هم من بين ناسج برد وسائس قرد ودابغ جلد دل عليهم الهدهد وغرقتهم الفأرة وملكتهم امرأة. فأشرق وجه أبي العباس وجعل يضحك. قال وحدثني ابن المزرع قال سمعت عمرو بن بحر الجاحظ وقد ذكر كلام خالد هذا يقول والله لو نفكر في جمع معايبهم واختصار اللفظ في مثاليهم بعد ذلك المدح المهذب سنة لكان قليلاً فكيف على بديهٍ لم يرض فكراً. وأجود ما قيل في كراهة المزاح قولهم إن المزاح هو السباب الأصغر، وقيل المزاح سباب النوكى. وأجود ما قيل في تخوف عاقبته قول أبي نواس: (إنه نار وقدحُ القادحِ وأيّ جدٍ بلغ المازحُ) ومثله: (صارَ جداً ما فرحت به ... ربَ جدٍ جرهُ لعبُ) وقلت: (عضبت للمزح ولم تنظر في موقعهِ ... المزح في موضعهِ كالجدِّ في موضعهِ) أجود ما قيل في التضافر والتعاون قول قيس بن عاصم المنقري يوصي ولده وقومه وجدت في كتاب غير مسموع لما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة وعاينته وقال يا بني أوصيكم بتقوى الله وليعطف الكبير منكم على الصغير ولا يجهل الصغير حق الكبير وأكرموا مسلمة بن عبد الملك فإنه نابكم الذي عنه تعبرون ومجنكم الذي به تستجيرون ولا تقطعوا من دونه رأياً ولا تعصوا له أمراً، وأكرموا الحجاج بن يوسف فإنه الذي وطأ لكم المغابر وذلل لكم قارب العرب وعليكم بالتعاون والتضافر وإياكم والتقاطع والتدابر. فقال قبس بن عاصم لبنيه: (بصلاح ذاتِ البينِ طولُ بقائكم ... إن مُد في عمري وإن لم يُمددِ) (حتى تلين جلدوكم وقلوبكم ... لمسوَّد منكم وغير مسوَّد)

(إن القداحَ إذا جُمعن] َ فرامها ... بالكسر ذو حَنق وبطش أيّدِ) (عزت ولمُ تُكسر وإن هيَ بُددَتْ ... فالوهنُ والتكسيرُ للمتبدد) ثم قام علي بن خالد بن يزيد بن معاوية وخالد بن عبد الله بن أسيد فقال لهما قد حضر من الأمر ماتريان فإن كان في نفوسكما شئ من بيعه الوليد نزعتماه قال وجعلتما الأمر حيث شئتما قالا بل رضينا أكمل الناس لها وأقواهم عليها قال أما والله لو غيرها قلتما لمتا قبلي ثم رفع طرف فراشه فإذا تحته سيف مجرد فقال للوليد لا أعرفنك إذا أنامت تعصر عينيك وتمسحها نعل الأمة الوعكاء شمر وابرزو اللبس جلد النسر وادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا. ثم لم يزل متمثلاً بقول الشاعر: (وهل من خالد أما هلكنا ... وهل بالموتِ يا للناسِ عار) ثم قال الحمد لله الذي لا يبالي أصغير هلك في ملكه أم كبير ثم قضى. فقال هشام ابن عبد الملك: (وما كان قيسٌ هلكهُ هلك واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قومٍ تهدما) فسمعها الوليد فتطير منها فرفع يده فلطمه وقال إنك أعور مشؤوم هلا قلت كما قال التميمي: (إذا سيدٌ منا ذرا حدُ نابه ... تخمط فينا نابُ آخر مقرمِ) فسمع مسلمة الصيحة فقال ذروا الصياح فإنكم إن استقمتم استقام الناس وإن اختلفتم اختفلوا. أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال كان عبد الملك بن مروان ذات ليلة في سمره مع ولده وأهل بيته وخاصته فقال ليقل كل واحد منكم أحسن ما قيل من الشعر وليفضل من رأى من الشعراء تفضيله فأنشدوا وفضلوا فقال بعضهم أمرؤ القيس وقال بعضهم النابغة وقال بعضهم الأعشى، ولما فرغوا قال أشعر والله من هؤلاء جميعاً عندي الذي يقول:

(المعروف كاسمه) أخبرني عم أبي عن أبيه قال قال العتابي كنت واقفا بباب المأمون أنتظر من يستأذنه لي فأقبل يحيى بن أكتم فقمت إليه فقلت أستأذن لي على أمير المؤمنين فقال لست بحاجب فقلت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان قال سلكت بي غير سبيلي قلت ان الله قد أتحفك بجاه وهو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت وبالنقصان إن كفرت وأنا لك منذ اليوم أنفع منك لنفسك أدعو إلى زيادة نعمتك وتأبى على ولكل شئ زكاة وزكاة الجاه رفد المستعين وقد قال رسول الله

(وذي رحمٍ قلمتُ أظفارَ ضغنهِ ... بحلميَ عنهُ وهو ليس لهُ حلمُ) (إذا سمتهُ وصلَ القرابةِ سامني ... قطيعتها تلك السفاهةُ والظِلمُ) (وأسعى لكي أبني صالحي ... وليس الذي بيني كمن شأنهُ الهدمُ) (يحاولُ رغمي لا يحاولُ غيرَهُ ... وكالموتِ عندي أن يحل به رغمُ) (فإن أنتصر منهُ أكن مثلَ رائش ... سهامَ عدوٍ يستهاضُ بها العظمُ) (وبادرت منه النأي والمرءُ قادرٌ ... على سهمهِ ما دامَ في كفهِ السهم) (فإن أعفُ عنهُ أغض جفناً على القذى ... وليس لهُ بالصفحِ عن ذنبهِ علم) (حفظتُ الذي قد كان بيني وبينهُ ... وهل يستوي حربُ الأقاربِ والسلم) (فما زلتُ في لِين لهُ وتعطفٍ ... عليهِ كما تحنو على الولدِ الأمُ) (لأستلَ منهُ الضغنَ حتى سللته ... وإن كان ذا ضغنٍ يضيقُ به الحزم) فقالوا يا أمير المؤمنين من قائل هذه الأبيات فما أحسنها وأرضاها قال معن ابن أوس المزني. ومن أجمع ما قيل في المعروف قول النبي (المعروف كاسمه) أخبرني عم أبي عن أبيه قال قال العتابي كنت واقفاً بباب المأمون أنتظر من يستأذنه لي فأقبل يحيى بن أكتم فقمت إليه فقلت أستأذن لي على أمير المؤمنين فقال لست بحاجب فقلت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان قال سلكت بي غير سبيلي قلت ان الله قد أتحفك بجاه وهو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت وبالنقصان إن كفرت وأنا لك منذ اليوم أنفع منك لنفسك أدعو إلى زيادة نعمتك وتأبى على ولكل شئ زكاة وزكاة الجاه رفد المستعين وقد قال رسول الله (أفضلُ المعروف فضل جاهكَ تعود به على من لا جاهَ له) فقعدت ودخل فما لبث ان خرج الحاجب يسأل عني فدخلت فقال حدثنا أبو نصر التمار عن سفيان بن عيينة عن ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله & علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وجعفر الطيار وعمر بن الخطاب

رضي الله تعالى عنهم أجمعين فتذاكروا المعروف فقال علي: المعروف حصن من الحصون وكنز من كنوز فلا يزهدنك فيه كفر من كفره فقد يشكر الشاكر ما أضاعه جحود الكافر. وقال العباس: المعروف أفضل الأمور وأوثق الحصون ولايتم إلا بثلاثة تعجليه وتصغيره وستره فإذا عجلته هنأته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته تمته إن بأهل المعروف من الرغبة أكثر مما بأهل الحاجة إليهم وبيان ذلك أن لهم ذكره وسناه وفخره فمهما أتيت من معروف فإنما أتيته لنفسك. وقال عمر إن لكل شئ أنفاً وأنف المعروف السراح. فخرج عليهم رسول الله & فقال (فيم أنتم) فقالوا نتذاكر المعروف فقال عليه الصلاة والسلام (المعروف كاسمه وأولُ من يدخل الجنة المعروف وأهلهُ) . ومن أجود ما قيل في بذل المعروف وإن كان قليلاً ما أخبرنا به أبو أحمد عن الجوهري عن المنقري عن الأصمعي عن بعض العباسيين قال كتب كلثوم بن عمرو إلى رجل في حاجة: بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه وجنته. أما بعد فإنك كنت روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس بها وتستريح القلوب إليها وكنا نعفيها من النجعة استتمتماً لزهرتها وشفقة على نظرتها وادخاراً لثمرتها حتى مرت بنا في سفرتنا هذه سنة كانت قطعة من سني يوسف اشتد علينا كلبها واخلفتنا غيومها وكذبتنا بروقها وفقدنا صالح الإخوان فيها فانتجعتك وأنا بانتجاعي بك كثير الشفقة عليك مع علمي بأنك نعم موضع الزاد واعلم بأن الكريم إذا استحى من إعطاء القليل ولم يحقر الكثير لم يعرف جوده ولم تظهر همته وأنا أقول في ذلك: (ظلُّ اليسارِ على العباسِ محدودُ ... وقلبهُ أبداً بالبخلِ معقودُ) (إنَّ الكريمَ ليخفي عنك عسرتهُ ... حتى تراه غنياً وهو مجهود) (وللبخيل على أمواله عللٌ ... رزقُ العيونِ عليها أوجهٌ سود) (إذا تكرهت أن تعطي القليلَ ولم ... تقارب على سعةٍ لم يظهر الجود)

(بثَ النوالَ ولا يمنعك قلتهُ ... فكل ما سدَ فقراً فهو محمودُ) قال فشاطره ماله حتى بعث إليه قيمة نصف خاتمه وفرد نعله. ومن مليح ما جاء في هذا المعنى قول ابن الرومي: (أبا عمروٍ لك المثلُ المعلّى ... وجدُ عدوَّك التربُ الذليلُ) (رأيتُ المطلَ ميداناً طويلاً ... يروضُ طباعهُ فيهِ البخيلُ) (فما هذا المطالُ فدتك نفسي ... وباعُكَ بالندَى باعٌ طويل) (أظنك حينَ تقدرُ لي نوالاً ... يقلُ لديك لي منهُ الجزيلُ) (فلا تقدرْ بقدركَ لي نوالاً ... ولا قدري فيحقرُ ما تنيلُ) (وأطلِقْ ما تهمُّ بهِ عساهُ ... كفافي أيها الرجلُ النبيلُ) (وإلا فالسلامُ عليم مِنّي ... نبتْ دارٌ فأسرعَ بيَ الرحيلُ) (إذا ضاقت على أملٍ بلادٌ ... فما سُدَّتْ على عزمٍ سبيلُ) وقال غيره: (وما الجودُ عن فقرِ الرجالِ ولا الغنى ... ولكنهُ خيمُ الرجال وخيرُها) ومن عجيب المعاني في عظم السؤال وموازنته للنوال بل رجاحته عليه ما أخبرنا به أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد قال دخل كوثر بن زفر بن الحارث الكلابي على يزيد بن المهلب فقال له أيها الأمير أنت أعظم قدراً من أن تستعان أو يستعان عليك وليس تفعل من المعروف شيئاً ألا وهو يصغر دونك وأنت أكبر منه وليس العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل. فقال سل حاجتك قال حملت عشر ديات وقد بهظتني فقال قد أمرت لك بها وشفعتها لك بمثلها فقال أما ما سألتك بوجهي فأقبله منك وأما ما أبتدأتني به فلا حاجة لي فيه. قال ولم وقد كفيتك مؤنة السؤال؟ قال أني رأيت الذي أخذت مني بمسألتي إياك بوجهي أكثر مما نالني من عرفك وكرهت الفضل على نفسي. فقال له يزيد أسألك بحقك علي لما رأيتني أهله من إنزال الحاجة بي إلا قبلتها فقبلها.

وسأل العتابي رجلاً فحصر وأقل فقيل له قد أقللت فقال وكيف لا أقل ومعي ذل المسألة وحيرة الطلب وخضوع الهيبة وخوف الرد. وقيل لآخر متى يكون البليغ عيباً قال إذا سأل حاجة لنفسه. وقال أحمد بن أبي خالد الأحول: ما استكثرت بذلاً بذلته قط لأني أرى الأجر والشكر أكثر منه ولا استصغرت معروفاً قط لأني أراه أكبر من تركه. ومن جيد ما قيل في الترغيب في المعروف قول الأول: (فإنك لا تدري إذا جاءَ سائلٌ ... أأنتَ بما تعطيهِ أم هو أسعدُ) (عسى سائلٌ ذو حاجةٍ ان منعتهُ ... من اليومِ سؤلاً أن يكون لهُ غدُ) هذا آخر كتاب الخصال والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بصرنا سبل الحمد ووفقنا على طرق الذم لنضع كلاً منهما في موضعه ونستعمله في حينه ونلحقه بمستحقه إذ ذكر من أحبه فقال {نعم العبد إنه أواب} ووصف من مقته فقال {همازٍ مشاءٍ بنميم مناعٍ للخير معتدٍ أثيم عتلٍ بعد ذلك زنيم} فذم قوله وفعله وعاب شيمته وخلقه وهتك بالشتم عرضه وسود بالذم وجهه جزاءً بما اكتسب من ذميم الفعال ووفقاً لما أطلقه من اسم المقال نكالاً من الله والله عزيز حكيم. وصلى الله على نبيه محمد البشير النذير الداعي إلى الله باذنه والسراج المنير وعلى آله الطيبين وعترته.

هذا كتاب المبالغة

(هذا كتاب المبالغة) في المعاتبات والهجاء والاعتذار وهو (الباب الثالث من كتاب ديوان المعاني) وهو يشتمل على ثلاثة فصول 3 - (الفصل الأول في المعاتبات) فمن أوائل ذلك ما أخبرنا به أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال قال عليه الصلاة والسلام لطلحة حين رأى تلونه عليه (فِراقٌ جميلٌ خيرٌ من صحبةٍ على دَخنْ) والدخن والدخل الفساد والمدخول الفاسد وقد دخل فسد، وروي (على دخل) ومن قديم ما جاء في ذلك قول أبي ذؤيب: (تُريدينَ كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يُجمعُ السيفانِ ويحك في غمدِ) يقول لأم عمرو امرأة من هذيل وكان رجل منهم يقال له وهب بن عمرو وقيل وهب بن جابر هويها فامتنعت عليه فخرج يوماً يتصيد فختل ظبية فلما أخذها أنشد: (فما لك يا شبيهةَ أمِّ عمروٍ ... إذا عاينتنا لا تأمنينا) (فعينُك عينُها إذ تنظرينا ... وجيدُك جيدُها لو تنطقينا) (وساقك ساقها ولأمَ عمروٍ ... خدلّجةٌ يضيقُ بها البرينا) (ورأسُك أزعر ولأمِّ عمروٍ ... غدائر يتعفرن وينثنينا) ثم خلا منها فبلغ ذلك أم عمرو فواصلته وكان رسوله إليها أبو ذؤيب فلما أينع وترعرع رغبت إليه واطرحت وهباً وخشي أبو ذؤيب الفضيحة فقصر عنها

وجعل يرسل إليها خالد بن إبراهيم فلم تلبث أن علقت خالداً وتركت أبا ذؤيب فجعل أبو ذؤيب يعاتب خالداً، مثل قوله: (فنفسكَ فاحفظها ولا تبدِ للعدى ... من السرَ ما يُطوَى عليهِ ضميرُها) (رعى خالدٌ سرِّي لياليَ نفسهُ ... توالى على قصدٍ السبيلِ أمورها) (فلما تراماهُ الشبابُ وغيهُ ... وفي النفس منهُ غَدرة ونحورها) (لوى رأسهُ عني ومال بودهِ ... أغانيجُ خَوْدٍ كان فينا يزورها) (تعلقهُ منها دلالٌ ومقلةٌ ... تظلُ لأصحاب الشقاءِ تُديرها) (وما أنفسُ الفتيانِ إلا قرائنُ ... تبينُ ويبقى هامُها وقبورُها) فأجابه خالد: (لا يبعدن اللهُ حلمك إذ غزا ... وسافرَ والأحلام جمٌ عثورُها) (لعلك إما أمُ عمرو تبدلت ... سواك خليلاً شاتمي تستخيرها) (فلا تجزعن من سنةٍ أنت سرتها ... فأول راضيُ سنة من يسيرها) وهذا جواب لا نرى أقطع منه لأنه ذكر أنه إنما جوزي بمثل فعله: (فإن التي فينا زعمتَ ومثلها ... لفيك ولكني أراك تجوزُها)

(ألم تتنقذها من ابنِ عُويمر ... وأنت صَفيُ نفسه وسجيرُها) (فان يك يشكو من قريب مخانة ... فتلك الجوازي عَقبها ونُصورها) وفيه يقول أبو ذؤيب: (يُرى ناصحاً فيما بدا فإذا خلا ... فذلك سكينٌ على الحلقِ حاذقُ) ثم إن وهباً بعث ابنه عمراً فوهب لها ذات يده فواصلته وكان لعمرو علانيتها ولخالد سرها فجاء خالد ليلاً وعمرو معها على شراب فقتله وهرب فبلغ الخبر وهباً فركب في جمع فتبعوه حتى لحقوه فقتلوه فقال أبو ذؤيب يرثيه: (لعمرو أبي الطيرِ المرية غدوة ... على خالدٍ أن قد وقعنَ على لحمِ) (كليه وربي لن تعودي بمثله ... عشيةَ لاقته المنيةُ بالردم) (فإنك لو أبصرتِ مصرعَ خالدٍ ... بجنب الستارَ بين أظلم فالحزم) (علمت بأن الناب ليس رزية ... ولا البكر لا ضمت يداك على غنم) (ضَروب لهاماتِ الرجالِ بسيفهِ ... إذا التفتِ الأبطالُ مجتمعَ الحزمِ) ومن قديم العتاب الممزوج بالشكوى قول جميل: (لحى اللهُ من لا ينفعُ الودُ عندهُ ... ومن حبلهُ إن مدَ غير متينِ) (ومن هو إن تحدث له العينُ نظرةً ... تقصب لها أسباب كل قرين) (ومن هو ذو لونينِ ليس بدائم ... على العهدِ خوانٌ لكل أمين) (ومن هو عند العينِ أما لقاؤهُ ... فحلوٌ وأما غيبهُ فظنون) وكتب بعض الكتاب: لو كنت أعلم أنك تعبت إذا عاتبتك سلكت في ذلك مذهباً لا أبلغ فيه القصوى ولا اقتصر على الأدنى ولا أخليتك من الاستزادة في غير شكوى والتعريف في غير تعنيف والاحتجاج في غير تنكيت ولا توقيف ولكن شر القول ما لا يسمع وليس لقائله فيه منتفع وأشبه البر بالعقوق ما استكرهت

عليه النفوس، وقد قال الشاعر: (وليس بمغن في المودةِ شافعٌ ... إذا لم يكن بينَ الضلوعِ شفيعُ) وكتب الكرخي: قد واصلت أياماً تباعاً غدواً إليك ورواحا حتى ملني البكور وسئمني التهجير وشكاني الطريق ولحاني الصديق في كل ذلك أعاق بالحجاب وتستقبلني ردة البواب: (ولا خيرَ في ود امرئ متكارهٍ ... عليك ولا في صاحبٍ لا توافقُه) وهذا ذرء عتاب جاش به الصدر وضاق عن كتمانة الصبر فإن عطفك حفاظ فأهل الفضل والبر أنت وإلا فإني على العهد الذي كان بيننا ولا أقول كما قيل: (فما ملني الإنسانُ إلا مللتهُ ... ولا فاتني شئٌ فظلت له أبكي) ولا أقول كما قيل: (وإني على عهدِ الأخلاءِ دائم ... ولستُ إذا مالَ الصديقُ على حرفِ) (إذا أنا لم أصفح وأغضض على القذى ... فلا انبسطتُ في الحادثاتِ إذاً كفى) ومن ألطف الكلام قول بعض الكتاب: أنفذ إلي أبو فلان كتاباً منك فيه ذرء عتاب كان أحلى عندي من تعريسة الفجر وألذ من الزلال العذب فلك العتبي ولبيك وسعديك داعياً مستجاباً له وعاتباً معتذراً إليه ولو شئت مع ذلك أن أقول إن العتب عليك أوجب والاعتذار لك ألزم لقلت ولكني أسامحك ولا أشاحك وأسلم لك ولا رادك لأن أفعالك عندي مرضية وشيمك لدي مقبولة ولولا أن للحجة موقعها لقصرت العنان عما أجريت إليه من هذا العتاب وكففت اللسان عما أطلقته فيه من مر هذا الخطاب وقلت: (إذا مرضتم أتيناكم نعودكمُ ... وتذنبونَ فنأتيكم ونعتذرُ) ولا ترى كلاماً ألطف من هذا ولا أحسن في معناه. وكتب بعضهم لست أقتضى الوفاء بكثرة الالحاح فأثقل عليك ولا أقابل الجفاء يترك العتاب فأغتنم

القطيعة منك والمثل السائر (ويبقى الود ما بقي العتاب) . وقلت: (أمنعاً إذا جئتكمْ أستعيرُ ... فكيفَ إذا جئتُ أستوهبُ) (ومثلي إذا كان في معشرٍ ... فللعزَ عندهمُ منكب) (يُقرب مثلي إذا ما نأى ... ويكرمُ مثلي إذا يقرب) (عتبتك للودَ لا للقلى ... وواصلْ صديقاً ما تعتب) ومما يجري مع هذا الباب قول الآخر: (إذا رأيتُ أزوراراً من أخي ثقةٍ ... ضاقتْ عليَ برحبِ الأرضِ أوطاني) (فإن صَدَدتُ بوجهي كي أكافئهُ ... فالعينُ غضبى وقلبي غيرُ غضبانِ) وقد أحسن العباس بن الأحنف في وقوله: (كنا نعاتبكم لياليَ عودكم ... حلو المذاقِ وفيكمُ مستعتبُ) (فالآن إذ ظهرَ التعتبُ منكمُ ... ذهبَ العتابُ وليس عنكم مذهب) ومن مشهور العتاب قولهم: (طال المطالُ فلا خلودَ فحاجةٌ ... مقضيةُ أو برٌ ينفعُ) (واعلمْ بأني لا أسرُ بحاجة ... إلا وفي عمري بها مستمتع) ومن جيد المعاتبات قولُ أبي تمام في أبي دُلف: (يا أيها الملكُ النائي بغرتهِ ... وجودهُ لمرجِّي جودِه كثبُ) (ليس الحجابُ بمقصٍ عنك لي أملاً ... إن السماء تُرجى حين تحتجب) (ما دونَ بابك لي بابٌ ألوذُ به ... وما وراءَك لي مثوَىً ومطلبُ) وقوله في أبي سعيد: (لعمرك لليأسُ غيرُ المريثِ ... خيرُ من الطمع الكاذبِ) (وللريبُ تحصره بالنجاحِ ... خيرٌ من الأملِ الخائب) وقال يعاتب موسى بن إبراهيم الرافعي في ضنه عنه بجاهه:

(سأقطع أرسانَ العتابِ بمنطق ... قصيرُ عناءِ الفكر فيهِ يطولُ) (وانَّ امرأ ضنت يداهُ على امرئٍ ... بنيلِ يدٍ من غيرهِ لبخيل) أخذه من قول مسلم: (وأحببتُ من حبها الباخلينَ ... حتى رمقتُ ابن سلم سعيدا) (إذا سئل عرفاً كسا وجهه ... ثياباً من البخل صفراًُ وسودا) (يغارُ على المالِ فعلَ الجوادِ ... وتأبى خلائقه أن يسودا) وقول أبي تمام: (لآل وهبٍ أكفٌ كلما اجتديتْ ... فعلنَ في المحلِ ما لم تفعل الديمُ) (قومٌ تراهم غيارَى دونُ مجدهم ... حتى كأنَّ المعالي عندهم عرمُ) ومنها: (دنيا ولكنها دنيا سَتنصرم ... وآخرُ الحيوانِ الموتُ والهرمُ) ومنها: (فلا تقل قدمٌ أزرى ببهجتهِ ... لبس العلا طللا يزري به القدمُ) وقد أحسن ابن الرومي وأجاد في قوله لقوم إستعان بهم فأعانوا خصمه: (تخذتكم درعاً وترساً لتدفعوا ... نِبالَ العدى عني فكنتم نصالها) (وقد كنت أرجو منكم خيرَ ناصر ... على حين خذلانِ اليمين شمالها) (فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي ... ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها) (قفوا موقفَ المعذور مني بمنزلٍ ... وخلوا نبالي للعدى ونبالها) (هي النفسُ إما أن تعيشَ عزيزةً ... وإلا فغنمٌ أن تزولَ زوالها) (عفاءٌ على ذكر الحياة إذا حمت ... على المرءِ إلا رفقها وسمالها) وهذا مثل قوله أيضاً: (عفاءٌ على الدنيا إذا مستحقها ... بغاها ولن يرجى لديه منوعها) وسأل بعض الرؤساء أن يكتب له كتاباً إلى رئيس فقال: (أتبخلُ بالقرطاسِ والخطِ عن أخ ... وكفاكَ أندى في العطايا من المزنِ)

(فلا يكن المبذول للوم سمعه ... وقرطاسهُ بينَ الصيانةِ والخزن) وهي طويلة. وقال جحظة يعاتب على شدة الحجاب: (الله يعلمُ أنني لكَ شاكرُ ... والحرُ للفعلِ الجميلِ شكورُ) (لكن رأيتُ بباب دارك جفوةً ... فيها لصفو صنيعة تكديرُ) (ما بال دارك حين تدخلُ جنة ... وبباب دارك منكرٌ ونكير) غيره: (سأترك هذا البابَ ما دامَ إذنه ... على ما أرى حتى يلينَ قليلا) (إذا لم أجد يوماً إلى الأذنِ سلما ... وجدتُ إلى تركِ المجئ سبيلا) وقول أبي تمام (إن السماء ترجى حين تحتجب) مأخوذ من قول الأول: (وأني لأرجوكم على بطءِ سعيكم ... كما في بطونِ الحاملاتِ رجاءُ) وقد أحسن أبو تمام في معاتبة ابن أبي دواد واستبطائه إياه في قوله: (رأيت العلا معمورةً منك دارها ... إذا اجتمعتْ يوماً وقرَ قرارُها) (وكم نكبةٍ ظلماءَ تحسبُ ليلةً ... تجلى لنا منْ راحتيك نهارها) (فلا جارك العافي تناولَ محلها ... ولا عرضك الوافي تناولَ عارها) (فلا تمكنَ المطلَ من ذمةِ الندى ... فبئس أخو الأيدي الكبار وجارها) (فإن الأيدي الصالحاتِ كبارها ... إذا وقعت تحتَ المطالِ صغارها) (وما نفع من قد باتَ بالأمسِ صادياً ... إذا ما سماءُ اليوم طالَ انهمارها) (وخيرُ عداتِ المرءِ محتضرَاتها ... كما أنَّ خيرات الليالي قصارها) (وما العرفُ بالتسويف الا كخلةٍ ... تسليتَ عنها حينَ شطَ مزارها)

وقد أحسن في هذه الأبيات ما شاء وفي قوله أيضاً لمالك بن طوق وقد حجبه: (قل لابنِ طوقٍ رحا سعدٍ إذا خبطتْ ... نوائبُ الدَهرِ أعلاها وأسفلَها) (أصبحتَ حاتمها جوداً وأحنفها ... حلماً وكيسها علماً ودغفلها) (مالي أرى الحجرةَ الفيحاء مقفلةً ... عني وقد طالَ ما استفتحتُ مقفلَها) (كأنها جَنةُ الفردوسِ معرضةً ... وليس لي عملٌ زاكٍ فأدخلَها) وليس لهذا التمثيل نظير في حسنه وبراعته. وكتب الصاحب أبو القاسم إلى بعضهم يعاتبه في صغر كتابه إليه: كتابي وعندي نعم من أعظمها خلوص ودِّك وبقاء عهدِك ورد لي كتاب حسبته يطير من يدي لخفته ويلطف عن حسي لقلته وعهدي بك تروي إذا سقيت وتجزل إذا أعطيت فما الذي أحالك وبدل حالك أملال أم كلال أم إقلال وليس عندي أنك تملُ صديقاً صدوقاً وشفيقاً شقيقاً ولا عندي أنك تكلُ ولو ملأت الأرض كلاماً وشحنت صفحات الجوِّ نظاما ولا عندي أنك تقلُّ وبحر فضلك فياض وثوب علمك فضفاض فما أملك وقد نبوت وزهدت وجفوت إلا أن أصبر على هجرتك كما تمتعت بصلتك لتكون عني نسخة أخلاقك إذا قربت وبعدت ووصلت وصددت وأكره أن أطيل وقد قصرت وأكثر وقد أقللت فتسأمني كما سئمت عادتك وتتركني وقد تركت شيمتك فأحب أن تطالعني بأخبارك وعوارض أوطارك إن شاء الله تعالى: (إذا أنتَ عاتبتَ الصديقَ ولم يكنْ ... يودُّك لم يعتبك حينَ تعاتُبه) (ومن يرعَ شرقيَ البلادِ سوامهُ ... وغربيها يملكه؟ صاحبه) (ومن يخلط الماءَ الزُلالَ بآجنٍ ... من الماء تخبث ما تطيب مشاربه) وكتبت جواباً عن كتاب نقصت فيه من الخطاب: وقفت على الفصل المؤذن بالجفاء المشتمل على سوء الجزاء وعلى ما احتواه من دنئ الخطاب ووضيع الدعاء

وعجبت كيف حططت الدعاء من رتبته المعروفة وخفضت الخطاب عن درجته المألوفة وأنت على منزلتك لم تزدد نقيرا وأنا في درجتي لم أنقص قطميرا فكيف لو زدت زادك الله بصراً بمالك وعليك وأراك من عيبك مالا يتصور لديك وكفاك من شر نفسك ما هاصر عليك من كيد عدوك وشماتة حسودك ولا أختار لك أن تتكبر كلما تكبر وتتجبر كلما تجبر فقد سمعت ما قال يحيى بن خالد: من بلغ رتبة فتاه أخبر أن محله دونها ومن بلغها فتواضع أعلم أن حقه فوقها فكيف والأحوال على ما كانت عليه لم يصر الهلال بدراً ولا الشبل ليثاً ولا الغصن ساقاً ولا القطوف معتاقاً. والعرب تسمى الكبر تيهاً وهو الحيرة لأن صاحبه لا يهتدي لرشاد ولا يصل إلى سداد ولو لم يكن إلا التطير من اسمه دون التحلي بقبح سمته ورسمه لكان العاقل حقيقاً بتركه وخليقاً برفضه، وقد قيل ليس لمعجب رأي ولا لمتكبر صديق فإياك أن تحرم نفسك بكبرك الذي يضرك ولا ينفعك ويحطك ولا يرفعك استفادة الإخوان الذين هم أبلغ في الخير والشر من البيض الحداد وأحضر عناء في الأمن والخوف من الطرائف والتلاد فإن ذلك غبن كبير وحرمان جسيم، وقد قال الأول: (ما بالُ من أولهُ نطفةُ ... وآخره جيفةُ يفخرُ) ولبعض بني هاشم وهو الرضى رحمه الله تعالى: (ولربَ مولى لا يغضُ جماحهُ ... طولُ العتابِ ولا عناءُ العذَّلِ) (يطغى عليك وأنتَ تلأمُ شعبهُ ... والسيف يأخذ من بنانِ الصقيل) (ضاقَ الزَّمانُ فضاقَ فيه تقلبي ... والماءُ يجمعُ نفسَه في الجدولِ) وقال بعضهم في يزيد بن المهلب: (فمن يلازم النازلون محله؟ ... فمنزلكم للحمدِ والشكرِ منزلُ) (رأى الناسُ فوقَ المجد مقدارَ مجدكم ... فقد يسألوكم فوقَ ما كان يسألُ) (وقصّر عن مسعاكُم كلُ آخرِ ... وما فاتكم ممن تقدمَ أوَّلُ)

(بلغتُ الذي قد كنتُ آمله لكم ... وإن كنتُ لم أبلغ بكم ما أؤمِّلُ) (وماليَ حقُ واجبٌ غير أنني ... إليكم بكم في حاجتي أتوسلُ) (فان أنتمُ أنعمتمُ وبررتمُ ... فقد يستتم النعمة المتفضل) (وإن كنتم أوليتموني تفضلا ... جميلاً فان العودَ بالفضلِ أفضلُ) (وكمُ ملحفٍ قد نالَ منكم رعيبةً ... ويمنعنا من أن نُلحَّ التجملُ) (وعودتموني قبل أن أسأل الغنى ... ولا يكمل المعروفُ والوجه يبذلُ) وقال ابن الرومي: (من الحيفِ تخسيسُ النوال ومطله ... فعجلْ خسيساً أو فأجِّل موفرا) (وكن نخلةً تُلوي وتُسني عطاءَها ... وإلا فكن عصفاً أقلّ ويسرا) وقال: (يا شبيةَ البدرِ في الحسن وفي بُعدِ المثال) (جُد فقد تنفجر الصخرة بالماءِ الزلال) وله في المعاتبات مالا أعرف لغيره قال: (يا ابن الوزير الذي تمتْ وزارتهُ ... لا تجمعنَ علىَ العارَ والنارَا) (إن كنتُ أحسنتُ في وصفي مآثركم ... فأثروا في بالإحسانِ آثار) (وإن أكن قلت مالا أستحقُّ بهِ ... منكم ثواباً فردُّوهُ وما سارا) (إنّ المديحَ إذا ما سارَ مُنفردا ... من الثوابِ كسى من قالهُ عارا) (فقد يعزُ بليغ في بلاغته ... وقد يظنُ سوى المختار مختارا) (أسهبتُ فيكم لكي أعلى فطأطأني ... تقصيركم بي فقد أزمعت إقصارا) (إنَّ السلاليمَ لا تبني أطاولها ... يوماً ليهبطَ بانيهنَ اغوارا) (لكنْ ليصعدَ انجاداً تشرِّفُه ... حتى يمدَ إليها الناس أبصارا) (وقد هبطتُ بما شيدتهُ لكمُ ... من حالقٍ ولعلَ الله قد خارا)

(كم هابطٍ صاعدٍ من بعد مهبطه ... وغائرٍ منجد من بعد ما غارا) (ثقلتَ في كفَهِ الميزان فإنكدَرَت ... تهوي وشالَ خفاف الناس أقدارا) (صبراً فكم ناهضٍ من بعدِ وقعتهِ ... يوماً وكمْ واقع من بعد ما طارا) (لا بني سميرٍ صروفٌ غير غافلةٍ ... يحسنَ نقضاً كما أحسنَ امرارا) وقال: (وتابع بعد الفتح قوماً سبقتهم ... فلم أنافي نعماكَ ردفُ وهم صدرُ) (ولم يصفُ من شئ صفاءَ طوَّيتي ... فلم شربهم صفوٌ ولم مشربي كدرُ) (وما جاء مدحٌ مثلَ مدحيَ فيكمُ ... فلم كسبهم مدُ ولم مكسبي جزر) (وماليَ لا أنفكُ أنعي مسنداً ... ولي منكمُ ظهرٌ وما مثلكم ظهرُ) (لعمري لقد غوثت غيرَ مقصرٍ ... لتجبر من مالي وقد أمكنَ الجبرُ) (وكم قائلٍ أبلغتَ فيما تقوله ... فقلت له غنيتُ لو ساعدَ الزَّمرُ) وقلت (قد كنتَ توليني الحسنى وتُكرمني ... وكنت أشكر ماتأنى من الحسن) (فما بدا لك في جُودٍ ومكرمةٍ ... تجري من المجد مجرى الروح في البدن) (أرجع إلى الحالةِ الأولى فإنَ لنا ... شكراً يكونُ لها من أوفرٍ الثمنِ) (وحسنَ أحدوثةٍ لو كنتَ تبصرها ... حسبتها غُرَّةً في جبهة الزَّمنِ) (أزكى منَ المسكِ في أصداغِ غانيةٍ ... كأنها قمرٌ أوفى على غصن) وللصاحب بن عباد في الإستزادة والعتاب أبيات لم يمر بي من شعره أجود منها فمنها: (سيشهدُ أبناءُ المفاخرِكلهم ... بأنّ مضيعَ الأكرمينَ مُضيع) (يزعزعك الواشونَ عن حومةِ العلا ... وكان بعيداً أن يزعزعَ لعلع) وقدطرف البحتري في قوله يستبطئ محمد بن العباس الكلابي: (المئةُ الدينارٍ منسيةٌ ... في عِدةٍ أشبعتها خلفا) (لا صدقَ إسماعيل فيها ولا ... وفاء إبراهيم إذ وفى)

(إن كنت لا تنوي نجاحاً لها ... فكيفَ لا تجعلها ألفا) وقوله: (عمرتَ أبا إسحاقَ ما صلح العمرُ ... ولا زالَ مَزهواً بآبائك الدهرُ) (فأنتَ ندى نحيا به حيث لا ندى ... وقطرٌ يرجَّى جودهُ حيثُ لا قطرُ) (على أنني بعدَ الرِّضا مُتسخطٌ ... ومستعتبٌ من خطةٍ سهلها وعرُ) (وقد أوحشتني ردةٌ لم أكن بها ... بأهل ولاعندي بتأويلها خبرُ) (فلم جئت طوعَ الشوقِ من بعد غايتي ... إلى غيرِ مشتاقٍ ولم رَدّني بشرُ) (وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجيَ من أبوابهِ ويدي صفرُ) ومن جيد ما قيل في حسن الإقتضاء قول أبي تمام: (وإذا المجدُ كان عوني على المرء ... تقاضيتهُ بتركِ التقاضي) وقول الآخر: (أروح بتسليم وأغدو بمثله ... وحسبك بالتسليم متى تقاضيا) وفي خلاف ذلك قول بعضهم: ثقتي بكرمك تمنع من اقتضائك وعلمي بشغلك يحدو على إذكارك. ومما يجري مع هذا الباب قول الآخر: (أنتَ أمضى من أن تحركَ للمجدِ ... ولكنْ شراهةُ الشعَراءِ) وفي خلافِ ذلك قول الآخر: (أروحُ وأغدو نحوكم في حوائجي ... فأصبحُ منها غدوةُ كالذي أمسى) (وقد كنتُ أرجو للصديقِ شفاعتي ... فقد صرتُ أرضى أن أشفعَ في نفسي) وقول الآخر: (وللموتُ خيرٌ من حياةٍ زهيدةٍ ... وللمنعُ خيرٌ من عطاءٍ مكدَّرِ) ومن مليح الإستبطاء ما كتب بعضهم: كتابي ليس باستبطاء وإمساكي ليس بإستغناء ولكن كتابي تذكرة لك وإمساكي ثقة بك. وكتب عثمان إلى علي رضي الله تعالى عنهما: أبا بعد فقد بلغ الماء الزبى والحزم الطبيين وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه: (فإن كنتُ مأكولاً فكن خيراً آكل ... وإلاّ فأدركني ولما أمزَّق) ومما جاء في ذم العتاب قول بعض الحكماء: العتاب رسول الله الفرقة وداعي القلى وسبب

السلوان وباعث الهجران. وقال بعضهم: العتاب يبعث التجني والتجني ابن المحاجة والمحاجة أخت العداوة والعداوة أم القطيعة. وقال بعضهم: سبيل من يأخذ على أيدي الأحداث أن لا يكدرهم بالتوبيخ لئلا يضطروا إلى القحة. وقال غيره العتاب داعية الإجتناب فإذا انبسطت المعاتبة انقبضت المصاحبة. وقال آخر: حرك إخوانك ببعض العتاب لئلا يستعذبوا أخلاقك وأغض عن بعض ما تنكر منهم لئلا يوحشهم إلحاحك. وهذا أقصد ما قيل في هذا المعنى. وكتبت في فصل لي: العتاب مقدمة القطيعة وطليعة الفرقة فتجنبه قبل أن يجنبك حظك من السرور برؤية أحبابك وانتقل عنه قبل أن ينتقل بك عن مقر غبطتك بمشاهدة أودائك وإن لم تجد منه أبداً فاقتصد فيه ولا تكثر منه فإن الكثير من المحبوب مملول فكيف من المكروه والإقتصاد في المحمود ممدوح فكيف من المذموم. وقال ابن الرومي: (أرَفِّه ما أرفهُ في التقاضي ... وليسَ لديكَ غيرُ المطلِ نقدُ) (خلا وعدٍ مددت إليهِ كفي ... فأعرضَ دونهُ مطلٌ يمدُ) (إذا إنجازُ وعدِك كانَ وعداً ... فيكفيني من الوعدينِ وعدُ) وقال: (سألتُ قفيزين من حنطةٍ ... فجدتَ بكرٍ من المنعِ وافِ) (وأتبعتَ منعَكَ لي بالحجابِ ... مهلاً هديتَ ففي المنعِ كافِ) (كأني سألتُكَ حبَ القلوبِ ... ذاك الذي من وراءِ الشغافِ) وقد أجاد الآخر حيث يقول: (وكنْ عندَ ما نرجوهُ منك فإننا ... جميعاً لما أوليتَ من حسنٍ أهلُ) (ولا تعتذرْ بالشغلِ عنا فإنما ... تناطُ بك الآمالُ ما أتصلَ الشغل)

الفصل الثاني من الباب الثالث في الهجاء

(الفصل الثاني من الباب الثالث في الهجاء) قالوا أهجى بيت قالته العرب قول جرير: (فغضَ الطرفَ إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا) أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد حدثنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال قال عبد الملك بن مروان يوماً وعنده جلساؤه: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا أنهم افتدوا منه بأموالهم، وو شعر لم يسرهم به حمر النعم؟ فقال أسماء بن خارجة نحن يا أمير المؤمنين، قال وما قيل فيكم؟ قال قول الحارث بن ظالم: (وما قومي بثعلبة بن سعدٍ ... ولا بفزارة الشعر الرقابا) فو الله يا أمير المؤمنين إني لألبس العمامة الصفيقة فيخيل لي أن شعر قفاي قد بدا منها. وقول قيس بن الخطيم: (هممنا بالإقامةِ ثم سرنا ... مسيرُ حُذيفة الخيرِ بن بدرِ) فما يسرنا أن لنا بها أوبه سود النعم. فقال هانئ بن قبيصة أولئك نحن يا أمير المؤمنين، قال ما قيل فيكم؟ قال قول جرير: (فغضَ الطرفَ إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا) والله لوددنا أننا افتديناه بأملاكنا، وقول زياد الأعجم: (لعمرك ما رماحُ بني نميرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصارا) فو الله ما يسرنا به حمر النعم. قال أبو بكر وذكر أن جريراً لما قال: (والتغلبيُ إذا تنحنحَ للقرى ... حكَ أستهُ وتمثلَ الأمثالا)

قال قد قلت بيتاً فيهم لو طعن أحد في استه لم يحكها. وأخبرنا أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال مرت امرأة ببتي نمير فتغامزوا إليها فقالت يا بني نمير لم تعلموا بقول الله تعالى ولا بقول الشاعر: يقول الله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} ويقول الشاعر: (فغض الطرف إنك من نمير) فخجلوا وكان النميري إذا قيل له ممن أنت؟ قال من نمير فصار يقول من بني عامر بن صعصة. ولو قيل إن أهجى بيت قالته العرب قول الفرزدق لم يبعد وهو: (ولو تُرمى بلؤم بني كليبٍ ... نجومُ الليلِ ما وضحتْ لساري) (ولو يُرمى بلؤمهم نهارٌ ... لدنسَ لؤمهُم وضحَ النهارِ) وهذا مثل قول الآخر: (ولو أنَ عبدَ القيس ترمي بلؤمها ... على الليل لم تبدُ النجومُ لمن يرى) وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الأعشى: (تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غرثَى يبتنَ خمائصا) وكان من حديث هذا الشعر أن عامر بن الطفيل بن مالك وعلقمة بن علاثة تنازعا الزعامة فقال عامر: أنا أفضل منك وهي لعمي ولم يمت وعمه عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب وكان قد اهتز وسقط وقال علقمة: أنا أفضل منك أنا عفيف وأنت عاهر وأنا وفي وأنت غادر وأنا ولود وأنت عاقر وأنا أدنى إلى ربيعة. فتداعيا إلى هرم بن قطبة ليحكم بينهما فرحلا إليه ومع كل واحد منهما ثلاثمائة من الإبل مائة يطعمها من تبعه ومائة يعطيها الحاكم ومائة يعقرها إذا حكم. فأبى هرم ابن قطبة أن يحكم بينهما مخافة الشر، وأبيا أن يرحلا فخلا بعلقمة وقال له: أترجو أن ينصرك رجل من العرب على عامر فارس مضر أندى الناس كفاً وأشجعهم لقاءً لسان رمح عامر أذكر في العرب من الأحوص وعمه ملاعب الأسنة وأمه كبشة بنت عروة الرحال وجدته أم البنين بنت عمرو بن عامر فارس الفيحاء وأمك من

النخع وكانت أمه مهيرة وأم علاثة من النخع، ثم خلا بعامر فقال له أعلى علقمة تفخر أأنت تناوئه أعلى ابن عوف بن الأحوص أعف بن عامر وأحلمه وأسوده وأنت أعور عاقر مشؤوم أما كان لك رأى يزعك عن هذا أكنت تظن أن أحداً من العرب ينصرك عليه. فلما اجتمعا وحضر الناس للقضاء قال أنتما كركبتي البعير فرجعا راضين والصحيح أنه توارى عنهما ولم يقل شيئاً فيها ولو قال أنتما كركبتي الجمل لقال كل منهما أنا اليمنى فكان الشر حاضراً. ولقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما بعد ذلك لمن كنت حاكماً لو حكمت؟ فقال أعفني يا أمير المؤمنين فلو قلتها لعادت جذعة فقال عمر صدقت مثلك فليحكم. فارتحلوا عن هرم لما أعياهم نحو عكاظ فلقيهم الأعشى منحدراً من اليمن وكان لما أرادها قال لعلقمة اعقد لي حبلاً قال أعقد لك من بني عامر قال لا تغني عني قال فمن قيس قال لا قال فما أنا رائدك. فأتى عامر بن الطفيل فأجاره من أهل السماء والأرض، فقيل له كيف تجيره من أهل السماء؟ قال إن مات وديته فقال الأعشى لعامر أظهر انكما حكمتماني ففعل فقام الأعشى فرفع عقيرته في الناس فقال: (حكمتموهُ فقضي بينكم ... أبلج مثل القمرِ الزاهرِ) (لا يأخذُ الرشوةَ في حكمه ... ولا يبالي غبنَ الخاسرِ) (علقمُ ما أنتَ إلى عامرٍ ... الناقض الأوتار والواتر) (واللامس الخيلَ بخيل إذا ... ثارَ عجاج الكة الثائرِ) (ساد وألفى رهطه سادةً ... وكابراً سادوك عن كابرِ) (وشد القوم على الإبل المائة فعقروها وقالوا ... عامر وذهبت به الغوغاء وجهد) وجهد علقمة أن يردها فلم يقدر على ذلك فجعل يتهدد الأعشى فقال الأعشى: (أتاني وعيدُ الحوص من آل جعفرٍ ... فيا عبدَ عمروٍ ولو نهيتَ الأحاوصا)

(فما ذنبنا أن جاشَ بحر ابن عمكم ... وبحرك ساجٍ لا يُواري الدَّعامصا) (كلا أبويكم كانَ فرع دعامةٍ ... ولكنهم زادوا وأصبحتَ ناقصا) (تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غرثَى يبتنَ خمائصا) (يراقبن من جوع خلالَ مخافةٍ ... نجومَ العشاءِ القائماتِ القواصما) (رمى بك في أخراهمُ تركك الندى ... وفضل أقواماً عليك مراهصا) (فعضَ حَديدَ الأرض ان كنت ساخطاً ... بفيك وأحجارَ الكلابِ الرواهصا) فبكى علقمة لما بلغه هذا الشعر وكان بكاؤه زيادة عليه في العار. والعرب تعير بالبكاء قال مهلهل: (يبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ ... لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإبلِ) وقال جرير: (بكى دويلٌ لا يرفأ اللهُ دمعهُ ... ألا إنما يبكي من الذلَ دويل) وكان الحطيئة مع علقمة وليد مع عامر فقال الحطيئة: (يا عم قد كنتَ ذا باعٍ ومكرمةٍ ... لو أنَّ مسعاةَ من جاريتهُ أمَمُ) (جاريت قرماً أجادَ الأحَوصان بِه ... ضخم الدسيعة في عِرنينِهِ شَمَم) (لا يصعبُ الأمرُ إلا حيث يركُبه ... ولا يبيتُ على مالٍ له قَسَمُ) وقال: (فما ينظر الحكامُ في الفصلِ بعدما ... بدا واضحٌ ذو غرةٍ وحُجول)

وهاتان القصيدتان جيدتان بارعتان في معنيهما ولكن الناس استخفوا قول الأعشى (علقم لا لنت إلى عامر) فمر على ألسنتهم وسقط شعر الحطيئة. أخبرنا أبو علي بن أبي جعفر أخبرنا جعفر بن محمد حدثنا أبو عبيدة العسكري حدثنا محمد يعني ابن الوليد حدثنا أبو زكريا عن الأصمعي قال قال عبد الملك ابن مروان لأمية مالك وللشاعر إذ يقول: (إذا هتفَ العصفورُ طارَ فؤادهُ ... وليثٌ حديدُ النابِ عند الثرائدِ) قال أصابه حد من حدود الله تعالى فأقمته عليه، قال فهلا درأته عنه بالشبهات؟ قال كان أهون علي من أن أعطل حداً من حدود الله تعالى فقال يا بني أمية أحسابكم أحسابكم أنسابكم لا تعرضوا للهجاء فإن للشعر مواسم لا يزيدها الليل والنهار إلا جدة والله ما يسرني اني هجيت ببيت الأعشى حيث يقول: (تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غرثَى يبتن خمائصا) ولي الدنيا بحذافيرها، ولو أن رجلاً خرج من عرض الدنيا كان قد أخذ عوضاً لقول ابن حرثان: (على مكثريهم حقَ من يعتريهم ... وعندَ المقلينَ السماحةُ والبذل) هكذا رواه لنا والبيت لزهير. وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الحطيئة في الزبرقان بن بدر: (دعِ المكارمَ لا تَرحلْ لبغيتها ... وأقعد فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي) وأخبرني أبو أحمد سمعت بعض الشيوخ يقول اجتمع مطيع بن إياس ويحيى ابن زياد وحماد عجرد وجعفر بن أبي وزة في مسجد الكوفة فامتروا في أهجى بيت قالته العرب ثم اتفقوا على قول الفرزدق في جرير:

(أنتم قرارةُ كل معدن سوءةٍ ... ولكلَ سائلةٍ تسيلُ قرار) وأخذه أبو تمام فقال: (وكانت زفرةٌ ثمّ أطمأنت ... كذاك لكلِّ سائلةٍ قرارُ) وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الأخطل لجرير: (ما زال فينا رباطُ الخيلِ معلمة ... وفي كليبٍ رباطُ اللؤمِ والعارِ) (قومٌ إذا استنبحَ الأضيافَ كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النارِ) قالت بنو تميم ما هجينا بشئ هو أشد علينا من هذا البيت. وهو يتضمن وجوها شتى جعلهم بخلاء بالقرى وجعل أمهم خادمتهم يأمرونها بكشف فرجها، وجعلهم يبخلون بالماء أن يطفئوا به النار فيأمرونها بأن تطفئها ببولها بينهم وبين المجوس لتعظيم المجوس النار، إلى غير ذلك وان نارهم من قلتها كانت تطفئها ببولها. وقالت بنو مشاجع ما هجينا بشعر أشد علينا من قول جرير: (وبرحرحانَ غداةَ كبْلَ معبد ... نكحتْ نساؤهمُ بغيرِ مهورِ) وقالت بنو كليب ما هجينا بشعر أشد علينا من قول الفرزدق: (ألستَ كليبياً إذا سيمَ سوءةً ... أقرَ كإقرارِ الحليةِ للبعلِ) قالوا بل أهجى بيت قالته العرب قول الطرماح: (تميمٌ بطرقِ اللؤمِ أهدى من القطا ... ولو سلكت سبلَ المكارمِ ضلْتِ) وقال بعض الشيوخ لو أن هذا البيت لجرير أو لمن في طبقته لحكم على جميع ما في معناه وبعده وهو أبلغ ما قيل في الاحتقار والتقليل والجبن: (ولو أن حرقوصاً على ظهرِ نملةٍ ... تشدُ على صفي تميمٍ لولتِ) (ولو جمعت يوماً تميمٌ جُموعَها ... على ذرةٍ معقولةٍ لاستقلتِ) (ولو أنَّ أمَ العنكبوتِ بنتْ لها ... مظلتها يومَ الندى لا ستظلتِ) (ولو أنَ برغوثاً يزقق مسكه ... إذا نهلت منه تميم وعلتِ) وأبلغ ما قيل في الخمول قوله أيضاً:

(ولو كان يخفى على الرحمن خافيةٌ ... من خلقهِ خَفيتْ عنهُ بنو أسدِ) (قومٌ أقامَ بدارِ الذُلَ أولهم ... كما أقامتْ عليه جدمةُ الوتدِ) وقال ابن الأعرابي قال أبو عمرو بن العلاء أحسن الهجاء ما تنشده العاتق في خدرها فلا يقبح بها مثل قول أوس: (إذا ناقة شعرت برحل ونمرقٍ ... إلى حكم تعدى فضلّ ضلالُها) وقال ابن الأعرابي وأنا أقول مثل قول جرير: (ولو أن ثعلبَ جمعتْ أحسابها ... يومَ التفاخرِ لم تزنْ مثقالا) وقيل أهجى ما قالته العرب قول الأعرابي: (اللؤم أكرمُ من وبر ووالدهِ ... وللؤم أكرم من وبر وما ولدا) (قومٌ إذا جرّجانٍ منهم أمنوا ... من لؤم أحسابِهم أن يقتلوا قودا) وقال النجاشي في بني العجلان: (قبيلة لا يغدرونَ بذمةٍ ... ولا يظلمون الناسَ حبّة خردلِ) (ولا يردون الماءَ إلا عشيةً ... إذا صدرَ الورادُ عن كلِّ منهلِ) فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب فقال ما قيل فيكم؟ فأنشدوه: (إذا الله عادَى أهل لؤمٍ ورقةٍ ... فعادى بني العجلانِ رهطَ ابن مقبل) فقال عمر إن كان ومظلوماً استجيب له، قالوا وقد قال: (قبيلة لا يغدرونَ بذمةٍ ... ولا يظلمونَ الناسَ حبةَ خردلِ) فقال ليت آل الخطاب هكذا. قالوا وقد قال: (ولا يردونَ الماءَ إلا عشيةً ... إذا صدرَ الورادُ عن كلَ منهلِ)

قال عمر: ذاك أقل للكاك يعني الأزدحام، قالوا وقد قال: (تعاف الكلاب الضارياتُ لحومهم ... ويأكلنَ من عوفٍ وكعبٍ ونهشلِ) قال أحيا القوم قتلاهم ولم يضيعوهم، قالوا وقد قال: (وما سُمىَ العجلان إلا لقيلهم ... خُذِ القعبَ واحلبْ أيها العبدُ واعجل) فقال عمر خير القوم خادمهم ثم بعث إلى حسان فسأله فقال ما هجاهم ولكن سلح عليهم فتهدد النجاشي وقال إن عدت قطعت لسانك. وكانوا يتمدحون بتقديم الورد وكان أعزهم أسبقهم إلى الماء بإبله ومثل قوله: (تعاف الكلابُ الضارياتُ لحومهم ... ) قول البحتري: (وردَدتُ العتابَ عليك حتى ... سئمت وآخرُ الودَ العتابُ) (وهانَ عليك سخطي حينَ تغدو ... بعرضٍ ليسَ يأكلهُ الكلاب) ومن التناهي في الاحتقار والخمول قول بعضهم: (قالوا الأشاقر تهجوهمْ فقلت لهم ... ما كنتُ أحسبهم كانوا ولا خلقوا) (قومُ من الحسبِ الزاكي بمنزلةٍ ... كالفقعِ بالقاعِ لا أصلٌ ولا ورقُ) (إنَ الاشاقرَ قد حلوا بمنزلةٍ ... لو يرهبونَ بنعلٍ عندنا علقوا) (لا يكثرون وإن طالتْ حياتُهمُ ... ولو تبولُ عليهم فأرةٌ غرِقوا) وقول الآخر (لو يحلوا بالحرير ما وجدوا) وقول الآخر، أستغفر الله من قوله: (يكادُ من رقةٍ ولؤم ... يخفي على البارئ القديمِ) وقول أبي الهيذام: (يا جعفرَ بن القاسم بن محمدٍ ... مالي أراك عن الندى معزولا) (إني أقولُ مقالةً تجري بها ... لو كنتَ من كرم لكنت قليلا) وقول أبي تمام: (وما كنت أحسبُ أنَّ الدَهرَ يمهلني ... حتى أرى أحداً يهجوهُ لا أحد ... )

ونحوه قوله: (هب من له شئٌ يريدُ حجابةُ ... ما بالُ لا شئٍ عليهِ حجابُ) وقال (وأنت أنزر من لا شئ في العدد) ومن مشهور ما قيل في بلوى الأخيار بالأشرار قول الأول: (فلو أني بليتُ بهاشمي ... خؤلتهُ بنو عبد الداني) (صبرتُ على عدواتهِ ولكن ... تعالى فانظري بمن ابتلاني) وشكا رجل إلى أبي العيناء رجلا فقال فاك دخل في العدد وخرج من العدد، ويقول هو يعد في الحساب ويخرج من عدد التحصيل، وهو من قول القائل: (خرجنا الغداةَ إلى نزهة ... وفينا زياد أبو صعصعة) (فستةُ رهطٍ به خمسةٌ ... وخمسةُ رهطٍ بهِ أربعه) وقلت في معناه: (أنظر إليهمْ ولا تعجبك كثرتهم ... فانما الناسُ قلوا كلما زادوا) (ولا يهولنك من دهمائهم عددٌ ... فليسَ للناس في التحصيل أعدادُ) (عجبتُ من زهدهم فيما يزينهمُ ... والناسُ مُذ خلقوا في الخيرِ زهادُ) ومن التناهي في صفة الخمول قول عبد الصمد في أبي العباس محمد بن يزيد المبرد: (سألنا عن ثمالةَ كلَ حيٍ ... فقالَ القائلونَ ومن ثمالة) (فقلتُ محمدُ بنُ يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهالهْ) ومن الاستحقار الشديد قول مسلم: (أمويسُ قل لي أينَ أنتَ من الورى ... لا أنتَ معلومٌ ولا مجهولُ) (أما الهجاءُ فدقَ عرضك دونهُ ... والمدحُ عنك كما علمتَ جليل) (فاذهب فأنتَ طليقُ عرضك إنهُ ... عرضٌ عززتَ بهِ وأنتَ ذليل) فجعله دون الرجاء والهجاء فوقه فلا يهجى لضعته وقلته. ومن هنا أخذ ابراهيم بن العباس قوله:

(فكنْ كيفَ شئتَ وقلْ ما تشاء ... وأبرق يميناً وأرعد شمالا) (نجا بك لؤم منجى الذباب ... حمتهُ مقاذيرهُ أن ينالا) وهذه الأبيات وإن كانت مشهورة فإن لإيرادها ههنا معنى كبيراً وذلك أني لست أجد خبراً منها في معناها وأجود، وقد شرطت أن لا أضمن هذا الكتاب إلا كل جيد اللفظ بارع المعنى، وأنت أيضاً إذا احتجت إليه تتناوله من قرب. وأنشد الجاحظ: (ووثقتَ أنك لا تسبُ ... حماكَ لؤمكَ أن تُسبا) وقال الآخر: (بذلةِ والديك كسيتَ عزاً ... وباللؤمِ أجترأتَ على الجوابِ) وقال غيره: (دناءةُ عرضك حصنٌ منيع ... تقيك إذا ساء منك الصنيعُ) (فقلْ لعدُوِّكَ ما تشتهي ... فأنتَ الرفيعُ المنيعُ الوضيعُ) وقلت: (لست الوضيعَ ولا الصغيرَ وإنما ... أنتَ الوضيعُ عن الوضيع الأصغر) (لا تفخرنَّ وإنْ غدوتَ مقدَّما ... فعلى جبينك سيمياء مؤخر) وقال أبو نواس: (ما كان لو لم أهجهُ غالب ... قامَ لهُ هجوي مقامَ الشرفْ) (يقولُ قد أسرفَ في هجونا ... وإنما زادَ بذاك السرفْ) (غالبُ لا تسعى لتبني العلا ... بلغتَ مجداً بهجائي فقفْ) ( ... قد كنتَ مجهولاً ولكنني ... نَوَهْتُ بالمجهولِ حتى عرف) فجعل شرفهم ونباهتهم بهجائه إياهم، وقوله: (وما أبقيتُ من غيلانَ إلا ... كما أبقتْ من البظرِ المواسي) ومن قديم الهجاء لمن لا يقع في حياته وفي موته فجيعة قول بعضهم: (وأنتَ امرؤٌ منا خلقتَ لغيرنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجعُ) وقال ابن الرومي: (فلا تخش من أسهمي قاصداً ... ولا تأمننَ من العايرِ)

(ولكنْ وقاك معرَاتها ... تضاؤلُ قَدرِكَ في الخاطرِ) وقال غيره: (إني هجوتُ بكلَ لفظٍ مقذعٍ ... زيداً وكان لهُ الهجاءُ مديحا) وقلت: (يا أبا القاسم هل أبصرت ... شبهاً لك في قبحك) (ونظيراً لك شؤمك ... أو لؤمك أو شحك) (إن من شبهك الكلب ... فقد بالغَ في مدحكَ) وقلت: (أهنت هجائي يا ابنَ عروةَ فانتحى ... علىَ ملامُ الناسِ في البعدِ والقربِ) (وقالوا أتهجو مِثله في سُقوطهِ ... فقلتُ لهم جريتُ سيفي على كلبِ) وقال ابن الرومي: (خسأت كلباً مَرَ بيَ مَرَةً ... فقال مَهلاً يا أخا خالدِ) (حسبكمُ خزياً بني آدم ... شركتكم إياه في الوالد) ومثله ما أنشدناه أبو أحمد قال أنشدني ابن لنكك لنفسه: (وعصبةٍ لما توسطتهمْ ... صارت علىَ الأرضُ كالخاتمِ) (كأنهمْ من سوءِ أفهامهمْ ... لم يخرجوا بعدُ إلى العالم) (يضحكُ إبليس سروراً بهم ... لأنهم عارٌ على آدم) وقلت: (وقلتُ للكلبِ حينَ مرَّ بيَ اخسأ ... فكأني كويتُ قلبك كيا) (أترى أنني أعُدك كلباً ... أنتَ عندي إذا نبحتَ الثريا) ومن التناهي في الاستصغار والخمول قول زياد الأعجم: (إذا ما اتقى الله امرؤُ وأطاعهُ ... فليسَ به بأسٌ وان كان من جرمْ) (ولو جمعتْ جَرْمٌ على رأسِ نملةٍ ... لباتوا شِباعاً يضرطون من الشحم) ومن بليغ ما جاء في الاستصغار ما رواه قدامة قال قال محمد بن ناشد سألني

فلان عن رجل فقلت يساوي فلس، فقال قد زدت في قيمته درهمين. ومن أبلغ ما قيل في الهجاء قول ذي الرمة: (وأمثلُ أخلاقِ امرئِ القيسِ إنها ... صلابٌ على طولِ الهوانِ جلودُها) (وما انتظرتْ غيابها لملةٍ ... ولا استؤمرتْ في حلَ أمر شهودُها) (إذا امرئياتٌ حللن ببلدة ... من الأرض لم يصلح طهوراً صعيدها) وقال غيره: (لعمركَ ما تبلى سرابيلُ عامرٍ ... من اللؤم ما دامتْ عليهِ ظهورها) وقال أبو سعيد المخزومي: (يا ئابت بن أبي سعيدٍ إنها ... دولٌ وأحراها بأنْ تتنقلا) (هلا جعلتَ لنا كحرمةِ دعبلٍ ... في استِ أمِّ كلبٍ لا تساوي دعبلا) وقالوا أهجى بيت قاله محدث بيت حماد في بشار: (نُسبتَ إلى بردٍ وأنتَ لغيره ... فهبك لبرد نِلتَ أمك مَنْ بُردُ) وأخبرني أبو أحمد أخبرني أبو الحسن الصميري عن أبي العلاء قال حماد عجرد (نسبت إلى برد وأنت لغيره) قال بشار تهيأ لحماد في هجائي في هذا البيت خمسة معان أوردها جرير في الفرزدق فلم يقدر عليها حيث يقول: (لما وضعتُ على الفرزدق ميسمي ... وضع البعيثِ جدعتُ أنفَ الأخطلِ) ومن أجود ما هجى به الدعى قول دعبل في مالك بن طوق: (الناسُ كلهمُ يسعى لحاجتهِ ... ما بينَ ذي فرحٍ منها ومهمومِ) (ومالكٌ ظلَ مشغولاً بنسبتهِ ... يرمُ منها خَراباً غير مرمومِ) (يبني بيوتاً خراباً لا أنيسَ بها ... ما بينَ طوقٍ إلى عمرِو بنِ كلثوم)

وقال إبراهيم بن إسماعيل النسوي: (لو أنَ موتى تميم كلهم نُشِروا ... وأثبتوك لقيل الأمرُ مصنوعُ) (إنَّ الجديدَ إذا ما زيدَ في خَلقٍ ... تبينَ الناسُ أنَ الثوبَ مرقوعُ) وقالوا أهجى بيت قاله محدث قول الآخر: (قبحتْ مناظرُهمْ فحينَ خبرتهم ... حسنتْ مناظرهم لقبح المخبرِ) ولست أعرف أبلغ في الهجاء من قول الأول: (إن يفجروا أو يغدروا ... أو يبخلوا لم يحظلوا) (وغدوا عليك مرجلينَ ... كأنهم لم يفعلوا) هذا أبلغ من ذكر الفروج والقول الفاحش المقذع في الأمهات والأخوات. ومن البليغ قول حسان: (أبناء طارف لنْ تلقي لهم شهباً ... إلا التيوس على أقفائها الشعرُ) (إن نافروا نفروا أو كاثروا كثروا ... أو قامروا الزنجَ عن أحسابهم قمروا) (كأنَ ريحهمُ في الناس إذ خرجوا ... ريحُ الكلابِ إذا ما مسها المطرُ) قد استوفى المعنى عند قوله (ريح الكلاب) ثم قال (إذا ما مسها المطر) فجاء بتتميم حسن. وقالوا قول جرير (نُتِفَتْ شواربُهُم على الأبوابِ) وقالوا قول حسان: (أبوك أبو سُوءٍ وخالك مثلهُ ... ولستَ بخيرٍ من أبيك وخالِكا) (وإنَّ أحقَ الناسِ أنْ لا تلومهُ ... على اللؤمِ من ألفى أباهُ كذلِكا) ومن الأفراط في صفة البخل قول ابن الرومي في سليمان بن عبد الله بن طاهر: (تجنب سليمان قفل الندَى ... فقد يئسَ الناسُ من فتحهِ) (فلو كانَ يملكُ أمرَ أستهِ ... لما طمعَ الحشُ في سلحهِ)

وأبلغ ما قيل في الهجاء باللؤم قول الفرزدق: (ولو تُرمي بلؤم بني كليبٍ ... نجومُ الليل ما وضحتْ لسارِ) (ولو لبسَ النهارُ بني كليبٍ ... لدنسَ لؤمهم وضحَ النهارِ) (وما يغدو عَزيزُ بني كليبٍ ... ليطلبَ حاجةً إلا بجارِ) وقد مر البيتان الأولان فيما تقدم. ومن الافراط في الهجاء قول الآخر: (لو اطَلعَ الغرابُ على تميم ... وما فيها من السوآتِ شابا) وقول الآخر: (سَل اللهَ ذا المنَ من فضلهِ ... ولا تسألنَ أبا وائلهْ) (فما سألَ الله عبدٌ لهُ ... فخابَ ولو كانَ من باهلْه) وقال الآخر: (ولو قيلَ للكلبِ يا باهلي ... لأعولَ من قبح هذا النسبْ) وأنشدني أبو أحمد أنشدني أبو مسلم بن بحر لإبراهيم بن العباس وهي أبيات مشهورة أوردتها لأني لست أجد مثلها في معناها: (ولما رأيتك لا فاسقاً ... تهابُ ولا أنتَ بالزاهدِ) (وليسَ عَدُوك بالمتقي ... وليس صديقك بالحامدِ) (أتيتُ بك السوقَ سوقَ الرقيقِِ ... فناديتُ هل فيك من زائد) (على رجلٍ غادرٍ بالصديقِ ... كفورٍ لنعمائهِ جاحد) (فما جاءني رجلٌ واحدٌ ... يزيدُ على درهم واحد) (سوى رجلٍ حار منه الشقا ... وحلتْ به دعوةُ الوالد) (فبعتك منهُ بلا شاهدٍ ... مخافةَ أدرك بالشاهدِ) (وأبتُ إلى منزلي سالماً وحَلَ البلاءُ على الناقدِ) وقد أحسن التصرف فيها فما قاربه في معانيها أحد. وأبلغ ما قيل في البخل قول ابن الرومي:

(يقترُ عيسى على نفسهِ ... وليسَ بباقٍ ولا خالدِ) (فلو يستطيعُ لتقتيرهِ ... تنفس من منخر واحد) (رضيتُ لتشتيت أمواله ... يدي وأرثٍ ليسَ بالحامدِ) والناس يظنون أن ابن الرومي ابتكر هذا المعنى وإنما أخذه مما رواه الجاحظ أن فلاناً كان يقير أحدى عينيه ويقول إن النظر بهما في زمن واحد من السرف. ومن الفرد الذي لا شبيه له قول بعضهم: (إلى اللهِ أشكو أنني بتُ طاهراً ... فجاءَ سلوليٌ فبالَ على رجلي) (فقلتُ اقطعوها باركَ اللهُ فيكمُ ... فإني كريمٌ غير مدخلها رحلي) وقلت: (وقفت لديكمْ للسلام عليكُم ... وقوفي على أطلالِ سلمى وعاتكهْ) (يرومك تسليم العفاة كأنه ... بوادرُ طعنٍ في الضلوع مواشكهْ) (وما فيكمُ حرٌ يكرمُ ضيفهُ ... ولكن إذا ما ساء أكرم نائلَهْ) (وإن كنتمُ ناسا وما أنتمُ بهِ ... فإن القرودَ والكلابَ ملائكةْ) وليس في هذا الباب أبلغ من هذا ولا أعرفني سبقت إليه. وقال بعضهم: (سمعت المديح أناساً دون مالهم ... رد قبيح وقول ليسَ بالحسنِ) (فلمْ أفز منهمُ إلا بما حملتْ ... رجلُ البعوضةِ من فخارةِ اللبن) وهذا كما تراه بليغ جداً. وقال الآخر (يعطيك ما تعطيك مكحلة ... ) وأنشدنا أبو أحمد عن أبيه عن أبي طاهر لدعبل: (أتقفلُ مطبخاً لا شئ فيهِ ... من الدُّنيا تخافُ عليه أكلُ) (فهذا المطبخ استوثقتَ منه ... فما بالُ الكنيفِ عليهِ قفلُ) (ولكن قد بخلتَ بكلَ شئٍ ... فحتى السلح منكَ عليك بخل) وأنشدنا: (وإنَ لهُ لطباخاً وخبزاً ... وأنواعَ الفواكهِ والشرابِ) (ولكن دونهُ حبسٌ وضربٌ ... وأبوابٌ تطابقُ دونَ بابِ)

(يذودونَ الذُبابَ يمرُ عنه ... كأمثالِ الملائكةِ الغضابِ) وقال الخليل بن أحمد: (لا تعجبنَ لخيرٍ زلَ عن يدهِ ... فالكوكبُ النحسُ يسقي الأرضَ أحيانا) وقال أبو تمام: (صدقَ أليتهُ إن قال مُجهداً (لا والرغيفِ) فذاك البِر من قَسَمِهْ) (وإن هممتَ به فاقتك بخبزتهِ ... فإن موقعها من لحمهِ ودمهِ) (قد كانَ يعجبني لو أنَ غيرتهُ ... على جرادقةٍ كانتْ على حرمه) وقال الآخر: (يَزدادُ لؤماً على المديح كما ... يَزدادُ نتنُ الكلابِ بالمطرِ) وقلت: (خُبزُ الأميرِ عشيَّةً ... يغدُو عليهِ يُلاعبُهْ) (وإذا بَدَا لجليسهِ ... أفضى إليه يعاتبُهْ) (وتحوطُهُ أحراسُهُ ... وَتذبُ عنهُ كتائبه) (فالزورُ يُصفعُ عندهُ ... والضيفُ ينتفُ شاربه) وقال آخر: (فتى لرغيفهِ فرط وشغف ... واكليلانِ من دُرٍ وشذرِ) (إذا كسر الرَّغيف بكى عليهِ ... بكا الخنساء إذ فجعتْ بصخر) (ودونَ رغيفهِ قلعُ الثنايا ... وحربٌ مثل وقعةِ يوم بدرِ) وقال آخر: (إنَّ هذا الفتى يصون رغيفاً ... ما إليه لآكلٍ من سبيلِ) (هو في سفرتين من أدمِ الطائف ... في سلتين في منديل) (خُتمتْ كلُ سلةٍ برصاصٍ ... وسيورٍ قُددن من جلدِ فيلِ) (في جرابٍ في جوفِ تابوتِ موسى ... والمفاتيحُ عندَ ميكائيلِ) وقلت: (لنا سيدٌ واحدٌ ماجدٌ ... يقتل في الجود آباءهُ) (لئيمٌ إذا جاءهُ طارقٌ ... فقد جاءَه كلُ ما ساءَهُ)

(وهل يطمعُ الناسُ في خبزه ... إذا كان يمنعهم ماءَه) (فما ولغ الكلب في لؤمه ... لما زال يقذفُ أمعاءَه) وسمعت عن أبي حفص يقول قال جعفر بن محمد العسكري أبلغ ما قاله محدث في البخل قول بعضهم: (الحابس الرَوثَ في أعفاج بغلته ... خوفاً على الحبَ من لقطِ العصافيرِ) وأجود ما قيل في البخل قول بعضهم: (وعدت فأكدت المواعيد بيننا ... وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبلِ) (وأجررت لي حبلا طويلا تبعته ... ولم أدر أنَ اليأسَ في طرف الحبلِ) وقال أبو نواس: (رأيتُ قُدور الناس سوداً من الصَّلى ... وقِدر الرَقاشين زهراء كالبدرِ) (يُبيتهُا للمعتفي بفنائهمْ ... ثلاثا كنقط الثاء من نُقَط الحِبرِ) (إذا ما تنادَوا للرَّحيل سعى بها ... أمامهمُ الحوليّ من ولد الذّر) (ولو جئتها ملأى عبيطاً مجزراً ... لأخرجت ما فيها على طرف الظفر) غيره: (يحصنُ زَاده عن كلَ ضرس ... ويعمل ضرسه في كلِّ زادِ) (ولا يَروي من الآداب شيئاً ... سوى بيتٍ لأبَرهةَ الأيادي) (قليلُ المالِ تُصلحهُ فيبقى ... ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ) وقلت في مثلهِ: (يطعمُ دُونَ الشبع أولادَهُ ... ويختمُ البُرمَةَ والجفنَه) (لم يَروٍ إلاَّ خبراً واحداً ... قد تذهبُ البطنةُ بالفطنة) وقال آخر: (ظلمتك إذ سألتك ماءَ كرم ... وماءُ الكرم للرجلِ الكريمِ) وقلت: (لك بُرمةٌ نَزَّهتها ... من أن تدنسَ بالدَّسَمْ) (بيضاءَ يُشرقُ نورُها ... كالبدرِ في غسقِ الظلم)

(لو كانَ عرضُك مثلها ... كنتَ المَمدح في الأمم) (أو كانَ فعلك مثلَ قولك ... كنتَ تاريخَ الكرم) ومن أبخل بيت قيل: (وما رَوَحتنا لتذبَ عنا ... ولكنْ خَفتَ مرزئةَ الذباب) وقال أبو نواس يصف قدراً: (يغصُ بحلقومِ الجرادةِ صدرها ... وينضحُ ما فيها بعودِ خلالِ) (وتغلى بذكرِ النارِ من غير حرها ... وتنزلها عفواً بغير جمال) (هي القدرُ قدرُ الشيخِ بكرِ بنِ وائلٍ ... ربيعِ اليتامى عامَ كلِّ هزالِ) وقال ابن الرومي: (رأى البخلَ طباً فهو يحمي ويحتمي ... فلستَ ترى في بيته غيرَ جائعِ) ومن أجود ما قيل في زيادة البخل والشح مع زيادة المال قول ابن الرومي: (إذا غمرَ المالُ البخيلَ وجدتهُ ... يزيد به يَبساً وإن ظنّ يرطُب) (وليس عجيباً ذاك منهُ فأنهُ ... إذا غمرَ الماءُ الحجارةَ تصلبُ) وهو مأخوذ من قول بعض حكماء الهند. وأنشدنا أبو أحمد عن أبيه عن أبي طاهر: (رغيفك في الحجابِ عليه قفلٌ ... وحراسٌ وأبوابٌ منيعَهْ) (رأوا في بيتهِ يوماً رغيفاً ... فقالَ لضيفه هذا وديعة) وأنشدنا عنه: (له حاجبٌ دُونهُ حاجبٌ ... وحاجبُ حاجبهِ مُحتجبُ) وقال أبو تمام: (لا تكلفنَ وأرضُ وجهك صخرةٌ ... في غيرِ منفعةٍ مؤونةَ حاجبِ)

وقال آخر: (لا تتخذْ باباً ولا حاجباً ... عليك من وجهك حُجابُ) وأنشدنا: (أعجبت أن ركب ابن حزم بغلة ... فركوبُه ظهرَ المنابرِ أعجبُ) (وعجبت أن جعل ابن حزم حاجبا ... سُبحانَ من جعلَ ابنَ حزم يحجب) وقال آخر: (إحتجب الكاتب في دَهْرِنا ... وكان لا يحتجبُ الحاجب) (القومُ يخلون بحجابهم ... فينكحُ المحجوبُ الحاجب) وقال آخر وأحسن: (وصاحبٌ أسرفتُ في مدحه ... وبخلهُ يُسرعُ تكذيبي) (وحجابهُ ألزمني منزلي ... وبخلهُ أحسنَ تأديبي) وقلت في معناه: (مدحت فلم تصدق ولم تك مُذنبا ... ولكنَ دهراً لم يساعدك مذنب) (وما الجهلُ إلا أن تقرظَ معشراً ... خلائقهم يشهدنَ أنك تكذبُ) وأنشدنا أبو أحمد: (لا خيرَ في صاعدٍ فأذكرهُ ... والخيرُ يأتيك من يدي عمرِ) (ليسَ لهُ ما خلا أسمهِ نسبٌ ... كأنهُ آدمٌ أبو البشر) ومن أظرف ما قيل في هذا الباب قول ابن الرومي: (لك وجهٌ كآخر الصكَ فيهِ ... لمحاتٌ كثيرة من رجالِ) (كخطوطِ الشهودِ مشتبهاتٍ ... معلماتٍ أن لستَ بابن حلالِ) وقلت: (إن كانَ شكلك غيرُ مُتفق ... فكذا خلالك غيرُ مؤتلفة) (من عصبةٍ شتى إذا اجتمعوا ... شبهت داركم بع عرفه) (صورت من نطف قد اختلفت ... فأتتْ خلالُك وهي مختلفهْ) (فورِثتَ من ذا قبحَ منظرهِ ... وورثت ذاك خناه أو صلفه) (عريتني أنْ رُحتُ في سَمل ... والدُرُ لا تزري به الصدفة)

وأجود ما قيل في عظم الجسم مع قلة العقل من الشعر القديم قول حسان: (جِسُمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ) 5 وقال ابن الرومي: (طولٌ وعَرضٌ بلا عقلٍ ولا أدبٍ ... فليسَ يحسنُ إلا وهو مَصلوبُ) وقال وأحسن: (إذا فقتَ الذميمَ بحسن جسمٍ ... فلا يسبقك بالشيمَ الشريفة) (فيصبح أفضلَ الرجلين نفساً ... وتصبحُ أعظمَ الرجلينِ جيفه) وأنشدنا أبو أحمد أنشدني ابن لنكك لنفسه: (إثنان لم ينكرهما منكرٌ ... بغضُ أبي إسحاقَ والموتُ) (ويدعي العلمَ على أنهُ ... قد طارَ بالجهلِ لهُ الصوتُ) (لا يلتقي والعلم في مجلس ... أو يلتقي الإدراكُ والفوتُ) وكتب ابن العميد وليت شعري بأي حلي تصديت له وأنت لو توجت بالثريا وتمنطقت بالجوزاء وتوشحت بالمجرة وتقلدت قلادة الفكة ما كنت إلا عطلاً ولو توضحت بأنوار الربيع الزاهر وشدخت في جبينك غرة البدر الباهر واستعرت من الصباح ثوباً وخضت أوضاح النهار خوضاً ما كنت إلا غفلا. وأبلغ ما قيل في صفة ثقيل ما أنشدناه ابن أبي حفص عن جعفر: (وثقيل أشدّ من غصص الموت ... ومن زفرةِ العذابِ الأليمِ) (لو عصتْ ربَّها الجحيمُ لما كان ... سواهُ عقوبةً للجحيمِ) وأبدع ما قيل في هذا المعنى قول بشار: (ربما يثقلُ الجليسُ وإن كانَ ... خفيفاً في كفهِ الميزانِ) (ولقد قلتُ حين طل على القوم ... ثقيلٌ أرني على ثهلان)

(كيف لم تحملِ الأمانةَ أرضٌ ... حملتْ فوقها أبا سفيانِ) أخذه ابن الرومي فقال: (أنتَ فضلٌ وفضلةُ الشئ لغوٌ ... ثم أردفتَ ذلةَ التصغيرِ) (حُقرَ الفضلُ ثم صُغرتَ عنهُ ... زادك اللهُ يا صغيرَ الحقيرِ) (ثمَ عَرجتَ فاحتواكِ انتقاصٌ ... في اسمِ سوء وجسمِ سوءٍ ضريرِ) (ثم بردتَ فانتصفتَ من النار ... ببردٍ يربى على الزمهريرِ) (فقبولُ النفوس إياكَ عندي ... آيةٌ فيك للطيفِ الخبيرِ) (إنَ قوماً أصبحتَ تنفقُ فيهم ... لعلى غاية من التسخيرِ) (أو أناس غدوا وارحوا من الطرفِ ... على حالةِ الفقير الوقيرَ) (فمتى ظفروا بزور ظريفٍ ... أعجبتهم زخارفُ التزوير) (كالأعاريب لم يروا درمك البرَ ... فهم يعظمونَ خبزَ الشعير) (وكذا القومُ لم يروا لجة ... البحر فهم يكبرونَ ماء الغدير) (يا ثقيلا على القلوب خفيفاً ... في الموازين دونَ وزن النقير) (طر سخيفاً وقع مقيتاً فطوراً ... كسفاة وتارةً كثبير) وله: (وثقيل سبحانهُ من ثقيل ... وتعالى عن كلَ مثلٍ وندَ) (حمل الله أرضه ثقليها ... وعلاها بثالث من أد) وأجود ما قيل في تباعد الأشباه من الأقرباء ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي قال سمعت المبرد يقول لم يقل في تباعد الأشباه من الأقرباء أجود من قول ابن أبي عيينه يهجو خالد بن يزيد المهلبي ويمدح أباه في كلمة: (أبوكَ لنا غيثٌ نعيشُ بفضله ... وأنتَ جرادٌ ليس يبقى ولا يَذَرْ) (له أثرٌ في المكرماتِ يسرُّنا ... وأنت تعفي دائماً ذلك الأثر)

(لقد قنعتْ قحطانُ خزياً بخالد ... فهل لك فيه يخزيك اللهُ يا مُضرُ) فسمع المهدي بيته هذا فقال بل تكرمون وتؤثرون. وله في مثل ذلك يقول في قبيصة بن روح بن حاتم يفضل عليه ابن عمه داود بن يزيد بن حاتم: (أقبيصُ لستَ وإن جهدتَ ببالغ ... سعىَ ابن عمك في الندى داودِ) (شتانَ بينك يا قبيصُ وبينه ... إنَّ المذَممُ ليس كالمحمود) (داودُ محمودٌ وأنتَ مُذممٌ ... عجباً لذاك وأنتما من عودِ) (ولربَ عود قد يشقُ لمسجد ... نصفاً وسائرهُ لحشَ يهود) وقلت في خلاف ذلك: (كم حاجةٍ أزلَتها ... بكريمِ قومٍ أو لئيم) (فإذا الكريمُ من اللئيم ... أو اللئيم من الكريمِ) (سبحانَ ربِ قادرٍ ... قدرَ البريةَ من أديم) (فشريفهم ووضعيهم ... سيان في شرفٍ ولومِ) (قد قلَّ خيرُ غنيهم ... فغنيهمْ مثلُ العديمِ) (وإذا اختبرتَ حميدَهم ... الفَيته مثلَ الذميم) لا (نفعَ فيهِ) للصغير ... من الأمورِ ولا العظيمِ) (أنظر إلى كبرِ الجسوم ... ولا تسلْ رفعَ الجسيمِ) وقالوا أنصف بيت قيل في الهجاء قول حسان: (هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعندَ اللهِ في ذاك الجزاءُ) (أتهجوهُ ولستَ لهُ بكفءٍ ... فشركما لخيرِكما الفداءُ)

يقوله في أبي سفيان بن الحارث، وفيه يقول أيضاً: (أبوك أبٌ حرٌ وأمُّك حُرةٌ ... وقد يلدُ الحرانِ غيرَ نجيبِ) (فلا يعجبنَ الناسُ منك ومنهما ... فما خَبثٌ من فضةٍ بعجيب) وأخبرنا أبو علي بن أبي حفص أخبرنا جعفر بن محمد قال أهجى ما قالت العرب قول الشاعر: (فصبراً على ذلّ ربيع بن مالك ... وكلُ ذليل خَير عادته الصبرُ) (تحالفكم فقرٌ قديمٌ وذلة ... وبئسَ الحليفان المذلةُ والفقرُ) ومن غير هذا الفن ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن عسل قال قال أبو سرج سمعني أبو دلف أنشد: (لا يمنعنك خفضُ العيشِ في دعًةٍ ... نزوعُ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ) (تلقى بكلِّ بلادٍ إنْ حللتَ بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيرانِ) فقال هذا الأم بيت قالته العرب. والنزوع ههنا ردئ والجيد النزاع، وإنما جعل هذا البيت أبو دلف ألأم بيت قالته العرب لأنه يدل على قلة رعاية وشدة قساوة، وحنين الرجل إلى وطنه من المناقب التي يعتد بها ويمدح لأجلها لما فيه من الدلائل على كرم الطينة ووفور العقل، وقد قالت الحكماء: حنين الرجل إلى وطنه من علامات الرشدة. وقال بزرجمهر: من علامات العاقل بره بإخوانه وحنينه إلى أوطانه ومداراته لأهل زمانه، وقال أعرابي: لا تشك بلداً فيه قبائلك ولا تجف أرضاً فيها قوابلك وقالت العرب: أكرم الخيل أشدها جزعاً من السوط وأكيس الصبيان أشدهم بغضاً للمكتب وأكرم الصفايا أشدها حنيناً إلى أوطانها وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمهاتها وأكرم الناس آلفهم للناس. وقلت: (إذا أنا لا أشتاقُ أرضَ عشيرتي ... فليسَ مكاني في النهى بمكينِ) (من العقل أن أشتاقَ أولَ منزل ... غنيتُ بخفضٍ في ذراه ولين) (وروض رعاهُ بالأصائلٍ ناظري ... وغصن ثناهُ بالغداةِ يميني)

(وإني لا أنس العهودَ إذا أتتْ ... بنات النوى دونَ الخليطِ ودوني) (إذا أنا لم أرعَ العهودَ على النوى ... فلست بمأمون ولا بأمينِ) وسنذكر من هذا الباب طرفاً فيما بعد إن شاء الله تعالى. ومما لا تكاد تجد أجود منه في معناه ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي قال دخل بعض الشعراء على بعض الأمراء ببرقعيد فجعل ينشده وجعل الأمير يعاتب جارية بين يديه ولا يسمع منه فخرج وهو يقول: (أدبٌ لعمركَ فاسدٌ ... مما تُؤدبُ بَرْقعيدُ) (مَنْ ليس يعرف ما يريد ... فكيفَ يعرفُ ما نريدُ) (منْ ليسَ يضبطهُ الحديد ... فكيفَ يضبطهُ القصيد) (مالي رأيتك مرسلاً ... أينَ السلاسلُ والقيود) (أغلا الحديدُ بأرضكم ... أم ليسَ يصطك الحديدُ) وقلت في المعنى الذي تقدم: (قلَ خيرُ ابن قاسم ... فغناهُ كعدمهِ) (كادَ منْ خشية القرى ... يختبي في حِرامهِ) (جازَ في اللؤم حَدَهُ ... كأبيه وعمهِ) (كادَ يعديك لؤمهِ ... لو تسميتَ باسمه) وقلت: (قرانا بُقولاً إذ أنخنا ببابهِ ... فأصبحَ فينا ظالماً للبهائمِ) (وقفنا عليهِ الركبَ نسألهُ القرى ... ونحن على أعناق أغبر قائم)

(فصامَ وصوم الليلِ ليس بجائزٍ ... وإن جازَ في فقهِ اللئام إلا شائم) (أجازَ صيامَ الليلِ حين استفزهُ ... تعاورُ ضيفٍ في دُجى الليلِ عائمِ) (فبتنا أديمَ الليلِ نطوي على الطوى ... كأنا على غبراءَ من ظهر واشم) (وأطمعنا لما مرقنا من الدُّجى ... دحاريجَ لا تنساقُ في حلقِ طاعم) (مُدورةً سودَ المتون كأنها ... خصى الزَّنج لاحت تحت فِيَش قوائمِ) (فأبشارها تحكي بطونَ عقاربٍ ... وأرؤسها تحكي أنوفَ محاجم) ومن أعجب الهجاء هجو الرجل نفسه وهو ما رويناه للحطيئة ثم قال ديك الجن: (أيها السائلُ عني ... لستَ بي أخبرَ منّي) (أنا إنسانٌ براني الله ... في صورةِ جني) (بل أنا الأسمج في العين فدع عنك التظى) (أنا لا أسلم من نفسي فمن يسلمَ مِنّي) وهجا أبو نواس نفسه من حيث لا يعلم فقال في رجل وعده أبو نواس وعداً ثم مطله: (وأحوس ولاجٌ علىَ روائحٌ ... رجاءَ نوال لو أعين بجودِ) (زويتُ له وجهاً قطوباً عن الندى ... وأيأستهُ من وعدهِ بوعيد) (فان كنتَ لاعن سوء فعلك ... مقلعاً ... فدونك فاستظهر بنعلِ حديدِ) (فعندي مطلٌ لا يطير غرابُه ... مطير ولا يدعى له بوليد) ومن خبيث الهجاء قول ابن الرومي: (مني الهجاء ومنك الصبر فاصطبرِ ... لشرَ منتظر يا شرَ منتظر)

(أنتَ اللئيم فان تصبر فمن قحة ... على الهوان وإن تجزع فمن خورِ) (رأيت عيبك شعري حين تالمه ... شبيه عضَ أخيك الكلب للحجر) (فانظر إلى الكلب مرمياً لتعلم أن ... لم تترك شبهاً منه ولم تذر) وقال ابن الزمكدم: (وليلٍ كوجهِ البر قعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونِهْ) (سريت ونومي فيه نومٌ مشردٌ ... كعقل ابن هارون ورقة دينه) (على أولق فيه اختبالٌ كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونِهْ) ومن أبلغ ما قيل في الجبن من الشعر القديم قول الشاعر: (ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومةً تدعوا عبيداً وأزلماً) أي لو رأيت عصفورة لحسبتها من جنبك خيلاً مسومة، ومثله قول عروة بن الورد: (وأشجع قد أدركتهم فوجدتهم ... يخافون خطف الطير من كلِّ جانبِ) ومثله قول الآخر: (ما زلت تحسب كل شئ بعدهم ... خيلاً تكرُّ عليهم ورجالا) وقال أبو تمام: (موكل بفضاءِ الأرضِ يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفة الطربِ) وأبلغ ما قاله محدث في ذلك قول ابن الرومي: (وفارس أجبن من صفره ... يحول أو يعور من صفره) (لو صاح في اليل به صائحٌ ... لكانت الأرض له طفره) (يرحمه الرحمن من جنبه ... فيرزق الجندية النصره) وقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر: (قرنُ سليمان قد أضرَ به ... شوقٌ إلى وجههِ سيدنفهْ) (لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه)

وقال فيه: (هو الأسدُ الوردُ في قصرِهِ ... ولكنه ثعلبُ المعركة) ومن ظريف ما جاء في ذلك قول أبي الغمر هارون بن محمد من أهل آمل خرج عليه اللصوص فسلم إليهم متاعه وهرب: أنشدناه أبو أحمد عن الأنباري: (طلتَ تشجعني ضلاً بتضليل ... وللشجاعة خطبٌ غير مجهولِ) (هاتي شجاعاً بغير القتل مصرعه ... أو جدك ألف جبان غير مقتولِ) (والله لو أن جبريلاً تكفل لي ... بالنصر ما خاطرت نفسي لجبريل) (إسمع أحدثك عن بذي شكر ... خلاف بأس المساعير البهاليل) (لما بدت منهم نجوى جميعة ... تسرع الذ عرضي وفي طولي) (حتى اتقيتهم طُوعاً بذات يدي ... وانصعت أطوى ألفا ميلا إلى ميل) (الله خلصني منهم و؟ ... حتى تخلصت مخضوب السراويلِ) وهذا خلاف ما قاله المتنبي: (وإذا لم يكنْ من الموت بدٌ ... فمن العجزِ أن تموتَ جبانا) وقال سعيد بن العاصي حين هرب مروان بن محمد: (لجَ الفرارُ بمروانٍ فقلتُ لهُ ... عادَ الظلومُ ظليماً همُّهُ الهربُ) (أنى الفرار وترك الحربِ إذ كشفت ... عنك الهوينا فلا دينٌ ولا حسبُ) (فراسه الحلم فرعون العذاب وان ... تطلبْ نداه فكلبٌ دونهُ كلبُ) فشبهه بالنعامة في الجبن وهو من أنفر الحيوان. وقال بعض العرب: (نفرجةٌ ينفرُ من ظلَ الشجرْ ... فؤادهُ أنثى وضرسهُ ذكرُ) والنفرجة الجبان. ومن جيد ما قيل في التطير قول بعضهم: (الكوكب الذنبي يخبر ... بالعجائبِ بعد سبعة) (خلعوا عليه وبجلوه ... وصار في عزٍ ومنعه) (وكذاك يفعل بالجذور ... لنحرها في يوم جمعه) وقريب منه: (وزارة العباس منكوسةٌ ... تقتلع الدَّولة من أسّها)

(كأنه حين غدا راكباً ... في خلعة يعجزُ عنْ لبسها) (جاريةُ السوء إذا جربت ... ثيابَ مولاها على نفسِها) وأكسل ما سمعناه ما أنشدناه أبو أحمد عن ابن عماد عن سليمان عن يحيى بن سعيد الأموي لبعضهم: (سألت الله أن يأتي بسلمى ... وكان الله يفعل ما يشاءُ) (فيأخذها ويطرَحُها بجنبي ... ويرقدها وقد كشف الغطاء) (ويأخذني ويطرَحُني عليها ... ويرقدها وقد قضَى القضاءُ) (ويرسل ديمةً سحا علينا ... فيغسلنا ولا يلقى عَناءُ) أخبرنا أبو أحمد عن أبي عمر عن ثعلب قال قلت لابن الأعرابي من أحمق الأعراب؟ قال أعرابي سبق الناس إلى الموسم وجعل يدعو الله لحاله وشأنه ويقول: اللهم اقض حاجاتي قبل أن يدهمك الوفد. قال ثعلب أفلا أدلك على أحمق منه الذي يقول: (خلقَ السماءَ وأرضهُ في ستة ... وأبوك يمدد حوضه في عام) وسألني بعض الأدباء من أهل البصرة فقال أي الشعراء أشد حمقاً؟ قلت الذي يقول: (أتيهُ على إنسِ البلادِ وجنّها ... ولو لم أجدْ خلقاً لتهتُ على نفسي) (أتيه فلا أدري من التيهِ من أنا ... سوى ما يقول الناسُ فيَّ وفي جنسي) (فإن صدقوا أني من الإنس مثلهم ... فما فيَّ عيبٌ غيرَ أني من الإنسِ) فقال ما عدوت ما في نفسي. وقال بعضهم لابنه إياك والكبر وكيف الكبر مع النطفة التي منها خلقت والرحم التي فيها حملت والغذاء الذي به غذيت. ومن بليغ ما جاء في ذم الكبر قول بعضهم: التواضع مع السخافة والبخل أحمد من السخاء والأدب مع الكبر والعجب. وقلت في مثل هذا: (وعندَهُمْ مُذنِبٌ مُنيبٌ ... أحمدُ من محسنٍ مدلّ) وأبلغ ما قيل في صلابة الوجه قول الأعرابي: لو دق بوجهه الحجارة لرضها

ولو خلا بالكعبة لسرقها. ومن المنظوم قول بعضهم: (لو كنت من شئ خلافك لم تكن ... لتكون إلا مشجباً في مشجب) (يا ليتَ لي من جلد وجهك رقعة ... فأقدّ منها حافراً للأشهب) والبيت الأول مأخوذ من قول بعضهم: فلان يشجب من حيث رأيته وجدت (لا) . (وقد أحسن ابن أبي العتاهية في قوله: (قتلتْ (لا) فإنها ... خلعت خلعةَ العدم) (فهي تستهلك الجميل وتأتي على الكرمِ) وقول أبي تمام: (وسابحٍ هطلِ التعداءِ هّتانِ ... على الجزاء أمين غير خوانِ) (أظمى الفصوصَ ولم تظمأ قوائمه ... فخل عينيك في ظمآن ريانِ) (فلو تراه مسيحاً في الحصى ريم ... تحت السنابكِ من مثنى ووحدان) (أيقنت ان لم تثبت أن حافرهُ ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان) وقال في معناه يمدح رجلاً ويهجو عثمان هذا: (عثمان لا تلهج بذكر محمد ... يرضيك طول المجد عنك وعرضه) (بذلك كله امساكه ... ويفوتُ بسطكَ في المكارم قبضه) (وكأن عرضَك في السهولةِ وجهه ... وكأنَّ وجهَك في الحزونِة عرضهُ) وقال أبو الشمقمق: (صلابةُ الوجهِ سلاحُ الفتى ... ورقةُ الوجهِ من الحرفهْ) (من كانَ صلباً وجههُ محكماً ... فأنت منه الدّهر في طرفه) ومن أبخل ما قاله محدث قول ابن طباطبا الأصبهاني يخاطب غلامه: (إجعل الزَّوج من سراجك فردا ... واقتصد يا غلامُ والقصد أجدى)

(إن يكنْ فقدك الضياء رديئاً ... فاقتصادي للزر أردى وأردى) وقد غير هذا البيت في وجوه الأبيات المقولة في البخل. ومن أملح ما قيل في مخالفة ظاهر الرجل باطنة قول بعضهم: (إذا ما جئتَ أحمدَ مستميحا ... فلا يغررك منظرهُ الأنيقُ) (لهُ خلقٌ وليس عليهِ خلقٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تريق) وممن ملح في الدعوة رزين العروضي: (لقد جئت يا ابن أبي تبّع ... بأمِّ الدَّواهي لدى المجمعِ) (حلفت بأنك من حميرٍ ... وليس اليمين على المدَّعي) وملح أيضاً في قوله: (إنْ فخرَ الناسُ بآبائهم ... أتيتهمْ بالعجب العاجبِ) (قلتَ وأدغمت أباً خاملاً ... أنا ابن أخت الحسن الحاجبِ) ومن أملح ما قيل في إفشاء السر قول بعضهم: (أوْدَعْتُهُ السرِّ فألفيتهُ ... انمَّ منْ كأسٍ على راح) وقال السري: (تثنى عنك فاستشعرتَ هجرا ... خلالٌ فيك لست لها براضِ) (وإنك كلما استودِعْتَ سرّا ... أنمّ من النسيم على الرِّياضِ) وقد أحسن كعب بن زهير غاية الإحسان في قوله: (ولا تمسك بالعهدِ الذي عهدتْ ... إلّاُ كما يمسك الماءَ الغرابيلُ) وأخذه الحطيئة فقال: (أغربالاً إذا استُودِعت سِراً ... وكانوناً على المتحدِّثينا) والكانون: الرجل الثقيل، قال الشاعر: (ليتَ الكوانينَ في زبل معلقة ... تحتَ الثريا بحبل ثم ينقطع)

وقد مر فيما تقدم بيت الحطيئة: ومدح ابن الرومي ابن المدبر فرد مديحه فقال فيه: (رددتَ علىَ مدحي بعدَ مطلٍ ... وقد دَنَستْ ملبسه الجديدا) (وقلت امدح بِه من شئتَ غيري ... ومن ذا يقبل المدحَ الرَّدِ يدا) (ولاسيما وقد أعلقتَ فيهِ ... مخازيك اللواتي لن تبيدا) ثم أخنى عليه بالهجاء حتى قال فيه وقد ضربه الريح بالأهواز ضربة في وجهه مدحه بها البحتري مدحاً كثيراً فمن ذلك قوله: (ووجهٌ ضمان البشر فيه موقفٌ ... على النجح والحاجاتُ تترى عجالُها) (به من صفيح الهند وشمٌ تبينهُ ... صفيحةُ وضَّاح يروق جمالُها) (متى ربدتها عزةٌ أو حفيظةٌ ... أعيد إليها بالسؤالِ صقالها) (متى ترَها يوماً عليها دليلها ... تعجبك من شمسٍ عليها هلالُها) وذكرها ابن الرومي فأفحش في قوله: (بوجهِ أبي إسحاق صدعٌ كعرضةٍ ... له قصةٌ غير الذي هو يظهرُ) (يخبر عنه أنه أثرُ ضَربة ... ببعضِ سيوفِ الزَّنجِ حينَ يخبر) (وما ضربتهُ الزَّنجُ في الوجهِ بل رأى ... أبورهم فانشق في وجههِ حرُ) في أبيات سخفية فطلبه ابن المدبر أشد الطلب فلما ظفر به وأراد قتله أنشأ يقول: (حقكَ الصفحُ عن ذُنوبي وحقي ... أنَ قتلي مُحللٌ لكَ طلقَ) (فاعفُ عن عبدكَ المسئِ ولا تبطل ... بما يستحقُ ما تستحقُّ) فعفا عنه وأجازه. وقال يهجو بخيلاً: (نعماك عندي التي أقرُ بها ... أنك أصبحتَ لي من الغيرِ) (وحبك الذمَ لائقٌ بك ما ... أشبهَ خطم الخنزير بالقذر) (أبديتَ في أولياتِ لؤمك ما ... قذرتَ في أخرياتهِ الآخرِ)

(كالقطرانِ الذي يرى أبداً ... في رأسهِ ما اقتني من العكر) وهو من قول الناس أول الدن دردي. وقالت العلماء البلاغة أن تجعل المعنى الدنئ رفيعاً والمعنى الرفيع وضيعاً. ومثل قول ابن الرومي قول الديملي: (في أوانِ الشبابِ عاجلني الشيبُ ... وهذا من أوَّل الدنَ دُردي) وليس هذا بالمختار لا بتذال لفظه. وقلت في بخيل: (قفعَ البردُ ضيف عمرو فأضحى ... مثلَ من فيهِ يا أخي زمانه) (باتَ للبرد في طهارةِ سوءٍ ... ومن الجوع والطوى في بطانه) (وهو قدماً للضيف جُوعٌ وقرٌ ... ولمولاهُ ذِلةٌ ومهانه) (جمع الرأس بين رأسه ورجلي ... فكأني في بيته أرسانه؟) وقلت: (ضفت عمراً فجاءني برغيف ... زادني أكلهُ على الجوع جوعا) (ثمَّ ولّى يقولُ وهو كئيبٌ ... لهف نفسي على رغيف أضيعا) (كانَ خداعةَ الضيوفِ ولكنْ ... رُبما أصبحَ الخدوعُ خديعا) (كنتُ أنزلته محلاً رفيعاً ... فغدا ذلك الرفيعُ وضيعا) (عجباً منه إذ أتيحَ هجاهُ ... كيفَ لم يمتنع وكان منيعا) (اتفاق الأسماء والألقاب وتباعد ما بينها في الأخلاق) قال الأول في ذلك: (يزيد الخير إنَ يزيد قومي ... سميك لا يزيدُ ولا تزيدُ) (يقودُ عصابةً وتقودُ أخرى ... فيرزق من يقودُ ومن تقودُ) (شبيهك في الولادةَ والتسمي ... ولكن لا يجودُ كما تجودُ) ومثله: (عليٌ وعَبدُ الله بينهما أبٌ ... وشتانَ ما بين الطبائعِ والفعلِ) (ألم ترَ عبد الله يلحى على الندى ... عليّاً ويلحاهُ عليٌّ على البخلِ) ومثله: (فإن يك مجرانا " لى جمع نسبةٍ ... ففي الرأي والأخلاقِ مختلفانِ) (وما أنتَ مثلي في مقام أقومُهُ ... لدى البأسِ إلاّ أننا أخَوَانٍ)

آخر: (لئن وصلتْ أبُوتنا انتساباً ... لقد قطعتْ مرارتنا العقولُ) (أبوكَ أبي وأنت أخي ولكنْ ... تباينت الطبائعُ والشكولُ) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي قال قال لنا المكتفي بالله يوماً ما أهتك بيت من الشعر وأفجر قائل أتعرفونه؟ فقال يحيى بن علي المنجم قول أبي نواس: (ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هي الخمرُ ... ولا تسقني سِرّاً إذا أمكن الجهرُ) فقلت له إن المأمون أمر أن يخطب بهذا البيت على منابر خراسان وقال من عيوب محمد أنه استجلس رجلاً يقول ألا اسقني خمراً، ولكن الحسين بن الضحاك الخليع قد قال ما هو أهتك من هذا قال وما هو؟ فأنشدته: (أتبعتُ سُكراً بسكر ... وابتعتُ خمراً بقمرِ) فقال هذا لعمري أهتك من ذاك. قال أبو هلال رحمه الله تعالى: وأبلغ الهجاء ما يكون بسلب الصفات المستسحنة التي تخص النفس من الحلم والعلم والعقل وما يجري مجرى ذلك وليس الهجاء بقبح الوجه وضؤولة الجسم وقصر القامة وما في معنى ذلك بليغاً مرضياً، وينبغي أيضاً أن يتضمن الهجاء والمديح من نعوت المهجو والممدوح وأسمائهما وصفاتهما ما هما مشهوران به فإذا ذكر لم يخفيا. أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن عثمان بن عفان فحرمه فقال: (سيروا فقد جُن الظلامُ عليكمُ ... فبئس امرؤ يرجو القرَى عندَ عاصمِ) (دفعنا إليه وهو كالذَّيخ خاطباً ... فشدَ على أكبادنا بالعمائم) (وماليَ من ذنبِ إليه علمتهُ ... سوى أنني قد جئتهُ غير صائم) (فلولا يدُ الفارُوقَ عندي رميتهُ ... بقافيةٍ يُحدى بها في المواسمِ)

(فليتك من جرم بن زيان أو بني ... نعيم أو النوكى أبان بن دارمِ) (أناسٌ إذا ما الضيفُ حلَ بدارهم ... غدا جائعاً غرثان ليس بناعمِ) فلما بلغ ذلك عاصماً قال ما أكثر من يسمى عاصماً حتى يقول: عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان فبلغه ذلك فقال: (جنبتها عاصماً منْ أنْ تلمَ به ... أعني ابنَ عمرو بن عثمان بن عفانا) (إذا أناختْ بهِ الضيفانُ طارقة ... جاءت بنوهُ إلى الضيفان ضيفانا) فبلغه ذلك فقال: الآن طوقني بها طوق الحمامة لعنة الله تعالى. وقال بعضهم: (أرى ضيفك في الدار وكربُ الموت يغشاهُ ... على خبزك مكتوبٌ سيكفيكهمُ الله) وقال بشار: (وضيفُ عمرو وعمروٌ يسهران معاً ... عمرو لبطنته والضيفُ للجوعِ) آخر: (نوالك دونهُ خرطُ القتاد ... وخبزك كالثريا في البعادِ) (ولو أبصرتَ ضيفاً في المنام ... لحرمتَ المنامَ إلى التناد) (أرى عمرَ الرغيفِ يطولُ جدّاً ... لديك كأنهُ من قوم عاد) (وما أهجوك أنك كفء شعري ... ولكني هجوتك للكسادِ) وقال آخر: (رأى الصيفَ مكتوباً فظنَّ لبخلهِ ... وتصحيفهِ ضيفاً فقامَ يواثبه) ورأيت في ألفاظ هذا البيت زيادة فقلت: (قد كانَ للمال ربا ... فصار في البخل عبده) (وصحف الصيفَ ضيفاً ... فقام يلطمُ خده) وقال أبو نواس: (على خبز إسماعيل واقيةُ البخل ... ) أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أحمد بن عماد أخبرنا ابن مهرويه حدثني محمد بن عمران بن مطر الشامي حدثني خالي الحسن ابن محمد قال نصب إسماعيل بن نوبخت طارمة في صحن داره فاصطحبنا أربعين يوماً ومعنا أبو نواس فبلغت نفقته أربعين ألف درهم فقال أبو نواس بعد ذلك فيه: (خبزُ إسماعيل كالوشى إذا ما شقَّ يُرفا ... )

(عجباً من أثر الصنعةِ ... فيه كيفَ يخفى) (إنَّ رفاءك هذا ... ألطفُ الأمة كفا) (فإذا ألصق بالنصف ... من الحروف نصفا) (ألطف الصنعة حتى ... ما ترى مطعن أشفى) (مثل ما جاء من التنور ... ما غادر حرفا) (ولهُ في الماء أيضاً ... عمل أبدع ظرفاً) (مزجهُ العذب بماء البئر ... كي يزداد ضعفا) (فهو لا يسقيك منهُ ... مثل ما يشرب صرفا) فلم يسبق أبو نواس إلى هذه المعاني وهي كما تراها غاية. قال وقال فيه أيضاً: (على خبز إسماعيل واقيهُ البخل ... فقد حلَ في دار الأمان من الأكلِ) (وما خبزهُ إلا كعنقاء مغربٍ ... تصورُ في بسطِ الملوك وفي المثُلِ) (يحدّث عنها الناسُ من غير رؤيةٍ ... سوى صورةٍ ما إن تمرّ ولا تحلي) (وما خبزهُ إلا كآوى يرى ابنهُ ... ولم ير آوى في الحزونِ وفي السهل) (وما خبزه إلا كليبُ بن وائلٍ ... لياليَ يحمى عزه منبت البقل) (وإذ هو لا يستبُّ خصمان عندهُ ... ولا الصوت مرفوعٌ بجدٍ ولا هزل) (فإنْ خبزُ اسماعيل حلَ به الذي ... أصابَ كليباً لم يكنْ ذاك عن ذلَ) (ولكن قضاءٌ ليسَ يسطاعُ ردهُ ... بحيلة ذي مكرٍ ولا دهي ذي عقل) وكان الجاحظ يفضل قوله (وإذ هو لايستب خصمان عندهُ) على قول مهلهل (واستبَّ بعدك يا كليب المنزل ... ) وغير ذلك قال ابن الرومي:

(وقينةٍ أبرَد من ثلجة ... تظلُ منها النفسُ في ضجّةْ) (كأنها من نتنها ثومةٌ ... لكنها في اللونِ أترجَّه) (تفاوتتْ خلقُتها فاغتدتْ ... لكلّ مَن عطّلَ محتجه) (كأنها والوشمُ في جلدِها ... زرنيخةٌ شيبتْ بليلنجه) (خراجةٌ للفسق دخالةُ ... تعجبها الدخلةُ والخرجه) (كأنما فقحتها فحمةٌ ... فتّ عليها عابث ثلجة) وهي أبيات سخيفة تركت أكثرها لسخفه. ونقل قوله (فهي لمن عطل محتجه) إلى موضع آخر فقال في إسماعيل بن بلبل: (لا سيقتُ نعمى تسربلتها ... كم حجةٍ فيها لزنديقِ) وقد أبدع أبو نواس في قوله يهجو جعفر بن يحيى: (قولوا امتدحتَ فماذا اعتضت قلتُ لهم ... خرقَ النعالِ وإخلاق السراويلِ) (ذاك الأميرُ الذي طالتْ علاوتهُ ... كأنهُ ناظرٌ في السيفِ بالطولِ) وكان جعفر طويل الوجه والقفا. وقال فيه أيضاً (قفا ملك يقضي الهموم على بثق) وقلت: (سوداء يَذرفُ دمعها ... مثلَ الأتونِ إذا وكفْ) (وكأنها منْ قبحها ... سلحُ العليلِ على الخزفْ) وقال أبو تمام: (فأشهدُ ما جسرتَ عليّ إلا ... وزيدُ الخيلِ دونك في الشجاعهْ) (ووجهك إذ رضيت به نديما ... فأنتَ نسيجُ وحدك في القناعه) (ولو بدلتهُ وجهاً إذا لم ... أصلَ به نهاراً في جماعه) ومن أعجب ما قيل في كبر الأنف قول كشاجم: (لقد مرَ عبدُ اللهِ في السوق راكباً ... لهُ حاجبٌ من أنفه وهو مطرقُ) (رعيت له من جانب السوق مخطة ... توَّهمت أنَ السوق منها سيغرقُ)

(فأقذر به أنفاً وأقذر بربِّه ... على وجههِ منه كنيفٌ معلقُ) وقال غيره: (أنتَ في البيت وعرنينك في الدار يطوفُ) ومن أقبح ما جاء في قبح الأسنان قول جرير: (إذا ضحكت شبهت أنيابها العلى ... خنافس سودا في صراة قليبِ) وإنما خص الأنياب العلى دون السفلى لأنها تبدو في التبسم والتكلم وعند التثاؤب، وهو كقول الآخر: (إذا كان يهدي بردُ أنيابها العلى ... لأفقرَ مني إنني لفقيرُ) فشبه أسنانها بالخنافس وسعة فمها بالقليب، والصراة: الماء الفاسد فشبه به فساد نكهتها. وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن الرياشي عن ابن سلام قال دخلت ديباجة المدنية على امرأة فقيل لها كيف رأيتها قالت لعنها الله كأن بطنها قربة وكأن ثديها دبة وكأن استها رقعة وكأن وجهها وجه ديك قد نفش عرفه يقاتل ديكاً. ومن بديع الهجاء بالتبزق والتمخط والبخر قول ابن الورمي: (تحسبُ مزكوماً وإن لم تزكم ... منْ سدةٍ في أنفك المورمِ) (مُحشرجَ الصدر بِرَطليْ بلغم ... إنْ لم تنخّع مَرَّةً تنخّم) (نخامةً كالضفدعِ الموشم ... دكناء رقطاء بقيح أو دم ... ) (ممتخطاً بالكوع أو بالمعصم ... تضرطُ من أنفٍ وتفسو من فم) (ذا نكهةٍ من لم تمتهُ يصدَم ... حتى دعاك الملأ ارحم تُرحم) وقال جحظة في البخر: (تنفسَ في وجهي فكدتُ أموتُ ... وأعرضَ عني جانباً فحييتُ) (فتنتني حتى حسبتُ بأنني ... وربكما يا صاحبيَ خريتُ) وقال بعضهم في سرعة الكلام: (كأنَ بني رالانَ إذ جاءَ جمعهمْ ... فراريجُ يلقى بينهنَّ سويقُ)

وقال دعبل في قصر الشعر: (فوهاءُ شوهاءُ لها شعرةٌ ... كأنها خملٌ على مسحِ) وقال ابن المعتز في أمرد ينتف: (وخدهُ مشوكٌ مزورُ التلويز ... كأنهُ فرنيةٌ كثيرةُ الشونيزِ) (وأنفهُ كسترةٍ مشترق الأفريز ... تحسبهُ إذا بدا سماجة النوروزِ) وقلت: (لعبَ الزمانُ بحسن وجه محمدٍ ... لعبَ الصبا بالربع حتى أفقر) (قد كانَ معروفَ الجمالِ فلمَ يَزلْ ... ينتابهُ الحدَثان حتى أنكرا) (عهدي بهِ متكفرٌ متعصفرٌ ... ثم اغتدى متصندلاً متزعفرا) (وكأنما صدغاهُ في وجناتهِ ... جعلانِ ينتابان سلحاً أصغرا) وقال ابن الرومي في غير هذا المعنى يحكي عن امرأة: (أنا كعبة النبك التي نصبتْ له ... فتلقّ مني حيث شئتَ وكبرِ) (فتبيتُ بينَ مقابلٍ ومدابرٍ ... مثلَ الطريقِ لمقبلٍ أو مدبرِ) (كأجيري المنشارِ يجتذبانهِ ... متنازعينِ في فليجِ صنوبرِ) ولا أعرفه سبق إلى هذا المعنى وهو من أظرف معنى وأعجبه وقال أيضاً وهو من ظريف المعاني (رأيتُ في دارِ حُسين مَشرَعه ... وامرأةً قاعدة مربعة) (لها بظورٌ في استِها مجمعه ... كأنها أترجةٌ مفقعة) وقال في خصي أراد أن يتزوج بامرأة: (قلِ لنجح أخطأتَ بابَ النجاحِ ... إذ تعاطيتهُ بلا مفتاحِ) (لستَ بالسابح المجيدِ فدع عنك ... ركوبَ البحارِ للسباحِ)

(فظع الحبّ بالخصيَ كما ... يفظع فقدُ المُرديِّ بالملاّحِ) (ليتَ شعري بما تظنك تصبي ... قلب ودان يا كسيرَ الجناح) (أبوجهٍ كأنه وجهُ قردٍ ... حائل اللونِ حامد المصباح) (نمشةٌ فوقَ صُفرةٍ فتراه ... كونيمِ الذُّبابِ في اللقاحِ) (إنما أنتمُ فقاحٌ فمهلاً ... ما غناءُ الفِقاحِ في الأحراحِ) (إنَ من يعشق النساء بلا أبر ... كمثل الغازي بغير سلاحِ) (لنْ يكونَ الطعانُ إلا برمح ... فدعوا الطعن للطوال الرّماحِ) ثم قال: (معشراً شبهوا القرودَ ولكن ... خالفوها في خِفّةِ الأرواحِ) وهي طويلة. ومن أعجب ما قيل في البخر قول الخالدي في رجل حلق سباله بعد أن أطاله: (حلقتَ سبالك جهلاً بما ... يواري من النكرات القباحِ) (فعذبت صحبك حتى المساء ... وعذبتَ عرسك حتى الصباحِ) (فلا أبعد اللهُ ذاك السبال ... فقد كانَ ستراً على مستراحِ) وقال ابن السكن: (رجلٌ يعقُ الكأس كلَ عشية ... ويعاقب المسواك كلَ صباحِ) وقلت: (قال لي صاحبي وقد صفقته ... نفحات الكروّس من في وصيفِ) (لعنَ اللهُ ليلة بتُ فيها ... مع رفيقي كأننا في الكنيف) وقد أبدع ابن الرومي في وقوله: (فسا على القوم فقالوا له ... إنْ لم تقم من بيننا قمنا) (فقال لا عدتُ فقالوا له ... من يف فيهِ ذا كما كنا) وقال أيضاً يذكر قينة: (مسموة الرَّيق إذا قبلتْ ... صحفت التقبيل تقتيلا)

(قبلها جلمود عُرارة ... يحسنُ للبخراءِ تقبيلا) (فاحشةُ النقصانِ لكنها ... قد كُمَّلَتْ بالبظرِ تكميلا) (أزرى بها اللهُ فلم يعطِها ... إلا بطولِ البظرِ تفضيلا) (إذا بدا الفيلُ وخرطومهُ ... قلنا أعارَتْ بِظَرها الفيلا) (غول يبيت الشرب من قبحها ... يرونَ في النومِ التهاويلا) (ما أحسنَ الأرقمَ طوقاً لها ... وأحسنَ الأسودَ إكليلا) (قد عذبَ اللهُ أمرأً نالها ... طورينِ تعجيلاً وتأجيلا) (لها ضراطٌ ريحهُ عاصفٌ ... يطفئ في الليلِ القناديلا) (حَلّت سراويلي على واسعٍ ... ما خلُته إلا سراويلا) (أحللتُ تنكيلي ببابِ استِها ... فكان للتنكيلِ تنكيلا) (لو رامت التوبةَ لم تستطعْ ... لسنّةِ الشيطانِ تبديلا) (يابسةُ العودِ وقد ذْللَتْ ... قطوفُها للنيلِ تذليلا) وهي طويلة عجيبة ليس لأحد في ملاحتها وعلو جودتها وكثرة معانيها شئ. ومما قيل في طول اللحية قول ابن الرومي: (ولحيةٍ لو شاءَ ذو المعارج ... أغنى بها كواسد النواسجِ) (ينسج مسحين بخان الدّراج ... وفَرّق الباقي على الكواسجِ) ومن ذلك قول بعضهم وهو مشهور: (ألم ترَ أنَ الله أعطاك لحيةً ... كأنك منها قاعدٌ في جوالقِ) وقال الآخر: ألم ترَ أنَ اللَّهَ أعطاك لحيةً ... كأنك منها بين تيسين قاعدٌ) وكان العوني إذا كتب كتاباً أخذ لحيته تحت إبطه وإذا كلمه انسان من الجانب الآخر التفت إليه فخلصت لحيته من تحت إبطه فمرت على الكتاب

فطمست جميع ما كتبه فيقول اللهم غفرا، فقال فيه بعضهم أوفى غيره: (لحيةُ قاضي القضاةِ لو جهدتْ ... مجهودَها لم تكنْ كعنفقته) (إذا أرادَ الكرَى توسَدها ... فقد كفتهُ مكانَ مرفقته) وقال رقبة بن مصقلة لأبي شيبة القاضي: لو كانت لحيتك هذه من الذنوب لكانت من الكبائر. وقد قيل من تدلت لحيته فقد تقلص عقله. وقلتُ: (قلْ للمدلَ بلحية موفورةٍ ... وسماد لحيةُ كلَ ألحى جهلهُ) (لا يعجبنك طولُ نبذك إنَّه ... من طال لحيتهُ تكوسج عقلهُ) وقد أجاد ابن الرومي وأبلغ وجمع في أبيات من المعاني ما لم يجمعه أحد في هذا الباب وهو قوله: (إن تطلْ لحيةٌ عليك وتعرضْ ... فالمخالي معروفةٌ للحميرِ) (علقَ اللهُ في عذرايك مخلاةً ... ولكنها بغيرِ شعيرِ) (لو غدا حكمها عليَّ لطارتْ ... في مهبِّ الرِّياح كلَ مطير) (ارع منها الموسى فإنك منها ... شهدَ اللهُ في أثام كبير) (أيما كوسج رآها فيلقى ... ربهُ بعدها صحيحَ الضمي) (هو أحرىَ بأنْ يشكَ ويغرى ... باتهام الحكيم في التقدير) (ما تلقاك كوسجٌ قطُ إلا ... جَورَ اللهَ أيما تجوير) (لحيةٌ أهملتْ فطالتْ وفاضتْ ... فإليها تشيرُ كفُ المشير) (ما رأتها عينُ امرئ ما رأتها ... قطُ إلا أهلَ بالتكبير) (روعةٌ تستخفهُ لم يرعها ... من رأى وجهَ منكر ونكير) (فاتقَ الله ذا الجلال وغير ... منكراً منك ممكن التغير) (أو فقصر منها فحسبك منها ... قيد شبرٍ علامة التذكير) (لو رآها النبي يوماً لأحدى ... في لحى النَّاس سُنةَ التقصيرِ) (واستحبَ الاحفاءَ فيهن والحلقَ ... مكانَ الاعفاءِ والتوفير)

أراد قول النبي & (أحفوا الشواربَ واعفوا عن اللحى) وقلت: (إن أبا عمرو له لحيةٌ ... بعيدَةُ البعضِ منَ البعضِ) (مضى إلى السوق وعُثنونه ... أقامَ في البيتِ فلم يمضِ) (وهو إذا ما مَر في سكةٍ ... يملأها بالطولِ والعرضِ) (يَدُوسُها الناسُ بأقدامهم ... كأنها أرضٌ على الأرضِ) وأخبرنا أبو أحمد عن أبيه قال قال الجماز اللبن لبعض كان أصحابنا في الظاهرة تل تراب فأتاه غلامه برجل يضرب له اللبِن وقد حمل في عنقه قالباً وإذا لحيته مل القالب فقلت له ليس في قالبك فضل يدخل فيه الطين مع لحيتك فقال إني سأخرجها من القالب قبل ضرب اللبن وإنما أردت أن أدفئها فيه قليلا، قال فلما رأيت حمقه قلت يحتاج أن يضرب في كل يوم ألف لبنة. قال خريم أنا أقدر على ذلك. وقال الناجي: (لابن شاهينَ لحيةٌ ... طوُلهُ شطرُ طولِها) (فهو الدهرَ كلهُ ... عاثرٌ في فضولها) ولولا القصد لجمع أعيان المعاني والشرط المتقدم لتركت التشنيع الملفوظ من المنظوم والمنثور على أن العلماء لو تركوا رواية سخيف الشعر لسقطت عنهم فوائد كثيرة ومحاسن جمة موفورة في مثل شعر الفرزدق وجرير والبعيث والأخطل وغيرهم ولو لم يصلح ذكر الفروج بتصريح أسمائها لكان تسمية أهل اللغة إياها بذلك خطأ وهذا محال ومما قيل في الذمامة وقصر القامة ما ينسب لأبي نواس وهو لغيره: (إذا استنَ في قوهية متَبخترا ... فقل جرذٌ يستنُ في لبنٍ محضِ)

(فأقسمُ لُوخَرتْ من استك بيضةٌ ... لما انكسرتْ من قربِ بعضك من بعضِ) وقال غيره: (ألا يا بيدقَ الشطرنج ... في القيمةِ والقامهْ) وقال آخر: (يعثر الناس في الطريقِ ... به من دمامتِهْ) وقال آخر: فقامَ إلى الغلام أسى وغيظاً ... بقدٍ لم يزد فيهِ القيامُ) (وقال ابن الرومي: (أأنت تشتمُ عرضي ... وأنتَ في طول أبري) وقال الناجم: (ينقص الأحرارِ من شأنهِ ... وهو أخو القلةِ والنقصِ) (كأنهُ البرغوثُ لم يخطه ... في صِغَر الجثمانِ والقرصِ) وقال: (وعازبُ الرأي ضعيفٌ مغرورٌ ... مكاثرٌ في العلم وهو مكثور) (في جسم عصفور وحلم عصفور) وقال آخر: (كأنه كلي غنم الأضاحي ... إذا قاموا حسبتهمُ قعودا) وفي غير هذا المعنى قول الآخر: (إذا لبسَ البياضَ فعدل قطن ... وان لبسَ السوادَ فعدل فحمِ) وقال ابن الرومي في القبح والسواد: (وجهكَ يا جعفر من قبحه ... أولى من العورةِ بالسترِ) (كأنما تأوي إليه الدُجى ... إذا هي انقضت عن الفجرِ) وقال ابن طباطبا في مجدور: (ذو جُدريٍ وجههُ ... يحكيه جلدُ السمكهْ) (أو جلدُ أفعى سلخت ... أو قطعةٌ من شبكه) (أو حلقُ الدّرع إذا ... أبصرتها مشتبكه) (أو سفر محبب ... أو كرشٌ منفركة) (أو منخلٌ أو عرضٌ ... رقعته منهتكه) (أو حجرُ الحما كم ... من وسخ قد دلكه) (أو كورُ زنبور إذا ... فرخَ فيه تركه)

(أو كدر الماءِ إذا ... أظهر فيه حبكه) (أو سلحةٌ جامدةٌ ... تنقرُ فيها الدَّيكَهْ) (يبغضه من قبحه ... كلُّ طريق سلكَهْ) وقد أبدع ابن الرومي: (جُدريٌ ما شأنها وهي شينُ ... كلُ أثر في ذلك الوجهِ نقشُ) (بدلتْ من ظفائر وقرونٍ ... حملَ أنفٍ فيهٍ لفرخين عشٌ) وقلت في غير هذا المعنى: (قد حسن ظاهرهُ وباطنهُ ... وأمرَ مخبرهُ ومنظرهُ) (شعرُ تجددَ في عوارضهِ ... مثل المكا الرطبِ تسفرهُ) وقال ابن طباطبا في أسودين: أخبرنا أبو بكر أحمد أخبرني عبد الله بن أبي عامر قال كان أبو الحسن العلوي المعروف بابن طباطبا قصد يوماً أبا علي بن رستم فصادف على بابه عثمانيين أسودين كالفحم متعممين بعمامتين حمراوين فامتحنهما فوجدهما من الأدب خاليين فدخل مجلس ابن رستم وكتب في درج: (رأيتُ بباب الدَّار أسودينِ ... ذَوَيْ عمامتينِ حَمْرَاوَيْنِ) (كجمرتينِ فوقَ فحمتينِ ... قد غادرا الروض قرير العين) (جدَ كما عثمانُ ذُو النورينِ ... فمالهُ أنسلَ ظُلمتين) (يا قبحَ شينٍ صادرٍ عن زَيْن ... حدائد تطبعُ من لجين) (ما أنتما إلا غُرابا بينَ ... طيرا فقد وقعتما للحين) (زورا ذوي السنة بالمصرين ... المظهرين الحبَ للشيخين) (وخليا الشيعةَ للسبطين لا تبرما إبرامَ ربَ الدينِ) (ستعطيانِ في مدى عامين ... صكاً بخفينِ إلى حنُين) وقال أبو تمام يهجو عياشاً بعد ما مات:

(كرت على اللؤم بما ساده ... وساءه كرَّتك الخاسرَهْ) (أسهرتَ عينَ اللؤم منذ انطوتْ ... عليك أثوابُك بالساهرَهْ) (قد كانت الدنُيا شفتْ لوعتي ... منك ولكن لذتَ بالآخرهْ) (يا أسدَ الموت تخلصتهُ ... من بين لحي أسدِ القاهرهْ) (أجارك المكروهُ من مثله ... فاقرة نجتك من فاقره) وقال فيه: (وتضوَّر القبرُ الذي ضمنته ... حتى ظننا أنهُ المقبورُ) فأتيح لأبي تمام مخلد الموصلي فهجاه بعد موته فقال: (سقى حمارك يا طائيُ غاديةُ ... من المنى وقطعان من الكمرِ) (حر الحُلاقِ وبردٌ الشعرِ اتلفه ... فجاءهُ الموتُ من حرٍ ومن حصر) ومما قيل في البرد أيضاً قول بعضهم في المبرد: (ويوم كنار الشَّوق في القلب والحشا ... على أنهُ منها أحرُ وأومدُ) (ظللتُ به عند المبرِّد قائلا ... فما زلتُ في ألفاظِه أتبردُ) وفلج أحد الشعراء فسئل عنه رجل فقيل له ما كان سبب فالجه؟ قال أكل بيتين من شعره. ومن جيد ما قيل في برد الغناء قول بعضهم: (كاد من بردهِ يجمد روحي ... ضَرَبَ اللهُ شقّه بغنائه) وقال غيره: (غنى لنا نصرٌ فقلنا له ... مصعبُ جرام على السبعِ) (وحركَ العودَ بأطرافهِ ... فكان يحتاجُ إلى الصفع) (فقمت من مجلسه هارباً ... أدعو على كفيه بالقطعِ) وقال كشاجم: (ومغنٍ بارد النغمة ... مختلّ اليدين) (ما رآه أحدُ في ... دارِ قوم مرتين) (صوته أقطع للذات ... من صيحة بينِ)

وقلت: (قد أسمعتنا غناءً لا خلاقَ به ... كما تعرّكِ آذانِ السنانيرِ) (حتى إذا ارتفعت في الصوت لا ارتفعت ... أهدت لسمعيَ تهديرَ الخنازيرِ) (وكلما انخفضتْ فيه مزمزمة ... خلت الزنابيرَ تشدو في القواريرِ) (لا تَخْدعنَّهُ بأثوابٍ مُصَبَّغةٍ ... نصبتهنَ شراكاً للمدابيرِ) وقال ابن الرومي: (وإذا غنت ترى في حلقها ... كلّ عرقٍ مثلَ بيت الأرضة) وقال الناجم: (وقنية شتمها قنوتُ ... أحسن أصواتها السكوتُ) (مفقودة الكلَ غير بطن ... مثقل فهي عنكبوتُ) وقال غيره: (كأن أبا الحسين إذا تغنى يحاكي عاطساً في عين شمسِ) (يلوك لسانه طوراً وطوراً ... كأنَّ بضرسه ضربانَ ضِرسِ) وقال المصيصي: (وتحسب الندمان في حلقه ... دجاجةً يخنقها ثعلبُ) (ما عجبي منه ولكنني ... من الذي يعجبه أعجبُ) وقلت في عواد (يقول لنا غيرما يضرب ... ويضربُ غير الذي نحسبُ) (ككيسان يكتبُ غيرَ الذي ... يقول المحدِّثُ والمكتب) (فيكتبُ غيرَ الذي قاله ... ويقرأ غير الذي يكتب) (فصمتاً إذا شئتَ اطرابنا ... فنحن إذا قلتَ لا نطربُ) (ولا تأتيني إذا جئتني ... فإني إذا جئتني أذهب) وقلت: (تغنى لنا فجعلنا عليه ... عمائم تنزع جلدَ القفا) (جعلنا اللطامَ لها لحمةً ... ونتفَ الشوارب فيها سدى) ومن جيد ما قيل في تغير وجوه الأحداث عند خروج اللحى قول البسامي: (قالوا تغيرَ عن ملاحته ... قلتُ الزمانَ يريكمُ العبرا) (يا زهرةَ ومحاسناً مُسخت ... ماذا لحاه الشعر لو شعرا) (قد كانت الأبصارُ تجرحه ... واليوم يجرحها إذا حصرا)

الفصل الثالث في الاعتذار

وقال سعيد بن حميد: (فالآن حينَ بدتْ بخدِّك لحيةٌ ... ذهبت بملحك ملء كفَ القابضِ) وقال ابن طباطبا: (يا من يزيل خلقة الرحمن ... عما خلقتْ) (تب وخفِ اللهَ على ... كفك مما اجترحتْ) (هل لك عذرُ عندهُ ... إذا الوحوشُ حشرت) (بلحيةٍ إن سُئلت ... بأيِّ ذنب نتفتْ) وقلت: (حصلت في بيتي ذا غلظة ... كأنني مشطُ ابنِ منصورِ) (يا لحيةً هتك أستارها ... بأصبع منه وأظفور) (فخذه من سح؟ تارةً ... وتارة من قشر بلور) (فاترة كالمسك في لونه ... وتارة في لون كافورِ) (يعجبه المردُ فيحكيهمُ ... حكاية زور من الزورِ) (يقول ما أحسنَ رب الورى ... إذ غرسَ الظلمةَ في النورِ) وقلت: (من شقوةِ المردِ أن تبدو شوارابهم ... مسودةُ قبلَ أن تبدوا عوارضهم) (يا ويحهم من لحى جدَّت مناقشهم ... فيهنَّ أو لعبتْ فيها مقارضهم) قد أتيت في هذا الفصل على مافيه مقنع وبالله التوفيق. (الفصل الثالث في الاعتذار) الإعتذار أيدك الله ذلة ولا بد منه لأن الإصرار على الذنب فيما بينك وبين خالقك هلكة وفيما بينك وبين صديقك فرقة وعند سائر الناس مثلبة وهجنة فعليك به إذا واقعت الذنب وقارفت الجرم ولا تستنكف من خضوعك وتذللك فيه فربما استثير العز من تحت الذلة واجتنى الشرف من شجرة الندلة ورب محبوب في مكروه (والمجد شهد يجتني من حنظل) ومما خص به الإعتذار أن الحق لايثبت لباطله والحقيقة لا تقوم مع تخييله وتمويهه وإن رده لايسمع مع الكذب اللائح في

صفحاته، وقالوا المعاذير مكاذب، ويقولون مع ذلك لا عذر في رد الاعتذار والمعتذر من الذنب كمن لا ذنب له. وهذه خصلة لا يشركه فيها غيره، ولم يرو عن أحد قبل النابغة الذبياني في الاعتذار شعر فيه أجود منه، ومما نرويه له فيه قوله حين سعى به المنخل اليشكري إلى النعمان وزعم أنه غشي المتجردة حظية النعمان وذلك حين وصفها النابغة فقال: (وإذا لمستَ لمستَ أخثم جاثما ... متحيزاً بمكانه ملءَ اليدِ) (وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدفٍ ... رابي المجسةِ بالعبيرِ مقرمدِ) (وإذا نزعتَ نزعت عن مستحصفٍ ... نزعَ الحزَوَّر بالرشاء المحصد) فقال المنخل للنعمان هذا وصف من ذاقها. فوقر في نفس النعمان ثم وفد عليه رهط من بني سعد بن زيد مناة من بني قريع فأبلغوه أن النابغة ما زال يذكرها ويصف منها فأجمع النعمان على الإيقاع بالنابغة فعرفه ذلك عصام حاجب النعمان وهو الذي قيل فيه (نفس عصام سَودَتْ عصاما ... ) فصار يتمثل به فيقال عصامي ليس بعظامي إذا كان يكسب المآثر لنفسه ولا يتكل على مآثر الأموات من أسلافه، ويقولون كن عصامياً لاعظامياً. فانطلق النابغة إلى آل غسان وكانوا قتلوا المنذر ولد النعمان فزادهم لحاق النابغة بهم حشمة ثم اتصلت به كثرة مدائح النابغة لهم فحسدهم عليه فأمنه وراسله في المصير إليه فصار وجعل يعتذر مما قرف به ومن مدحه لآل غسان في قوله: (حلفتُ فلمْ أتركْ لنفسكَ ربيةً ... وليسَ وراءَ اللهِ للمرءِ مذهبُ) (لئنْ كنتَ قد بلغتَ عني خيانَةً ... لمبْلغُك الواشي أغشُ وأكذب) (ولستَ بمستبق أخاً لا تلمهُ ... على شعثٍ أيُ الرجالِ المهذبُ) وقد ذكرنا هذا في أول الكتاب، وقوله: (وعيدُ أبي قابوسَ في غيرِ كُنهه ... أتاني ودوني راكسٌ فالضواجع)

(فبتُ كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرُّقش في أنيابها السمُ ناقعُ) (أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامعُ) إلى أن قال: (فإن كنت لاذو الضغن عني مكذبٌ ... ولا حَلفي على البراءة نافعُ) (ولا أنا مأمونٌ بشئ أقولهُ ... وأنت بأمر لا محالةَ واقعُ) (فإنك كالليل الذي هو مُدْركي ... وإنِ خلتُ أنَ المنتأى عنك واسعٌ) وقال: (أنبئت أنَ أبا قابوس أوْعدَني ... ولا قرار على زأرٍ من الأسدِ) (مهلاً فِداءٌ لكَ الأقوام كلهم ... وما أثمرُ من مال ومن ولد) (لا تقذفَنِي بركن لا كفاءَ له ... وإن تأثفكَ الأعداء بالرِّفَدِ) (ما قلت من سئ مما أتيت به ... إذاً فلا رفعتْ سوطي إليَّ يدي) (ها إنَّ ذي عذرة إلا تكن نفعتْ ... فأنَ صاحبها قد تاه في البلد) فخلع عليه النعمان خلع الرضا وكن حبرات خضرا مطرفة بالجواهر، وقد ذكرنا الحديث بطوله فيما تقدم. وما سلك أحد طريقته هذه فأحسن فيها كاحسان البحتري: أخبرنا أبو أحمد أخبرنا الصولي سمعت عبد الله بن المعتز يقول: لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى فليس للعرب مثلها وقصيدته في صفة البركة (ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها ... ) واعتذاراته في قصائده إلى الفتح التي ليس للعرب بعد اعتذارات النابغة مثلها، وقصيدته في دينار التي وصف فيها ما لم يصفه أحد قبله وهي التي أولها (ألم تر تغليس الربيع المبكر ... ) وصفة حرب المراكب في البحر لكان أشعر الناس في زمانه فكيف وقد انضاف إلى هذا صفاء مدحه ورقة تشبيهه في قصائده. فمن اعتذاراته قوله في قصيدته التي أولها (لوت بالسلام بناناً خضيبا ... ) فقال فيها:

(فدْيناكَ من أيَ خطب عرا ... ونائبة أوشكتْ أن تنوبا) (وإن كانَ رأيك قد حالَ في ... فلقيتني بعد بشرٍ قطوبا) (يريبني الشئ تأتي به ... وأكبر قدرك أن أستريبا) (وأكرهُ أن أتمادى على ... سبيل اغترار فألقى شعوبا) (أكذِّب نفسي بأن قد جنيت ... وما كنت أعهد ظني كذوبا) (ولو لمْ تكنْ ساخطاً لم أكنْ ... أذمُ الزمانَ وأشكو الخطوبا) (أيصبحُ وردىَ في ساحتيك ... طرقاً ومراعاي محلاً جديبا) (وما كانَ سخطُك إلا الفراق ... أفاضِ الدموعَ وأشجى القلوبا) (ولو كنتُ أعرف ذنباً لما ... تخالجني الشكُ في أن أتوبا) (سأصبرُ حتى ألاقي رضاك ... إما بعيداً وإما قريبا) (أراقبُ رأيكَ حتى يصحَ ... وأنظرُ عطفك حتى يثوبا) وقوله: (عذيري من الأيام رنقنٍ مشربي ... ولقينني نحساً من الطيرِ أشأما) (وأكسبنني سخط امرئ بتُ موهناً ... أرى سخطه ليلاً مع الليل مُظلما) (تبلجَ عن بعض الرِّضا وانطوى على ... بقية عتب شارفتْ أن تصرَّما) (إذا قلت يوماً قد تجاوزَ حدّها ... تلبثَ في أعقابها وتلوَّما) (وأصيد إن نازعتهُ الطرفَ ردهُ ... كليلاً وإن راجعتهُ القولَ جمجما) (ثناه العدى عني فأصبح معرضاً ... وأوهمه الواشون حتى توهما) (وقد كان سهلاً واضحاً فتوَّعرت ... رُباه وطلقاً ضاحكاً فتجهما) (أمتخذُ عندي الاساءة محسنٌ ... ومنتقم مني امرؤٌ كان منعما) (ومكتسبٌ فيَّ الملامةَ ماجدٌ ... يرى الحمدَ غنماً والملاحةَ مغرما) (يخوفني من سوءِ رأيك معشرٌ ... ولا خوف إلا أن تجورَ وتظلما)

(أعيذك أن أخشاك منغير حادث ... تبينَ أو جرم إليك تقدَّما) (ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادتْ مع الليل أنجما) (أعِدْ نظراً فيما تسخطتْ هلْ ترى ... مقالاً دنيئاً أو فعالاً مُذمما) (رأيت العراق ناكرتني وأقسمتْ ... عليَّ صروف الدَّهر أنْ أتشأما) (وكان رجائي أن أؤوبَ مملكا ... فصار رجائي أن أؤوب مسلما) (حياء فلم يذهب بي الغيُ مذهبا ... بعيداً ولم أركبْ من الأمر معظما) (ولم اعرف الذَّنْب الذي سؤتني له ... فأقتل نفسي حسرةً وتندما) (ولو كان ما خبرتهُ أو ظننته ... لما كان غرواً أن ألومَ وتكرما) (أذكرك العهد الذي ليس سؤدداً ... تناسيه والودَ الصحيحَ المسلما) (وما حمل الركبان شرقاً ومغرباً ... وأنجدَ في أعلى البلادِ وأتهما) (أقرُ بما لم أجنهِ متنصلاً ... إليك على أني أخالكَ ألوما) (ليَ الذَِّنبُ معروفاً وإن كنتَ جاهلا ... به فلك العتبى عليَّ وأنعما) (ومثلك من أبدي الفعالَ اعادةً ... وإن صنعَ المعروف زاد وتمما) ونحن نقول إن لكل شئ ثمناً وثمن خضوع المعتذر قبوله. وكتبت وسيلتي إليك الثقة بكرم أخلاقك وشرف أعراقك وقد طلبت المسامحة منك بك وجعلت كرمك أقوى أسبابي إليك وقد خفضت لك جناح الذل في التنصل مما فرط فتفضل علي بالقبول لئلا يلحقني هجنتان هجنة تذللي لك وأخرى ردك لي وقد قيل: ارض لطالب الخضوع وللقارق ذنباً مذلة الإعتذار. وفي هذا المعنى ما كتب بعضهم: لما تعذر علي العذر جعلت معولي على فضلك أبلغ عذر أقدمه وأقوى سبب أؤكده. وأخبرنا أبو أحمد عن أبي روق عن السكري عن إبراهيم الندى قال قلت لرجل: ما حملك على بذلك وجهك في حوائج الناس؟ قال إني لم أسمع شيئاً أحسن من بناء حسن على رجل أحسن ومن شكر حر وشفاعة شفيع لطالب شاكر ولأني لا أبلغ

المجهود ولا أسأل من لا يجود وليس صدق العذر عندي بدون إنجاز الوعد ولا إكداء السائل بأغلظ من الأجحاف بالمسؤول ولا أرى الراغب إلي بالمسألة بحسن ظنه بي أوجب حقاً علي من المرغوب إليه الذي يتحمله من لدي والعرب تقول إن مع الهيبة الخيبة والفرصة خلسة فثب عند صدور الأمور ولا تتبع اعجازها. وقال ابن المعتز العذر مع التعذر واجب. ومن أعجب الأعتذار في التقاضي قول بعضهم: (هزَزتك لا أني ظننتك ناسياً ... لوعدٍ ولا أني أردتُ التقاضيا) (ولكن رأيتُ السيفَ في حالِ سله ... إلى الهزَ محتاجاً وإن كان ماضيا) ومن مليح ما يجري في هذا الباب ما أخبرنا به أبو أحمد عن ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي عن أبيه عن شيخ من قريش قال قال رجل لسليمان بن عبد الملك: إن القدرة تمنع الحفيظة وأنت تجل عن العقوبة وإن تعف فأهل ذلك أنت وإن تعاقب فأهل ذلك أنا، فعفا عنه، فأخذه بعض المحدثين فقال: (فإن عاقبتني فبسوءِ فعلي ... وما ظلمتْ عقوبةُ مستفيدِ) (وإن تغفر فإحسانٌ جديدٌ ... دعوتَ به إلى الشكر جديدِ) تم الباب والحمد لله وحده بسم الله الرحمن الرحيم اللهم عونك. جمع الله شملك ووصل حبلك ومتعك بأحبتك وأعطاك مأمولك في نفسك وأعزتك وأعذاك من قطيعة أحبابك وجنبك تجنب أودائك ولا جعل للهجر عليك سبيلا ولا للفراق عليك دليلاً لينعم باللذة جسمك ويعمر بالسرور قلبك فتعيش في ضمان الفرح ويبوء حاسدك باعباء الترح إنه حميد مجيد فعال لما يريد. العشق أدام الله توفيقك منشرائف أخلاق الفتيان وكرائم سجايا الشبان

هذا كتاب المبالغة

يطلق لسان العيسى ويفتق حيلة البليد وبيعث على السخاء بما تسمح به نفس الكريم وينحردون بذله اللئيم ويدعو إلى استعمال الفتوة واظهار المروءة في تنظيف اللباس وتحسين الرياش ويجدد حب المساعدة والائتلاف وكراهة التباين والاختلاف إلى غير ذلك من محمود الحال وممدوح الخصال وإذا رزقت منه نصيباً جزلاً فوفه حقه واسلك به طرقه وتأمل ما أهديت إليك فيه فإنه يعينك عليه ويحسن أسبابه لك ويكبت لائمك فيه ويكون جلاءً لناظرك وشحدذاً لخاطرك إن شاء الله سبحانه وتعالى. (هذا كتاب المبالغة) (في التشبب وأوصاف الحسان وما يجري مع ذلك وهو) (الباب الرابع من كتاب ديوان المعاني) قالوا أرق بيت قالته العرب قول امرئ القيس: (وما ذَرَفَتْ عيناكِ إلا لتضربي ... بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتلِ) يقول ما بكيتِ إلا لتجرحي قلباً معشراً أي مكسراً، يقال برمة اعشار إذا كانت مشعوبة، يريد أن قلبه عليل وأنت تزيدينه علة بسهميك يعني عينيها والمقتل المذلل. مثله قول الشاعر: (رمتْك ابنةُ البكريّ عن فرعِ ضالةٍ ... وهنَ بنا خوصٌّ يخلنَ نعائما) ولم نسمع للأعشار بواحد. وأخبرنا أبو أحمد قال حكى لي عن ابن سلام أنه قال أنسب بيت قالته العرب: (ولما التقى الحيانِ ألقيت العصا ... وماتَ الهوى لما أصيبت مقاتله) وقالوا أنسب بيت قالته العرب قول الآخر: (إذا قلتُ إني مشتفٍ بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادنا سقما)

وأبلغ من هذا قول أبي نواس: (ما يرجعُ الطرفُ عنها حينَ أبصرها ... حتى يعودَ إليها القلبُ مُشتاقا) وقد أحسن ابن الرومي ولاأعرف في معناه أبلغ منه: (أعانقها والنفسُ بعد مشوقةٌ ... إليها وهلْ بعد العناقِ تداني) (وألثم فاها كي تموتَ حزازتي ... فيشتدُّ ما ألقى من الهيجانِ) (وما كان مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه ما ترشفُ الشفتان) (فإنَ فؤادي ليس يشفي رسيسهُ ... سوى أن ترى الروحان تمتزجانِ) ومن البليغ في الاشتياق ما أنشدنا أبو أحمد عن الصولي عن الحسين بن إسماعيل: (هبَّتْ شمالاُ فقالَ من بلد ... أنت به طابَ ذلك البلدُ) (وقبلَ الريحَ من صبابته ... ما قبل الريحَ قبلهُ أحدُ) وأبلغ ما قيل في شدة الحب قول بعضهم وقد قيل له ما بلغ من حبك فلانة قال إني أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها. وقال نصر بن الحجاج لامرأة أحبك حباً لوكان فوقك لأظلك أوكان تحتك لأقلك، أخذه بشار فقال: (إني لأكتُم في الحشى حباً لها ... لو كانَ أصبحَ فوقَها لأظلّها) (ويبيت بينَ جوانحي وجدٌ بها ... لو باتَ تحتَ فراشها لأقلها) وقلت: (أحبك يا شبيةَ الشمسِ حباً ... تفردَ بالتمام فلا تمام) (فلو ألقيتهُ ما بينَ ماءٍ ... ونارٍ كان بينهما التئامُ) وقال ابن الرومي في اجتماع الأهواء على محبوبه: (سلالةُ نورٍ ليس يدركها اللمس ... إذا ما بدا أغضى له البدرُ والشمسُ) (به أمست الأهواءُ يجمعها هوى ... كأنَّ نفوس الناس في حُبه نفس) وقال بشار:

(ولستُ بناسٍ من يكونَ كلامُه ... بأّذني وإنْ غٌ يبتُ قُرطاً معلّقا) ومن ظريف التشبب أيضاً قول ابن المعتز: (كذبتَ يا من لحاني في مودتهِ ... ما صورةَ البدرِ إلا دُونَ صُورتهِ) (يا ربَ أن لمْ يكنْ في وصله طمعٌ ... ولم يكنْ فرجٌ من طولِ جفوتهِ) (فاشف السقامَ الذي في لحظُ مقلتهِ ... واستر ملاحةَ خديهِ بلحيتهِ) ومن الظريف قول كشاجم: (كأنَ الشفاه اللعسَ منها خواتمٌ ... مِنَ التبرِ مختومٌ بهنَ على الدُرَ) ولا أعرف في وصف الفم أحسن من هذا. وأحسن ما قيل في حث الشوق من قديم الشعر قول عمرو بن شأس الأسدي: (إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بذكرك حاديا) (أليس يزينُ العيسَ خفةُ أذْرع ... وإن كنَ حسرى ان تكون اماميا) وأتم من ذلك شرحاً قول الآخر: (إذاعقلت خبتْ وإنْ هي خُلَيتْ ... لترتعَ لم ترتعْ بأدنى المراتعِ) (كأنَ لديها سائقاً يستحثها ... كفى سائقاً بالشوقِ بينَ الأضالعِ) ومن جيد ما قيل في ازدياد الشوق على القرب قول الآخر: (صبٌ يحثُ مطاياهُ بذكركُم ... وليس ينساكم إن حلَ أوسارا) (يَرجو النجاةَ من البلوى بقربكم ... والقلبُ يلهبُ في أحشائه نارا) ومن ظرف الأعرابي قوله أنشده المبرد: (وعود قليل الذنبِ عاودتُ ضربهُ ... إذا عادَ قلبي في معاهِدها ذكرُ) (وقلتُ لهُ ولقاءُ ويحك سَببتْ ... لك الضربَ فاصبر إنَّ عادتَك الصبرُ) ونحوه قول الآخر: (قد قطعَ الاحراجُ أعناقَ الابل ... فهي تسيرُ سيرَ مشتاقٍ عَجِلْ)

وقول الآخر وقد ألغز: (إنَ لها لسائقاً خَدلجا ... لم يُدلج الليلةَ فيمن أدلجا) وفي خلاف ذلك يقول العباس بن الأحنف (أيامَ يقتلُ شوقَها زيارتي ... كالماء يقتلُ بردهُ عطشَ الصّدى) (فأما أجود ما قيل في التذكر على البعد فقول بعضهم: (أذكر أخانا تولى اللهُ صحبتهُ ... إني وإن كنتُ لا ألقاهُ ألقاه) (اللهُ يعلم أني لستُ أذكره ... وكيفَ يذكره من ليسَ ينساه) وقلت: (ذَكرتهمْ والنوىَ بيني وبينهمُ ... ذكرىَ الشبابِ الذي قد كانَ عاصاني) (بل كيفَ أذكر عهداً لستُ ناسيهُ ... هل يعرضُ الذّكرُ إلا بعد نسيان) ونحوه يقول السري: (غضبان ينساني وأذكرهُ ... وينامُ عن ليلى وأسهرهُ) د (وبجوره ما ضار مورقه ... حظى وحظُ سواي مثمرهُ) (وكفى الهوى لو كانَ مكتفياً ... ما رْحت أضمرهُ وأظهرهُ) (لم يقتسم في العاشقينَ أسى ... إلا وحظّي منهُ أوفره) (فأصيح في نفس أصعدهُ ... وأعوم في دمع أجدره) ومن مليح ذلك وقول بشار: (ولستُ بناسٍ من يكونُ كلامهُ ... بأّذني وإن غيبت قرطاً معلقاً) وأجود ما قيل في إخفاء الحركة عند زيارة المعشوق من الشعر القديم قول امرئ القيس: (سموتَ إليعا بَعدَ ما نامَ أهلها ... سموَ حبابِ الماء حالاً على حالِ) وأحسن من هذا وأظرف قول وضاح اليمن: (واسقطْ علينا كسقوطِ النّدىَ ... ليلةَ لا ناهٍ ولا زاجرُ)

وهذا أبلغ أيضاً لأن سقوط الندى أخفى من سمو حباب الماء لأن لسمو حباب الماء صوتاً خفياً ليس ذلك لسقوط الندى وهو من أبيات ظريفة أولها: (قالتْ ألا لا تلجنْ دارنا ... إنَ أبانا رجلُ غائرٌ) (أما رأيتَ البابَ من دوننا ... قلتُ فإني واثبٌ ظافرُ) (قالتْ فإنَ القصرَ من دوننا ... قلتُ فإني فوقهُ ظاهرُ) (قالتْ فإنَّ الليثَ عادٍ به ... قلتُ فسيفي مُرهفٌ باترُ) (قالت فهذا البحرُ ما بيننا ... قلت فإني سابحٌ ماهر) (قالتْ أليسَ اللهُ من فوقنا ... قلت بلى وهولنا غافر) (قالت فأما كنت أعييتنا ... فأت إذا ما هجعَ السامرُ) (واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلةَ لا ناهٍ ولا زاجرُ) ومن مليح ما جاء في هذا المعنى قول المؤمل: (وطارقات طرقني رَسلاً ... والليلُ كالطيلسانِ مُعتكرُ) (فقلنَ جئنا إليكَ عن ثقةٍ ... من عند خود كأنها قمرُ) (هل لكَ في غادةٍ مُنعمةٍ ... يحارُ فيها من حسنِها النظرُ) (في الجيدِ منها طولٌ إذا التفتت ... وفي خطاها إذا مشت قصر) (فقمت أسعى إلى مُحجبَةٍ ... تضئ منها البيوتُ والحجرُ) (فقلتُ لما بدا تخفّرُها ... جُودي ولا يمنعنْك الخفر) (قالت توَّقرُ ودَع مقالك ذا ... أنت امرؤٌ بالقبيحِ مشتهر) (والله لا نلتَ ما تطالبُ أو ... ينبتَ في بطنِ راحتي شَعر) (لا أنت لي قيمٌ فتخبرني ... ولا أميرٌ علىَ مؤتمر) (قلت ولكنْ ضيفٌ أتاك به ... تحتَ الظلامِ القضاءُ والقدرُ) (فاحتسبي الأجر في ... وباشري قد تطاولَ العسر) (قالت قد جشئتَ تبتغي عملاً ... تكادُ منهُ السماءُ تنفطرُ)

(فقلتُ لما رأيتُها حرجت ... وغشيتها الهمومُ والفكرُ) (لا عاقبَ اللهُ في الصَّبا أبداً ... أنثى ولكن يعاقبُ الذكر) (قالت لقد جئتنا بمبتدعٍ ... وقد أتتنا بغيرهِ النُذر) (قد بينَ اللهُ في الكتاب فلا ... وازرةٌ غيرَ وزرِها تزرِ) (قلت دَعي سُورةً لهجْت بها ... لا تحرِمَن لذاتِنا السورُ) (وجهُك وجهٌ تمّتْ محاسِنُه ... لا وأبي لا يمسهُ سقرُ) ومثل هذا أصعب ما يرام من الشعر ولا يكاد يوجد في هذا المعنى أحسن من هاتين المقطوعتين. ومن أحسن ما عذر به المعشوق في سوء فعله قول كشاجم: (تستدفع الأعين عن حسنها ... بعوذة من سوء أفعالها) وهي من أبيات قليلة النظير: (هلْ حاكمٌ يعدي على ظبيةٍ ... ظالمة في كلَ أفعالها) (دائمة الأعراضِ عني فيما ... يخطرُ لي ذكرٌ على بالها) (صغيرةٌ عظمها حُبها ... عندي وأغراني بإجلالها) (تستدفع الأعين عن حسنها ... بعوذةٍ من سوء أفعالها) (لم أطع العذالَ فيها وقد ... أصغا إلى أقوالِ عذالها) (تمضي بليلٍ فإذا أقبلتْ ... أقبلت الشمسُ بإقبالها) (قلت وقد أبصرتها حاسراً ... عن ساقها فاضل سربالها) (لو لم يكن من برد ساقها ... لاحترقت من نارِ خلخالها) وأحسن في هذا المعنى ولا أظنه سبق إليه. وقد احسن ابن الرومي في ذكر الخلخال والساق أيضاً وهو قوله: (وإذا لبسنَ خلاخلاً ... كذّبْن أسماءَ الخلاخلِ) يقول لا تخلخل الخلاخل في سوقهن أي لا تتحرك فقد كذبته أسماءها، وذلك أن

اشتقاقها من التخلخل وهو التحرك. وفي نحو ما تقدم قول كشاجم: (وكأنَ الشمسَ نيط بها ... قمرٌ يمناهُ والقدح) (صدَ إذ مازحتهُ غضباً ... ما على الأحباب إذ مزحوا) (وهو لا يدري لنخوتهِ ... أننا في النوم نصطلح) (ثم لا أنسى مقالتخ (أطفيليٌ ويقترح)) ومن أفراد المعاني قول الشاعر: (وإني لأغضني الطرفَ عنها تستراً ... ولي نظرٌ لولا الحياءُ شديدُ) (وبنئتها قالتْ لقد نلتْ ودهُ ... وما ضَرني بخلٌ فكيفَ أجودُ) وقالوا أنسب بيت قالته العرب قول الآخر: (ستبقى لها في مُضمرٍ القلبِ والحشا ... سريرةُ وُدٍّ يومَ تبلى السرائرُ) ومن أجود ما قيل في حسن الحبيب في عين المحبوب قول عمر بن أبي ربيعة: (خرجتُ غداةَ النحرِ أعترض الدُمى ... فلم أرَ أحلى منك في العينِ والقلب) (فو الله ما أدري أحسناً ورزقته ... أم الحبُ يعمي مثل ما قيل في الحبَ) وهو من قول النبي & (حبكَ الشئ يُعمي ويصمّ) وأنشدني أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن سعيد الشامي عن الزبير بن بكار لعمر بن أبي ربيعة: (زَعموها سألتْ جاراتِها ... وتَعرَّتْ يوم حَرّ تبترد) (أكما ينعتني تبصرنني ... عمركنّ الله أم لا يقتصد) (فتضاحكنَ وقد قلنَ لها ... حسنٌ في كلَ عين من تودّ) (حسداً حملنهُ من أجلها ... وقديماً كان في الناسِ الحسد) وأنشدنا عنه قال أنشدنا إسحاق لرجل) (حلفت بصحراء الحجون وناقتي ... لها بين قاع الأخشبين حنينُ) ( ... غموساً لقد فصلت في الحسن بسطة ... على الناس أو بي من هواك جنون)

وأنكر بعض المحدثين أن يكون استحسانه لحبيبه لافراط حبه أولجنونه له فيه فقال وأحسن: (حسنٌ والله في عيني ... وفي كلِّ العيونِ) (قينةٌ بيضاء كالفضة ... سوداء القرون) (لم يصبها سقمٌ قطُ ... سوى سقمِ العيونِ) (لم أصفْها بجمالٍ ... لهوى أم لجنونِ) (بل لحسنٍ وجمال ... قول حقٍ ويقينِ) وقد أبدع الآخر في قوله في المعنى الأول: (يا مَنْ يلومُ عليه ... أنظر بعيني إليه) (فلست تبرحُ حتى ... تَصير ملك يديهِ) وقد جمع القائل جمعاً حسناً في قوله (وفي أربع مني حكت منك أربع) أجود ما قيل في صفة النساء من الشعر القديم ما أخبرنا به أبو أحمد قال قال ابن سلام أحسن ما قيل في صفة النساء: (كأنَ بيضَ نعام في ملاحفِها ... إذا اجتلاهنَ قيظُ ليلهِ ومدّ) وتشبيه النساء ببيض النعام تشبيه قديم وهو كثير مشتهر. وقالوا أحسن ما قيل في الوجه من الشعر القديم قول قيس بن الخطيم (تَبدَّتْ لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجبِ) مأخوذ من قول النمر بن تولب (فصدَّتْ كأنَّ الشمس تحت قناعها ... بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجبِ) وهو أحسن ما قيل في إعراض المرأة، ونقله قيس إلى موضع آخر وزاد فيه فقال: (كانَ المنى بلقائها فلقيتها ... ولهوتُ من لهو امرئ مكذوبِ) (فرأيتُ مثلَ الشمسِ عند طلوعها ... في الحسنِ أو كدنوِّها لغروبِ)

أراد في وقتين يمكن الناظر النظر إلى الشمس فيها. ونحو ذلك قول زهير: (لو كنت من شئ سوى بشر ... كنت المنورَ ليلة القدرِ) وفضلها كثير على الشمس فقال وأحسن: (بأبي وأمي أنت من مَعشوقة ... طبن العدوُ لها فغيرَ حالها) (وسعى إليّ بعيب عزةَ نسوةٌ ... جعل الآله خُدودهنَ نعالها) (ولو أن عزة خاصمَتْ شمسَ الضحى ... في الحسن عند موقف لقضى لها) قوله عند موقف غاية ما يكون من الإحسان ومن أحسن ما قيل في حسن الوجه قول عمر بن أبي ربيعة: (فلما توافقنا وسلمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تتقنعا) (تبالهنَ بالعرفانِ لما رأينني ... وقلنَ امرؤٌ باغٍ أكلَّ وأوضعا) (وقرَبنَ أسبابَ الهوىَ لمتيمٍ ... يقيسُ ذراعا كلما قسنَ أصبعا) فذكر أنهن لم يتقمعن احسن وجوههن أخذه من قول الشماخ (لها شرقٌ من زعفران وعنبرٍ ... أطارت من الحسن الرِداء المحبرا) ثم تصرّف المحدثون في تشبيهه أي الوجه بالشمس فقال ابن الرومي (كالشمس غابت في حمرة الشفق ... ) فقال في الأمين قبل الخلافة: (تتيهُ الشمسُ والقمرُ المنير ... إذا قلنا كأنهما الأميرُ) (فإن يكُ أشبها منهُ قليلا ... فقد أخطاهما شبهٌ كثيرُ) (لأنَّ الشمس تغرب حين تمسي ... وأنَّ البدرَ ينقصهُ المسير) (ونورٌ محمدٍ أبداً تمامٌ ... على وضح الطريقةِ لا يحورُ) وقد أحسن الآخر وقد جعل في البدر مشابهة من وجه المرأة فقال:

(يا بدر إنك قد كسبت مشابهاً ... من وجهِ أمِّ محمد ابنة صالحِ) (وأراك تمصح في المحاق وحسنها ... باقٍ على الأيام ليس بما صح) وقال العباس بن الأحنف: (قالتْ ظلوم وما جارتْ وما ظلمتْ ... إنَّ الذي قد قاسني بالبدر قد ظلما) (البدرُ ليسَ له عينٌ مكحلةٌ ... ولا محاسنُ لفظٍ يبعث السقما) وقال النظام: (يا مشرقاً ملأ العيون ... وطرفها ما يستقل) (أوفى على شمس الضحى ... حتى كأنَ الليلَ طل) وزاد آخر على هؤلاء كلهم فقال: (إذا عبتها شبهتها البدرَ طالعا ... وحسبك من عيب لها شبهُ البدرِ) ومن أبلغ ما قيل في حسن الوجه من طريقة أخرى قول أبي نواس: (يزيدك وَجهُه حُسنا ... إذا ما زِدْتهُ نظرا) فذكر أن حسنه يزداد على تكرار النظر والمعهود في كل شئ نقصانه على كثرة التأمل ولا يكاد الشئ الرائع يروعك إذا اعتدته. وقريب منه قول كشاجم: (بيضاء يحضر طيب العيش ما حضرت ... وإن نأت عنك غاب اللهوُ والفرحُ) (كلُ اللباس عليها معرضٌ حسنٌ ... وكلّ ما تتغنى فهوَ مقترح) والمعارضة تتخير للجواري على حسب ألوانهن فالبيضاء تبرز في المعرض الأحمر والأسود والأزرق والسوداء في الأصفر فذكر أن هذه تحسن في كل معرض فهو غاية وقريب من المعنى الأول قول كشاجم أيضاً: (منعمة يَقربهما هواها ... وإنْ نزحَتْ بمنزلها البلادُ) (يعادُ حديثها فيزيد حُسناً ... وقد يُستقبحُ الشئُ المعادُ) وقال الحماني: (إذا كنت لم أفقد الغائبين ... وإن غبت كنت فريداً وحيدا) (تباعد نفس إذا ما بعدت ... فليس تعاود حتى تعودا)

وهومن قول أبي نواس: (أشبهكَ الشئ حُسناً فما ... أتممُ ذلك حتى تزيدا) وقال بعضهم: (وكلما عدت فيه ... يكون في العودِ أحمد) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن أبي العيناء عن الأصمعي قال أحسن ما قيل في اللون قول ابن أبي ربيعة: (وهي مكنونةٌ تحير منها ... في أديمِ الخدَّين ماءُ الشباب) قال وما أعرف أحداً أخذه فأحسن فيه مثل أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل فإنه قال: (باتَ يعمي يعالج السهرا ... وراح نشوان يقسمُ النظرا) (أغيد ماءُ الشباب يرغد في ... خديه لولا أديمه قطرا) وقال ابن الأحنف: (وقد ملئتْ ماءَ الشبابِ كأنها ... قضيبٌ من الريحانِ رَيَّان أخضرُ) وقال السري: (ومخطفٍ يهتزُّ عن ماءِ الصبا ... كأنما يهتزُّ عن ماءِ العنبِ) وقلت: (ووجهٌ تشربَ ماءَ النعيمِ ... فلو عصرَ الحسنُ منه انعصر) (يمرُ فأمنحهُ ناظري ... فينشر ورداً عليه الخفر) (تمتعّتِ العينُ في حسنه ... فما حفلتْ بطلوع القمرِ) وقال ابن المعتز: (يحرِّك الدَّل في أثوابهِ غصنا ... ويطلعُ الحسنُ من أزرارهِ قمرا) وقال ابن الرومي: (متعاتُ وجهك في بديهتها ... جددٌ وفي أعقابها أخرُ) وقوله: (مخففة مثقلة تراه ... كأن لم يعد نصفيها الغذاء) (إذا الأغباب جددَ حسن شئ ... من الأشياءِ جدَّدَها اللقاءُ) ومثله قوله: (لا شئ إلا وفيه أحسنهُ ... فالعينُ منهُ إليهِ تنتقلُ) (فوائدُ العينِ منه طارقةٌ ... كأنما أخرياتُها الأُوَلُ) وقد أطرف أبو نواس في قوله: (إنَ اسمَ حسن لوجهها صفةٌ ... ولا أرى ذا لغيرها اجتمعا)

(فهي إذا سميتْ فقد وصفت ... قد يجمع اللفظُ معنيينِ معا) وقد بالغ ذو الرمة في قوله: (فيا لك من خدّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيم ومن خلقٍ تعللَ جادبُهُ) إلا أنه ذكر خلقها أجمع، والجادب: العائب، وهو يقول إن الذي يعيبها لا يجد عيباً فهو يتعلل. وهو في خبر حسن: أخبرنا به أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد حدثنا عمر بن شبة حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي حدثني أبو صالح الفزاري قال ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب فقال عصمة بن مالك شيخ منهم كان قد بلغ مائة وعشرين سنة إياي فاسألوا عنه كان من أظرف بني آدم خفيف العارضين حسن الضحك حلو المنطق وكان إذا أنشد بربر وحبس صوته فإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له أخوة يقولون الشعر: منهم مسعود وحرفاس وهو أوفى وهشام وكانوا يقولون القصيدة فيزيدون فيها الأبيات فيزيد فيها، فجمعني وإياهم مربع فأتاني يوماً وقال لي عصمة إن مَياً منقرية وبنو منقر أخبث حي وأقوفه لأثر وأبصره في نظر فهل عندك من ناقة نزدار عليها مياَ فقلت أي والله إن عندي للجؤذر قال عليّ بها فركبناها جميعاً وخرجنا حتى نشرف على بيوت الحي فإذا هم خلوف وإذا بيت مية خلو فعرف النساء ذا الرمة فقمن إلى بيت مي وجئن حتى أنخنا وسلمنا وقعدنا نتحدث وإذا ميّ جارية أملود واردة الشعر صفراء فيها عسر وإذا عليها سب أصفر وطلق أخضر فتحدثن ملياً ثم قلن له أنشدنا يا ذا الرمة فقال أنشدهن يا عصمة فأنشدهن قوله: (نظرتُ إلى أظعانِ ميٍ كأنها ... ذُرى النخل أو أثل تميل ذوائبه) (فأوشكت العينان والصدر كاتم ... بمغرورقٍ نمتْ عليه سواكبه)

(بكى وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائِلها أسراره ومعاثبه) فقالت ظريفة منهن لكن الآن فليجل فنظرت إليها ميّ، ثم مضيت في القصيدة إلى قوله: (إذا سَرَحَتْ من حبَ مَيّ سوارحٌ ... عن القلبٍ أتته جميعاً عوازبه) فقالت الظريفة قتلته قتلك الله فقالت مي ما أصحه وهنيئاً له فتنفس ذو الرمة تنفسه كاد حرها يطير شعر وجهه، ومضيت حتى انتهيت إلى قوله: (وقد حلفتْ باللَّهِ ميةُ ما الذي ... أقولُ بها إلا الذي أنا كاذُبه) (إذاً فرماني اللًّهُ من حيثُ لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوٌ أحاربهُ) فقالت الظريفة قتلته قتلك الله فقالت مي خف عواقب الله يا غيلان، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله: (إذا راجعتك القولَ ميةُ أو بدا ... لك الوجهُ منها أو نضا الدرع سالبه) (فيالك من خدٍ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيم ومن خلقٍ تعلل جادبه) فقالت الظريفة للنساء إن لهذين لشأنا فقمن بنا فقمن وقمت معهن فجلست في بيت أراها منه فسمعتها قالت له كذبت والله وما أدري ما قال لها وما أكذبته، فلبث قليلاً ثم جاءني ومعه قاروة فيها دهن وقلائد فقال طيب أتحفتنا به مي وهذه قلائد للجؤذر ولا والله لا أقلدهن بعيراً وشدهن بذؤابة سيفه ثم انصرفنا فكان يختلف إليها حتى تقضى الربيع ودعا الناس الصيف فأتاني فقال يا عصمة قد رحلت ميّ ولم يبق إلا الآثار والنظر إلى الديار فاذهب بنا ننظر في ديارها ونقفو آثرها فخرجنا حتى أتينا منزلها فوقف ينظر ثم قال: (ألا يا سلمى يا دارَ مَيّ على البلى ... ولا زالَ منهلاً بجرعائك القطرُ) قال عصمة فما ملك عينية فقلت منه فانتبه وقال إني لجلد وإن كان مني ما ترى.

قال فما رأيت أحداً كان أشد منه صبابة ولا أحسن عزاءً وصبراً ثم انصرفنا وتفرقنا وكان آخر العهد به. ومن بديع ما قيل في حسن الوجه قول الصوبري: (الم قلبي نارهُ وما شعر ... دبتَ إليهِ عقربٌ وقتَ السحر) (دَبَّت إلى ظبي بعينيهِ حَور ... دبيب نوطي نواري وانتشر) (فظفرت لا طفرت أيَّ ظفر ... وهكذا العقربُ للقمر) أحسن ما قيل في العيون: أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو بكر بن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال قال أبو عمرو ولأصحابه: ما أحسن ما قيل في العيون؟ قال بعضهم قول جرير: (إنَ العيونَ التي في طَرْفها حورٌ ... قَتلْننا ثمَّ لم يحيينَ قَتلَانا) (يَصرعْنَ ذا اللبَ حتى لا حَراكَ بهِ ... وهنَ أضعفُ خلق الله أركانا) وقال آخر قول ذي الرمة: (وعينانِ قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالالبابِ ما تفعلُ الخمرُ) وقال آخر بل قوله: (ويذكرني مياً من الظبي عينه ... مراراً وفاها الأقحوان المنور) و (مراراً) حشو لايحتاج إليه، فقال أبو عمرو أحسن من هذا كله قول عدي بن الرقاع: (وكأنها بينَ النساء أعارها ... عينيه أحورٌ من جآذرِ جاسمِ) (وسْنان أقصدهُ النعاسُ فرّنقتْ ... في عينه سنةٌ وليس بنائمِ) أخذ بعض المحدثين قول جرير (وهن أضعف خلق الله أركانا) فقال: (كأنما ازدادَت قوَى أجْفانِها ... ضَعْفاً تقوينَ على ضعفِ القوى) (ومثله أيضاً قول الناشئ: (لا شئ أعجب في جفنيه أنهما ... لا يضعفان القوي إلا إذا ضعفا) وقد أحسن ذو الرمة في قوله

(إذا عرضت بالرملِ أوماء عوهجٌ ... لنا قلت هذا عينُ ميّ وجيدُها) ومن التمثيل القليل النظير قول ابن المعتز: (ويجرحُ أحشائي بعينٍ مريضة ... كما لان متنُ السيف والحدُّ قاطعُ) ومن أحسن ما قيل في النظر قول ابن الرومي: (نظرتْ فأفصدتِ الفؤادَ بسهمها ... ثمَّ انثنتْ عنه فكادَ يهيمُ) (ويلاهُ إنْ نظرت وإن هي أعرضتْ ... وقعَ السهامِ ونزعهنَ أليم) ومن البديع النادر الغريب في ذلك قول بعضهم: (جعل الفتور بعينه كحلا ... فحفوته وحسن بها المسرة؟) وقول الآخر: (ينظرنَ من خلل السجوفِ كأنما ... يمطرنَ أشحاءَ الكريم نبالا) ومن أظرف ما سمعناه في هذا المعنى قول محمد بن أبي الموج: (للهِ ما صنعتْ بنا ... تلك المحاجرُ في المعاجرِ) (أمضى وأنفذُ في القلوب ... من الخناجرُ في الحناجرِ) وقلت: (فأرعى تحتَ حاشيةِ الدَّياجي ... شقائقَ وجنةٍ سقيتْ مُداما) (إذا اكرتْ لواحظُ مقلتيه ... حسبتَ قلوبنا مطرتْ سهاما) (وإن مالتْ بعطفيه شمولٌ ... سقانا من شمائلهِ سقاما)

وقال ابن الرومي: (تقسمها نصفان نصفٌ مؤنثٌ ... ونصفٌ كخوطِ الخزران مذكرُ) (تعبد من شاءت بعين كأنها ... وإن سقٌ يت ريا من النوم تسهرُ) وقلت: (راحتْ تميسُ وحولها خردٌ ... كالبدر بين كواكبٍ شهبِ) (فملأتُ طرفي من محاسنها ... ونسيتُ ما يجنى على الصبَ) (عين تغل السيف لحظتها ... أصبحت آمنها على قلبي) وقال ابن المعتز: (كم ليلة عانقتُ فيها بدرها ... حتى الصباح موسداً كفيهْ) (فسكرتُ لا أدري أمن سكر الهوى ... أم كأسه أم فيه أم عينيه) (وغدا فنم عليه عند قيبه؟ ... أثرٌ من التقبيلِ في شفتيه) (وسقام عين لم تذق طعمَ الكرى ... يدعو العوائد في الصباح إليه) وقلت: (إذا ما جاءني للأخذِ عني ... تشاغلَ طرفهُ بالأخذ مني) وقال البحتري: (أجد النار تستعارُ من النار ... وَيْنشا من سُقْمِ عينيكِ سُقْمي) وقلت: (يسعى إليَّ مقرطقٌ في كفه ... كأسٌ وبينَ جفونه كاسانِ) وقد أطرف البحتري في قوله: (والذي صير الملاحة في عينية ... وقفاً والسحرَ في أجفانِهْ) (لا أطعتُ العذولَ فيه وإن ... أسرف في ظلمه زفي عدوانه) (فدعا اللوم في التصابي فإني ... لا أرى في السلو ما تريانه) وقلت أيضاً: (ومقلة كحميا الكأسِ مسكرةً ... وحاجبٍ كهلالِ الشهرِ مقرون) وقلت: (ونسقيك في ليلٍ شبيهٍ بفرعها ... شبيهاً بعينيها وشكلاً بخدها)

(فتسكرُ من عينٍ وكأسٍ ووجنةٍ ... تحييك أعتاب الكؤوس بوردها) وقالوا أجود ما قيل في الثغر من شعر المتقدمين قول جرير: (تجري السواك على أغرَ كأنهُ ... بردٌ تحدَّرَ من مُتونِ غمامِ) وقالوا بيت النابغة (تجلو بقادمتى حمامةِ أيكةٍ ... برداً أسفُ لثاتهُ بالأثمد) (كالأقوحان غداة غبَ سمائهِ ... جفتْ أعاليه وأسفلهُ ندي) شبه الشفتين لرقتهما بقادمتي حمامة. وقالوا بيت بشر بن أبي خازم: (يفلجنَ الشفاه عن اقحوان ... جلاهُ غب سارية قطار) ومن أحسن ما جاء في ذلك قول البحتري: (ولما التقينا والتقى موعدٌ لنا ... تبينَ رامي الدرُ منا ولاقطه) (فمن بردٍ تجلوهُ عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عندَ الحديثِ تساقطهُ) وهذا أحسن من قول الأول ومنه أخذ البحتري: (إذا هنَ ساقطنَ الأحاديث بالضحى ... سقاط حصى المرجان من كفَ ناظم) ومن أحسن ما قيل في بياض الثغر قول البحتري أيضاً: (ويرجعُ الليلُ مبيضاً إذا ضحكتْ ... عن أبيضٍ خضلِ السمطين وضاحِ) فجعله يجلو الظلام لبياضه، وذكر كثرة الريق فقال خضل لأن قلة الريف تورث تغير الفم، وذكر حسن تنضيد الثغر فجعله سمطين. فلا يرى في هذا المعنى أجمع من هذا البيت. وقد أحسن ابن طباطبا: (ثغرهُ عندَ سرده ... كالعناب المزردِ) (مثل دُرٍ منظمٍ ... بين درٍ منضد) وقد أحسن البحتري وابلغ في قوله:

(وأرتنا خداً يراح له الوردُ ... ويشتمهُ جنى التفاح) (وشتيتاً يغض من لؤلؤ النظم ... ويُزري على شتيت الأقاحي) (فأضاءَت تحت الدُّجنة للشرب وكادت تضيئ للمصباح) (وأشارت إلى الغناء بألحاظٍ مراضٍ من التصابي صحاح) (فطربنا لهنَ قبل المثاني ... وسكرنا منهنَّ قبلَ الرّاحِ) (وتدير الجفون من عدم الألباب ... مالا يَدورُ في الأقداحِ) وقلت: (مخضبة الأطرافِ تحسب أنها ... أساريع في أفواههنَ عقيقُ) (دهاني منها نرجسٌ يرشق الحشا ... وهل نرجسٌ يا للرجالِ رشوق) (ومبتسمٌ عذبٌ المذاقةُ مونق ... تجمعَ فيهِ لؤلؤٌ ورحيقُ) وقلت لبعض البغداديين ما أحسن ما قيل في طيب النكهة والريق وحسن الثغر؟ فقال قول ابن الرومي: (وقبَلتُ أفواهاً عذاباً كأنها ... ينابيعُ خمرٍ خضّبتْ لؤلؤ البحرِ) فقلت إلا أن قوله لؤلؤ البحر فضل لا يحتاج إليه لأن اللؤلؤ لا يكون إلا في البحر ولو كان في غير البحر لؤلؤ فليس لنسبته إليه فائدة. وقد أحسن ابن الرومي في وصف طيب النكهة فقال: (وما تعتريها آفةٌ بشرية ... من النوم إلا أنها تتخترُ) (كذلك أنفاسُ الرِّياض بسحرة ... تطيبُ وأنفاسُ الأنام تغيرُ) هذا التمثيل مليح جداً. وأجود ما قيل في الريق أيضاً قوله: (يا ربَ ريقٍ بات بَدرُ الدُّجى ... يمجهُ بينَ ثناياكا) (يروي ولا ينهاكَ عن شربهِ ... والماءُ يرويك وينهاكا) ولا أعرف لهذا البيت نظيراً في معناه. وقد سبق ابن الرومي إلى قوله: (سقتهُ ابنةُ العمريِّ من خمرٍ عينها ... ووجنتهِا كأساً يميتُ ويدنفُ)

(فقالَ امزجيها بالرُضابِ لعلهُ ... يسكنُ من خمر الهوى ويخففُ) (فصدَّتْ ملياً ثم جادَتْ بريقةٍ ... يزيد بها سكرُ المحبِّ ويضعفُ) (فراح بضعفي سكره من مزاجها ... وقد يسأل العدل الولاة فيسعفُ) (فهل من مزاج زاد في سكر شاربٍ ... سوى ريقِ ذاتِ الخال أم أنت تعرفُ) وقال: (مَزَجت خمرة عينيها بريقتها ... كيما تكفكفُ عني من حمياها) (فاشتد إسكارها إياي إذ مُزجت ... ومَزْجُك الكأس ينهى عنك طغياها) وأخبرنا أبو أحمد عن يحيى عن الرياشي قال قال الأصمعي أحسن ما قيل في الثغر قول ذي الرمة: (وتجلو بفرعٍ من أراك كأنهُ ... من العنبر الهنديِّ والمسك ينفحُ) (ذُرى أقحوانٍ واجه الليل وارتقى ... إليهِ الندى غاديه والمتروَح) وقد أحسن ديك الجن في قوله: (وقهوة كوكبها يُزهرُ ... ينفحُ منها المسك والعنبر) (وردية يحثثها أحور ... كأنها من خدهِ تعصرُ) (مهفهف لم يبتسم ضاحكا ... مذْ كانَ إلا كنبيذ الجوهر) وقد جمع كشاجم فأحسن في قوله: (البدرُ لا يغنيك عنها إذا ... غابتْ وتغنيك عن البدر) (في فمها مسكٌ ومشمولةٌ ... صرفٌ ومنظومٌ من الدرَ) (فالمسك للنكهةِ والخمرُ ... للريقةِ واللؤلؤ للثغرِ) جمع ثم قسم تقسيماً صحيحاً ولم يترك مزيداً. ومن البارع المشهور في هذا المعنى قول الصنوبري: (تلك الثنايا من عقدها نظمتْ ... أم نظمَ العقدُ من ثناياها) وقال غيره وأحسن التقسيم: (وثنايا وريقة كغديرِ ... وعقارِ وروضةٍ من أقاح)

قال ابن المعتز: (مشربٌ عذبٌ مشارعه ... جامدٌ في خَمره بَردُ) وقال: (قلتُ للكأسِ وهو يَكرَعُ منها ... ذَقتَ منهُ واللهِ أطيبَ منكَ) وقال: (ياسر إن أنكرتني فلكم ... ليلٍ رأتك مَعي كواكبُهْ) (بأبي حبيبٌ كنتُ أعهدُه ... لي واصلاً فازورَّ جانبه) (عَبِقُ الكلامِ بمسكة نفحَتْ ... من فيهِ ترضى من يُعاتبه) وقد أحسن أبو تمام في قوله: (تعطيك منطقَها فتعلم أنه ... يجنى عذوبتِه يمرُ بثغرِها) وهو من قول بشار: (يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مُختَبرٍ ... إلا شهادةُ أطرافِ المساويك) وقول بشار من قول قيس: (كأنَّ على أنيابها الخمر شجها ... بماء الندى من آخرِ الليل غابق) (وما ذقتُه إلا بعيني تفرُّساً ... كما شيمَ من أعلى السحابة بارقُ) ومثله قول الآخر: (وتبسم عن ألمى اللثات مفلج ... خليق الثنايا بالعذوبة والبردِ) وقال ابن الرومي: (بدا لي وميضٌ مؤذنٌ أنّ صوبَه ... عريضٌ وما عندي سوى ذاك مخبرُ) (وما ذقتهُ إلا لشيم ابتسامها ... فكم مخبرٍ يبديه للعينِ منظرُ) وقال عمارة بن عقيل: (كأنَ على أنيابها مبيتُ الكرى ... وقيعه يردى تهلل في تعب؟) (تأمل عين لا تقيل إذا ارتأت ... وقلب وما أنباك أشعر من قلبِ) وقال آخر وأحسن: (بأبي فمٌ شهدَ المحب له ... قبلَ المذاقِ بأنه عَذب) (كشهادةٍ لله خالصة ... قبلَ العيانِ بأنه ربُ) ِ ... وقلت في معنى الأول: (أقول لما لاح من خدرهِ ... والليلُ يُرخى الفضل من ستره)

(أبدرهُ أحسنُ من وجههِ ... أم وجههُ أحسنُ من بدرهِ) (قد مالت الرقةُ في شطرهِ ... ومالت الغلظةُ في شطره) (فأزرهُ غصتْ بأردافه ... ووشحه جالت على خصره) (أصبحتُ لا أدري وإن لمْ يكنْ ... في الأرضِ شئ أنا لم أدرهِ) (أشعرهُ أحسنُ من وجههِ ... أم وجههُ أحسنُ من شعره) (ودره يؤخذُ من لفظه ... أم لفظه يئخذ من دره) (وثغرهً ينظمُ من عقدهِ ... أم عقدُه ينظمُ من ثغره) (فمن غذير الصبِّ من صدِّهِ ... ومن يجيرُ القلب من هجره) (ياليته يَعرِفُ حُبي لهُ ... عساه يجزيني على قَدْرهِ) وقد أحسن ما قيل في حديث النساء قول القطامي: (فهن ينبذن من قولٍ يعبنَ به ... مواقعَ الماءِ من ذي الغلةِ الصادي) وقد أحسن القائل: (هي الدرُ منثوراً إذا ما تكلمتْ ... وكالدُّرِّ منظوماً إذا لم تتكلم) (تعبدُ أحرارِ القلوبِ بدلها ... وتملأ عينَ الناظرِ المتوسمِ) وقد أحسن ابن المعتز غاية الإحسان في قوله: (لعمرك ما أجدى هواك سوى المنى ... عليّ وما ألقاك إلا كما أخلو) ثم قال: (وشر أحاديث عذاب لوانها ... جنى النحلِ لم يمججْ حلاوتَها النحلُ) الناس كلهم شبهوا حلاوة الحديث بحلاوة العسل وزاد ابن المعتز هذه الزيادة فأحسن. وعندي أن أحسن ما قيل في وصف حديثهن قول بعض المحدثين وهو ابن الرومي: (وحديثها السحرُ الحلال لوانه ... لم يجن قتل المسلم المتحرزِ) (إنْ طالَ لم يُملل وإنْ هي أوجزَت ... ودَ المحدَّثُ أنها لم توجِز) ( ... شرك القلوب وفتنة ما مثلها ... للمطمئنَ وعقلة المستوفز)

ومن جيد ما قيل في الحديث ومشهوره قول ابن الرومي: (ولقد سئمتُ مآربي ... فكأنَّ أطيبَها خبيثْ) (إلا الحديثَ فإنهُ ... مثل اسمهِ أبداً حديث) وقلت: (وحديث كأنهُ عقدُ ريا ... بتُ أرويهِ للرجالِ وتروي) (وحديثُ الرَجال روضةُ أنسٍ ... باتَ يرعاهُ أهلُ نُبلٍ وسرو) ومن جيد ما قيل في الحياء ما أخبرني به عم أبي قال قال أبو العباس الفضل ابن محمد اليزيدي قال قال الهيثم قال لنا صالح بن حسان يوماً هل تعرفون بيتاً شريفاً في امرأة خفرة؟ قلنا نعم بيت حاتم إذ يقول: (يضئ بها البيتُ القليل خصاصه ... إذا هي ليلاً حاولتْ أن تبسما) قال لم يصف شيئاً، قلنا فبيت الأعشي: (كأنِ مشيتها من بيتِ جارتها ... مرُ السحابةِ لا ريثٌ ولا عجل) قال قد جعلها خرجت وهذا ضد الخفر، قلنا فهات ما عندك قال قول أبي قيس بن الأسلت: (ويكرِمُها جاراتها فيزُرنها ... وتعتلُّ عن إتيانهنَّ فتعتذرُ) أجود ما قيل في العناق قول بكر بن خارجة: (إني رأيتك في نومٍ تعانقني ... كما تعانقُ لامُ الكاتبِ الألفا) وهذا من المقلوب لأن الألف تعانق اللام، ويجوز أن يحتج له بأن يقال الألف لا تعانق اللام إلا واللام معانقة لها. ومن أطرف ما قيل في ذلك قول ابن المعتز: (كأنني عانقتُ رَيحانةً ... تنفّستْ في ليلهِا الباردِ) (فلو ترانا في قميصِ الدُّجَى ... حسبتَنا من جسدٍ واحدِ) وقلت في نحو ذلك:

(ونحن نظمٌ في الهوَى واحدٌ ... كأننا عقدانِ في نحرِ) وقال التنوخي: (لله أيامٌ مضينَ قطعتها ... وطوالها بالقاصراتِ قصارُ) (أخلو النهارَ على النهار وإنني ... والشمسُ لي دونَ الشعار شعارُ) (خداهُ وردٌ والنواظُر نرجسٌ ... والثغر سوسنُ والرضابُ عُقار) (حتى إذا ما الليلُ أقبلَ ضمنا ... دونَ الأزارِ من العناقِ إزار) (فعلى النحورِ من النحور قلادةٌ ... وعلى الخدود من الخدود خمارُ) وقد أحسن وطرف إلا أنه أخذ قوله (من العناق إزار) من قول ابن الرومي: (طلما التفت إلي الصبح ... لنا ساقٌ بساقِ) (في قِناعٍ منْ لثامٍ ... وإزارٍ منْ عِناقِ) وأنشد أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن سعيد لابن عيد كأنه الكاتب: (وكلانا مُرتَدٍ صاحبَهُ ... كارتداءِ السيفِ في يوم الوغى) (بخدودٍ شافياتٍ من جوى ... وشفاهٍ مروياتٍ من ظما) (نتساقى الريقَ فيما بيننا ... زقت أمات القطا زغبَ القطا) أحسن ما قيل في الشعور من الشعر القديم قول الأعشي: (فأغضيت منها إلى جنةٍ ... تدَلتْ عليَّ عناقيدُها) ليس لأشعار المتقدمين نظير، وكان بشار يتعجب من حسنه ويقدمه على جميع ما قيل في الشعر. وقد أحسن القائل: (بيضاء تسحبُ من قيام فرعها ... وتغيبُ فيه وهو جثلٌ أسحمُ) (وكأنها فيهِ نهارٌ ساطعٌ ... وكأنه ليلٌ عليها مظلم) أخذه بعضهم فقال وأحسن

(نشرَت عليَّ ذوائباً من شعرها ... حذرَ الكواشح والعدوَ المحنق) (فكأنني وكأنها وكأنهُ ... صبحانِ باتا تحتَ ليلٍ مطبق) وقد أحسن السري القول في سواد الشعر مع أوصاف أخر وهو قوله: (مصقولة بسنى الصباحِ وجوهَها ... مصبوغةٌ بدُجى الظلام طرارُها) (أغصانُ بانٍ أبدعتْ في حملها ... فغرائبُ الوردِ الجنيّ ثمارُها) (طالتْ ليالي الحبَ بعد فراقها ... وأحبهنَ إلى المحبَ قصارُها) (ولربُ ليلاتٍ بهنَ تفرَّجتْ ... أسدانُها وتأرَّجتْ أسحارُها) (ما كانَ ذاك العيشُ إلا سكرةً ... رَحلتْ لذاذتُها وحلَ خمارُها) وقال ديك الجن: (أنظر إلى شمسِ القصورِ وبدرها ... وإلى خزاماها وبهجةِ زهرها) (لم تبل عينك أبيضاً في أسودٍ ... جمعَ الجمالَ كوجهِها في شعرِها) وقال أبو تمام: (بيضاء تسحبُ شعرَها من وجهِها ... في حسنهِ أو وجهَها من شعرها) وقال أبو نواس: (وسالتْ من عقيصتها ... سلاسلُ كسرتْ حَلَقا) وقال آخر: (سيقربُ منك الردى عنوةً ... إذا ما نأتْ عنك أحمالُهْ) (فهل أنتَ باك على أثره ... وهل تشجينك أطلاله) (سيكثرُ من بعدِ ترحاله ... توجعُ صبٍ وإعواله) (بنفسي الذي قلقته وشحه ... وضاقَ بما فيه خلخالُهْ) (يريك الحنادسَ إدبارهِ ... ويبدي لك الصبحَ إقباله) (مليحُ الدلالِ قليلُ النوالِ ... جميلٌ وإنْ قلَ إجمالُهْ) وقلت: (رخيمٌ فاترُ اللحظ ... رشيقٌ مُخطفُ الخصرِ)

(وقد عُممَ بالليل ... وقد قنعَ بالفجرِ) (وما ينفعني حسنك ... يا أحسن من بدرِ) (إذا كان نصيبي منك ... طولِ البينِ والهجرِ) وقال كشاجم: (بالله يا متفرداً في حسنه ... ومقلتا هروت بين محاجرِهُ) (ومحكماً أردافهُ في خصره ... ومصافحاً خلخالهُ بضفائره) (ويكاتمُ الاسرار حتى إنه ... ليصونها من أنْ تمرَ بخاطره) (لا تعضينَ على فتى يرضي بما ... أوليتهُ ولو انقطعت بناظره) أخذ وقوله (ومصافحاً خلخاله بضفائره) من قول أبي نواس: (باتوا وفيهم شموسُ دجن ... ينعلُ أقدامها القرونَ) (تعومُ أعجازُهنَ عوماً ... وتنثني فوقها المتونُ) (غريبُ شكل بديع حسن ... أفردهُ المثلُ والقرينُ) (بانوا بروحي فصرتُ وقفاً ... لا بي حَراكٌ ولا سكونُ) وقال نصر بن أحمد: (سلسلَ الشعرُ فوقَ وجهٍ فحاكى ... ظلمةَ الليلِ فوقَ ضوءِ الصباح) وقال السري: (قصرتْ ليلةُ الخورنقِ حسناً ... والليالي الطوالُ فيه قصارُ) (إذ وجوهُ الأنام فيه رياضٌ ... ومياهُ السرورِ فيه غمارُ) (وجناتٌ تحيرَ الوَردُ فيها ... وثغورٌ جرتْ عليها العقار) (فضحاهُ من الذوائبِ ليلٌ ... ودُجاه من الخدودِ نهار) وقال: (ومالت غصونٌ طوقتْها مناطقٌ ... ولاحتْ شموسٌ توّجتْها حنادسُ)

وقلت: (وذي غنجٍ يأوي إلى فرعه الدُّجى ... ولكنها عن وَجْههِ تتفرج) (ففيه ظَلامٌ بالصباح معمم ... وفيه صباحٌ بالظلامِ متوَّجُ) (يروق سُليمى منك جَعد مسلسلٌ ... ويسليك منها أقحوانٌ مفلّجُ) (وفرعُك من صبغ الشباب ممسكٌ ... وخدُّك من ماء الجمال مضرّجُ) (ووجهُك مثلُ الروض يغسلُه الحيا ... تمشطهُ أيدي الرياح فيبهج) أبلغ ما قيل في صفة الأصداغ والعذار: فمن بديع ما قيل في الصدغ قول ابن المعتز: (له طمرة كجناحِ الغدافِ ... تلوحُ على غمرة مقمرة) (وفي عطفةِ الصدغِ خالٌ له ... كما استلبَ الصولجانُ الكره) وقوله: (وكأنَ عقربَ صدغه وقفتْ ... لما دنتْ من نارِ وجنتهْ) وقوله: (غُلالة خَده وردٌ جنيّ ... ونون الصدغ منقوطٌ بخال) وقلت: (وكأنَ دارةَ صدغهِ وعذارهِ ... ألفٌ تقوم تحتَ نون تعطف) وقال ديك الجن: (فقام مختلفاً كالبدر مطلقاً ... والخشف ملتفتاً والغصن منقطفا) ( ... رقتْ غلالةُ خدّيه فلو رُميا ... باللحْظِ أو بالمنى بأن يكفا) (كأنَ لاماً أُديرتْ فوقَ وجنتِه ... واختطَ كاتبُها من تحتها ألفا) وقلت: (إذا التوى الصدغ فوق وجنته ... رأيتَ تفاحةً بها عضّه) وقلت: (الغيمُ بين ممسّك ومكفّر ... والروضُ بين مجدّدٍ ومدبّجِ) (فإذا شربتَ فمنْ رحيقٍ سلسل ... وإذا رشفتَ فمن شتيت أفلجِ) (من ريقٍ أهيفَ كالقضيبِ مخضراً ... أو كفَ أبلج كالصباحِ الأبلجِ) (فإذا جلا لك غرَة في طرَة ... ألوى بقلبك أبلج في أدعج) (فانظر عناقَ ممسك لمكفر ... يجلوه حسنُ مفلّج ومضرّج) (وإذا تعانَق خدُّهُ وعذارهُ ... فانظر عناقَ عقائق وبنفسجِ) وقال آخر: (عجبي لخضرة زَعفران عذارِه ... ومن العجائب زعفرانٌ أخضر)

وقال ابن المعتز: (من كفَ ريم تثنى مناطقهُ ... على هضيم الكشحينِ ممشوق) (يعطيك ما شاء من معانقة ... مقفلة من وراء معشوقِ) (مسطرُ الخدِّ بالعذارِ ولا ... يحسنُ غصنٌ إلا بتوْرِيقِ) وقلت: (له وجنتا وردٍ وعينا غزالةٍ ... وغُرَّة إصباح وطُّرة غيهبِ) (وصدغٌ يناجي الأذنَ وهو مُعقرب ... وطوراً يناغي الخدَّ غير مُعقرب) (له من ظلام الليلِ أحسنُ مُلبس ... وفوقَ ضياء الصبح أحسنُ ملعبِ) وقال الصنوبري: (تلك طرارٌ عليك أمْ حلقٌ ... زانك صدغانِ أم هما زردٌ) وقلت: يفننُ القلبَ بخدٍ ... لم يدَعْ للوَرْد قدرا) (مثلما تكتبُ بالمسك ... على الكافورِ سطرا) (وعذار يسحرُ الصبَ ... وما يعرفُ سحرا) (ويصدغ دارَ في الخدِّ ... كما تعقدُ عشرا) (كلما أظلم (ليلي) كان (لي) وجهك فجرا) وقال ابن المعتز: (لعمرُك ما أزرتْ بيوسفَ لحيةٌ ... ولكنّه قد زاد حُسناً وأُضعِفا) (فلا تعتذر من حبهِ في التحائهِ ... فما يحسنُ الدينارُ إلا مسيفا) وقال في خضرة الشارب: (تبسمَ إذ مازحتهُ فكأنما ... تكشفَ عن دُر حجابَ زبرجدِ) وقال بعض المتأخرين وأحسن: (ومُعذَّرين كأنَ نبتَ خدُودهم ... أقلامُ مسك تستمدُ خلوقا) (قرنوا البنفسجَ بالشقيقِ ونظموا ... تحت الزبرجدٍ لؤلواُ وعقيقا)

وقلت: (وعانقت حلق من صدغه حلقا ... كالعين في العينِ أو كالجيم في الجيم؟) وقلت وليس من هذا الباب: ( ... كأنما النورُ مضحكٌ يقف ... وعطفةُ الغصن شاربٌ خضرُ) وقلت: (وترى النورَ مثلَ مضحك خُوْد ... وترى الغصنَ مثلَ شاربَ أمرد) ولعبد الرحمن السيلي رجل من أهل خراسان: (وشادن سائقات الشعر قد سلكتْ ... في عارضيهِ على جهدٍ بها طرقا) وهذا البيت متكلف جداً: (لما رأتْ أنها قد أخطأت وجَنتْ ... ولَّتْ تعودُ فدارتَ كلها حلقا) وهو مأخوذ من قول كشاجم: (علم الشعر الذي عاجلهُ ... أنهُ جار عليهِ فوقف) فقال هذا (وقف) وقال عبد الرحمن (درات حلقا) الفرق بينهما هذا. وقلت: (لا والذي دار من صدغيك وانعطفا ... وصار نوناً إذا صيرتهُ ألفا) (ما كنتُ إذ خنتني إلا أخا ثقةٍ ... لم تستعضْ منهُ إذ ضيعتهُ خلفا) لم أسبق لمعنى البيت الأول. وقلت: (قد التوى ضدعه واختطَّ عارضهُ ... كأنَّهُ ألفٌ من فوْقه نونُ) وقلت أيضاً ولم أسبق إلى معناه (ومغنج قالَ الكمالَ لوجهه ... كنْ مجمعاً للطيباتِ فكانَهُ) (زعمَ البنفسجٌ أنه كعذارِهِ ... حسناً فسلوا من قفاهُ لسانهُ) أعني الهنة النابتة تحت ورقة البنفسج: وقلت: (بنفسجُ عارضه ينثني ... إلى حمرةٍ من وجنتيه) (فيجعلُ قلبي في كفه ... يسئُ إليهِ ويعدو عليه) وقال ابن المعتز: (والصدغُ فوقَ العِذار منكسرٌ ... كصولجانٍ يرد ضربتَهْ)

وقال (وصدغه كالصولجان المنكسر) أجود ما قيل في حسن القد ورقة الخصر وكبر العجيزة: أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبي عن عسل بن ذكوان، وأخبرنا به أوبو علي بن أبي حفص عن جعفر ابن محمد العسكري عن بعض رجاله قال قال أبو عمرو بن العلاء لأصحابه أنشدوني أحسن ما قيل في حسن القد وعظم العجيزة فأنشده بعضهم قول علقمة: (صِفر الوشاحين ملءُ الدّرعِ بهنكةٌ ... كأنّها رشأٌ في البيتِ ملزومُ) قال لم تأت بشئ فأنشد بيت ذي الرمة: (ترى خلفها نصفاً قناة قويمة ... ونصفاً نقا يرتَج أو يتمرمرُ) وأنشد بيت الأعشى: (صفر الوحشين ملءُ الدِّرع بهنكةٌ ... إذا تمشتْ يكادُ الخصرُ ينحول) وأنشد بيت ذي الرمة: (عجزاه ممكورةٌ خمصانةٌ قلقٌ ... عنها الوشاح وتمَ الجسمُ والقصبُ) فقال أجسن من هذا كله قول الحارث: (غرثان سمط وشاحها قلقٌ ... شبعان من أردافِها المرطُ) قال أبو هلال أخذه عبد الله بن عبد الله بن طاهر فقال: (سلمى وما سلمى تفوق المنى ... والوصف الساق أونواعاً وألوانا) (وشاجها يحسدُ خلخالها ... كجائع يحسدُ شبعانا) نقله إلى وصف السابق، وأخذه ابن المعتز بلفظه ومعناه فقال: (وظباءٌ غرائرُ ... مشبعات المآزرِ) ومن البديع قول أبي نواس: (وريّان من ماءٍ الشبابِ كأنهُ ... يظمأ من ضمرِ الحشا ويجاع)

أخذه الآخر فقال: (طبيٌ كأنَ بخصرهِ ... من ضمرهِ ضمأ وجوعا) وقلت: (وقد تقطن أذقانا ... كشماماتِ كافورِ) (وقد شَدَّتْ زنانيراً ... على مثل الزنابير) وقد أحسن ابن المعتز حيث يقول: (وتحت زنانير شددنَ عقودها ... زنانير عكان معاقدها السُّرُرُ) وقال مؤمل وأفرط: (من رأى مثلَ حِبتي ... تشبه البذر إذا بدا) (تدخل اليومَ ثم تدخلُ ... أردافها غدا) وأنشد أبو أحمد قال أنشدني أبو بكر بن دريد: (قد قلتُ لما مرَ يخطو ماشياً ... والردفُ يجذبُ خصرهُ من خلفه) (يا منْ يسلمُ خصرهُ من ردفه ... سلمْ فؤادَ محبهِ من طرفه) وقد أحسن القائل في وصف لين القوام والترنح: (ممن له حسن الرحيق وطيبه ... ومزاج شاربه ومشى نريمه) وقلت: (لا والظباء الآنسات إذا رنت ... فاقتن حسنُ عيونهنَ فتونا) (إنْ لحنَ لحنَ كواكباً أو نحن ... نحن لطائماً أو ملنَ مَلنَ غصونا) (ويدرن من مُقَلِ إليك فواترٍ ... يكسينَ قلبكَ بالفتورِ فتونا) (ما خنتُ عهدَ هوىً عليك وقفتهُ ... وأخو المرؤةِ لا يكونُ خَؤونا) وقبل هذا: (مترجرجُ الأردافِ مضطمرُ الحشا ... لدنُ القوامِ يكادُ يعقد لينا) (دأبَ النعيمُ له فأثمرَ صدرهُ ... ثمراً إذا حلت الثمارُ حلينا) يقال حلا الشئ في الفم وحلى في القلب. وكتبت في فصل لي: والله يعلم أني أخدمه بالضمير خدمة لو تصورت له لرآها الرائي روضاً ممطوراً ووشياً منثوراً

ولؤلواً منظوماً ومنثوراً بل لأبصر أعطاف الفتيان تنثني تثني الأغصان في قراطق الحبير ومن ربرات الدبياج والحرير وقد اطلعت أزرارهم بواهر الأقمار مطرفة بعقارب الاصداغ وحلق الأطرار فأقبلوا يسفرون عن غرة الصباح ويبسمون عن حباب الراح ويمزجون الدلال بخجل أسأرء فيهم الوصال فإذا حضروا وكلوا الأبصار وإذا غابوا استوهبوا القلوب والأفكار فهم الداء والدواء ومنهم السقم والشفاء. ومن الإفراط في ذكر الغيد وهو لين القامة قول ماني: (أتمنى الذي إذا أنا أومأتُ ... إليهِ بطرف عيني تجّنى) (أهيفٌ كالقضيبِ لو أنَ ريحاً ... حَركتْ هدبَ ثوبهِ لتثنَّى) وأجود ما قيل في النهود وعظم العجيزة قول الأعرابي: بيضاء جعدة لا يمس الثوب منها إلا مشاشة كتفيها وحلمتي ثدييها. وأخذه الشاعر فقال أو أخذه الأعرابي من الشاعر: (أبت الروادفُ والثديُ لقمصِها ... مسَ البطونَ وأن تمسَ ظهورا) (وإذا الرياحُ مع العشيِّ تَناوَحَتْ ... نبهنَ حاسِدَةً وهجنَ غيورا) وقلت تمشي بأردافٍ أبيْنَ قعودَها ... بينَ النساءِ كما أبينَ قيامها) وقال ابن المعتز في النهود: (يا غضناً إن هزه مشيةُ ... خَشيتُ أم يَسقطَ رمانهُ) (إرحَم مَليكاً صارَ مستَعبداً ... قد ذل في حبك سلطانهُ) وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن العكلي عن ابن خالد عن الهيثم ابن عدي قال قعد أعرابي إلى جانب دار إسماعيل بن علي بالكوفة فخرجت جارية فطفق الأعرابي ينظر إليها فقال له رجل ما نظرك إلى شئ غيرك أقبل على شأنك واصبر، والجارية تسمع فقال الأعرابي ربلات تصطك وغصن يهتز وثدي يخرق إهابه وتقول اصطبر، فضحكت الجارية وقالت والله ما مدحني أحد مثل ما مدحتني

به. فقال بأبي أنت وأمي إن الهوى يظهر جيد القول ويبدي المستتر الكامن وإنك لما يما يكنى عنه الربلات مجامع الفخذين؟ وقلت: (أيا وَرداً على غصن ... بكرِّ اللحظ يلقطه) (ورماناً على فتن ... يكادُ المشيُ يسقطهُ) (أتى والبدرُ يحسدهُ ... وشمسُ الدُّجن تغبطهُ) (وخوفُ الناس يقبضهُ ... وحبُ الوصل يبسطهُ) وأحسن ما قيل في الثدي: (قبيحٌ بمثلكِ أنْ تَهجري ... وأقبح من ذاك أن تُهجري) (أقاتلتي بفتورِ الجفونِ ... ورُمانتينِ على منبرِ) (كحقين من لبّ كافورةٍ ... برأسيهما نقطتا عنبر) والناس يستحسنون قول مسلم بن الوليد: (فأقسمت أنسى الدَّاعياتِ إلى الصبا ... وقد فاجأتْها العينُ والستر واقعُ) (فغطتْ بكفيها ثمارَ نحورها ... كأيدي الأساري أثقلتها الجوامع) وهو حسن جداً ومثله قول النميري: (أعميرُ كيفَ بحاجةٍ ... طُلبتْ إلى صُمِّ الصُّخورِ) (لله درُ عِداتكم ... كيفَ انتسبنَ إلى الغُرورِ) (ولقد تبيتُ أناملي ... تجنينَ رمانَ الصدورِ) وقال علي بن الجهم: (شاخصٌ في الصدر غضبان على قَببِ البطنِ وطيِّ العُكَنِ) (يملأ الكفَ ولا يفضلهُ ... وإذا أثنيته لا ينثني) وقد طرف ابن الرومي في قوله: (صدورٌ فوقهنَ حِقاق عاجٍ ... وحليٌ زانهُ حسنُ اتساقِ)

(يقول القائلونَ إذا رأوها ... أهذا الحلي من هذي الحقاقِ) أجود ما قيل في الخضاب بأنامل المرأة من قديم الشعر قول الأسود بن يعفر: (يسعى بها ذوُ تُؤمتين مقرطقٌ ... قَتأتْ أناملهُ من الفرصادِ) (فأخذ المحدثون ذلك وتصرفوا فيه فمن أحسن ذلك قول أبي نواس: (يا قمراً أبصرتُ في مأتم ... يندبُ شجواً بين أترابِ) (يبكي فيلقي الُدر من نرجسٍ ... ويلطمُ الوردَ بعنابِ) ِ ... وقال ديك الجن: (ودعتُها لفراقٍ فاشتكتْ كبدي ... وشبكتْ يدَها من لوعةٍ بيدي) (وحاذرتُ أعينَ الواشينَ وانصرفَتْ ... تعضُّ من غيظها العَّنابَ بالبردِ) (فكانَ أوَّلَ عهدِ العينِ يومَ نأتْ ... بالدَّمعِ آخرُ عهدِ القلبِ بالجلد) ومن البديع في هذا المعنى قول الآخر: (قالوا الرَّحيل فأسرَعَتْ أطرافها ... في خَدِّها وقد اكتسينَ خضابا) (فاخضرَ موضعُ كفِّها فكأنما ... غَرسَتْ بأرض بنفسج عُنابا) وقال الناشئ وهو أحسن الواصفين لهذا المعنى: (من كفَ جاريةٍ كأنَ بنانَها ... من فضةٍ قد طرّفتْ عُنّابا) (وكأنَ يمناها إذا نطقتْ به ... يلقى على يدها الشمالِ حسابا) وقال أيضاً: (لناقينةٌ ترنو بناظرتينِ ... بما في قلوبِ الناسِ عالمتين) (تخالُ تصاريف الخضابِ بكفها ... فصوصَ عقيقٍ فوق قضب لجينِ) وقال: (متعاشقان مكاتمان هواهما ... قد نامَ بينهما العتابُ فطابا) (يتناقلان اللحظَ من جفنيهما ... فكأنما يتدارسان كتابا) (وإذا هَدَت عينُ الرَّقيب تخالست ... كفاهما خلس السلام سلابا) (بأنامل منه يلوحُ مدادها ... وأنامل منها كسينَ خضابا)

(فكأنما يجني لها من كفه ... عنباً وتجنيهِ لهُ عنابا) يذكر أثر المداد بأنامله وأثر الخضاب بأناملها. وقلت: (انظر إلى النقش من أطرافها البضه ... مثل البنفسج منثوراً على فضهْ) (أو خلتها أخذَتْ أطراف خرمة ... فنضدته على جمارة غضهْ) ومن غريب ما قيل في نظم حليهن قول النمر بن تولب: (كَعابٌ عليها لؤلؤٌ وزبرحدٌ ... ونظمٌ كأجوانِ الجرادِ مفصّلُ) قوله (كأجوان الجراد) غريب بديع لم يسبق إليه ولا أعرف أحداً أخذه منه. ومن البديع قول الدمشقي: (بدر بدا والشمسُ في كفّه ... وأنجمُ الليلِ عليهِ رعاثُ) (وهو من الليلِ ومن طرفهِ ... وشعرهِ في ظلماتٍ ثلاثْ) أحسن ما قيل في صفة الدمع إذا امتزج بالدم قول أبي الشيص: (لهوت عن الأحزان إذ أسفرَ الضحى ... وفي كبدي من حرهنَ حريق) (مزجتُ دماً بالدَّمعِ حتى كأنما ... يُذابُ بعيني لؤلؤٌ وعقيق) وقول أبي تمام: (نثرت فريدَ مدامع لم تُنظَمِ ... والدمعُ يحملُ بعضَ ثقلِ المُغرَمِ) وصلتْ نجيعاً بالدُموع فخدُّها ... في مثلِ حاشيةِ الرِّداء المعلمِ) وقال: (أبيتُ أراعي أنجم الليل بعدكم ... فيا ليتَ شعري هل تراعونها بعدي) (ودمعٍ نثرتُ دُرَّه وعقيقَه ... كأني حللتُ العقدَ من طرفِ العقدِ) ومن أجود ما قيل في بياض الدمع على حمرة الخد ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي: (لو كنتَ يومَ الوداعِ حاضرَنا ... وهنَ يطفئنَ لوعةَ الوجدِ) (لم ترَ إلا الدموعَ جاريةً ... تسقطُ من مِقلةٍ على خدَ) (كأنَ تلك الدموعَ قطرُ ندىً ... يقطرُ من نرجسٍ على وردِ) ونحوه قول ابن الرومي:

(لما دَنا البينَ وراحَ الدلُ ... وَدَّعْتها ودَمعُها منهلُ) (وخَدُّها من قطره مُخضلُ ... كأنهُ وردٌ عليهِ طلُ) ومن أجمع بيت قيل قول المحدثين: (فأسبلت لؤلؤاً من نَرجسٍ وسقتْ ... وَرْداً وعضَّتْ على العنابِ بالبرَدِ) ليس لهذا البيت نظير. وقلت: (يبكي فيسقي الدمعُ وجنتَه ... كما سقى الطلُّ وردةً غضّه) ومن المشهور قول بعضهم وهو حسن: (كأنَ الدُموعَ على خدِّها ... بقيةُ طلٍ على جلنارِ) ونحوه ما أنشدناه أبو أحمد في العرق: (يحدر من أرجاءِ صورةِ وجهه ... من الفم سُح في الجبين وفي الخدِّ) (فُرادى ومثنى يستبينُ كأنهُ سقيطُ ندى وفي على ورقَ الوردِ) ومثله ما قلت: (أخرجهُ الحمَّام كالفضه ... يحسدُ منهُ بعضهُ بعضهْ) (كأنما الماءُ على جسمه ... طلٌ على سوسنةٍ غضه) وفي صفة الدمع: (توريدُ دمعي من خدَّيك مختلسُ ... وسقم جسمي من عينيك مُسترق) (لم يبق لي رمَقٌ أشكو هوَاك به ... وإنما يتشكى من به رمقُ) وأبلغ ما قيل في امتلاء العين من الدمع قول بعض الأعراب أظنه: (فظلتُ كأني من وراءَ زجاجةٍ ... إلى الدارِ من فرطِ الصّبابة أنظرُ) وقول البحتري في معناه: (ويحسنُ دَلُّها والموتُ فيهِ ... وقد يستحسن السيفُ الصقيلُ) (وقفنا والعيونُ مشغلاتٌ ... يعالج دمعها طرفٌ قليلُ)

(نهتهُ رقبةُ الواشينَ حتى ... تعلق لا يغيضُ ولا يسيلُ) قوله (يحسن دلها والموت فيه) أحسن ما قيل في الدلال. ومن أعجب ما قيل في الدمع بعضهم ونسب إلى السري ولا أظنه له: (بنفسي من رَدَّ التحيةَ ضاحكاً ... فجدَّدَ بعدَ اليأس في الوصلِ مطمعي) (إذا ما بدا أبدى الغرامُ سرائري ... وأظهرَ للعذَّال ما بينَ أضلعي) (وحالتْ دُمُوعُ اليعنِ بيني وبينهُ ... كأنَّ دموعَ العينِ تعشقهُ معي) وهذا معنى ظريف حسن جداً. ومن حسن الاستعارة في صفة الدمع ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي: (قد كانَ في طول البكا لي راحةٌ ... وعنانُ سرِّي في يدِ الكتمانِ) (حتى إذا الأعلانُ نبهَ واشياً ... رقأتْ دموعي خشيةَ الإعلانِ) ومن البديع في ذلك قول بشار وهو مشهور: (ماءُ الصبابةِ نارُ الشوقِ تحذره ... فهلْ سمعتمِ بماءٍ فاض من نارِ) وقلت: (أشكو الهوى بدُموع قادها قلق ... حتى علقنَ بجفن رَدَّها الغرقُ) (ففي فؤادي سبلٌ للأسى جددٌ ... وفي الجفونِ مقيلٌ للكرى قلق) (لهيبُ قلبي أفاضَ الدمعَ من بصري ... والعودُ يقطر ماءً حينَ يحترقُ) ولا أظنني سبقت إلى هذا التمثيل. وقال ابن المعتز: (ولطمةُ خدٍ تجعلُ الوردَ خُرَّما ... وتنثرُ دمعاً لا يباعُ بأثمانِ) ونظير المصراع الأول قول صاحب مصر: (والله لولا أنْ يقالَ تغيرا ... وصبا وإنْ كانَ التصابي أجدرا) (لأعادَ تفاحَ الخدود بنفسجاً ... لثمي وكافورَ الترائبِ عنبرا) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي قال أنشد الحسن بن رجاء عن المبرد يوماً بيت ذي الرمة: (لعلَ إنحدارَ الدَّمع يعقبُ راحةً ... من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابل) وقال له من قال في مثله؟ فقال قد ملح الحسن بن وهب في قوله:

(إبك فما أثكر نفع البكا ... والحبُ إشفاقٌ وتعليلُ) (إفزع إليه في ازدحام الجوى ... ففيهِ مسلاةٌ وتسهيلُ) (وهو إذا أنتَ تأملتهُ ... حزنٌ على الخدَّين محلولُ) وقد ملح العباس بن الأحنف: (إني لأجحدُ حبكم وأسرهُ ... والدمعُ معترفٌ بهِ لم يجحد) (والدمعُ يشهدُ أنني لك عاشقٌ ... والناسُ قد علموا وإن لم يشهد) وقال: (طالَ عهدي بها فلما رأتني ... نظمتْ لؤلؤاً على تفاحِ) وقد أحسن الآخر في قوله: (إذ لا جوابَ لمفحمٍ متحير ... إلا الدُموع تصانُ بالأطرافِ) قوله (تصان بالأطراف) عبارة صحيحة جيدة. وقال آخر: (تقول غداةَ البين عندَ وداعها ... لكَ الكبد الحرَّى فسر ولك الصبرُ) (وقد سبقهتا عبرةٌ فدموعُها ... على خدِّها بيضٌ وفي نحرِها حمرُ) معناه إذا انحدرت إلى نحرها إنصبغت بلون الطيب والزعفران بها) ومن غريب المعنى قول الآخر: (غَدَتْ بأحبتي كوم المطايا ... فبانَ النومُ وامتنعَ القرارُ) (وكان الدمعُ لي ذخراً معدّاً ... فأنفقتُ الذَّخيرةَ يومَ ساروا) أجود ما قيل في طيب عرف المرأة: جميع ما مر بي من الشعر في هذا الفن متقارب في المعنى لا يفضل بعضه بعضاً إلا في القليل، ومنه ما هو جيد المعنى حلو المعرض فتركته لأن الشرط قد تقدم بايراد الجيد لفظاً ومعنى ورصفاً وذلك قليل ليس يقع إلا بعد التصفح الطويل والتعب الكثير: (فمن أجود ما قيل في ذلك من قديم الشعر قول الأعشى: (ما روضةٌ من رياضِ الحزنِ معشبةً ... خضراءَ جاد عليها مسبلٌ هطلُ) (يضاحك الشمسَ منها كوكبُ شرقٌ ... مؤزَّرُ بعميم النبتِ مكتهلُ)

(يوماً بأطيبَ منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذ دنا الأصلُ) وقول القطامي وهو جيد النظم متضمن لماء الطلاوة: (وما ريحُ قاعِ ذي خُزامَى وحَنوة ... له أرجٌ من طيبِ النبتِ عازبُ) (بأطيبَ من ميٍّ إذا ما تقلبتْ ... من الليلِ وسنى جانباً بعد جانب) إلا أنه جاء بالمعنى في بيتين. ومما هو مضطرب الرصف جيد المعنى قول ابن ابن الطثرية: (خودَ يكون بها القليلُ يمسّه ... من طبها عبقا يطيبُ ويكثرُ) هذا البيت على غاية اضطراب الرصف: (شكر الكرامة جلدها فصفا لها ... إنَّ القبيحةَ جلدها لا يشكرُ) قوله (شكر الكرامة جلدها) في غاية من الحسن. أخذه ابن الرومي فقال: (ألوفُ عطرٍ تذكي وهي ذاكيةٌ ... إذا أساءت جوارَ العطر أبدان) (يعيم كلُّ نهار من مجامرها ... ويشمسُ الليل منها فهو ضحيان) (كأنها وعثان الند يشملُها ... شمسٌ عليها ضباباتٌ وأدخان) وأخذ ابن المعتز قول القطامي ببعض لفظه إلا أنه زاد زيادة حسنة وجاء بألفاظ بديعة وهو قوله: (وما ريحُ قاع زاهرٍ مستِ الندى ... وروضٌ من الرَّيحانِ سحّتْ سحائبُهْ) (فجاء سُحيراً بين يومٍ وليلةٍ ... كما جرَ من ذيلِ الغلالةِ ساحبه) (بأطيبَ من أثوابِ شمر موهبا ... إذا الليلُ أدجى دابرَ كتائبهِ) (إذا رغبتْ عن جانب من فراشِها ... تضوعَ مسكاً أينَ مالت جوانبُهْ) وقد طرف ابن الأحنف في قوله: (ذكرتك بالريحان لما شممته ... وبالرَّاح لما قابلت أوجه الشربِ)

(تذكرت بالريحان منك روائحاً ... وبالراح طمعاً من مقّبلك العذبِ) وأنشدني أبو أحمد عن الصولي قال أنشدني عبيد الله بن عبد الله لنفسه: (تطيرتُ أيامَ اجتنابك أن ترى ... مكانَك عيني لا خلا منك خاليا) (فأسكنتهُ نوراً كرّياك طيبهُ ... يذكرني منك الذي لستُ ناسيا) وقد أحسن وحسنه قليل. وقيل لأعرابي أية رائحة أطيب؟ قال رائحة بدن تحبه إو ولد تربه فقال ابن الرومي (ريحه ريح طيب الأولاد ... ) وقلت: (يمرُّ بي وفدُ الصبا ... والليل يقضي نحبهُ) (مرَّ بروضٍ زاهرٍ ... درَ عليهِ عشبهُ) (فخلتهُ من طيبهِ ... نشوةَ من أحبه) ومن البليغ قول سحيم: (فما زالَ بُردي طيباً من ثيابها ... إلى الحولِ حتى أنهجَ البردُ باليا) 5 وأبلغ من ذلك وصفهم طيب المواضع التي وطنها الحبيب، وأول من قال ذلك النميري: (تضوع مسكاً بطنُ نعمانَ إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوةٍ خفرات) ومن أحسنه وأرشقه قول جميل: (ألا أيها الربع الذي غيرّ البلا ... عفا وخلا من بعد ما كانَ لا يخلو) (تداءبَ ريحُ المسك فيهِ وإنما ... به المسكُ إذ حرت به ذيلها جملُ) وقوله: (وأنت الذي حّببت سعيا إلى بدا ... إليّ وأوطاني بلادٌ سواهما) (حللت بهذي مرةً ثم مرة ... بهذي فطابَ الوادبان كلاهما)

وقال الآخر: (أرى كلَّ أرض يممتها وإن مضت ... لها حججٌ يزادد طيباً ترابُها) وقد طرف ابن الأحنف في قوله: (وجدَ الناسُ ماطع المسك من دجلة ... قد أوسعَ المشاربَ طيبا) (فهمُ ينكرونَ ذاك وما يد ... روُنَ أنْ قد حللتَ منها قريبا) وقال البحتري: (فكان العبيرُ بها واشياً ... وجرسُ الحلي عليها رقيبا) وقلت: (تأملتُ منها غزالاً ربيبا ... وبدراً منيراً وغصناً رطيبا) (جلتُ لك عن خضل واضحٍ ... يبيتُ سناه عليها رقيبا) (وهزّت لنا بسراةِ الكثيبِ ... قضيباً تفرّعَ منه كثيبا) (عشية راحت وأترابها ... يقلبن للهجرِ طَرفاً مُريبا) (كواكبُ ليلٍ إذا ما رأت ... كواكب شيبٍ تهاوت غروبا) (وأقمارُ روضٍ قمرن العقولَ ... وغزلانُ رملٍ قلبنَ القلوبا) (إذا زدتها نظراً زدتني ... جمالاً بديعاً وشكلاً غربيا) (رحلنَ العشيةَ من ذي الغضا ... وخلفنَ فيه جمالاً وطيبا) وقد أحسن القائل في قوله: (جاريةٌ أطيب من طيبها ... والطيبُ فيها المسك والعنبرُ) (ووجهها أحسنُ من حليها ... والحلي فيها الدُرُ والجوهرُ) ولو قيل إن هذا أحسن ما قاله محدث في ذلك لم يكن بيعداً. ومما هو غاية قول إمرئ القيس) (ألم تر أني كلما جئتُ طارقا ... وجدت بها طيباً وإنْ لم تطيب) وقد طرف القائل:

(أتاها بعطرٍ أهلها فتضاحكتْ ... وقالتْ وهل يحتاج عطرٌ إلى عطرِ) وقد أجاد البحتري: (لنا من ريقه راحٌ ... ومن رّياه ريحانُ) وأنشدنا أبو أحمد في طيب الريح إلا أنه وصف رجل: (سقياً لأيام مضتْ ... وكأنَ معهدَها حلوم) (أيام يفني لي ويفني ... رهطَه الرجلُ العريمُ) (إذ لا دليل عليّ في ... برد الضحى إلا النسيمُ) أجود ما قيل في حب الصغار من شعر المتقدمين قول نصيب: (ولولا أنْ يقالَ صبا نصيبٌ ... لقلت بنفسيَ النشئ الصغارُ) (بروحي كلُ مهضومٍ حشاها ... إذا ظلمتْ فليسَ لها انتصارُ) (إذا ما الذلُ ضاعفن الحشايا ... كفاها أن يلاثَ لها الأزارُ) ومن مليح ذلك قول عوف بن محلم: (وصغيرةٍ علقتُها ... كانتْ من الفتنِ الكبارِ) (كالبدرِ إلا أنها ... تبقى على ضوءِ النهارِ) وأنشدني أبو أحمد عن الصولي قال أنشدني عبد الله بن الحسن وقد ملح وطرف: (جاريةٌ أذهلَها اللعبُ ... عما يقاسي الهاثمُ الصبُ) (شكوتُ ما ألقاه من حبَّها ... فأقبلتْ تسألُ ما الحبُ) ومن مليح ذلك ما روي أن عبد اللمك بن مروان عرضت عليه جارية فقال لها أبكر أنت أم ثيب؟ فقالت بل ثيب فأنشد عبد الملك: (قالوا عشقتَ صغيرةً فأجبتهم ... خيرُ المطي لديَّ ما لمْ يركبْ) (كم بينَ حبةِ لؤلؤٍ مثقوبةٍ ... لبستْ وحبةِ لؤلؤٍ لم تثقب)

فقالت الجارية: (إن المطايا لا يلذُ ركوبُها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب) (والدر ليس بنافع أربابه ... مالم يؤلف في النظام ويثقب) قد أحسنا جميعا إلا أن وجو الكلام أن يقال يثقب ويؤلف في النظام. أصدق ما قيل في صفة الحب قول العباس بن الأحنف: (من كانَ يزعم أن يداري في الهوى ... حتى يشكك فيه فهو كذوبُ) (الحبُ أملك للفؤادِ بقهرهِ ... من أن يُرى للسرَ فيه نصيبُ) وقلت: (آفةُ السرِّ من جفونٍ ... دوامٍ دوامع) (كيف يخفي مع الدموع ... الهوامي الهوامعِ) (ما رأينا أخا هوى ... سرهُ غير ذائعِ) (إنَ نيرانَ حُبه ... بادياتُ الطوالعِ) من أظرف ما قيل في ذكر الشركة في الهوى ما أنشدنيه أبو أحمد: (مالي جفيتُ وكنتُ لا أجفى ... وعلامةُ الهجرانِ لا تخفى) (وأراك تمزجني وتشربني ... ولقد عهدتُك شاربي صِرفا) وقد أحسن العباس بن الأحنف في هذا المعنى وهو قوله: (يا فور لم أهجركمُ لملالةٍ ... منيّ ولا لمقالِ واشٍ حاسدٍ) (لكنني جرَّبتكُم فوجدتُكم ... لا تصبرونَ على طعامٍ واحدِ) وقد جاء أبو نواس بهذا المعنى إلا أن قول العباس أطبع، قال أبو نواس: (أتيتُ فؤادها أشكو إليه ... فلْم أخلص إليه من الزَّحامِ) (فيا مَنْ ليس يكفيها محبٌ ... ولا ألفا محبٍ كل عام) (أطنك من بقيةِ قوم موسى ... فهمْ لا يصبرون على طعامِ) ومما سبق به العباس الشعراء كلهم قوله: (أحرم منكم بما أقولُ وقد ... نال به العاشقونَ من عشقوا) (صرتُ كأني ذبالةٌ نصبت ... تضئ للناسِ وهي تحترقُ)

لومني الحسن ما تعداها

وأول من ذكر هذا المعنى صاحب كليلة ودمنة. وإلى معنى قول البيت الأول يومئ قول البحتري: (قصائد ما تنفكُ فيها غرائب ... تألق في أضعافها وبدائعُ) (مكرمةُ الأنساب فيها وسائلٌ ... إلى غير من يحبى بها وذرائعُ) ومما سبقت إليه من المعاني ما قلته: (رفعَ السترُ فانثنى غصنُ بانِ يتجلى الهلالُ في معناه) (ليسَ لي أنْ أنالَ ما أتمنى ... من جنى وصلهِ اللذيذِ جناه) (فلو أني كنت في بعضِ شعري ... فإذا ما شداه قبلت فاه) وما أبلغ ما قيل في بخل المعشوق من قديم الشعر ما أنشدناه أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن عن عمه: (وما نطفةٌ كانتْ سلالةَ بارقٍ ... يمت عن طريق الناسِ ثم استظلتْ) (بأطيبَ من أثيابِ تلتم بعدما ... حدا الليلُ أعقابُ النجومِ فولّت) (وقد بخلت حتى لو أني سألتها ... قذى العين من ضاحي الترابِ لضنّتْ) ومن أحسن ما قيل في وقوف النظر على المعشوق قول بعضهم (قيد الحسن عليه الحدقا) وهو من قول امرئ القيس (قيد الأوابد) وقد أحسن الآخر في وقوله: (ظبيٌ له من قلوبِ الناسِ نابتةُ ... من المودةَ تجني أطيبَ الثمرِ) (إذا بدا رمتِ الأبصارُ وجنتَه ... معاً فلم تختلف عينان في نظرِ) ونحوه قول المتنبي: (وخصر تثبتُ الأبصارُ فيهَ ... كأنَ عليهِ من حدقٍ نطاقا) ومن أجود ما قيل في كمال الحسن ما أنشدناه أبو أحمد: (كلُ شئ من محاسنِها ... كامنٌ في حسنه مثلا) (ليسَ فيها ما يقالُ له ... كملتْ لو أنَ ذا كملا) وقال أبو نواس (لومني الحسن ما تعداها) أخذه أبو تمام فقال:

(معتدل لم يعتدلْ عدلهُ ... في عاشقٍ طالَ به خبلهُ) (أطرقهُ أحسن أم أظرفه ... وحسنهُ أكملُ أم عقلهُ) (انظر فما عاينتَ في غيره ... من حَسَنٍ فهو له كلّهُ) (لوقيلَ للحسن تمنَ المنى ... إذاً تمنّى أنه مثلهُ) (أيُّ خصالٍ حازَها سيدي ... لو لم يكدِّر صفوَها مطلهُ) وقال أبو نواس: (تمتْ وتم الحسنُ في وجهها ... فكلَ شئ ما خلاها محالْ) (للناسِ في الشهرِ هلالٌ ولي ... من وجهها كلَ صباح هلالْ) وقال: (متتائهٌ بجمالهِ صَلِفٌ ... لا يُستطاعُ كلامهُ تِيْها) (لو كانت الأشياءُ تعرفه ... أجلَلْنَهُ إجلال باريها) (لو تستطيع الأرض لأجتمعت ... حتى يكون جميعه فيها) وقال: (ألاحظُ حسنَ وجنتهِ ... فتجرحني وأجرَحُها) وقال غيره: (شكوتُ إلى شبيهك إذ تجلى ... هواك فلم يُزل شكوى الحزينِ) (وكانَ كأنتَ إشراقاً وحسناً ... وقلةَ رحمةٍ لمستكين) أحسن ما قيل في إعراض الحبيب قول النمر بن تولب: (فصدَّتْ كأنَ الشمسَ تحت قناعها ... بدا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجبِ) وقد مر قبل. ومن ظريف ما جاء في ذلك قول ابن الرومي: (ماساءني إعراضُه ... عنِّي ولكنْ سرَّني) (سالفتاهُ عوضٌ ... عن كل شئ حسن) وقال الآخر وأحسن: (صدعني محمدٌ بنُ سعيدٍ ... أحسن العالمينَ ثاني جيدِ) (صدّ عنَّي من غير جرمٍ إليه ... ليسَ إلا لحسنهِ في الصدودِ) والفرد الذي لا شيبه له في كثرة اعتلال المعشوق على العاشق وكثرة تجنيه عليه قول بعضهم: (شكوت فقالت كلَ هذا تبرما ... بحبي أراحَ الله قلبكَ من حبي) (فلما كتمتُ الحبَ قالت لشد ما ... صبرتَ وما هذا بفعل الشجي الصبَ)

(وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها فتعتدُ التباعدَ من ذنبي) (فشكواي تؤذيها وصبري يسؤها ... وتجزع من بعدي وتنفرُ من قربي) وقريب منه قول مسلم: (ويخطئ عذْري وجه جُرميَ عندها ... فأجني إليها الذنبَ من حيثُ لا أدري) (إذا أذنبتْ أعددتُ عذراً لذنبها ... فإن سخطتْ كانَ اعتذاري من العذر) (بذكرك ماتَ ألياسُ في حضرةِ المنى ... وإن كنتُ لم أذكرك إلا على ذكرِ) قد أصاب صفة العاشق. وقلت: (صبابة نفس لا ترى الهجرَ حاليا ... وصبوة قلب ما ترى الوصل شافيا) (نزلتُ على حكم الصّبابة والهوى ... فصرتُ أرى للخلِّ ما لا يرى ليا) (ولولا الهوى ما كنتُ آملُ باخلا ... وأرحم ظلاّما وأذكرُ ناسيا) (ومن شأنه أني إذا ما ذكرتهُ ... جفاني وسماني إذا غبتُ جافيا) (على أنني أنأى فأدنو تذكراً ... ولستُ كمنْ يدنو فينأى نتاسيا) (ويعجبني حُبي له وصبابتي ... إليهِ وإمساكي عليهِ وداديا) (فلو ظني أسلوهُ لم يكُ هاجراً ... ولو خالني أسناهُ لم يكُ نائيا) (ولكنَ عشقي في ضمان جفونه ... فيأمن سلواني ويرجو غراميا) ومن أصاب وصف العاشق الصادق العشق على حقيقته الذي يقول: (إذا قربتَ دارٌ كلفتُ وإن نأتْ ... أسفتُ فلا للقربِ أسلو ولا البعدِ) (وإنَ وعدتَ زادَ الهوى لانتظارها ... وإن بخلتْ بالوعدِ متُ على الوعد) (ففي كلَ حال لا محالةَ فرحةٌ ... وحبك ما فيهِ سوى محكم الجهدِ) ومثله قول الآخر: (وما في الأرض أشقى من محبٍ ... وإن وَجَدَ الهوى حلوَ المذاقِ) (تراه باكياً في كلَ حين ... مخافةَ فرقةٍ أو لاشتياق) (فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دَنوا خوفَ الفتاة)

(فتسخنِ عينهُ عندَ التنائي ... وتبرد عينهُ عندَ التلاقي) ووصفه الهوى بالحلاوة مع هذه الصفات وصف بديع غريب. ومثله قول ابن الأحنف: (إذا رضيتْ لم يهنني ذلك الرِّضا ... لصحةِ علمي أن سيتبعه عتبُ) (وأبكي إذا ما أذنبتْ خوفَ عتبها ... فأسألها مرضاتها ولها الذَّنبُ) (وصالكمُ صرمٌ وحبكمُ قلى ... وعطفكمُ صدٌ وسلمكمُ حَرب) ومثل البيت الأول قول سعيد بن حميد ويروي لفضل الشاعرة: (ما كنتُ أيام كنت راضيةً ... عني بذاك الرِّضا بمغتبطِ) (علماً بأنَ الرِّضا سيتبعه ... منك التجنّي وكثرةُ السخطِ) (فكلُ ما ساءَني فعن خُلق ... منك وما سَرَّني فعن غلطِ) ومن البديع في طلب نيل المعشوق قول الآخر: (عِدينا مَوْعداً ثم اجحدينا ... فكم من مبطل حقاً بجحدِ) (وإلا فابذلي من غيرِ وعد ... فقد تكف السماءُ بغير رعدِ) وقلت في نحو ذلك: (تسئ على بعدِ الديارِ تنائيا ... وخلفك عند القرب من عصب البعدِ) (كثير سروري في قليل وفائه ... وعند ابتسام البرقِ قهقهة الرعدِ) ومن أبلغ ما قيل في الرضا عن المعشوق بالقليل قول جميل: (أقلبُ طَرْفي في السماءِ لعلّه ... يوافقُ طرفي طرفَها حينَ تنظرُ) ومثله قول ابن المعلوط: (أليسَ الليلُ يلبس أمَ عمروٍ ... وإيّانا فذاك لنا تدان) (بلى وأرى السماءَ كما تراها ... ويعلوها النهارُ كما علاني) وأنشدني أبو أحمد عن ابن الأنباري لجميل:

(وإني لأرضى من بثينةَ بالذي ... لو استيقنَ الواشي لقرتْ بلابله) (بلا وبالا استطيع وبالمنى ... وبالأمل المكذوب قد خاب آمله) ( ... وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخرهُ لا المتقي وأوائله) وكان جميل يصدق في حبه وكثير يكذب. ومن رديء هذا الباب قول بعضهم: (وما نلتُ منها محرماً غير أنني ... إذا هي بالتْ بلتُ حيث تبولُ) وعفة هذا كعفة المتنبي في قوله: (إني على شغفي بما في خمرها ... لأعفُ عما في سروايلاتها) سمعت بعض الشيوخ يقول من الفجور ما هو أحسن من هذه العفة إذ عبر عنها بهذا اللفظ. وأخبرنا أبو أحمد أخبرنا الجوهري عن عمر بن شبة قال حدثني أبو يحيى الزهري عن رجل ذكره قال قيل لكثير ما أنسب بيت قالته العرب؟ قال الناس يقولون: (أريدُ لأنسى ذكْرَها فكأنما ... تمثلُ لي ليلى بكلَ سبيل) وأنسب عندي منه: (وقل أمُ عمرٍ داؤه ودواؤه ... لديها ورياها الطبيب الموافقُ) وهذا البيت جيد المعنى ردئ الوصف. وأبلغ ما قيل في شدة الحب ما أنشدناه قدامة: (يَودُ بأنْ يمسي سقيماً لعلها ... إذا سمعتْ منه بشكوى تراسله) (ويهتزُ للمعروف في طلب العلى ... لتحمدَ يوماً عندَ سلمى شمائله) وقلت في معناه: (وقلتُ عساها إن مرضتُ تعودني ... فأحببتُ لو أني غدوتُ مريضا) (وزدتُ اتساعاً في المكارم والعلا ... يصبحَ جاهي عندهنَ عريضا) ومن الشعر المختار في النسيب قول أبي المطاع:

(أفدى الذي زرته والسيفُ يخفرني ... ولحظُ عينيه أمضى من مضاربهِ) (فما خلعت نجاداً في العناقِ لهُ ... حتى لبستُ نجاداً من ذوائبهِ) (فباتَ أنعمنا بالاً بصاحبهِ ... من كان في الحبَ أشقانا لصاحبهِ) وقلت في معنى البيت الآخر: (بقدرِ الصبابةِ عندَ المغيب ... تكونُ المسرةُ عندَ الحضورِ) (وأطيب ما كان بردُ الثغور ... إذا هو صادفَ حرَ الصدور) ومن المختار في صفة العذار: (وقلت الشعرُ يسليني هواهُ ... ولمْ أعلم بأنَ الشعرَ حيني) (فظلتُ لشقوتي أفدي وأمي ... سوادَ عذارهِ بسوادِ عيني) ومن أعجب ما قيل في التهالك في الحب ونهاية لاتنقرب إلى المعشوق قول ديك الجن: (بانوا فصارَ الجسمُ من بعدهم ... ما تصنعُ الشمسُ لهُ فيَّا) (بأيِّ وجهٍ أتلقاهمُ ... إذا رأوني بعدَهمْ حيّا) ومن أبدع ما قيل في عدم السلو قول ابن الرومي: (أأسماءُ أيُ الواعدينَ ترينهُ ... أشدَّكما مطلاً فإني لا أدري) (أأنتِ بنيلٍ منك يبردُ غلتي ... أم النفس بالسلوانِ عنك وبالصبرِ) لم يقل في بعد الحبيب أحسن من قول ابن الأحنف: أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن هارون بن عبد الله المهلبي قال كنا عند دعبل فذكر العباس بن الأحنف فقال جيده قليل ولا أعرف أحسن من شعره في الشمس: (هي الشمسُ مسكنها في السماء ... فعزِّ الفؤادَ عزاءً جميلا) (فلن تستطيعَ إليها الصعودَ ... ولنْ تستطيعَ إليك النزولا) ومن البديع القليل النظير قوله أيضاً يذكر كلام الناس فيه وفي معشوقه: (قد سحَب الناسُ أذيالَ الظنونِ بنا ... وفرقَ الناسُ فينا قولهم فرقا)

(فكاذبٌ قد رمى بالظنَ غيركُم ... وصادقٌ ليس يدري أنهُ صدقا) وهذا معنى غريب بديع ما أظنه سبق إليه. (ومما هو في معنى قوله: (هي الشمس مسكنُها في السماء) الخ قول الآخر: (شكوتُ إلى بدرٍ هوايَ فقال لي ... ألستَ ترى بدْرَ السماءِ الذي يسري) (فقلتُ بلى قالَ التمسهُ فإنهُ ... نظيري ومثلي في علوٍ وفي قدر) (فإنْ نلتهُ فاعلمْ بأنك نائلي ... وإن لم تنلهُ فابغ أمراً سوى أمري) (فكانَ كلا البدرين صعباً مرامه ... فويليَ من بدرِ السماء ومن بدري) ومن الغريب البديع في مدح الفراق لمكان القبلة والاعتناق قول محمد بن عبد الله بن طاهر: (ليسَ عندي شحطُ النوى بعطيم ... فيه غمٌ وفيه كشفُ غمومِ) (من يكنْ يكرهُ الفراقَ فإني ... أشتهيهِ لموضع التسليم) (إنَ فيه اعتناقه لوداع ... وانتظار اعتناقه لقدوم) (فلكم قبلةٍ وغيبةِ شهرٍ (هي) خيرٌ من امتناع مقيمِ) وأخبرنا أبو أحمد عن ابن المسيب لابن الرومي: (فإذا كانَ في الفراق عناقٌ ... جعل اللهُ كلَّ يوم فراقا) أجود ما قيل في خفقان القلب وقول قيس بن ذريح: (كأنَ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدى ... بليلى العامريةِ أو يراحُ) (قطاةٌ عزّها شركٌ فباتت ... تجاذبهُ وقد عَلقَ الجناحُ) فلولا التضمين الذي فيه لكان غاية. ومن الغريب في ذلك قول ديك الجن: (ومملوء من الحزن ... يعالج سورةَ الأرقِ)

(تكادُ غروبُ مقلتهِ ... تعمُ الأرضَ بالغرقِ) (كأنّ فؤاده قلقا ... لسانُ الحيةِ الفرق) وقد أحسن في قوله أيضاً: (علمت قلبي وجيباً لست أعرفه ... ما أنكر القلب إلا كلما خفقا) (يا شوق إلفين حال البينُ بينهما ... فغافصاه على التوديع فاعتنقا) (لو كنت أملك عيني ما بكيت بها ... تطيراً من بكائي بعدهم شفقا) وقد أحسن القائل وجاء بما في نفس العاشق: (ولو داواكَ كلُ طبيب (ركب) بغير كلام ليلى ما شفاكا) (ولو أصبحتَ تملك كلَ شئ ... سوى ليلى عتبت على غناكا) ومن أعجب ما قيل في الشفقة على المعشوق قول أبي دلف العجلي: (أحبك يا جنانُ وأنتَ مني ... مكان الرُّوح من جسد الجبانِ) (ولو أني أحبك حُبَ نفسي ... لخفتُ عليك بادرةَ الطعانِ) (لإقدامي إذا ما الخيلُ جالتْ ... وهابَ شجاعها وقعَ الطعانِ) خص الجبان لأنه أشد شفقة على نفسه من الشجاع وهذا من جيد الاستطراد. ومن بليغ ما قيل في الحب مع الشجاعة ومن أجود ما قيل في اليأس عن الوصل قول مجنون ليلى أو غيره: (خرجتُ فلم أظفرْ وعدتُ فلم أفزْ ... بنيلٍ كلا اليومين يومُ بلاء) (فيا حسرتي ما أشبهَ اليأس بالغتي ... وإن لم يكونا عندنا بسواء) وقال: (قد أيقنتْ نفسي بأنْ حيلَ بينها ... وبينَك لو يأتي بيأس يقينها) (أرى النفسَ عن ليلى تعاني بلا عنا ... وقد جُن من وجدي بليلى جنونها) ومثل ذلك: (فإن يك عن ليلى غنى وتجلدُ ... فربَ غنى نفسٍ قريبٌ من الفقرِ) ومن أطرف ما قيل في النحول ما أنشدنيه أبو أحمد: (سر إذا بليتُ وُذاب جسمي ... لعلَ الريحَ تحملني إليهِ)

وقال ابن المعتز: (ماذا ترى في مدنَفٍ ... يشكوك طولَ سقمه) (أضنيتهُ فما يطيق ... ضعفه حمل اسمهِ) (فلا يراك عائداً ... إلا بعينِ وهمِه) وقال كشاجم: (وما زال يبري أعظمَ الجسمِ حبُّها ... وينقصُها حتى لطفنَ عن النقصِ) (وقد ذُبتُ حتى صرتُ إن أنا زرتها ... أمنتُ عليها أن يرا أهلُها شخصي) وقال ديك الجن وبالغ: (أنحلَ الوجدُ جسمهُ والحنين ... وبَرَاهُ الهوى فما يستبين) (لم يعش أنه جليدٌ ولكنْ ... دَقَّ جداً فما تراهُ المنون) وقال نصر بن أحمد: (قد كانَ لي فيما مضى خاتمٌ ... فاليوم لو شئتُ تمنطقتُ به) (وذُبتُ حتى صرتُ لو زجَ بي ... في مقلةِ النائم لم ينتبه) الحسن بن وهب: (أبليتُ جسمي من بعد جدَّته ... فما تكادُ العيونُ تبصرهُ) (كأنه رسمُ منزلٍ خلقٍ ... تعرفهُ العينُ ثمَّ تنكرهُ) ومما لا أظن أن له شبيهاً قول بعض الحول وليس في هذا المعنى: (حمدت إلهي إذ بُليت بحبها ... على حَولَ يغني عنِ النظرِ الشزر) (نظرتُ إليها والرقيبُ يظني ... نظرتُ إليهِ فاسترحتُ من العذر) ومن فصيح ما قيل اقتياد الهوى صاحبه قول بعض نساء الأعراب: (ألا قاتلَ اللهُ الهوى ما أشدهُ ... وأصرعهُ للمرءِ وهو جليدُ)

(دعاني الهوى من نحوها فأجبتهُ ... فأصبح بي بيتي حيثُ يريدُ) وقال كشاجم وأحسن في وقوله وليس من هذا المعنى: (أقبلتْ ثمَّ عَرجتْ ... ليتها لم تُعرِّج) (في حدادٍ كأنها ... وردةٌ في بنفسج) ومن أحسن ما قيل في مجئ الفراق بعد التلاق قوله أيضاً: (لم أستتمَ عناقهُ لقدومهِ ... حتى بدأتُ عناقَه لوداعِه) (فمضى وأبقى في فؤادي حسرةً ... تركته موقوفاً على أوجاعه) وأنشدني أبو أحمد قال أنشدني الصولي أنشدني الحسين بن يحيى أنشدني الحسين بن الضحاك لنفسه: (بأبي زورٌ تلفت له ... فتنفستُ عليهِ الصعدا) (بينما أضحك مسروراً به ... إذ تقطعتُ عليه كمدا) وأنشدنا عنه لأبي العميثل: (لقيتُ ابنةَ السهمي زينبَ عن عُقرِ ونحن حرامٌ مُسى عَاشرة العشرِ) (فكلمتُها ثنتينِ كالثلج منهما ... وأخرى على لوح أحر من الجمر) الأولى تسليم اللقاء فهي باردة طيبة والأخرى تسليم الوداع. ومن جيد ما قيل في تجدد الشوق على قرب الديار قول بعض العرب: (ويزدادُ في قربِ الديارِ صبابةً ... ويبعدُ من فرطِ اشتياق طريقها) (وما ينفع الحرَ إن ذا اللوعِ أن يرى ... حياضَ القرَى مملوءةً لا يذوقها) ومن جيد ما قيل في رد العذول:

(إذا أمرتني العاذلاتُ بهجرِها ... هفتْ كبدٌ مما يقلنَ صديعُ) (وكيفَ أطيعُ العاذلاتِ ووجهُها ... يؤرِّقني والعاذلاتُ هجوعُ) ومن جيد ما قيل في رياضة النفس على الهجر ما أنشده أبو إسحاق الموصلي: (وإني لأستحيي كثيراً وأتقي ... عيوباً وأستبقي المودةَ بالهجرِ) (وأنذرُ بالهجرانِ نفسي أروضُها ... لأعلمَ عندَ الهجرِ هل لي من صبرِ) وقال غلام من فزارة: (وأعرض حتى يحسب الناسُ أنما ... هي الهجرُ لا والله ما بي لك الهجرُ) (ولكن أروضُ النفسَ أنظر هل لها ... إذا فارقتْ يوماً أحبتها صبرُ) وزاد العباس بن الأحنف فقال: (أروضُ على الهجرانِ نفسي لعلها ... تمسك لي أسبابها حينَ تهجرُ) والزيادة في قوله: (وأعلمُ أنَ النفسَ تكذبُ وعدَها ... إذا صدقَ الهجران يوماً وتغذر) (وما عَرَضَتْ لي نظرةٌ مذ عرفتُها ... فأنظر إلا مثلتْ حين أنظر) وهذا من قول جميل: (أريدُ لأنسى ذكرَها فكأنها ... تمثلُ لي ليلى بكلَ سبيلِ) وذكر بعضهم أنه يهجرها مخافة العين تصيب وصلها: أنشدناه أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن يحيى، وأحمد بن سعيد الدمشقي عن الزبير: (خشيتُ عليها العينَ من طولِ وصلِها ... فهاجرتُها يومين خوفاً من الهجرِ) (وما كانَ هجراني لها من ملالةٍ ... ولكنني جرَّبتُ نفسي على الصبرِ) ومن فصيح الشعر الداخل في هذا الباب قول إبراهيم بن العباس أنشدناه أبو أحمد عن الصولي عن ثعلب وأبي ذكوان قالا أنشدنا إبراهيم بن العباس لنفسه: (يمرُ الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا ... فيصدعُ قلبي أن يهبَ هبوبُها) (قريبةُ عهدِ بالحبيب وإنما ... هوى كلَ نفس أين حلَ حبيبها)

(تطلعُ من نفسي إليكَ طوالعٌ ... عوارفُ أن اليأسَ منك نصيبها) وإنما أغار إبراهيم بن العباس على ذي الرمة حيث يقول: (إذا هبت الأرواحُ من نحو جانب ... به أهل ميٍّ زاد شوقي هبوبها) (هوى تذرفُ العينان منه وإنما ... هوى كلَ نفس أينَ حلَ حبيبها) وقال العباس بن الأحنف في غير هذا المعنى: (متى تبصريني يا ظلوم تبيني ... شمائلَ بادي البثَ منصدع القلب) (بريئاً تمنى الذنبَ لما هجرته ... لكيما يقال الهجرُ من سبب الذَّنب) (وقد كنتُ أشكو عتبها وعتابها ... فقد فجعتني بالعتابِ وبالعتبِ) أشفق عليها من أن تهجره بغير ذنب فيقال إنها ملول فيلحقها هجنة. ومن أجود ما قيل في الوقوف على الديار قول امرئ القيس (قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل) وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع فليس له شبيه في جميع أشعارهم. وأحسن ما قيل في وصف الديار وبلاها ما أنشدناه أبو أحمد عن المبرمان عن أبي جعفر عن أبيه: (ولم يترك الأرواح والقطرُ والندى ... من الدارِ إلا ما يشفُ ويشفقُ) وقلت: (قد عريت أبلها حين اكتستْ ... أرديةَ الرَّيح عشياً وضحى) (لم يبقَ فيها غيرُ ما يذكي الجوى ... ويصرفُ النومَ ويبعثُ البكى) وأنشدنا أبو القاسم: (ألا حيِّ من أجل الحبيبِ المغانيا ... لبسنَ البلى مما لبسنَ اللياليا) ولأعرابي: (طللان طالَ عليهما الأبدُ ... دائرا فلا علمٌ ولا نضدُ) (لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعدَ الأحبةِ مثلَ ما أجدُ)

وهذا مثل قول جرير (أحب لحب فاطمة الديارا) والذي أورد من أنواع هذه المعاني إنما هو إشارة إلى جمهورها وتنبيه على معظمها ولو اتبعت كل ما فيه أمثاله وعلقت عليه أشكاله لكثرت واتصلت وتوفرت حتى أملت وأضجرت وتجاوز الحد في القول من هذه فيه وهجنة على قائلة؟ ومن أجود ما قيل في حب السودان: (أحبُ النساء السودَ من حبَ تكتم ... ومن أجلها أحبتتُ من كانِ أسودا) (فجئني بمثلِ المسكِ أطيب نفحة ... وجئني بمثل الليل أطيب مرقدا) البيت الثاني على غاية الجودة وحسن التمثيل. وقلت: (صرفتُ ودَّي إلى السودان من هجر ... وما (أميل) إلى رومٍ ولا خزرِ) (أصبحتُ أعشقُ من وجهِ ومن بدن ... ما يعشقُ الناسُ من عينٍ ومن شعرِ) (فإنْ حسبت سوادَ الجلدِ منقصةً ... فانظر إلى سعفةٍ في وجنة القمر) وروي للجاحظ: (يكونُ الخالُ في وجهٍ مليح ... فيكسوهُ الملاحةَ والجمالا) (ولستَ تملُ من نظرٍ إليهِ ... فكيفَ إذا رأيتَ الوجهَ خالا) وقد ملح بعضهم في خلاف ذلك: (إنّ الذي يعشق من لا يرى ... كميتٍ من شدة الغلمة) (وإنَّ من يعشقُ زنجيةً ... لكالذي دلك في الظلمة) أجود ما قيل في الخيال من قديم الشعر قول قيس بن الخطيم: (أنى سريتِ وكنتِ غير سروبِ ... وتقربُ الأحلامُ غيرَ قريبِ) (ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه ... في النوم غير مكدَّرٍ محسوبِ) (كان المنى بلقائها فلقيتها ... ولهوتُ من لهو امرئ مكذوبِ) وقول عمرو بن قميئة:

(نأتكَ أمامة إلا سؤالا ... وإلا خيالاً يوافي خيالا) (خيالي يخيل لي نيلها ... ولو قدرتْ لم تخيل نوالا) وهذا من معاني القدماء غريب وهو أبلغ ما قيل في بجل المعشوق، ومن هاتين القطعتين أخذ المحدثون أكثر معانيهم في الخيال، ومن البارع الفصيح في هذا المعنى قول البعيث: (أزارتك ليلى والركابُ خواضع ... وقد بهر الليل النجومُ الطوالعُ) (فأعطتك آيات المنى غير أنها ... كواذب إن حصلتها وخوادع) (على حين ضمَ الليلُ من كلَ جانب ... جناحيهِ وانقضت نجومٌ ضواجع) (وأعجلها عن زورةٍ لم أفز بها ... من الصبح حادٍ يزعج الليل ساطع) وأحسن النميري حيث يقول: (عجباً لطيفك أنه ... يشكو الجوى وهو الجوى) أخذه مسلم فقال: (طيف الخيال عهدنا منك إلمامً ... داويتَ سُقماً وقد هيّجتَ أسقاما) ومن اللفظ الغريب قوله: (زف الكرى طيفها فحيانى) لا أعرف أنه سبق إلى هذا اللفظ. وقال أبو تمام: (استزارتهُ فكرتي في المنام ... فأتاها في خفية واكتتامِ) ( ... يا لها ليلةً تزاورت الأرواحُ ... فيها سراً من الأجسامِ) (مجلسٌ لم يكنْ لنا فيه عيبٌ ... غير أنا في دعوةِ الأحلامِ) وهذه معان جياد إلا أنه ليس لألفاظها طلاوة. ومن غريب المعاني في هذا قول دعبل: (سرى طيفُ ليلى حين حان هُبوبُ ... وقضيتُ شوقي حينَ كاد يؤوبُ) (ولم أر مطروقاً يحلُ بطارقٍ ... ولا طارقاً يَقري المنى ويثيب)

يقول إن العادة إن يقري الطارق المطروق والخيال طارق يقري المطروق. ومن الغريب الدقيق قول ابن الرومي: (طرقَتْنا فأنالتْ نائلا ... شكره لو كان في النبة الجحودُ) (ثم قالتْ وأحستْ عَجَبي ... من سراها حيث لا تسري الأسود) (لا تعجبْ من سُرانا فالسُّرى ... عادةُ الأقمارِ والناسُ هجودُ) فرأيت في هذه الأبيات زيادة وتضميناً فقلت: (رقبتْ عفلة الرقيب فزارتْ ... تحت ليل مطرزٍ بنهار) (فتعجبُ من سُراها فقالتْ ... غير مستطرفُ سرى الأقمارِ) (ثم مالتْ بكأسها فسقتني ... جلناريةً على جلّنارِ) آخر: (فيا ليت طيفاً خيلتهُ لي المنى ... وإنْ زادني شوقاً إليك يعودُ) (أكلفُ نفسي عنك صبراً وسلوة ... وتكليف مالا يستطاع شديد) الجيد أن يقول (تكلف مالا يستطاع) وأما تكليفه في الحقيقة فغير شديد على المكلف وإنما جعل هذا التكليف مكان التكلف وهو ردئ. وقال الحمدوني: (لم أنلهُ فنلتهُ بالأماني ... في منامي سراً من الهجرانِ) (واصل الحلمُ بيننا بعد هجر ... فاجتمعنا ونحنُ مفترقان) ِ ... (وكأنَ الأرواحَ خافتْ رقيباً ... فطوتْ سرًّها عن الأبدانِ) (منظرٌ كانَ نزهةَ العين إلا ... أنَّه ناظر بغير عِيان) وقال ابن المعتز: (لافَرجَ اللهُ عن عيني برؤيته ... إن كنتُ أبصرتُ شيئاً بعدَهُ حسنا) (إلا خيالاً عسى إن نمتُ يطرقني ... وكيفَ يحلمُ من لا يعرفُ الوسنا) وقال: (كلامهُ أخدعُ من لحظهِ ... ووعدهُ أكذبُ من طيفهِ) وليس لأحد في الخيال ما للبحتري كثرة فمنه قوله: (بعينيك إعوالي وطُولُ شهيقي ... وإخفاقُ عيني من كرىً وخُفُوقِ)

(على أنَ تهويماً إذا عارض اطّبى ... سُرى طارقاً في غيرِ وقتِ طَرُوقِ) (فباتَ يعاطيني على رِقبة العِدى ... ويمزجُ ريقاً من جَناه بريقي) (وبتُ أهابُ المِسكَ منه وأتّقي ... رُداع عبير صائكٍ وخُلوق) (أرى كذب الأحلام صدقاً وكم صَغَتْ ... إلى خبرٍ أذْناي غيرِ صَدُوقِ) (وما كانَ من حقٍ وبُطلٍ فقد شفى ... حرَارَةَ متبولٍ وخبلَ مشُوقِ) وقلت في خلاف ذلك: (طرقَ الخيال فزار منه خيالا ... فسرى يغازل في الرّقاد غزالا) (يا كشفهَ للكربِ إلا أنهُ ... ولى على دبرِ الظلامِ فزالا) (فغدا المتيمُ وهو أكبرُ صبوةً ... وأشدُّ بلبالاً وأكسفُ بالا) وما قيل في الامتزاج والاختلاط مثل الخريمي: (ليالي أرعى في جنابك روضةً ... وآوي إلى حصن منيع مراتبه) (وإذْ أنتَ لي كالخمر والشهدِ ضعفا ... بماءٍ لصاف ضعفته جنائبه) وقال بشار: (لقد كانَ ما بيني زماناً وبينها ... كما بينَ ريح المِسكِ والعنبر الوردِ) أجود ما قيل في صفة الركب: أخبرنا أبو أحمد أخبرنا الصولي حدثنا محمد بن سعيد عن عمر بن شبة قال كان الناس يقدمون قول أبي النجم ويتعجبون من حسنه: (كأنَ تحتَ درِعها المنعطَ ... ضخمِ القَذَال حسنِ المخطَ) (وقد بدا منها الذي تغطي ... كأنما قطَ على مِقطِّ) (شطاً رميتُ فوقَه بشطَ ... كهامةِ الشيخِ اليماني الشمط) (لم يعلُ في البطنِ ولم ينحط ... ) حتى قال بشار:

(عجزاء من سِرب بني مالك ... لها حرٌ من بطنها أرفعُ) (زينَ أعلاهُ بإشرافه ... وانضمَّ من أسفله المشرع) قال أبو هلال رحمه الله تعالى أول من أتى بهذا المعنى النابغة حيث يقول: (وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدفٍ ... رابي المجسَّةِ بالعبيرِ مقرمدِ) (وإذا نَزعتَ نزعت عن مستحصفٍ ... نَزْعَ الحزَوَّر بالرشاء المحصد) يصف ضيقه ويقول إن النازع منه يتعب من نزعه كما يتعب الحزور وهو الغلام إذا استقى من البئر. وأحسن ابن الرومي في وصف الضيق والحرارة حيث يقول: (لها هنٌ تستعيرُ وقدته ... من قلب صبٍ وصدر ذي حنقْ) (كأنما حرُّه لخابره ... ما أوقدتْ في حشاه من حُرق) (يزداد ضيقاً على المراسِ كما ... تزداد ضيقاً أنشوطة الوهَق) وقال في سعته: (يسعُ السبعةَ الأقاليمَ طرّاً ... وهو في أصبعينِ من إقليم) (كضمير الفؤاد يلتهمُ الدنيا ... وتحويه دفتا حيزوم) ومن النادر قول الناجم: (إن ردفَ الفتاةِ عجنةُ خباز ... وقدَّامها من الأدم جبنه) وقال المعذل بن غيلان: (ومركب كبيضة الأدجى ... كأن نبتَ الشعرِ المطليّ) (عليه شونيزٌ على فرنيّ ... ) ومما يجري مع ذلك قول بعضهم: (أقولُ والقومُ تعادى بهم ... إلى الوغى مضمرةٌ قرح) (استحمل الله على مركبٍ ... يحثُ بالسيرِ ولا يبرح)

وهو مثل قول مسلم: (ما مركب من ركوبِ الخيلِ يعجبني ... كمركبٍ بينَ دملوج وخلخالِ) ومثل الأول: (فباتَ يسري ليلهُ ولم ينم ... ولم يجاوز سيرَه قيسُ قدم) وقال الفرزدق: (ثم اتقتني بجهم لا سلاحَ له ... كمنخرِ الثورِ محبوساً على البقر) (كأنَ رمانة في جوفه انفجرت ... تكادُ توقدُ ناراً ليلةَ القدرِ) وأبلغ ما قيل في كبره قول الفرزدق: (إذا بطحتْ فوقَ الأثافي رفعتها ... بثديينِ في نحرٍ عريضٍ وكعثبِ) يقول إنها إذا بطحت على وجهها لم يمس الأرض منها شئ لأن نهود ثدييها وكبر ركبها مثل أثافي القدر لبدنها، وهذا أبلغ من قول بشار الذي اختاره الأصمعي. وقال الراجز في وصف الضيق: (كأنّ حجاماً شديداً أبهره ... يدارك المصّ ولا يفتره) ومما قيل في حب الكبار قول المجنون: (وعهدي بليلى وهي ذاتُ موصد ... ترد علينا بالعشي المراميا) (فشبَ بنو ليلى وشبَ بنوابنها ... وأعلاقُ ليلى في الفؤادِ كما هيا) ابن المعتز: (من معيني على السهر ... وعلى الهمَ والفكر) (وابلائي من شادنٍ ... كبر الحبّ إذ كبر) ومن البديع قول ابن الأحنف: (لعمري لقد كذبَ الزاعمونَ ... بأنَ القلوبَ تحاذي القلوبا) (ولو كان حقاً كما يزعمونَ ... لما كانَ يشكو محبٌ حبيبا) ومما يلحق بالفصل الأول ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن البلعي عن أبي حاتم قال سمعت الأصمعي يقول سمعت الرشيد يقول قلب العاشق عليه مع معشوقه نلت له هذا يا أمير المؤمنين أحسن من قول عروة بن حزام العذري في آخر

أبياته التي أنشدها: (أراني تعروني لذكراك رعدةٌ ... لها بينَ جلدي والعظام دبيبُ) (وما هو إلا أنْ أراها فجاءةً ... فأبهت حتى ما أكاد أجيبُ) (وأصرف عن رأيي الذي كنتُ أرتئي ... ويعزب عني ذكرهُ ويغيبُ) (ويضمرُ قلبي عذرها ويعينها ... على فمالي في الفؤادِ نصيب) فقال الرشيد من قال هذا وهماً فإني أقوله علماً ولله درك يا أصمعي فإني أجد عندك ما يضل عنه العلماء، فأخذه محدث فقال: (يؤازرهُ قلبي عليّ وليس لي ... يدانِ بمنْ قلبي على يؤازرُه) وأخذه سهل بن هارون فقال: (أعان طرفي على جسمي وأعضائي ... بنظرةٍ وقفتْ جسمي على دائي) (وكنتُ غراً بما تجني علي يدي ... لا علم لي أنَ بعضي بعضُ أعدائي) وهذا شعر فيه تكلف، وأخذه البحتري: (ولستُ أعجبُ من عصيان قلبك لي ... عمداً إذا كانَ قلبي فيك يعصيني) وقال ابن الأحنف: (قلبي إلى ما ضَرَّني داعي ... يكثرُ أسقامي وأوجاعي) (كيف احترازي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي) ومن جيد ما قيل في قرب الدار مع تباعد القلوب قول النظار الفقعسي: (يقولونَ هذي أمُ عمرو قريبة ... دَنَتْ بك أرضٌ نحوها وسماءُ) (ألا إنما بُعدُ الحبيبِ وقربهُ ... إذا هوَ لم يوصلْ إليه سواء) وفي خلافه: (وإني زوارٌ لمنْ لا يزورني ... إذا لم يكنْ في ودهِ بمريبِ) (يقربُ لي دار الحبيب وإن نأتْ ... وما دارُ من أبغضتهُ بقريبِ)

ومن ظريف الشكاية قول إبراهيم بن العباس: (فدعني راغماً أشقى بوجدي ... وخذ قلبي إليكَ بغيرِ حمدِ) (سقام لا يرقُ عليَ منه ... ووجد لا يكافئهُ بودّ) (وقد أصفيتهُ ودّي بجهدي ... فعارضَ في الجفاءِ بمثل جهدي) ومن جيد ما مدح به الفراق قول بعض الكتاب: في الفراق مصافحة التسليم ورجاء الأوبة والسلامة من الملال وعمارة القلب بالشوق والدلالة على فضل المواصلة واللقاء. وقال الشاعر: (جزى اللهُ يومَ البينِ خيراً فإنه ... أرانا على علاتهِ أمَ ثابتِ) وكتب بعضهم في معنى قول الشاعر (وما في الأرض أشقى من محب ... ) وقد تقدم: تفكري في مرارة البين يمنعني من التمتع بحلاوة الصبر وتكره عيني أن تقربك مخافة أن تسخن ببعدك فلي عند الاجتماع كبد ترجف وعند التنائي مقلة تكف. ومثله: لا والذي بيده السلامة من نزوح دارك وبعد مزارك ما زادني اللقاء إلا صبابة وأسفاً والاجتماع إلا نزاحا وكلفا لأني منقسم القلب بين رجاء يعدني بقربك وحذر يوعدني ببعدك وإذا قربت دارك كلفت وإن نأت أسفت فلا في القرب أسلو ولا البعد. وسمعت لماني الموسوس معنى أظنه ابتكره وهو: (بكتْ عيني غداةَ البينِ دمعاً ... وأخرى بالبكى بخلتْ علينا) (فعاقبتُ التي بخلتْ علينا ... بأن غمضتها يومَ التقينا) وسبكه البيت الأول ورصفه ردئ جداً لا خير فيه وإنما استغربت المعنى فأوردته. وقد أخذه ابن الرومي فشرحه وزاد فيه وهو من قوله: (ولقد يؤلفنا اللقاءُ بليلةٍ ... جعلتْ لنا حتى الصباح نظاما) (تجزي العيون جزاءهنَ عن البكى ... وعن السهادِ فلا نصيبُ اثاما) (فنبيحهنَ مرادهنَ يردنه ... فيما ادعينَ ملاحةً ووساما)

(ونكافئ الأذانَ وهي حقيقةٌ ... إذ لا تزال تكابدُ اللواما) (فتيثهن من الحديث مثوبةً ... تشفي الغليل وتكشفُ الأسقاما) ( ... ونكافئ الأفواهَ عن كتمانها ... إذ لا يزالُ لها الصماتُ لجاما) (فنبيحهنَّ ملاثماً ومراشفاً ... ما ضرَّها أن لا تكونَ مداما) (نجزي الثلاثة أنصباء ثلاثة ... مقسومة آناؤها أقساما) ولخالد الكاتب معنى يلحق بما تقدم وهوقوله: (بكيتُ دماً حتى بكيتُ بلا دم ... بكاءَ فتى فرد على شجن فردِ) (أأبكي الذي فارقتُ بالدَّمعِ وحدَهُ ... لقد جلَ قدرُ الدَّمع فيه إذاً عندي) وكتبت في فصل لي: قد جل شوقي إليك ووجدي بك عن أن يبرد نارهما ويسكن أوارهما دمع ينصب على مثله فتحسبه دراً يتكسر على در ويمتزج بالدم فتخاله شذور عقيق في نظام فريد. ومما يلحق بما تقدم أيضاً قول سعيد بن حميد: (وما كانَ حُبيها لأوَّلِ نظرةٍ ... ولا غمرة من بعدها فتجلتِ) (ولكنها الدُّنيا تولتْ فما الذي ... يسلي عن الدنيا إذا ما تولتِ) وقال الأعرابي: (أعللُ أصحابي بجدِّي وباطلي ... وأسماء جدّ القلب مني وباطله) ومن بديع المعاني قول ابن أبي فنن: (أدميتُ بالألحاظِ وجنتهُ ... فاقتص ناظرهُ من القلبِ) أخذه علي بن عاصم فقال: (ضربتْ إلفي بيدي ... خانَ يميني جلدي) (فاقتصَ لما اغرَوْرَقَتْ ... مقلتهُ من كبدي) (فلا أقلتْ بعدها ... سوطي من الأرضِ يدي)

ومن أجود ما قيل في تكافئ الحسن قول الراجز وكان ينبغي أن يقدم: (جاءتْ تهضُ الأرضُ أي هضَ ... يدفعُ منها بعضها من بعضٍ) يقول يتحير الناظر فيها ولا تقف عينه على واحدة فيصيبها بعين لأن بعضها يشغل عن بعض. ومن بديع المعاني قول بعض الشعراء: (قصاراك مني الودّ ما دمت حيةً ... وودّك ماء المزن غير مشوب) (وآخر شئ أنت في كل مضجع ... وأول شئ أنتِ عندَ هبوبِ) ومن جيد القول في الفراق قول أبي محلم: (وما خفتُ وشك البينِ حتى رأيتهم ... تنفض أنماط لهم وقطوع) (لعمرك ماشبى مريتُ بذكرهِ ... كآخر يأتي بغتةً فيروع) ومما لا أعرف في معناه أجود منه قول بعضهم: (ما بينَ بابِ الوزير والمسجد الجامع ... ظبيٌ كالظباء في جيدهِ) (أطمارهُ رثةٌ فقد ضاعَ لا ... ضاعَ وضاعَ التمييزُ في بلده) (ليسَ لهُ ناقدٌ فيعرفهُ ... وآفةُ التبرِ ضعفُ منتقده) وفي خلاف ذلك قول صاحب البصرة: ( ... ولستُ بواصفٍ أبداً حبيباً ... أعرضهُ لأهواءِ الرِّجالِ) (تراني آمن الشركاء فيهِ ... وآمن فيهِ أحداث الليالي) معنى آخر: (وقائلة متى يفنى هواهُ ... فقلتُ لها إذا فنيَ الملاح) معنى آخر: (وإذا أتيتك زائراً متشوقاً ... قصرَ الطريقُ وطالَ عند رجوعي) معنى آخر: (إذا طلعتْ شمسُ النهار فإنها ... أمارةُ تسليمي عليك فسلمي) آخر التشبب والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده.

هذا كتاب المبالغة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي قال فأبلغ وأنعم فأسبغ، أحل الملاذ ومنح لينعم عباده في العاجل ويدل على ما أعد لمحسنهم في الآجل فقال {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} وقال {يا أيها الرسلُ كلوا من الطيباتِ واعملوا صالحاً) وقال تعالى: {قُلْ منْ حَرَمَ زِينةَ اللهِ التي أخْرَجَ لعبادهِ والطيباتِ مِنَ الرزقِ} وله الحمد على كمال بره وتمام لطفه والصلاة على خير خلقه محمد النبي وآله. (هذا كتاب المبالغة) (في صفات النار والطبخ وألوان الطعام، وفي ذكر الشراب وما يجري مع ذلك ثلاثة فصول وهو:) (الباب الخامس من كتاب ديوان المعاني) (الفصل الأول في ذكر النار) فأول ما نذكر فيها قول الله تعالى {أفرأيتمُ النار التي تُورُون} إلى قوله {نحنُ جَعَلْناها تذكرة ومتاعاً للمقوينَ} فذكر منفعتها وحسن عائدتها في الدنيا والدين فأما منفعتها في الدين فإنها تذكر ما أعد الله تعالى لعصاته منها في دار العذاب فيكون ذلك مزجرة لمن تذكر ومنهاة لمن تبصر وأما منافعها في الدنيا وكثرة مرافقها فغير مجهولة وقد خص الإنسان بخيرها دون سائر الحيوان

فليس يحتاج إليها شئ سواه وليس به عنها غنى في حال من الأحوال ولهذا عظمها المجوس وقالوا إنها قد أفردتنا بنفعها فينبغي أن نفردها بتعظيمنا على أنهم يعظمون جميع ما فيه نعمة على العباد فلا يدفنون موتاهم في الأرض ولا يستنجون في الأنهار، رؤي على عهد كسرى رجل يغتسل في دجلة فضربت رقبته، وكانت العرب إذا تحالفت تحالفت على النار ويدعون على من يغدر وينقض العهد بحرمان منافعها. وقد أحكمنا ذلك في كتاب الأوائل. ومن عجيب التشبيه في النار قول الأول: (كأنَ الريحَ تقطع من سناها ... بنايق حبةِ من أرجوانِ) وقول ابن المعتز: (وموقدات بتن يضرمنَ اللهبْ ... يشبعنهُ منْ فحمٍ ومن حطبْ) (يرفعنَ نيراناً كأشجارِ الذَّهبْ ... ) وقال آخر: كأنّ نيراننا في جنبِ قلعتهم ... مصبغاتٌ على ارسانِ قصارِ) وقول أبي تمام في إحراق الأفشين: (نارٌ يساورُ جسمهُ من حرَّها ... لهبٌ كما عصفرتَ شقَ إزارِ) (صلّى لها حياً وكان وقودها ... ميتاً ويدخلُها مع الفجارِ) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي حدثنا أحمد بن اسماعيل حدثني جعفر بن علي بن الرشيد فقال أنشدنا المعتصم قول بعض الهاشميين في فتحه هرقله: (ريعتْ هرقلة لما أن رأتْ عجبا ... جو السما ترتمي بالنفطِ والقارِ) (كأنَ نيراننا في جنبِ قلعتهم ... مصبغاتُ على أرسان قصارِ) فقال لابن داود وقد أنشدنا شاعر طائي أوصلته إلى في حرق القادر أفشين شيئاً من هذا الجنس استحسنته فقال أحمد ما أحفظه وإنما أحضر الشاعر فقال بعض أولاد الحجاب أنا أحفظ القصيدة والموضع فقال هات فأنشد: (ما زال سرُّ الكفرِ بينَ ضلوعهِ ... حتى اصطلى سرَ الزناد الوارى)

(ناراً يساورُ جسمهُ من حرِّها ... لهبٌ كما عصفرتَ شقِّ إزارِ) (طارتْ لها شرر يهدمُ لفحها ... أركانهُ هدماً بغير منارِ) ( ... ففصلنَ منه كلَ مجمع مفصل ... وفعلنَ فاقرةً بكلَ فقار) (رمقوه أعالي جذعهِ فكأنما ... رمقوا هلالَ عشيَّةِ الإفطارِ) (كرّوا وراحوا في مُتونِ ضوامرٍ ... قيدتْ لهمْ من مربطِ النجار) (لا ينزلون ومنْ رآهمْ خالهم ... أبداً على سفرٍ من الأسفارِ) فقال المعتصم أحسن ما شاء قد أمرت له بعشرة آلاف درهم ولهذا الذي حفظها بنصفها، قال فتعجبنا من فطنة المعتصم ومن رزق هؤلاء على غير طلب ولا أمل قال فلم يبق في العسكر أحد إلا حفظ قصيدة أبي تمام. وقلت: (أوقدتُ بعدَ الهدوِّ نارا ... لها على الطارقينَ عينُ) (شرارها إنْ علا نضارٌ ... لكنهُ إن هوى لجين) (دعتهمُ فانثنى إليها ... محبهم قرة رأين؟) (إلى كريم الفعالِ سمح ... عطاؤه للكريم زين) (بقضي ديونَ العلا ببذلٍ إذ ليسَ يقضى لهنَ دينُ) وقال ابن المعتز: (وقد تعلى شررُ الكانون ... كأنه نثارُ ياسمين) وقلت: (نار تلعب بالشقوقِ كأنها ... حُللٌ مشققةٌ على حبسانِ) (ردتَ عليها الريحُ فضلَ دخانها ... فأتَتْ بهِ سيحاً على عصان) (فالجوُّ يضحك في ابيضاض شِرائر ... منه ويعبسُ في اسوداد دخان) وقال أبو فضلة: (اشربْ على النار في الكوانين ... إذ ذهبتْ دولةُ الرياحين)

(بَدَت لنا والرمادُ يحجبها ... كجلنارٍ من تحتِ نسرينِ) وقلت في معناه: (قصرتُ يدَ الشتاء بحرَ جمر ... وأخت الجمر صافية الرَّحيقِ) (ترى نبذ الرمادِ بوجنتيه ... ككافور يذرُ على خلوقِ) وقلت: (تحركت الشمالُ فقرَ ليلى ... فهاتِ الراحَ من أيدي الملاح) (جراد الجمر يسترهُ رمادٌ ... كمثلِ الوردِ يسترهُ الأقاحي) (وأنفاس الرِّياضِ معطراتٌ ... تطيرُ بهنَ أنفاس الرِّياح) (وأرديةُ الظلام ممسكاتٌ ... مطرزةُ الحواشي كالصباحِ) وقال ابن المعتز في سقوط الشرر على الثياب والبسط: (فترك البساط بعد الخمدِ ... ذا نقطٍ سودٍ كجلدِ الفهدِ) وقال أيضاً (وصيرت جبابهم مناخلا ... ) وقلت: (كأنما النارُ بينهُ ذهب ... والجمرُ من تحتهِ يواقيتُ) ومن بديع ما قيل في القدور على النار قول بعض العرب: (كأنَ صوتَ غليهِ المستعجل ... قصد الشبوح للشيوخ الجهلِ) وقال ابن المعتز: (والسيف راعي إبلي في المحلِ ... يسلمها إلى قدورٍ تغلي) (تُرقلُ فيها بالوقودِ الجُزْل ... ارقا لها في السير تحت الرحلِ) وقالوا أحسن ما قيل في الأثافي والرماد قول ابن هرمة: (نبكي على زمن ونؤي هامد ... وجوامع سقع الخدود رواكد) (عرين من عقد القدور وأهلها ... فعكفنَ بعدهم بهاب لا بد) (فوقينه عبثَ الصبا فكأنه ... دنف يرن الدمع بين عوائد؟)

وقال أبو تمام: (أثافٍ كالخدودِ لطمنَ حُزناً ... ونؤيٌ مثلَ ما انفصمَ السوارُ) ومما يجري مع ذلك القول في الشمعة، ومن أجود ما قيل فيها قول السري (شفاؤها إن مرضت ضرب العنق ... ) وقول الآخر (موقوفة بين حريق وغرق ... ) وقلت: (كم قد جنيتُ اللهوَ من غصنهِ ... ما بين أنوارٍ وأنوار) (من روضةٍ بللَ أعطافَها ... سقيطُ أنداءٍ وأمطارِ) (وأوجهٍ تحسَبهُا أشمساً ... في ليلِ أصداغٍ وأطرار) (وشققتْ عنها ستورَ الدُجى ... نارٌ على نارٍ على نارِ) وقلت في السراج: (وحيةٌ في رأسها دُرَة ... تعملُ في وجهِ الدُجى غَّره) (وجنتها أكبرُ من رأسها ... فهيَ إذا أبصرتها عبره) ِ ... (كم من مريبٍ أهتكت ستره ... وصيرتهُ في الورى شهره) (يردفها أصفرُ في أصفر ... يقدمها أسودُ في حمره) وقال السري في الكانون: (وكأنما الكانونُ ألهبَ جمره ... أحداق أسدٍ يدرينَ أسودا) (يسكو خدود الشربِ من نفحاتها ... قبل الكؤوس وحسنها توريدا) وقلت في الكانون: (وبركةٌ مترعة الأرجاء ... فارغةٌ من سبلِ الأنواءِ) (يغسل فيها حلة الظلماء ... أقامت النارَ مقامَ الماءِ) (نارٌ كوجهِ غادةٍ حسناءِ ... ترقصُ في مبدعة صفراء) (والجمرُ في حلتهِ الحمراءِ ... مثل بنانٍ عُلّ بالحناء) (وأسهمٌ تصبغُ بالدماءِ ... فهاكها ريحانةُ الشتاءِ) (واشربْ عليها حلبَ الصهباءِ ... فشربُ صهباءَ على شقراءِ) (يطرف عينَ البوسِ والضراء ... )

الفصل الثاني من الباب الخامس

ومن أجود ما قيل في الفحم قول بعضهم: (فحمٌ كيوم الفراقِ تشعله ... نارٌ كنارِ الفراقِ في الكبدِ) ( ... أسود قد صارَ تحت حمرتها ... مثلَ العيونِ اكتحلنَ بالرمد) (الفصل الثاني من الباب الخامس) (في ذكر ألوان الطعام) العرب تشبه البر بقراضة الذهب وبمناقير النغران، والنغران جمع نغرة وهي عصفورة: أخبرنا أبو أحمد عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال قال شيخ من أهل البادية ضفت فلاناً فأتاني بخبزة من حنطة كأنها مناقير النعران قد انتفخت في الملة حتى رأيت الجمر يتحدر منها تحدر الشحو من البطان وتراها حين غمرت بالسمن يجول فيها المثراد كما يجول الضبعان في الضفرة، ثم أتانا بتمر كأنه أعناق الورلان يدخل فيها الفرس. والحشو صغار الرمل المتعقد. وأخبرنا أبو أحمد عم الجلودي عن عبد الله بن محمد القرشي عن المثنى بن معاذ العنبري عن بشر بن المفضل عن عقبة الراسبي قال دخلت على الحسن وهو يأكل خبزاً ولحماً فقال لي هلم إلى طعام الأحرار. والعرب تدعو الخبز أم جابر. أخبرنا أبو أحمد حدثنا الجلودي حدثني محمد بن زكريا حدثني مهدي بن سابق حدثنا شبيب قال استأذن خالد بن صفوان على يزيد بن المهلب فأذن له فوجده يتغذى فقال يا ابن صفوان أدن فكل فقال أصلح الله الأمير لقد أكلت أكلة لست ناسيها قال وما أكلت؟ فوصف ما أكل ثم قال أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق وكأنما تجري عليه سبائك الذهب ثم أتيت بيناني بيض البطون زرق زق العيون سود المتون حدب الظهور مقفعات الأذناب صغار الرؤوس غلاظ القصر عراض السرر مع بصل

نظيف كأنه قطع الزند وخل ثقيف مري حريف، قال أبو هلال ما سمعت في وصف السمك أحسن من هذا ولا أتم. وقريب منه ما أخبرنا به أبو خليفة عن ابن سلام عن محمد بن القاسم قال قال الأعمش لجليس له أما تشتهي بناني زرق العيون بيض البطون سود الظهور وأرغفة باردة لينة وخلاً حاذق؟ قال بلى قال فانهض بنا قال الرجل فنهضت معه فدخل منزله وقال خذ تلك السلة فكشفها فإذا فيها رغيفان يابسان وسكرجة كامخ وشبت قال فجعل يأكل وقال لي تعالى كل فقلت فأين السمك فقال ما عندي سمك وإنما قلت أتشتيهه وأنا ولله أشتهيه. أخبرنا أبو أحمد عن الجلودي عن المغيرة بن محمد عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال قال أبو صوارة وكان بمكة مثل الأشعب بالمدينة في شهوة الأكل: يا أبا سعيد الأرز الأبيض باللبن الحليب بالسكر السليماني بالسمن السلى ليس من طعام أهل الدنيا. ومن أحسن ما قيل في الرقاق قول ابن الرومي: (ما أنسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ بهِ ... يدحو الرقاقةَ وشك للمح البصر) (ما بينَ رؤيتها في كفهِ كرَةً ... وبينَ رؤيتها قوراء كالقمرِ) وقلت: (وخبز بأيدي الخابزين كأنهُ ... تراس تعاطيها الجنود جنود) (وأطعمة حلتْ بساحتها المنى ... إذا جاءَ من أرداحهنَ يريد) (وضمتْ إلى الحلواء فيهِ فواكهٌ ... عليهنَ أهواءُ النفوسِ وفودُ) وقال الصنوبري في رقاق ورؤوس: (غير ما راج من رقاقٍ رقيق ... فوقَ هام على عدادِ الهامِ) (ذاك كالماءِ ذي الحباب ... وهاتيك عليهِ كطير ماءٍ نيام) (بالأقيالهنَ وما يبدينَ ... من مضرم شديدِ الضرام) (كأناس يوشحونَ مناديل ... إذا خرجواً من الحمامِ) ورصف هذه الأبيات غير مختار عندي ولكني أوردتها لجودة معانيها

وإصابة التشبيهات فيها، وقوله (غير ما راج) فإن الرواج لفظ عامي لا يستعمله الفصحاء. وقال ابن الرومي: (هامٌ وأرغفةٌ وضاءٌ فخمةٌ ... قد أخرجتْ من جاحم فوارِ) (كوجوهِ أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونةً بوجوهِ أهلِ النارِ) وقال غيره في جوذابة: (وقادمٍ من جاحمٍ فوارِ ... مخللِ الشقشقِ والأنوارِ) (ملبساً حُلةَ جلنارِ ... يقشر جلداً منه كالنضارِ) (عن بدنٍ أبيض كالخمار ... ) ومن النادر البديع في هذا المعنى ما أخبرنا به أبو أحمد عن الجلودي عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد قال كان عوانة يكثر أكل الرؤوس فقيل له إنها متخمة فقال إنها فاكهة اللحم. وأخبرنا عن محمد بن زكريا عن الأصمعي قال قيل لأعرابي كيف تأكل الرؤوس قال أفك لحييه وأبخص عينيه وأفعص أذنيه وا خديه وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج مني إليه فقيل له إنك لأحمق من ربع قال وما حمق ربع إنه ليجتنب العدوى ويتبع المرعى ويراوح بين الأطباء فما حمقه يا هؤلاء وقيل لأحدهم ما أحب الفاكهة إليك قال أما الرطب فاللحم وأما اليابس فالقديد. وقلت في صفة لحم: (تركتُ سمينَ اللحمَ يبيضُ بعضه ... ويحمرُ بعض خلطك الدرَ بالتبرِ) (وأعرضتُ عن حلواء شق فنونها ... فبيضٌ إلى حمرٍ وحمرٌ إلى صفر) (إلى ندرةٍ رقطاءَ قطع فوقها ... مقفعةٌ خضراءُ في ورق خضرِ) وحاجة الإنسان إلى الطعام إنما هي من أجل ما يأخذ الهواء من جسده فيحدث فيه خلل فإذا اكل اللحم فقد رم الجسد بما هو من جنسه فكأنه رقع الديباج بالديباج فإذا أكل غير اللحم فكأنه رقع الديباج بالكرياس، وفي الحديث (مَنْ

تركَ للحْمَ أرَبعينَ يَوْماً سَاءَ خُلُقُهُ) . (وأحسن ما سمعت في جملٍ مشوي قول السري: (أنعتهُ معصفر البردينَ ... أبيض صافي حُمرةِ الجنبينِ) (خلف شهرينِ على خلفينِ ... ثم رَعى بعدَهُما شهرينِ) (فجسمهُ شبرانِ في شبرينِ ... يا حُسنهُ وهو صريعُ الحينِ) (بعرفةٍ مرهفةِ الحدين ... بكفَ شاوٍ وعطرِ الكفَّيْن) (كسارقٍ حُدَ مِنَ اليدينِ ... ذو طرفٍ يستوقفُ العينين) (يُريكَ مرآةً مِنَ اللجينِ ... مُذْهَبَةً المقبضِ والوجَهين) (شقَ حشاه عنْ شقيقتين ... أختين في القدَ شبيهتين) (كما قرْنت بين كمأتين ... أو كرتي مسك لطيفتين) (إن شين ذورقين ناجمين ... فإنهُ زينٌ بغيرِ شَينِ) ومن المشهور قول ابن الرومي في دجاجة مشوية: (وسميطةٍ صفراءَ ديناريةٌ ... ثمناً ولوناً زفها لك حزورُ) ( ... طفقتْ تجولُ بذربها حوذابةُ ... فأتى لبابَ اللوزِ فيها السكر) (ظلنا نقشرُ جلدها عن لحهما ... فكأنَ تبراً عن لجين يقشرُ) (يا حسنها فوقَ الخوانِ وبنتها ... قدامها بصهبرها تتغرغر) (وتقدَّمتْها قبل ذاك ثرائدٌ ... مثل الرِّياضِ بملثلهنَ يُصدرَ) (ومدققات كلهنَ مزخرفٌ ... بالبيض منها ملبسٌ ومدنَر) (وأتت قطائفُ بعد ذاك لطائفٌ ... ترضى اللهاةُ بها ويرضى الحنجرُ) (ضُحُكُ الوجوه من الطبر زد فوقها ... دمع العيون من الدِّهانُ تعصَّرُ) وقلت في سكباجة: (سكباجةٌ طيبةٌ نشرها ... كأنها عودٌ على مجمر)

(حسنها في القدرِ إذ أقبلتُ ... وهي تحاكي سفطَ الجوهرِ) (ويستنيرُ الشحمُ في لحمها ... كغرةٍ في فرسٍ أشقر) (يا حسنَ باذنجانها إذ بدا ... أسمر وسطَ المرقِ الأحمر) (كأنهَّ ماءُ خلوق جرى ... وجال فيه قطع العنبر) وقال ابن الرومي في دجاجة: (عظيمةُ الزّوْر بصدرٍ نهد ... أجريتُ منها في مجال العقد) (مرهفت ذات شباً وحدَ ... لغيرِ ما دخل وغير حقد) (بل رغبة فيها شبيه الزُهد ... ) وقلت في قدور على نار: (كتبتُ أستعجل الندامى والنارُ تستعجل القدورا) (وقد أتاني الغلامُ يسعى ... بأرغفٍ تشبهُ البدورا) (وعندنا قهوةٌ شمولٌ ... لو قطعتْ صيرتْ شذورا) (تكونُ قبلَ المزاج ناراً ... فانقلبتْ بالمزاج نورا) (فانهض إلى سرعة إلينا ... ننثر على نفسِك السرورا) وقال الشعبي ما رأيت فارساً أحسن من زبد على تمر، وأنشد لبعض الأعراب: (ألا ليت لي خبزاً تسربلَ رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها زبدُ) ومن عجيب ما ورى عن الأعراب في شهوة الطعام ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبي بكر عن أبي حاتم عن الأصمعي عن جعفر بن سليمان قال لقيت اعرابياً فقلت هل لك في ثردة؟ فتنفس الصعداء ثم قال: (واهاً على مجمومة ... وصحفةٍ مكتومة) (بالدَّسم موْسُومة ... واللحم مغمومة) (قد كملتْ عراقا ... وألحفت رقاقا) (منقوشة الحواشي بطيبِ التماشي)

(بفلفلٍ وحمّص ... فكلْ هنيئاُ وارقص) فأخذت بيده وذهبت إلى المنزل فأمرتهم فصنعوا ثردة كما وصف فلما قدمتها ارتعش طرباً ثم قال أي بأبي والله هذه المرقصة ثم وثب على رجليه فرقص ساعة وجلس فأكل أربعة أرغفة في ثردة وستة في السقي ثم قبل رأسي وقال بأبي أنت وأمي لك حاجة في بدونا؟ قلت تمضي، ثم قال أي والثردة والله ما دخلت الحضر إلا في طلبها ثم أنشأ يقول: (عمرتُ بطناً لم يزلُ مصفرا ... لم يعرف الرُعفَ ولا المزدرا) (حتى لقد أوجعت واللَّهِ ترى ... ما صنعتْ كفاي في جنب القرى) وقال ابن خلّاد في خبز الأرز والملح: (إذا الطابقُ المنصوبُ ألقى ثيابهُ ... وقدت جيوبُ الخبز شبرين في شبرِ) (رغيف بملح طيّبِ النشر خلطة ... خوارجه تغنيك عن أرج العطر) (عليهِ من الشونيزِ آثارُ كاتب ... وجلبابُ وَرَاق ينقطُ بالحبر) (ومن سمسم قد زعفروهُ كأنهُ ... قراضةُ تبرٍ في لجينية غر) وقال في الباقلاء: (فلا تنسَ فضلَ الباقلاءِ فإنه ... من المنى قدوافي به الفضل في الزبر) (إذا جعلوا فيه سذاباً ونعنعاً ... وجزءاً من الزَّيت المقدّس في الذَّكرِ) (فما صدف العاج المغشي ظواهراً ... بطاشي أفرندٍ معقدةِ الخصر) (بأحسن من مخضرة الغصن إذ بَدتْ ... بواكرُ منها في المجاسد والأرز) ثم قال: (ويا لك باذنجانة سابرية ... جلاها نسيمُ الليل ناثرة الفجر) (فجاءَتْ بأثوابٍ الحداد مدلها ... بأذنابها العم المعقفة الخضر) (وأكرم بهانياً إذا بر ثوبُها ... فأبدت لنا عن واضحِ الكَشح والصدرِ) (فنجعلها شطرين نلقمُ شطرَها ... ونتبعهُ قبلَ الإساغةِ بالشطرِ) وقال ابن الرومي في الهريسة:

(أيا هنتاهُ هل لك في هَريس ... بلحمانِ الفراخِ أو البطوطِ) (أملّ الليلَ صانعها بضربٍ ... فجاء بها تمددُ كالخيوطِ) (وبينَ يديك من مريٍ عتيق ... توارثهُ النبيطُ عن النبيط) (أرانا حولَ صفحتها بُروكاً ... كما بركَ البعيرُ على الخبيط) (فيالله من لقمٍ هُناكم ... تجاذب بالشجيج وبالغطيطِ) وقال مسكين الدرامي في قدور على النار: (كأنَ قدورَ قومي كلَ يوم ... قدورُ البرك ملبسة الجلالِ) (كأنَ الموقدينَ لها جمالٌ ... طلاها الزَفتُ والقطران طالي) (بأيديهم مغارفُ من حديدٍ ... نشبهها مغيرة الدوالي) وقلت في هريسة: (هريسةٌ بيضاءُ كافوريهْ ... في قصعةٍ صفراءَ ديناريه) (للمرءِ فيها حمة مسكيه ... وللسلاءِ لمعةٌ تِبريه) (تدورُ في مبيضةٍ فضّيه ... مثل السوارِ في يدِ الرُّوميه) ومن عجيب ما قيل في قلة الطعام على المائدة ما أنشدناه أبو أحمد قال أنشدني نصر بن أحمد لنفسه: (من حديثي أنَ ابنَ بكر دعاني ... لشقائي فليتهُ ما دعاني) (غرَّني منهُ منظرٌ ولباسٌ ... وأثاثٌ ومجلسٌ وأوانِ) (مجلسٌ كالجنانِ حسناً ولكنْ ... قبّحَ الجوعُ حسنَ تلك الجنان) ( ... فلعمري كان الخوانُ ولكنْ ... لم يكنْ ما يكونٌ فوقَ الخوان) (وجفانٍ مثل الجوابي ولكن ليسَ فيهنَ ما يرى بالعيان) (وغضار الألوان جاءتْ ولكنْ ... ليسَ فيها روائحُ الألوانِ) (فإذا ما أدرتُ فيها بناني ... لم أجِدْ ما أمسهُ ببناني)

(إنني ما ضغٌ على غيرِ شئ ... غير صكِّ الأسنانِ بالأسنانِ) (ترجعُ الكفُ وهي أفرغُ منها ... عندَ مدى لها فدأبي وشاني) ( ... لو تراني والجوعُ يضحك مني ... عند غسلي يديَّ بالأشنانِ) (زادَ في السفرِ مسرفا مثلما ... أسرفَ عند الطعام بالنقصانِ) (والغضاراتُ فارغاتٌ أتتنا ... وسقانا بالمترع الملآن) (سكرة فوقَ جوعةٍ تركتني ... راحماً كلَ جائع سكرانِ) وقلت في قريب منه: (أتدعوني وتطعمني يسيراً وتسقيني الكثيرَ على اليسيرِ) (فأصبح منك في يوم عسير ... فلا ينفكُ في يوم عسير) (هما حرانِ من جُوع وسكرٍ ... فيا لك من سعير في سعيرِ) (أقولُ وفي غضائره عظامٌ ... أتغرق من قدور أم قبورِ) ومن جيد ما قيل أيضاً في ذم الدعوة قول أبي الحسن بن طباطبا وقد دعاه الكراريسي فقرب إليه مائدة عليها خيار وفي وسطها جامات عليها قطر ولم يصحبها بوارد فسماها مسيحية لأنها أشبهت موائد النصارى، وقدم سكباجة بعظام عارية فسماها شطر نجية، ثم قدم مضيرة في غضارة بيضاء فسماها معقدة لأن البياض لبس المعقدة وهي لا تمس الدهن والطيب، ثم قدم زير باجة بأطراف جدي صفراء لقلة زعفرانها فسماها عابدة لأن ألوان العباد صفر ثم قدم لوناً بقضبان محلولة فسماها قنبية ثم قدم لوناً بزبيب أسود فسماها موكبية ثم قلية بعظام الأضلاع فسماها حسكية لتشنج لحمها ثم قرب زعفرانية فسماها سلحية صفراء ثم قرب فالودذجة قليلة الزعفران والحلاوة فسماها صابونية ثم اعتل على الجماعة بأن ابنه عليل فحولهم من منزله إلى بستان قد طبق بالكراث وأحضرهم جرة منثلمة يمزجون منها شرابهم

وإذا ضرب أحدهم الغائط نقلها معه وربط الأكار بحذائهم عجلة تحور عليهم خواراً شبيها بغناء فاطمة وكان اسمها فاطمة فقال: (يا دعوةً مغبرةً قاتمة ... كأنها من سفر قادمَهْ) (قد قدمَّوا فيها مسيحيةً ... أضحتْ على أسلافها نادمه) (ثمَ بشطرنجية لم تزلْ ... أيدٍ وأيدٍ حولها حائمه) (فلم نزلْ في لعبها ساعةً ... ثم نفضناها على قائمه) (وبعدها معتدة أختها ... عابدة قائمة صائمه) (في حجرها أطراف موؤدةٍ ... قد قتلتها أمُّها ظالمه) (والقنبياتُ فلا تنسها ... فحيرتي في وصفِها دائمه) (أقنبُ ما امتدَ في أصبعي ... أم حيةٌ في وسطها نائمه) (والحسكياتُ فلا تنسَ في ... خندقها أوتادُها قائمه) (والموكبياتُ بسلطانها ... قد تركتْ آنافنا راغمهِ) (والسلحةُ الصفراءُ فاعجب بها ... إذ سلحتها أنفسٌ هائمه) (وجام صابوينة بعدها ... فافخر بها إذ كانت الخاتمه) (ظلَ الكراريسيُ مستعبراً ... من عصبةٍ في دارهِ طاعمه) (وقالَ إنَ ابني عليلٌ ولي ... قيامةٌ من أجلهِ قائمه) (وولوَلتْ داياتهُ حولهُ ... فليسَ إلا عبرةٌ ساجمه) (وليسَ هذا لسوى كسرةٍ ... تكسرُ ما زالت له سالمه) (وقد أكلناها فكم هيجتْ ... من لاطمٍ خداً ومن لاطمه) (ثمَّ هَرَبنا نحوَ بستانهِ ... خوفاً من المنية العازمه) (ظلنا لدى الكراثِ بلهوبه ... نلهوبه من زهرةٍ قائمه)

(وغاية اللطفِ ففي جرةٍ ... محطومةٍ صارتْ لنا حاطمَهْ) (نبولُ فيها ثم نسقي بها ... يا لك من عارضةٍ لائمه) (وعجلة تشدو بألحانها ... وكانت الكيَّسة الحازمة) (فكانَ فيما أنشدتْ إذ شَدَتْ ... من ليَ من بعدك يا فاطمة) (نشتم من أسمعنا صوتها ... وهي لنا من بعدهِ شاتمه) (ظلّت تبكي شجو ما أبصرت ... من أمرنا وهي به عالمه) (فلو ترانا وترى زادَنا ... حياً صادفت منا نعماً سائمه) فلما سمعها الكراريسي حلف لا يدخل أبا الحسن ولا أحداً من أصحابه داره واتخذ دعوة ودعا قوماً من الشطرنجيين فقال أبو الحسن إنما دعاهم لينظروا في الشطرنجية التي كنا نفضناها على قائمة هل يمكن فيها من حيلة، وكتب إليه من وقته أبياتاً منها: (طمعتَ يا أحمق في قمرِها ... لو أمكنَ القمرُ قمرناها) (فإن أقاموها فما ذنبنا ... كنا على ذاك نفضناها) ثم كتب إليه أبو الحسن: (يا منْ دعاني أطال اللهُ عمرك لي ... ولا عدمتك من داع ومحتف) (ما أنسَ لا أنسَ حتى الحشر مائدةً ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل) (إذ أقبل الجديُ مكشوفاً ترائبهُ ... كأنهُ متمطٍ دائمُ الكسل) (قد مدَ كلتا يديهِ لي فذكرني بيتاً ... تمثلتهُ من أحسنِ المثل) (كأنهُ عاشقُ قد مدَ بسطتهُ ... يومَ الفراق إلى توديع مرتحل) (وقد تمري بأطمار الرفاق لنا ... مثل الفقيرِ إذا مالاح في سمل) (فليتَ شعري ماذا كانَ أنحله ... فصار إيمانهُ قولاً بلا عملِ) (مددْت كفي فلم ترجعْ بفائدة ... كأنما وقعتْ منهُ على طللِ) وأخذ أبو الحسن قوله شطرنجية من قول جحظة أظنه: (قدَّم لي أعظمَ حوليةٍ ... قد طبختْ بالماء في بُرمته)

(فلم أزَلْ زَلتْ به نعلهُ ... ألعبُ بالشطرنج في قصعتهِ) ومن جيد الوصف قول أبي الفضل بن العميد في وسط: أنشدنا أبو أحمد أنشدنا أبو الفضل بن العميد لنفسه: (ودونك وسطاً أجاد الصناعُ ... تلفيفَ شطريهِ بالهندمة) (فمن صدر فائقةٍ قد نوت ... ومن عجز ناهضةٍ ملقمه) (ودنّر بالجوزِ أجوازه ... ودَرهمَ باللوز ما دَرهمه) (وقابل زيتونها والجبن ... صفائح من بيضةٍ مدغمه) (فمن أسطرٍ فيهِ مشكولة ... بملح ومن أسطرٍ معجمة) (وطرز بالقبل أعطافهُ ... فوافى كحاشيةٍ معلمه) (موَشّى تخال به مطرفا ... بديع التغاويف والنمنمه) وأنشد في الشواريز: (ما متعةُ العينِ من خدٍ تورُدهُ ... يزهى عليك بخالٍ فيه مركوزِ) (مستغرقُ الحسنِ في توسيع وجنتهِ ... بدائعٌ بين تسهيمٍ وتطريز) (يوفي على القمرِ الموفي إذا اتصلتْ ... يُسراه بالكأسِ أو يمناه بالكوز) (انهى إليكَ من الشيرازِ إنْ وضحتْ ... في صحنِ وجنتهِ خيلان شونيز) (وقد جرى الزَّيتُ في مثنى أسرته ... فضارعتْ فضة تُعلى بإبريزِ) وقال ابن خلاد: (وسوفَ يزوركَ شيرازها ... فتقسم بالله أن تكرمه) (يميسُ بشونيزةٍ كالعروسِ ... تخطرُ في الحلةِ المسهمه) (وتغشى موائدَ قد عوليتْ ... أطايبَ كالبردةِ المعلمه) (تباهى بجاماتها والغضار ... كواكب في الليلةِ المظلمه) وأول من ذكر الفالوذ أبو الصلت جاهلي يذكر عبد الله بن جدعان:

(لهُ داعٍ بمكةَ مشمعلٌ ... وآخرُ فُوقَ دارته ينادي) (إلى رُدح من الشّيزى عليها ... لبابُ البرَ يلبكُ بالشهادِ) لباب البر يعني النشا. وكان لعبد الله جفنة يأكل منها القائم والقاعد والراكب وقال رسول الله & (كنتُ أستظلُ بجفنةِ عبد الله بن جدعان في الهواجر) ومن النوادر في هذا ما أخبرنا به أبو أحمد عن رحاله قال سأل أعرابي عن رأيه في الفالوذ فقال والله لو أن موسى أتى فرعون بفالوذ لآمن به ولكنه أتاه بعصاه. ومن مصيب التشبيه فيه قول بعضهم: (ولاطفه بالشّهدِ المخلّق وجهه ... وإن كانَ بالأطافِ غيرَ خليقِ) (كأنَ اصفرارَ اللوزِ في جنباتهِ ... كواكبُ تبرٍ في سماءِ عقيقِ) وقلت: (حمراء في بيضاءَ فضية ... وظرف كافور وحشو الخلوقِ) (يطوفُ الدُهن بأرجائه ... اطافةَ الدَمع بجفنِ المشوقِ) (كأنما اللوزُ بحافاتهِ ... أنصاف دُرٍ ركبت في عقيقِ) ومن المشهور قول ابن الرومي في اللوزينج: (كأنما قرتَ جلايبيهُ ... من أعينِ القطرِ إذا قبّبا) (مستكثفُ الحشوِ على أنه ... أرقُ جسماً من نسيمِ الصَّبا) (يَدورُ بالنفحةِ في جامِه ... دوراً ترى الدُهن لهُ لولبا) (لو أنه ثغرٌ لروميَّةٍ ... لكان منه الواضح الأشنبا) وقلت في قطائف: (كثيفةُ الحشو ولكنها ... رقيقةُ الجلدِ هوانيه) (رشتْ بماء الوردِ أعطافُها ... منشورة الطيَ ومطويه)

(كأنها من طيبِ أنفاسها ... قد سرقَتْ من نشرِ ماريه) (جاءَتْ من السكر فضية ... وهي من الأدهان تبريه) (قد وَهَبَ الليلُ لها بُردهُ ... وَوَهَبَ الخصبُ لها زيه) وقلت في ذم الباذنجان: (قرانا بقولاً إذ أنخنا ببابهِ ... فأصبحَ فينا ظالماً للبهائمِ) (وقفنا عليهِ الركبَ نسأله القِرى ... ونحنُ على أعناقِ أغبر قاتمِ) (فصامَ وصومُ الليلِ ليس بجائزٍ ... وإن جازَ في فقهِ اللئامِ الأشائمِ) (أجازَ صيامَ الليلِ حينَ استفزَّهُ ... تعاورُ ضيفٍ في دُجى الليل عاثم) (فبتنا أديمَ الليلِ نطوي على الطوى ... كأنا على غبراءَ من ظهرِ واشمِ) (وأطعمنا لما مرقنا من الدُّجى ... دحاريجَ لا تنساقُ في حلقٍ طاعم) (مُدَوّرَةًُ سودَ المتونِ كأنها ... خصى الزَّنج لاحت تحت فِيَش قوائمِ) (فأبشارها تحكي بطون عقاربِ ... وأرؤسها تحكي أنوفَ محاجمِ) وأخبرنا أبو أحمد حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا نصر قال قال الأصمعي قيل للفاخري أي التمر أجود؟ قال الجرد الفطس الذي كأن نواه ألسن الطير تضع الواحدة في فيك فتجد حلاوتها في كعبك يعنى الصيحاني تمر العلية. وأخبرنا أبو أحمد حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أبي حدثني عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال اجتمع أربعة رهط سروي ونجدي وحجازي وشامي فقالوا تعالوا نتناعت الطعام أية أطيب: قال الشامي إن أطيب الطعام ثريدة موسعة زيتاً تأخذ أدناها فيضرط عليك أقصاها تسمع لها وقيباً في الحنجرة كتقحم بنات المخاض في الخرف، قال السردي إن أطيب الطعام خبز بر في يوم قر على حمر عشر موسع سمناً وعسلا. فقال الحجازي أطيب الطعام خنس فطس بإهالة حمس يغيب فيها الضرس. فقال النجدي أطيب الطعام بكر سنمة مغتبطة نفسها

غير ضمنة في غدة شبمة بشفار خدمه في قدور جذمه. ثم قال الشامي دعوني أنعت لكم الطعام إذا أكلت فابرك على ركبتيك وافتح فاك وأجحظ عينيك وامرح أصابعك وعظم لقمتك وأحتسب نفسك. قال عبد بن دينار ما سمعت ابن عمر حدث هذا الحديث قط فبلغ قول الشامي (واحتسب نفسك) إلا ضحك. وقلت في عصيدة: (وعدتُ عصيدةً شقراءَ تحكي ... طرارَ الصبح في ثوبِ الظلامِ) (تراها حينَ تبرزُ في ظلام ... كعرفِ الطرفِ في زمنٍ قتامِ) (كذي دلٍ عليهِ مصفراتٌ ... يدلُ على المشوقِ المستهام) (فما أن صبا قلبي إليها ... ومدّت نحوها عين اهتمامي) (تقاصرَ دونها كفايَ حتى ... كأنَ الدبسَ علقَ بالغمام) (فدونَ السمن أطرافُ العوالي ... ودونَ النار بادرةُ الحسامِ) (أتلك عصيدةٌ أم طيفُ سلمى ... فليسَ يزورُ إلا في المنامِ) وقلت في سكمة طرية: (يقيضُ للمكتوب ماجرَ حتفه ... فجازَ بنا في الغيضِ شرَّ مجازِ) (بعثنا إليه منسر الباز فانثني ... إلينا بظهرٍ مثل جؤجؤ بازِ) (فأطفأ نيرانَ الطهاةِ كأنها ... سحابٌ يسحُّ الودقَ فوق عزازِ) العزاز: الأرض الصلبة. وقال كشاجم في السمك: (ومحجوبةٍ في البحرِ عن كلَ ناظرٍ ... ولكنها في حجبها تتحطفُ) (أخذنا عليهنَ السبيلَ بأعينٍ ... راصد إلا أنها ليسَ تطرفُ) (فجاءَ بها بيضَ المتونِ كأنها ... خناجرُ في إيمانِنا تتعطفُ) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن القاسم عن الأصمعي قال دخلت على الرشيد وهو يأكل الفالوذ فقال يا أصمعي هل قالت العرب في هذا شيئاً؟ فقال يا أمير المؤمنين وأنى لها هذا ولكن قالت فيما دونه، قال وما وقالت؟ قال قال مُزرد

الفصل الثالث

ابن ضرار أخو الشماخ: (ولما عدتْ أمي تزورُ بناتها ... أغرتُ على العِكم الذي كان يُمنعُ) (خلطتُ بصاعي حنطةٍ صاعَ عجوةٍ ... إلى صاعِ سمنٍ فوقها يتربعُ) (ودبلتُ أمثالَ الأثافي كأنها ... رؤوسُ نُقادٍ قُطعتْ يومَ تجمّعُ) (وقلتُ لبطني أبشري اليومَ إنهُ ... حمى آمناً مما تفيدُ وتجمعُ) (فإن تك مصفوراً فهذا دواؤهُ ... وإن تك جوعاناً فذا يوم تشبعُ) فضحك الرشيد وقال يا أصمعي ما لدينا ليس فيها مثلك حسن، فدعوت له وفضلته على الملوك بالعلم، فقال يا أصمعي نحن كل يوم نشبع. ومما يجري مع هذا القول في الرحا: فمن أجود ما قيل فيها ما أنشدناه أبو أحمد: (عجبتُ من سائرةٍ لا تبرحُ ... ينهاك عن ركوبها من ينصحُ) (دائبة تمسي بحيثُ تصبحُ) والحمد لله وحده. 3 - (الفصل الثالث) (في ذكر الشراب وما يجري معه من رقيق المعاني) للقدماء في صفة الخمر قول الأعشى (تريك القذى من دونها وهي دونه) يريد أنها من صفائها تريك القذى عالية عليها وهي في أسفلها. ومن أطرف ما قيل في صفاء الخمر قول أبي نواس: (ترى حيثما كانتْ من البيتِ مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيتِ مغربا)

(إذا عبَ فيها شاربُ القوم خلتهُ ... يقبلُ في داج من الليل كوكبا) أخذه ابن الرومي فقال وأحسن: (ومهفهفٍ تمتْ محاسنهُ ... حتى تجاوزَ منيةَ النفسِ) (وكأنهُ والكأسُ في فمهِ ... قمرٌ يقبلُ عارضَ الشمسِ) فجعل الشارب قمراً وليس هذا في بيت أبي نواس. وقال أبو نواس يذكر صفاء الخمر ورقتها وحبابها: (فإذا ما اجتليتَها فهباءٌ ... يمنعُ الكفّ ما يبيحُ العيونا) (ثم شجتْ فاستضحكت عن جمان ... لو تجمعنَ في يدٍ لاقتنينا) (في كؤوس كأنهنَ نجومٌ ... دئرات بروجها أيدينا) (طالعاتٌ مع السقاةِ علينا ... فإذا ما غرينَ يغربنَ فينا) (لو ترى الشَّربَ حولها من بعيدٍ ... قلتَ قومٌ من قِرّةٍ يصطلونا) وقلت في لطافة الخمر والزجاجة: (قلتُ والراحَ في أكفَ الندامى ... كنجوم تلوحُ في أبراجِ) (أمداماً فرطتم لمدام ... أم زجاجاً سبكتمُ في زجاح) (وكأنَ النجومَ والليلُ داج ... نقشُ عاج يلوحُ في سقف ساجِ) ومن أعجب ما قيل في صفائها قول الناشيء (فليس شئ عندها إلا القذى ... ) وقلت: (ومشمولةٍ دارت عليَ كؤوسها ... فرحتُ كأني في مدارِ الكواكبِ) (أنازِعُها بدراً مع الليلِ طالعاً ... وليسَ بمردودٍ مع الصبحِ غاربِ) (وقد شابَ لينا بالشماسِ وإنما ... تطيبُ لك الصهباءُ من كفَ قاطب) وأنشدني أبو أحمد: (فنبهتني وساقي القوم يمزجها ... فصارَ في البيتِ للمصباح مصباحُ)

(قلنا على علمنا والشكُ يغلبنا ... أراحنا درانا أم درانا الراح) ومثله قول البحتري: (فأضات تحتَ الدُجنة للشربِ ... وكادت تضئ للمصباح) ِ ... وأحسن ما وصفت به كأس على فم قول ابن المعتز: (ظبيٌ خليٌ من الأحزانِ أو دعني ... ما يعلمُ اللهُ من حزنٍ ومن قلقٍ) (كأنهُ وكأنَ الكأسَ في فمه ... هلالُ أولِ شهر غاب في الشفق) وقول الآخر (كأنما الكأسُ على ثغرها ... موصولةً بالأنملٍ الخمسِ) (ياقوتةٌ صفراءُ قد صيرتْ ... واسطةً للبدرِ والشمسِ) (قد ذهبتْ نفسي على نفسها ... وآفةُ النفس من النفسِ) وقلت: (فيسقيني ويشربُ من عقيق ... خليق أن يَشبّهَ بالخلوقِ) (كأنَ الكأسَ من يدهِ وفيه ... عقيقٌ في عقيقٍ في عقيقٍ) الكأس الحمراء مثل العقيق واليد المخضوبة كالعقيق والشفة مثل العقيق في لونها. وقلت: (ودارَ الكأس في يدِ ذي دلال ... رشيق القدِّ يعرفُ بالرّشيقِ) (يحلي بالتبسم درَ ثغر ... تخلله شوابيرُ العقيقِ) (رأيتُ الكأسَ في يده وفيه ... وجنحُ الليل منصرف الفريقِ) (ففي فمه هلالٌ في غروبِ ... وفي يدهِ الثريا في شروقِ) وأحسن ما قيل في الشروق وأتمه قول ابن الرومي وأتى بشئ لم يسبق إليه وهو تشبيه الحباب بفلق اللؤلؤ وهو على الحقيقة تشبيهه والناس قبله إنما شبهوه باللؤلؤ الصحيح، وهو قوله: (لها صريحٌ كأنهُ ذهبُ ... ورغوةٌ كاللالئ الفِلقِ) فشرحت ذلك وقلت: (وكأس تمتطي أطرافَ كفٍ ... كأنَ بنانها من أرجوانِ)

(أنازعها على العلاتِ شرباً ... لهنَ مضاحكٌ من أقحوانِ) (يلوحُ على مفارقها حبابٌ ... كأنصافِ الفرائدِ والجمان) وفي هذا زيادة لأن في الحباب ما هو كبير يشبه بأنصاف الفرائد وهي كبار اللؤلؤ، ومنه ما هو صغير يشبه بأنصاف الجمان وهي صغار اللؤلؤ: (وطالعني الغلامُ بها سحيراً ... فزادَ على الكواكبِ كوكبانِ) (ووافقها بخدٍ أرجوان ... وخالفها بفرع أرجواني) وأغرب ما قيل في الحباب قول أبي نواس: (فإذا علاها الماءُ ألبسها ... حبباً كمثلِ جلاجلِ الحجلِ) (حتى إذا سَكنت جوامحها ... كتبت يمثل أكارع النمل) ومن غريب ذلك وبديعه قول الأول ويقال إنه ليزيد بن معاوية: (وكأس سباها التجرُ من أرضِ بابلٍ ... كرقةِ ماءِ المزنِ في الأعينِ النجلِ) (إذا شجّها الساقي حسبتَ حبابها ... عيونَ الدبا من تحت أجنحةِ النملِ) وأبدع ما قيل في الحباب قول أبي نواس: (قامت تريني وأمرُ الليلِ مجتمعٌ ... صُبحاً تولدَ بينَ الماءِ واللهبِ) (كأنَ صغرى وكبري من فواقعها ... حصباءُ دُرّ على أرضٍ من الذهبِ) وخطأه النحويون في قوله (كبرى وصغرى من فواقعها، وأخذه ابن المعتز فقال: (يا خليلي سقياني فقد لاحَ ... صباحٌ وأذّنَ الناقوسُ) (من كميتٍ كأنها أرضُ تبرٍ ... في نواحيه لؤلؤٌ مغروسُ) وقلت: (راحٌ إذا ما الليل مدَ رواقهُ ... لاحَتْ تطرزُ حُلةَ الظلماء) (حتى إذا مُزِجَتْ أراك حبابها ... زهراتِ أرضٍ أو نجوم سماءِ) وقلت في المعنى الأول

(تبيتُ لي اللذاتُ معقودةَ العرى ... إذا ما أدَارَ الكأسَ أحورُ عاقدُ) (يدبُ الدُجى عن وجهِ نارٍ تحلهُ ... كؤوس لأعناقِ الليالي قلائدُ) وقال ابن المعتز: (قد حثني بالكأسِ أولَ فجره ... ساقٍ علامةُ دينهِ في خصره) (فكأنَ حُمرةَ لونها من خدّه ... وكأنَ طيبَ نسيمها من نشره) (حتى إذا صَبَ المِزاجَ تبسّمت ... عن ثغرِها فحسبتهُ من ثغره) وقال: (للماء فيها كتابةٌ عجبُ ... كمثل نقشٍ في فصَ ياقوتِ) وقلت (دارَ في الكأس عقيقٌ فجرى ... واطفُ الدرُ عليهِ فطفح) (نصب الساقي على أقداحها ... شبكَ الفضةِ تصطادُ الفرح) وقال ابن الرومي في لطافتها: (لطفتْ فقد كادتْ تكونُ مشاعةً ... في الجوَ مثل شعاعها ونسيمها) ومن الاستعارة البديعة قول ابن المعتز: (فأضحك عن ثغر الحباب فم الكأس) وقلت: (وشراب طوى الزمانَ فحاكى ... نفسَ الوردِ رقَّةً ونسيما) (إن يكنْ بالعقول غيرُ رحيم ... فهو بالروُّح لا يزالُ رحيما) ومن أحسن ما قيل في خيال الكأس على اليد قول بعض المحدثين: (كأنَ المديرَ لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسارِ) (تَدَرَعَ ثوباً من الياسمين ... لهُ فردُ كم من الجلنارِ) وقال السري في معناه: (وبكر شربناها على الوردِ بُكرةً ... فكانت لنا ورداً على خيرِ موردِ) (إذا قامَ مبيضُ الجبين يُديرها ... توَهمته يسعى بكمٍ مُوَرَّدِ) وقال البحتري: (ألا ربما كأس سقاني سلافها ... رهيفُ التثني واضح الثغر أشنبُ) (إذا أخذتْ أطرافه من قنوها ... رأيت اللجينَ بالمدامة يذهب)

وقلت: (وقد شغلت كلتا يديه بقهوة ... فقلت أرى نجمين أم قدحينِ) (كأنَ خيالَ الكأسِ فوقَ ذراعه ... غشاءٌ من العقيان فوقَ لجينِ) وقلت أيضاً: (يسعى إليَّ مقرطقٌ في كفهِ ... كأسٌ وبينَ جُفونهٍ كأسانِ) (وتناسبتْ فيها بغيرِ قرابةٍ ... كفُ المدير ووجنةُ الندمان) وما أحسن ما قيل في الزجاجة ورقتها وصفائها قول بعضهم: (رقَ الزجاجُ وراقت الخمرُ ... وتشابها فتقاربَ الأمرُ) (فكأنها خمرٌ ولا قَدحٌ ... وكأنهُ قدحٌ ولا خمرُ) وقال ابن المعتز في رقة الخمر وصفائها وذكر الكأس ولطافتها: (وكأس تحجبُ الأبصارُ عنها ... فليسَ لناظرٍ فيها طريقُ) (كأنَ غمامةً بيضاءَ بيني ... وبين الرَّاح تحرقها البروقُ) وقلت: (وندمان سقيت الرَّاح صرفاً ... وجنحُ الليل مرتفعُ السجوفِ) (صفتْ وصفتْ زجاجتها عليها ... لمعنى دَقَ في ذهنٍ لطيفِ) وليس هذا التشبيه بالمختار ولو أن بعض الناس يستملحه لأنه أخرج ما يرى بالعيان إلى ما يعرف بالفكر. وقال بعضهم: (خفيتْ على شرابها فكأنهم ... يجدون رَيّا من إناءٍ فارغِ) وقال غيره: (وزَّنا الكأسَ فارغةً وملأى ... فكان الوزنُ بينهما سواء) وقال ابن الرومي: (لطفتْ فقد كادَتْ تكونُ مُشاعةً ... في الجوَ مثل شعاعها ونسيمِها) وقلت: (حملتْ بخنصرها إناءَ مدامةٍ ... صفراء تلمعُ في زجاجٍ أقمرِ) (فكأنها واللحظُ ليس يحورها ... شمسُ النهار تختمتْ بالمشتري) ومن أجود ما قيل في الأباريق وفضول الكأس وأنشده إسحاق:

(كأنَ أباريقَ المدام لديهم ... ظباءٌ بأعلى الرقمتينِ قيامُ) (وقد شربوا حتى كأنَ رقابهم ... من اللينِ لم يخلقْ لهنَ عظامُ) وقد أحسن مسلم في قوله: (إبريقنا سلبَ الغزالةَ جيدها ... وحكى المديرُ بمقلتيه غزالا) وأحسن الآخر وينسب إلى بشار: (كأنَ إبريقنا والقطرُ في فمه ... طيرٌ تناول ياقوتاً بمنقارِ) إلا أن قوله (طير) ردئ والجيد طائر، وأجازه أبو عبيدة ولم يجزه غيره وقلت (تضحك في اكأس أباريقنا وحسب ما يضحكن يبكينا) (كأنَ أعلاها إذا أسفرتْ ... تعقد في الكأس تلابينا) وأول من شبه الابريق بالأوز لبيد في قوله ولم يذكر الخمر (تُضَمَّنُ بِيْضاً كالإوَزِّ ظروفُها ... إذا تأقوا أعناقها والحواصلا) 5 فأخذه بعضهم فقال: (ويوم كظلَ الرُمح قصرَ طولهُ ... دمُ الزَّقَّ عنا واصطكاكُ المزاهرِ) (كأنَ أباريقَ المدام عشيبةً ... إوزٌّ بأعلى الطفَ عوجُ الحناجرِ) وقال أبو الهندي: (سيغنى أبا الهنديِّ عن وطب سالم ... أباريق لم يعلقْ بها وضرُ الزبدِ) (مقدمة قزاً كأنَ رقابها ... رقابُ بناتِ الماء تفزع للرَّعدِ) وقوله (تفزغ للرعد) زيادة على ما تقدم) وأما فضول الكؤوس فأحسن ما قيل فيها قول أبي نواس: (قرارتهُا كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسى الفوارسُ)

(فللخمر مازرتْ عليه جيوبهم ... وللماء ما دارتْ عليه القلانسُ) وقال السري الموصلي: (كأنَ الكؤوسَ وقد كللتْ ... بفضلاتهنَ أكاليلُ نورِ) (جيوبٌ من الوشيِ مزرورةٌ ... يلوحُ عليها بياضُ النحورِ) فجئت به في بيت وقلت: (وبيضٌ تهاوى في مزعفرةٍ صغر ... وهبتُ لها قلبي وأخدمتها فكري) (فدارتْ بأقداح كأنَ فضولها ... سوالفُ تبدو من معصفرةٍ حمرٍ) وقال السري أيضاً: (وصفراءُ من ماءِ الكرومِ شربتُها ... على وجهِ صفراءِ الغلائلِ غضةِ) (تبدتْ وقضلُ الكاس يلمع ساطعا ... كأترجه زينت بإكليل فضة) وقال الناشئ: (ملوك ساسانَ على كأسها ... كأنها في عزَ سلطانها) (فخمرُها من فوقِ أذقانها ... وماؤها من فوقِ تيجانها) يصف كأساً نقش فيه صور ملوك ساسان. ومن أجود ما قيل في صفة صفاء الإناء وحسنه مع صفاء الخمر قول ابن المعتز: (غدا بها صفراء كرخية ... كأنها في كأسِها تتّقِد) (فتحسبُ الماءَ زجاجاً جرى ... وتحسبُ الأقداحُ ماءً جمدْ) ومن أجود ما قيل في صوت الأباريق ما أنشدناه أبو أحمد: (وقد حجت الغيم السماء كأنها ... يمدُ عليها منهُ ثوبٌ ممسكُ) (ومجلسنا في الجوَ يهوي ويرتقي ... وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحكُ) ومن أحسن ما قيل في ابتداء السكر قول بعضهم: (ولها دبيبٌ بالعظام كأنَّه ... فيضُ النعاسِ وأخْذهُ بالمفصلِ) (عبقت أكفهمُ بها فكأنما ... يتنازعونَ بها سخاب قرنفل) وقال أبي نواس:

(فأرسلتْ من فم الابريق صافيةً ... كأنما أخذُها بالعينِ إغفاءُ) وقوله: (ثم لما مزَجوها ... وثَبَتْ وثْبَ الجرادِ) (ثم لما شربُوها ... أخذَتْ أخذَ الرّقادِ) ومن شعر المتقدمين قول الأخطل: (أناخوا فجرُ شاصياتٍ كأنها ... رجالٌ من السودانِ لم يتسربلوا) (لم يتسربلوا) تتميم حسن، والبيت من أحسن ما قيل في الزقاق: (فقلت اصبحوني لا أبا لأبيكم ... وما وضعوا الأثقالَ إلا ليفعلوا) (تدبُ دبيباً في العظام كأنهُ ... دبيبُ نمال في نقاً يتهيلُ) أحسن ما قيل في خروج الخمر من المبزال قول أبي نواس: (وخندريسٌ باكرت حانتها ... فودّجوا خصرها بمبزالِ) (فسالَ عرقٌ على ترائبها ... كأنَ مجراهُ فتلُ خلخالِ) وقال ابن المعتز: (تخرج من دنَّها وقد حدبت ... مثل هلالٍ بدا بتقويس) وقوله (بدا بتقويس) فضل لا يحتاج إليه لأن الهلال لا يبدو إلا بتقويس. وقال: (جاءتك من بيتِ خمارٍ بطينتها ... صفراء مثل شعاعِ الشمسِ تتقدُ) (فأرسلتْ من فم الإبريق فانبعثت ... مثل اللسانِ بدا واستمسك الجسدُ) إلا أن هذا في وصفها جارية من فم الإبريق، وقال في المعنى الأول: (سعى إلى الدَنَ بالمبزال يبقره ... ساق توشح بالمنديل حينَ وثب) (لما وجاها بَدتْ صفراء صافية ... كأنَّه قدَّ سيراً من أديم ذهب) وقلت: (قد بزل الدَنَ فقومي انظري ... زنجيةً تفتلُ خلخالا) (واسقنيها واشربي واطربي ... وجرّري في الهواء أذيالا) (تنعمي ما أسطعتِ واستمتعي ... إنَّ وراءَ المرءِ أهوالا)

أبلغ ما قيل في الكبر الذي يعتري المنتشي قول الأخطل يخاطب عبد الملك: (إذا ما نديمي علني ثمَ علّني ... ثلاث زجاجاتٍ لهنَ هديرُ) ( ... خَرَجتُ أجرُ الذيلَ حتى كأنني ... عليك أميرَ المؤمنينَ أميرُ) وإنما صار ذلك أحسن من غيره لأنه خاطب به ملك الدنيا وقال أنا أمير عليك في ملك الحال. والأصل فيه قول حسان: (ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاءُ) هذا الشعر للمخبل اليشكري: (وإذا سكرتُ فإنني ... ربُ الخورنقِِ والسريرِ) (وإذا صحوتُ فإنني ... ربُ الشويهةِ والبعيرِ) وأجاد ابن الرومي القول في تفسيح أمل السكران حتى يأمل ما لايجوز وجدوهُ وهو قوله: (ومدامةٍ كحشاشةِ النفسِ ... لطفتْ عن الإدراك والحسَ) (لنسيمها في قلبِ شاربِها ... روحُ الرجاءِ وراحةُ النفسِ) (وتمدُ في أمل ابن نشوتها ... حتى يؤمل مرجع الأمسِ) وأجود ما قيل في صفة السكران قول عبد الله بن عبد الله بن عتبة: (وشربك من ماءِ الكرومِ كأنهُ ... إذا مجَ صرفا في الإناء خضابُ) (صريعُ مدامٍ والندامى يلونهُ ... وفي الشدقِ قيءٌ سائل ولعاب) وقريب منه قول الآخر في حماد الرواية: (نِعم الفتى لو كانَ يعرفُ ربهُ ... ويقيمُ وقتَ صلاتهِ حمادُ) (هدلتْ مشافرُه المدامَ وأنفهُ ... مثل القدُوم يسنها الحدادُ) (وابيضَّ من شربِ المدامةِ وجههُ ... فبياضهُ يومَ الحسابِ سوادُ) وأبدع ما قيل في صفة أنف السكران إذا تورم من السكر قول الآخر: (وشربتَ بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدَنان كأنَ أنفك دمَل)

ومن جيد ما قيل في مبادرة اللذات قول أحمد بن أبي فنن: (جَدَّدِ اللذاتِ فاليوم جديد ... وامض فيما تشتهي كيفَ تريدُ) (اله إن أمكنَ يوم صالح ... إنَّ يومَ الشربِ لا كان عتيدُ) وقال ديك الجن: (تمتع من الدُنيا فأنك فإنك ... وإنك في أيدي الحوادثِ عاني) (ولا تنظرن اليوم لهوا في غد ... ومن لغدٍ من حادث بأمان) ِ ... (فإني رأيتُ الدَهرَ يسرعُ بالفتى ... وينقله حالينِ يختلفان) (فأما الذي يمضي فأحلامُ نائم ... وأما الذي يبقى له فأماني) ونحوه قول عمران بن حطان: (يأسفُ المرء على ما فاتهُ ... من لباناتٍ إذا لم يقضها) (وتراهُ فرحاً مستبشراً ... بالتي أمضى كأنْ لم يمضها) (عجباً من فرح النفسِ بها ... بعدَ ما قد خرجتْ من قبضها) ِ ... (إنها عندي أحلام الكرى ... لقريب بعضها من بعضها) وقال ابن المعتز: (وبادر بأيام السرورِ فإنها ... سراعٌ وأيامُ الهموم بطاءُ) (وخَلَ عتابَ الحادثاتِ لوجهها ... فإنَ عتابَ الحادثاتِ عناءُ) (تعالَوا فسقوا أنفساً قبل موتها ... ليالي ليأتي ما وهنَ وراءُ) ونحر عجير السلولي جمله لأصحابه وجعل يشرب معهم ويقول: (عللاني إنما الدُنيا عللْ ... واتركاني من عتاب وعذلْ) (وانشلا ما اغبرَّ من قدريكما ... واسقياني أبعد اللهُ الجمل)

وقال أحمد المادرائي: (عاقر الراحَ ودع نعتَ الطللْ ... واعصِ من لامك فيها وعذْل) (غادها واسعَ لها واغرَبها ... وإذا قيلَ نصاباً قل أجلْ) (إنما دنياك فاعلمْ ساعةٌ ... أنتَ فيها وسوى ذاك أملْ) ولابن بسام: (واصلْ خليلك وإنما الدُنيا ... مواصلةُ الخليل) (وانعم ولا تتعجل المكروهَ ... من قبلِ النزولِ) (بادرْ بما تهوى فما ... تدري متى وقتُ الرحيل) (وارفض مقالةَ لاثم ... إنَ الملامَ من الفضولِ) وقد أجاد ديك الجن في قوله يصف السكر، واسمه عبد السلام بن رغبان الحمصي: (أستغفرُ اللهَ لذنبي كله ... قتلتُ إنسانا بغيرِ حلَّه) (وانصرمَ الليلُ ولم أصلهِ ... والسكرُ مفتاحٌ لهذا كلِّه) قد أوطأ إلا أنه أصاب المعنى. وقال أيضاً: (مشعشعة من كفَ طبيٍ كأنما ... تناولها من خَدهِ فأدارها) (فظلتْ بأيدينا نتعتعُ روحها ... وتأخُذُ من أقدامنا الرَاحُ ثارها) وهذا معنى بديع حسن أخذه أبو تمام منه وكان كثير الأخذ منه فقال: (إذا اليدُ نالتها بوترٍ توَقَدَتْ ... على ضعفها ثم استقادَتْ من الرجلِ) وبيت عبد السلام أجود منه. أحسن ما قيل في وصف الساقي إذا أخذ الكأس قول الآخر:

(كأنهُ والكأسُ في كفهِ ... بدرٌ إلى جانبهِ كوكبُ) وقلت: (وطالعني الغلامُ بها سحيراً ... فزادَ على الكواكبِ كوكبانِ) ومما يدخل في مختار هذا المعنى قول ابن الرومي (ومهفهف تمت محاسنه) وقد مر. ولم أسمع في هذا المعنى أجود من قول الآخر: (فكأنهُ وكأنها وكأنهم ... قمرٌ يدورُ على النجومِ بأشمسِ) ومثله في الجمع قول الآخر: (فالكفُ عاجٌ والحبابُ لآليءٌ ... والراحُ نيرٌ تبرء والزجاجُ زبرجدُ) وأجود ما قيل في قيام السقاة بين الندامى قول ابن المعتز: (بينَ أقداحِهمْ حديثٌ قصير ... هو سحرٌ وما سواهُ الكلام) (وكأنَ السقاةَ بينَ الندامى ... ألفاتٌ بينَ السطورِ قيامُ) فشبه اصطفاف الشرب جلوساً بالسطر والسقاة بينهم بالألفات فأحسن. ومن البارع الداخل في هذا الباب قول عنترة: (وإذا سكرتُ فإنني مستهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يكلمِ) (إذا صحوتُ فما أقصِّر عن ندىً ... وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي) أخذه البحتري فزاد عليه في قوله: (ومازلت خلاً للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدوراً يستحثونَ أنجما) (تكرمت من قبلِ الكؤس عليهم ... فما اسطعنَ أن يحدثن فيك تكرُّما) والزيادة أن عنترة ذكر أنه يستهلك ماله إذا سكر، والبحتري ذكر أنه تكرم قبل الكؤوس فيبالغ حتى لا تستطيع الكؤوس أن تزيده تكرماً. ومن أطرف ما قيل في حسن الندامى قول بعضهم: (لقد علمَ الريحانُ والرَّاحُ أنني ... على الكأس والندمانِ غير جهولِ) (فإن ساءني منهمْ مقامٌ غفرتهُ ... ولستُ إلى ما ساءَهم بعجولِ) قوله (لقد علم الريحان والراح أنني ... ) في غاية الظرف وشبيه البيت

الثاني قول الآخر: (ليسَ من شأنهِ إذا دراتِ الكأسُ ... فأزرى ادمانهُ بالحلومِ) (قولُ ما أسخط النديمَ وإن أسخطهُ ... عند ذاك قولُ النديم) إلا أن في هذين البيتين عيبين أحدهما التضمين والآخر قول عند ذاك وهي زيادة لا يحتاج إليها. وقال يحيى بن زياد: (ولستُ له في فضلة الكأسِ قائلاً ... لأصرفهُ عنها تحس وقد أبى) (ولكن أحيِّيه وأكرمُ وجهه ... وأشربُ ما أبقى وأسقيهِ ما اشتهى) (وليسَ إذا ما نام عندي بموقظٍ ... ولا سامع يقظان شيئاً من الأذى) وهذا جامع جداً. ومن جيد ما قيل في مدح النديم قول أعرابي وقد قيل له: كم تشرب من النبيذ؟ قال على قدر النديم. ومن المنظوم قول بعضهم: (ورضيع راضعت في كبرِ السن ... فأضحى أخاً لدىَ مطاعا) (لم يكنْ بيننا رضاعٌ ولكنْ ... صيرتْ بيننا المدامُ رضاعا) وهو من قول الناشئ: المدام الرضاع الثاني. ويقولون ذكرُ الرجل عمره الثاني 0 وروى ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: لا تكرم أخاك بما يشق عليه، قالوا معناه لا تسقيه من النبيذ ما لا يقوم به 0 وجعل آخر النديم قطب السرور في قوله: (أرَى للرَاح حقاً لا أرَاهُ ... لغير الراحِ إلا للنديمِ) (هو القطبُ الذي دارَت عليهِِ ... رَحا اللذاتِ في الزَمنَ القديمِ) وقلت: (لما تبدَّى وَجْههُ ... كالبدرِ من خلل الغمامِ) (وكأنَهُ ضوءُ الصباح يميسُ في خلع الظلامِ) (آثرتُ طاعةَ حبه ... واخترتُ معصيةَ المدام) (لا أستفيدُ من المدام ... سوى منادمةِ الكرام) (فإذا حننتُ إلى الندام ... فقد حننت إلى المدامِ)

(خلق النديم إذا صفا ... أغناك عن صفو المدامِ) وفاخر كاتب نديماً فقال: أنا معونة وأنت مؤونة وأنا للجد وأنت للهزل وأنا للشدة وأنت للرخاء وأنا للحروب وأنت للسلم فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة وأنا للخظوة وأنت للمهنة تقوم وأنا جالس وتحتشم وأنا مؤانس تدأب لمرضاتي وتمسي لما فيه سعادتي فأنا شريك وأنت معين كما إنك تابع وأنا قرين فغلبه وقلت: (ما أعافُ النبيذَ خفية إثم ... إنما عفتهُ لفقدِ النديمِ) (ليس في اللهو والمدامةِ حظٌ ... لكريمٍ دونَ النديمِ الكريمِ) (فتخبر قبلَ النبيذِ نديماً ... ذا خلالٍ معطراتِ النسيم) (وجمالٍ إذا نظرتَ بديع ... وضميرٍ إذا اختبرتَ سليم) وأحسن ما قيل في احمرار لون الشارب من الشعر القديم قول الأعشى: (وسبيئةٍ مما تعتقُ بابلُ ... كدمِ الذَّبيحِ سلبتها جريالها) الجريال: اللون. وقال بعض المحدثين: (نفضت على الأجسام حمرةَ لونها ... وسرتْ بلذَّتها إلى الأرواحِ) وأخذ الناجم قول الأعشى (سلبتها جريالها) فقال: (فخذها مشعشعةَ قهوة ... تصبُ على الليلِ ثوبَ النهارِ) (ويسلُبها الخدُ جريالَها ... فتهديه للعينِ يومَ الخمارِ) إلا أن هذا فيه زيادة وهو قوله (فتهدية للعين يوم الخمار) وهو في صفة حمرة العين من الخمار جيد إلا أن قوله (مشعشة قهوة) ردئ ووجه نظم اللفظ أن يقال قهوة مشعشعة، ألا ترى أنك تقول خمر ممزوجة ولا تقول ممزوجة خمر، وإن كان جائزاً فليسم كل جائز حسن فاعلم ذلك. وقلت: (شقائقٌ كناظرِ المخمور ... وأقحوانٌ كثغور الحورِ) (ونرجسٌ كأنجم الديجور ... )

فشبهت ما يعتري بياض العين والحماليق من الحمرة عند الخمار مع السواد الحدقة بحمرة الشقائق حول سوادها. وقد أحسن أبو نواس في ذكر مزاج الكأس حيث يقول: (ألا دارها بالماءِ حتى تُلينها ... فلنْ تكرمَ الصّهباء حتى تهينَها) (أغالي بها حتى إذا ما ملكتها ... أدلت لا كرام الصديق مصونها) (وصفراء قبلَ المزج بيضاءَ بعدهُ ... كأنَ شعاعَ الشمسِ يلقاكَ دونها) (ترى العينَ تستعفيك من لمعانِها ... وتحسرُ حتى ما تُقل جفونَها) أخذه ابن دريد فقال: (وحمراء قبلَ المزج صفراء بعده ... بَدَتْ بينَ ثوبي نرجس وشقائقِ) (حكتْ وجنةَ المعشوقِ صِرفاً فسلطواِ ... عليها مزاجاً فاكتستْ لونَ عاشق) ومن أجود ما قيل في صفة القيان: (بَدَتْ في نشوةٍ مثل المها ... أدمجنَ إدماجا) (يجاذبنَ من الأردافِ كثباناً وأمواجاً) (وقضباناً من الفضة ... قد أثمرتِ العاجا) (ويسترنَ من الأبشارِ في الدِّيباج ديباجا) (وقد لاثتْ من الكورِ ... على مفرقها تاجا) (فلما طفنَ بالمجلس ... أفراداً وأزواجاً) (تجاذبنَ فغنينك ... أرمالاً وأهزجا) (وحركنَ من الأوتار ... أمساداً وادراجا) (فلا لومَ على قلبك ... إن هيجَ فاهتاج) ومن جيد ما قيل في بحة حلق المغني قوله أيضاً: (أشتهي في الغناء بحة حلقٍ ... ناعم الصوت متعب مكدودِ) (كأنين المحبَ أضعفهُ الشوقُ فضاهى به أنينَ العودِ) (لا أحبُّ الأوتارَ تعلو كما لا ... أشتهي الضربَ لازماً للعودِ)

(وأحبُ المجنبات كحبي ... للمبادي موصولة بالنشيدِ) (كهبوبِ الصبا توسط حالاً ... بينَ حالينِ شدَّة وركودِ) وقد أحسنَ ابن المعتز في صفة أنامل القينة: (وتلفظُ يمناها إذا ضربتْ بها ... وتنثرُ يسراها على العودِ عُنّابا) وقلت: (وهيّجتْ ليَ من شوقٍ ومن فرحٍ ... أيدٍ نثرنَ على الأوتار عُنّابا) (لا عيبَ في العيشِ إلا خوفُ غيبتِكم ... إنَّ السرورَ إذ ما غبتمُ غابا) ومن أحسن ما قيل في وصف المغني قول ابن المعتز: (ومغن ملحقٌ كلَ نفسٍ ... بهواها وهو للسكر عذر) د (لا يمدُ الصوت فيه نفورٌ ... لا ولا يقطعنه منه بهرُ) وأجمع من ذلك قول ابن الرومي: (تتغنى كأنها لا تغني ... من سكون الأوصالِ وهي تجيدُ) (مدَ في شأوِ صوتها نفسٌ كافٍ ... كأنفاسِ عاشقيها مديدُ) (ولها الدَهر لاثمٌ مستزيد ... ولها الدَهر سامعٌ مستعيدُ) وللناجم من أبيات: (مندرة في كلِّ أصواتها ... لا كالتي تندرُ في الندره) وقول الآخر: (إذا وقَع بالعودِ ... زمرنا بالكؤس (له)) فأما أعجب ما قيل في ذم المغني والتنائي من سماعه فقول ابن الرومي: (فظلتُ أشربُ بالأرطال لا طرَباً عليه بل طَلَباً للسّكرِ والنومِ) ومن أحسن ما قيل في مجالس الشرب قول أبي نواس: (في مجلسٍ ضحكَ السرورُ بهِ ... عن ناجذَيه وحلتِ الخمر) وقد أحسن ديك الجن في وقوله: (كأنما البيتُ بريحانه ... ثوبٌ من السندسِ مشقوق)

ومثله قول الصنوبري: (وقد نظم الروض سمطيه من ... سنان نؤيق إلى زجه) (كفرجك خفتان وشي بد ... بياضُ الغِلالة من فرجِهْ) ورأيت قوماً يستحسنون هذين البيتيت وهما بالاستهجان أولى لا لرداءة معناهما ولكن لتكلف ألفاظهما، وليس التكلف أن تكون الألفاظ غريبة وحشية، بل وقد يكون الكلام متكلفا وإن كان ظاهر اللفظ إذا لم يوضع في موضعه وخولف به وجه الاستعمال. وقال السري ولا أعرف في معناه أحسن منه يدعو صديقاً له: (ألستَ ترى ركبَ الغمامُ يُساقُ ... وأدمعه بين الرياضِ تُراقُ) (وقد رقَ جلبابُ النسيمِ على الثرى ... ولكنْ جلابيبُ الغيومِ صفاقُ) (وعندي من الرَيحانِ نوع تحية ... وكأسٌ كرقراق الخلوقِ دهاق) (وذو أدب جلتْ صنائع كفه ... ولكن معاني الشعرِ فيه دقاق) (لنا أبداً من نثره ونظامهِ ... بدائعُ حليٍ ما لهنَ حقاق) (وأغيد مهتزٌ على صحنِ خدِّه ... غلائلُ من صبغِ الحياءِ رقاقُ) (أحاطتْ عيونُ العاشقينَ بخصرهِ ... فهنَ له دونَ النطاقِ نطاقُ) هذا البيت من قول المتنبي: (وخصرٍ تثبتُ الأبصارُ فيهِ ... كأنَ عليهِ من حدقٍ نطاقا) وقد مر، وبيت السري أجود منه سبكاً ونظماً ورصفاً: (وقد نظم المنثور فهو قلادة ... علينا وعقدٌ مذهبٌ وخناق) (وغرفتنا بينَ السحائب تلتقي ... لهن علينا كلة ورواقُ) (تقسم زوارٌ من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاقُ) وليس في هذه الأبيات عيب إلا هذا الأبطاء، وهو من أسهل العيوب التي تعتري القوافي عندهم: (أعاجم تلتذُ الخصام كأنها ... كواعبُ زنجٍ راعهنَ طلاق)

(أنسن بنا أنسَ الأماء تحببت ... وشيمتها غدرٌ بنا وإباقُ) (مواصلة والوردُ في شجراته ... مفارق إلف حانَ منه فراق) (فزر فتيه بردُ الشرابِ لديهمُ ... حميمٌ إذا فارقْتَهم وغساقُ) وقلت: (وليلٍ ابتعتُ به لذَّةً ... وبعتُ فيه العقلَ والدَنيا) (أصابَ فيهِ الوصلُ قلبَ الجوى ... وباتَ فيه الهمُ مسكينا) (وقد خلطنا بنسيم الصبا ... نسيمَ الراح ورياحينا) (واكؤسُ اراح نجومٌ إذا ... لاحتْ بأيدينا هوتْ فينا) (تضحك في الكأس أباريقنا ... وحسبما يضحكنَ يبكينا) (كأن أعلاها إذا كفرتْ ... يعقد الكأس ثلاثينا) وقلت: (هذا حبيبٌ وصول ... وذا رقيبٌ صرومُ) (وذاك شرخُ شبابٍ ... أغرّ وهو بهيم) (وقهوةٌ وغناءٌ ... وسامرٌ ونديم) (فخذ نصيبك منه ... فليس شئ يدومُ) وهذا من أجمع ما قيل في هذا الباب. وقال الصنوبري: (يومٌ ذيولُ مزنه ... على الثرى منسحبه) (بروقهُ سافرةٌ ... وشمسه منتقبه) (فما سيء؟ سماءه ... ضاحكة منتحبه) (طلبتُ أقصى أملي ... منه فنلتُ الطُلبه) (بسيدينِ ارتقيا ... منقبةً فمنقبه) (واتفقا في كنيةٍ ... والتقيا في مرتبه) (نشربها عذراءَ قد ... قامتْ بحقّ الشربه) (أكرمُ ذخرٍ ذخرته ... كرمةٍ في عنبه)

(في مجلس أطنابه ... على العلا مطنبه) (أكرمْ بهِ يوماً مضتْ ... ساعاتهُ المستعذبه) (كلحظةٍ مخلوسةٍ ... وقبلة مستلبة) وقلت: (عندنا طيبٌ وريحانٌ ... ونقلٌ وغناء) (ومن المشروبِ لونانِ ... شمولٌ وطلاء) (ومن اللحم خليطان ... طبيخٌ وشواء) (ومن الحلواء ألوانٌ أحاد وثناء) (ولنا غلمانُ صدقٍ ... أدباءٌ أرباء) (أرسلوا في الصحن ماءً ... فكأنَ الصحنَ ماء) (وانثنوا للحسنِ عدواً ... فحواشيه رداءُ) (فأت ننفِ الهمّ عنا ... إنما الهمُ بلاءُ) (واغتنمْ لذَّةَ يومٍ ... قد تخطاهُ العناءُ) (فهو يطويك ويمضي ... ليسَ للدُّنيا بقاءُ) ومن المشهور في صفة السكارى قول بعضهم: (مشوا إلى الرَّاح مشيَ الرَّخّ وانصرفوا ... والراحُ تمشي بهم مشىَ الفرازين) (غدوا إليها كأمثالِ السهامِ مَضتْ ... عن القسيّ وراحوا كالعراجين) (وكانَ شربهمُ في صدرِ مجلسهم ... شربَ الملوكِ وناموا كالمساكين) ومثل البيت الأول: (راحوا عن الرّاح وقد بدَّلوا ... مشىَ الفرازينِ بمشيِ الرّخاخِ) ومما يجري مع هذا قول الآخر: (تزيدُ حسا الكأس السفيهَ سفاهةً ... وتتركُ أخلاقَ الكريم كماهي) (وإنَ أقلَ الناسِ عقلاً إذا انتشى ... أقلهمُ عقلاً إذا كانَ صاحيا) ومن أحسن ما أنشد في الخيش ما أنشدناه أبو أحمد ولم يسم قائله ورأيته

بعد في ديوان السري: (وقد نشأتْ بينَ الكؤس غمامةٌ ... من الندَ إلا أنها ليسَ تهطلُ) (وعلَ بماء الوردِ خيش كأنهُ ... على جلدهِ ثوبُ العروس المصندلُ) وقلت: (ظبيٌ يروقُ الناظرينَ بأبيضٍ ... وبأسودٍ وبأخضرٍ وبأشكل) (ومقوم مثل القضيبِ مهفهف ... ومعوج كالصولجانِ سيل) (ومفرَّج من خدِّه ومكفر ... ومخلق من شعره ومسلسل) (وبياض وجه بالصباح مقنع ... وسواد فرع بالظلام مكلل) (علقتْ أباريقُ المدام بكفه ... كالبدرِ يعلق بالسماك الأعزل) (وعلا دخانُ الندَ أبيض ساطعاً ... مثل الغمامةِ غير أن لم يهمل) (فكأنما الكاساتُ في حافاته ... شقرُ الخيولِ تجولُ تحت القسطلِ) (ومن أبدع ما قيل في ذلة الغناء قول الناجم: (شدو ألذ من ابتداء ... العينِ في إغفائها) (أحلى وأشهى من مُنى ... نفسٍ وصدقِ رجائِها) وأجود ما قيل في الاصغاء إلى الغناء والسكوت له قول الآخر: (وأصغوا نحوها اللآذان حتى ... كأنهم وناموا نيامُ) ومن عجيب المعاني في الغناء قول أبي تمام: (حمدتكَ ليلة شرفُتْ وطابتْ ... أقام سهادُها ومضى كراها) (سمعتُ بها غناءُ كان أولى ... بأن يقتادَ نفسي من عناها) (ومسمعةً تفوت السمع حسناً ... ولم تصممهُ لايصمم صداها) (مرت أوتارها فشقت وشاقت ... ولو يستطيعُ حاسدها فداها) (ولم أفهم معانيها ولكنْ ... ورتْ كبدي فلم أجهل شجاها)

(فكنتُ كأنني أعمى معنى ... بحبّ الغانياتِ ولا يراها) وكان ينبغي أن يقول (فداها حاسدها) وليس لقوله (فلا يسطيع حاسدها) معنى مختار. وأول من أتى بهذا المعنى حميد بن ثور في قوله: (عجبتُ لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بنمطقها فما) (ولم أرَ محقوراً لها مثل صوتها ... أحس وأشجى للحزين وأكلما) (ولم أرَ مثلي شاقه صوتُ مثلها ... ولا عربياً شاقَه صوتُ أعجما) ومن أحسن أوصاف العود إذا احتضن تشبيههم إياه بالولد في حجر أمه وتشبيه إصلاحه بعرك أذنه فمن أحسن ما قيل في ذلك وأجمعه قول بعضهم: (فكأنه في حجرها ولدٌ لها ... ضمتهُ بينَ ترائبٍ ولبان) (طوراً تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركتْ له أذناً من الآذان) ومثله قول الناجم: (إذا احتضنتْ عابثٌ عودَها ... وناغتهُ أحسنَ أن يعربا) (تدغدغُ في مهلٍ بطنهُ ... فتسمعنا مضحكاً معجبا) وذكر الضحك مع الدغدغة جيد. ونظم كشاجم قول الحكماء إن العود مركب على الطبائع الأربع فقال: (شدتْ فجلتْ أسماعنا بمخفّف ... يحدِّثها عن سرِّها وتحدثه) (مشاكلة أوتارهُ في طباعها ... عناصر منها أحدثَ الخلقَ محدثه) (فاللنار منه الزيرُ والأرض بمُّه ... وللريح متناهُ وللماءِ مثلثه) (وكلُ امرئ يرتاحُ منهُ لنغمةٍ ... على حسبِ الطبع الذي منهُ يبعثه) (شكا ضربَ يمناها فظلتْ يسارها ... تطوقهُ طوراً وطوراً ترعِّثه) (فما برحَتْ حتى أرتنا مخارقا ... يجاذبهُ في أسحن النقر عثعثة)

(وحتى حسبت البابليين القنا؟ ... على لفظها السحر الذي فيه تنفثه) وأجود ما قيل في اتفاق الضرب والزمر قول هارون بن على المنجم: (غصن على دعصِ نقا منهالِ ... سعى بكأسٍ مثل لمعِ الآلِ) (وفاتناتِ الطرفِ والدلالِ ... هيف الخصورِ رجح الأكفال) (يأخذنَ من طرانف الأرمال ... ومحكمِ الخفافِ والنعال) (يجري مع الناسِ بلا انفصال ... مثل اختلاط الخمرِ بالزّلال) (يدعو إلى الصّبوةِ كلّ سال ... يصرعُ كلَ فاتكٍ بطّال) (ومن حرام اللهو والحلالِ ... أكرم من مصارعِ الأبطال) وقال كشاجم في وصف العود والقينة وأحسن: (تميسُ من الوشي في حُلةٍ ... تجررُ من فضل أذيالِها) (وتحملُ عوداً فصيحَ الجواب ... يضاهى اللحونَ بأشكالها) (لهُ عنقٌ مثل ساقِ الفتاة ... ودستانةٌ مثل خلخالها) (فظلتْ تطارحُ أوتارهُ ... بأهزاجها وبأرمالها) (وتعملُ جساً كجسَ العروق ... وتلوى الملاوي بأمثالها) وقيل لرجل أي المغنين أحذق؟ قال ابن سريج كأنه خلق من كل قلب فهو يغني لكل إنسان بما يشتيه. وأخبرنا أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال قال المغيرة للوليد بن يزيد بن عبد الملك إني خارج إلى العراق فاستهد ما أحببت فقال إهد لي بربطا من عمل زلزل فأهدي إليه عوداً وكتب إليه: قد بعثت به أرسح البطن أحدب الظهر صافي الوتر رقيق الجلد وثيق الملاوي كهيئة طاليه وملاحة محتضنه وحسن الضارب به وطرب المستمع له. ومن أحسن ما قيل في حسن الضارب ما تقدم ذكره وهو قول الناشئ (وكأن يمناها إذا ضربت بها ... ) وقال ابن الحاجب: (إذا هي جستهُ حكتْ متطبباً ... يجيلُ يديه في مجسِّ عروقِ)

وقد استحسنَ الناس هذا البيت وأجازوه وليس هو في طريقة الاختيار لأن الطبيب يجس بيد واحدة وكذلك الضارب فليسَ لذكر اليدين وجه. ومن جيد ما قيل في صحة عبارة العود عن الغناء قول ابن أبي عون: (تناجيك بالصوت أوتارهُ ... فتوفيك ألسنهُ أحرفه) وأبين منه قول الناجم: (إذا نوتَ الضربَ قبلَ الغناء ... أنشدنا شعرَها عودُها) وقلت: (ربَ ليل كساكَ ثوبَ نعيم ... بينَ ساقٍ وسامرٍ ونديمِ) (وكؤوس جرتْ وراءَ كؤوس ... وأعانتْ على طريق الهموم) (ولنا مزهرٌ كمثلِ فطيم ... في يدي مطرب كأم الفطيم) (وسموا صدره بعاج وذبل ... فزهتهُ محاسنُ التوسيم) (مثل أرضٍ تحبرتْ بأقاح ... أو سماء تكللتْ بنجوم) (ذو ملاوٍ سودِ الفروع وحمر ... مثل أطرافِ فرحةٍ ونعيم) (ووسابين لا تجولُ عليهِ ... كخلاخيل ماردٍ وظلوم) (أحمر الزير أسود ألم أحوى ... هلْ رأيتم جداولَ التقويم) ومن جيد ما قيل في سرعة الضرب والجس قول كشاجم: ِ (وترى لها عوداً تحركهُ ... وكلامه وكلامها وفقا) (لو لم تحركهُ أناملها ... كانَ الهواءُ يفيدُهُ نطقا) (جستهُ عالمةً بحالتهِ ... جسَ الطبيبِ لمدنفٍ عرقا) (فحسبت يمناها تحركهُ ... رعداً وخلت يمينها برقا) وقال بعضهم في رقاص: (عجبتُ من رجليه تتبعانه ... يعلوهما طوراً ويعلوانه) (كأنَّ أفعيين تلسعانه ... ) ومما لم يقل مثله في إزالة الخمار بمعاودة الشرب قول الأعشى:

(وكأس شربتُ على لذَّة ... وأخرى تداويتُ منها بها) كل من أخذ هذا المعنى منه قصر في العبارة عنه ولا يجوز أن يؤتى بمثله، قال أبو نواس (وداوني بالتي كانت هي الداء ... ) فحشا الكلام بمالا وجه له وهو قوله كانت هي الداء، وقال المجنون (كما يتدواى شارب الخمر بالخمر ... ) ولا يقع هذا مع قول الأعشى موقعاً، ومثله قول البحتري: (تدوايتُ من ليلى بليلى فما اشتفى ... من الداءِ من قد باتَ بالداءِ يشتفي) ومن جيد ما قيل في الدنان والزقاق قول الأخطل (أناخوا فجروا شاصيات ... ) وقد مر. وقد أحسن ابن المعتز في صفة الدنان: (ودنانٍ كمثلِ صفَ رجالٍ ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا) وقال العلوي الأصفهاني في الزق: (عجبتُ من حبشيّ لا حَراكَ به ... لا يدركُ الثأرَ إلا وهو مذبوحُ) (طوراً يرى وهو بين الشرب مضطجعٌ ... رغو الزقاقٍ وطوراً وهو مشبوحُ) وفي ألفاظ العلوي زيادة على معناه في أكثر شعره، وأخذ البيت الأول من قول بشار يصف ركب المرأة: (وصاحب مطرق في طولِ صحبتهِ ... لا ينفعُ الدَهرَ إلا وهو محمومُ) وإن كان المعنيان مختلفين إلا أن حذوا الكلامين حذوا واحد. وقال ابن المعتز: (إن غدا ملآن أمسى فارغاً ... كأسير الَرقَ أدى فعتق) وقال القطامي: (استودعتها رواقيداً مقيرةً ... دكن الظواهر قد برنسن بالطينِ) (مكافحات لحرَ الشمس قائمة ... كأنهنَ نبيطٌ في تبابين) وقال آخر: (تحسبُ الزقَ إذا أسندته ... حبشياً قطعتْ منهُ الشوى) وقال العلوي الأصفهاني يصف شراباً في ظرف خزف: (مخدرةٌ مكنونةُ قد تكشفتْ ... كراهبةٍ بينَ الحسانِ الأوانسِ)

(وأترابُها يلبسنَ بيضَ غلائل ... هيَ العرىُ مقرورٌ بها كلُ لابس) (مشعشة مرهاءُ ما خلتُ أنني ... أرى مثلها عذراءَ في زيَ عانس) المعنى الجيد وفي الألفاظ زيادة وليس لها حلاوة. وقال آخر في الراووق: (كأنما الرَّاووقُ وانتصابه ... خرطومُ فيلٍ سقطتْ أنيابهُ) وفيه (سماء لاذ قطرَها رحيقُ ... رَحْبُ الذُّرى ينحط فيه الضيقُ) (ماء حقيق لو جرى العقيقُ ... حتى إذا ألهبها التصفيقُ) (صحنا إلى جيراننا الحريقُ ... ) وأنشد أبو عثمان: (فبتُ أرى الكواكبَ دانياتٍ ... ينلنَ أناملَ الرجَلِ القصيرِ) (أدافعهن بالكفين عني ... وأمسحُ عارضَ القمرِ المنير) أبو حيكم فمن حكمت كأسك فيه فاحكم له بإقالة عند العثار.؟ في ضعف السكر: (فديتك لو علمتَ بضعفِ سكري ... لما سقيتني إلا بمسعط) (بحسبك أنَ خماراً بجنبي ... أمُرُ ببابهِ فأكادُ أسقط) ولابن الرومي في نبيذ حامض: (قد لعمري اقتصصتَ من كلَ ضرس ... كان يجني عليك في رغفانك) (قد رددناهُ فاتخدهُ لسكباجك ... والنائبات من أدقانك) (واتخذهُ على خوانكِ خلا ... فهو أولى بالخل من إخوانك) (أضرستنا حموضةٌ فيه تحكي ... رعدة تعتريك من ضيفانك) معنى آخر: (إسقني بالكبير إني كبير ... إنما يشربُ الصغيرَ الصغيرُ) (لا يغرنك يا عبيد خشوعي ... تحتَ هذا الخشوع فسقٌ كثيرُ)

وكان ابن عائشة ينشد: (لما رأيتُ الحظّ حظَّ الجاهلِ ... ولم أرَ المغبونَ غيرَ العاقلِ) (رحلت عنا من كروم بابل ... فبتُّ من عقلي على مراحلِ) وقال غيره في نبيذ الدبس: (علني أحمد من الدوشاب ... شربة نفضت سوادَ الشبابِ) (لو تراني وفي يدي قدحُ الدو ... شابِ أبصرتَ بازياً في غرابِ) وقال بعضهم في كيزان الفقاع: (لستُ بناف خمار مخمور ... إلا بصافي الشرابِ مقرورِ) (يطيرُ عن رأسهِ القناع إذا ... نفست عنه خناق مزرور) (يميلُ أعلاهُ وهو منتصبٌ ... كأنهُ صولجانٌ بللورِ) وقلت: (أبيض في أحشاء خضر كأنها ... قصارُ رجال في المسول قعود) وقال بعضهم في الطنبور: (مخطفُ الخصرِ أجوفُ ... جيدهُ نصفُ سائره) (أنطقتهُ يدا فتى ... فاتنِ اللحظ ساهره) (فحكى عن ضميرهِ ... ما جرى في خواطره) وقال آخر في المعزفة: (معلنةُ الأوتارِ صخابةٌ ... لها حنينٌ كحنينِ الغريبِ) (مكسوةٌ أحشاؤها حُلةً ... بيضاءَ من جلدِ غزالٍ ربيب) (كأنما تسعةُ أوتاره ... نصبنَ أشراكاً لصيد القلوب)

هذا كتاب المبالغة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل السماء سقفاً محفوظاً شيد بنيانها ووثق أركانها فأمنها من التهافت وبراها من التفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير وصير لونها أوفق الألوان لأبصار الناظرين وأحلاها في أنفس المتوسمين وحبرها بالنجوم وطرزها بالرجوم وبيض أعلام صبحها وسود ذوائب ليلها وجلا غرة شمسها ومسح صفحة قمرها وقدره في منازله وخالف بين مناظره لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق. وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنبياء وأكرم الأصفياء وعلى عترته وأصحابه المختارين وسلم تسليماً كثيراً. (هذا كتاب المبالغة) (في وصف السماء والنجوم والليل والصبح والشمس والقمر) وما يجري مع ذلك: وهو (الباب السادس من كتاب ديوان المعاني ثلاثة فصول) (الفصل الأول) في ذكر النجوم أحسن ما قيل في النجوم من الشعر القديم قول امرئ القيس: (نظرتُ إليها والنجومُ كأنها ... مصابيحُ رهبان تشبُ لقفال)

وقول الآخر: (سرينا باليلٍ والنجومُ كأنها ... قلادةُ درٍ سلَ عنها نظامُها) وقد أصاب القائل التشبيه في وقوله: (ورأيتُ السماءَ كالبحرِ إلا ... أنَ مرسوبه من الدرَ طافي) (فيهِ ما يملأ العيونَ كبير ... وصغيرٌ ما بينَ ذلك خافي) المعنى جيد وليس للألفاظ رونق. وقال ابن طباطبا في معناه: (أحسن بها لججاً إذا التبسَ الدُّجى ... كانتْ نجومُ الليل حصباءَها) وأحسن من هذا كله لفظاً وسبكاً مع إصابة المعنى قول ابن المعتز: (كأنَ سماءَها لما تجلتْ ... خلال نجومها عندَ الصباحِ) (رياضُ بنفسج خضل نداه ... تفتحَ بينها نورُ الأقاحي) إلا أنه مضمن. وقلت: (لبسنا إلى الخمارِ والنجمُ غائرٌ ... غلالةَ ليلٍ بالصباح مطررِ) (كأن بياضَ النجم في خضرة الدُجى ... تفتحَ وردٍ بينَ رندٍ وعبقرِ) وقلت: (كم سرور زرعتُ بينَ الندامى ... وهموم طرَدتُ بينَ الكؤوس) (وتلوح النجومُ في ظلمةِ الليلِ ... كعاج يلوحُ في أبنوسِ) وقلت: (بليل كما ترنو الغزالةُ أسودٍ ... على أنه مِنْ نورِ وجهك أبيض) ِ ... (كواكبه زهرٌ وصفرٌ كأنها ... قبائع منها مذهبٌ ومفضضُ) وفي النجوم ما هو أبيض ومنها ما هو أصفر وأحمر فشبه الأبيض بقبيعة مفضضة والأصفر والأحمر بالمذهبة والذهب يوصف بالحمرة والصفرة، ومثل هذا التمييز قليل في الشعر. وقال ابن المعتز:

(وخلتُ نجومَ الليلِ في ظُلَمِ الدُجى ... خِصاصاً أرى منه النهار والنقابا) وقد أحسن الناشئ القول في اشتباك النجوم والتفافها حيث يقول: (وردت عليها والنجوم كأنها ... كتائبُ جيش سومت لكتائبِ) وقلت: (وأنجم كربرب في شهُب ... كالشهبِ تجري في خلالِ خطبِ) (والحور ترنو من خلال الحجب) ومن أحسن ما قيل في الثريا قول امرئ القيس: (إذا ماالثريا في السماء تعرضتْ ... تعرضَ أثناء الوشاحِ المفصلِ) وقد استحسن الناس هذا البيت في صفة الثريا على قديم الدهر وقدموه، ثم قال بعضهم وهو معيب لأن التعرض إنما هو أن يبدي لك عرضه أي جانبه قال والثريا تشق وسط السماء شقاً. وقالوا أحسنه قول ذي الرمة: (وردتُ اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمّةٍ الرأسِ ابنُ ماء محلِّق) وقالوا أحسنه قول ابن الطثرية: (إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمانٌ وهي من سكلهِ فتبدّدا) أنشد عبد الملك بن مروان هذا البيت فقال ما هي بمتبددة ولكنها مرصوفة. قال أبو هلال: وإنما أرادها عند غروبها وهي متبددة عند الغروب، وامرؤ القيس أيضاً أرادها حين تغيب لأنها حينئذ تنحرف من وسط السماء إلى جانب، وأحسن الوصف ما يتضمن أكثر صفات الموصوف، والوشاح وابن الماء إنما شبهابها من جهة البياض فقط. وأخذ معنى ابن الأسلت بعض المحدثين فقال: (قد انقضتْ دولةُ الصيام وقد ... بشرَ سقمُ الهلالِ بالعيدِ) (تبدو الثريا كفاغرٍ شرهٍ ... يفتحُ فاهُ لأكلِ عنقودِ) والأول أجود لذكر وهذا ذكر العنقود ولم يصفه وقد يكون العنقود أسود أو أحمر. وكان أبو عمر بن العلاء: يقول أجود ما قيل فيها قول الآخر:

(ولاحت لساربها الثريا كأنها ... على الأفق الغربيّ قرطٌ مسلسلُ) أخذه ابن الرومي فقال: (طيبٌ طعمهُ إذا ذُقتَ فاهُ ... والثريا في جانبِ الغربِ قُرِطُ) وقد قصر عن الأول أيضاً، ومثله قول أبي فضلة: (وتأملتُ الثريا ... في طلوع ومغيبِ) (فتخيرتُ لها التشيبهَ ... بالمعنى المصيبِ) (فهي كأسٌ في شروقٍ ... وهي قرطٌ في غروب) وقلت: (شربنا والنجومُ مغفراتٌ ... تمرُّ كما تصدّعتِ الزّحُوفُ) (وقد أصغت إلى الغرب الثريا ... دنو الدلو يسلمها الضعيفُ) وأجود ما قال محدث عندي قول بعضهم: (كأنَ الثريا هودَجٌ فوقَ ناقةٍ ... يسيرُ بها حادٍ من الليل مزعج) (وقد لمعتْ بينَ النجومِ كأنها ... قواريرُ فيها زئبقٌ يترجرج) وتروى لابن المعتز، وفي ألفاظ البيتين زيادة على معناهما، وقال مخلد الموصلي: (وترى النجوم المشرقات ... كأنها دررٌ العصابة) (وترى الثريا وسطها ... وكأنه زردٌ الذؤابه) وزرد الذؤابة يشبه نجومها وتأليفه يشبه تأليفها فهو تشبيه مصيب. وقال ابن المعتز: (فناولِنيها والثرّيا كأنهّا ... جنى نرجسٍ حيّا الندامى بهِ السّاقي) قالوا لو قال باقة نرجس كأن أتم، فقلت: (أراعي نجومَ الليل وهي كأنها ... نواظرُ ترنو من براقع سندسِ) (كأنَ الثريا فيهِ باقةُ نرجس ... وما حولها منهنَ طاقاتُ نرجسِ)

وأنشدني بعض العمال: (رُب ليلٍ قطعتهُ بفنون ... من غناءٍ وقهوة ومجونِ) (والثريا كنسوةٍ خفراتٍ ... قد تجمعنَ للحديثِ المصون) وقد أحسن وأطرف. وقد أصابَ القائل بعض وصفها في قوله (كأن الثريا حلة النور منخل ... ) وقال المعتز: (ألا فاسقنيها والظلامُ مقوّض ... وخيلُ الدُجى نحو المغارب تركضُ) (كأنَ الثريا في أواخرِ ليلها ... تفتحُ نَور أو لجامٌ مفضضُ) وشبهت بالقدم، قال ابن المعتز: (قمْ يا نديمي نصطبحْ بسوادِ ... قد كاد يبدو الصبحُ أو هو بادِ) (وأرى الثريا في السماءِ كأنها ... قَدَمٌ تبدَّتْ في ثيابِ حدادِ) وقلت: (كأنَ نهوضَ النجمِ والأفقُ أخضرُ ... تبلجُ ثغرٍ تحتَ خضرةِ شاربِ) وقلت: (تلوحُ الثريا والظلامُ مقطبٌ ... فيضحكُ منها عن أغرَّ مفلجِ) (تسيرُ وراءً والهلالُ أمامها ... كما أومأتْ كفٌ إلى نصفِ دملجِ) وقلت: (شمسٌ هَوَتْ وهلالُ الأفق يتبعها ... كأنها سافرٌ قدّام منتقبِ) (تبدو الثريا وأمرُ الليلِ مجتمعٌ ... كأنها عَقَربٌ مقطوعةُ الذنبِ) وأحسن ما قيل فيها عند طلوع الفجر قول الآخر: (وكأنَ الصبحَ لما لاحَ من تحتِ الثريا) ِ ... (ملكٌ أقبلَ في التاج ... يُفدّى ويُحيا) وقلت: (وبالثريا أثرُ الخمودِ ... كالنارِ لا تسعفُ بالوقودِ) (في أنجمٍ كربربٍ في بِيْدٍ ... يلوحُ في التصويبِ والتصعيدِ) (كشرَفاتِ فَدَنٍ مشيَّد ... ) وقلت: (قمْ بنا نطردُ الهمومَ بكأسٍ ... والثريا لمفرقِ الليل تاجُ) (وقد انجرت اجرت المجرةُ فيهِ ... كسبيبٍ يمدهُ نساجُ)

وقال العلوي الأصفهاني في حسن الاستعارة: (رُبَ ليلٍ وهتْ لآلى دُموعي ... فيهِ حتى وَهتْ لآلي الثريا) (ورداءُ الدُجى لبيسٌ دريسٌ ... بيدِ الصبحِ وهو يطويهِ طيا) وشبه أبو فراس الثريا بالفخذ من النمر وهو من المقلوب لأن أنجم الثريا بيض والنقط على فخذ النمر سود. وقال السري: (ترى الثريّا والبدر في قرنٍ ... كما يحيا بنرجسٍ ملكُ) أجود ما قيل في الجوزاء من الشعر القديم قول كعب الغنوي: (وقد مالت الجوزاءُ حتى كأنها ... فساطيطُ ركبٍ بالفلاةِ نزولُ) ولو شبهها بفسطاط واحد كان أشبه. ومن شعر المحدثين قول ابن المعتز فيها وفي الثريا: (وقد هوى النجمُ والجوزاءُ تتبعهُ ... كذاتِ قُرطٍ أرادتهُ وقد سقطا) مع أن المصراع الأخير غير مختار الرصف، والنجم اسم مخصوصه به الثريا. وقال فيها وفي الشعرى العبور: (ولاحتِ الشِّعرى وجوزاؤُها ... كمثلٍ رُمح جرهُ رامحُ) وقلت: سقاني والجوزاءُ يحكي شروقها ... طفوَ غريقٍ فوقَ ماءٍ مطحلبُ) وهذا وصفها عند طلوعها. وقلت فيها حين توسط السماء: (شربتها والليلُ مُستوفزٌ ... يجرُ في جلبابهِ كوكبه) (كأنما الجوزاءُ رقاصةٌ ... ترقصُ في منطقةٍ مذهبه) (كأنها الجوزاءُ طبالةٌ ... تحتضنُ الطبلَ على مرقبه) وقلت فيها عند غروبها: (إسقنيها والليلُ فرعُ عروس ... زينوهُ بدرةٍ وجُمانه) (وكأنَ الجوزاءَ حينَ تهاوتْ ... فارسٌ مالَ عن شراةٍ حصانه) وقال آخر: (وكأنَ الجوزاءَ واترُ قوم ... أخذوا وترهم بقطع يَدْيه)

وقد استحسن قول العلوي الأصفهاني فيها: (وتلوحُ لي الجوزاءُ سكرَى كلما ... ناءتْ بها الجرباءُ كادتْ تنثني) (ونطاقُها متراصفٌ في نظمهِ ... فكأنما انتطقت بقطعه جوشن) الجرباء اسم للسماء، وفي ألفاظها تكلف كما ترى والمعنى جيد. وقلت: (وليلٍ أسود الجلبابِ داجٍ ... كفرع الخودِ أو عينِ الغزالِ) (كأنَ كواكبَ الجوزاءِ فيه ... زميلةٌ مفجرّة البُزالِ) (تميسُ بالحلي قُرط الثريا ... إذا انخفضتْ وتوّج بالهلال) (ركبتُ صدورهُ وتركتُ خيلي ... توالي تحتَ أنجمهِ التوالي) (ويخبطنَ الصباحَ إذا تبدّى ... كما يكرعنَ في الماءِ الزُّلالِ) ومن ظريف ما قيل في الشعري قول عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر: (أقولُ لما هاجَ شوقُ الذَّكرى ... واعترضتْ وسطَ السماءِ الشِّعرى) (كأنها ياقوتةٌ في مِدرى ... ما أطولَ الليلَ بسرَ مري) وقد أكثروا من وصفها بالعبر وأخذوا ذلك من اسمها وهو العبور. أحسن ما قيل في سهيل وبعده من الكواكب قول بعضهم: (ولاحَ سهيلٌ من بيعدٍ كأنهُ ... شهابٌ ينحيه عن الرُّمح قابسُ) وقال ابن المعتز: (وقد لاحَ للساري سهيلٌ كأنهُ ... على كلَ نجم في السماء رقيبُ) وأجود ما قيل في خفقانه واضطرابه قول جِران العود: (أراقبُ لمحاً من سهيلٍ كأنهُ ... إذا ما بدا من آخرِ الليلِ مطرفُ) وقلت: (وبسهيل رعدةُ المزؤودِ ... وهو من الأنجمِ في محيدِ) (حلَ محلَ الرَّجلِ الطريدِ ... )

وقال ابن طباطبا في المعنى الأول: (كأنَّ سهيلاً والنجومُ أمامهُ ... يعارضُها راعٍ أمام قطيعِ) أجود ما قيل في النسر الواقع قول الحماني: (وركب ثلاث كالأثافي تعاوروا ... دُجى الليل حتة أو مضت سنة البدر) (إذا اجتمعوا سميتهم باسم زاحد ... وإن فرقوا لم يعرفوا آخرَ الدهرَ) وهو من اللغز المليح. ومن جيد ما قيل في الفرقدين قول ابن المعتز: (ورنا إلىَ الفرقدان كما رَنت ... رزقاءُ تنظرُ من نقابٍ أسودِ) وفي المجرة قول بعضهم: (كأنَ المجرّةَ جدولُ ماءٍ ... نورُ الأقاحِ في جانبيه) وقال ابن طباطبا: (مجرَّةُ كالماءِ إذ ترقرقا ... شقتْ بها الظلماءُ بُرداً أزرقا) (لباسُ ثكلى وشيها المشققا) ونقله إلى موضع آخر فقال: (كأنَ التي حولَ المجرَّة أوردتْ ... لتكرعَ في ماءٍ هناك صبيبِ) فوجدته متكلفاً جداً فقلت في معناه: (ليلٌ كما نفضَ الغرابُ جناحهُ ... متبقع الأعلى بهيم الأسفلِ) (تبدو الكواكبُ من فنون ظلامهِ ... لمع الأسنة من فتوق القسطلِ) (وترى الكواكبَ في المجرَّة شُرَّعاً ... مثلَ الظِّباء كوارعاً في جدولَ) وقلت (تبدو المجرّة منجرٌّ ذوائبُها ... كالماءِ ينساح أو كالاّيم ينسابُ) (وزهرةٍ بإزاء البدرِ واقفةِ ... كأنه غرض ينحوه نشّابُ) أغرب ما قيل في صفة الهلال من الشعر القديم قول الأعرابي: (كأنَ ابنَ مزنتهِ جانحاً ... قسيطٌ لدى الأفقِ من خنصرِ) أي كأن ابن مرنته وهو الهلال لدى الأفق قسيط من خنصر والقسيط القلامة

وهذا البيت على غاية سوء الرصف. وقد أخذه ابن المعتز فحسنه في قوله: (ولاحَ ضوءُ هلالٍ كادَ يفضحه ... مثلِ القُلامةِ قد قدَت من الظُّفُر) وقال ابن طباطبا: (وقد غمض الغرب الهلال كأنما ... يلاحظُ منه ناظر ذات أشفارِ) (كأنَ الذي أبقى لنا منهُ أفقه ... قصيصُ سوارٍ أو قراضةُ دينارِ) ولا خير في وصف قوله (كأن الذي أبقى لنا منه أفقه ... ) ومن غريب ما قيل فيه وعجيبه قول ابن المعتز: (إذا الهلالُ فارقتهُ ليلته ... بدا لمن يبصرهُ وينعته) (كهامةِ الأسود شابتْ هامته ... ) قد سبق إلى هذا المعنى ولم يأخذه من أحد أعرفه، ونقله إلى موضع آخر فقال: (وقد بدا فوقَ الهلال كرتهِ ... كهامةِ الأسود شابتْ لحيتهْ) ومن أطرف ما قيل فيه قوله أيضاً: (أهلاً بفطرٍ قد أنارَ هلاله ... فالآن فاغدُ إلى المدام وبكر) (وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثقلتهُ حمولةٌ من عنبرِ) وقال: (في ليلةٍ أكلَ المحاقُ هلالَها ... حتى تبدَّى مثلَ وقفِ العاجِ) وقلت: (لست من عاشقٍ أضلَ السبيلا ... فسقى دمعُه الهطولُ طلولا) (بردَ الليلُ حينَ هبت شمالا ... فجعلت الصلاءَ فيها الشمولا) (في هلال كأنهُ حيةٌ الرملِ ... أصابتْ على البقاع مقيلا) (باتَ في مِعصم الظلامِ سواراً ... وعلى مفرقِ الدُجى إكليلا) وقلت: (وكؤوسٍ إذا دجى الليلُ أسرت ... تحتَ سقفِ مرَّصعٍ باللجينِ) (وكأنَ الهلالَ مرآة تبرٍ ... تنجلي كلَ ليلةٍ أصبعينِ) هذا البيت يتضمن صفته من لدن هو هلال إلى أن يتم. وقلت في هلال شهر رمضان: (جلبَ المجاعةَ ضامرٌ بخل ... قد خلتُ فيه لضعفه سلاّ)

(طفلٌ ولكنْ أمرهُ عجبٌ ... قد عاد بعد كهولةٍ طفلا) (قد كانَ حمل ليلتين فلم ... ترَ مثله طفلاً ولا حملا) (ومن العجائبِ أن يعودَ فتى ... في سبعَ عشرةَ ليلةً كهلا) وقال السري: (قمْ يا غلامُ فهاتها في كأسِها ... كالجلنارةِ في جنى نِسرين) (أو ما رأيت هلال شهرك قد بدا ... في الأفقِ مثل شعيرة السكّينِ) جعل الزجاج كأساً ولا يقال كأس إلا إذا كانت مملوءة، ولا أعرفه سبق إلى هذا التشبيه. وقال بعضهم: (والجوُ صافٍ والهلالُ مشنّفٌ ... بالزُّهرة الزَّهراءِ نحو المغربِ) (كصحيفةٍ زرقاءَ فيها نقطةٌ ... من فضةٍ من تحت نون مذهبِ) جعل النقطة تحت النون والعادة أن تكون فوقها. وقلت: (وللعيد رينَ للعيونِ هلالهُ ... فرمقنَ منهُ حاجباً مقرونا) (يبدو ويبدو النجمُ فوقَ جبينهِ ... وكأنَ جُنحَ الليلِ ينقطُ نونا) وقد استحسنت للعلوي الأصفهاني قوله: (لاحَ الهلالُ فُويْقَ مغربهِ ... والزهرةُ الزهراءُ لم تغب) (تهوي دوين مغيبها فهوتْ ... تبكي بدمعٍ غيرِ منسكب) (فكأنها أسماءُ باكيةٌ ... عندَ انفصامِ سوارِها الذَّهبِ) ومن البديع قول الآخر: (لم أنس دجلةَ والهوى مُتضرِّم ... والبدرُ في أفقِ السماءِ مُغرِّبُ) (فكأنها فيه رداءٌ أزرقُ ... وكأنه فيها طرازٌ مُذهبُ) حق الدجى أن تؤنث لأنها جمع دجية. وقلت: (كأنَ الهلالَ الشهرَ قطعة دملج ... تلوحُ على أعضاء معتكر غاس) (ترى الزهرةَ الزهراء تهوي وراءه ... كما مرَ سهمٌ قاصدٌ نحوَ قرطاسِ)

الفصل الثاني من الباب السادس

ومن أجود ما سمعته في الليلة المقمرة ما أنشدنيه أبو أحمد: (هل لك في ليلة بيضاءَ مقمرةٍ ... كأنها فضةٌ ذابتْ على البلد) وقلت: (كم قد تناولتُ اللذاذ قمن كثبٍ ... والدَهر مسكونُ الحوادثِ والنّوَبِ) (في ليلةٍ قمراءَ تحسبُ أنها ... تلقى على الآفاقِ أرديةَ قصبِ) ومن البديع قول ابن المعتز: (ما ذقت طعم النوى لو تدري ... كأنما حنبي على جَمرِ) (في قَمرٍ مشرقٍ نصفُه ... كأنه مجرفةُ العِطرِ) (فريسةٌ للبقَ منهوشةٌ ... قد ضعُفتْ كفَّي عنِ النّصرِ) وقال في ذم القمر: (وبات كما سرَ أعداؤهُ ... إذا رامَ قوتاً من النَّومِ شَذّ) (تعززهُ شرراتُ البعوضِ ... في قمرٍ مثلِ ظهرِ الجُرَذْ) (الفصل الثاني من الباب السادس) (في ذكر ظلمة الليل وطوله وقصره وما يجري مع ذلك من سائر أوصافه) فمن أحسن ذلك قول ذي الرمة: (وليلٍ كجلبابِ العروس ادرعته ... بأربعةٍ والشخصُ في العين واحدُ) (أحمُ علافيٌّ وأبيض صارمٌ ... وأعيسُ مهريٌ وأروع ماجدُ) فأخذه ابن المعتز ونقله إلى ما هو أظرف لفظاً منه وهو قوله: (وليلٍ كجلبابِ الشبابِ قطعتهُ ... بفتيان صدقٍ يملكونَ الأمانيا) جلباب الشباب أظرف من جلباب العروس.

قالوا من أبلغ ما قيل في ظلمة الليل قول مضرس ابن ربعي (وليلٍ يقولُ الناسُ من ظلماتهِ ... سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها) (كأنَ لنا منهُ بيوتاً حصينةً ... مسوحٌ أعاليها وساج كسورها) وقريب من هذا قول الأعرابي: خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صورة الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالأذان. وقلت في هذا المعنى: (وليلةٍ كرجائي في بني زمني ... مُسوَدَّة الوجهِ منسوباً إلى الفحمِ) (سَدَّتْ على نظرِ الرائينَ منهجهُ ... حتى تعارَفَت الأشخاصُ بالكلم) (لا أسأمُ الجهدَ فيها أن أكابدهُ ... ولا ترى صاحبَ الحاجاتِ ذا سأم) (أحاولُ النجحَ في أمرٍ أزاولهُ ... والنجحُ في دلجاتِ الأنيقِ الرُّسمِ) ومن جيد التشبيه قول أبي تمام: (إليكَ هتكنا جنحَ ليل كأنه ... قد اكتحلتْ منه البلادُ باثمدِ) أخذه من قول أبي نواس: (أبن لي كيفَ صرتَ إلى حريمي ... وجنحُ الليلِ مكتحلٌ بقارِ) وقول أبي تمام أجود لأن الاكتحال بالثمد لا بالقار وأظرف ما قيل في ذلك قول مسلم بن الوليد: (أجدك ما تدرينَ أنْ ربَ ليلةٍ ... كأنَ دُجاها من قرونِك تُنشرُ) (صبرتُ لها حتى تجلتْ بغرةٍ ... كغرةِ يحيى يومَ يذكرُ جعفرُ) وقد طرف القائل في قوله: (لا تَدْعني لَصبُوحٍ ... إنَّ الغبوقَ حبيبي) (فالليلُ لوّن شبابي ... والصبحُ لوّن مشيبي) ومن الاستعارة قول ذي الرمة:

(وَدَوية مثلِ السماءِ عسفتها ... وقد صبغَ الليلُ الحصى بسوادِ) أخذه البحتري فقال وقصر: (على باب قنسرين والليلُ لاطخٌ ... جوانبهُ من ظلمةٍ بمداد) ليس البيت على السكة المختارة وقوله (لاطخ جوانبه من ظلمة بمداد) من بعيد الاستعارة. وأخذ ابن أبي طاهر قول مسلم (كأن دجاها من قرونك تنشر ... ) فقال: (سقتني في ليل شبيه بشعرِها ... شبيهةَ خَدَّيها بغيرِ رقيبِ) فوقع بعيداً عنه واختل في النظم وأقلق القافية. وقلت في معناه: (تسقيك في ليلٍ شبيهٍ بفرعِها ... شبيهاً بعينيها وشكلاُ بخدِّها) (فتسكر من عينٍ وكأسٍ ووجنةٍ ... تحييك أعقاب الكوؤس بوردِها) ومن البديع في هذا المعنى قول ابن المعتز: (أرِقت له والركبُ ميلُ رؤوسهم ... يخوضونَ ضحضاحَ الكرى وبهم قرٌ) (علاهمْ جليدُ الليل حتى كأنهم ... بزاةٌ تجلى في مراقبها قمرُ) (إلى أن تعرَّى النجم من حُلةِ الدُّجى ... وقالَ دليلُ القومِ قد نقبَ الفجرُ) (وقدوا أديمَ الفجرِ حتى ترفعت ... لهم ليلةٌ أخرى كما حوّمَ النسرُ) وقال ديك الجن: (سيرضيك أني مسخط فيك كاشحاً ... ورتقبٌ هولان موت مرقبُ) (وجانب ليل لو تعلق قطعة ... بقطعة صبح لانثت وهي غيهبُ) (وقلت: (ومدَ علينا الليلُ ثوباً منمّقا ... وأشعلَ فيهِ الفجر فهو محرقُ) (وصبّحنا صُبحاً كأنَ ضياءَهُ ... تعلّم مِنّا كيف يبهى ويشرقُ) وقال ابن المعتز: (فخلتُ الدُجى والليلُ قد مَدَّ خيطه ... رداءً موشى بالكواكب معلما) وهو من قولِ الله تعالى: {الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}

ومن أتم أوصاف الظلمة الذي ليس في كلام البشر مثله قول الله عز وجل {أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موج من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعض} وقال الأصفهاني العلوي: (ورَبَ ليلٍ باتتْ عساكرُهُ ... تحملُ في الجوَ سودَ راياتِ) (لامعة فوقها أسنتها ... مثل الأزاهير وسطَ رَوضاتِ) ولست أورد أكثر شعره إلا لإصابة معناه دون لفظه لأن أكثر لفظه متكلف وجل صنعته فاسد وهذا من العجب لأنه من أكثر الناس نقداً لشعر غيره وقد صنف كتاب عيار الشعر فأجاده وهو إذا أراد استعمال ما ذكرناه لم يكمل له فهو كالمسن يشحذ ولا يقطع. ومن أحسن الاستعارة في ذكر الليل قول ابن أبي فنن: (أقولُ وجنحُ الدجُّى ملبدُ ... ولليل في كلِّ فجٍ يدُ) (ونحنُ ضجيعان في مسجدٍ ... فللَّه ما ضمنَ المسجدُ) (أيا ليلة الوصل لا تنفدي ... كما ليلةُ الهجر لا تنفد) (ويا غدُ إن كنت لي راحماً ... فلا تدنُ من ليلتي يا غدُ) وقال السري: (وشردَ الصبحُ عنا الليلَ فاتضحت ... سطورُه البيضُ في راياته السود) وقلت: (ليل كفرع الخود تخلف ضحى ... زهراءُ مثل عوارض الزهراءِ) (عبقت بأنفاس الرِّياض كأنما ... نفض الرَّقيب غلالة الدلتاءِ) وقلت: (والليلُ يمشي مشيةَ الوئيد ... في الخضرِ من لباسهِ والسودِ) (والصبحُ في أخراه ثاني الجيدِ ... ) فأما أجود ما قيل في طول الليل من الشعر القديم فقول امرئ القيس: (وليل كموج البحر أرخى سودله ... علىَ بأنواع الهموم ليبتلى)

(فقلتُ له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناءَ بكلكلِ) (ألا أيها الليلُ الطويلُ لأنجل ... بصبحٍ وما الأصباحُ منك بأمثلِ) وهذا من أفصح الكلام وأبرعه إلا أن فيه تضميناً يلحق به بعض العيب وهو من أدل شئ على شدة الحب والهم لأنه جعل الليل والنهار سواء عليه فيما يكابده من الوجد والحزن وجعل النهار لا ينقصه شئ من ذلك وهذا خلاف العادة إلا أنه دخل في باب الغلو. والذي أخبرنا بما في العادة الطرماح في قوله: (ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا أصبح ... بصبح وما الإصباحُ منك بأروح) فهذا معنى قول امرئ القيس، ثم استدرك فقال: (على أنَ للعينينِ في الصبح راحةً ... بطرحيهما طرفيهما كلَ مطرحِ) فجاء بما لا يشك أحد في صحته إلا أن لفظه لا يقع مع لفظ امرئ القيس موقعاً والتكلف في قوله (بطرحيهما طرفيهما كل مطرح) بين والكراهة فيه ظاهرة. وقال ابن الدمينة في معنى قول الطرماح: (أظلُ نهاري فيكم متعللاً ... ويجمعني والهمّ بالليلِ جامع) وقال المجنون: (يضمُ إليَّ الليلُ أطفالَ حبها ... كما ضمَ أزرارَ القميصِ البنائقُ) جعل ما ينشأ من الهم بالليل أطفالا، وفي هذا المعنى يقول النابغة: (كليني لهمٍ ياأميمةُ ناصب ... وليل أقاسيهِ بطئ الكواكبِ) (تطاولَ حتى قلتُ ليس بمنقضٍ ... وليل الذي يرعى النجومَ يآيب) (وصدرٍ أراحَ الليل عازبَ همه ... تضاعف فيه الحزن من كلِّ جانبِ)

فجعل الهم يأوي إلى قلبه بالليل كالنعم العازبة تريحها الرعاة مع الليل إلى أماكنها، وهو أول من ذكر أن الهموم تتزايد بالليل. وقلت: (وذكرنيهِ البدرُ والليل دونهُ ... فبات بحدِّ الشوق والصبر يلعبُ) (كذكرى الحمى والحي في منعج اللوى ... وذكر الصبا والرأس أخلس أشيب) (فأزدادُ في جنح الظلامِ صَبابةً ... فلا صعبَ إلاّ وهو بالليلِ أصعبُ) وقلت: (ورأيتُ الهمومَ بالليلِ أدهى ... وكذاك السرورُ بالليلِ أعذبُ) ومما استجدت من شعر أبي بكر الصولي في معنى امرئ القيس قوله: (أسرَ القلب في هواهُ وسارا ... وتجنى على ظلماً وجارا) ِ ... (فنهاري أراهُ للبعدِ ليلاً ... وأرى للسهادِ ليلي نهارا) (أنتَ فرَقتَ بالتفرقِ صبري ... فأعرني لما عراني اصطبارا) ويستجاد هذا بالإضافة إلى جملة شعره فأما لنفاسته لنفسه فلا. وقال إسحاق الموصلي في معنى النابغة: (إنَّ في الصبح راحةً لمحبّ ... ومع الليلِ ناشئاتُ الهمومِ) وهذه اللفظة مأخوذة من قول الله تعالى: {إنَ ناشئةَ اللَيلِ هيَ أشَدُ وطئاً وأقومُ قيلا} وقال طاهر بن علي بن سليمان: (إذ لاحَ لي صبحٌ فهمي مقسم ... وفي الليلِ همي بالتفردِ أطولُ) وتمنى بعض المثقلين بالدين المبتلين بالفقر دوام الليل لما يلقي النهار من الغرماء ولما يحتاج إليه من النفقة في كل يوم فقال: (ألا ليتَ النهارَ يعودُ ليلاً ... فإنَ الصبحَ يأتي بالهمومِ) (حوائجُ لا تطيقُ لها قضاءً ... ولا رداً وروعات الغريم) وقوله (ولا رداً) من التتميم الحسن. وقال التنوخي في طوله الليل: (وليلةٍ كأنها طولُ الأملْ ... ظلامُها كالدَّهرِ ما فيه خللْ) (كأنما الأصباحُ فيها باطل ... أزهقه اللهُ لحقٍ فبطل)

(ساعاتها أطولُ من يوم النّوى ... وليلةِ الهجرِ وساعاتِ العذَلْ) (موصدة على الورى أبوابها ... كالنار لا يخرجُ منها من دخل) وهذا يستملح وإن لم يكن مختارا من التشبيه الأن إخراج المحسوس إلى ما ليس بمحسوس في التشبيه ردئ. ومن التشبيه الغريب في ذلك قول بعض العرب: (ويوم كظلَ الرُّمح قصرَ طولهُ ... دم الزقَ عنا واصطكاك المزاهر) وقال البحتري: (وقاسينَ ليلاً دونَ قاسان لم تكد ... أواخرهُ من بعدٍ قطريه تلحقُ) وقال ابن المعتز في نحوه: (وحلتْ عليه ليلةٌ أرحبيةٌ ... إذا ما صفا فيها الغديرُ تكدَّرا) (بعيدة ما بين البياضين لم يكد ... يصدق فيها صبحها حينَ بشرا) وقال: (بمخشية الأقطار حيلية الصدى ... معطلة الآيات محذورة القصدِ) (كأنَ نجومَ الليلِ في حجراته ... دراهمُ زيف لم يجزن علة النقد) يريد أن تجومه واقفة ليست تسير فكأنها دراهم زيفت ليست تنقد. وقد أبر بعض المحدثين على من تقدم حيث يقول في طول الليل على دناءة لفظه: (عهدي بنا ورداءُ الليلُ منُسدلٌ ... والليلُ أطولهُ كاللمحِ بالبصرِ) (والآن ليلى مذ باتوا فديتهم ... ليلُ الضريرِ فصبحي غير منتظر) وهذا أبلغ معنى من قول امرئ القيس الذي تقدم إلا أنه لا يدخل في مختار الكلام لابتذال لفظه وزيادته على معناه وسوء صنعته، والمعنى أن ليله ممدود بلا انقضاء كالليل للضرير كله عند الضرير ليل. وقال علي بن الخليل: (لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي ... أنَّ نجومَ الليلِ ليستْ تعول) (ليلي كما شاءَتْ قصيرٌ إذا ... جادَتْ وإن ضنّت فليلي طويلْ) فأغار عليه ابن بسام فقال:

(لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي ... أنَّ نجومَ الليلِ ليست تغور) (ليلي كما شاءَتْ فإنْ لم تَزُر ... طالَ وإنْ زارتْ فليلي قصير) إلا أن بيته الثاني أحسن تقسيماً من بيت الخليل. وسمعت كافي الكفاة يقول لأبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد وقد أنشده (جُلُ همي وهمتي جرجانُ) فقال هذا المصراع خطبه، قال أبو هلال العسكري وأنا أقول إن قوله: ليلى كما شاءت خطبه. وقال سعيد بن حميد: (يا ليلُ بلْ يا أبدُ ... أنائمٌ عنك غَدُ) وقال ابن الرومي وأحسن التشبيه (ليست تزول ولكن تزيد) وقلت: (غابوا فلم أدرِ ما ألاقي ... مسٌ من الوَجدِ أو جنونُ) (ليلىَ لا يبتغي براحاً ... كأنهُ أدهمٌ حَرونُ) (أجيلُ في صفحتيهِ عيناً ... ما تتلاقى لها جفُون) وملح ابن الأحنف في قوله: (حَدثوني عن النهار حديثاً ... وصِفوهُ فقد نسيتُ النهارا) وقد أنبأ بشار عن العلة التي يستطال لها الليل وهو السهر فقال: (لم يطلْ ليلي ولكنْ لم أنمْ ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألمّ) ولا أرى في قلة النوم أجود من قول المجنون: (ونوم كحشرِ الطيرِ بتنا ننوشه ... على شعبِ الأكوارِ والليل غاسقُ) على أن زهيراً قد قال (وكصفقة بالكف كان رقادي ... ) والأول أفصح وأنبأ العجاج أيضاً عن العلة التي لها يطول الليل (تطاول الليل على من لم ينم ... ) وقال بشار: (لخدَّيك من كفيك في كلِّ ليلةٍ ... إلى أنْ ترى ضوء الصباح وسادُ) وهذا مأخوذ من قول أبي ذؤيب (نام الخلي وبت الليل مشتجرا ... ) والاشتجار وضع اليد على الخد والاعتماد عليها وهو جلسة المتفكر:

(نبيتُ نراعي الليلَ نرجو نفادهُ ... وليس لليلِ العاشقينَ نفاد) وقال: (خليليَ ما بالُ الدُجى لا تزحزحُ ... وما بال ضوءِ الصبحِ لا يتوضحُ) (كأن الدجى زادت وما زادت الدُجى ... ولكنْ أطالَ الليلَ همٌ مبرِّحُ) وقال ديك الجن: (من نامَ لم يدرِ طالَ الليلُ أم قصرا ... ما يَعرفِ الليلَ إلاّ عاشقٌ سهرا) وقد أجاد ابن طباطبا العلوي القول في طول الليل وهو: (كأنَ نجومَ الليل سارَتْ نهارها ... ووافتْ عشاءً وهي أنضاءُ أسفارِ) (فخيمنَ حتى تستريحَ ركابها ... فلا فلكٌ جار ولا فلكٌ ساري) وذكر خالد الكاتب أنه ليس يدري أطال ليله أم قصر لتحيره وتبلده فقال: (لستُ أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى) (لو تفرغتُ لاستطالةِ ليلي ... ولرعي النجومِ كنتُ مخلى) وتبعه أبو بكر الصولي فقال: (وطولتُ ليلي لو دَرَيتُ بطولهِ ... ولكنه يمضي لما بي ولا أدري) وقال بشار: (طالَ هذا الليلُ بلْ طالَ السهرْ ... ولقد أعرفُ ليلي بالقصَرْ) (لم يطلْ حتى دهاني بالهوى ... ناعمُ الأطرافِ فتانُ النظر) (فكأنَ الهجرَ شخصٌ ماثلٌ ... كلما أبصرهُ النومُ نفر) وقلت: (صيّرني البينُ عرضة الحين ... لا أربحَ اللَّهُ صفقةَ البينِ) (قد طالَ يومي وليلتي بهمُ ... لما يزالا بهمْ قَصيرَينِ) (كانَ قليلاً لديَّ مكثهما ... فكنتُ أدعوهما الجديديْنِ) (فطال بعدَ الحبيبِ لبثهما ... فصرتُ أدعوهما عتيقينِ)

وقال آخر: (يا ليلة طالتْ على عاشقٍ ... منتظرٍ في الصبح ميعادا) (كادتْ تكونُ الحولَ في طولها ... إذا مضى أوَّلها عادا) أجود ما قيل في قصر الليل وأشده اختصاراً قول إبراهيم بن العباس: (وليلة من الليالي الزُهر ... قابلتُ فيها بدرها ببدري) (لم تكُ غيرَ شفقٍ وفجر ... حتى تولَّتْ وهي بكرُ الدَّهرِ) وقال غيره: (وليلةٍ فيها قصرِ ... عشاؤُهِا مثلُ السّحَرِ) وهذا على غاية الاختصار. وقال العلوي الأصفهاني في قصر الليل واليوم: (ويوم دجنٍ ذو ضميرٍ متهم ... مثل سرور شابهُ عارضُ غمّ) (صحوٌ وغيمُ وضياءٌ وظُلْم ... كأنهُ مستعرٌ قد ابتسمْ) (ما زلتُ فيه عاكفاً على صنمْ ... مُهفهف الكشحِ لذيذِ الملَتزم) (تفاحه وقفٌ على لثمٍ وشمِ ... وبانة وقفٌ على هصرٍ وضَم) (يا طيَبه يوم تولى وانصرمْ ... وجودهٍ من قصرٍ مثل العدمْ) وقلت: (قصر العيشُ بأكناف الغضا ... وكذا العيشُ إذا طابَ قصر) (في ليالِ كأباهيم القطا ... لستَ تدري كيف تأتي وتمرّ) وقلت: (إذا البرق من شرقيِّ دجلة ينبري ... على صفحات البارق المتألق) (أشبهه دهراً أغرَ محجلاً ... نعمنا به ظلَ فينان مروق) (فمرَّ كرجعِ الطرفِ ليس يرده ... حنينٌ إلى مخبورة المتعشقِ) (وقد يعرض المحذور من حيث يرتجي ... ويمكنك المرجو من حيث تتقي) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن سعيد عن أبي عكرمة قال أنشدت أعرابياً قول جرير: (أبدلَ الليلُ لا تسري كواكبهُ ... أم طال حتى حسبت النجمَ حيرانا) فقال هذا حسن وأعوذ بالله منه ولكن أنشدك في ضده من قولي وأنشدني:

(وليلٍ لم يقصرهُ رقاد ... وقصّره لنا وصلُ الحبيبِ) (نعيم الحبَ أورقَ فيه حتى ... تناولنا جناهُ من قريبِ) (بمجلس لذةٍ لم نقوَ فيه ... على الشكوى ولا عدَ الذُّنوبِ) (بخلنا أن نقطعهُ بلفظٍ ... فترجمت العيونُ عن القلوبِ) (فقلت له زدني فما رأيت أظرف منك شعراً، فقال أما من هذا فحسبك ولكن غيره وأنشدني: (وكنتُ إذا علقتُ حبالَ قومٍ ... صحبتهمُ وشيمتيَ الوفاءُ) (فأحسنُ حينَ يحسنُ محسنوهم ... وأجتنب الإساءةَ إنْ أساؤا) (أشاء سوى مشيئتهم فآنى ... مشيئتهم وأترك ما أشاءُ) وأنشدنا عن محمد بن يزيد: (للهِ ليلتنا بجوَ سويقةٍ ... والعيشُ غضٌ والزمانُ غريرُ) (طابتْ فقصرَ طيبها أيامها ... فكأنما فيها السنونُ شهور) وأنشدنا عن عون بن محمد بن إسحاق الموصلي: (ظللنا في جوارِ أبي الجناب ... بيوم مثل سالفة الذبابِ) (يقصره لنا شغفُ التلاقي ... ويوم فراقنا يوم الحساب) أخبرنا عنه عن محمد بن الحسن أبي الحسن العتابي عن عيسى بن إسماعيل قال سمعت الأصمعي يقول قرأت على خلف شعر جرير فلما بلغت إلى قوله: (ويومٍ كإبهامِ القطاهِ محبب ... إليَّ هواهُ غالبٌ لي باطله) (رزقنا به الصيد العزيز ولم نكن ... كمنْ نبله محرومةٌ وحبائله) (فيالك يوم خيره قبلَ شرِّه ... تغيبَ واشيه وأقصرَ عاذله)

فقال ويله وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقلت كذا قرأته على أبي عمرو، قال صدقت وقال كذا قال جرير وكان قليل التنقيح مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع، قلت كيف كان يحب أن يقول؟ قال الأجود له لو قال (فيا لك يوماً خيره دون شره) فاروه هكذا، وكانت الرواة قديماً تصلح من شعر القدماء، فقلت والله لا أرويه بعدها إلا هكذا. ومثل ذلك أن أبا الفضل بن العميد أنشد قول أبي تمام (وكشفت لي عن صفحة الماءِ الذي ... قد كنتُ أعهدهُ كثيرَ الطحلبِ) فقال إنما قال عن جلد الماء فقال إذا أمكن أن يصلح قصيدته يتغيير لفظة فمن حقها وحق قائلها أن تغير قال أبو هلال وبين الصفحة والجلدة بون بعيد وقال ابن طباطبا (بأبي من نعمتُ فيهِ بيوم ... لم يزلْ للسرورِ فيه نموُّ) (يوم لهوٍ قد التقى طرفاهُ ... فكأنَ العشىَ فيه غدوُ) ومن قول إبراهيم بن العباس والناس يروونه لغيره: (ليلةٌ كاد يلتقي طرفاها ... قصراً وهي ليلةُ الميلادِ) وقلت: (وطال عمُرك في دهرٍ به قصرٌ ... تعدُ فيه شهور العيش أياما) وقال القصافي: (ذكرتكم ليلاً فنورَ ذكركم ... دجى الليل حتى انجاب عنا دياجره) (فو الله ما أدري أضوءٌ مسجر ... لذكركم أم يسجرُ الليلُ ساجره) (وبتُ أسقي الشوق حتى كأنني ... صريعُ مدام لم ينهنه دائره) (وظلتْ أكفّ الشوق لما ذكرتكم ... تمثَّل لي منكم خيالاً أسايره) (فلو كنتمُ أقصى البلاد لزرتكم ... إلى حيث يعي وردُه ومصادُره) (أرى قصراً بالليلِ حتى كأنما ... أوائله مما تداني أواخره) وقد أحسن ابن المعتز في صفة ليلة طيبة فقال:

الفصل الثالث من الباب السادس

(يا ليلة نسي الزَمانُ بها ... أحداثهُ كَوني بلا فجر) (راحَ الصباحُ ببدرِها ووشتْ ... فيها الصّبا بمواقعِ القطرِ) (ثم انقضتْ والقلبُ يتبعها ... في حيث ما سقطتْ من الدَّهرِ) وقلت: (وصلت نعم ولكن صلةً ... تشبهُ اللحظةَ في انتقالها) (لستُ أدري أتمتعتُ بها ... أم بزورِ الزور من خيالها) (ومضى الليلُ سريعاً مثلما ... أنشطتْ دهماء من عقالها) (الفصل الثالث من الباب السادس) (في ذكر الصباح والشمس والنهار وما يجري مع ذلك) أجود ما قيل في الصباح من شعر الأعراب: أخبرنا أبو أحمد أخبرنا أبو بكر ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال نزلت بقوم من غُتي وقد جاوروا قبائل من بني عامر بن صعصعة فحضرت ناديهم وهناك شيخ طويل الصمت عالم بالشعر قد جعل الناس يأتونه من كل ناحية فيجلسون إليه وينشدون أشعارهم فإذا سمع الشعر الجيد قرع الأرض بمحجنة فينفذ حكمه على من حضر منهم بشاة إذا كام ذا غنم وابن مخاض إن كان ذا إبل فذبح أو نحر لأهل الوادي فقال حضرتهم يوماً والشيخ جالس فأنشده بعضهم يصف القطا: (غَدَتْ في رعيل ذي أداوَى منوطةٍ ... بلباتها مربوعة لم تُمرح) (إذا سَربخٌ عطت مجال سرائهِ ... تمطت فحطتْ بينَ أرجاءِ سربخ) فقرع الشيخ الأرض بمحجنة وهو صامت، ثم أنشده آخر يصف ليلة:

(كأنَ شميطَ الصبح في أخرياتها ... مُلاءٌ ينقي من طيالسةٍ خُضرِ) (تخال بقاياها التي أسأر الدُجى ... تمدَ وشيعاً فوق أردية الفجرِ) فقام الشيخ كالمجنون مصلتاً سيفه حتى خالط البرك فجعل يضرب يميناً وشمالاً وهو يقول: (لا تَفرغنْ في أذنيَّ بعدها ... ما يستفزُ فأريك فقدها) (إني إذا السيفُ تولى ندَّها ... لا أستطيعُ بعد ذاك ردَّها ... ) قال أبو هلال رحمه الله تعالى وهذا دليل على أن علم الشعر والتمييز بين جيده ورديئه كان غريزاً عند أهل البوادي وهم أصوله ومنبعه ومعدنه، وكان فعل هذا الشيخ واستفزاز جيد الشعر له قربياً مما روي عن محمد الأمين أنه قال إني لأطرب على حسن الشعر كما أطرب على حسن الغناء. ومن غريب ما قيل في الصبح من الشعر القديم قول ذي الرمة، وقد أجمع الناس على أنه أحسن العرب تشبيهاً: (وقد لاحَ للساري الذي كمل السُّرى ... على أخرياتِ الليلِ فتقٌ مُشهرُ) (كلونِ الحصانِ الأنبطِ البطن قائماً ... تمايلَ عنهُ الجلُ واللونُ أشقر) وهذا أحسن تشبيه وأكمله، الأنبط: الأبيض البطن، شبه بياض الصبح تحت حمرته ببياض بطن فرس أشقر. أخذه ابن المعتز فقال: (وما راعنا إلاّ الصباحُ كأنهُ ... جلالُ قباطيّ على فرسٍ ورد) وقال أو قال غيره: (بدا الصبحُ تحتَ الليلِ بادٍ ... كمهرٍ أشقرٍ مُرخى الجلالِ) ومن أغرب ما قاله محدث فيه قول ابن المعتز:

(وقد رفعَ الفجرُ الظلامَ كأنهُ ... ظليمٌ على بيضٍ تكشفَ جانبه) وقد أبدع أيضاً في قوله: (قد اغتدى والليلُ في جلبابه ... كالحبشيَ فرَ من أصحابِهْ) (والصبحُ قد كشفَ عن أنيابه ... كأنما يضحكُ من ذهابه) وقال أبو نواس: (فقمتُ والليلُ يجلوهُ الصباحُ كما ... جلا التبسمُ عن غُرَ الثنياتِ) وفي ألفاظ هذا البيت زيادة على معناه. قال: (لما تبدى الصبحُ من حجابه ... كطلعةِ الأشمطِ من جلبابه) وهذا من قول الآخر (كطلعة الأشمط من برد سمل) وقال ابن المعتز: (ولقد قفوتُ الغيثَ ينطفُ دجنُه ... والصبحُ ملتبسٌ كعينِ الأشهلِ) وقلت: (باكرتُها والخيلُ في البكورِِ ... والصبحُ بالليلِ مكوث النورِ) (كما خلطت المسكَ بالكافور ... ) وقال ابن المعتز: (أما ترى الصبحَ تحتَ ليلته ... كموقدٍ باتَ ينفخُ الفحما) وقال: (والليل قد رقَّ وأصفى نجمهُ ... واستوفز الصبحُ ولما ينتقب) (معترِضاً بفجرهِ في ليلةٍ ... كفرسٍ بيضاءَ دهماءَ اللّبب) وقال العلوي وأجاد المعنى: (والصبحُ في صفحِ الهواءِ موردٌ ... مثلُ المدامةِ في الزُّجاجِ تشعشعُ) وقلت: (إلى أن طوينا اليومَ إلاّ بقيةٌ ... يضلُ ضياءُ الشمسِ عنها فيزلقُ) (وجلّلِ وجهَ الشمسِ بردٌ ممسكٌ ... وقابلهُ للغربِ بردٌ ممشّقُ) (فلاح لنا من مَشرق الشمسِ مغربٌ ... وبان لنا من مغرب الشمسِ مَشرِقُ) ِ ... (ومدَ علينا الليلُ ثوباً منمّقا ... وأشعلَ فيهِ الفجر فهو يحرق) (وصبحنا صبحٌ كأنَ ضياءهُ ... تعلمُ منّا كيف يبهى ويُشرقُ)

وقلت: (ركبت أعجاز ليالٍ مظلمة ... مطرزاتٍ بالصباح معلمه) (أخطرُ في بردتها المسهمه ... والروضُ في حلته المنمنمه) (قد نثر الليلُ عليه أنجمه ... والنبتُ قد دنرهُ ودرهمه) (وقد وشى رداءهُ ورقمه ... ) وقال بعض الأعراب: (والليلُ يطردهُ النهارُ ولا أرى ... كالليلِ يطردهُ النهارُ طريدا) (وتراهُ مثل البيتِ مالَ رواقهُ ... هتك المقوض ستره الممدودا) وهذا شعر مطبوع. وقال أبو نواس: (قد اغتدى والليلُ في حريمه ... معسكر في العزَ من نجومِهْ) (والصبحُ قد نسم في أديمه ... يدعهُ بطرقي حيزومه) (دع الوصي في قفا يتيمه ... ) ومن الاستعارة المصيبة في صفة الصبح قول سالم بن وابصة: (على حين أثنى القومُ خيراً على السرَى ... وطارَ بأخرى الليل أجنحة الفجرِ) (والنصف الأول من قول الآخر ... عند الصباح يحمد القوم السرى) وقال العلوي الأصفهاني: (وليل نصرتُ الغيَّ فيه على الرُّشد ... وأعديتُ فيه الهزلَ مني على الجدَ) (وضيعتُ فيه من عناقِ معانقي ... فظنَ وشاتي أنني نائمٌ وحدي) (إلى أن تجلى الصبحُ من خلل الدُجى ... كما أنخرطَ السيفُ اليماني من الغمدِ) وقلت: (حتى أزالَ الصبحُ فاضلَ ذيله ... كالنيل يخطرُ في نوداي يعربِ) وقد أحسن ابن المعتز في صفة النجم يبدو في حمرة الفجر حيث يقول: (قد اغتدى على الجيادِ الضمر ... والصبحُ قد أسفرَ أو لم يسفرْ) (كأنه غرةُ مهرٍ أشقر ... حتى بدا في ثوبهٍ المعصفرِ) (ونجمهُ مثل السِّراج الأزهرِ ... )

وقال الشمردل بن شريك: (ولاحَ ضوءُ الصبحِ فاستبينا ... كما أرتْنا المفرق الدهينا) وقال التنوخي: (والثريا كلواءٍ ... خافق من فوقِ مرقبِ) (وبدا الفجرُ كسيفٍ ... في يدِ الجوزاءِ مذهب) وقلت: (أديرا عليّ الكأسَ والليلُ راحلُ ... وفي إثره للصبح بلقٌ شوائلُ) (ترفع عنه منكبُ الليل فانجلى ... كما ابتسمت ليماءُ والسترُ مائل) وقال التنوخي: (وبدا الصبح كالحسام علاه ... علق فوقَ شفرتيهِ متاع) وقال: (أسامره والليل أسود أورق ... إلى أن جلا الإصباح عن أشقر وردِ) (تبسم محمرّاً خلال سواده ... تبسمَ وردِ الخدَ في الصدغ الجعد) ومن حسن الاستعارة في الشفق قول ابن المعتز: (ساروا وقد خضعتْ شمسُ الأصيلِ لهم ... حتى توقدَ في جنح الدُجى الشفقُ) (لحاجةٍ لم أضاجع دونها وَسَناً ... وربما جرَ أسبابَ الكرى الأرقُ) وأبرع بيت قيل في الصبح من شعر المحدثين قول ابن المعتز: (والصبحُ يتلو المشتري فكأنه ... عُريانُ يمشي في الدُجى بسراجِ) والناس يظنون أنه ابتدأه وابتكره وإنما أخذه من قول ابن هرمة في وصف السحاب والبرق: (تؤام الودق كالزاحف ... يزجي خلف اطلاح) (صدوق البرقِ كالسكران ... يمشي خلف الصاحي) (كأنَ العازفَ الحنى ... أوْ أصواتَ نواح) (على أرجائهِ والبرق ... يهديه بمصباح) وهذا البيت مضطرب الرصف مضمن لا خير فيه والمعنى بارد.

ومن أطرف ما قيل في الليالي الطيبة قول ابن المعتز: (تلتقطُ الأنفاسُ بردَ الندى ... فيهِ فتهديهِ لحرَ الهمومِ) وقلت: (وقد غَدوْتُ وصبغُ الليلِ منتقصٌ ... وغرَّة الصبحِ مصقولٌ حواشيها) (وغربت أنجمُ الظلماءِ وانحَدرَتْ ... فشالَ أرجلها وأنحطَ أيديها) فأما أجود ما قيل في الشمس مما أنشدناه أبو القاسم عن عبد الوهاب عن العقدي عن أبي جعفر عن ابن الأعرابي قديماً في صفة الشمس فقال وهو أحسن وأتم ما قالته العرب فيها: (مخبأةٌ أما إذا الليلُ جنّها ... فتخفى وأما بالنهارِ فتظهرُ) (إذا انشقَ عنها ساطعُ الفجرِ فانجلى ... دُجى الليل وانجابَ الحجابُ المستر) (وألبس عرضَ الأرضِ لوناً كأنه ... على الأفق الشرقيِّ ثوبٌ معصفرٌ) (ولونِ كدرعِ الزَّعفرانِ مشبه ... شعاع يلوحُ فهو أزهرُ أصفرُ) (إلى أن علتْ وأبيضَ عنها اصفرارُها ... وجالتْ كما جالَ المليحُ المشهر) (ترى الظلّ يطوى حينَ تعلو وتارةً ... تراهُ إذا مالتْ إلى الأرض ينشر) (وتدنف حتى ما يكاد شعاعها ... يبينُ إذا ولتْ لمن يتبصرُ) (وأفنت قروناً وهي في ذاك لم تزل ... تموتُ وتحيا كلَّ يومٍ وتنشرُ) وأنشدناه أيضاً أبو أحمد عن الصولي عن علي بن الصباح عن ابن أبي محلم على غير ما تقدم هنا أخذ ابن الرومي قوله: (وقد جعلت في مجنح الليل تمرض ... ) ومن بديع ما قيل في انقلابها عند الغروب قول الراجز: (صبَ عليه قانصٌ لما غفل ... والشمسُ كالمرآة في كف الأشل ... ) ونحوه قول أبي النجم (وصارت الشمس كعين الأحول) ولأعرابية تذكر السحاب: (تطالعني الشمسُ من دونها ... طلاع فتاة تخافُ اشتهارا) (تخافُ الرقيبَ على سرِّها ... وتحذرُ من زوجها أن يغارا)

(فتستتر غُرَّتها بالخمارِ ... طوراً وطوراً تزيل الخمارا) وقال ابن المعتز وأغرب: (تظلُ الشمس ترمقنا بلحظ ... خفي مدنف من خلف سترِ) (تحاولُ فتقَ غيم وهو يأبى ... كعنين يريدُ نكاحَ بكرِ) وقال ابن طباطبا: (وأقذيت عين شمس فحكت ... من خللِ الغيم طرفَ عمشاءِ) وقلت: (فيا بهجة الدنيا إذا الشمس أشرقت ... كما أشرقت فوق البرية زينب) (يفضضُ منها الجوُ عندَ طلوعها ... ولكنَ وجهَ الأرض فيها مُذهبُ) (وتحسبُ عين الشمسِ إذ هي رنقت ... على الأفقِ الغربيِّ تبراً يذوبُ) وقلت في يوم صحو: (ملأ العيونَ غضارةً ونضارةً ... صحوٌ يطالعنا بوجهٍ مونقِ) (والشمسُ واضحةُ الحبين كأنها ... وجهُ المليحة في الخمارِ الأزرقِ) (وكأنها عندَ انبساطِ شعاعِها ... تبرٌ يذوبُ على فروعِ المشرقِ) (جَرت إذا بكرت ذُيولَ مزعفرٍ ... وتجرُ إنْ راحتْ ذُيولَ ممشقِ) (فشربتها عذراءَ من يدٍ مثلها ... تحكي الصباحَ مع الصباحِ المشرقِ) وقال ابن طباطبا: (وشمس تجلت في رداءٍ معصفر ... كأسماء إذ مدت عليها إزارها) وقال ابن المعتز فيها عند غروبها: (حتى علا الطود ذيل من أصائله ... كما يصغر فودي رأسه الحرفُ) وقال أبو نواس: (قد اغتدى والشمسُ في حجابها ... مثل الكعابِ الخوذِ في نقابها) وقال ابن الرومي وهو من المشهور:

(كأنَ خبوَ الشمس ثم غُروبها ... وقد جعلتْ في مجنح الليل تمرضُ) (تخاوصُ عينٍ بين أجفانِها الكرى ... يرنقُ فيها النومُ ثم تغمضُ) ومن جيد ما قيل في احمرارها عند المغيب قول ابن الحاجب: (وكأنها عندَ الغروب ... جُفونُ عينِ الأرمدِ) وقال ابن الرومي وهو من المشهور (إذا رَنَّقتْ شمسُ الأصيلِ ونفضت ... على الأفق الغربيِّ ورساً مذعذعا) (وَودعتِ الدُّنيا لتقضي نحبها ... وشولَ باقي عمرها وتشعشعا) (ولاحظتِ النوار وهي مريضةٌ ... وقد وضعتْ خدّاً على الأرضِ أضرعا) (كما لاحظت عوادَهُ عينُ مدنَفٍ ... توجعَ من أوصابهِ ما تَوَجَّعا) (وظلت عيون الروض تحضل بالندى ... كما اغرَوْرَقَتْ عينُ الشجيِّ لتدمعا) (وبينَ إغضاءُ الفراقِ عليهما ... كأنهما خِلا صفاءٍ تودَّعا) وقال الآخر: (والشمسُ تُؤذنُ بالشروقِ كأنها ... خَودٌ تلاحظُ من وراءِ حجابِ) وقال السري: (ومن قصور عليه مُشرفة ... تضئُ والليلُ أسودُ الحجبِ) (بيضٌ إذا الشمسُ حانَ مغربُها ... حسبت أطرافهنَ من ذهبِ)

ومن بديع ما قيل فيها من شعر المتقدمين قول أبي ذؤيب: (سبقت إذا ما الشمسُ عادت كأنها ... صلاءَة طِيبٍ لطها وإصفرارُها) ومن جيد ما قيل في النهار قول أعرابي: (فإذا أشرقَ النهارُ تراها ... راملات في مثل ماء زلالِ) وقلت: (ويخبطنَ الصباحَ إذا تبدّى ... كما يكرعنَ في الماءِ الزَلال) وقلت: (وعلى الصباحِ غلالةُ فضيةٌ ... فيها طرازٌ من خيالك مُذْهَب) آخر الباب السادس والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين. (إنتهى الجرء الأول)

الجزء 2

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه التامة وأياديه الخاصة والعامة في إنشاء السحاب الثقال وإجراء العذب الزلال وتفجير البارد السلسال ليغذو النجم والشجر ويرب الحب والثمر رحمة للأنام ونظراً للإنعام فله الحمد أولاً وآخراً. والصلاة على نبيه محمد الذي أرسله بالحق شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وعلى آله المختارين وعترته المنتجبين. وقد رأينا الحكماء في كل زمان يجتهدون في تقريب الحكمة وتسهيل سبلها وشرح مشكلها وإيضاح أبوابها وإدناء أسبابها ليخف محملها ويقرب متناولها ويرغب فيها كل أحد ويأخذ منها بنصيب ويغترف منها بذنوب. وكنت جعلت كتابي الموسوم بديوان المعاني مشتملاُ على أثني عشراٌ باباً يتضمنها خمسائة ورقة فرأيت بعض الناس يستكبر حجمه ويستثقل نسخه فجعلت كل باب منها كتاباً ينفرد بنفسه ويتميز من جنسه ليقرب أمره ويسهل نسخه ولتسرع الرغبة إليه فيكثر الإنتفاع به إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.

هذا كتاب المبالغة

(هذا كتاب المبالغة) في صفة السحاب والمطر والبرق والرعد وذكر المياه والرياض والنبات والأشجار والرياحين والثمار والنسيم وما يجري مع ذلك وهو: (الباب السابع من كتاب ديوان المعاني وفيه ثلاثة فصول) (الفصل الأول) في صفة السحاب والمطر والبرق والرعد والثلج والضريب أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال قال أبو عمرو لذي الرمة أي قول الشعراء في المطر أشعر؟ قال قول امرئ القيس: (ديمةٌ هطلاءُ فيها وطفٌ ... طَبّق الأرض تحرَّى وتدُرّ) قوله طبق الأرض غاية في صفة عموم السحاب أراد أنها على الأرض بمنزلة الطبق على الإناء. ولا أعرف أحداً أخذه فأجاده كاجادة ابن الرومي حيث يقول: (سحائبُ قيستْ بالبلادِ فألقيتْ ... غِطاءً على أغوارِها ونجودِها) (هدتها النُّعامَى مثقلاتٍ فأقبلتْ ... تهادَى رُويداً سيرُها كركودِها) قوله سيرها كركودها غاية في وصف ثقلها وثقلها من كثرة مائها. والبيت البليغ المشار إليه من أبيات امرئ القيس قوله: (وتَرى الشجراءَ في رَيِّقه ... كرؤوس قُطَعت فيها الخُمُر) الشجراء الأرض ذات الشجر وإذا غرقت الشجر من ريقه حتى لا يبين منها إلا فروعها فكيف يكون في شدته، وريق المطر أوله وأخفه، وشبه رؤوس الشجر خارجة من الماء برؤوس قطعت عليها عمائم، والخمار ههنا العمامة. وقالوا أجود ما قيل في المطر قوله:

(كأنَ أباناً في أفانين وبلهِ ... كبيرُ رجالٍ في بجادٍ مُزملِ) يقول كأن أبانا وهو جبل من التفاف قطره وتكاثفه في الهواء شيخ في كساء، وخفض مزمل على الجواب وهو نعت كبير كما تقول جحر ضبٍ خربٍ. وقالوا أجود ما قيل فيه قول أبي ذؤيب: (لكلِّ مسيلٍ من تهامة بعد ما ... تقطع أقرانُ السحابِ عجيج) وهذا مع جودة معناه فصيح جداً. وأخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان قال قال الأصمعي قلت لأبي عمرو ما أحسن ما قيل في المطر فقال قول القائل: (دانٍ مسفٍّ فويقَ الأرضِ هيدبهُ ... يكادُ يدفعُه من قامَ بِالراحِ) (فمن بنجوته كمن بعُقوته ... والمستكن كمن يمشي بقَرواحِ) يقول قد عم هذا السحاب فاستوى في شيم برقه وأصاب مطره المنجد والغائر والمستكن والمصحر، قرب من الأرض لثقله بالماء حتى يكاد يدفعه القائم براحته وهذا غاية الوصف. ومن أبلغ ما جاء في ذلك من نثر الأعراب ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن أبى حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي قال سألت أعرابياً من عامر بن صعصعة عن مطرٍ أصاب بلادهم فقال نشأ عارضاً فطلع ناهضاً ثم ابتسم وامضاً فاعترض الأمطار فأعشاها وامتد في الآفاق فغطاها ثم ارتجز فهمهم ثم دوي فأظلم فأرك ودث وبغش ثم قطقظ فأفرط ثم ديم فأعمط ثم ركد فأجثم ثم

وبل فسح وجاد فأنعم فقمس الربى وأفرط الزبى سبعاً تباعاً لا يريد انقشاعا حتى ارتوت الحزون وتحضحضحت المتون ساقه ربك إلى حيث شاء كما جلبه من حيث شاء. الدث والبغش المطر الخفيف، والقطقظ المطر الصغار، وقوله أنعم أي بالغ من قولهم دقه دقاً ناعماً، وقمس أي غوص، وأفرط ملأ. والزبي جمع زبيه وهي حفرة تحفر للأسد ويجعل فيها طعم فيجئ حتى يقع فيها ولا تحفر إلا في مكان عال فإذا بلغها السيل فهو الغاية وفي المثل بلغ السيل الزبى والمتن صلابة من الأرض فيها إرتفاع، وتضخضح أي صار عليه ضحضاح وهو الماء يجري على وجه الأرض رقيقاً. وأنشدنا أبو أحمد عن أبيه عن ابن أبي طاهر عن ابن الأعرابي لأعرابية: (فبينا نرمَقُ أحشاءَنا ... أضاءَ لنا عارضٌ فاستنارا) (فأقبل يزحفُ زَحفَ الكسير ... سياقَ الرعاءِ البطاء العشارا) (تعني وتضحك حافاتهُ ... أمامَ الجنوبِ وتبكي مرارا) (كأنا تضئ لنا حُرة ... تشدُ إزاراً وتلقي إزارا) (فلما حسبنا بأن لا نجاءَ ... وأن لا يكون فرارٌ فرارا) (أشارَ له آمرٌ فوقهُ ... هَلمَ فأمَ إلى ما أشارا) وأنشدنا لغيرها: تبسمتِ الريحُ ريحُ الجنوبِ ... فهاجتْ هوىً غالياً وادِّكارا) (وساقَت سحاباً كمثلِ الجبالِ ... إذا البرقُ أومضَ فيه أنارا) (إذا الرعدُ جلجلَ في جانبيهِ ... فروى النباتَ وأروى الصحاري) (تطلعنا الشمسُ من دونهِ ... طلاعَ فتاةٍ تخافُ اشتهارا) (تخافُ الرقيبَ على سِرها ... وتحذرُ من زوجها أن يغارا) (فتسترُ غُرَّتها بالخمارِ ... طوراً وطوراً تزيلُ الخمارا) وقد مرت هذه الأبيات الثلاثة قبل:

(فلما مراها هبوبُ الجنوبِ ... وانهمرَ الماءُ منهُ انهمارا) (تبسمتِ الأرضُ لما بكت ... عليها السماءُ دُمُوعاً غزارا) (فكان نواجذُها الأقحوان ... وكان الضواحكُ منها البهارا) وقال ابن مطير وهو أجود ما قيل في سحاب: (مستضحكٌ بلوامعٍ مستعبرٌ ... بمدامعٍ لم تمرِها الأقذاءُ) (فله بلا حزنٍ ولا بمسرةٍ ... ضحكُ يؤلفُ بينهُ وبكاءُ) (ثقلت كلاهُ وأنهرتْ أصلابهُ ... وتبعجت من مائهِ الأحشاءُ) (غَدَق يُنتج بالأباطح فرَقا ... تلدُ السيولَ وما لها اسلاءُ) (وكأنَ ريقهُ ولما يحتفل ... ودقُ السحابِ عجاجة كدراءُ) (غرٌ محجلةٌ دوالحُ ضمنت ... حَفْلَ اللقاح وكلها عذراء) (سجمٌ فهنَ إذا كظمنَ فواجمٌ ... وإذا ضحكنَ فإنهنَ وضاءُ) (لو كانَ من لجج السواحلِ ماؤهُ ... لم يبقَ من لجج السواحلِ ماءُ) ومن هذا البيت أخذ المتكلمون الحجة على الفلاسفة في قول الفلاسفة المطر إنما هو البخاران ترتفع من البحر، قالولهم لو كان الأمر كذلك لكان ماء البحر ينقص عند كثرة الأمطار فقالت لا يلزم ذلك لأن البحر مغيص لمياه الأرض فمصير ما يتحلب من الثلوج إليه ومنه مواد هذه الأشياء فمثله مثل المنجنون يغرف من بحر ثم يصب فيه فليس له نقصان والذي ينقص هذا أن ماء البحر يزيد عند كثرة الأمطار وينقص عند قلتها والعادة في ذلك معروفة ولو كان الأمر على ما يقولون لكان ماء البحر ينقص على مررو الأوقات لا محالة لأن الشمس

والهواء لا شك تأخذ مما يتفرق عنه في الأرض بزعمهم، والكلام فيه يتسع وإنما أشرت إلى موضع الدلالة على فساد قولهم. وقال النظار الغقعسي: (يا صاحبيَ أعيناني بطرفكما ... أنى تشيمان برقٌ العارضِ الساري) (أبصرتهُ حينَ غاب النجمُ وانسفرت ... عنا غفائر من دجنِ وأمطارِ) (فباتَ ينهضُ بالوادي وجَلهتهِ ... نهضَ الكسيرِ بذي أو نَين جَرار) (حيرانَ سكران يغشى كلَّ رابيةٍ ... من الروابي بأرجافٍ وأضرار) (مفرقٌ لدماثِ الأرضِ منهمرٌ ... رعابُ أفئدةٍ شعالُ أبصار) (كأن بلقاً عِراباً تحت رَيِّقه ... عوداَ تَذُب برمحٍ عندَ إمهارِ) وشبه البرق برمح الأبلق، وهو من قول أوس بن حجر: (كأنَ ريقهُ لما عَلا شطبا ... أقراب أبلق ينقى الخيلَ رماحِ) ومن أبلغ ما قيل في ذلك قول الأعرابية التي سألها ذو الرمة عن الغيث فقالت: غثنا ما شئنا. فكان ذو الرمة يقول قاتلها الله ما أفصحها. وترك ذو الرمة هذا المذهب على إعجابه به واخيتاره له وقال: (ألا يا أسلمي يا دارَ مَيّ على البلى ... ولا زالُ مُنهلاًّ بجرعائكِ القطرُ) فقيل له هذا بالدعاء عليها أشبه منه بالدعاء لها لأن القطر إذا دامت فيها فسدت. والجيد قول طَرَفَة: (فسقى بلادك غيرَ مُفسِدِها ... صوبُ الربيعِ ودِيمةٌ تهمي) وقال أعرابي: أصابتنا سحابة وإنا لبنوطة بعيدة الأرجاء فاهر مع مطرها حتى رأيتنا وما رأينا غير السماء والماء وصهوات الطلح فضرب السيل النجاف وملأ

الأودية فرعبها فلما لبثنا إلا عشراً حتى رأيتها روضة تندي. قوله ما رأيت غير السماء والماء وصهوات الطلح غاية في صفة كثرة المطر. وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن حاتم عن أبي عبيدة قال خرج النعمان بن المنذر في بعض أيامه في عقب مطر فلقي أعرابياً فأمر بإحضاره فأتي به فقال كيف تركت الأرض وراءك؟ قال فيح رحاب منها السهولة ومنها الصعاب منوطة بجبالها حاملة ثقالها. قال إنما عن السماء سألتك قال مطلة مستقلة على غير سقاب ولا أطناب يختلف عصراها ويتعاقب سراجاها، قال ليس عن هذا أسألك قال فسل عما بدالك قال هل أصاب الأرض غيث يوصف قال نعم أغمطت السماء في أرضنا ثلاثاً رهواً فثرت وأرزغت ورسغت ثم خرجت من أرض قومي أقروها متواصية لا خطيطة منها حتى هبطت تعشار فتداعى السحاب من الأقطار فجاء السيل الجرار فعفا الآثار وملأ الجفار وقوب الأشجار وأجحر الُحضار ومنع السفار ثم أقلع عن نفع وإضرار فلما اتلأبت في الغيطان ووضحت السبل في القيعان تطلعت رقاب العنان من أقطار الأعنان فلم أجد وزراً إلا الغيران فقات وجارالضب فعادت السهول كالبحار تتلاطم بالتيار والحزون متلفعة بالغثاء والوحوش مقذوفة على الأرجاء فما زلت أطأ السماء وأخوض الماء حتى أطلعت أرضكم اه. أغمطت السماء دام مطرها، رهواً ساكتاً، ثرت تركته ثرية، أرزغت تركت الأرض في رزغة والرزغة والردغة الطين إذا أغطى القدم، رسغت بلغت الرسغ، متواصية متصلة، الهطيطة والخطيطة أرض لم يصبها مطر بين أرضين ممطورتين، وتعشار موضع، والعنان السحاب والأعنان نواحي الشخب فقأت من القي وجار الضب وهو عندهم غاية

ما يوصف به المطر وهو عندهم الذي يجر الضب من وجارها فيخرجها من كثرة سيله. وقوله والحزون ومتلفعة بالغثاء يقول بلغ الماء رؤوس الحزون ثم نضب عنها فبقي الغثاء في موضعه. ومن الوصف الجيد التام في تكاثف المطر قول بعضهم: وقع مطر صغار وقطر كبار وكأن الصغار لحمة للكبار، جعل الهواء كالثوب المنسوج من كثرة المطر وتكائفه. ومن أجود ما قاله محدث في وصف السحاب والقطر والرعد والبرق ما أنشدناه أبو أحمد عن نفطويه للعتابي: (أرقتُ للبرقِ يخفو ثُمَ يأتلقُ ... يخفيهِ طوراً ويبديهِ لنا الأفُقُ) (كأنهُ غرةٌ شَهباء لائحةٌ ... في وجهِ دَهماءَ ما في جِلدها بلقُ) (أو ثغرُ زنجية تفترُ ضاحكةً ... تبدو مشافرهُا طوراً وتنطبقُ) (أوسلةُ البِيض في جأواءَ مظلمة ... وقد تلقت ظُباها البيضُ والدرق) (والغيمُ كالثوبِ في الآفاقِ منتشرٌ ... من فوقهِ طبقٌ من تحتهِ طبق) (تظنه مصمتاً لافتقَ فيه فان ... سالت عواليهِ قلتَ الثوب منفتق) (إن مَعمعمَ الرعدُ فيهِ قلتَ ينخرق ... أو لألأ البرق فيهِ قلتَ يحترق) (تستكُ من رعدهِ أذنُ السميع كما ... تعْشَى إذا نظرتْ من برقهِ الحدق) (فالرعد صهصلقٌ والريحُ منخرق ... والبرق مؤتلقٌ والماء منبعقُ) (قد حالَ فوقَ الربُى نورٌ له أرجٌ ... كأنهُ الوشيُ والديباجُ والسَرقَ) (من صفرةٍ بينها حمراء قانية ... وأصفرٌ فاقعٌ أو أبيضٌ يَقق) فاستحسنت هذه الطريقة فقلت: (برقٌ يطرز ثوبَ الليل مؤتلق ... والماء من نارهِ يهمي فينبعقُ) ( ... توقدت في أديم الأرضِ حمرتهُ ... كأنها غرةٌ في الطرفِ أو بلق) (ما امتدَ منها على أرجائه ذهبٌ ... إلا تحدر من حافاته ورق)

(كأنها في جبين المزنِ إذ لمعت ... سلاسلُ التبرِ لا يبدو لها حلقُ) (فالرعد مرتجسٌ والبرق مختلس ... والغيثُ منبجسٌ والسيلُ مندفقُ) (والضال فيما طما من مائهِ غرق ... والجزع فيما جرى من سيله شرق) (والغيم خزٌ وأنهاء اللوى زَرَدٌ ... والروضُ وشيٌ وأنوارُ الربى سَرق) (والروضُ يزهوهُ عشبٌ أخضرٌ نضرٌ ... والعشبُ يجلوهُ نورٌ أبيضٌ يققُ) ومما ورد في المياه: (من سيولٍ يمجها الواديانِ ... وثلوجٍ يذيبها العصرانِ) (ذو استواءٍ إذا جرىَ والتواءٍ ... هل تأملتَ مزحَف الأفعوان) (فهو حيث استدارَ وقفُ لجينٍ ... وهو حيث استطارَ سَيفُ يمان) وقال ابن المعتز: (لا مثلَ منزلةٍ الدويرةِ منزلٌ ... يا دار جادَكِ وابلٌ وسقاكِ) (بؤساً لدهرٍ غيرتكِ صروفهُ ... لم يمحُ من قلبي الهوَى ومحاكِ) (لم يحلُ بالعينينِ بعدكِ منظرٌ ... ذُمّ المنازلُ كلُّهنّ سِواك) (أيُ المعاهدِ منكِ أندبُ طيبةً ... ممساكِ ذا الآصالِ أو مغداك) (أم بَردُ ظلك ذي الغصونِ وذي الحيا ... أم أرضُك الميثاءُ أم ريّاكِ) (وكأنما سطَعَت مجامرُ عنبرٍ ... أوفُتَّ فأرُ المِسكِ فوقَ ثَراك) (وكأنما حصباءُ أرضكِ جَوهرٌ ... وكأن ماءَ الوردِ دمعُ نداكِ) (وكأن درعاُ مفرعاً من فِضّةٍ ... ماءُ الغديرِ جرَتْ عليهِ صباكِ) وهذه الأبيات أحسن أبيات قيلت في صفة دار. وقلت: (شققنَ بنا تيارَ بحرٍ كأنهُ ... إذا ما جرت فيهِ السفينُ يعربدُ) (ترى مستقرَ الماءِ منهُ كأنهُ ... سبيبٌ على الأرض الفضاءِ مُمددُ)

(ويجري إذا الأرواحُ فيهِ تقابلت ... كما مالَ من كفَ النهاميِّ مبردٌ) (فإن تسكنِ الأرواح خلتَ متونهُ ... متونَ الصفاحِ البيضِ حينَ تجرد) (فطوراً تراهُ وهو سيفٌ مهندٌ ... وطوراً تراهُ وهو درعٌ مسرَد) (نصعدُ فيه وهو زُرق جِمامه ... فنحسبُ أنا في السماء نصعَّد) وقال ابن طباطبا العلوي في مَدَ الوادي: (يا حسن وادينا ومدَ الماءِ ... قد جاءَ بينَ الصيفِ والشتاء) (يختالُ في حٌ لتهِ الكدراءِ ... أكدرُ يمتدُ على غبراء) (في صَخَبٍ عالٍ وفي ضوضاءِ ... يصافحُ الرياحَ في الهواء) (ترى به تناطحَ الظباء ... جماءَ قد شُدت إلى جَماء) (فانظر إلى أعجبِ مرأى الرائي ... من كدرٍ ينجابُ عن صفاءِ) (تقشع الغيم عن السماء ... ) وقال السري في المد وانقطاع الجسر ببغداد: (أحذركم أمواجَ دجلةَ إذ غدت ... مصندلة بالمدَ أمواجُ مائها) (فظلت صغارُ السفنِ يرقصنَ وسطها ... كرقصِ بناتِ الزنجِ عند انتشائِها) (تغرقها هوجُ الرياحِ وتعتلي ... ربى الموجِ من قدامها وورائها) (فهنَ كدهم الخيلِ جالت صفوفها ... وقد بَدرَتها روعةٌ من ورائها) (كأنَ صفوفَ الطيرِ عاذت بأرضها ... وقد سامها ضَيْماً أسودُ سمائها) (أو الشبحُ المسودُ حُلَتُ عقودُهُ ... على تربةٍ محمرةٍ من فضائها) وقلت: (مررتُ بنهرِ المسرقُان عشيةً ... فأبصرتُ أقماراً تروحُ وتغربُ) (كأنهمُ درُ تقطعَ سلكهُ ... وغودرَ فوقَ الماءِ يطفو ويرسبُ) (فكم ثمَ من خشفٍ على الماء لاعبٍ ... فَيا مَنْ رأى خشفاً على الماء يلعب) (كأن السميريات فيه عقاربٌ ... تجئ على زُرق الزجاجِ وتذهبُ)

الفصل الثاني من الباب السابع

وقال أبو بكر الصنوبري: (إذا السماء أعنقت ... منها إلى شطّ وشطّ) (حسبت أن بطّها الأمواجُ ... والأمواجُ بطّ) وقال: (وروضةٌ أريضة الأرجاءِ ... من ذهب الزهر لجين الماء) (يجري على زمردِ الحصباءِ ... بين إستواءٍ منهُ والتواء) (كما نفضتَ جَوْنَة الحوَّاء ... ) وقال أبو فراس بن حمدان: (أنظر إلى الزهرِ البديعِ ... والماءِ في برك الربيع) (وإذا الرياحُ جرت عليه ... في الذهابِ وفي الرجوع) (نثرت على بيض الصفائح ... بينها حَلَقَ الدُروع) ومن أوائل ما جاء في ذكر الماء المظلل بالأشجار قول لبيد: (فتوسطا عرضَ السماء فصدعا ... مسجورة متجاوزٌ قُلاَمها) (محفوفةٌ وسطَ اليراع يظلها ... منه مصرعُ غابةٍ وقيامها) وقال بشر بن أبي خازم في البحر: (ونحن على جوانبها قعودٍ ... نغضُ الطرفَ كالإبلِ القماحِ) (إذا قطعت براكبها خليجاً ... تذكر ما لديه من الجناح) (الفصل الثاني من الباب السابع) في ذكر الرياض والأنوار والبساتين والثمار وما يجري مع ذلك أخبرنا أبو أحمد عن رجاله عن أبي عمرو وغيره قالوا أجود ما قيل في وصف روضة قول الأعشى: (ما روضةٌ من رياضِ الحزنِ معشبةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مسبلٌ هَطِل) (يضاحك الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزرٌ بعميم النبتِ مكتهلُ)

(يوماً بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذ دنا الأصلُ) قال المصنف خص العشي لأن كون الانسان بالعشي أحسن منه بالغداة لرقة تعلوه بالعشي وتهيج يعتاده بالغداة وتعتري الألوان بالعشيات صفرة قليلة تستحسن ولذلك شبهها بالروض لما في الروض من الزهر وهو أصفر، ومن هذا قوله أيضاً (وصفراء العشية كالعرارة ... ) وقال بعضهم بل خص العشي لنقصان الحسن فيه قال فشبهها في نقصان الحسن بالروضة في حال تمام حسنها، وليس كذلك لأن الروض بالغداة أحسن منه بالعشي. والتشبيه المصيب من الشعر القديم قول بشر بن أبي خازم: (وروضٍ أحجمَ الروادُ عنهُ ... له نَفَلٌ وحَوذْان تؤامُ) (تعالى نبتهُ واعتمَ حتى ... كأنَ منابتَ العُلجان شامُ) الشام جمع شامة أي ظاهر كظهور الشامة في الوجه ويقال ما أنت إلا شامة أي أمرك ظاهر. وأنشد الجاحظ قول النمر بن تولب العكلي: (ميثاءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلٌ ... فأمرعت لإحتيال فرطَ أعوام) (إذا جف ثراها بلها ديمٌ ... من كوكب نازلٍ بالماء سجام) (لم يرعها أحدٌ وارتبها زمنا ... فأوٌ من الأرض محفوفٌ بأعلامِ) (تسمعُ للطير في حافاتها زَجَلاً ... كأنَ أصواتها أصواتُ خُدام) (كأنَ ريحُ خُزاماها وحَنوتها ... بالليلِ ريحُ يلنجوجٍ وأهضام) ولم يدع شيئاً يكون في الخصب إلا ذكره. ومن أبلغ ما وصف به كثرة الكلأ ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن عمه عن ابن الكلبي عن أبيه قال خطب ابنه الخس ثلاثة نفر من قومها فارتضت أنسابهم وجمالهم وأرادت أن تسبر

عقولهم فقالت لهم إني أريد أن ترتادوا إلى مرعي فلما أتوها لقالت أحدهم ما رأيت قال رأيت بقلاً وبقيلاً وماءً غدقاً سيلا يحسبه الجاهل ليلاً قالت أمرعت وقال الآخر رأيت ديمة فوق ديمة على عهاد غير قديمة فالناب تشبع قبل الفطيمة. وقال الثالث: رأيت نبتاً ثعداً معداً متراكباً جعداً كأفخاد نساء بني سعد تشبع منه الناب وهي تعدو اه. بقلاً وبقيلاً: يقول بقل قد طال وتحته عمير قد نشأ، والغدق الكثير يحسبه الجاهل ليلاً من كثافته وشدة خضرته، والديمة المطر يدوم أياماً في سكون ولين، والعهاد أول ما يصيب الأرض من المطر الواحد عهد، تشبع منه الناب قبل الغطيمة: يريد أن العشب قد اكتهل وتم فالناب وهي المسنة من الابل تشبع قبل الصغيرة منها لأنها تنال الكلأ وهي قائمة لاتطلبه ولاتبرح موضعها والفطمية تتبع ما صغر والصغير فيه قليل. وهذه صفة بليغة. وأبلغ منها قول الآخر تشبع منه الناب وهي تعدو أي من طول النبات وكثرته وعمومه تعدو وتأكل لا تحتاج إلى تتبعه وطأطأة رأسها له. ولا أعرف في جميع ما وصف به كثرة الكلأ أبلغ من هذا. والثعد: الرطب اللين والمعد اتباع. والثرى الجعد الذي قد كثر نداه فإذا ضممته بيدك اجتمع ودخل بعضه في بعض كالشعر الجعد، وخص نساء بني سعد لأن الأدمة فيهم فاشية. ومن أبلغ ما قيل في طول الكلأ قول الآخر أنشده ابن السكيت وثعلب: (أرعيتُها أطيبَ أرضٍ عودا ... الصلَ والصفصلَ واليعْضيدا) (والخازبازِ السَنَم المَجودا ... بحيثُ يدعو عامرٌ مسعودا) يقول قد سد النبات من طوله وسبوغه مسعوداً فليس يراه عامر فهو يصيح به، الصل والصفصل وخازباز ضرب من النبات. وليس ألفاظ الأبيات بالمختارة إنما اخترتها لجودة معناها. ونظر أعرابي إلى يوم دجن وإلى نبات غض فاستحسن فقال ارتجالاً: (أنتَ والله من الأيام ... لَدْنُ الطَرَفَيْن)

(كلما قلبتُ عيني ... ففي قرةِ عينِ) وقلت: (أتاهُ يُريدُ المزنَ ينشدهُ الصبا ... فدومَ من أعلى رباهُ ودَّيما) (ولاحَ إليه بالبروقِ مُطرزاً ... فأصبحَ منها بالزواهرِ معلما) ومن بديع ما قاله محدث في صفة الرياض والبساتين قول عبد الصمد بن المعدل أنشدناه أبو أحمد وغيره: (مغانٍ من العيش الغريرِ ومَعْمر ... ومبدى أنيقٌ بالعُذيب ومَحضرُ) (نما الروضُ منهُ في غداةٍ مريعةٍ ... لها كوكبٌ يستأنقُ العينَ أزهرُ) (ترى لامعَ الأنوارِ فيها كأنه ... إذا اعترضتهُ العينُ وشيٌ مُدنر) (تسابقَ فيهِ الأقحوانُ وحنوةٌ ... وساماهما رندٌ نضيرٌ وعبهرُ) (يمجُ ثراها فيهِ عفراء جعدة ... كأن نداها ماءٌ وردٍ وعنبرُ) (أعادَ نسيمُ الريحِ أنفاسَ نشرهِ ... وخايل فيه أحمر اللون أصفرُ) (بدا الشيحُ والقيصومُ عمد فروعه ... وشثٌ وطباقٌ وبانٌ وعَرْعرُ) (وناضرُ رمانٍ يرفُ شكيرهُ ... يكادُ إذا ما ذرت الشمسُ يقطر) (ويَانعُ تفاحٍ كأنَ جنيَهُ ... نجومٌ على أغصانه الخضرِ تزهر) (إذا زرتهُ يوماً تَغرد طائرٌ ... وراناك ظبيٌ بينَ غصنين أحورُ) (فإذ هاجَ نوحُ الأيكِ في رونقِ الضحى ... تذكر محزونٌ أو إرتاحَ مقصر) (تجاوبنَ بالترجيع حتى كأنما ... ترنمَ في الأغصانِ صنجٌ ومِزهر) (مراناةَ موموقٍ وترجيعَ ... شائقٍ فللقلبِ ملهاةٌ وللعينِ منظر) (واني إلى صحنِ العذيبِ لتائقٌ ... واني إليه بالمودةِ أصورَ) (مرعت ولا زالت تصوبك ديمةٌ ... يجودُ بها جونُ الغواربِ أقمرُ) (أحم الكلى واهي العرَى مسبل الجدى ... إذا طعنت فيه الصبا يتفجرً) (كأنَ إبتسامَ البرقِ في حجرِانه ... مهندةٌ بيضٌ تشامُ وتشهرُ)

وقول ابن المعتز يتضمن صفة الأنوار على التمام ولا يكاد يشذ منه شئ البتة وهو: (والروضُ مغسولٌ بليلٍ ممطرِ ... جَلا لنا وجه الثرى عن منظر) (كالعصبِ أو كالوشي أو كالجوهرِ ... من أبيضٍ وأحمرٍ وأصفرِ) (وطارقٍ أجفانُه لم تنظر ... تخالهُ العين فماً لم يُغفر) (وفاتقٍ كادَ ولم ينورَ ... كأنه مبتسمٌ لم يَكشر) (وأدمعٍ الغُدْران لم تكدرِ ... كأنه دراهمٌ في مَنثر) (أو كعشورِ المصحف المنشر ... والشمس في أصحاءِ جوٍّ أخضر) (كدمعةٍ حائرةٍ في محجَرِ ... تُسقي عُقاراً كالسّراج الأزهر) (مُدامةً تَعْقِر إن لم تُعقَر ... يديرها كفُ غزالٍ أحور) (ذي طرةٍ قاطرةٍ بالعنبرِ ... ومَلَثم يكشفهُ عن جوهرِ) (وكفلٍ يشغلُ فضلَ المِئزَر ... تخبرُ عيناهُ بفسقٍ مضمَرِ) (يعلّم الفجور إن لمَ يفجر ... ) وقلت: (فمن بين صُفرٍ وحمرٍ وخُضر ... على القضبِ غيدٍ وزور وصورِ) (ولعسٍ تناسبُ لعسَ الشفاه ... وبيضٍ تعارضُ بِيض الثغورِ) (نواظرَ من بينِ يقظى ووسنى ... ونُجل وحُزرٍ وحُولٍ وحُور) وقد استوفى في هذه الأبيات جميع أوصاف الأنوار على اختلاف حالاتها. وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا التنوخي لنفسه: (أما ترى الروضَ قد وافاك مبتسماً ... ومدَ نحوَ النَدامى للسلام يدا) (فأخضرٌ ناضرٌ في أبيض يَقق ... وأصفر فاقع في أحمر نُضدا) (مثل الرقيبِ بدا للعاشقينَ ضحى ... فاحمرَّ ذا خجلا وأصفرَ ذا كمدا) ومن المشهور قول الحماني: (ديمٌ كأنَ رياضها ... يُكسين أعلامَ المطارف)

(وكإأنما غُدرانُها ... فيها عُشورٌ في مصاحفِ) (وكأنما أنوارُها ... تهتزُ بالريح القواصف) (طرر الوصائف يلتفتنِ ... بها إلى طررِ الوصايف) وقلت: (وروضةٍ حاليةِ الصدور ... كاسيةِ البطونِ والظهورِ) (محمودة المخبورِ والمنظور ... مونقةِ المطوىَ والمنثور) (معجبة الظاهرِ والمستور ... ضاحكة كالوافدِ المحبور) (باكية كالعاشقِ المهجورِ ... شذَّرها الغيثُ بلا شذور) (شقائق كناظرِ المخمورِ ... وأقحوانٌ كثغورِ الحورِ) (ونرجسٌ كأنجم الديجور ... والطل منثور على منثور) (يرصعُ الياقوتَ بالبللورِ) وقال السري وأحسن، وليس فين تأخر من الشاميين أصفى ألفاظاً مع الجزالة والسهولة وألزم لعمود الشعر منه: (وجناتٍ يحي الشربَ وهنا ... جنىَ وهداتها وحتى ربَاها) (إذا ركد الهواءُ جرت نسيماً ... وإن طاحَ الغمامُ طَغَتْ مياها) (يفرجُ وشيها عن ماءِ وردٍ ... يفيضُ على اللآلئ من حصاها) (تعانقُ ريحها لممَ الخزامى ... وأعناق القرنفُل في سُراها) (ويأبى زهرهُا إلا هجوعاً ... ويأبى عرفها إلا انتباها) وقال البحتري: (قطرات من السحابِ وروض ... نثرت وردها عليهِ الخدودُ) (فالرياحُ التي تهبُ نسيمٌ ... والنجومُ التي تطلُ سعود) وقال ابن الرومي: (أصبحت الدنيا تروقُ من نظرْ ... بمنظرٍ فيه جلاءٌ للبصْر)

(واهاً لها مصطنعاً لقد شكرْ ... أثنتْ على اللهِ بآلاءِ المطرِ) (والأرضُ في روضٍ كأفواه الحبر ... تبرجت بعدَ حياءٍ وخَفَرٍ) (تبرجَ الأنثى تصدّى للذّكرِ) وقال وأحسن: (وحِلس من الكتانِ أخضرَ ناضرٍ ... يباكرهُ دانِ الرَّبابِ مَطيرُ) (إذا دَرَجت فيه الرياحُ تتابعتْ ... ذوائبهُ حتى يقالَ غديرُ) وقلت: (أنظر إلى الصحراءِ كيفَ تزخرفت ... وإلى دموعِ المزنِ كيف تُذرف) (وعلى الربى حُللٌ وشاهنَ الحيا ... فمسهمٌ ومقصبٌ ومفوفُ) (وملابسُ الأنواء فيها سُندسٌ ... ومضاجعُ الأنداءِ فيها زخرفُ) (نمَ الرياحُ على الرياضِ نمائماً ... ذَكرنَك الكافورَ حين يُدوف) (وعلى التلاع من الأقاحي حُلةٌ ... وعلى اليفاغ من الشقائقِ مطرف) (والغيمُ تنقشهُ الرياحُ عَشيةً ... كاقطن في زرقِ الثياب يندفُ) (والقطر يهمي وهو أبيضُ ناصعٌ ... ويصيرُ سيلاً وهو أغبرُ أكلف) (والبرقُ يلمعُ مثلَ سيفٍ يُنتَضى ... والسيلُ يجري مثل أفعى تزحف) وقال أعرابي: باكرنا وسمىٌ ثم خلفه وليٌ فالأرض كأنها وشي منشور عليه لؤلؤ منثور ثم أتتنا غيوم جرار بمناجل حصاد فاختربت البلاد وأهلكت العباد فسبحان من يهلك القوي الأكول بالضعيف المأكول وقال أبو تمام: (الروضُ ما بينَ مغبوقٍ ومصطبحِ ... من ريقِ محتفلات بالحيا دُلُحِ) (جونٌ إذا هطلت في روضةٍ طفِقَتْ ... عيونُ نُوّارِها تبكي من الفرحِ) وقال أبو الغضبان اليمامي: (غدونا على الروضِ الذي طلهُ الندى ... سحيراً وأوداجُ الأباريقِ تسفَكُ) (فلم أرَ شيئاً كانَ أحسنَ منظراً ... من الروضِ يجري دمعهُ وهو يضحك)

وقال غيره: (وإذا الزمردُ مثمر ذهباً ... ومن اللجين لعسجد ورق) (لا زال يُمتعنا بجِدتِه ... وجديده بجديدنا خَلَق) وقال غيره في تلون الأرض: (فترى الرياضَ كأنهنَ عرائسٌ ... يُنقلنَ في صفراءَ من حمراء) وقال أبو تمام (رقّت حواشى الدهر وهي تمر مر ... وغدا الندى في حَليهِ يتكسرُ) (مطرٌ يروقُ الصحوُ منهُ وبعدهُ ... صحوٌ يكادُ من النضارةِ يمطرُ) (وندىً إذا ادَّهنت به لممُ الثرَى ... خلتَ السحابَ أتاهُ وهو معذِّر) (ما كانتِ الأيامُ تسلبُ بهجةً ... لو أنَ حُسنَ الروضِ كان يعمرُ) (أوَ لا ترى الأشياءَ إذ هي غيرت ... سَمُجَت وحسنُ الروضِ حينَ يغيّرُ) (يا صاحبيَّ تقصّيا نظريكما ... تريا وجوهَ الأرضِ كيف يُصور) (تريا نهاراً مشمساً قد شابهُ ... زهرُ الرُّبى فكأنما هو مقمرُ) (دنيا معاشٍ للورى حتى إذا ... جلّى الربيعُ فإنما هي منظرُ) (أضحت تصوغُ ظهورَها لبطونِها ... نوراً تكادُ له القلوبُ تنور) (من كلَ زاهرةٍ تَرَقَرَقُ بالندى ... فكأنما عينٌ عليه تحدرُ) (تبدو ويحجبها الجميمُ كأنّها ... عذارءُ تبدو تارةً وتخفّرُ) الجميم متكاثف النبت، يقول يظهر بتحريك الرياح إياه ويستتر عند سكونها فيغطيه الجميم: (صنعُ الذي لولا بدائعُ لطفهِ ... ما عاد أصفرَ بعدَ إذ هو أخضرُ) وقلت في مديح (إني أرى لك في السماحة والندَى ... طلقاً ذريتَ به على الأطلاقِ) (طَلَق الغمامِ سرَى بوجهٍ باسرٍ ... يُروي الوجوهَ ومبسم براق) (ثقلت على عنق الصبا أعباؤهُ ... مثل الضعيف ينوء بالأوساق)

(فترى النباتَ يروقَ وسط رياضهِ ... مثل الحلىَ تروقُ وسطَ حِقاقِ) وقال البحتري: (إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ ... مستحسنٍ وزمانٍ يشبهُ البلدا) (يمسي السحابُ على أجيالها فرقا ... ويصبح الروضُ في صحرائها بِددا) (فلستَ تبصرُ إلا واكفاً خضلاً ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا) وقال أيضاً: (ولا زال مخضرٌ من الأرض يانع ... عليه بمحمرّ من النورِ جاسد) (يذكرنا ريَّا الأحبةِ كلما ... تنفس في جنح من الليل باردِ) (شقائقُ يحملنَ الندَى فكأنهُ ... دموع التصابى في خدودِ الخرائدِ) (ومن لؤلؤ كالأقحوانِ مُنضد ... على نكت مصفرة كالفرائدِ) (كأنَ جنى الحوْذان في رونقِ الضحى ... دنانيرُ تبر من تؤام وفارد) (رباع تورت بالرياض مَجودة ... بكلَ جديد الماءِ عذبِ الموارد) (إذا راوحتها مزنةٌ بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد) (كأنَ يَدَ الفتح بنِ خاقانَ أقبلت ... تليها بتلك البارقاتِ الرواعدِ) وقلت: (أما ترى عودَ الزمانِ نضرا ... ترى لهُ طلاقةً وبشرا) (أتتهُ ألطافُ السحابِ تترى ... وساقت الجنوبُ غماً بكرا) (تَبسُط في الصحراءِ بُسطاً خضراً ... وتمنحُ الروضةَ زهراً صفرا) (ونرجساً مثلَ العيونِ زهرا ... وأقحوانٍ كالثغور غرّا) (كأنما يصوغ فيها تِبرا ... كأنما يَدُوفُ فيها عطرا) (كأنما ينثرُ فيها دُرا ... فأعمل الكاسات شُمطاً شُقرا) (كالماءِ لوناً والعبير نَشرا ... ثم مُرِ الَزيرَ يناغي الزمرا) (والعيشُ أن تُسرَ أو تُسرا ... لا تفسدنَ بالغرامِ العمرا) أحسن ما قيل في النرجس قال أبي نواس:

(لدى نرجسٍ عضَ القطافِ كأنهُ ... إذا ما منحناهُ العيونَ عيونُ) (مخالفة في شكلهنَ فصفرةٌ ... مكانَ سوادٍ والبياضُ جفون) والناس يشبهونه بالعيون ولا يفضلون هذا التفضيل. ومما لم يقل مثله قول ابن الرومي: (خجلتْ خُدودُ الوردِ من تفضيلهِ ... خجلاً تورُّدُها عليهِ شاهدٌ) (لم يخجلِ الوردُ المورودُ لونهُ ... إلا وناهله الفضيلة عائدُ) (للنرجسٍ الفضل المبينُ وإن أبى ... آبٍ وحاد عن الطريقة حائد) (فصل القضية أن هذا قائدٌ ... زهرَ الربيع وأن هذا طاردُ) (شتانَ بين إثنينِ هذا موعدٌ ... بتسلبِ الدنيا وهذا واعدُ) (وإذا احتفظتَ به فأمتعُ صاحبٍ ... بحياتهِ لو أنَ حياً خالدُ) (يحكي مصابيحَ السماءِ وتارةً ... يحكي مصايبحَ الوجوهِ تُراصد) (ينهي النديمَ عن القبيح بلحظهِ ... وعلى المدامةِ والسماع يُساعد) (إن كنتَ تطلبُ في الملاح سميهُ ... يوماً فإنك لا محالةَ واجد) (هذي النجوم هي التي ربتهما ... يجلد السحابِ كما يُربّى الوالد) (فانظر إلى الأخوينِ مَن أدناهما ... شبهاً بوالدهِ فذاك الماجدُ) (أين العيونُ من الخدود نفاسةً ... ورياسةً لولا القياسُ الفاسد) وقلت: (نرجس مثل أكفّ خُردِ ... درن علينا بكؤوسِ الذهبِ) (ناولنيه مثلهُ في حسنه ... فحلَ من قلبيَ عقدَ الكُرب) (مبتسمٌ عنهُ وناظرٌ به ... هذا لعمري عجبٌ في عجبِ) وقلت في معناه: (ألم ترنا نعطي الغوايةَ حقها ... ونجري مع اللذاتِ جريَ السوابق) (بمحمرةٍ الأجسادِ مبيضة الذُّرى ... كمثلِ سقيطِ الطلِّ فوقَ الشقائق) (لدى الصفر في أوساطِ بيضٍ كأنها ... كؤوسُ عُقار في أكفِّ عواتق) وقال ابن الرومي:

(للنرجسِ الفضلُ برغم مَن رغم ... على صُنوفِ الوردِ والفضلُ قسمْ) (العينُ قبلَ السنِّ وهي المبتسم ... فما لها والخدّ وهو الملتَدَم) (ما أطيبَ الريح وما أزكى النسم ... ما هو إلا نعمةٌ من النعم) ومن التشبيه المصيب قول الآخر: (ونرجسٌ لاحظني طرفها ... يشبهُ ديناراً على دِرهْم) وقال ابن الرومي في الخمر والنرجس: (ريحانهم ذهبٌ على دُرَرٍ ... وشرابهم دررٌ على ذهبِ) وقلت: (يركبُ الأقحوانُ فيها نهاراً ... فترى درهماً على دينارِ) (فرشَتْ فوقَها فرائدُ طلٍ ... علقت بالنباتِ والأشجار) (وتدلّت على الغصونِ فجاءت ... كشنوفِ الكواعبِ الأبكارِ) وقال الآخر: (ونرجس قامَ فوقَ منبره ... مثلَ عروس تُجلى وتشتهرُ) (نامَ الندَى في عيونهِ سحراً ... فاعتاده من منامهِ سهر) (لم يغتمض والظلامُ حلَ بهِ ... كأنما في جفونه قصرُ) (تحيرَ الطلُ في مدامعهِ ... فليسَ يرقا وليس ينحدر) (كدمعةِ الصبَ كادَ يسكبها ... فردَّها في جفونهِ الحذرُ) وقلت: (وغنت الطيرُ بألحانها ... فانتبهَ النرجسُ من رقدته) وأحسن ما قيل في الورد قبل أن يتفتح قول بعض المحدثين: (قد ضمهُ في الغصنِ قرصُ بَرْد ... ضمّ فَمٍ لقُبلةٍ من بُعد) وقلت فيه إذا تفتح: (مرَ بنا يهتزُّ في خطره ... ما بينَ أغصان وأقمارِ) (يديرُ في أنملهِ وردةً ... جاءت من المسك بأخبار) (يلوحُ في حُمرتها صُفرةٌ ... كالخدَ منقوطاً بدينارِ) ِ ...

وقال ابن المعذل: (عشيةَ حياني بوردٍ كأنه ... خدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض) وقلت: (قومي انظري ورداً كخدك أحمراً ... تركَ الربيعَ وراءهُ وتقدما) (قد ضمهُ بردٌ ففتقهُ ندى ... كالصبَ قبل فاك ثم تبسما) ولم أجد في تشبيه الورد أبدع مما ذكرته، وتشبيهه بالخد تشبيه مصيب ولكني تركت الإكثار منه لشهرته وكثرته ويقال للوردة الحمراء الحوجة وللبيضاء الوتيرةَ ويشبه بها قرحة الفرس قال عمرو بن معدي كرب: (تباريُ قرحةً مثل ... الوتيرة لم تكن معدا) وقد أحسن علي بن الجهم في قوله يصف الورد (كأنهن يواقيتٌ يطيفُ بها ... زمردٌ وسطها شذرٌ من الذهبِ) وهو من قول أزدشير: الورد ياقوت أحمر وأصفر ودر أبيض على كراسي زبرجد يتوسطه شذور ذهب. وقال البحتري: (وقد نبهَ النيروزُ في غلسِ الدجى ... أوائلَ وردٍ كُنَ بالأمس نُوما) (يفتحهُ بردُ الندى فكأنه ... يبثُ حديثاً كان قبلُ مكتما) وقلت في تفضيل الورد على النرجس: (أفضلُ الوردَ على النرجسِ ... لا أجعلُ الأنجمَ كالأشمسِ) (ليس الذي يعقد في مجلس ... مثلَ الذي يمثلُ في المجلسِ) وقال ابن بسام: (مداهنٌ من يواقيت منُضدة ... على الزمردِ في أوساطها الذهبُ) (كأنه حينَ يبدءِ من مطالعهِ ... صبٌ يُقبلُ صباً وهو مرتقبُ) ومن الياقوت الأزرق والأصفر والأحمر وليس في البيت دليل على أنه أراد الأحمر دون الأزرق فهو معيب من هذه الجهة. وقلت في الورد على الشجر:

(أصبحَ الورد في الغصونِ يحاكي ... أوجهَ الحورِ في مقامع خضرِ) (مثل فرسانِ غارةٍ يَعْتَليِهم ... لمعٌ من دماء سحرٍ ونحرِ) (ويلوحُ النهارُ أسفلَ منهُ ... فهو كالرجلِ في عمائم صفرِ) (بين نبذ من الشقائق يحكي ... غِلْمَةَ الدَر في مطارف حمر) وقال ابن المعتز: (ولا زورديةٍ أوفَتْ بزُرقَتِها ... بينَ الرياضِ على زرقِ اليواقيتِ) (كأنها فوقَ طاقاتٍ ضعفنَ بها ... أوائلَ النارِ في أطرافِ كبريت) والصحيح أنه في الخرم والشاهد قوله: (بنفسجٌ جمعتْ أطرافهُ فحكَت ... دمعاً ينشفُ كحلا يوم تشتيت) قوله (كأنها فوق طاقات ضعفن بها ... ) يدل على أنه أراد الخرم لأن ساق البنفسجة لا يضعف عن حمل وردتها وهذا الوصف بالخرم أشبه منه لكبر نوره ودقة ساقه فاعرف ذلك. وقلت في البنفسج: (وروضةٌ كأنها من حسِنها ... تبرزُ في أثوابِ سعد ومُنى) (قد نثرَ الليلُ على أنوارها ... لآلئ الطلِّ وأفرادَ الندى) (بكتْ عليها مزنةٌ فابتسمتْ ... عن لؤلؤٍ بينَ فُرادى وثنى) (وحولَها بنفسجٌ كأنّه ... أواخرُ النيرانِ في جزلِ الغضا) وقال آخر: (وكأنَ البنفسجَ الغضَ فيه ... أثرُ اللطمِ في خدودِ الغِيدِ) وقلت: (وبحافاتها البنفسج يحكي ... أثرَ القرصِ في خدودِ العذارى) وقلت في الهنة النادرة تحت ورقة البنفسج ولم أسمع فيها من الشعر العربي شيئاً: (ومغنَّج قالَ الكمالُ لخلقهِ ... كن مَجْمَعاً للطيباتِ فكأنهُ) (زعمَ البنفسجٌ أنهُ كعذارهِ ... حسناً فسلوا من قفاهُ لسانه)

وقال ابن الرومي: (أشرب على ورد البنفسج ... قبل تأنيبِ الحُسودِ) (فكأنما أوراقها ... آثارُ قَرص في الخدود) أغرب معنى جاء في الشقائق قول الأخطيل: (هذي الشقائقُ قد أبصرتُ حمرَتها ... مستشرفاتٍ على قضبانهِا الذللِ) (كأنها دمعةٌ قد مَسحت كُحُلاً ... جالتِ بهِ وقفةٌ في وجنتي خجِلِ) وأظن الأخطيل ابتكره إلا أنه أورده في أهجن معرض وفي أشد ما يكون من التكلف وأتى بالمحال لأن الوقفة لا تجول فنظمته وقلت: (وشقائقٌ نقشَ الربيعٌ ثيابَها ... فبرزنَ بينَ مُكحَلٍ ومُجَسد) (كالخدَ يصبغهُ الحياءُ بحمرةٍ ... وجرى عليهِ الدمعُ خلطَ الإثمدِ) ومن غريب ما قيل فيها قول بعض المتأخرين: (طربَ الشقائقُ للحمامِ وقد شجا ... شجوَ القيانِ فشقَ فضلَ ردائه) (وتحيرت ما بين إثمد ماقه ... في الخدَ دمعتهُ وبينَ حيائه) (فكأنه الحبشيُ بُضعَ جسمهُ ... فثيابهُ مُخضلةٌ بدمائه) وجعل الشقائق واحداً وهي جماعة مؤنثة والواحد شقيقه فإذا ذكر فعلى معنى النور وتسميه العرب الشقر. وقلت: (وللشقائق خالٌ فوقَ وجنتِها ... ووجنةِ الوردِ بالدينارِ منقوطَه) وقال التنوخي: (شقائقٌ مثلُ خدودٍ نُقشتْ ... شواربٌ بالمسكِ فيها ولحى) وهو بعيد لأن السواد الذي فيها لا يسبه الشوارب. ومن أحسن ما قيل في الآذريون قول ابن المعتز: (يا ربما نازعني ... رُوح دِنانٍ صافيه) (في روضةٍ كأنها ... جلد سماءٍ عارية)

(كأنما أنهارها ... بماءِ وردٍ جارية) (كأن آذر يونها ... غب سماء هامية) (وصَيَّر آذريونهُ فوقَ أذنهِ ... ككأسِ عقيقٍ في قراراتها مسكُ) وقلت: (ولاحَ آذرُيونُها ... مثلَ الغوالي في السررِ) وقال الشمشاطي: (تراهُ عُيوناً بالنهارِ نواظراً ... وبَعَدَ غروبِ الشمسِ أزرارَ ديباجِ) وقال ابن المعتز: (كأنها مداهنٌ من ذهب ... مشرفاتٌ وسطهنَ غاليه) أتم التشبيه ههنا بقوله (مشرفات) . ومن جيد ما قيل في البهار قول ابن الرومي: (وروضةٍ عذراءَ غيرُ عانسه ... خضراء ما فيها خلاة يابسة) (فيها شموسٌ للبهارِ دارسه ... كأنها جماجمُ الشمامسة) (تَرُوقك النورةُ منها الناكسة ... بعينِ يقظَى وبجيد ناعسه) (وخُرَّم في صبغهِ الطيالسه ... مثل الطواويسِ غدتُ مطاوِسه) وقال ابن المعتز: (في روضةٍ كحللِ العروسِ ... وخرمَ كهامةِ الطاووسِ) وقلت في المذهب الذي سلكه ابن الرومي: (خرمةٌ كهامةِ الطاووسه ... داريَ من بهجتِها مأنوسه) (والعينُ في فنائها محبوسه ... محفوظةٌ تحسبها محروسه) (تعجبني منظورةٌ ملموسَه ... مرفوعةُ الهامةِ أو منكوسة)

(باقوته لكنها مغروسة ... في زهر كالشعل المقبوسة) (كحلل ألوانها ملبوسة) وقال التنوخي: (ومن خُرم غض خِلالَ شقائقٍ ... يلوحُ كخيلانٍ على وردتي خدِّ) وإذا كان في الخد خيلان لم يستحسن الخال الواحد. وقلت: (على رياضِ خُرم كأنها رؤوسُ هدابِ حرير االححل) وقال ابن طباطبا: (وطَوَّس فيها خُرمٌ فكأنها ... صماماتُ وشىٍ هُيئَت لمخازن) وقلت في البهار والورد: (وردٌ إلى جنبهِ بَهار ... كالخدَ أصغى إليهِ قُرط) وقد جمعت أصناف المنثور في أبيات وما جمعها أحد إلا بعض الكتاب في أبيات غير مختارة الرصف فقلت: (ألوانُ منثورٍ يريْك حسنها ألوانَ ياقوتٍ زها في عقده) (يا حسنها في كفَ من يشبهها ... فانظر إلى الندَ بكفَ نِده ... ) (من أشهل كعينهِ وأبيضٍ ... كثغرهِ وأحمر كخده) (وأصفرٍ مثلِ صريع حُبه ... إذا تغشاهُ غواشي صَده) وقال السري في الورد: (أما ترى الوردَ قد باحَ الربيعُ بهِ ... من بعد ما مرَ حولٌ وهو إضمارُ) (وكان في حللٍ خضرٍ وقد خلعت ... إلا عُرى أغفلت منها وأزرار) وقلت: (ليس ينفكُ للغمام أيادٍ ... تتكافا وأنعم تتجددُ) (فترى رعدهُ يشقُّ حريراً ... وسنا برقه يطرز مطرداً) (وترى للزمانِ غُصناً وريقاً ... يملكُ الطرفَ إذ يقومُ ويأود)

(أنبتَ الأرضَ عسجداً ولجيناً ... فالروابي مكللٌ ومقلدُ) (وجرى الربحُ سجسجاً ورخاءً ... فالمناهي مسلسلٌ ومسُردَ) (وسبى العينَ لؤلؤٌ وعقيقٌ ... نظما في زمردٍ وزبرجد) (فترى ثَمَ مضحكاً يتجلى ... وترى ثَم وجنةً تتوردُ) (قطرات الندَى أحادٌ ومثنى ... مثل دُر منظمٍ ومبدد) (وكأنَ الشقيقَ كأسُ عقيقٍ ... طرحَ المسكَ في قرارتها ندُّ) (فترى النجدَ في رداءٍ موشّى ... وترى الوهدَ في قميص مُعمد) (وعليهِ من البهارِ عطاف ... ومن الوردِ والشقائق مُجسدَ) (وتَرَى النورَ مثلَ مَضحك خَود ... وترى الغصنَ مثلَ شاربِ أمرد) ومن بديع ما قيل في كمون النيلوفر وظهوره قول ابن الرومي: (فكأنهُ في الماءِ صاحبُ مذهبٍ ... أغراهُ وسواسٌ بأن لا يظهر) وقال السري: (ونيلوفرٍ أوراقهُ الخضرُ تحتهُ ... بساطٌ إليهِ الأعينُ النجلُ شُخَص) وهذا البيت غير مختار الرصف ظاهر التكلف: (إذا غاصَ في الماءِ النمير حسبتهُ ... رؤوسَ إوَزّ في الحياضِ تغوصُ) وقوله النمير لا يحتاج إليه. وقال آخر من أبيات: (كأنما كلُ قضيبٍ بها ... يحملُ في أعلاهُ ياقوته) وقلت: (فشربتها عذراءَ من يدِ مثلها ... تحكي الصباحَ مع الصباحِ المشرقِ) (في روضةٍ تلقاك حينَ لقيتها ... بمنمنم من نبتها ومنمقِ) (فانظر إلى عشبٍ هناك مجمع ... وانظر إلى زهر هناك مفرق)

(تجني بوردٍ كاللجينِ مكفرٍ ... منها ووردٍ كالعقيقِ مخلّقِ) (وكذاك تتحف من مناقع مائها ... بمخلقٍ يعلو ذؤابةَ أخلقِ) (يبدو ويكمن في الغديرِ كأنه ... جانٍ يحاول أن يبينَ ويتقي) (فإلى السرورِ لنا عنانٌ مطلقٌ ... إن الفوائدَ في العنانِ المطلق) وقد أحسن القائل في صفة الرياض: (بكينَ فأضحكنَ الرُبى عن زخارف ... من الروضِ عنهنَ الثرى متهاملُ) (ترى قضبَ الياقوتِ تحتَ زبرجد ... تنوء به أعناقهنَ الموائل) (تلقحها الأنداء ليلاً بريقها فيصبحنَ أبكاراً وهنَ حواملُ) وقلت في الآس ولا أعرف لأحد فيه شيئاً بديعاً: (ومهرجانٌ معجبٌ مونقٌ ... كالنورِ غبَ السَّبَل الساجمِ) (طالعتُ فيهِ غُرَراً وُضَّحا ... كمثلِ أيامِ أبي القاسمِ) (والآس في كفي أحييهمُ ... مثلَ شوابيرِ بني هاشمِ) وقلت في الريحان: (وخضرٌ يجمع الأعجاز منها ... مناطق مثل أطواقِ الحمامِ) (لها حسنُ العوارضِ حينَ تَبدو ... وفيها لين أعطافِ الغلامِ) وقال كشاجم وأحسن: (أرتك يدُ الغيثِ آثارَها ... وأعلنتِ الأرضِ أسرارَها) (وكانت أكَنت لكانونها ... خبيئاً فأعطْته آذارها) والنصف الأول من هذا البيت متكلف: (فما تقعُ العينُ إلّا على ... رياضٍ تصَنّفُ أنوارهَا) (يفتحُ فيها نسيمُ الصًّبا ... جناها فيهتكُ أستارها) (ويسفح فيها دماء الشقيقِ ... ندى ظلَ يفتضُّ أبكارها) (وتدني إلى بعضها بعضَها ... كضمِّ الأحبةِ زُوَّارها)

(كأنَ تفتحها بالضحى ... عذارَى تحللُ أزرارها) (تفضُ لنرجسها أعيناً ... وطوراً تحدقُ أبصارها) (إذا مزنةٌ سكبت ماءها ... على بقعةٍ أشعلت نارها) وقال فيها: (وأقبلَ ينظمُ أنجادَها ... بفيضِ المياهِ وأغوارَها) (وأرضعَ جناتها درهُ ... فعمَّمَ بالنورِ أشجارَها) (ودارَ بأكنافِها دَوْرَةً ... تنسى الأوائل برجارها) وقال أيضاً في الباقلي: (جنيُّ يومٍ لم يؤخر لغدِ ... ولم ينقل من يدٍ إلى يدِ) (كالعقدِ إلا أنه لم يُعقدِ ... أو كالفصوص في أكفَ الخرَّدِ) (أو ككبار اللؤلؤِ المنضّد ... في طيِّ أصدافٍ من الزبرجدِ) (مفروشة بالكرسفِ المُلبد ... ) وقلت فيه أيضاً: (أبدى الربيعُ لنا من حسنِ صنعتهِ ... شبائهُ اتفقتْ في الشكلِ والصور) (خضرٌ ظواهُرها بيضٌ بطائنُها ... تحكي القباطيَ تحت السندسِ النضر) (بيضٌ شبائهُ في خضرِ ململمةٍ ... مثل الزبرجدِ مثنياً على درر) (ينشقُ أخضرُها عن أبيضٍ يقِقٍ ... كالثغرِ يشرقُ تحتَ الشاربِ الخضرِ) ومن المشهور في ورد الباقلي قول الصنوبري: (وبنات بافلي يُشبه نورهُا ... بلقَ الحمامِ مُشيلةً أذنابَها) وقلت فيه: (ويُزْهى وردٌ باقلي ... كأطواقِ الشعانينِ) وقال السري في غير ذلك: (في زاهر عبق تضوعهُ ... فكأنَ عطاراً يعطره) (ضاهى ممسكهُ معنبرهُ ... وحكى مُدرهمه مدنِّرهُ) ومن أجود ما قيل في البساتين ومواضع الأشجار قول الخليل بن أحمد أخبرنا

أبو أحمد عن رجل عن الرياشي قال كان في يد الخليل بن أحمد أرض من أراضي البصرة ليتيم فلما بلغ اليتيم مضى به الخليل إلى الأرض ومعه قارورة من ماء زمزم فلما جاء المدُ صب ما فيها في فوهة نهرها ليخلص إلى جميعها ثم قال يا بني هذه أرضك فقم فصل فيها ركعتين واشكر الله على ما أعطاك منها وادع بالبركة لك ولمن بعدك، ثم أنشأ يقول في وصفها: (ترفعت عن يدِ الأعماقِ وانخفضت ... عن المعاطشِ واستغنت بسقياها) (فالتفَّ بالزهرِ والريحانِ أسفلها ... ومالَ بالنخلِ والرمانِ أعلاها) (وصارَ يحسده فيها أصادقهُ ... ولائمٌ لامَ فيها من تمناها) (أبا معاويةَ اشكر فضلَ واهبها ... وكلما جئتها فاعمر مصلاها) وقال ابن المعتز في السرو والنرجس: (لدى نرجسٍ غض وسروٍ وكأنهُ ... قدو دُجوارٍ رحْنَ في أزُرٍ خُضرٍ) وقلت: (لبسَ الماءُ والهواء صفاءً ... واكتسى الروضُ بهجةً وبهاءً) (فكأن النهاءَ صرنَ رياضاً ... وكأنَ الرياضَ عدن نِهاءً) (وكأنَ الهواءَ صارَ رحيقاً ... وكأنَ الرحيقَ صارَ هواءً) (وتخالُ السماء بالليل أرضاً ... وترى الأرض بالنهار سماءً) (جللتها الأنواءُ زهراً وصفراً ... يومَ ظلّت تنادمُ الأنواء) (فتراها ما بينَ نوءٍ ونَوْرٍ ... تتكافا تبسماً وبكاء) (وتظلُ الأشجارُ تتخذُ الحسنَ قميصاً أو الجمالَ رداءً) (لبستْ حينَ أثمرتْ خلداتٍ واكتستْ حينَ أورقتِ سِيراءً) (وترى السروَ كالمنابرِ تَزْهى ... وترى الطيرَ فوقها خطباء) وقال أبو عيينة: (تذكرني الفردوسُ طوراً فأرعوي ... وطوراً تواتيني على القصفِ والفتك)

(بغرس كأبكار الجواري وتربةٍ ... كأن ثراها ماءُ وردٍ على مسكِ) وقال السري في تفاح ود ستنبوي ورمان: (إنَ شيطانكَ في الظرفِ ... لشيطانٌ مَريدُ) (فلهذا أنتَ فيه ... مُبدئٌ ثم مُعيدُ) (قد أتتنا طُرَفٌ منك ... على الظرفِ تزيدُ) (طبقٌ فيهِ خدودٌ ... وقدودٌ ونهودُ) وقد أحسن التنوخي في وصف النارنج حيث يقول: (لم لا تجنُ بها القلوب ... وقد غدت مثلَ القلوبِ) وقلت: (تطالعنا بين الغصونِ كأنها ... خدودُ عذارى في ملاحفها الخضرِ) (أتت كلَ مشتاقٍ بريّا حبيبهِ ... فهاجت لهُ الأحزان من حيثُ لا يدريِ) وقال: (إذا لاحَ في أغصانهِ فكأنه ... شموسُ عقيقٍ في قبابِ الزبرجد) وقلت في المركب: (مركب تعجبُ مِن حسنهِ ... قد كنز الفضة في تبره) (يشاكلُ العاشقَ في لونهِ ... ويشبهُ المعشوقَ في نشره) وقال الصنوبري في التفاح وقد ظرف: (أعطت يداهُ محبهُ تفاحةً ... تعطي المحبّ أمانهُ من صدهِ) وهذا البيت متكلف جداً: (فعلمتُ حينَ لثمتها من كفهِ ... إني سألثمُ أختها من خدهِ) وقال أيضاً في أترُجةٍ وأحسن: (جاءَ فحياني بأترجةٍ ... من ذهبٍ قد حُشيتْ فضه) (أتى بها ناعمةً غضةً ... من كفهِ الناعمةِ الغضه) (تُبذلُ للقبلةِ حُسناً ولا ... تصلحُ أن تبذلَ للعضه) (أحببْ بها من مسكةٍ محضةِ ... ناولنيها مسكةً محضهْ)

وقلت في الأترج والنارنج: (ترى النارنجَ في ورقٍ نضيرٍ ... فتحسبهُ عقيقاً في زبرجدِ) (وأترجٌ على الأغصان يزْهى ... كما رفعَ الفتى قنديلَ عسجد) وقال بعضهم في دستنبوية: (يا حَبذا تحيةٌ ... رحت بها مسرورا) (مخزنة من ذهبٍ ... قد مُلئت كافورا) وقال غيره في الليمون: (وقهوة تزهرُ في السراج ... نشربها على كراتِ عاج) (ملبسات أصفر الديباج ... ) وقلت فيه: (أحدقَ ليمونٌ بأترجه ... كأنجمٍ تحدقُ بالبدر) (مخروطة الأجسادِ من فضةٍ ... ملبسات قُمصَ التبرَ) (قد شدَ من هاماتها زِرُّها ... يا عجباً من ذلك الزِّرِّ) (اشرب عليها وتمتعْ بها ... فإنها من تحفِ الدهرِ) ولبعض الكتاب رسالة في التفاح ليس لها نظير في معناها وهي التي أخبرنا بها أبو أحمد قال أخبرنا الجلودي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال أهدى ظريف من الكتاب تفاحة وكتب: لما رأيت تنافس أحبابك وثقات أصدقائك على الهدايا وتواتر ألطافهم عليك تفكرت في هدية تخف مؤنتها ويعظم خطرها ويجل موقعها تجمع الخصال المحمودة وتنظم الخلال المرموقة فلم أجد شيئاً يجتمع فيه ما أحببنا ويكمل له ما وصفنا غير التفاح فأهديت إليك منه واحدة وأحببت أن أنبهك على فضلها وأقفك على نبلها وأكشف لك عن سرائرها وأعرفك لطائف معانيها وأنعت لك مقالة الأطباء فيها وما نظمت الشعراء في مدحها حتى تراها بعين الجلالة وتنظر إليها نظر الصيانة فإنه يحكي عن أمير المؤمنين المأمون أنه قال: اجتمع في التفاح الصفرة الدرية والحمرة الخمرية الذهبية وبياض الفضة ونور القمر يلتذبها من الحواس ثلاث العين لحسن لونها

والأنف لطيب عرفها والفم للذة طعمها، وقال حكيم من الحكماء: الخمر صديقة الجسم والتفاح صديق الروح، وقال آخر منهم وقد حضرت وفاته واجتمع إليه تلامذته وأراد مناظرتهم فضعف عنها فقال: إئتوني بتفاحة أعتصم برائحتها ريثما أقضي وطري من المناظرة. فلم يستخفها إلا لفضلها على غيرها، وقال آخر: جسم التفاح صديق الجسم وريحه صديق الروح، وقال حكيم من الأطباء: إن أجودَ الأشياء لعلاج المزاج الحاد الكائن في المعدة مع المزاج البارد الكائن في الرأس وغثيان النفس وقلة الاستمراء للطعام التفاح، وقال إبراهيم بن هانئ: ما علل المريض المبتلى وسكنت حرارة الثكلى وردعت شهوة الحبلى ولا كسرت فورة السكران ولا أرضي الغضبان ولا ردت عرامة الصبييان بشئ مثل التفاح. والتفاحة إن حملتها لم تثقلك وإن رميت بها لم تؤلمك وقد اجتمع فيها لون قوس قزح من الحمرة والخضرة ولو حل التفاح لكان قوساً ولو عقدت القوس لكانت تفاحاً، وقال بعض الشعراء: (حمرةُ التفاحِ في خضرتهِ ... أقربُ الأشياء من قوسِ قزح) والخمرة تفاحة ذائبة والتفاحة خمرة جامدة. وقال الشاعر (الخمر والتفاح شكلان) وقال آخر (تفاحةٌ حمراءُ منقوشةٌ ... ركبتَها في غصنِ الآس) (ألبستها ورداً وكللتها ... إكليلَ نسرين على الراسِ) وقال آخر في التفاحة: (كأنما حُمرتَها ... حمرةُ خدٍ خَجل) وقال ابن أبي أمية: (ما زلتُ أرجوكَ وأخشى الردى ... معتصماُ باللهِ والصبرِ) (حتى أتتني منك تفاحةٌ ... زحزحتِ الأحزانَ عن صدري) (حشوتها مسكاً ونقشتها ... ونقشُ كفيك من السحرِ) (واهاَ لها تفاحة أهديتْ ... لو لم تكن من خُدَعِ الدهر) فإذا وصلت إليك أوصلك الله إلى رحمته وعطفه فتأمل وصفها بعينك وتناولها

بيمينك وأحضرها ذهنك وفرغ لها شغلك واجمع لها عقلك وغازلها ساعة وهازلها أخرى ولا تكن متهاوناً بقدرها غير عالم بفضلها فتتناولها بحركة باردة وطبيعة جامدة وقلب ساهٍ وعقل لاه وذهن غبي وشراهية نهم عساه أن يكلمها بأسنانه ولا يدري ما قدرها عند إخوانه ويقصر بمن حياه وينتقص من أهداه ولا تخدشها بيدك ولا تثلمها بظفرك ولا تبتذلها للغبار ولا تعرضها للدخان فإذا طال لبثها لديك وخفت أن يرميها الزمان بسهمه ويقصدها بريبه ويذهب بهجتها ويحول نضرتها فهنيئاً لك أكلها والسلام. وشبه بعضهم ورق الريحان بقافات وفاآت في شعر غير جيد فتركته ولم أذكره وقلت في الريحان: (ثم انثنينا إلى خُضرٍ مُنعمةٍ ... كأنَ أوراقها آذانُ جُرذانِ) (وقهوة كجنِيِّ الوردِ وشحهُ ... من لؤلؤِ القطرِ والأنداءِ سمطان) وقال السري في دستنبوية: (وأغنّ كالرشأ الغرير ... نشا خلالَ الربرب) (في خدهِ وردٌ حماهُ ... من القطافِ بعقربِ) (حيا بدستنبويةِ ... مثل السنان المذْهبِ) وقال أيضاً فيها: (صفراء ما عَنَت لعينيْ ناظرٍ ... إلا توهمها سناناً مُذهبا) وقلت: (وأتْرج يحفُ بها أقاحٍ ... كبدرِ الليلِ تكنفهُ النجومُ) وقال السري في نارنجة: (أهدت على نأي المحلَ وقد ... أنأى التصبرَ طُولُ هجرتها) (نارنجةٌ منها استعيرَ لها ... ما ألبستْ من حسنِ بهجتها) (وشعاعها من نور وجنتها ... ويسميها من عطرِ نكهتها) (وكأنَ ما يخفيه باطنها ... ما أضمرت من سوءِ غُدرتها)

(وحكى اخضرارٌ شابَ وجنتها ... قَرصَ الأكفَ أديمَ وجنتِها) (فأتتك مُكملةً محاسنُها ... تختالُ في أثوابِ زينتها) (فشعارُها صفوُ اللجينِ ومن ... ذهبٍ مصوغٌ ثوبُ بِذلتها) (تُهدي إلى الأرواح من بُعدٍ ... تُخفَ السرورِ لطيبِ نشوتها) (ويصونها مسرَى روائحها ... من أن تباشرَها بشمَّتها) (فاشربْ عليها من شقيقتها ... في نعتِ رَيَّاها وصبغتها) (واعطفْ عنانِ النفسِ عن فكرٍ ... راحت معذّبة بفكرتها) وقال ابن طباطبا العلوي في الأترج: (ريحانةٌ في إصفرارِ مهديها ... شبهتها بعدَ فكرةٍ فيها) (أحبةً لم تُصخ لعاذلها ... تُسدً آذانها بأيديها) فأورد المعنى في بيتين فقصر من غرابة معناه. وجعلت دستنبوية مقفعة في غصن آس فسقطت فناولنيها بعض الأحبة فقلت: (وأصفرُ يهوي من ذؤابةِ أخضر ... كما انقضَ نجمٌ في الدجنةِ ثاقبُ) (له شعبٌ تهوي على سَرَواتهِ ... كمثلِ بنانِ الكفَ يلويه حاسب) (فناولنيهِ ذو دلالٍ كأنما ... لهُ الشمسُ أمٌ والبدورُ أقارب) (فأصبح مشهورَ الجمالِ مشهراً ... له الحسنُ خدنٌ والملاحةُ صاحب) وقال بعضهم في الأترج: (لها وَرَقٌ ريحها ريحهُ ... وما ذاك في غيرهِ لو طلب) (كأن تعطف أوراقها ... أكفٌ تشيرُ إلى من تحب) (وقال ابن خلاد في شجر الزيتون: (إذا ذلت الأشجارُ يوماً لجفوةٍ ... فإنَ لها عزَ القناعةِ والصبرِ) (تصرفُ في اللذاتِ من كلِّ مطعم ... تصرفَ زيد آخذاً بقفا عمرو)

وقلت في التفاح: (ليسَ ريحُ التفاحِ عندي بريحٍ ... لا ولكنهُ صَديقٌ لروحي) (حمرةُ الخدَ واخضرارُ عذارِ ... فمليحٌ يطوفُ حَولَ مليحِ) وقال نصر بن أحمد: (أكلتُ تفاحة فعاتبني ... فتىً رآها كخدّ معشوقه) (فقال خَدُ الحبيبِ تأكلهُ ... فقلتُ لا بل أمصُ من ريقه) وقال السري: (لو جُمدت راحنا اغتدت ذهباً ... أو ذابَ تفاحُنا غدا راحا) وقلت في الرمان ولاأعرف فيه شيئاً مرضياً: (حكى الرمانُ أولَ ما تبدَّى ... حقاقَ زبرجدِ يحُشينَ دُرا) (فجاءِ الصيفُ يحشوهُ عقيقاً ... ويكسوهُ مرورُ القيظِ تبرا) (ويحكي في الغصونِ ثديَ حُور ... شققنَ غلائلاً عنهن خضرا) وقلت في خوخة: (وخوخةٍ ملء يدِ الجانيهْ ... تملكُ لحظَ الأعينِ الرانيهْ) (مصفرة الوجنةِ محمرّة ... كأنها عاشقةٌ ساليه) وأجود ما قيل في العنب قول ابن الرومي: (ورازقيّ مخطَفِ الخصورِ ... كأنه مخازنُ بلور) (قد ملئتْ مسكاً إلى الشطورِ ... وفي الأعالي ماءُ وردٍ جُوري) (لم يبقِ منها وهَجُ الحرورِ ... إلا ضياءً في ظررف نور) (له مذاقُ العسل المشورِ ... وبردُ مسَ الخصر المقرورِ) (ونفحةٌ المسك مع الكافورِ ... لو أنهُ يبقى مع الدهور) (قرّط آذانَ الحسانِ الحورِ ... ) وقال في معناه

(ورازقي مخطف خصورهُ ... قد أينعت أنصافهُ الأسافل) (كأنها مخازنٌ مملوءةٌ ... من ماءِ وردٍ فيهِ مسكٌ ثافلُ) لا يزيد على هذا الوصف أحد. ودخل أعرابي على هشام بن عبد الملك فقال له هشام ما أطيب العنب عندكم؟ قال ما أخضر عوده وغلظ عموده وسبط عنقوده ورق لحاؤه وكثر ماؤه. فقال له كم عطاءك؟ فقال ألفين فسكت ساعة ثم قال له كم عطاؤك؟ قال ألفان. قال فلم لحنت أولاً؟ قال لم أشته أن أكون فارساً وأمير المؤمنين راجلاً لحنتَ فلحنتُ ونحوتُ فنحوتُ. فاستحسن أدبه وأجازه. وقلت: (باكرَنا الدهرُ بسرَّائِه ... وكفَ عنا بأسَ بأسائه) (وجاءنا أيلولُ مستبشراً ... يثني على الدهرِ بآلائه) (أما ترى الرقةَ في جوهِ ... تناسبُ الرقةَ في مائه) (أنظر إلى أنواعِ أثمارهِ ... قد ضمها في بُردِ أحشائه) (راحت عليها نسماتُ الصبا ... تقرصها في بردِ أفنائه) (أما ترى حسنَ ملاحيهِ ... يُهدي إلى بهجةِ شعرائه) (أنظر إلى رُمَّانه ضاحكا ... حمراؤهُ في وجهِ بيضائه) وقال ابن المعتز في العنب: (ظلت عناقيدُها يخرجنَ من ورق ... كما اختبى الزنجُ في خضرٍ من الأُزرِ) ويروى لابن المعتز في التفاح: (وتفاحةٍ صفراءَ حمراءَ غضة ... كخدِّ مُحبٍ فوقَ خدِّ حبيبِ) (أحبابها طوراً وأشربُ مثلها ... من الراح في كفي أغن ربيبِ) وقلت في النارنج: (روضٌ زهاهُ المزنُ في كراتهِ ... بمكفرٍ ومزعفرِ ومُضرَّجِ) (فتبسّم النارنجُ في شجراتهِ ... مثلَ العقيقِ يلوحُ في الفيروزج)

(والكأس يحملها أغنُ يزينهُ ... وجناتُ وردٍ في عذارِ بنفسجِ) ومن أجود ما قيل في النخل من قديم الشعر ما أنشدناه أبو أحمد عن الجلودي عن محمد بن العباس عن أبيه عن الأصمعي للنمر بن تولب: (ضربنَ العرقَ في ينبوعِ عينٍ ... طلبنَ مَعينه حتى ارتوينا) (بنات الدهرِ لا يخشينَ محلاً ... إذا لم تبقَ سائمةٌ بقينا) (كأنَ فروعهنَ بكلِّ ريحٍ ... عذارَى بالذوائبِ ينتصينا) وقد ملح النابغة في وقوله: (صغارُ النوى مكنوزةٌ ليس قشرها ... إذا طارَ قشرُ التمرِ عنها بطائرِ) (من الوارداتِ الماءَ بالقاع تستقي ... بأعجازها قبلَ استقاءِ الحناجر) وهذا أجود من الأول لأنه ذكر أنهن وردن الماءَ يعني الماء الذي في بطن الأرض معينا. وقال النمرُ (طلبن معينه) فجعل الماء الذي في بطن الأرض معيناً، والمعين إنما هو الماء الجاري على وجه الأرض ظاهراً. ومن أجود ما قيل في الطلع من الشعر القديم قول كعب بن الأشرف: (ونخيل في تلاعٍ جمةٍ ... تخرجُ الطلعَ كأمثالِ الأكفِّ) وقال الربيع بن أبي الحقيق: (أذلك أم غرسٌ من النخل مترع ... بوادي القرى فيهِ العيونُ الرواجعُ) (لها سعفٌ جعدٌ وليفٌ كأنه ... حواشي بُرودٍ حَاكهنّ الصوانعُ) وهذا في وصف الليف حسن. وأخبرنا أبو أحمد عن الجلودي عن الحرث بن إسماعيل عن سهل بن محمد عن علي بن محمد عن أسلم الأزدي عن يونس عن الشعبي قال كتب قيصر إلى عمر: إن رسلي أخبروني أن بأرضك شجرة كالرجل القائم تفلق

عن مثل آذان الحمر ثم يصير مثل اللؤلؤ ثم يعود كالزمرد الأخضر ثم يصير كالياقوت الأحمر والأصفر ثم يرطب فيكون كأطيب فالوذ اتخذ ثم يجف فيكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر فإن كان رسلي صدقوني فهي الشجرة التي نبتت على مريم بنت عمران. فكتب عمر إليه: إن رسلك صدقوك وهي شجرة مريم فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله. وهذه تشبيهات مصيبة أخذها عبدِ الصمد بن المعذل فقال يصف النخل: (حدائقٌ ملتفة الجنانِ ... رَسَت بشاطى ترعٍ ريانَ) (تمتازُ بالإعجازِ للإذقانِ ... لا ترهبُ المحلَ من الأزمانِ) (ولا توقيَ ختلَ الذؤبان ... ولا تَرى ناشدة الرعيانِ) (ولا تخافُ عِرةَ الأوطانِ ... سُحم الرؤوسِ كمتُ الأبدان) (لها بيوم البارحِ الحنانِ ... مثلُ تناصي الخرَّد الحسانِ) (إذ هي أبدت زينةَ الرهبانِ ... لاحت بكافورٍ على إهان) (يطلعُ منها كيدُ الانسان ... إذا بدتْ ملمومةَ البنانِ) (عُلت بورسٍ أو بزعفران ... حتى إذا شبه بالآذان) (من حمرُ الوحشِ الذي عيانِ ... وهذا لفظ زائد على معناه) (شققهُ علجانِ ماهرانِ ... من لؤلؤٍ صيغَ على قُضبانِ) (مصوغةٍ من ذهبٍ خَلصان ... ثم ترى للسبعِ والثمانِ) (قد حالَ مثلَ الشذرِ في الجمان ... يضحكُ عن مشتبهِ الأقران) (كأنهُ في باطنِ الأفنان ... زمردٌ لاحَ على التيجان) (حتى إذا تمَ لهُ شهران ... وانسدلت عتاكلُ القنوان) (كأنها قضبٌ من العقيان ... فصلنَ بالياقوتِ والمرجان) (من قانى أحمرَ أرجوان ... وفاقع أصفرَ كالنيرانِ) (مثل الأكاليل على الغواني)

ولا أعرف في النخل من شعر المحدثين أجود من هذه الأرجوزة. وقلت: (ونخيل وقفنَ في معطفِ الرملِ ... وقوفَ الحبشانِ في التيجانِ) (شَربتْ بالأعجازِ حتى تروت ... وتراأت بزينةِ الرحمان) (طلعَ الطلعُ في الجماجم منها ... كأكفّ خرجنَ من أردانِ) (فتراها كأنها كُمتُ الخيلِ ... توافت مصرةَ الآذان) (أهو الطلعُ أم سلاسلُ عاج ... حُملت في سفائن العقيان) (ثم عادت شبائهاً تتباهى ... بأعلى شبائه ... بأعالي أقران) (خرزاتٌ من الزبرجد خضرٌ ... وهبتها السلوكُ للقضبان) (ثم حال النجارُ واختلفَ الشكلُ ... فلاحت بجوهرٍ ألوان) (بينَ صُفرٍ فواقع تتباهى ... في شماريخها وحُمرٍ قواتي) وقال بعض العرب (طلعاً كآذان الكلابِ البيض ... ) وقال ابن المعتز في الرطب: (كقطع العقيقِ يانعاتِ ... بخالصِ التبرِ مُنوَعاتِ) وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو بكر بن دريد قال أخبرنا السكنُ بن السعيد قال أخبرنا محمد بن عباد قال تكلم صعصعة عند معاوية بكلام أحسن فيه فحسده عمرو بن العاص فقال: هذا بالتمر أبصر منه بالكلام، قال صعصعة: أجل أجوده ما دق نواه ورق سحاؤه وعظم لحؤه والريح تنفجه والشمس تنضجه والبرد يدمجه ولكنك يا ابن العاص لا تمراً تصف ولا الخير تعرف بل تحسد فتقرففقال معاوية رغماً فقال عمرو أضعاف الرغم لك وما بي إلا بعض ما بك. ومن الغلو في صفة التمر ما أخبرنا به أبو أحمد عن ابن الأنباري عن إسماعيل ابن إسحاق القاضي عن أبي نصر قال قال الأصمعي قيل للقاضري أي التمر أجود؟ قال: الجرد الفطس الذي كأن نواه ألسن الطير تضع الواحدة في فمك فتجد

حلاوتها في كعبك يعني الصيحاني. وقال الخباز البلدي: (ذرَى شجر للطيرِ فيه تشاجرٌ ... كأنّ بناتِ الوردِ فيهِ جواهرُ) (كأن القمارِى والبلابلَ بينها ... قيانٌ وأوراقُ الغصونِ ستائر) (شربنا على ذاك الترنّمِ قهوةً ... كأن على أحداقِها الدُرُ دائرُ) وقال غيره: (أيُّ يوم لنا على التلَ بالماه ... وعيش تضيقُ عنهُ النعوتُ) (وردَ الدرُ فيهِ في شجرِ اللوزِ ... وفي الخوخ وردَ الياقوتُ) وقلت: (ظل يسقي حدائقاُ وجناناً ... يا لها من حدائقٍ وجنانِ) (خطرت بينها الرياحُ سُحيراً ... فتناصت تناصيَ الأقران) (وتناجى الغصونُ فيها سِراراً ... وتنادَى الطيورُ بالإعلان) (فتناجي الغصونِ شبهُ عتابٍ ... وتنادِي الطيورِ مثلُ أغاني) (من كرومٍ تمايلت بعناقيدٍ ... كجعدِ الزنوجِ والحُبشان) (ومُلاحيةً تميلُ أخرى ... كوجوهِ الخرائد الغُرَّان) (كلآلي تشبثت بلآلٍ ... وبنانٍ تشبَّكت ببنانِ) (فهيَ كالنجم في فروعِ كرومٍ ... وهي كالشمسِ في بطونِ الدنانِ) وقلت في البطيخ: (وجامعةٍ لأصنافِ المعاني ... صلحنَ لوقتِ إكثارٍ وقله) (وأحداهنَ تبرزُ في عباءٍ ... وأخراهن في حِبَرٍ وحُلَة) (ومنها ما تشبَهُهُ بُدوراً ... فإنْ قطَّعتها رجعت أهله) وقلت: (ولونٍ واحد يلقي ... فيأتينا بألوان) (بسمرانٍ وسودانٍ ... وحمرانٍ وصُفرانِ) (كوشي في يَديْ واشٍ ... وشَهدٍ في يَدْي جاني)

(فمن أدم ومن نقلٍ ... وريحانٍ وأشنانِ) وأنشدنا أبو أحمد في الكرم: (لهنَ ظلٌ باردُ الودائق ... يحملنَ لذاً طعمهُ للذائقِ) (كأنها غدائرُ العواتق ... تناطُ في حجرٍ من المعالقِ) (كأنها أناملُ الغَرانق ... ) وهو من قول الآخر (يحملنها بأنامل النقران ... ) وقلت في اللُفاح: (انظر إلى اللُّفَّاح تنظرُ معجباً ... يجلو عليك مُفَضَضاً في مُذهب) (يعلو مفارقةُ قلانسُ أخفيت ... من تحتهنَّ دراهمٌ لم تضربِ) وقلت في قصب السكر ولا أعرف فيه شيئاً لأحد: (وممشوقةِ القاماتِ بيض نحورها ... وخُضر نواصيها وضفر جُسومها) (لها حقبٌ لا تستطيعُ أطّراحَها ... وليس يطيقُ سلَبها من يرومُها) (وهنَّ رِماحٌ لا تريقُ دَمَ العدى ... ولكن يُراقُ في القدور صميمها) (يميل على أعرافها عذاباتها ... كحورٍ تناصي هندهُا ورميمُها) (تناهى بها الأدراكُ حتى كأنها ... يُعلُ بماءِ الزعفرانِ أدِيمُها) (ترى الريح يُغريها بنجوَى خفِيَّة ... إذا ما جرى قَصرَ العشيّ نسيمُها) ومن جيد ما قيل في الَسدر والطلح قول بعضهم: (لم ترَ عَيْنا ناظرٍ مَنظراً ... أحسن من أفنانِ طلح مَروح) (كأنها والريحُ تسمُو بها ... ألويةٌ منشورةٌ للفُتوحِ) (وسِدرة مدّت بأفنانها ... على سواقٍ كمتونِ الصفيحِ) إلا أن قوله (للفتوح) فضلٌ لا يحتاج إليه لأن الألوية إذا نشرت للفتوح مثلها إذا نشرت لغير الفتوح فذكر الفتوح لغو. وإنما أورد في هذا الكتاب مثل هذا الشعر لأن غيري اختارها فأريدُ أن

أدلَ على موضع العيب فيه ليوقف عليه. ومن جيد ما قيل في النبق قول بعضهم: (أتاني فحيَّاني بنبقٍ كأنهُ ... حُليُ عروسٍ زان ليتاً وأخدعا) (يأ حمرَ كالياقوتِ يقطر ماءهُ ... وأصفرَ كالعقيان ضَمَّهما معا) وقال آخر: (أقبلَ تحتَ الليل كالظبيِ الغَرق ... بالراح والرَّيْحان والمسكِ عَبِق) (فجادَ بالوصلِ وحيَّا بالنبق ... وقلتُ نبقى هكذا ونتفق) (ما اخضرَّ عودٌ أبداً لا نفترق) وقلت في النبق: (جلى الربيعُ علينا ... كواعباً أبكاراً) (مُتوَّجات عقيقاً ... مسورات نهارا) (ترى لهنَ من الورد ... شوذراً وخمارا) (أهدى لنا جوهراتٍ ... تحيرُ الأبصارا) (يا حسنَ حمرٍ وصفرٍ ... تريك جمراً ونارا) (قد راقَ ذاك احمراراً ... وراع ذاك اصفرارا) (وخلتُ هذا عقيقاً ... وخلتُ ذاك نُضارا) (وذاك شهداً مشاراً ... وذاك راحاً عُقارا) (لو كان يبقى سليماً ... نظمتُه تقصارا) وقلت في المشمش ولا أعرفُ فيه لأحد شيئاً مرضياً: (جنيتها والصبحُ وردىُ العَذَب ... بنادقاً مخروطةً من الذهبِ) (قد ضُمَنت أمثالها من الخشب ... والتفَ منها خشبٌ على غَربِ) (وصار منهُ السمُ حشواً للضرب ... فهي لعمري عجبٌ من العجبِ) الغرب الفضة، والضربُ العسل. ولا أعرف في التين أجود من قول القائل:

(أهلاً بتينٍ جاءنا ... مُبتسماً على طبقِ) (يحكي الصباحَ بعضهُ ... وبعضهُ يحكي الغسق) (كسفرٍ مضمومةٍ ... قد جُمعت بلا حلق) وقال الحلبي في الفستق: (من الفستقِ الشامي كلُ مصونةٍ ... تصانُ من الأحداثِ فيٍ بطنِ تابوتِ) (زبرجدة ملفوفة في حريرةٍ ... مضمنهُ دُراً مُغشى بياقوتِ) وقلت في خيارة: (زبرجدةٌ فيها قراضةُ فِضةٍ ... فإن رجعتْ تِبراً فقد خَسَّ أمرُها) (تلم بناطورينِ في كلَ حجةٍ ... فيكثر فينا خَيْرُها ثم شرُّها) (فعند المصيفِ ليسَ يفقدُ نفعَها ... وعندَ الخريفِ ليسَ يؤمنُ ضرُّها) وأما ذمُ البساتين فمن أجود ما قيل فيه قول ابن الرومي: (للهِ ما ضَيَّعْتُه من الشجرِ ... أطفالُ غرسٍ تُرتجى وتُنَتظر) (ومُعجباتٍ من بقولٍ وزهر ... مصفرةٌ قد هرِمت لا من كبر) (في بقعةٍ لا سِقَيتْ صوبَ المطر ... حالِقةٌ لنبِتها حلقَ الشعَر) (ضميرُها النارُ وإن لم تستعر ... كلُ امرئ غيري من هذا البشر) (بستانهُ أثني وبُستاني ذكر ... ) ومما يجري مع هذا قول الأعرابي: (مُطرنا فلما أن روينا تهادرت ... شقاشق فيها رائبٌ وحليب) (ورامت رجالٌ من رجالٍ ظلامةً ... وعدتَ ذحولٌ بيننا وَذنُوبُ) (ونصَّت ركابٌ للصبا فتروحَّتْ ... ألا ربما هاجَ الحبيبَ حبيبُ) (بني عمنا لا تُعجلِوا نضبَ الثرى ... قليلاً ويشفي المترفينَ طبيبُ) (ولو قد تولى الضبُ وامترت القرى ... وحنَّت ركابُ الحيّ حين تؤوبُ)

الفصل الثالث من الباب السابع

(وصارَ غَبوقَ الخودِ وهي كريمةٌ ... على أهلها ذو جِدتين مَشوب) (وصارَ الذي في أنفهِ خُنزوانةٌ ... ينادي إلى هادي الرّحا فيجيبُ) (أولئك أيامٌ تُبينُ للفتى ... أكاب سليب أو أشمُ نجِيب) (الفصل الثالث من الباب السابع) في ذكر النسيم من غريب ما قيل فيه قول ابن المعتز: (ونسيم يبشرُ الأرض بالقطرِ ... كذيلِ الغلالة المبلول) (ووجوهُ البلادِ تنتظرُ الغيثَ ... إنتظارَ المحبَ ردَ الرسولِ) وقال ابن الرومي: (حَيتك عنا شمالٌ طافَ طائفها ... بجنَّة فجرت رَوْحاً وريحانا) (هبّت سُحيراً فناجى الغُصنُ صاحبهُ ... سِراً بها وتنادَى الطيرُ إعْلاَنا) (ورقٌ تُغني على خضرٍ مهدلةٍ ... تَسمو بها وتشُمّ الأرض أحيانا) (تخالُ طائرها نشوانَ من طربٍ ... والغصن من هزهِ عطفيه نشوانا) وقال ابن المعتز: (يَشقُ رياضاً قد تيقّظ نَورُها ... وبلّلها دمعٌ من المزنِ ذارفُ) (كأنَ عبابَ المسكِ بين بقاعِها ... يفتحُها أيدي الرياح الضعائفُ) وقلت: (والصبا يجلبُ الغمامَ إلينا ... فترى القطرَ للرياضِ نَديما) (وترى للغصون فيها نجِياً ... وعلى زَهْرة الرياضِ نميما) وقال ابن الرومي: (كأنَ نَسيمَها أرجُ الخزامي ... ولاها بعد وسمىٍ ولى)

(هديةُ شمالٍ هبَّت بليلٍ ... لأفنانِ الغصونِ بها نجِيُّ) (إذا أنفاسُها نسمتْ سُحيراً ... تنفس كالشجىَ لها الخَليّ) وقال ابن المعتز: (وما ريحُ قاعٍ عازبٍ طلّه النّدى ... وروضٌ من الريحانِ دَرَّت سحائبهُ) (فجاءت سُحَيراً بينَ يومٍ وليلةٍ ... كما جرَ في ذيلِ الغِلالة ساحبهُ) وقد أحسن التشبيه أيضاً في قوله: (ومهمهٍ كرداءِ الوشي مشتبهٍ ... نفذتهُ والدُّجى والصبحُ خيطانِ) (والريحُ تجذبُ أطرافَ الرداءِ كما ... أفضى الشفيقُ إلى تنبيهِ وَسْنانِ) وقلت: (وأقبل نَشرُ الروضِ في نفس الصّبا ... فباتَ به ثوبُ الهواءُ مُكفرا) ومما لم يجئ في معناه مثله قول بشار: أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي قال حدثنا المكتفي بالله يوماً أنه كان نائماً فسمع دق باب فانتبه له مرتاعاً ثم سكن قليلاً ثم عاد فنظر فإذا الريحُ تحرك الباب حركةً كأنها دق بيد، قال فقلتُ له قد ذكر الشاعر ذلك وما هو فأنشدته لبشار: (طرقتني صباً فحركتِ البابَ ... هُدُواً فارتعتُ منهُ ارتيابا) (فكأني سمعتُ حسَ حبيب ... نقرَ البابَ نقرةً ثم هابا) قال ما كنت أظنُ أنه قيل في هذا شئ وما أقل ما يجري مما لم يذكرهُ الناس. وقال ابن الرومي وأحسن: (لولا فواكهُ أيلولٍ إذا اجتمعتْ ... من كلِّ نوعٍ ورقَ الجوُ والماءُ) (إذاً لما حفَلت نفسي متى اشتملت ... عليهِ هائلة الحالين غبراء) (با حبذا ليلُ أيلولٍ إذا بردتْ ... فيهِ مضاجُعنا والريحُ سجواءُ) (وجمّش القرُ فيه الجلدَ وأتلفتْ ... من الضجيعين أحشاءٌ وأحشاءُ)

(وأسفرَ القمرُ الساري فصَفْحتهُ ... ريّالها من صفاء الجو لألأء) (يا حبذا نفحةٌ من ريحهِ سحراً ... يأتيك فيها من الريحانِ أنباءُ) (قل فيه ما شئتَ من شهرٍ تعهدهُ ... في كلَ يومِ يدٌ للهِ بيضاءُ) وقلت: (ولهُ مجنحُ الأصيلِ نسيمٌ ... لينٌ العطفِ هين الخطرانِ) (أرجٌ يقتدي به نفسُ المسك ... وتحكيه نكهةُ الزعفرانِ) (كم غدا مُدنفاً وراحَ حسيراً ... يتهادى في دجلة المسرُقان) (فرأينا لهُ لبوسَ شجاعٍ ... ووجدنا بها ارتعاشَ جبانِ) وإلى هذا انتهى بنا القول في هذا الباب ولو أدرنا استقصاءه أضجرنا وأمللنا ولم نأت على ما في نفوسنا منه، والاقتصار على المشاهير والأعيان منه أولى وبالله التوفيق. انقضى البابُ السابع من كتاب ديوان المعاني والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي قمع الضلالة ودمغ الجهالة وقذف بالحق على الباطل فأزهقه وأزاله منه حتى أوبقه بما أقام من الدلائل الواضحة وبين من الشواهد اللائحة وجعل لخلقه حدوداً حذرهم تعديها وخوفهم تخطيها بالقول الصادق والبيان الصادع إعذاراً وتحذيراً وحجة وتنبيها فمن لم يقنعه ما سيق من صدق قوله وحتم أمره ونهيه حكم فيه السيف وسلط عليه السوط ليرداه إلى سبيل الحق بعد أن يجعلاه نكالاً للخلق والله عليم حكيم. وصلى الله على نبيه محمداً وآله أجمعين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الباب الثامن من كتاب ديوان المعاني

(هذا كتاب المبالغة) في صفات الحرب والسلاح والطعن والضرب وما يجري مع ذلك وهو: (الباب الثامن من كتاب ديوان المعاني) قالوا أبلغُ ما قيل في صفة الحرب قول الأول: (كأنَ الأفقَ محفوفٌ بنارٍ ... وتحتَ النارِ آسادٌ تزيرُ) وقريب منه قول محدث: (ويوم كأن المصطلينَ بحرهِ ... وإن لم يكن جمرٌ وقوفٌ على جمرِ) (صبرنا له حتى تجلى وإنما ... تُفَرَّجُ أيامُ الكريهةِ بالصبرِ) ومن بليغ ما قيل في شدة الروع قول زيد الخيل: (والخيلُ تعلمُ أني كنتُ فارسَها ... يوم الأكس به من نجدةٍ روقُ) وقول المفضل النكري: (فداءٌ خالتي لبني حيي ... خصوصاً يومَ كسُ القومِ روقُ) معناه أن الأكس وهوالقصير الأسنان قد كلح من كراهة الحال وشدة الروع حتى تراه كأنه أروق وهو الطويل الأسنان، أخَذَهُ أبو تمام فأجاده في قوله (فخيل من شدة التعبيس مبتسماً) على أنه ليس فيه مدح لأن الكلوح في الحرب لا يدل على الشجاعة. ومما يدخل في هذا الباب وليس منه قول أبي فراس بن حمدان في خيل طاردت يوم ثلج: (ويوم كأن الأرضَ شابت لهولهِ ... قطعتُ بخيل حشو فرسانها الصبرُ)

(تسيرُ على مثلِ الملاءِ منشراً ... وآثارها طُرزٌ وأطرافها حُمرُ) أجود ما قيل في اصطفاف الخيل قول الأسعر: (وكتيبة لبّستها بكتيبةٍ ... حتى تقولَ نساؤهم هذا الفتى) (يخرجنَ من خللِ الغبار عوابساً ... كأناملِ المقرور أقعى فأصطلى) (يتخالسونَ نفوسهم برماحهم ... فبمثلهم باهى المباهي وانتمى) ومن أجود ما قيل في انصباب الخيل في الغارة قول ضمرة بن ضمرة: (والخيلُ من خَلل الغبارِ خوارجٌ ... كالتمر ينثرُ من جِراب الجرمِ) وقال آخر: (ورُبَتَ غارةٍ أوضعتُ فيها ... كسحَ الخزرجيّ جرَيم تمرِ) وقد أحسن الأعرابي في قوله: (نُقاذفُ بالغاراتِ عبساً وطئياً ... وقد هربت منا تميمٌ ومذْحجُ) (بغزوٍ كولغ الذئبِ غادٍ ورائح ... وكسرٍ كصدع السيفِ لا يتعرجُ) وقال أبو فراس: (وسمرٍ أعاد يلمعُ البيض بينهم ... وبيض أعادٍ في أكفهمُ السمرُ) (وخيل يلوحُ الخيرُ بينَ عُيونها ... ونصلٍ إذا ما شمتهُ نزلَ النصر) (وقوم متى ما ألقهم رَوِيَ القنا ... وأرضٍ متى ما أغزها سبعَ النسر) ومن أبلغ ما قيل في إعمال السيف قول عمرو بن كلثوم: (كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريقٌ بأيدي لاعبينا) وقول قيس بن الخطيم (كأنّ يدَي بالسيفِ مخراقُ لاعبِ) ومن أحسن ما قيل في الضرب قول الحماني: (وإنا لتصبحُ أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سُفوك) (منابرهنَ بُطونُ الأكفَ ... وأغمادُهنَ رؤوسُ الملوكِ)

أخذه من قول سعد بن ناشب: (فإنَ أسيافنا بيضُ مهندةٌ ... عتقٌ وآثارها في هامكمُ جُددُ) (وإن هويتم سللناها فما غمدت ... إلا وهامُ بني بكر لها غمدُ) وقال مسلم (ونغمد السيف بين النحر والجيد) وقال أيضاً: (لو أنَ قوماً يخلقونَ منيةً ... من بأسهم كانوا بني جبريلا) (قومٌ إذا حمرَ الهجيرُ من الوغى ... جلعوا الجماجمَ للسيوفِ مقيلا) وقال حسان: (ويثربُ تعلمُ أنّابها ... أُسُودُ تنفضُ البادَها) (إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجمَ أغمادها) وأحسن ما قيل في الضربة الدامية قول ابن المعتز: (شقَ الصفوفَ بسيفهِ ... وشفى حزازاتِ الأحَنْ) (دامي الجراح كأنه ... وردٌ تفتَّح في فننْ) ومن عجيب ما قيل في كثرة الطعن يقع في الجسد قول بعضهم: (فلولاَ اللهُ والمهرُ المفدَّى ... لرحتَ وأنتِ غِربالُ الإهابِ) وقال قيس بن الخطيم في سعة الطعنة: (طعنتُ ابنَ عبدِ القيسِ طعنةَ ثائرٍ ... لها نفذٌ لولا الشعاعُ أضاءها) (ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقَها ... يَرَى قائمٌ من دونها ما وراءها) ومن أبلغ ما قيل في مضاء السيف قول النمر بن تولب) (أبقى الحوادثُ والأيامُ من نمرٍ ... أسبَادَ سيفٍ قديم اثرهُ بادي) (تظلُ تحفرُ عنهُ إن ضربت به ... بُعد الذراعينِ والساقينِ والهادي) وهذا من الأفراط والغلو وهو عند بعضهم مذمومٌ إذا كان في هذا الحد وعند آخرين ممدوحٌ، يقول إذا ضربت به قطع المضروب وتجاوزه حتى غاص في الأرض فاحتجتَ أن تحفرَ عنه فتستخرجه. ودون ذلك في الغلو قول النابغة:

(يطيرُ فُضاضاً بينهم كلُ قونسٍ ... ويتبعها منهم فراشُ الحواجبِ) (تَقُدُ السَلوقي المضاعفَ نسجهُ ... وتوقد بالصُفاحِ نارَ الحُباحب) ويقول إنها تقد الدرعَ التي ضُوعف نسجها والفارس حتى تبلغ الأرض فتقدح النار بالصفاح، وهي حجارة. ومن بليغ ما قيل في صفة السيف قول ابن يامين قال محمد بن داود بن الجراح عن أبي هفان عن الإياسي القاضي عن الهيثم بن عدي قال لما صار سيف عمرو بن معدي كرب الذي يُسمى الصمصامة إلى الهادي وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص فتوارثه ولده إلى أن مات المهدي فاشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل وكان موسى من أوسع بني العباس خُلقاً وأكثرهم عطاءً للمال قال فجرده ووضعه بين يديه وأذن للشعراء فدخلوا ودعا بمكتل فيه دنانير فقال قولوا في هذا السيف فبدرهم ابن يامين فقال: (حازَ صمصامة الزبيدي من بين ... جميع الأنامِ موسى الأمينُ) (سيفُ عمروٍ وكانَ فيما سمعنا ... خيرَ ما أغمدت عليه الجفون) (أوقدت فوقهُ الصواعقُ ناراً ... ثم شابت به الزعاف القيون) (فإذا ما هززته بهرَ الشمسَ ... ضياءً فلم تكن تستبين) (يستطيرُ الأبصار كالقبسِ المشعلِ ... ما تستقرُ فيهِ العيون) (وكأن الفرندَ والجوهرَ الجاري ... في صفحتيه ماءٌ معينُ) (نِعمَ مخراقُ ذي الحفيظة في الهيجا ... بعضاتها ونعمَ القرينُ) (ما يبالي إذا إنتضاهُ لضربٍ ... أشمالٌ سطت بهِ أم يمين) (وكأن المنونَ نِيطت إليهِ ... فهو من كلِّ جانبيه منَون) أخذ عليه من هذه الأبيات تشبيهه السيف بالشمس ثم بالقبس لأنه قد حطهُ درجاتٍ، فقال موسى أصبتَ ما في نفسي واستخفه الفرحُ فأمر له بالمكتل والسيف

فلما خرج قال الشعراء: إنما حرمتم لأجلي فدونكم المكتل ولي في هذا السيف غني، قال فقام موسى فاشترى السيف منه بمال جزيل هـ. وذكر الهيثم بن عدي هبة عمرو بن معدي كرب الصمصامة لسعيد بن العاص فقال قال سعيد بن العاص وهو بالكوفة لعمرو بن معدي كرب هب لي الصمصامة فإنك قد ضَعفت عن حمله وكان وزنهُ سِتة أرطال فقال عمرو ما ضَعُفَت قناتي ولا جناي ولا لساني وإن اختل جُثماني وهو لك على أنه أوحِش من لايؤنسه وأظلم من لا يقبسه ثم قال: (خليلٌ لم أهبهُ من قلاهُ ... ولكنَ المواهبَ في الكرامِ) (خليلٌ لم أخنهُ ولم يخُنِّي ... على الصمصامِ أضعافُ السلام) قوله (أوحش من لا يؤنسه وأظلم من لا يُقبسه) يقول إذا كنتُ أستوحش من جانب العدو آنستي وإذا أظلم ليَ الليل أضاء لي. وقال البحتري: (مصغ إلى حُكم الردَى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل) (متوقد يَبري بأولِ ضربةٍ ... ما أدركتْ ولو أنها في يذبل) (فإذا أصابَ فكلُ شئ مقتلٌ ... وإذا أصيبَ فما له من مقتلِ) (يغشى الوغى فالترسُ ليس بجنة ... من حدهِ والدرعُ ليس بَمعقل) وذكر عمرو بن معدي كرب أنواع السلاح فأجاد أخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو عبد الله بن عرفة قال أخبرنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال حدثني رجلٌ من ولد أبي سرحة الغفاري قال قدم عمرو بن معدي كرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عن سعد بن أبي وقاص فقال عمر أعرابي في نمرته عاتقٌ في حجلته أسدٌ في تامورته نبطي في حبايته. فقال كيف علمك بالسلاح؟ فقال بصيرٌ قال فأخبرني عن النبل قال منايا تخطئ وتصيب قال فأخبرني عن الرمح

قال أخوك وربما خانك قال فأخبرني عن الترس قال هو المجنُ وعليه تدور الدوائر قال فأخبرني عن السيف قال عنده قاوعت أمك الثكلى قال بل أمك والحمى أضرعتني لك. النمرة كساءٌ أسودُ تلبسه الأعراب، والعاتق الجارية الكعاب وصفه بالحياء والتامورةُ ههنا الأجمة، فقال نبطيٌ في جبايته وصفه بالاستقصاء في جباية الخراج، وقوله الحمى أضرعتني لك أي الاسلام قيدني لك وأذلني ولو كنتُ في الجاهلية ما كلمتني بهذا الكلام، وهو مثلٌ العرب تضربهُ عند الشئ يضطرها إلى الخضوع. ومثل ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد عن ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال قال الأغرُ النهشلي ووقع بينه وبين قومه شرٌ فأرسل ابنه وقال يا بني كن يداً لأصحابك على قتالهم وإياك والسيف فإنه ظل الموت واتق الرمح فإنه رشأ المنية ولا تقرب السهام فإنها رُسُلٌ تعصبي وتطيع قال فبم أقاتل؟ قال بما قال الشاعر: (جلاميدُ أملاء الأكفّ كأنها ... رؤوسُ رجالٍ حُلّقت في المواسمِ) فعليك بها فألصقها بالأعقاب والسوق. وقد أحسن التنوخي في صفة الحرب حيث يقول (في موقف وقفَ الحمامُ ولم يَزغ ... عن ساحتيه وزاغت الأبصارُ) (فَقَناً يسيلُ من الدماءِ على قنا ... بطوالهنَ تُقصرُ الأعمارُ) (ورؤوسُ أبطالٍ تطايرُ بالظٌّبى ... فكأنها تحتَ الغبار غبارُ) وقد أجاد بن المعتز في هذا المعنى حيث يقول (قومٌ إذا غضبوا على أعدائهم ... جَرُّوا الحديدَ أزجَّةً ودُروعا) (وكأن أيديهم تُنفَرُ عنهمُ ... طيراً على الأبدانِ كُنَ وقُوعا) وقال أيضاً: (بطعنٍ تضيعُ الكفُ في لهواتهِ ... وضربٍ كماشقَ الرداءُ المرعَبَل) وقال أيضاً: (قرَينا بعضَهم طعناً وجيعاً ... وضرباً مثلَ أفواهِ اللقاحِ)

وقال البحتري وأحسن في ذلك: (ألوي إذا طعنَ المدجج صَكهُ ... ليديهِ أو نثرَ القناة كُعوبا) (فأنا النذيرُ لمن تغطرسَ أوطغى ... من مارنٍ يدعُ النُحورَ جُيوبا) وقد ظرف في قوله أيضاً: (ولو لم يحاجِز لؤلؤٌ بفرارهِ ... لكانَ لصدرِ الرُمحِ في لؤلؤٍ ثقبَ) ومن المختار قول مالك بن نُويرة: (بسمرٍ كأشطانِ الجرور نواهلٍ ... يجور بها ذو المنايا ويهتدي) (يقعنَ معاً فيهم بأيدي كماتنا ... كأنّ المنايا للرماح بموعد) ومن أبلغ ما قيل في صفة الضرب والطعن من قديم الشعر قول عبد مناف بن ربعي: (فالطعنُ شعشةٌ والضربُ هيقعةً ... ضربَ المعَولِ تحتَ الديمة العضدا) (وللقسيّ أزاميلٌ وغمغمةٌ ... حِس الجنوب تسوِّي الماءَ والبردا) الهيقعة: وقع الشئ الصُلب على مثله سمعت هيقعة الحجر والحديد، وشبه أصوات القسي بصوت السحاب الذي فيه برد، والمعول الذي يتخذ العالة وهو أن يعمد الراعي أذا خاف المطر إلى الشجر يتعضده ويجعل عضده على شجرتين متقاربتين ويستكن تحته، والعضدُ ما يعضد من الشجر أي يُقطعُ والعضد المصدر. ومن أجود ما قيل في نفوذ التدبير في الحرب مع الغيبة عنها قول ابن الرومي في صاعد: (يَظلُ من الحربِ العوانِ بمعزلٍ ... وآثارهُ فيها وإن غابَ شُهدُ) (كما احتجتَ المقدارُ والحُكم حكمهُ ... على الناسِ طراً ليس عنهُ مُعردُ) أخذه من قول بشار بن برد: ( ... الدهرُ طلاعٌ بأحداثهِ ... ورُسلهُ فيها المقادير) (محجوبة تُنفذ أحكامَها ... ليسَ لنا عن ذاكَ تأخيرُ) وقال حصرتَ عميدَ الزَّنج حتى تخاذلت ... قواهُ وأودى زاده المتزودُ)

(وكانت نواحيهِ كثافاً فلم تزل ... تحيَّفُها حتى كأنك مبردُ) (تفرقُ عنهُ بالمكايدِ جندهُ ... وتزدارهم جنداً وجيشُك محصّد) (سكنت سكوناً كان رَهناً بوثبةٍ ... عماسٍ كذاك الليثُ للوثبِ يلبدُ) (فما رمتهُ حتى أستقلَ برأسه ... مكان قناةِ الظهرِ أسمرُ أجردُ) (مناك له مقدارهُ فكأنما ... تقوضَ ثهلانٌ عليهِ وصِنْددُ) فقال صندد بفتح حرف الردف وهو خطأ وليس في العربية فعلل إلا درهم وهجرع وهو الطويل الأحمق، وهبلع وهو الكثير البلع، وقلعم وهو الكثير القلع للأشياء، وكان بنى قصيدته على فتح الردف ولم يلزمه ذلك وكابر على فتح صندد ورمدد وهما مكسوران فزعم محمد بن حبيب أنه رواهما بالفتح وكابر أيضاً على فتح الراء من درم في قصيدته التي أولها: (أفيضا دماً ان الرزايا لها قِيم ... ) وإنما هو (درم) . وأحسن ما قيل في الكيد والحرب قول أبي تمام: (هززتَ له سيفاً من الكيدِ إنما ... تُجذُّ به الأعناقُ ما لم يجرّدِ) (يسرُ الذي يسطو بهِ وهو مغمدٌ ... ويفضحُ من يسطو به غيرَ مُغَمدِ) يقول إن أخفيت الكيد ظفرت وسررت وإن أطهرته افتضحت وخبت وقد أحسن في وصف الرماح حيث يقول: (أنهبتَ أرواحهُ الأرماح إذ شُرِعت ... فما تُردُ لريبِ الموتِ عنهُ بدُ) (كأنها وهي في الأرواحِ والغةٌ ... وفي الكُلى تجدُ الغيظَ الذي يجدُ) (من كلَ أزرقَ نطارٍ بلا نظرٍ ... إلى المقاتلِ ما في متنهِ أودُ) (كأنه كان خِدنَ الحبَ مُذ زمنٍ ... فليس يعجزهُ قلبٌ ولا كبدُ) ويُشبه بياض السيف بالملح فمن أجود ما قيل فيه قول النمري: (ذكرٌ يرونقه الدماءُ كأنما ... يعلو الرجالَ بأرجوان فاقع)

(وترى مضارب شفرتيهِ كأنها ... ملحٌ تناثرَ من وراءِ الدارعِ) ويُشَبَه الفرند بمدبَ الذر فمن قديم ما قيل فيه قول امرئ القيس: (متوَسداً عَضْباً مضاربُه ... في متنهِ كمدبةِ النملِ) وقول أوس بن حجر: (وذو شطباتٍ قدهُ ابن مُجدَع ... له رونقٌ ذرِّيه يتأكلُ) (وأشبرنيه الهالكيُّ كأنه ... غديرٌ جرى في متنهِ الريحُ سلسلُ) (وأخرج منه القينُ أثراً كأنه ... مَدَبُ دُباً سودٍ سرى وهو مسهلُ) وقال ابن المعتز وأبدع: (وَجَرَدَ من أغمادهِ كلَ مرهَفٍ ... إذا ما انتضته الكفُ كاد يسيلُ) (ترى فوقَ متنيهٍ الفرندَ كأنما ... تنفسَ فيهِ القينُ وهو صقيلُ) وقال إسحاق بن خلف: (ألقي بجانبِ خصرهِ ... أمضى من الأجلِ المُتاح) (وكأنما ذرَ الهباءَ ... عليه أنفاسُ الرِّياحِ) وقال قيسُ بنُ الخطيم: (أجالدُهم يومَ الحديقةِ حاسراً ... كأن يدي بالسيفِ مخراقُ لاعِبِ) (بسيفٍ كأن الماءَ في صفحاتهِ ... طحاريرُ غيمٍ أو قُرونُ جنادبِ) أخذه ابنُ المعتز فقال: (ولي صارمٌ فيهِ المنايا كوامنٌ ... فما يُنتضَى إلا لسفكِ دماءِ) (ترى فوقَ متنيهِ الفرندَ كأنه ... بقيةُ غيمٍ رقَ دونَ سماءِ) وقد أجاد ابن الرومي في قوله: (خيرُ ما استعصمت بهِ الكفُّ عضبٌ ... ذكرٌ متنهُ أنيثُ المهزَ) (ما تأمَّلْتَه بعينِك إلاّ ... أبرقت صفحتاهُ من غيرِ هزَ) (مثله أفزعَ الشجاعَ إلى الدرع ... فغالي به على كلَ بزَ)

(ما أبالي أصمَّمتْ شفرتاهُ ... في محزٍ أو جازتا عن محزّ) وقال آخر: (جرّدُوها فألبسوها المنايا ... عِوضاً عوضت من الأغمادِ) (وكأن الآجالَ ممن أرادوا ... وظُباها كانت على ميعادِ) وقلت: (تميلُ كفيّ من سيفٍ إلى قلمٍ ... والعزُ نصفانِ بينَ السيفِ والقلمِ) وقال ابن المعتز: (وسيوفٍ كأنها حينَ سُلت ... ورقٌ هزهُ سقوطُ قِطارِ) (ودروعٍ كأنها شمطٌ جعدٌ ... دهينٌ يضلُ فيه المَدَاري) وقال ابن الأعرابي أحسن ما قيلَ في صفة الرماح: (وبكلَ عَرَّاص المَهزّةِ مارنٍ ... فيه سنانٌ مثلُ ضوءِ الفرقَدِ) أحسن ما قيل في صفة الرماح قول المزرد: (أصم إذا ما هُزَ مالت سراته ... كما مال ثعبانُ الرمالِ الموائلِ) (له رائدٌ ماضي الغرار كأنه ... هلالٌ بدا في ظلمةِ الليلِ ناحلِ) وقال الأصمعي أحسن ما قيل في صفة الرمح قول أبي زبيد: (وأسمر مربوعٌ يرى ما أريته ... بصيرٌ إذا صوّبته للمقاتلِ ... وقال ابن الأعرابي أحسن ما قيل في ذلك قول مسكين: (بكلَ رُدَينيٍ كأنَ كعوبَه ... قطانسق يستورد الماءَ صائفُ) (كأنَّ هلالاً لاحَ فوق سراتهِ ... جلا الغيمَ عنهُ والقتامَ الحراجفُ) وأحسن ما قيل في سرعة وقع الرماح وتداركه قول دريد بن الصمة: (نظرتُ إليهِ والرماحُ تنوشهُ ... كوقع الصياصي في النسيج المددِ) الصيصية الشوك الذي يسوي به الحائك الثوبَ، والصيصية أيضاً الحصن ويقال لناشز من ساق الديك الصيصية أيضاً. وقد أحسن البحتري في وقوله: (في مغركٍ ضنكٍ تخالُ بهِ القنا ... بين الضلوعِ إذا انحنينَ ضلوعا)

وأجود ما قيل في إدمام حمل الرمح قول الآخر: (وقد طالَ حملي الرمحَ حتى كأنهُ ... على فرسي غصنٌ من البانِ نابتُ) (يطولُ لساني في العشيرةُ مُصلحاً ... على أنه يومَ الكريهةِ ساكتُ) والسكوت في الحرب دليل على سكون الجأش، وكثرة الصوت فيها إمارة الفزع، وقد قيل (وكثرة الصوت والإيعاد من فشل ... ) وقلتُ في الرمح: (يغدو بصدْق الكعوبِ لَدْن ... يهتزُّ ما بينَ كوكبينِ) أعني الزج والسنان. وقال البحتري: (كأنما الحربةُ في كفهِ ... نجمُ دُجى شيعهُ البدرُ) وقد شبهت العرب الرماح بالأشطان والأسنة بالشهبان فتركنا ذكر ذلك لشهرته واستفاضته. أجود ما قيل في القوس من قديم الشعر قول أوس بن حجر وهو أوصف العرب للسلاح: (فجرّدَها صفراءَ لا الطولُ عابها ... ولا قصرٌ أزريَ بها فتعطلا) (كتومٌ طِلاع الكفَ لا دونَ مَلِئها ... ولا عجسُها عن موضع الكفِّ أفضلا) (وحشوَ جفيرٍ من فروعِ غرائب ... تنطعَ فيها صانعٌ وتأمَّلا) (تُخيرنَ أنضاءً وركبنَ أنصُلاً ... كجمرِ الغضا في يوم ريحٍ تزيّلا) وقال الشماخ في صوت القوس: (إذا أنبضَ الرامونَ عنها ترنمت ... تَرَنُمَ ثكلى أوجعتها الجنائز) وقال آخر: (وهي إذا أنبضت عنها تسجعُ ... ترنم الثكلى أبتْ لا تهجعُ) وقال آخر: (تسمعُ عندَ النزع والتوتيرِ ... في سيتَيْها رنّة الطنبورِ) وقال الأصمعي: أحسن كلام في الإيجاز قول عكلي في صفة قوس: (في كفه معطيةٌ منوع ... ) ومن أحسن ما قاله محدث في القوس قول ابن المعتز بالله.

(أتيح لها هفانُ يخطم قوسه ... بأصفرَ حَنّانِ القرَى غير أعزلا) (فأودعهُ سهماً كمدِرى مواشطٍ ... بعثنَ بهِ في مفرقٍ فتغلغلا) (بطيئاً إذا أسرعتَ إطلاقَ فُوقِه ... ولكن إذا أبطأتَ في النزع عجّلا) وأجود ما شُبَه به أفواقُ السَهام قول الآخر: (أفواقُها حشوُ الجفير كأنها ... أفواهُ أفرخةٍ من النغران) والنغران جمع نغرة وهي عصفورة. وقال الفندُ الزماني: (ونبلي وقفاها كعراقيب قطاً طحل) أخذه عتابُ بن ورقاء فقال: (وحطّ عن منكبهِ شريانةَ ... مما اصطفى باري القسيِّ وانتقى) (أمّ بناتٍ عَدهَا صانُعها ... ستينَ في كنانةٍ مما برى) (ذات رؤوسٍ كالمصابيح لها ... أسافلٌ مثل عراقيبِ القطا ... ) (إن حُرِّكت حنّت إلى أولادها ... كحنِّةِ الوالهِ من فقدْ الطّلا) (حتى إذا ما قُرنت ببعضِها ... لانت ومال طرفاها وانثنى) وقال ابن الرومي في قوس بندق: (كأنّ قَراها والغرور التي بها ... وإن لم تجدها العينُ إلا تتبُعا) (مَذرُ سحيقِ المسك فوقَ صلابةٍ ... أدبَ عليها دارجُ الذَّر أكرُعا) (لها أولٌ طوع اليدينِ وآخرٌ ... إذا سُمتهُ الأغراقَ فيهِ تمنعا) (تطوعُ لراميها الرمايا كأنما ... دعاها لهُ داعي المنايا فأسمعا) (يقلبُ نحو الجوّ عيناً بصيرةً ... كعيِنك بل أذكى ذكاءً وأسرعا)

(لها عَولةٌ أولى بها من تصيبهُ ... وأجدرُ بالأعوالِ من كان موَجعا) وهذا مثل قوله في امرأة: (تُشكي المحبَ وتلفى الدهرَ شاكيةً ... كالقوسِ تصمي الرَّمايا وهي مِرنان) وقال المتنبي في سداد الرمي: (يُصيبُ ببعضها أفواقَ بعض ... فلولا الكسرُ لا تصلت قضيبا) وقال الراجز في ضد ذلك: (مستهترٌ بالرمي واهٍ عضدهُ ... يطيعهُ القلبُ وتعصيهِ يَدهْ) (أحصن شئ يومَ يرمي طرَده ... كأنهُ فؤاده أو كبده) وقال ابن الرومي في سهام: (وكل ابن ريح يسبقُ الطرفَ معجه ... مروقٌ ومنزوعٌ لدى حَومَةِ الجذبِ) (صنيعٌ مريشٌ قَومَ القينُ متنهُ ... فجاءَ كما سُلَ النخاعُ من الصلبِ) (يغلغلهٌ في الدرع نصلٌ كأنهُ ... لسانُ شُجاع محرج هَم بالسلبِ) وقال ابن المعتز في قوس البندق: (وماءٍ به الطيرُ مربوطةٌ ... تحاكي الحلىَ بأطواقها) (غدونا عليهِ وشمسُ النهار ... لن تكسهُ ثوبَ إشراقها) (فظلنا وظلتُ عيونُ القسيِّ ... ترمي الطيورَ بأحداقها) وقد أحسن القائل في صفة الرماح على العواتق: (ترى غابةَ الخطَى فوقَ رؤوسهم ... كما أشرقت فوقَ الصوارِ قرونها) ومما يجري مع ذلك قول أبي فراس بن حمدان: (وما الذنبُ إلا العر يركبهُ الفتى ... وما ذنبهُ إن جاوزتهُ المطالبُ) (ومن كان غير السيفِ كافل رزقهِ ... فللذلَ منهُ لا محالةَ جانب) وما جاء عن أهل الجاهلية في النشاب شئٌ إلا قول سيف بن

ذي يزن يذكر القوس: (هَزُّوا بناتِ الرياح نحوهمُ ... أعوجُها طامحٌ وزمزمها) (كأنها بالفضاءِ أرشيةٌ ... يخفُ منقوضها ومُبرَمُها) فأما النبلُ فقد جاء فيها عنهم شئٌ كثيرٌ. أجود ما قيل في الدروع: قال أبو عبيدة أحسن ما قيل فيها قول كعب بن زهير: (وبيض من النسج القديم كأنها ... نهاء بقاع ماؤها مترابعُ) (تصفقها هوجُ الرياح إذا صفَت ... وتعقبها الأمطارُ فالماءُ راجع) وهو مأخوذٌ من قول امرئ القيس: (تفيضُ على المرءِ أردانُها ... كفيضِ الأتيِّ على الجدجِد) وقال البحتري: (يمشون في زرد كأنَ مُتونها ... في كل معركةٍ مُتونَ نهاءِ) (بيضُ تسيل على الكماةِ فضولها ... سيلَ السرابِ بقفرة بيداءَ) (وإذا الأسنةُ خالطتها خلتها ... فيها خيال كواكبٍ في ماءِ) ومعنى البيت الأخير دقيقٌ غريبٌ حسنٌ مصيبٌ ما أظنه سبق إليه. ومن مليح ما جاء في صفة الدرع قول بعض بني هاشم: (وعلىَ سابغةُ الذيولِ كأنها ... سلخٌ كسانيهِ الشجاعُ الأرقمُ) ومن مليح ما جاء في صفة الحرب ما أخبرنا به أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال قال رجل من بني تميم لعبادي: لم يكن لآل نصر بن ربيعة صولة في الحرب قال لقد قلتُ بطلاً ونطقت خطلاً كانوا والله إذا أطلقوا عُقل الحرب رأيت فرساناً تمور كرجل الجراد وتدافع كتدافع الأمداد في فيلق حافاته الأسل يضطرب عليها الأجل إذا هاجت لم تتناه دون بلوغ إرادتها ومنتهى غايات طلباتها لا يدفعها دافع ولا يقوم لها جمعُ جامع وقد وثقت بالظفر لعزَ أنفسها

وأيقنت بالغلبة لضراوة عادتها فإنها العلوُ والتمكينُ ولمن ناوأها الذلُ والتوهينُ خصت بذاك على العرب أجمعين. ومما يجري مع ذلك ما أخبرنا به أبو القسم عن العقدي عن أبي جعفر قال أنشد جريرٌ هشام بن عبد الملك: (لقوميَ أحمي للحقيقةِ منكمُ ... وأضربُ للجبّار والنقعُ ساطعُ) (وأوثقُ عندَ المردفاتِ عشيةً ... لحاقاً إذا ما جردَ السيف لامعُ) فقال هشام لم تركتَ نساءك حتى أردفن ألا جعلتهن كنسوة المخبل فما سمعنا بعربيان قط أمنع منهن حيثُ يقول: (وساقطةٍ كُور الخِمار حييةٍ ... على ظهر عُرى زالَ عنها جِلالهُا) (تَشُدُ يديها بالسنامِ وقد رأت ... مسومةُ يأوي إليها رِعالها) (نزلنا فساقينا الكُماةَ دِماءَها ... سجالَ المنايا حيثُ تُسقي سجالُها) وأجود ما قيل في ثبات الرجال في الحرب قول الحرث بن عباد: (قَربا مربطَ النعامةِ مني ... لَقَحَتْ حربُ وائل عن حِيال) (قَرِّباها فأنَ كفيَ رهنٌ ... أنْ تَزولَ الجبالُ قبل الرجالِ) وقد وصف اللهُ ذلك في كتابه فقال {إن اللهَ بحبُ الذينَ يُقاتِلونَ في سَبيلهِ صفاً كأنهم بُنيانٌ مَرصُوصٌ} ولم يصف أحدٌ من المتقدمين والمتأخرين القتال في المراكب إلا البحتري: أخبرنا به أبو أحمد قال أخبرنا الصولي قال سمعت عبد الله بن المعتزيقولُ لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى فليس للعرب سينية مثلها، وقصيدته في البركة (ميلوا إلى الدارِ من ليلى نحييها ... ) واعتذاراته في قصائده إلى الفتح التي ليس للعرب بعد اعتذرارت النابغة إلى النعمان مثلها، وقصيدته في دينار بن عبد الله التي وصف فيها ما لم يصفه أحدٌ قبله أولها (ألم تر تغليس الربيع المبكر ... ) ووصف حرب المراكب في البحر لكان أشعر الناس في زمانه فكيف إذا أضيف إلى هذا صفاء مدحه ورقة تشيبهه. وكان كثيراً ما ينشد له ويعجب من جودته

(عدوتُ على المأمونِ صُبحاُ وإنما ... غدا المركبُ الميمونُ تحتَ المظفَّرِ) (إذا زمجرَ النوتي فوقَ علاتهِ ... رأيت خطيباً في ذُؤابةِ منبرِ) (يَغضُّونَ دُونَ الاستنامِ عيونهم ... وقوفَ السماطِ للعظيم المؤمَّر) (إذا ما علت فيه الجنوب اعتلى له ... جناحا عُقابٍ في السماءِ مُهجَّر) (إذا ما انكفا في هبوةِ الماءِ خلتَهُ ... تلفعَ في أثناء بُردٍ محبرِ) (وحولك ركابونَ للهولِ عاقروا ... كؤوسَ الردى من دارعينَ وحُسر) (تميلُ المنايا حيثُ مالت أكفُّهم ... إذا أصلتوا حدَ الحديدِ المذكَر) (إذا رشقوا بالنارِ لم يكُ رشقُهم ... ليُقلعَ إلا عن شِواء مُقترِ) (صدمتَ بهمُ صهبَ العثانين دونَهمُ ... ضِرابٌ كايقاد اللظى المتسعر) (كأن ضجيجَ البحرِ بينَ رماحِهم ... إذا اختلفت ترجيعُ عودٍ مُجرجر) (تُقاربُ من زَحفَيهم فكأنما ... تؤلفُ من أعناقِ وحشٍ منفرِ) (فما رحت حتى أجلت الحرب عن طُلي ... مقطعةٍ فيهمَ وهامٍ مُطير) (على حينَ لا نقعٌ يطوِّحُه الصَّبا ... على الأرضِ يلقي للصَّريعِ المقطر) (وكنتَ ابن كسرى قبلَ ذاك وبعدهُ ... ملّياً بأن تُوهي صَفَاة ابنِ قيصر) (جدحتَ له الموتَ الزعافَ فعافهُ ... وطار على ألواحِ شَطْبٍ مسمِّرِ) (مضى وهو مولي الريحَ يشكرُ فضلها ... عليه ومن يولي الصنيعة يشكرِ) ومن أجود ما قيل في السهم من قديم الشعر قول عنترة: (أبينا فما نُعطي السواد عدونا ... قياماً بأعضادِ السراء المعطّفِ) (بكلَ هتوفٍ عجسها رَضوية ... وسهم كسيرِ الحميريَ المؤنفِ) وقال راشد بن شهاب اليشكري: (ونبلٍ قران كالسيور سلاجِمٍ ... وفلقٍ هتوفٍ لا سقىٍ ولا نَشَم)

(ومُطردِ الكعبين أحمر عاتر ... وذات قتيرِ في مواصلها دَرَم) وصف النبل والقوس والرمح والدرع في بيتين فأحسن، والأدرم الأملس الذي لا حجم له، والسلاجم الطوال، والسقي الذي يشرب الماء، والنشم شجرٌ. ومن أجود ما قيل في البيض من قديم الشعر قول سلامة بن جندل: (إذا ما علونا ظهرَ نشز كأنما ... على الهام مناقَيضُ بيض مفلًق) وقول الآخر (كأن نعام الدَوَباض عليهم ... ) ورواه بعضهم: (كأن نعاج الجو باض عليهم) فقيل له أخطأت من وجهين أحدهما أن النعاج لا تكون في الجو والآخر أنها لا تبيض. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن المعتز: (وبيضٍ كأنصافِ البدورِ أبيةٍ ... إذا امتحنتهنَ السيوفُ خِيارُ) فتشبيههاً بأنصاف البدور تشبيه غريبٌ مصيبٌ. أجود ما قيل في أتباع الرجال الرئيس في الحرب قول البحتري: (حمرُ السيوفِ كأنما ضَربت لهم ... أيدي القيونِ صفائحاً من عسجدِ) (في فتيةٍ طلبوا غُبارك أنهُ ... رهجٌ ترفّعَ عن طريقِ السؤددِ) (كالرمح فيه بضعُ عشرةَ فقرة ... مُنقادة خلفَ السنانِ الأصيدِ) وقد أحسن ابن هرمة في وقوله وهو في غير هذا المعنى: (إذا شَدوا عمائمهم ثنوها ... على كرمٍ وإن سفروا أناروا) (يبيعُ ويشتري لهمُ سواهم ... ولكن في الطعانِ هُمُ التجارُ) ومن أجود ما قيل في صفة الشجاع الجواد قول الآخر: (خُلِقت أناملهُ لقائم مُرهَفٍ ... ولبثَ عارفةٍ وذروة منسبرِ) (يلقى الرماحَ بوجههِ وبصدرهِ ... ويُقيمُ هامتهُ مقام المغفرِ) (ويقولُ للطِّرفِ اصطبر لشبا القنا ... فهدمتُ رُكنَ المجدِ إن لم تعقرِ) (وإذا تأملَ شخصَ ضيفٍ مُقبلٍ ... متسربلٍ سربالَ ليلٍ أغبرِ)

(أو ما إلى الكوماءِ هذا طارقٌ ... نَحرتنيَ الأعداءُ إن لم تنحَري) ومن أبلغ ما حُذرَ به الحرب قول بعضهم العجم: دافع بالحرب ما أمكن فإن النفقة في كل شئ من الأموال إلا الحرب فإن النفقة فيها من الأرواح. وقال النابغة الجعدي: (وتستلبُ المالَ الذي كانَ ربُها ... ضنيناُ به والحربُ فيها الحرائبُ) فتبعه أبو تمام فقال (والحربُ مشتقة من الحرب) وقول جدل الطعان: (دعاني أشبُ الحرب بيني وبينهُ ... فقلتُ له لا بل هَلمَ إلى السِّلم) (وإياك والحرب التي لا أديمها ... صحيحٌ وما تنفكُّ تأتي على الرغم) فإن يظفر الحزبالذي أنتَ منهمُ ... وينقلبوا ملءَ الأكفَ من الغُنم) (فلا بُدَ من قتلي للعك فيهمُ ... وإلا فجرحٌ لا يكون على العظمِ) (فلما أبى خليتُ فضلَ ردائهِ ... عليهِ فلم يرجع بحزمٍ ولا عزم) (وكان صريع الخيلِ أولَ وهلةٍ ... فبعداً له مختارَ جهلٍ على علمِ) ومن أجود ما قيل في تهوين الحرب والقتل ما أنشدناه أبو أحمد في خبر أخبرناه عن الصولي عن عبيد الله السكوني قال دخل محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي على بعض أمراء الكوفة وقد جرى عليه ظلمٌ فلم ينصفه فخرج من عنده وقال: (يا أيها الرُجلُ الذي بيمينه ... غيثُ الزمانِ وصولةُ الحدَثان) (أنعم صباحاً بالسيوفِ وبالقنا ... إنّ السيوفَ تحيةُ الفتيان) (قد أبطرتكَ سلامةٌ فنسيتَ ما ... أسلفتَ من برٍ ومن إحسانِ) (والدهرُ خدنُ مسرةٍ ومضرةٍ ... متقلبٌ بالناسِ ذو ألوانِ) يخاطب نفسهُ ويأمرها بمجاهرة السلطام بالعصيان إذ ليس عنده للظلم نكير فيكون ذلك سبباً للحرب فيحي بالسيوفِ فلا يفزع فإنها تحيةُ الفتيان. وقال علي بن جبلة:

(كأنَ ارماحهُ تعطي إذا عِملت ... تحتَ العجاجةِ أسماعاً وأبصارا) ومن أحسن ما قيل في تقسيم الخيل في الحرب قول النابغة أخبرنا أبو أحمد قال أنشدنا محمد بن يحيى قال أنشدنا المبرد قول النابغة وذكر أنه أحسن ما قيل في تقسم الخيل في الحرب: (خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت العجاجِ وخيلٌ تعلكُ اللجُما) قال ثعلبُ قلتُ لابن الأعرابي الصائمة التي لا تصهل وغير الصائمة التي تصهل فما هذه الأخرى؟ قال التي تعلك اللجم في الكمين. أخذه محمد بن مسلمة البشرى يصف تأدبيه فرسهُ: (عودتهُ فيما يزور حبائبي ... إمهالهُ وكذاك كلُ مُخاطرِ) (فإذا احتبى قربوسَه بعنانهِ ... علكَ الشكيمَ إلى إنصرافِ الزائر) ومن أجود ما قيل في ارتفاع الغُبار ولمعان الأسنة فيه من قديم الشعر قول النابغة: (تبدو كواكبهُ والشمسُ طالعةٌ ... نوراً بنورٍ وإظلاماً بأظلامِ) قالوا أراد قول الناس: لأرينك الكواكب نهاراً، وقالوا أراد توضح الأسنة في سواد العجاج. ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بشار: (كأن مثارَ النقعِ فوقَ رؤوسِنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه) النقعِ لا شمسٌ ولا قمر ... إلا جبينك والمذروبةُ الشرعُ) وقول ابن المعتز: (وعمَ السماءَ النقعُ حتى كأنه ... دخانٌ وأطرافُ الرماح شرارُ) وأبلغ ما قيل في الإقدام والاقتدار على العدو قول بعضهم: (عشيةَ كنا بالخيارِ عليهم ... أنتقصُ من أعمارهم أم نزيدها) ومن بديع المعاني في صفة اللقاءِ قول بعض الأعراب: (على كلَ جرداءِ القَرى أعوجيةٍ ... إذا طردَت لم ينجُ منها طريدها)

(وما قادَ من قوم إلينا جيادَهم ... فنلقاهمُ إلا رجعنا نقودها) وقلت في معناه: (إلى ابن الأولى شادوا المعاليَ بالظُّبى ... وعَمُّوا البرايا باللُّهى والرغائبِ) (إذا طلبوا رَوحَ الحياةِ وطيبها ... فبين سواقٍ للردَى وحواصب) (إذ البيضُ في سُود القساطلِ أنجمٌ ... غواربُ تهوي في الطلى والغوارب) (وتحملهم يومَ الكريهةِ ضُمرٌ ... تشولُ إلى الهيجاءِ شولَ العقارب) (فكم وقفةٍ في الرّوعِ منهم وحملةٍ ... أثارت بناتِ الحتفِ من كلَ جانب) (تَردُ الجياد تحت قسلطة الوغى ... جنائب أو تقتادُها في الجنائب) (بابيض مصقولٍ كأن بحدِّه ... ضرائبَ من تصميمهِ في الضرائبِ) ومن أجود ما قيل في كثرة الجيش قول الأخنس بن شهاب: (بجأواءَ ينفي وردُها سَرعانَها ... كأن وميض البيضٍ فيها كواكبُ) الجأواء: الكتبية يضربُ لونها إلى الكلفة وذلك من صدإ الحديد، والسرعان: الأوائل، يقول إن المياه لا تسعهم والأمكنة تضيقُ بهم فكلما نزل فرقة منهم رحل من تقدمهم. وقال أوس بن حجر: (ترى الأرضَ منا بالفضاءِ مريضةً ... مُعضلةً منا بجمعٍ عرمرمِ) التعضيل أن ينشب الولدُ في بطن أنه. ومثله قول النابغة: (جمعٌ يظلُ بهِ الفضاء مُعضلاً ... يدعُ الاكامَ كأنهنَ صحاري) وأعجب من هذا قول زيد الخيل:

(بجيشٍ تضلُ البلقُ في حجراتهِ ... ترى الأكم فيهِ سُجداً للحوافرِ) (وجمع كمثلِ الليلِ مرتجس الوغى ... كثيرٌ تواليهِ سريعُ البوادرِ) أخبرنا أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد قال يروى عن حماد الراوية قال قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها كم كانت خيل أبيك حيث يقول (بجيش تضل البلق في حجراته) قال ثلاثة أفراس أحدها فرسه. قالوا وقتلت خثعم رجلاً من بني سليم بن منصور فقالت أخته ترثيه: (لعمري وما عمري عليّ بهّين ... لنعمَ الفتى غادرتمُ آل خثعما) (وكانَ إذا ما أوردَ الخيلَ بيشةً ... إلى جنبِ أشراجِ أناخَ فألجما) (فأرسلها رهواً كأنَ رِعالها ... جرادٌ زهتهُ ريحُ نجدٍ فأتهما) فقيل لها كم كانت خيل أخيك قالت اللهم لا أعرف إلافرسه. قوله (تضل البلقُ في حجراته) غاية في صفة الكثرة لأن البلق مشاهير فإذا خفي مكانها في جمع فليس وراءه في الكثرة شئ، والعرب تقول أشهر من فارس الأبلق، ورؤساء العرب لا يركبون البلق في الحرب لئلا ينم عليهم فيقصدوا بشر. أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عُبيدة أن النبي & لما انصرف من بدر الموعد لم يلق كيداً وأصحابه سبعون راكباً وفيهم فرسان فرس الزبير وفرس للمقداد قال حسان بن ثابت: (أقمنا على الرسِّ النزوع لياليا ... بأرعنَ جرارٍ عريض المبارك) (ترى العرفجَ الحولي تذري أصوله ... مناسُم أخفافِ المطى الرواتك) (إذا ارتحلوا عن منزلٍ خلتَ أنه ... قريبٌ المدى بالموسم المتعاركِ) (نسيرُ فلا تنجو اليعافيرُ وسطنا ... وإن داءلت منا بشد مواشك)

(دعوا فلجاتِ الشام قد حالَ دونها ... ضرابٌ كأفواهِ المطيِّ الأواركِ) (بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربهم ... وأنصاره حقاً وأيدي الملائكِ) (إذا أقبل العضروط من أرضِ عالج ... فقولا لهُ ليس الطريقُ هنالك) ورسول الله & يسمع ويضحك. ومثل هذا في ترهيب العدو حسن: وقال أبو دغفل بن شداد الكلابي في المعنى الذي تقدم: (وأقبلَ عامرٌ من لبن سيراً ... إلينا ثم أقسمَ لا يَديم) (بجمعٍ تهلكُ البلقاءُ فيهِِ ... فتنشدُ والمفضضةُ اللطيمُ) ومن بليغ ما قاله محدث في كثرة الجيش وتكاثفه وإحتماعه قول أبي نواس: (أمامَ خميسٍ أدجوانٍ كأنه ... قميصٌ محوكٌ من قنا وجيادِ) الأدجوان: الأسود واشتقاقه من الدجى، وروي الأرجوان وهو الأحمر وقال البحتري: (لما أتاك يقودُ جيشاً أرعناً ... يمشي عليهِ كثافةً وجموعا) وقال ابن الرومي: (فلو حصبتهم بالفضاء سحابةٌ ... لظل عليهم حَصبها يتدحرجُ) وهو من قول قيس بن الخطيم: ... ) لو أنك تُلقي حنظلاً فوقَ بيضنا ... تدحرجَ عن ذي سامةِ المُتقاربِ) السامُ: عرق الذهب الفضة وهو ههنا الطرائق المذهبة في البيض. وقلت: (ولقد نقودُ الخيلَ تخطرُ بالقنا ... فتَصُبُهنَ على العدى آجالا) (ما إن يلين لها مَدىً فتخالها ... تجري بطاءً إذ جَرَينَ عجالا) وقال أبو عمرو بن العلاء أحسن ما قيل في صفة جيش قول النابغة: (أو يزجروا مكفهراً لا كفاءَ له ... كالليلِ يخلطُ أصراماً بأصرامِ) (تبدو كواكبهُ والشمسُ طالعةٌ ... نوراً بنورٍ وإظلاماً بإظلامِ)

فذكر ذلك ليونس فقال أحسن منه قول العجاج: (كأنما زهاؤهُ لمن جَهَر ... ليلٌ ورز وغرِهِ إذا وغَر) (سارٍ سرى من قِبِلِ العينِ فجر ... ) والأول أحسن عندي. ومن أجود ما قيل في صفة السوط قول الشعبي: أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل قال كان الشعبي إذا تحدث كأنهُ لم يُسمَع من غيره لحلاوة منطقه وعذوبة لفظه فتحدث يوماً فقال له رُجلٌ كان يجالسهُ يقال له حنيش: اتق الله ولا تكذب فقال له الشعبي ما أحوجك إلى محدرج عظيم الثمرة لين المهزة أخذ من مغرز عُنقٍ إلى عجب ذنب فيوضع على مثل ذلك منك فيكثر لك رقصاتك من غير جذل. قال وما هو بأبي أنت وأمي؟ قال أمرٌ لك فيه أدبٌ ولنا فيه أربٌ. يعني السوط. ومن أحسن ما وصف به الرأسُ إذا حمل على القناة قول مُسلم: (ويجعل الهام تيجان القنا الذبلِ ... ) مأخوذ من قول جرير (تيجان كسرى وقصيرا ... ) ومن أجود ما قيل في المصلوب ما أنشدنيه بعضُ البصريين: (أنظر إليه كأنهُ في جذعهِ ... لما توشَحِ بالجبالِ ودُرعا) (رامٍ رمى عن قوسهِ بمذلقٍ ... وأراد صحةَ رميه فتسمّعا) وهذا من أتم ما قيل فيه. ومن المستحسن فيه قول البحتري: (فَتراهَ مُطرداً على أعوادهِ ... مثلَ اطِّراد كواكب الجوزاءِ) وقول ابن الرومي: (يلعبُ الدستبندَ فرداً وإن كانَ ... لهُ شاغلٌ عن الدستبند) وقال مُسلم بن الوليد:

(كأنهُ شِلو كبشٍ والهواءُ لهُ ... تنورُ شاويةٍ والجذعُ سفّودُ) ومما يجري مع ذلك ما أخبرنا به أبو القسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال قال بعض أهل خرسان لوكيع كيف قتلت ابن خازم؟ قال لما صرع قعدت على صدره فحاول القيام فلم يقدر فغلبته بفضل القنا وقلت يا لثارات دوبلة فقال لعنك الله أتقتل كبش مضر بأخيك علج لا يساوي كف نوى وتنخم في وجهي فما رأيت أحداً أكثر ريقاً منه. فذكر ابن هبيرة يوماً هذا الحديث فقال هل البسالة إلا أن يكثر الريق على تلك الحال. ومن جيد ما قيل في طرائق الدم على المطعون قول أبي خراش الهذلي: (ونهنتُ أولي القومِ عني بطعنةٍ ... كأوشحةِ العذراءِ ذاتِ القلائدِ) أوشحة جمع وشاح وهو سيرٌ كأنهُ شراكٌ عليهِ ودعٌ فشبه لون الدم بالسير والزبد بالودع. ومما يجري مع ذلك ذكر الحذر من الموتور ما قلت فيه: (لا تأمننَ أخا العداوةِ إنهُ ... إنْ أمكنتهُ فرصةٌ لم يُمهل) (للهِ دَرُكَ كيفَ تأمنُ محنِقاً ... تغلي عدواةُ صدرهِ في مرجل) (ما الحزمُ إلا في إجتثاثِ أصولهِِ ... والأيمُ لم يؤمن إذا لم يقتلِ) ومن الجيد مما قيل في سعة الطعنة قول بشر: (إذا نفذتهم كرت عليهم ... بطعنٍ مثل أفواه الخبورِ) الخبرُ المزادة والجمع خبور. وقال عمرو بن شاس: (بطعنٍ كايزاغ المخاضِ إذا اتقت ... وضربٍ كأفواهِ المفرجة الهدلِ) شبه اللحم الذي يتدلى من فم الجرح بمشفر البعير الذي به قروح في فمه

فيهدل لها مشفرة. وقال عمرو بن شأس أيضاً: (وأسيافنا آثارهنَ كأنها ... مشافر قرحى في مباركها هُدلُ) وقال غيره: (بضربٍ كآذانِ الفراءِ فضولهُ ... وطعن كايزاغ المخاض تبورها) الفراء جمع الفرا وهو حمار الوحش. وقال خلف الأحمر: (وأطعن الشجساجة المشلشله ... على غشاش دَهَش وعجله) (يردُ في نحرِ الطبيبِ فتله ... ) أي يسح الدم، ومشلشلة: مفرقة. وقال خداش بن زهير: (وطعنةِ خلس كفرع الأزاء ... أفرغ في مثعبِ الحائرِ) (تهالُ العوائدُ من فرغها ... تردُ السبار على السبارِ) السابر الشئ الذي تسبر به الطعنة أي تقدر والسابر الذي يسبرها، والحاير المطمئن من الأرض المرتفع الحروف والجمع حوران، والمثعب مسيل الماء. هذا آخر صفة الحرب والسلاح وما يجري معهما، والحمد لله حق حمده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين وعلى الخلفاء الراشدين.

هذا كتاب البمالغة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي قسم البيان بين القلم واللسان لتكون النعمة فيه مشتركة بين الغائب والحاضر والمقيم والمسافر إتماماً للنعمة على عباده وإكمالاً للعارفة في عمارة بلاده ودل على موضع الصنيعة في البيان ونبه على موضع العارفة في اللسان حيث يقول تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} وأخبر عن عظيم قدر القلم وما تضمن من سوابغ النعم حيث يقول تعالى: {إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم} وأعلى قدره وفخم أمره حين أقسم به على أحل أمرٍ وأنبله وأشرفه وأفضله فقال {ن والقلم وما يسطرون} فسبحان من جعل جلائل النعم وسوابغ الآلاء والقسم في شخصٍ ضئيل وقد قصير تقل قيمته وتصغر قمته مع جلالة شأنه وعلو مكانه. (هذا كتاب البمالغة) في صفة الخط والقلم والدواة والقرطاس، وذكر البلاغة وما يجري مع ذلك، وهو: (الباب التاسع من كتاب ديوان المعاني وهو ثلاثة فصول) (الفصل الأول) في ذكر الخط والقلم والدواة والقرطاس وما يسلك مع ذلك من أحسن الاستعارة في ذكر الخط قول عبيد الله بن العباس بن الحسن

العلوي الخط لسان اليد. وقال جعفر بن يحيى: الخط سمط الحكمة به يفصل شذورها وينظم منثورها. وقلت في معناه: (الكتبُ عُقلُ شوادرِ الكلم ... والخطُ خيطُ فرائدِ الحكم) (بالخطَ نُظمَ كلُ منتثرٍ ... منها وفُصلَ كل مُنتظمِ) (والسيفُ وهو بحيثُ تعرفُ ... فرضٌ عليه عبادةُ القلمِ) واختلف الناسُ في الخط واللفظ فقال بعضهم الخط أفضل من اللفظ لأن للفظ يُفهم الحاضر والخط يفهم الحاضر والغائب. وقال بعضهم الخط كلامٌ ميت والمخاطب به حي يُمكن صاحبه أن يبصرهُ حتى بيلغ منه غرضهُ. وما أعاجيب الخط كثرة اختلافه والأصل واحدٌ كاختلاف صُور الناس مع اجتماعهم في الصفة وخط الإنسان كحليته ونعهت في اللزوم له والدلالة عليه والإضافة إليه كإضافة القافة الآثار إلى أصحابها. ومن أحسن ما قيل في حُسن الخط والشكل قول أحمد بن إسماعيل: (مستودعٌ قرطاسهُ حكما ... كالروضِ مَّيز بينهُ زَهَرهُ) (وكانَ أحرفَ خطهِ شجرٌ ... والشكلُ في أضعافهِ ثمره) ووصف أحمد بن صالح جاريةً كاتبةً فقال كأن خطها أشكال صورتها وكأن مدادها سواد شعرها وكأن قرطاسها أديم وجهها وكأن قلمها بعض أناملها وكأن بيانها سحرُ مقلتها وكأن سكينها سيف لحظها وكأن مقطها قلب عاشقها. وقلت: (وخط من التصحيح فيهِ معالمٌ ... من الحسن إذ يبدو عليه سبيبُ) (يُعَبرُ عنه الروضُ وهو منمنمٌ ... ويخبر عنهُ الوشي وهو فشيبُ) (سوادُ مدادٍ في بياض صحيفةٍ ... يقول شبابٌ بالمشيبِ مشوبُ) (كأنَ ظلامَ الليلِ أذرَى دموعَه ... فظلَّت على خدَ الصباح تصوب) ومن غريب ما قيل في الشكل ما أنشدناه أبو أحمد قال أنشدنا الصولي قال أنشدني عبد الله بن المعتز لنفسه:

(فدونكهُ مُوشَّى نمنمتهُ ... وحاكتهُ الأناملُ أيَّ حوكِ) (بشكلٍ يؤمنُ الأشكالُ فيهِ ... كأنَ سطورهُ أغصانُ شوكِ) وقلت: (بياضُ صحيفةٍ تلتاحُ حسناُ ... كمتنِ السيفِ في كفَ المليحِ) (كغيمٍ رقَ في أطرافِ جوٍ ... وماء ساحَ في قاعٍ فسيح) (ويحكي أرض كافور صريح ... بها نبذٌ من المسكِ الذبيح) (كمثلِ الليلِ في صبحٍ صديعٍ ... ومثل الصدغ في وجه صبيح) (وبين سُطورهِ عجمٌ مصيبٌ ... كمثلِ الخالِ في الخدِ المليحِ) وأحسن ما قيل في صفة الخط الجيد ما أخبرنا به أبو أحمد قال أخبرنا الصولي قال سُئل بعضُ الكتاب عن الخط متى يستحق أن يوصفَ بالجودة فقال: إذا اعتدلت أقسامه وطالت ألفه ولامه واستقامت سطوره وضاهى صعوده حدوره وتفتحت عيونه ولم تشتبه راؤه ونونه وأشرق قرطاسه وأظلمت انقاسه ولم تختلف أجناسه وأسرع في العيون تصوره وإلى العقول تثمره وقدرت فصوله واندمجت وصوله وتناسب دقيقه وجليله وخرج عن نمط الوراقين وبعد عن تصنع المحررين وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية كان حينئذ كما قيل في صفة الخط: (إذا ما تجلل قرطاسَه ... وساوَرَه القلمُ الأرقشُ) (تضمنَ من خطهِ حُلةً ... كمثلِ الدنانير أو أنقش) (حروفاً تُعيدُ لعين الكليلي ... نشاطاً ويقرؤها الأخفشُ) ومن ههنا أخذ المتنبي قوله: (أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من بهِ صممٌ) إلا أنه أحسن الأخذ وأجاد اللفظ. ومن مليح التشبيه قول الأعرابي وقد قال له هشام بن عبد الملك أنظر كم على هذا الميل من عدد الأميال، ولم يكن الأعرابي

يحسنُ القراء فمضى فنظر ثم عاد فقال رأيتُ شيئاً كرأس المحجنُ متصلاً بحلقة صغيرة تتبعها ثلاث كأطباء الكلبة يفضي إلى هنةٍ كأنها قطاةٌ بلا منقار. ففهم هشام بالصفة أنها (خمسة) . أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن أبي العباس الربعي عن الطلحي عن أحمد ابن إبراهيم قال دخل أعرابيٌّ إلى الرشيد فأنشده أرجوزةً وإسماعيل يكتب بين يديه كتاباً وكان أحسن الناس خطاً وأسرعهم يداً وخاطراً فقال الرشيد للأعرابي صف هذا الكاتب فقال ما رأيت أطيش من قلمه ولا أثبت من كلمه ثم قال ارتجالاً: (رقيقُ حواشي الحلمِ حينَ تبورُهُ ... يريك الهوينا والأمورُ تطيرُ) (له قلما بُؤسَى ونُعمى كلاهما ... سحابتهُ في الحالتينِ دَرُورُ) (يناجيك عما في ضميركَ لحظهُ ... ويفتحُ بابَ الأمر وهو عسيرُ) فقال الرشيد قد وجب لك يا أعرابي حق عليه هو يقضيك إياه وحق علينا فيه نحنُ نقومُ به، ادفعوا إليه دية الحر، فقال إسماعيل وله على عبدك دية لعبد. قوله (رقيق حواشي الحلم) ردئ لأن الحلمُ يوصفُ بالرزانة لا بالرقة، واستعمل أبو تمام هذا اللفظ فعيب به. وقوله (يريك الهوينا والأمور تطير) رويناه لمنصور النمري. وفاخر صاحبُ قلم صاحبَ سيف فقال صاحبُ القلم أنا أقتل بلا غرر وأنت تقتل على غرر. قال صاحبُ السيف القلمُ خادمُ السيف إن بلغ مراده والإفالي السيف معاده أما سمعتَ قول أبي تمام: (السيفُ أصدقُ أنباءُ من الكتبِ ... في حدِّهِ الحدِ بين الجدِّ واللعبِ) وأبي ذلك ابن الرومي فقال: (كذا قضى الله للأقلام مُذْ بُريَتْ ... إنَّ السيوفَ لها مُذْ أُرهِفَتْ خدم)

وقال أيضاً: (لعمرك ما السيفُ سيفُ الكميّ ... بأخوفَ من قلمِ الكاتبِ) (له شاهدٌ إنْ تأملتهُ ... ظهرتَ على سرِّه الغائبِ) (أداةُ المنيةِ في جانبيهِ ... فمن مثلهِ رهبُ الراهبِ) (سِنانُ المنيةِ في جانبٍ ... وسيفُ المنيةِ في جانبِ) (ألم ترَ في صدرهِ كالسنانِ ... وفي الردفِ كالمرهفِ العاضبِ) وقد أحسن الخالدي في قوله: (ففي كفَ ليث الورَى للندَى ... وفي كفَ ليث الشرى في الغياضِ) وقلت: (أبيت بالليلِ غريب الكرى ... يأخذُ مني الدرسُ والكتبُ) (وقيمُ الحكمةِ في أنملي ... يصوغُ ما يسبكهُ اللُّبُّ) (أنفُ ضميري حينَ أرعفتهُ ... أفرغ ما ستوعبهُ القلبُ) (لسانُ كِفي حينَ أنطقتهُ ... أرضاك منهُ المنطقُ العذبُ) (منحفٌ في خَلقهِ ذابلٌ ... معظمٌ في فعلهِ ندبُ) (إن لم يكن كالعضبِ في حدهِ ... فإنه في فعلهِ عضبُ) (ينكسهُ المرءُ فيعلو به ... وربَ نكسٍ غِبُّهُ نصبُ) (ومُذْ عرفنا لذةَ العلمِ لا ... يُعجبنا الحلوُ ولا العذب) وقال البحتري في تفصيل السيف على القلم: (ولما التقت أقلامكم وسيوفهم ... أبدت بُغاثَ الطير زرقُ الجوارحِ) (فلا غرّني من بعدكم عزُ كاتبٍ ... إذا هو لم يأخذ بحجزة رامحِ) ومن أحسن ما وصف به القلم قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك الزيات: (لك القلمُ الأعلى الذي بشباتهِ ... تنالُ من الأمر الكلى والمفاصلُ) (لعابُ الأفاعي القاتلاتِ لعابهُ ... وأرْيُ جنى شارته أيد عواسل) (له ريقةٌ طلَ ولكن وقعها ... بآثارهٍ في الشرقِ والغربِ وابلُ)

(فصيحٌ إذا استنطقتهُ وهو راكبٌ ... وأعجمُ إن خاطبتهُ وهو راجلُ) (إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغتْ ... عليه شعابُ الفكر وهي حوافلُ) (أطاعته أطراف الرماح وقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل) (إذا استفزر الذهن الذكي وأقبلت ... أعاليهِ في القرطاسِ وهي أسافل) (وقد رفدته الخنصرانِ وسَدَّدت ... ثلاثَ نواحيهِ الثلاثُ الأنامل) (رأيت جليلا شأنه وهو مرهفٌ ... ضنى وسميناً خطبه وهو ناحلُ) وقد أحسن القائل في تشبيه أنامل الكاتب على القلم بالقلم أنشدناه أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن محمد بن إسحاق: (ماضر من أضني بهجرانهِ ... قلبَ كئيب القلبِ حرَّانهِ) (لو فرجَ الكربةَ عن مُدنفٍ ... تشُفُّهُ لوعة أحزانه) (بِرقعةٍ ينْظمها كفه ... نظمَ لآليه ومرجانهِ) (بمرهفِ الأحشاءِ ذي حُلةٍ ... موشيةٍ ترفعُ من شانهِ) (لعابهُ يسرٌ وعسرٌ إذا ... جاد به تفليجُ أسنانهِ) (إذا امتطاه بشبيهاتهِ ... كشَّف أسراراً بإعلانهِ) (يركض في ميدانِ قرطاسهِ ... ركضَ جوادٍ وسطَ ميدانهِ) وأحسن القصار في هذا المعنى يصف جاريةً كاتبةً اسمها علم: (أفدى البنانَ وحسنَ الخطِّ من علمٍ ... إذا تقمعن بالحناءِ والكتمِ) (حتى إذا قابلت قرطاسها يَدُها ... ترى ثلاثةَ أقلامٍ على قلمِ) ومن أحسن ما قيل في الدواة والأقلام قول أحمد بن إسماعيل: (في كفهِ مثلُ سنانِ الصعده ... أرقش بزَ الأفعوانُ جِلده) (يلتهمُ الجيشَ اللهامَ وحده ... لو صادمَ الطودَ المنيفَ هَدّه) (لو صافحَ السيفَ الحسامَ قدّه ... يأوي إلى ظئر لهُ مُحتدّه)

(يمزجُ فيها صبرٌ بشُهدهِ ... يُرضعها من مقلةٍ مُسوده) (يَمُدُّها جارٍ كثيف العُدّه ... كأنّه الليلُ إذا استمدّه) (مُقلُتها مكحولة بِنَدّه ... ) وقلت في القلم: (أنظر إلى قلمٍ تنكسَ رأسهُ ... ليِضُمَ بينَ موصلٍ ومفصَلِ) (تنظر إلى مخلابِ ليثٍ ضغيمٍ ... وغرارِ مسنونِ المضاربِ مفصلِ) (يبدو لناظرهِ بلونٍ أصفرٍ ... ومدامعٍ سودٍ وجسمٍ مُنحلِ) (فالدرجُ أبيضُ مثل خدٍ واضحٍ ... يثنيهِ أسودُ مثل طرفٍ أكحلِ) (قسم العطايا والمنايا في الورى ... فإذا نظرتَ إليه فاحذر وأمل) (طعمان شوبُ حلاوةٍ بمرارةٍ ... كالدهرِ يخلطُ شَهدهُ بالحنظلِ) (فإذا تصرفَ في يديك عِنانُه ... ألحقتَ فيهِ مؤملاً بمؤمل) (ومُذللاً بُمعززٍ ولربما ... ألحقتَ فيهِ معززاً بمذَلّلِ) وقلت: (لك القلمُ الجاري ببؤسٍ وأنعم ... فمنها بوادٍ ترتجى وعوائدُ) (إذا ملأ القرطاس سود سطوره ... فتلك أسودٌ تُتقى وأساودُ) (فتلك جنانٌ تُجتني ثمراتُها ... ويلقاك من أنفاسهنّ بواردُ) (وهن برودٌ مالهنَ مناسجٌ ... وهنَ عقودٌ مالهنَ معاقدُ) (وهنَ حياةٌ للوليّ رضيةٌ ... وهنَ حتوفٌ للعدوَ رواصدُ) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل الطائي قال أنشدني أبو الحسين بن أبي البغل: (لهم هِممٌ تناطُ إلى الثريا ... وتحكم في الطريفِ وفي التلادِ) (وأقلامٌ تشبهها سُيوفاً ... مُهنَدةً هوادٍ في الهوادي)

(يخطُ بها سوادٌ في بياضٍ ... فتحسبهُ بياضاً في سوادِ) (إذا فَزِعَ الصريخُ أمدخيلاً ... بخيل تستثارُ من المداد) وقد أسحن ابن الرومي في وصف الكتاب حيثُ يقول: (متمنطقٌ من جلدهِ ... متختمٌ من خصره) (أبداً تراهُ وصدره ... في بطنه أو ظهره) وقال ابن المعتز يذكر أرضةً أكلت كتاباً: (شغلي إذا ما كانَ للناسِ شغل ... دفترُ فقهٍ أو حديث أو غَزَل) (أرقطُ ذو لونٍ كشيبِ المكتهلِ ... تخالهُ مكتحِلاً وما اكتحل) (راكبُ كفٍ أينَ ما شاءَ رحل ... وهو دليلٌ لمقالٍ أو عمل) (يقيمُ وزنَ العقل حتى يعتدل ... ويُذكرُ الناسيَ ما كان أضل) (كأنهُ ينشرُ عن نقش حلل ... يخاطب اللحظَ بنطقٍ لا يكل) (ولا يملُ صاحباً حتى يمل ... ) ثم قال في وصف الأرضة (تأكل أثمار القلوب لا أكل ... ) وكتب الصاحب في وصف كتاب: وصل كتابك فجلعت يوم وصوله عيداً أؤرخ به أيام بهجتي وأفتتح به مواقيت غبطتي وعرفت من خبر سلامتك ما سألت الله الكريم أن يصله بالدوام ويرفعهُ على أيدي الأيام. وكتب أيضاً: وصل كتابه أيده الله بضحك عن أخلاقه الأرجة ويتهلل عن عشرته البهجة ويخبر عن عارية الله إياه عما رأيت شمل الحرية به منتظما وشعب المروءة له ملتمأ ويتحمل من أنواع بره ما أقصر عن ذكره ولا أطمع في شكره ويؤدي من لطيف اعتذاره في أثناء عتبه ما تزداد به أسباب السررور تمداً. وقلت في كتاب أكلته الأرضة: (وجليسٍ حسنُ المحضر ... مأمونُ المغيبِ) (ميتٌ يُخبرُ حياً ... بخفياتِ الغيوبِ) (أبلهٌ غيرُ لبيبٍ ... وهو في حالٍ اللبيب)

(جاهلٌ غيرُ أديبٍ ... وهو عونٌ للأديبِ) (أخرسٌ غيرُ خطيبٍ ... ولهُ لفظُ الخطيبِ) (مفحمٌ ينظمُ شِعراً ... مثلَ إقبالِ الحبيبِ) (ساكتٌ يروي حديثاً ... مثلَ إعراضِ الرقيبِ) (نمقتهُ الكفُ حتى ... هو كالوشي القشيب) (من سوادٍ وبياضٍ ... كشبابٍ ومَشيب) (فيه إمتاعٌ لأبصارٍ ... وأنسٌ للقُلوب) (دبَ فيهنّ دبيبٌ ... كان من شرَ الدبيب) (من صغيراتِ جسومٍ ... وكبيراتِ الذنوب) (أخذت منها نصيباً ... فالتوى منها نصيبي) (أفرَحت قلبَ جهولٍ ... وكوت قلبَ لبيبِ) (ويل هاتيك المعاني ... من بديعِ وغريبِ) (وأفانينِ كلامٍ ... بين سهلٍ وصليب) (من بديعٍ وفصيحٍ ... وصحيحٍ ومُصيبِ) (بُدلَ الإصلاحُ منهن ... بإفسادٍ عجيب) (فنجومُ العلمِ والفهم ... تهاوت للغروب) (كلُ شئٍ سوفَ يفنى ... عن بعيدٍ وقريبِ) ومن بديع ما وُصف به الوراق ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبي هفان قال سألتُ وراقاً عن حاله فقال: عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج وحظي أخفى من شق القلم ويدي أضعف من قصبة وطعامي أمر من العفص وشرابي أسود من الحبر وسوء الحال ألزم لي من الصمغ. فقلت عبرت عن بلاءٍ ببلاء فحسبك. وقلت في المحبرة والأقلام:

(منهلةٌ من أشرفِ المناهلِ ... تضمنُ ريَّ الصفرِ الذوابلِ) (مَركبها ذوائبُ الأناملِ ... إذا مشت عاليةَ الأسافل) (بكت على الطرسِ بدمع هاملِ ... فارتبطت شوارد المسائل) (وكشفت عن غُرر الدلائل ... بيضاء تبدو في لباسِ الثاكل) (لكنها تلبسهُ من داخل ... ) ومما لا أعرف في معناه خيراً منه قول كشاجم الكاتب: (لا أحبُ الدواةَ تحشى يراعاً ... هي عندي من الدُّويّ معيبه) (قلمٌ واحدٌ وجودةُ خطٍ ... فإذا زدتَ فاستزدْ أنبوبه) (هذه قعدةُ الشجاعِ عليها ... أبداً سيرهُ وتلك جَنبيه) ومن البديع الظريف قول أحمد بن إسماعيل: (كأنما النقسُ إذا استمده ... غاليةٌ مذوفةٌ بنده) ونتن الكرسف مما يُعابُ به. ومن البديع المشهور ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن إسماعيل للحسن بن وهب: (مِدادٌ مثلُ خافية الغراب ... وأقلامٌ كمرهفةِ الحرابِ) (وقرطاسٌ كرقراقِ السرابِ ... وألفاظٌ كأيامَ الشبابِ) وقلت: (أكثر ما تثبته الأقلامُ ... لم تسع في زواله الأيامُ) (بالك من خُرسٍ لها كلامُ ... موتى إليها النقضُ والإبرامُ)

(قِوامُ مجد مالهُ قوامُ ... نِظامُ ملكٍ خانه النظامُ) (أصاغرٌ شؤونها العظامُ ... ) ومن المختار في معناه قول الآخر: (إنما الزعفران عطرُ العذراى ... وسوادُ الدّوِيّ عطرُ الرجالِ) وقلت في سكين: (أنجار وعدك في السكينِ مكرمةٌ ... غراء فضلك فيها غيرُ مجحودِ) (أحسنْ بهِ أزرقاً في أبيضٍ يققٍ ... له مناطق من بيضٍ ومن سودٍ) (خلفُ الوعيدِ حميدٌ لا يذمُ بهِ ... ولم يكن خلف موعودٍ بمحمود) وكتب كافي الكفاة في ذم قلم فأبدع: وليس العجب إلا من قلم منيت به لا يستقر إذا تأنيت ولا يستمر إذا جريت طوله عرض وابرامه نقض تستغيث الحروف من التوائه وتستأنس السطور من استوائه إن قلت سر وقف وإن حثثته بالأنامل قطف فألفاظي في سنيه مأسورة ومعاني في شقيه محصورة وقد صبرت عليه ألبسه مع سوء عشرته واستمنحه مع فضل عسرته وأقول لعله يصلح بطول المداراة وعساه ينجح بكثرة المناوة وهو يزداد نفاراً ويتضاعف زللاً وعثاراً. ومما يدخل في هذا الباب قول كشاجم في غلام رآه يكتب ويخطئ فيمحو ما يخطه بريقه وهو: (ورأيتهُ في الطرسِ يكتبُ مرةً ... غلطاً يواصلُ محوهُ برضا به) (فوددتُ أني في يديهِ صحيفةٌ ... وودتهُ لايهتدي لصوابهِ) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي ابن سابق قال رأى المأمون في يد جارية له قلماً وكان ذا شغفٍ بها واسمها منصف فقال: (أراني منحتُ الودَ من ليسَ يعرف ... فما أنصفني في المحبةِ منصفُ) (وزادتْ لدىَ حظوةً يومَ أعرضت ... وفي أصبعيها أسمرُ اللونِ أهيف) (أصمّ سميعٌ ساكنٌ متحركٌ ... ينالُ جسيمات المدى وهو أعجفُ)

( ... عجبتُ له أني ودهرك معجبٌ ... يُقومُ تحريفَ العباد مُحرفُ) وكتب الصاحبُ أبو القسم في وصف كتاب: ومن هذا الذي لا يحبُ أن يواصل علم الفضل وواسطة الدهر وقرارة الأدب والعلم ومجمع الدراية والفهم أم من لا يرغب في مكاثرة من ينتسب الربيعُ إلى خلقه ويكتسبُ محاسنه من طبعه ويتوشح بأنوار لفظه ويتوضح بآثار لسانه ويده، ووصل كتابهُ فارتحتُ لعنوانه قبل عيانه حتى إذا فاضت ختامه أقبلت الفكرة تتكاثر والدرر تتناثر والغرر تتراكم والنكتُ تتزاحم فإذا حكمتُ للفظة بالسبقِ أتت أختها تنافس وأقبلت لدتها تفاخر حتى استعفيتُ من الحكومة ونفضتُ يدي من غبار الخصومة وأخذتُ أقول كلكنَ صوادرٌ عن أصولٍ بل أصلٌ واحدٌ فتسالمن ونواقدٌ عن معدنٍ فاردٍ فتصالحن وقد وليت النظر بينها من كمل لنسج برودها ووفي بنطم عُقودها. ومثل ما تقدم من قوله في ذم القلم قوله أيضاً: على أني يا مولاي أنشأتُ هذه الأحرف وحولي أعمالٌ وأشغالٌ لا يسلمُ معها فكرٌ ولا يسمح بينها طبعٌ وتناولت قلماً كالابن العاق بل العدو المشاق فإذا أدرته استطال وإذا قومته مال وإذا حثثتهُ وقف وإذا أوقفته انحدر أجدل الشق مضطرب الشق متفاوتُ البري معدوم الجري محرف القط مثبج الخط ثم رأيت العُدول عنه ضرباً من الانقياد لأمره والانخراط في سكله فجهدته على رغمه وكددته على صغره لا جرم أن جناية اللجاج بادية على صفحات الحروف لا تخفى وعادية المحك لائحةٌ على وجوه تتجلى. وكتبتُ في وصف كتاب: والله أعلم أني أخبرت بورود كتابه فاستفزني الفرحُ قبل رؤيته وهزَ عطفي المرحُ قبل مشاهدته فما أدري أسمعت بورود كتاب أم ظفرت برجوع شباب ثم وصل بعد إنتطار له شديد وتطلع إلة وروده طويل عريض فتأملته فلم أدر ما تأملت أخطاً مسطوراً أم روضاً ممطوراً أم كلاماً منثوراً أم وشياً منشوراً ولم أدر ما أبصرتُ في أثنائه أبيات شعر أم عقودُ دُر ولم أدر ما حملته أغيثٌ حل بواد ظمآن أم غوثٌ سيقٌ إلى لهفان.

وكتب الصاحبُ: ووصل كتابُ القاضي فأعظمتُ قدر النعمة في مطلعه وأجللتُ محل الموهبة بموقعه وفضضته عن السحر الحلال والماء الزلال وسرحت الطرف منه في رياض رقت حواشيها وحلل تأنق واشيها فلم أتجاوز فصلاً إلا إلى أخضرَ منه فضلاً ولم أتخط سطراً إلا إلى أحسنَ منه نظماً ونثراً. ورفع رَجلٌ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر قصةً يعتذر فيها فرأى خطه رديئاً فوقع: قد أردنا قَبُولَ عذرك فاقتطعنا دونه ما قابلنا من قبح خطك ولو كنتَ صادقاً في إعتذراك لساعدتك حركة يدك أو ما علمتَ أن حسن الخط يُناضلُ عن صاحبه بوضوح الحجة ويمكن له درك البغية. وقال علي رضي الله عنه: الخطُ الحسنُ يزيد الحقَ وضُوحاً. وقيل: حسن الخط إحدى البلاغتين. ووصف الجاحظُ الكتاب فقال: الكتاب وعاءٌ مُلئ علماً وظرفٌ حشي ظرفاً وإناء شحن مزاحاً وجداً إن شئت كان أبين من سحبان وائل وإن شئت كان أعيا من باقل وإن شئت ضحكت من نوادره وإن شئت شجتك مواعظه ومن لك بواعظٍ ملهٍ وبزاجرٍ مغرٍ ويناسك فاتكٍ وبناطق أخرس وببادرٍ حار ومن لك بطبيب أعرابي وبرومي هندي وفارسي يوناني وبقديم مولد وبميت مُمتع ومن لك بشئ يجمع الأول والآخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل والمثل وخلافه والجنس وضده. ودخل المأمونُ على بعض بنيه فوجدهُ ينظر في كتابٍ فقال يا بني ما في كتابك؟ قال بعضُ ما يشحذ الذهن ويؤنس الوحدة. فقال الحمد لله الذي رزقني ولداً يرى بعين عقله أكثر مما يرى بعين جسده وظل مفكراً في قول ولده الطفل.

الفصل الثاني من الباب التاسع

(الفصل الثاني من الباب التاسع) في ذكر البلاغة قال بعض الحكماء: البلاغة قول تضطر العقول إلى فهمه، قال الشيخ أبو هلال يعني قولاً واضح المعنى غيرُ مشكل المغزى. وسأل معاوية عمرو بن العاص من أبلغ الناس؟ قال من اقتصر على الإيجاز وترك الفضول. وليس يصلح الإيجاز في كل مكان كما لا تصلح الإطالة في كل أوان بل لكل واحد منهما حينٌ يحسن فيه ومقام يليق به إن أزلته عنه لم توفه حقه ولم تسلك به طرقه. وقال محمد الأمين عليكم بالأيجاز فإن للإيجاز إفهاماً وللإطالة استبهاماً. أي عليكم بالإيجاز فيما كان الإيجاز فيه أحسن وأنجع فأما إذا كانت الإطالة أرد وأنفع فليس للإيجاز موقعٌ يحمدَ ولا حالٌ تعتمد. والإيجاز بجميع الشعر أليق وبجميع الرسائل والخطبِ وقد يكون من الرسائل والخطب ما يكون الإيجاز فيه عياً ولا أعرفه إلا بلاغة في جميع الشعر لأن سبيل الشعر أن يكون كلامه كالوحي ومعانيه كالسحر مع قربها من الفهم والذي لا بد منه حسن المعرض ووضوح الغرض كقول النابغة الذبياني (فإنك كالليل الذي هو مدركي ... ) وقال الفرزدق: (والشيبُ ينهض بالشبابِ كأنهُ ... ليلٌ يصيحُ بجانبيهِ نهارُ) وقال أعرابي: أبلغُ الناس أسهلهم لفظاً وأحسنهم بديهةً. وهذا حسنٌ جداً لأن سهولة اللفظ وحسن البديهة يدلان على جودة القريحة والبلاغة الغريزية، ووعورة اللفظ تدل على تكلف وتعسف ولا شئ أذهب بماء الكلام وطلاوته ورونقه منهما ولا يحسن معهما الكلام أصلاً وإن كان لطيف المعنى نبيل الصنعة. وقد أجاد ابن الرومي في وقوله: البلاغةُ حسنُ الاقتضاب عند البديهة والغزارة يوم الإطالة. فجعل البلاغة في الغزارة كما حملها غيره في الإيجاز.

وقيل لهندي ما البلاغة؟ فقال وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة. وقيل لآخر ما البلاغة؟ فقال تصحيحُ الأقسام واختيارُ الكلام. وقال الحسنُ بن سهل: البلاغة ما فهمتهُ العامة ورضيتهُ الخاصة. وقال عبيد الله بن عتبة: البلاغة دنو المتأخر وقرع الحجة وقليل من كثير. وروي هذا عن أكثم بن صيفي أيضاً. وقال ابن المقفع: البلاغة اسم لمعانٍ تجري في وجوهٍ فمنها ما يكون شعراً ومنها ما يكونُ سجعاً ومنها ما يكونُ خطباً ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون هذه الأحوال فالوحي فيها والإشارة إلى المعنى أبلغُ والإيجازُ البلاغة. وتأويل هذا ما قدمناه. وقال غيره: البلاغة قولٌ يسير يشتمل على معنى خطير. وقال الآخر: البلاغة علمٌ كثير في قول يسير. وقال جعفر بن يحيى: البلاغة أن يكون الاسم محيطاً بمعناك ويجلي على مغزاك ولا تستعين عليه بطول الفكرة ويكون سليماً من التكلف بعيداً من سوء الصنعة بريئاً من التعقد غنياً عن التأمل. وقال أعرابي: البلاغة التقرب من معنى البغية والتبعد من حشو الكلام وقرب المأخذ وإيجازٌ في صوب وقصد إلى الحجة وحسن الاستعارة. وقال محمد بن الحنيفة: والبلاغةُ قولٌ مفقهٌ في لطف. وقال عليٌ رضي الله عنه: البلاغة إيضاحُ الملتبسات وكشف عوار الجهالات بأحسن ما يمكن من العبارات. ومثله قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: البلاغةُ الإفصاحُ عن حكمةٍ مستغلقة وإبانة علم مشكل. ومثله قول محمد بن علي رضي الله عنه: البلاغةُ تيسير عسير الحكمة بأقرب الألفاظ. وقال ابن المقفع: البلاغةُ كشف ما غمض من الحق وتصوير الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. والذي قاله صحيح لا يخفى موقع الصواب فيه على أحد من أهل التمييز وذلك أن الأمر الظاهر الصحيح الثابت المكشوف ينادي على نفسه بالصحة ولا يحوج إلى التكلف لتصحيحه حتى يوجد العي فيه خطيباً وإنما الشأن في تحسين ما ليس بحسنٍ وتصحيح ما ليس بصحيح بضرب من الاحتيال والتخييل ونوع من العلل والمعاريض ليخفى موضع

جمل من بلاغات العجم

الإساءة ويغمض موضع التقصير فيه. وقد فسرت في كتاب صنعة الكلام مواضع الأشكال من هذه الفصول فتركتُ إعادتها ههنا فإذا أردتها فاطلبها في مظانها هناك تطفر ببغيتك منها إن شاء الله تعالى. وقد أحب قومٌ الإيجاز في بعض المواضع منهم جعفر بن يحيى قال لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم مثل التوقيع فافعلوا. وقال بعضهم في المذهب الأول إذا كان الإيجاز كافياً كان التطويلُ عياً وإذا كان التطويلُ واجباً كان التقصيرُ عجزاً. وقيل لأعرابي ما البلاغة؟ فقال الإيجاز من غير عجز والاطناب من غير خطل. فانظر إلى كلام هذا الأعرابي فهو بليغ. ( جمل من بلاغات العجم) العجمُ والعربُ في البلاغة سواءٌ فمن تعلم البلاغةَ بلغةٍ من اللغات ثم انتقل إلى لغةٍ أخرى أمكنه فيها من صنعة الكلام ما أمكنه في الأولى، وكان عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها من اللسان الفارسي فحولها إلى اللسان العربي، ويدلك على هذا أيضاً أن تراجم خُطب الفرس ورسائلهم هي على نمط خطب العرب ورسائلها، وللفرس أمثال مثل أمثال العرب معنى وصنعةً وربما كان اللفظ الفارسي في بعضها أفصح من اللفظ العربي، من ذلك قول العرب (ولدك من دمى عقبيكِ) وقول الفرس (هرك نزاد نرود) واللفظُ الفارسي في هذا أفصح من اللفظ العربي وأحسن، وقولهم (كشند ميد) مثل قول العربي (من يسمع يخل) سواءٌ في المعنى، والفارسي أقل حروفاً، وقولهم (أصيد بركة خورده) وليس للعرب في معنى هذا المثل شئ ومعناه (المأمول

خير من المأكول) ولا يعبر عنه بكلام عربي أقل حروفاً مما ذكرته ومع ذلك فإن حروف تفسيره بالعربية ضعفا حروفه بالفارسية، وقد جاء عن بعضهم في معنى هذا المثل (إنتظار الحاجة خبرٌ لك من قضائها) وقد خالفهم الفرس في مثل واحد وهو قولهم (به شاه اشناه نرود همدوره) العربُ تقول (جاور بحراً أو ملكاً) . وليس قصدنا لهذا المعنى فنطيلُ فيه ولكن لا يراد أمثلة في البلاغة تكون مادة لصانع الكلام: فمن ذلك قول ابرويز: إذا نزل الخمول استكشف النقص، يحثُ على طلب النباهة والتماس جلائل الأمور. وقال بهرام جور: الحاكم ميزان الله في الأرض فوافق الله تعالى في قوله: {والسماء رفعها ووضع الميزان} يعني العدل في الحكم. ونحوه قول علي رضي الله عنه: السفر ميزان القوم. وقول الآخر: العروضُ ميزان الشعر وقال الآخر منهم: أغلق أبواب الشهوات تنفتح لك أبواب المحاسن وقال آخر منهم الصواب قرين التثبت والخطأ شريك العجلة. وقال بزرجمهر: عاملوا أحرار الناس بمحض المودة وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة وسوسو السفلة بالمخافة والهيبة. وقريبٌ من ذلك قول بعضهم: الكريم يلين إذا استعطف واللئيم يقسو إذا ألطف. وقال بعضهم: ينبغي للوالي أن يتفقد أمور رعيته فيسد فاقة أحرارها ويقمع طغيان سفلتها فإنما يصولُ الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. وقال بعض حكماء الفرس: أحزم الملوك من غلب جده هزله وقهر رأيه هواه وعبر عن ضميره فعله ولم يختدعه رضاه عن حظه ولا غضبهُ عن كيده. وقال أنوشروان: القصدُ غاية المنافع، وقال لابنه هرمز لا يكن عندك لعمل البرَ غاية في الكثرة ولا لعمل الإثم غاية في القلة. ووافق هذا من العربي قول الأفوه الأودي: (والخيرُ تزدادُ منهُ ما لقيتَ بهِ ... والشرُ يكفيكَ منهُ قلما زادُ) وقالوا أيضاً: يوم العدل على الظالم أشد من يوم الظلم على المظلوم. وقال ابرويز: لا تغشوا قليلاً فتنغصوا به كثيراً. وقال يوماً لجنده لايشحذ امرؤ

منكم سيفه حتى يشحذ عقله. وأظنُ المتنبي ألم بهذا فقال: (الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ ... هو أولُ وهي المحلُ الثاني) وقال لكاتبه: إذا فكرت فلا تعجل وإذا كتبت فلا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هُجنة في المقالة ولا تلبس كلاماً بكلام ولا تباعدن معنى من معنى واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول. ووافق هذا قول العربي: ما رأيتُ بليغاً إلا رأيتُ له في المعاني إطالةً وفي الألفاظ تقصيراً. يحث على الإيجاز. وقال له إذا أمرت فاحكم وإذا كتبت فأوضح وإذا ملكت فأسجع وإذا سألت فأبلغ، ووافق هذا النمط قول أبي تمام: (يقولُ فيسمع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الآله فيوجعُ) وقال أزدشير بن بابك: من لم يرض بما قسم الله له طالت معتبته وفحش حِرصُه ومن فحش حرصه ذلت نفسه وغلب عليه الحسدُ ومن غلب عليه الحسدُ لم يزل مغموماً فيما لا ينفعه حزنياً على ما لا يناله، وهذا معنى قول الشاعر: (ليس للحاسد إلا ما حسد) وقال: من شغل نفسهُ بالمنى لم يخل قلبه من الأسى. وقال بعضهم: الحقوقُ أربعةٌ حقٌ لله تعالى وقضاؤه الرضا بقضائه والعمل بطاعته وأكرامُ أوليائه، وحق نفسك وقضاؤه تعهدها بما يصلحها ويصحها ويحسم مواد الادواء عنها، وحقُ الناس وقضاؤه عمومهم بالمودة ثم تخصيص كل واحد منهم بالتوقير والفضيل والصلة، وحقُ السلطان وقضاؤه تعريفه ما خفي عليه من منفعة رعية وجهاد عدوٍ وعمارة بلدٍ وسد ثغرٍ. وقال بزرجمهر: لا ينبغي للعاقل أن يجزع من حط السلطان إياه عن منزلة رفع إليها خاملاً فإن الأقدار لم تجر على قدر الأخطار وقال بزرجمهر إلزام الجهول الحجة يسير وإقراره بها عسير. وقال بزرجمهر: ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة من قلوب الخلق.

ومن كلام الفلاسفة

(ومن كلام الفلاسفة) قال ارسطاطا ليس: ليس الحاجة إلى العقل أقبح من الحاجة إلى المال. وقيل له ما أشد الأشياء على الأحمق؟ قال السكوتُ. وقيل له ما أحسن الأشياء؟ قال الانسان المزين بالأدب. وقال: العقل سبب تنغيص العيش. وإلى هذا المذهب ذهب ابنٍ أبي البغل في قوله: (الصَّعْو يصفرُ دائبا ولأجله ... حُبس الهزازُ لأنه يترنّمُ) (لو كنتُ أجهلُ ما علمتُ لسرّني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلمُ) وقال المتنبي: (ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ ... وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ) وقلتُ: (أواصِلُ الهمِّ في ضيقٍ وفي سعةٍ ... كأنّ بيني وبينَ الهمِّ أرحاما) (إن إمرأً عظمتْ في الناس همته ... رأى السرورَ جوىً والوفر إعداما) وقلت: (وأكثرُ حالاتِ الزمانِ يغمني ... وليس لغمَ العارفينَ مفرج) ورؤي الحسنُ البصري حزيناً فقيل له في ذلك فقال: غمى مكتسبٌ من عقلي ولو كنت جاهلاً لكنت في راحة من عيشي وافتخر قومٌ بالمال عند فيثاغورس فقال: وما حاجتي إلى المال الذي يعطيه الحظ ويحفظه اللؤم ويهلكه السخاء وقيل له ما أصعب الأشياء على الانسان؟ قال أن يعرف قدر نفسه ويكتم سره. وقال بعضُ أهل الهند: ليس شئ أعرف بنفسه من الإنسان ولا أجهل بها منه. وقيل لسقراط أي السباع أجمل؟ قال المرأة. ومن التشبيه المصيب قول سقراط لرجل استشاره في التزويج: إن المتزوجين مثل السمك الذي يصاد بالقفاف فما حصل فيها يروم الخروج منها وما كان خارجاً يبغي الدخول فيها. وقيل لرجل منهم ما سبب موت أخيك؟ قال كونه. ومثل ذلك ما أخبرني به عم أبي أبو سعيد الحسن بن سعيد أظنه عن أبيه قال: ورد البريد إلى المأمون من خراسان بموت ابن المؤيد فاستدعاه

وجعل يعظه ويعزيه من غير أن يذكر له المصيبة فقال المؤيد لا عهد لي من أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام فما السبب فيه؟ قال مات ابنك قال عرفتُ ذلك قد يوم ولد. فعجب المأمون من فهمه وقال بمثل هذا قدمتك هذه العصابة وجعلتك قوام دينها ومفزعها فيما ينوبها. وقال بعض حب المال وتدالبلايا. وقال سقراط اللذةُ خناق من عسل. وقيل لجاوس توفي مانيدس فقال الويح لي قد ضاع مسنُ عقلي. وقيل له ما أحلى الأشياء قال الذي تشتهي. وقريب منه قول الأعرابي (وقلة ما قرت به العين صالح) وقال سقراط الحظ في إعطاء مالا ينبغي ومنع ما ينبغي سواء. ومثل ذلك قول طاهر بن الحسين: التبذير للمال ذمة كحب التقتير فاجتنب التقتير وإياك والتبذير. وقريب منه قول العربي وقد قيل له إن فيك إمساكا فقال لا أجمد في حق ولا أزور في باطل. ورأى بعضهم شاباً جاهلاً جالساً على حجر فقال هذا حجر على حجر ونحو هذا قول بعض المحدثين: (ما أن يزالُ ببغدادٍ يزاحمنا ... على البراذينِ أمثالُ البراذين) وقلتُ وقد رأيتُ غلاماً مليحاً طريراً يخدم لئيماً دميماً: (إن كنتَ ترتادُ منظراً عجباً ... فانظر إلى البدر في يدِ القردِ) (وانظر إلى الضب كيف يفترسُ الظبي ... على مرقدٍ من الوردِ) (وذُمَ دهراً يفيضُ أنعمه ... على اللئيم المذممِ الوغدِ) (وانظر إلى حمرة وأنته ... فوقَ مُتونِ السوابحِ الجردِ) (فأسخنَ اللهُ عينهُ زمناً ... ماذا رأى في تجنبِ القصدِ) وقال بعضُ اليونانيين للاسكندر أخلاقك تجعل العدو صديقاً وأحكامك تجعل الصديق عدواً ويشهد عدم مثلك فيما كان بعدم مثلك فيما يكون. وقال بعض حكمائهم لمتكبر: وددت أني مثلك في نفسك وأن أعدائي مثلك في الحقيقة. وقريب من هذا المعنى قول علي رضي الله عنه لبعض أعدائه وقد مدحهُ: أنا دون ما تظهر بلسانك وفوق

ما تضمرُ في جنانك. وقيل لبطليموس ما أحسن أن يصبر الإنسانُ عما يشتهي قال أحسن منه أن لا يشتهي إلا ما ينبغي. وقال أرسطاطاليس: إنك إن لم تصبر على تعب التعليم صبرت على شقاء الجهل ما بقيت يخاطب جاهلاً. (محاسن كلام العرب والأعراب والخطباء والكتاب) قال بعض حكمائهم: الصبرُ يناضل الحدثان. وقال آخر: الحلم فدام السفيه. وقال آخر: خاطر من استغنى برأيه. وقال غيره: الجزع من أعوان الزمان والمودة قرابة مستفادة. وفضل بعضهم المودة والمودة على القرابة فقال: القرابة محتاجةٌ إلى المودةُ مستغنيةٌ عن القرابة. وقال غيره وسوى بين المودة والقرابة: الصاحب مناسبٌ. وقالوا عجبُ المرء بنفسه أحد حساد عقله. ومن موجز الكلام قول بعضهم: من نال استطال والفاحشة كاسمها. وقولهم أصاب متأملٌ أو كاد. وقولهم العفوُ زكاة الجاهِ. وقولهم راحي البخيل مُكد. وقول بعضهم قلما تصدقك الأمنية. وقيل الصيانة مألف المروءة. وقال بعض الحكماء البلاء رديف الرخاء. وقيل خمول الذكر أسنى من الذكر الذميم. وهذا خلاف ما سمعنا سمعت رجلاً يقول لأن أكون رأساً في الضلالة أحب إلي من أن أكون ذنباً في الهداية. وكانت قريش تستحسن من الخاطل الإطالة ومن المخطوب الإيجاز فخطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز ابنة أخيه فتكلم بكلام جاز الحفظ فقال عمر الحمد لله الذي أنطق البلغاء ذي الكبرياء وصلى الله على محمد خير الأنبياء أما بعد فإن الرغبة منك دعتك إلينا والرغبة فيك اجابتك منا وقد أحسن بك ظناً من أودعك كريمته واختارك ولم يختر عليك وقد زوجناك على كتاب الله

فكان هذا من أوجز خطبة وأحسنها للمراد. ومن موجز كلامهم: ليس مع الخلاف ائتلاف. وقولهم رضا الناس غاية لا تبلغ. وقولهم لا ينفعك من جار سوء توق. وقولهم سرك من دمك. وقيل من لم يمت لم يفت. وقولهم عقل الكاتب على قلمه. ومن الصدق الذي لا ارتياب فيه قولهم من جالس عدوه حفظ عليه عيوبه. ومن الموجز المليح ما وري أن بني أمية وفدوا على عبد الملك بن مروان فقال أهل الشام ما عسى أن يقول خطيبهم فقام رجل منهم فقال يا أمير المؤمنين نحن من تعرف وحقنا مالا تنكر وجئناك من بعد ونمت من قرب فمهما تفعل بنا من خير فنحن أهله، فتطاول عبد الملك وقال يا أهل الشام هذا كلام قومي. ومن جيد الاستعارة قول بعضهم: كانوا في ظل رقيق الحواشي فطواه الدهر عنهم. وقيل القلم أنف الضمير والخط لسان اليد. وقال النبي

وسنة نبيه فكان هذا من أوجز خطبة وأحسنها للمراد. ومن موجز كلامهم: ليس مع الخلاف ائتلاف. وقولهم رضا الناس غاية لا تبلغ. وقولهم لا ينفعك من جار سوءٍ توق. وقولهم سرك من دمك. وقيل من لم يمت لم يفت. وقولهم عقل الكاتب على قلمه. ومن الصدق الذي لا ارتياب فيه قولهم من جالس عدوه حفظ عليه عيوبه. ومن الموجز المليح ما وري أن بني أمية وفدوا على عبد الملك بن مروان فقال أهل الشام ما عسى أن يقول خطيبهم فقام رَجُلٌ منهم فقال يا أمير المؤمنين نحن من تعرفُ وحقنا مالا تنكر وجئناك من بعد ونمتُ من قرب فمهما تفعل بنا من خير فنحن أهله، فتطاول عبد الملك وقال يا أهل الشام هذا كلام قومي. ومن جيد الاستعارة قول بعضهم: كانوا في ظل رقيق الحواشي فطواه الدهرُ عنهم. وقيل القلم أنف الضمير والخط لسان اليد. وقال النبي (جَدعَ الحلالُ أنفَ الغيرة) وقالوا الفكرة مُخُ العمل. وقيل الشيبُ خطام المنية. وقالوا المذاكرةُ حياة العلم. وقيل الخمول دفن الحي. وقلت السخاء سلم المجد. وقلت المراء ينقض مرر المودة والتواني يثمر الندامة والكسل ينتج الفقر. وقيل البياض علم الجمال. وقلت الحياء عنوان الكرم. وقلت العتاب مقدمة السخط. وقال ابن المعتز المعروف غلٌّ لا يفكه إلا شكرٌ أو مكافأة، وقلت العين رائد القلب. وقلت الذل رسيل الدين والشكر ضامن المزيد والغنى مظنة البطر. وقال آخر اللحظ طرف الضمير. وقلت الشكر مرتبط النعم. وقال آخر من جرى في عنان أمله عَثر بأجله. وقال الأعمال ثمار النيات. وقيل التواضع سلم السرف. وقلت المال عدو الوفاء. وقيل التجني رسول القطيعة وقال الأحنف الأدب عزوة العز. ومن أصدق كلمة أعرفها قول ابن المعتز: من قوي عقله كثر حلمه وقل غيظه. وقال الفرصةُ سريعةُ الفوت وبطيئة العود. وقال نرقع خرق الدنيا ويتسع ونشعبها وتنصدع ونجمع منها مالا يجتمع.

ووقع جعفر بن يحيى إلى بعض إخوانه: إذا وضح العذر لم يكن لسوء الظن مكان إلا لمن أراد التجني. وقيل للأحنف إن حارثة بن بدر يقع فيك فقال: (عثيثةٌ تقرم جلداً أملساً ... ) وقال بعض الحكماء حصادُ المنى الأسف وعاقبتها الندامة وليس لذي لب بها مستمتعٌ. ومن فصيح أمثال العرب قولهم: الفرار بقرابٍ أكيس. وعزى أعرابيٌّ رجلاً فقال لا أراك الله بعد هذه المصيبة ما ينسيكها. وعزى شبيبُ بن شيبة ذمياً فقال أعطاك الله عن مصيبتك أفضل ما أعطى أهل ملتك. وقال عبد العزيز بن زرارة أول المعرفة الاختبار. وقال رجلٌ للأحنف ممن أنت قال ممن ودني. وقال البلاغةُ البلوغُ عند الكفاية. وقيل للأحنف ما أحسن المجالس قال ما سافر فيه البصرُ واتدع فيه البدن وأمن فيه الثقل وكترت فيه الفائدة. وكتب المهلب إلى عبد الملك حين هزم الأزارقة أما بعد فإنا لقينا المارقة ببلاد الأهواز وكانت في الناس جولة ثم ثاب أهل الدينُ والمروءة ونصرنا اللهُ عليهم فنزل القضاء بأمرٍ جاوزت النعمة فيه الأمل فصاروا درئية رماحنا وضرائب سيوفنا وقتل رئيسهم في جماعة من حماتهم وذوي الثبات منهم وأجلى الباقون ليلاً عن معسكرتهم وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها إن شاء الله تعالى. كتب إلى الحجاج: الحمد لله الكافي بالاسلام ما وراءه الذي لا تنقطع وموادٌ نعمه حتى تنقطع من خلقه مواد الشكر عليها وإنا كنا وعدونا على حاليتن يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم فلم يزل الله تعالى يزيدنا وينقصهم ويمحضنا ويمحقهم حتى بلغ الكتابُ أجلهُ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

أمثلة في البلاغة الكتابية

وكتب ابن المعتز: قد علمتني نبوتك سلوتك وأسلمي اليأس منك إلى الصبر عنك. وقال أعرابي لمعاوية هززت ذوائب الرحال إليك إذ لم أجدُ معولا إلا عليك أمتطى الليل بعد النهار واسم المجاهل بالآثار يقودني نحوك الرجاء وتسوقني إليك البلوي والنفسُ مستبطئة والاجتهاد عاذر وإذ بلغتك فقط. فقال معاوية أحطط رحلك يا أعرابي. وقال سفيان الثوري رأيتُ أعرابياً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول يا رب عندي لك حقوقُ فهبها لي وللناس عندي حقوقٌ فتحملها عني ولي عندهم حقوقٌ فقيضها لي وأنا ضيفك اليوم فاجعل قراي الجنة. وذكر بعضهم رجلاً فقال كان قريب مدى الوثبة لين العطفة يرضيه القليلُ ولا يسخطه الكثير. (أمثلة في البلاغة الكتابية) أولها التحميدُ ومن عادة العارفين أن يبتدئوا في الأمور بالحمد لله رب العالمين يقدمونه أمام طلابها كما بدئ بالنعمة فيها قبل استيجابها. كتب حمد بن مهران: الحمد لله الذي كثرت أياديه عن الإحصاء وجلت نعمه عن الجزاء. وكتب أيضاً: الحمد لله ذي البلاء الجميل والعطاء الجزيل الذي جعل للأمير سنى الرتبة وعز الدعوة ووصل له حسن الولاية بشكر النعمة وقرن لأوليائه قوة الحجة بفضل الإدالة حمداً يؤدي إلى الحق ويقتضيه ويستمد المزيد ويمتريه وإلى الله أرغب في زيادة الأمير والزيادة به وعلى يديه والأيدي الصائلة على عدوه بمنه ولطفه. فأخذ ابن دريد قوله ويستمد المزيد ويمتريه فقال تحرس نعم الله عز وجل عندنا بالحمد عليها ويمتري المزيد منها بالشكر عليها وترغب الأيادي إليه في التوفيق لما يُدني من رضاه ويجير من سخطه إنه سميع الدعاء لطيف لما يشاء. وكتب الصابي: الحمد لله ذي المنن والطول والقوة والحول والغاية والصول رافع الحق ومعليه وقامع الباطل ومرديه ومعز الدين ومديله ومذل الكفر ومذيله المنزل رحمته على من جاهد

في طاعته والمحل عقوبته بمن هاجر بمعصيته المتكفل بتأييد حزبه حتى يظفر وبخذلان حربه حتى يدحر الذي لا يفوته الهارب ولا ينجو منه الموارب ولا يعييه المعضل ولا يعجزه المشكل ولا تبهظه الأشغال ولاتؤوده الأثقال الغني المفتقر إليه القوي المعتمد عليه بالغ أمره بلا مؤازر وممض حكمه بلا مظاهر ذلكم الله ربكم فاعبدوه مخلصين له الدين. وروى النبي & إنه قال لما هزم الأحزاب (الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) وكتبت: الحمد لله الذي وفر على الأنام المحاسن واكتنفها بالميامن وبسط بالخير أيديها وأفاض بالاحسان واديها وعلمها البر بالأبرار والعطف على الأحرار واختيار الخيرة للأخبار فعادت وقد زكت شجرتها وحلت ثمرتها وتثنت أغصانها وتهدلت أفنانها ولانت أعطافها وتناهت ألطافها فكأنما هي أيام أبي تمام التي وصفها فقال: (أيامُنا مصقولةٌ أطرافها ... بك والليالي كلها أسحارُ) بما منح من حسن رأيك أطال الله في كنف السلامة بقاءك وحجب عن عيون الغير نعماءك وخولك من العز وأوفره من الظفر أخضره وأعطاك من النعم أصفاها من الشوائب وأبعدها من ملاحظة النوائب ومنحك من الخير برمته كما قاد إليك الفضل بأزمته ولازال بك الزمان جديد الحلتين مطرز الطرتين متوج المفرق بمآثرك حالي الجيد بمفاخرك ولا سلبك نعمة ألبسك جمالها ولانزع عنك عارفةً وفر عليك كمالها: (رأيتُ جمالَ الدهرِ فيكَ مجدداً ... فكن باقياً حتى ترى الدهرَ فانيا) وكتب بعضهم: الحمد لله الذي استسلمت نهاية الشكر لدون ما ألزم بصنائعه. وكتبت: الحمد لله على ما تطول به من البر وما أوزع على ذلك من الشكر حمداً يتخطى به إلى غاية رضوانه ويستدعي المزيد من جزيل إحسانه. وكتبتُ: الحمد لله الذي قيض لك السبق إلى البر والفوز بالمكرمة البكر

ومن جيد الأدعية

والاستيلاء على قصبات الحمد والشكر. وكتب آخر: الحمد لله الذي جعل من أليابنا بصائر تقدونا إلى معرفته ومعارف ترشدنا إلى الاقرار بربوبيته ليخرجنا من الظلمات إلى النور برحمته. (ومن جيد الأدعية) ما كتب الصاحبُ أبو القسم بن عباد: أسعد الله سيدنا بالفضل الجديد والنيروز الحميد سعادةُ متصلة المادة حافظةً لجميل العادة موذنة بظاهر العز والبسطة وتزايد السرور والغبطة مؤمنه من عوادي الأيام وبوادر الزمان وأراه سادتي الفتيان قد اقتفى كلٌ منهم مجده وحكى في طلب المعالي أباه وجده وجعل سيدنا آخذاً من كل ما دعي به ويدعي به في الأعياد بأجزل الأقسام وأوفر الأعداد. وكتب الصابي إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف: أطال الله بقاء مولاي الأستاذ وأسعده بنيروزه الوارد عليه وأعاده ألف عام إليه وجعله فيه وفي أيامه كلها معافى سالماً فائزاً غانماً مسروراً محبوراً محروساً موفوراً مختوماً له ببلوغ الآمال مطروفاً عليه عين الكمال محظور الافنية عن النوائب محمى الشرائع عن الشوائب مبلغاً غاية ما تسمو إليه همته العالية المشتطة وأمانيه المنفسحة المنبسطة بقدرته. والفصل الأخير من هذا يشير إلى قول ابن المعتز: أصحب الله بقاءك عزاً يبسط يدك لوليك وعلى عدوك وكلاءة تذب عن ودائع مننهِ عندك وزاد في نعمك وإن عظمت وبلغك آمالك وإن بعدت. وكتب بعضهم عش ما شئت كما شئت، وهو من قول أبي نواس: (دارت على فتيةٍ ذلَّ الزمانُ لهم ... فما يصبيهم إلا بما شاؤا) وكتب بعضهم عش أطول الأعمار موقى من سوء الأقدار مرزوقاً نهاية الآمال مغبوطاً على كل حال. وكتب آخر بلغك الله نهاية من العمر لا نهاية لمستزيد وراءها. وقريبٌ منه قول البحتري:

(عمرتَ أبا إسحاقَ ما صَلَحَ العُمرُ ... ولا زال معموراً بأيامِك الدهرُ) وقول الآخر: (فلا زالتِ الأرضُ معمورَةً ... بُعمرك يا خيرَ عُمارها) ومما يجري مع ذلك وليس منه قول أبي تمام: (من يسأل الله أن يُبقى سَراتكمُ ... فإنما رامَ أن يستبقَى الكرما) وقول المتنبي: (أعيذكم من صروف دهركمُ ... فإنهُ بالكرام مُتّهمُ) قلت: (فلا زالت الأقدارُ دونَ محلكم ... سواقطَ والمكروهُ عنكم مقصِّرا) وقال بعضهم: جعلك الله من كل محبوب على شرف ومن كل محذور في كنف. وكتب آخر، لا زالت الأيام لك مساعدة والليالي على هواك مساعفة تتلقاك بأوفر الحبور وتطلع عليك بعوائد السرور وتجري مقاديرها لك بالمحبوب وتتقاعس عنك بالمحذور المرهوب ويحكم لك بالرشد والسعادة ويقضي على أعدائك بالذل والقماءة وكتب ابن المعتز أخرتني العلة عن الوزير أيده الله فحضرت بالدعاء في كتابي لينوب عني ويعمرَ ما أخلته العوائق مني أسأل الله أن يجعل هذا العيد أعظم الأعياد السالفة بركة عليه ودون الأعياد المستقبلة فيما يجب ويجب له ويتقبل ما نتوسل به إلى مرضاته ويضاعف الإحسان إليه على الإحسان منه ويمتعه بصبحة النعمة ولباس العافية ولا يريه في مسرةٍ نقيصةً ولا يقطع عنه فيها عادة جميلة. وهذا مأخوذٌ من قول سعيد بن حميد: تابع الله لك صالح الأيام ومحمود الأعوام حتى يكون كل يوم منها موفياً على ما قبله مقصعاُ عما بعده. وكتب ابن المعتز: حفظ الله النعمة عليك وفيك وولي إصلاحك والاصلاح لك وأجزل من الخير حظك والحظ منك ومن عليك وعلينا بك. وكتب إلى عليل: مسحك الله بيد العافية ووجه إليك وافد السلامة وملاك

المديح

ما أفادك وهناك ما قسم لك وأمتع بك وليك وألان لك طاعة عدوك وجمل الدولة ببقائك وزينها بدوام نعمائك. وكتب الصاحب أبو القسم: والله يديم لمولانا ولي النعم التمكين والبسطة والعلوَ والقدرة والعز والنصرة ولا يسلب القلوب ما أودعها من محبة دولته ولا يعدم الصدور ما ضمنها من خشية صولته ليزداد أولياؤه بصيرة في مناصحته ويضطر أعداؤه إلى استعطافه واستقالته إنه قدير على ما يشاء وإليه أرغب في زيادة مولانا من فضله وصلة المناجح بسعيه وعزمه وتعريفة الميامن في ارتحاله وحله وتوفيقه لما يحفظ رأي ولي نعمته ويستديم المقسوم له من محمدته. وكتب أبو الحسن بن أبي البغل إلى علي بن عيسى: وهنأ الله الوزير ما أتاه وجعله أيمن أمر من أمور الدين والدنيا بداءاً وفاتحةً وأسلمه مالاً وعاقبةً وأطوله أمداً ومدةً وأدومه انتظاماً واستقامةً وأوفره كفاية لله وجميل ولايته وصادق معونته حظاً وسهمةً ويسر لديه العسير وقرب على يده البعيد والشطير إنه على كل شئ قدير. وقال أعرابي لرجل النعم ثلاثٌ نعمةٌ في حال كونها ونعمةٌ ترجى مُستقبلة ونعمةٌ تأتى غير محتسبة فأدام الله لك ما أنت فيه وحقق ظنك قيما ترتجيه وتفضل عليك بما لم تحتسبه. (المديح) قد صدرت الكتاب بذكر المديح على مذهب الشعراء وأنا أورده هنا صدراً على مذهب الكتاب ليشتمل الكتاب به على الكمال إن شاء الله تعالى. ذكر رجل لبعض البلغاء فقال: هو أحلى من رخص السعر وأمن السبل وإدراك الأماني وبلوغ الآمال. وكتب بعضُ الكتاب: وجرى لك من ذكر ما خصك الله به وأفردك بفضيلته من شرف النفس والقدر وعلو المنزلة والذكر وبعد الهمة ومضاء العزيمة وكمال الأداة والآلة والتمهد في السياسة والأيالة وحياطة

الدين والأدب وإيجاب عظيم الحق بضعيف السبب مالا يزال يجري مثله عند كل ذكر يتجدد لك وحديث يؤثر عنك. وكتبت: من حل محل سيدنا في شرف المنصب وطهارة العنصر وزكاء الأصل ونماءٍ الفرع وستي الحسب وسري النسب مع الشيم الطاهرة والمكارم المتظاهرة كثرت الرغبة إليه وخيمت الآمال بين يديه وهو حقيقٌ بتصديقها فيه وتحقيقها عند مؤمليه لكرمه في نفسه وتميزه من جنسه. وقال بعضهم لرجل: رحم الله أباك فإنه كان يقري العين جمالاً والأذن بياناً. ومما يجري مع ذلك أن بعضَ الملوك رأى رجلاً قبيح المنظر عي اللسان فأمر بإسقاطه وقال إن روح الحياة وهي الإنسانية إذا كان ظاهراً كان جمالاً وإذا كان باطناً كان بياتا فمن خلا من الجمال والبيان فليس بإنسان. وكتب الصاحب: وليس ببدع أن يجود كلامه وتعتدل أقسامه ويتهذب بيانه ويتسع جنانه وقد راض العلوم حتى أعطته زمامها ومارس الآداب حتى ملكته خطامها فإن عُد الفقه كان البازل الذي ذلل الفحولَ مصاولة وإن ذكر الكلام كان الجبل الذي فرع الأطواد مطاولة وإن تصرف في أيام الناس وأخبارهم وفحص عن سيرهم وآثارهم حاضر محاضرة الأفراد وكاثر مكاثرة الآحاد وإن جوري في سوائر الأمثال وفقر الأشعار ترك المجاري لا يدري أي طريق يركب وأي مذهب يذهب وأما الخطابة فهو جذيلها المككك وعذيقها المرجب وقد سُلمت إليه مذهب يذهب وأما الخطابة فهو جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وقد سلمت إليه إختياراً من مواليه واضطراراً من معاديه. وقال رجلٌ لخالد القسري إنك لتبذل ما جل وتجبر ما اعتل وتكثر ما قل. وكتب إبراهيم بن العباس: وإن أمير المؤمنين لو استغنى بنظر ناظرٍ من ولاته واجتهاد مجتهد من كفاته الذين لهم الأثرة عنده والموضع الأخص عن الاستظهار عليه بنظره وعنايته واهتمامه كنت أولى من خفف بمكانه عن نفسه واقتصر على عنايته وتدبيره دون إرشاده وتسديده فالله يعزهُ ويزيد في تأييده.

فأما الذم والتهجين

3 - (فأما الذم والتهجين) فمن بديع الاستعارة فيه قول أعرابي يذم رجلاً: يقطع نهاره بالمنى ويتوسد ذراع الهم إذا أمسى. ودخل أعرابي بغداد فقال فإذا ثياب أحرار على أجساد عبيد إقبال حظهم إدبار حظ الكرم شجر فروعه عند أصوله شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر. وقال بعضهم لرجل استضاف بخيلاً: نزلتَ بوادٍ غير ممطور ورجل غير مسرور فأقم بندمٍ وارحل بعدمٍ. وقال أعرابي: أولئك قومٌ سلخت أقفاؤهم بالهجاء ودبغت جلودهم باللؤم فلباسهم في الدنيا الملامة وزادهم في الآخرة الندامة. وقال أعرابي لا تدنس شعرك بعرض فلان فإنه سمينُ المال مهزول المعروف من المرزوقين فجأة قصير عمر الغنى طويل حياة الفقر، ومن ههنا أخذ أبو نواس قوله: (بما أهجوكَ لا أدري ... لساني فيكَ لا يجري) (إذا فكّرت في عرضك ... أشفقتُ على شعري) واستشارت امرأةٌ امرأةً في رجل تزوجه فقالت لا تفعلي فإنه وكلةٌ تكلة يأكل خلله. وكلة وتكلة بمعنى واحدٍ وهو الذي يتكل في الأمور على غيره ولا يقومُ فيها بنفسه والتاء في تكلة واوكما قيل تراثٌ وهو من ورث، والخلل ما يخرج من بين الأسنان عند التخلل وليس في اللؤم شئ من الكلام أبلغ من هذا. وقريبٌ منه قولهم فلان يثير الكلاب عن مرابضها، يريدون أنه من طعمه وشرهه يثيرها يطلب تحتها شيئاً قد فضل منها، ومن ذلك قول الشاعر: (أمن بيتِ الكلابِ طلبتَ عظماً ... لقد حدثتَ نفسك بالمحال) 3 - (في الشكر) وكتب ابنُ المعتز في الشكر: قد جلت نعمتك عن شكري فتولى الله مكافأتك

عن عجزي بعد جهدي بما هو أرفع له وأقدر عليه بمنه ورأفته، وهذا من قول طريح بن إسماعيل (فقصرت مغلوباً وإني لشاكرُ) وكتب آخر: إذا كان مجهودي في شكر النعمة واعترافي بحق العارفة يبلغني أقصى نهاية الشاكرين وأبعد غاية المعترفين وكانت زيادة معروفك على قدر شكري كزيادة قيمتك في نفسي فقد أسقط الله تكلف ما جاوز الطاقة عني. وكتب بعضهم: قلبي نجي ذكرك ولساني خادم شكرك. ومما يجري مع ذلك ما كتب بعضهم: أما بعد فإن أثقل الناس حملاً من تحمل آمال المؤملين وأولاهم بالمكافأة من أخدمك عِرضه فتذلل لك ونفسه فتواضع دونك وقلبه فكان في رجائك وتأمليك ولسانه فكان في ذكر محاسنك ونشر مناقبك. وقريب من هذا المعنى قول ابن الرومي: (إنَ امرأً رفضَ المكاسبَ واغتدى ... يتعلم الأدابَ حتى أحكما) (فكسا وحلّى كلَّ أروع ماجدٍ ... من حرَ ما حاك الضميرُ ونظّما) (مُتشاغلاً عما يُمارس غيره ... حتى لقد أثري اللئامُ وأعدما) (ثقةً برعي الأكرمينَ ذمامهُ ... لأحقُ ملتمسٍ بأن لايحرما) وكتبت: وتأملت التوقيع في معنى المعيشة فتصور لي الغنى بصورته وقابلني بصدق مخيلته وعرفت أن الدهر قد غضت جفونه ونامت عيونه وتنحت عن ساحتي خطوبه وهذه نعم أعيا بذكرها فكيف أطمع في أداء شكرها بل عسى أن يكون الاعتراف بقصور الشكر عنها شكراً لها ومقابلة بما خلص إلي منها وأنا معترف بذلك اعتراف الروض بحقوق الأنواء وقائل به كما أقول بفضل الوفاء. وقال ابن المقفع: الشكرُ نسيمُ النعمة. وقال علي بن عبيدة: النعمة كالروضة والشكر كالزهرة. وكتب ابن المعتز في معنى آخر: سألت عن خبري وأنا في عافية لا عيب فيها إلا فقدك ونعمة لا مزيد فيها إلا بك. وكتب أبو العباس بن ثوابة: وأنا أسأل الله إذا من بنعمةٍ أن يجعلك المقدم فيها وإذا امتحن بمنحة أن يجعلني وقاءً لك منها. وكتب في فصلٍ: وإذا ضاق على أن أفعل فليس

يضيق عليك أن تتفضل إذا كان كل واحد منا يجري إلى غاية في البر والعقوق. وكتب أبو علي الضرير: تجاوز بي ذكر فضلك ووصف محاسنك والاخبار بما وهب الله للامام والأمة فيك إلى القول بحاجتي قبلك ليس لأني جهلتُ الحق علي لك ولا لأني أدخرت الثناء الجميل لغيرك ولكني رأيتني فيما أتعاطى منه كالمخبر عن ضوء النهار الباهر الذي لا يخفى على ناظر وكالمنبه على الأمر الواضح الذي يستوي فيه العالم والجاهل فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ووكلت الاخبار عنك إلى علم الناس بك. قد انتهى بنا القول في هذا الباب إلى هنا لعلمنا انا إن أردنا استيعابهُ لم نقدر عليه لكثرته ونرجو أن يقع الاكتفاء به إن شاء الله تعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله وحده. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي دل على قدرته وأبان عن حكمته باختلاف ما خلق من الصور وتباين ما أنشأ من الفطر من ملكٍ وإنسان وبهيمةٍ وجان وطائر يمسح صفحات التراب ويأخذ بإهاب السحاب وحنش ينطوي على أدراجه ويستوي مرة في أعواجاجه إلى غير ذلك من خلقٍ مختلفة وأجرام متباينة حقيرها جليلٌ وصغيرها كبيرٌ وجعل منافعها متاعاً للإنسان الذي كرمه تكريماً وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً.

هذا كتاب المبالغة

ِ (هذا كتاب المبالغة) في صفات الخيل والإبل والسير والفلوات وذكر الوحوش والطيور والحشرات وما يجري مع ذلك وهو: (الباب العاشر من كتاب ديوان المعاني وهو ستة فصول) 3 - (الفصل الأول) في صفات الخيل قد وصفها الناس في قديم الدهر وحديثه وصفاً كثيراً واتسع فيها قولهم إتساعاً شديداً وأنا أجئ بالبديع الغريب من ذلك وأضرب عن غيره لكثرته وإستفاضته ولا حاجة بالناس إلى أن نورد عليهم ما عرفوه ووقفوا عليه وتداولوه إلا مالا بُد من إيراده لفقد شبيهه وعدم نظيره: فمن بديع ما جاء عن القدماء في صفة الفرس قول أبي دؤاد: (يحمل منه بعضه بعضه ... فراكبٌ منهُ مركوبُ) وقول الأعرابي: (وأحمرُ كالدبياج أما سماؤهُ ... فَرَيا وأما أرضهُ فمحُولُ) سماؤه: أعاليه، وأرضه: أسافله: يعني حوافره. ومن أجود ما قيل في تأنيف أذن الفرس ما أنشده القتبي (كأن آذانها أطراف أقلام) وأحسن ما قيل في اصطفاف الخيل قول الأسعر: (يخرجنَ من خللِ الغبارِ عوابساً ... كأناملِ المقرورِ أقعى فاصطلى)

أي كلهن يبادرُ الغارة فليس يفوت بعضها بعضاً: أخذه علي بن جبلة فقال رحمه الله: (كأنَ خيلكَ في أثناءِ غمرتها ... أرسالُ قطرٍ تهامَى فوق أرسالِ) (يخرجنَ من غمراتِ النقع سامية ... نشر الأناملِ من ذي القرةِ الصالي) والأول أجود. ومثل ذلك قول الراجز (مستويات كضلوع الجنب ... ) وفي وصف وقع قوائمها قول مالك بن حريم الهمداني: (وتَهدي بي الخيل المغيرةَ نَهدة ... إذا صبرت صابت قوائمها معا) ومن أحسن الاستعارة قوله: (وإن عثرت إحدى يديهِ بثبْرة ... تجاوبَ أثناء الثلاث بدعدَعا) وكان الأحسن أن لا يصفها بالعثار إلا أن قوله (تجاوب أثناء الثلاث بدعدها ... ) مستعار حسن يعفى على إساءته في وصفه إياه بالعثار، ودعدع مثل قولهم (لعاً) وهو دعاء للعاثر بالحياة. وأهدى بعضهم شهرياً وكتب: بعثتُ بشهري حسن المجموع لين الموضوع وطئ المرفوع همه أمامه وسوطه لجامه. وقد أحسن ابن المعتز في وقوله: (وخيل طواها القودُ حتى كأنّها ... أنابيبُ سمرِ من قنا الخط زبِّل) (صببنا عليهم ظالمينَ سياطَنا ... فطارت بها أيدٍ سِراعٍ وأرجُلُ) فذكر أنهم ضربوها من غير أن تمنع شيئاً من مطلوب سيرها فكانوا ظالمين لها. وقد أجاد في قوله أيضاً (أضيع شئ سوطه إذ تركبه ... ) وقالوا أحسن بيت قالته العرب قول جرير: (وطوى الطرادُ مع القيادِ بطونها ... على التجارِ بحضرموتَ بُرُودا) وقد أحسن الأعرابي القول في سرعة الفرس حيث يقول (غايةُ مجدٍ رُفعت فمن لها ... نحن حويناها وكنا أهلها) (لو ترسلُ الريح لجئنا قبلها ... )

إناث الخيل بأعجب وصف في قوله (ظهورها حرز وبطونها كنز) وقال الأسعر الجعفي في معنى قول النبي

وقول الآخر: (جاءَ كمثلِ البرقِ جاشَ ماطرُه ... يسبحُ أولاهُ ويطفو آخره) (فما يَمس الأرضَ منهُ حافرهُ ... ) وهذا غاية في وصف سرعة العدو إلا أن قوله (يسبح أولاه ويطفو آخره ... ) ردئ لأنه جعله مضطرب المقاديم والمآخير. وقول عبيدة بن الطيب في الثور: (يخفي الترابَ بأظلافٍ ثمانيةٍ ... في أربع مَسَّهنَّ الأرض تحليلُ) يقول ان مواصلة هذا الثور بين خطواته كمواصلة الحالف يمينه بالتحلة لا تراخي بينهما، والتحلة قول إن شاء الله. ومن عجيب القول في سرعة الفرس قول ابن المعتز: (كأنّ جنانَ الفلاةِ تضربه ... كأنّ ما يَهربُ منهُ يطلبه) وقد أجاد القائل في صفة كلاب (كأنما يرفعن مالا يُوضع ... ) ومن عجيب ما قيل في إدامة الجري قول العربُ يباري عنانه ظله ويباري شباة الرمح. ويستحب في الفرس إشراف مقدمه ومؤخره فمن أجود ما قيل في ذلك قول علي بن جبلة: (تحسبهُ أقعدَ في استقبالهِ ... حتى إذا استدبرتهُ قلتَ أكبّ) وقد أجاد المتنبي هذا المعنى في قوله: (إن أدبرتْ قلتَ لا تليلَ لهاِ ... أو أقبلت قلتَ مالها كفلُ) وقلت: (طِرف إذا استقبلته قلتَ حبا ... حتى إذا إستدبرته قلت كبا) (ذو أربع يلقى الصفا بمثلها ... وللحصى من خلفها وثب دبا) (إذا ترامينَ به في سيرهِِ ... تحسبهُ منها على أنف الصبا) ووصف النبي إناث الخيل بأعجب وصف في قوله (ظهورها حرز وبطونها كنز) وقال الأسعر الجعفي في معنى قول النبي ظهورها حرز: (ولقد علمتُ على توقّيَّ الردَى ... أن الحصونَ الخيل لا مَدَر القرى)

ومن أجود ما وصف به حضر الفرس قول الأعرابي في فرسه (يحضر ما وجد أرضاً) وقد بالغ امرؤ القيس في قوله: (على هيكل يعطيك قبلَ سُؤِاله ... أفانينَ جرى غير كز ولا وان) وقوله (قبل سؤاله) عجيب الموقع، وقوله (أفانين جري) أعجب وأبلغ. وأجود ما وصف به ظفره عند الطلب قوله: (وقد أغتدي والطيرُ في وكناتها ... بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ) فجعل الأوابد وهي الوحش مقيدة له ينالها كيف يريد. وقد أجاد أيضاً وأحسن القول في اليقين بالظفر حيث يقول: (إذا ما ولدنا قالَ ولدانُ أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطبُ) وأحسن عمارة التقسيم في قوله في هذا المعنى: (وأرى الوحشَ في يميني إذا ما ... كانَ يوماً عنانهُ في شمالي) ونقله الشماخ بن ضرار إلى وصف رام فأحسن حيث يقول: (قليلُ التلاد غير قوسٍ وأسهم ... كأنَّ الذي يرمي من الوحش تارز) أي جامدٌ باردٌ يصيبه كيف يريد. وجعله أبو نواس في نعت كلاب فقال: (بأكلبٍ تمرحُ في قداتها ... تَعُدُّ عيرَ الوحشِ في أقواتها) وهو من قول أبي النجم (تعد غابات اللوى من مالها) وقوله: (يردى على حوافرٍ لا تخذلُه ... صم الشوَى يحملها وتحمله) (حافٍ وما يحفى وما تنعلهُ ... ثار عجاج مستطيل قسطله) (تنقش منه الخيل مالا تعزله ... في جنبه الطائر ديث عجله) (كأنَّ تربَ القاع وهو يسحله ... ضيقُ شياطين زفتهُ شمأله)

(أو خلقٌ ينشقُّ عنه سمله ... ترى الغلامَ ساجياً لا يركله) (يعطيهِ ما شاء وليس يسأله ... فوافت الخيل ونحن نشكله) ويستحب في الخيل سعة المنخرين فمن أبلغ ما قيل في ذلك قول مزاحم بن طفيل العقيلي (منخرٍ كوجار الثعلب الخرب ... ) فجعله خرباً ليكون أوسع. وقال العباس بن مرداس: (مِلء الحزامين ملء العين ... ينفشُ عندَ الربو منخرين) (كنفش كيرين بكفي قين ... ) ومن أبلغ ما قيل في طول عنق الفرس قول مزاحم العقيلي أيضاً كأن هاديه جذعٌ على شرفٍ فلم يرض أن جعلها جذعا حتى جعلها على شرف كصنيع الخنساء في قولها (كأنه علمٌ في رأسه نار ... ) وقلت: (بمعقودِ السراة على اندماج ... ومزرورِ القميصِ على انشمارِ) (يُريكَ جبينهُ لمعانَ برقٍ ... وسائر جسمه لمعان قار) (فيشبه تحتَ جُنح الليلِ ليلاً ... ويحكي الخالَ في خدِّ النهارِ) (ويقبلُ حينَ يُقبلُ في سموّ ... ويُدبِرُ حينَ يُدْبرُ في انحدار) (ويُمسك وهو كالغدن المعلى ... ويحضرُ وهو كالمسد المغار) (يلوحُ البدرُ منهُ في جبينٍ ... وتتضحُ الثريا في عذارِ) وقد أبدع القائل في وصف فرس أبلق أغر فقال: (وكأنما لطمَ الصباحُ جبينه ... فاقتصى منه فخاضَ في أحشائه) إلا أنه أساء في العبارة وذلك أن اللطم لا يكون إلا على الخد وضرب الجبين لا يسمى لطماً والقصاص يكون بمثل الفعل فالقصاص باللطم اللطم لا الخوض في الأحشاء. وقال ابن دريد وأحسن في وصف الغرة والتحجيل: (كأنما الجوْزَاءُ في أرْساغِهِ ... والنجمُ في جبهتهِ إذا بدا) ونحوه قول كشاجم

(قد راحَ تحت الصبح ليلٌ مُظلم ... لو راحَ في السرج المحلى الأدهم) (ضحك اللجينُ على سوادِ أديمه ... وكذا الظلام تنير فيه الأنجمُ) (فكأنهُ ببناتِ نعش مُلبَّبٌ ... وكأنما هو بالثريا مُلجَمُ) وقلت: (عارضتُ فيهِ النجمُ فوقَ مُطهم ... يهوى لطيئه هُوِيَّ الأعقب) (ذاوي العسيبِ قصيره ضافي السبيب ... طويلهُ صافي الأديم محبب) (كالنورِ بينَ العشبِ يبهرُ حسنهُ ... بين الجيادِ إذا بدا في موكب) (وتطيرُ أربعهُ بهِ في أبطح ... فكأنه من طولها في مرقبِ) (صمّ الحوافرِ شرب صمّ الصفا ... منها الأهلةُ في الصفا والصلبِ) (وكأنَ غرتهُ نفضضُ وجهه ... والنقعُ يذهبهُ وإن لم يُذْهب) (وكأنَّ في أكفالهِ وتليلهِ ... غسقَ النجومِ فتستطيلُ وترتبي) (وكأنما الأرساغُ ماءٌ لم يسل ... والجسمُ كأسُ مدامة لم يقطب) (لم يطلبُ إلا يفوتُ ويُطلب ... إلا يفوزُ فلم يخب في مطلب) (والعاصفات حسيرةٌ والبارقات ... أسيرةٌ في شدةِ المتلهب) (وكأنما يجري مدارُ حزامهِ ... أحناءَ بيتٍ بالعراءِ مطنبِ) وأول من شبه الحافر بالحجارة الأفوه في قوله (يرمي الجلاميد بأمثالها ... ) ثم قال رؤبة (يرمي الجلاميد بجلمودِ مدق ... ) وأبلغ ما وصف به شدةُ قوائم الفرس ما أنشدناه أبو أحمد عن ابن دريد عن الاشنانداني عن الجرمي: (سيانَ تحت طموه وطمورهِ ... أكمُ الفلا ومقايلُ الولدانِ) (يطأ الخَبَار فلا يطيرُ غبارهُ ... ويرضُّ حافرهُ حصى الحزّان) يقول سواء عنده إذا طما في سيره أي إرتفع وإذا طمر أي وثب، والأكم وهي المرتفعات من الأرض فيها حجارة وطين والمقابل وهي ملاعب الصبيان إذا لعبوا بالتراب فمدُوا منه طريقين بينهما كالجدول ثم خبؤا خبيئاً فمن أخرجه فقد غلب، والخبار الأرض السهلة، إذا مشى فيه خفف وطأه فلم يثر غباراً وإذا

جرى في الحزان وهي الغليظ من الأرض مكن حافره فرض الحصى. ونحوه قول جرير (ضرم الرقاق مناقل الأجرال ... ) يقول إذا صار في الرقاق من) الأرض اضطرام من جريه وإذا صار في الأجرال وهي مواضع الحجارة ناقل فيها لتطمئن مواقع حوافره. وقول الآخر (شادخة تشدخ من أدلاها ... ) يقول تبعد عن الطريق ولا تبالي سهلاً أخذت أم حزناً. ومن الفرد الذي لا شبيه له قول ابن المعتز: (ولقد غدوتُ على طمرّ قادحٍ ... رفعت قوائمهُ غمامة قسطلِ) (ومُحجَّلٍ غر اليمين كأنه ... متبخترٌ يمشي بِكُمٍّ مُسَبلِ) وقد أحسن القائل في قوله: (مدى خطوهِ أقصى مواقعِ طرفهِ ... وأوَّلُهُ في منعه الخطو آخرهُ) (وقد قطعت من لونها الشمسُ غُرَّةً ... لهُ وحجولاً ثم كالظلِّ سائرهُ) وقال ابن المعتز: (تمّت لهُ غُرَّةٌ كالشمسِ مشرقةٌ ... يكادُ سائُلها عن وجههِ يكفُ) (إذا تقرَّطَ يوماً بالعذار غدا ... كأنه غادةٌ في أذنها شَنَف) وقلت: (إذا تحلّى بالعذارِ ومشى ... قلتَ فتاةٌ تتصدّى لفتى) (كأنه تحت الحليِّ روضةٌ ... دَرَّ عليها الزهرُ أخلافَ الحيا) وأبلغ ما قيل في طول الفرس في الهواء قول أبي دؤاد: (إذا ما جرى شأوينِ وابتلَّ عطفهُ ... أناخ بهاد مثل جذع سَحُوقِ) (كأني إذا عاليتُ حوزةَ متنهِ ... تعلق بزي عندَ بيضِ أنوق) وبيض الأنوق في أعلى موضع من الجبل، فلا ترى أشد مبالغة من هذا البيت. وقلت: (مضطرمُ الغدوِّ والرواحِ ... تخاله يمشي على أرماحِ) وأخبرنا أبو القسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال أهدى رجل من الدهاقين إلى خالد بن عبد الله القسري برذوناً وقعد بين يديه فقال ما هذا؟

فقال أصلحك الله إن تركته نعس وإن حركته طار , فقالِ صفته خير منه وقال ابن المعتز: (أسرع من لحظته إذا عدا ... أطوعُ من عِنانهِ إذا جُذبِ) ويشبه الفرس في عدوه بالنار فأجمع ما جاء فيه قول ابن المعتز: (ربما أغدو وتحتي طرفُ ... لاحقٌ بالمهاديات طِمْر) (طُويَ الشحمُ على متنتيه ... مثل ما يطوي القباطي تجر) (فهو نارٌ والترابُ دخانٌ ... مستطيرٌ وحصى الأرض جمرُ) وقال: (وكم غدوت بفتيانٍ تسيل بهم ... سوابقٌ أحكمتهنَّ المضاميرُ) (مكنفاتٍ بآذانٍ نواصيها ... كما يشقُ عن الطلع الكوافير) (تنزو كراتهمُ في كل مُعترك ... كما يطيرُ من الذعرِ العصافير) قوله (تسيل بهم سوابق) من أجود ما وصف به الجري السهل. ويستحب في الفرس من الشدق وهو سعة الشدقين فمن المذكور في ذلك قول بعض العرب (وان يُلق كلبٌ بين لحييه يذهب) ومن مليح ما قيل فيه قول ابن المعتز: (ناظر في غرة ... شمها واسترطا) (وإذا سار رمى ... يدَه والتقطا) (وكأن ملجمه ... يفتحان سفطا) وقال: (وغدونا بأعنة خيل ... تأخذُ الأرض بأيدي عجالِ) (زينتها غررٌ ضاحكاتٌ ... كبدورٍ في وجوهِ الليالي) ومن غريب التشبيه تشبيههن قوائم الفرس المحجلة عند السير بجراء كلاب بيض، قال الراجز: (كأن اجراء كلابٍ بيض ... دون صافيه إلى التعريضِ) وقال العماني الراجز:

(كأن تحت البطنِ منه أكلُباً ... بيضاً صغاراً ينتهشْنَ المنقبا) وتبعه الحماني فقال: (وليلٍ مثل خافية الغرابِ ... عي مذاهب وخفي بابِ) (دلفتُ لهُ بأسودَ مستمر ... كما نظرَ الغضابُ إلى الغضاب) (أجشُّ كأنما قابلتُ منهُ ... تبعقَ لُجّةٍ وحريقَ غابِ) (تراهُ كأن عينك لا تراه ... إذا وصل والوثاب إلى والوثاب) (كأن لدى مغابنهِ التماعا ... نهادش عنده بُقعُ الكلابِ) وليس نظم هذا البيت بمختار، وذكر قوائمه ثم قال: (يخالس بينها رفعاً ووضعاً ... كما خفقت بنانُك بالحسابِ) ومن أحسن ما قيل في الحصى الذي يترامى بسنبك الفرس إذا جرى قول امرئ القيس: (كأنّ الحصى من خلفِها وأمامِها ... إذا نجلته رجلها حَذفُ أعسرا) وجعله أعسر لذهابه على غير إستواء، أحذه ابن المعتز فقال وغير لفظه وأتى بمعناه: (يقذفُ بالرجلُ حصى الطريقِ ... كأنهُ رامٍ بلا تحقيقِ) وقال: (ينفي خفاف الحصى والنقعُ منتشرٌ ... كأنها خلفَ رجليه الزنابير) وقد أجاد الكميت في قوله: (كأن حصى المعزاءِ بينَ فروجِها ... نوى الرضخِ يلقى المصعد المتصوّب) فجعلها لكثرتها تتلاقى في الهواء وزاد في ذلك على الممزق ومنه أخذه وهو قوله: (كأن حصى المعزاءِ بينَ فروجها ... نوادي نوىً رضاخة لم تدققِ) وقد أجاد الراجز في قوله (يرضخ ما يرضخ مالا يرضخ ... ) يقول إذا وطأ الحصى نبت من تحت سنبكه فأصاب ما لم يطأه فدفعه من موضعه وكأن رضخه أي رمحه والرضخ الرمح. ويشبه الحافر بالقعب فمن قديم الشعر في ذلك قول امرئ القيس (لها حافر مثل قعب الوليد ... ) أخذه ابن المعتز فقال:

(قد اغتدى بقارح ... مُسوَّم يَعبوبِ) (ينفي الحصى بحافرٍ ... كالقَدَح المكبوبِ) (قد ضحكت غرتهُ ... عن موضع التقطيبِ) وقد أحسن أبو تمام في وقوله: (بحوافرٍ حُفرٍ وصُلبِ صلِبٍ ... وأشاعرٍ شعرٍ وحلق أحلق) فجعل البيت كله تجنسيا ولعله ما سبق إلى ذلك. وقد عاب الآمدي قوله (وصلب صلب) وقوله (وحوافر حفرٍ) وقال إن الحوافر لا تحفر الأرض وأكثر ما ذكر في ذلك أنها تثير الغبار قال وهو استقصاء المعنى، قلنا وبعضهم يستحسن ذلك وبعضهم يكرهه. ومن المذكور في صفة الفرس قول البحتري وهو أوصف المحدثين للخيل وأكثرهم إجادة في نعتها: (أما الجوادُ فقد بلونا يومهُ ... وكفى بيومٍ مُخبراً عن عامِهِ) (جارى الجيادَ فطارَ عن أوهامها ... سبقاً وكاد يطيرُ عن أوهامهِ) (جذلانُ تلطمُهُ جوانبُ غُرّةٍ ... جاءت مجئ البدرِ حين تمامِهِ) (واسودَّ ثم صَفَتْ لعينَيْ ناظرٍ ... جنباتهُ فأضاء في إظلامهِ) (مالت نواحي عُرفه فكأنها ... عذباتُ أثلٍ مالَ تحت حمامه) (ومقدّمِ الأذنين تحسِبُ أنّه ... بهما يرى الشخصَ الذي لأمامهِ) (وكأن فارسَه وراء قَذَالهِ ... ردفٌ فلستَ تراه من قُدَّامهِ) (لانَتْ معاطفُه فخُيِّلَ أنّه ... للخيزرانِ مناسبٌ بعظامهِ) (وكأنّ صهلَتَهُ إذا استُعْلي بها ... رعدٌ يقيقع في ازدحام غَمامه) (مثلَ الغرابِ بدا يباري صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه) (والظرف أجلبُ زائر لمؤونة ... مالم بزره بسرجِهِ ولجامهِ) وقوله أيضاً: (وأغرَّ في الزمن البهيمِ مُحجَّلٍ ... قد رُحُت منهُ على أغرّ مُحجل)

(كالهيكلِ المبنيِّ إلا أنّهُ ... في الحسنِ جاءَ كصُورةٍ في هِيْكَلِ) (ذَنبٌ كما سحبَ الرداء يذبُ عن ... عرف وعرفٌ كالقناع المسبلِ) (جذلانُ ينفضُ عُذرةً في غرةٍ ... يققٍ تسيلُ حُجولُها في جَنْدلَ) (تتوهمُ الجوزاءُ في أرساغهِ ... والبدرُ غرةُ وجههِ المتهللِ) (وتراهُ يسطعُ في الغبار لهيبهُ ... لوناً وشداً كالحريقِ المشعلِ) (هزيج الصهيلَ كأنَّ في نَغَماتِهِ ... نَبَراتُ معبدَ في الثقيلِ الأوّل) (مَلَكَ العُيون فإنْ بدا أعطينهَ ... نظرَ المحبِّ إلى الحبيبِ المقبلِ) وقد أحسن ابن طباطبا في قوله: (عجباً لشمسٍ أشرقتْ في وجهه ... لم تمح منهُ دجى الظلامِ المطبقِ) (وإذا تمطر في الرهانِ رأيتهُ ... يجري أمامَ الريح مثلَ مطرّق) وقال ابن المعتز: (تحملني طِرفةٌ ... صادرةٌ واردهْ) (ترضيك في يومها ... وهي غداً زائده) (ورجلها تقتضي ... ويدها جاحده) وبإسناد لنا أن رجلاً أنشد أبا البيداء قول أبي نخيلة: (لما رأيتُ الدّيْنَ ديناً يُؤفَك ... وأمست القبةُ لا تستمسكْ) (تفتقُ من أعراضِها وتهتك ... سرت من الباب فسارت دكك) (منها الدَّجوجيُّ ومنها الأرمكِ ... كالليلِ إلا أنها تحركُ) فقال لعنك الله إن كنت أنشدتنيها وأنت على غير وضوء، قوله (كالليل إلا إنها تحرّك ... ) استثناء عجيبٌ. وقال ابن المعتز: (إذا ما بدا أبصرتَ غرةَ وجههِ ... كعنقودِ كرمٍ بينَ غصنينِ نوّرا) (وردفاً كظهرِ الترس أسبلِ خلفهُ ... عسيباً كعِيص الطَّودِ لما تحدّرا) ومما يجري مع ذلك قول بعضهم:

(قد أشهدُ الليل بفتيانِ غُرر ... على جياد كتماثيل الصورْ) (كأنما خيطوا عليها بالإبرْ ... أو سمِّر الفارسُ فيها فانسمر) وبإسنادٍ لنا أن محمد بن عبد الله بن طاهر أرق ذات ليلة فقال لكاتبه أنائمٌ أنت؟ قال لا وأيد الله الأمير، قال ما أطيب الطعام؟ قال طعام شهوة في إبان جوعة، قال فما ألذ الشراب؟ قال شربة ماء بارد تطفئ بها غليلك أو كأسٌ تعاطي بها نديمك، قال فما أشهى النساء؟ قال التي تدخل إليها والهاً وتخرج عنها هارباً، وقال فما أجود الخيل؟ قال الأسوق الأعنق الذي إذا طلب لحق وإذا طلب سبق وإذا صهل أطربك وإذا بدا أعجبك. قال صدقت لله درك، اعطه يا غلام ألف دينار، قال أصلح الله الأمير وأين تقع مني ألفا دينار؟ قال أو زدت نفسك ألفاً قال أو ليس كذا؟ قال لا ولكن حقق ظنه يا غلام. فأعطاه ألفي دينار. وقيل لأعرابي أتعرف الجواد المبرز من الطيء المقرف قال نعم أما الجواد المبرز فهو الذي لهز لهز العير وأنف تأنيف السير إذا عدا إسلهب وإذا إنتصب اتلأب، والبطئ المقرف هو المدلوك الحجبة القحم الأرنبة الغليظ الرقبة الكثير الجلبة الذي إذا قلت أمسكه قال أرسلني وإذا قلت أرسله قال أمسكني. وقال المهدي لمطر بن دراج: أي الخيل أفضل؟ قال الذي إذا استقبلته قلت نافر وإذا إستدبرته قلتَ زاخر وإذا استعرضته قلت زافر، قال فأي البراذين خيرٌ؟ قال ما طرفه أمامه وسوطه عنانه، قال فأي البراذين شرٌ؟ قال الغليظ الرقبة الكثير الجلبة إذا أرسلته قال أمسكني وإذا أمسكته قال أرسلني. ووصف رجلُ من العرب خيلاً فقال: إنها لخليقة للجودة وآية ذلك إنها سامية العيون لاحقة البطون مصغية الآذان افتاء الأسنان ضخام الركبات مشرفات الحجبات رحاب المناخر صلاب الحوافر وقعها تحليل ورفعها تعليل إن طلبت فاتت

الفصل الثاني من الباب العاشر

وإن طلبت نالت. واستوصف الحجاج ابن القرية فرساً فقال طويل الثلاث قصير الثلاث حديد الثلاث رحيب الثلاث صليب الثلاث عريض الثلاث منيف الثلاث أسود الثلاث. فاستفسره فقال طويل العنق والسبب والساق، قصير الظهر والعسيب والشعر، حديد القلب والسمع والمنكب، رحيب المنخرين والشدقين والجوف، صليب الدخيس والكاهل والعجب، عريض اللباب والحجبة والخد، منيف الجوانح والقذال والقوائم، أسود الذكر والحافر والعين. وقال محمد بن منادر في وصف فرس: (وإذا أعْرضَ قطريهِ لنا ... وفيا واستوفيا قَدّاً بقَدّ) (فهو كالقدْح أقامت درأهُ ... كفُ باريهِ فما فيه أوَدْ) ووصف النظام فرساً فقال: هو صافي القميص جيد الفصوص وثيق القصب نقي العصب يبوع بيديه ويندس برجليه ويشير بأذنيه ويبعد مدى بصر عينيه يلحق الأرانب في الصعداء ويجاوزُ الظباء في الاستواء إن حركته طار وإن زجرته حار وإن طرحتَ عنانهُ سار كموج في لجة أوسيل في فجوة إن وجد علفاً أمعن وإن فقده ضغن. وأنفذ جعفر بن يحيى إلى أبيه برذوناً وكتب إليه: قد بعثت إليك ببرذون لين المرفوع وطئ الموضوع حسن المجموع طويل العذار أمين العثار. ومما يجري مع ذلك ما أخبرني به أبو أحمد عن أبيه قال حدثني أحمد ابن طاهر أنه كتب إلى الحسن بن علي بن يحيى يستهديه لجاماً لحماره: (جُعلتُ فِداك قد أمسى حماري ... لهُ سرجٌ وليس لهُ لجامُ) (كمِثلِ العاطل الحسناءِ أمستْ ... لها حليٌ وليسَ لها نظام) ثم قال (وأنت لكل ناقصة تمام ... ) (الفصل الثاني من الباب العاشر) في ذكر الإبل وسيرها وما يجري مع ذلك من وصف أحوالها أطرف ما قيل في صفة الإبل قول القطامي:

(يمشينَ رَهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصدورُ على الأعجاز تتكلُ) (فهنَ معترضاتٌ والحصى رمضٌ ... والريحُ ساكنةٌ والظلُّ معتدلُ) قالت العلماء لو كان البيت الأول في صفة النساء لكان أحسن وذلك لما رأوا من تمام حسنه وظريف لفظه. والبيت الآخر هو أبلغ ما قيل في صفة هاجرة. ومن مليح ما قيل في ضمر الناقة قول ابن الخطيم: (وقد ضَمرتْ حتى كأنَّ وضينها ... وشاحُ عروس جالَ منها على خصرِ) ويشبهُ الزمام بالحية فمن أول ما قيل في ذلك قول الشاعر: (يعالج مثنى حضرمي كأنّه ... حباب نقا يتلوه مرتجلٌ يرمي) وقال ذو الرمة: (رجعية أسفار كأنَّ زمامها ... شجاع على يسرى الذراعين مطرق) وأخذه المتنبي فقال (كأنّ على الأعناق منها الأفاعِيا ... ) من أجود ما قيل في ضمر الابل قول الفرزدق: (إذا ما أنيختْ قابلتْ عن ظهورها ... حراجيج أمثال الأهلة شُسَّف) شبهها بالأهلة لضمرها واحد يدابها. وتشبه بالقسي فمن أجود ما قيل في ذلك وأجمعه قول أبي عبادة البحتري: (وخدان القلاص حولاً إذا قابلن ... حُولاً من أنجم الأسحارِ) (يترقرقنَ كالسّراب وقد خضنَ ... غماراً من السرابِ الجاري) (كالقسّي المعطفاتِ بل الأسهم ... مَبريَّةً بل الاوتاد) وقال ابن دريد: (أليّةً باليعملاتِ يرتمي ... بها النجاءُ بينَ أجوازٍ الفلا)

(خوص كأشباح الحنايا ضُمَّر ... يَرْعُفنَ بالأمشاج من جذب البري) (يرسُبن في بحر الدُّجى وفي الضحى ... يطفون في الآلِ إذا الآل طفا) ومن غريب ما قيل في عين الناقة قول ذي الرمة: (كأنما عينها منها وقد ضمرت ... وضمها السير في بعضِ الأضى ميمُ) فشبهها بالميم لاستدارتها وغورها، والأضى الواحدة أضاة وهي الغدير، وقد قصر بذي الرمة علمه بالكتابة. أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن العلاء بن عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي قال قرأ حماد الراوية على ذي الرمة شعره فرآه ترك في الخط لاماً فقال له ذو الرمة أكتب لاماً فقال حماد وإنك لتكتب قال لا أكتم عليك فإنه كان يأتي باديتنا خطاط فعلمنا الحروف تخطيطاً في الرمل في الليالي المقمرة فاستحسنتها فثبتت في قلبي ولم تخطها يدي. ودخل أبو تمام على المأمون في زي أعرابي فأنشده: (دمنٌ ألمَّ بها فقالَ سلامُ ... كم حلَ عقدهُ صبرهِ الالمامُ) فجعل المأمون يتعجبُ من غريب ما يأتي به من المعاني ويقول ليس هذا من معاني الأعراب فلما انتهى إلى قوله: (هُنَّ الحَمامُ فإن كسرتَ عِيافةً ... من حائهنَّ فإنهنَّ حِمامُ) فقال المأمون الله أكبر كنتَ يا هذا قد خلطت علي الأمر منذ اليوم وكنت حسبتك بدويا ثم تأملت معاني شعرك فإذا هي معاني الحضريين وإذا أنت منهم فقصر به ذلك عنده. وقال أبو نواس في وصف الناقة: (ولقد تجوب بي الفلاةَ إذا ... صامَ النهارُ وقالتِ العُفُر) (شدنيةٌ رعتِ الحمى فأتت ... ملءَ الجبالِ كأنّها قصْرُ)

أخذه من قول عنترة: (فوقفتُ فيها ناقتي وكأنها ... فدنُ لأقضي حاجةَ المُتلّومِ) إلا أن بيت أبي نواس أحسن رصفاً. وذكر ذنب الناقة فقال: (أما إذا رفعته شامذةً ... فتقول رنّق فوقها نَسْرُ) (أما إذا وضعتهُ عارضةً ... فتقولُ أُسبلَ خلفَها سِترُ) أخذه من قول أبي دواد (قوادمٍ من نسور مضرحيات ... ) وليس بيت أبي داود شيئاً مع بيت أبي نواس، ثم قال: (وتسفُّ أحياناً فتحسبها ... مترسماً يقتادُهُ أثرُ) (فإذا قصرتَ لها الزمامَ سما ... فوقَ المقادمِ ملطمٌ حُرٌ) (وكأنها مُصغٍ لتسمعهُ ... بعضَ الحديثِ بأذنهِ وقرٌ) ومن أجود ما قيل في تقدم الناقة في السير قول القطامي: (ألمعن يقصرنَ من بخب مخيسةٍ ... ومن عرابٍ بعيداتٍ من الحادي) أي يسبقن الحادي فيبعدن عنه، ثم قال أبو نواس وأحسن: (تَذَرُ المطيِّ وراءَها فكأنها ... صفٌ تقدمهنَ وهي إمامُ) وأحسن ابن المعتز في وقوله: (وناقةٍ في مهمه رمى بها ... همٌ إذا نامَ الورَى سرَى بها) (فهي أمام الركبِ في ذهابها ... كسطرِ بسمِ الله في كتابها) ومن مصيب التشبيه في موطئ الناقة قوله أيضاً: (تلقي الفلاة بخفٍ لا يقر لها ... كأن مسقطهُ في تربها طبق) وقوله في ارتفاع الناقة في الهواء وعظمها: (كأنا عندَ نهضتهِ رفعْنا ... خباءً فوقَ أطرافِ الرماح)

ومثله قوله أيضاً: (ترنو بناظرةٍ كأنّ حِجَاجها ... وقبٌ أنافَ بشاهقٍ لم يُحلل) (وكأنَّ مسقَطها إذا ما عرَّست ... آثارُ مسقطِ ساجدٍ متبتلِ) (وكأن آثارَ النّسوعِ بدفِّها ... مسرى الأساودِ في دهاسٍ أهيل) (ويشدُ حاديها بحبل كامل ... كعسيب نخلٍ خوصُهُ لم ينُجل) وقال أيضاً: (كأنّ المطايا إذ غدونَ بسحرةٍ ... تركنَ أفاحيصَ القطا في المباركِ) ثم قال وهو من أجود ما قيل في سمن الإبل: (لنا إبلٌ ملءَ الفضاء كأنما ... حملنَ التلاع الجوَّ فوقَ الحواركِ) وقد أحسن القائل في وصف سرعتهن حيث يقول: (خوصٌ نواج إذا حث الحداةُ بها ... حسبتَ أرجلها قُدَّامَ أيديها) وذكر دعبل بن علي الخزاعي أن قائل هذا البيت القصافي لم يقل بيتاً جيداً سواه وكان يقول الشعر ستين سنة، وأخذه ابن المعتز فقال: (تخالُ آخِرهُ في الشدَ أوَّله ... وفيهِ عدوٌ وراءَ السبقِ مذخورُ) (وقد أحسن مسلم في وقوله: (إلى الأمام تهادانا بأرحلنا ... خلقٌ من الريحِ في أشباحِ ظلمانِ) (كانَ أفلاتها والفجرُ يأخذها ... أفلات صادرةٍ عن قوس حسبان) وقال آخر: (كأن يديها حينَ يجري ضفورها ... طريدانِ والرجلانِ طالبتا وترِ) ومن بليغ ما جاء في ذلك قول ابن المعتز: (زجرتُ بها سباح قفرٍ كأنّه ... يخافُ لحاقاً أو يبادرُ أولا) (توارثهُ الإيجافُ حتى كأنّهُ ... لميس ضنى أعيا الطبيب المعذلا)

ومن بديع ما جاء في ذلك قول رؤبة بن العجاج: (كأن أيديهن بالقاع القرقْ ... أيدي العذارى يتعاطينَ الورق) وقد أحسن أبو الشيص في قوله: (وليل يركب الركبان ... في أمواجهِ الخضر) (توكلت على أهوالها ... بالله والصبر) (وأعمال بناتِ الريح ... في المهمهة الفقر ... ) (شماليل يصافحنَ ... مُتونَ الصخرِ بالصخر) (بإيجافٍ يقدُ الليل ... عن ناصيةِ الفجر) وقلت: (لنا هجماتٌ تنثني سرواتها ... بأسنمةٍ مثل الأكام سوامق) (خبطنَ الربيعَ وانتسفنَ نباته ... كما مرت الأجلامُ فوق المفارقِ) (بناها بناء البيت جون رواعدٌ ... تجئ على آثارِ جونٍ بوارق) (تدورُ بأحقيها البروقُ وتنثني ... كأنّ عليها مذهباتٍ مناطقِ) وقال ابن المعتز: (وليل ككحل العينِ خضتُ ظُلامهُ ... بأزرقَ لماعِ وأخضر صارم) (وطيّارةٍ بالرّحلِ صرفٍ كأنما ... تصافح رضراض الحصى بجماجم) وقلت: (ليلة خبطت من ظلمائها ... بنازح الخطبو إذا الخطوُ دنا) (قد انبرَى يعترف السير بنا ... في طرق يخبط فيهنَّ الهدى) (ينهى الوجى أمثاله عن السرى ... وساعدته ميعةٌ تنهى الوجي) ومن مصيب التشبيه قول الراعي: (في مهمةٍ قلقتْ بها هاماتهُا ... قلقَ الفؤوسِ إذا أرَدْنَ نصولا)

وقول الآخر: (حمراءُ من نسلِ المهاري نسلُها ... إذا ترامتْ يدُها ورجلها) (حسبتها غيرَى استفزَّ عقلها ... أتى التي كانت تخافُ بعلها) أي كأنها من عملها بيديها ورجليها وسرعة تحريكها إياهما غيرى تخاصم وتشير بيديها لا تفتر. وقلت: (ومهمةٍ قلقت فيها ركائبنا ... والليلُ في قلق تسري ركائبهُ) (ركبته فكأنَّ الصبح راكبهُ ... وجبتهُ فكأن النجم جاثبهُ) (بكل ذي ميعة جدَ الوجيف به ... فانهدَّ غاربهُ وانضم حالبه) (وبات ينهب جنحَ الليل في عجل ... كأنه لاعبٌ طابتْ ملاعبه) (حتى بدا الصبحُ مُبيضاً ترائبهُ ... وأدبرَ الليلُ مخضراً شواربه) (وإنما النجحُ في ليل ترادفهُ ... إذا تأوَّب أو صبحٍ يواكبه) (وساهر الليل في الحاجات نائمه ... وذاهب المال عند المجد كاسبه) وقال أبو تمام: (على كلَ روَّادِ المِلاطِ تهدمتْ ... عريكتهُ العلياءُ وانضمَّ حالبهْ) (رَعَته الفيافي بعد ما كان حقبةً ... رعاها وماءُ الروضِ ينهل ساكبهْ) وقلت: (واستنهضتكَ إلى المآثرِ والعلا ... هممٌ تخال زهاؤهنَ جبالا) (أردفتهن عزائماً فكأنما ... أردفَتُ مُرهفةَ النصالِ نصالا) (حملْتها قلصُ الركابِ كأنها ... قُلصُ النّعامِ إذا اتبعن رِيالا) (مهريةٌ أودى السفارُ بنحضِها ... فتخالُها تحت الرحالِ رحالا) وقال مسلم: ( ... إليك أمين الله رامت بنا السرى ... بنات الفيافي كل مرتٍ وفدفدِ) (أخذْن السرى أخذَ العنيفِ وأسرعَتْ ... خُطاها بها والنجمُ حيران مهتدي)

(لبسن الدجى حتى نضتْ وتصوبت ... هوادي نجومِ الليلِ كالدحو باليدِ) وهذه استعارة بديعة حسنة عجيبة الموقع جداً. وقال أبو نواس: (يكتسي عثنونه زبداً ... فنصيلاهُ إلى نحرهِ) (ثم يعتمُّ الحَجَاجُ به ... كاعتمام النوفِ في عُشَره) (ثم تذروه الرياحُ كما طارَ قطن النّدْفِ عن وتره) ومن فصيح الكلام قوله في هذا المعنى: (نفَحنَ اللغام الجعدَ ثم ضربنَه ... على كلَ خشيومٍ كريمِ المخطَّمِ) وقال الشماخ بن ضرار: (كأن ذراعيها ذراعا مدلةٍ ... بُعيد السباب حاولَتْ أن تغدوا) (من البيض أعطافاً إذا اتصلت دعَت ... فراسَ بن غنم أو لقيطَ بنَ يعمرا) (بها شرقٌ من زعفران وعنبرٍ ... أطارت من الحسن الرِداء المحبَّرا) (تقول وقد بلَّ الدموع خمارها ... أبت عفتي أو منصبي أن أعيرا) (كأن بذفراها مناديل قارقت ... أكفَّ رجالِ يَعصرونَ الصنوْبرا) وقال الراجز: (كأنها نائحة ترجعُ ... تبكي بشجوٍ وسواها الموجَعُ) وهو نحو قول الراجز (حسبتها غيرى استفزَّ عقلها ... ) ومثله قول الآخر: (كأن ذراعيها ذِراعا بذية مفجَّعة لاقت حلائلَ من عُفرِ) (سمعن لها وأستفرغت من حديثها ... فلا شئ يفري باليدين كما تفري) فوصفها بأنها بذيةُ وقد أوجعت ونيل منها ولقيت حلائلها عن عفرٍ أي بعد زمان وتلك الشكوى في نفسها فجعلت تحدث وتحرك يديها في حديثها فلا تكاد تسكنهما. وقال أبو تمام:

(فما صلائي إذا كان الصلاءُ بها ... جمر الغضا الجزلِ إلا السيرُ والابلُ) (المرضياتُك ما أرغمت آنفها ... والهادياتك وهي الشردُ الضلل) وقال البحتري: (والعيس تنصلُ من دجاهُ كما انجلى ... صبغ الشباب على القذال الأشيب) وقال ابن المعتز: (ولم نزل نخبط الفلاة بأخفافِ ... المطايا والظِّلُّ مُعتدِلُ) (كأنّما طارَ تحتنا قزعٌ ... على أكفِّ الرياحِ ينتقلْ) (يفري بطونَ النقا النقي كما ... يطعنُ بيضَ الجوانحِ الأسلُ) وقال في الناقة: (تُصغي إلى أمرِ الزَّمامِ كما ... عَطَفتْ يدُ الجاني ذُرى الغُصنِ) وقال في لقاح: (حَوامِلُ شَحمٍ جامدٍ فوقَ أظهر ... وإن تستغث ضراتهن به ذابا) (إذا مامكاء الدرجاءت بمثعب ... كا سلَ خيظٌ من سدى الثوب فانسابا) وهذا في دقة الشخب حسنٌ جداً: (رأيتُ إنهمارَ الدرُ فوقَ فُروجِها ... كما عصَرت أيدي الغواسلِ أثوابا) (خوازنُ نحضٍ في الجلودِ كأنها ... تُحمَّلُ كُثباناً من الرَّملِ أصلابا) وقد أحسن في الناقة والزمام: (وسلِ البيداءَ عن رَجُل ... يخطمُ الريح بثعبانِ) وقال: (وقفتُ بها عِيسِي تطيرُ بزجْرِها ... ويأمُرُها وحيُ الزمامِ فترقلُ) (طَلوباً برجليها يَدَيها كما اقتضتْ ... يدُ الخصمِ حقاً عند آخر يمطلُ) وقال بعض العرب: (تطيرُ مناسمُها بالحصى ... كما نَقدَ الدرْهمَ الصيرفُ)

ومن غريب ما قيل في تقدم الناقة صواحبها في السير قول بعض العرب: (جاءَ وقد ملَ ثواءِ البحرينْ ... يَنْسلُّ مِنهنَّ إذا تدانينْ) (مثلَ انسلال الماءِ من جفنِ العينْ ... ) وأبلغ ما قيل في غزر الناقة قول أبي حية: (تدرُ للعصفورِ لو مراها ... يَملأُ مسكَ الفيلِ لو أتاها) ومن جيد ما وصف به سعة الاخلاف قول ابن لجإ: (كأنّما نصّتْ إلى ضرّاتها ... من نخرِ الطلح مجوفاتها) وقال مسلم بن الوليد في غير هذا المعنى: (أتتك المطايا تهتدِي بمطيّةٍ ... عليها فتى كالنصلِ يؤنسه النصلُ) وقال أبو نواس: (أيا حبذا عَيشُ الوجادِ وضجعةً ... إلى دُفّ مِقلاقِ الوضينِ سَعومِ) (ترامى بها الايجافُ حتى كأنها ... تحيّفُ من أقطارِها بقَدومِ) وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو قال سمعت جندل بن الراعي ينشد بلال بن أبي بردة: (نعوسٌ إذا درّت جرورٌ إذا غدت ... بُويزل عام أو سديسٌ كبازلِ) قال فكاد صدري ينفرج من جودتها حتى كتبتها. ودرةُ الإبل مع النعاس والغنم تدر مع الاحتراس فمن أجود ما قيل في ذلك قول جبيها الأشجعي: (رقودٌ لو أنَّ الدُّفَّ يُضرَبُ تحتها ... لتنحاشَ من قاذورة لم تناكر) أي من قاذورة فيها يقال رجل قاذورة إذا كان يتجنب النساء ويتقي مجامعتهن. ومن الوصف الحسن قول القطامي في نوق: (جفارٌ إذا صافتْ هضابٌ إذا شتت ... وفي الصيفِ يرددنَ المياه إلى العشرِ) يشبهها بالآبار من كثرة ألبانها في أيام الربيع والقيظ وهي في الشتاء كالهضاب

الفصل الثالث

سمناً وإذا شربت في اليوم العاشر التقت في مثله وفي كروشها بقيةٌ الماء. وعرض شريح ناقة للبيع فقال له المشتري كيف لبنها؟ قال احلب في أي إناء شئت، قال فكيف الوطء؟ قال أفرش ونم، قال كيف قوتها؟ قال احمل على الحائط ما شئت، قال فكيف نجارها؟ قال علق سوطك وسر. فاشتراها فلم ير شيئاً مما توهمه بصفة شريح فعاد إليه فقال لم أر شيئاً مما وصفت قال ما كذبتك قال فأقلني قال نعم فأقاله. وأنشد أبو أحمد رحمه الله: (جاءت تهادى مائلا ذراها ... تحنُ أولاها على أخراها) (مشي العروس قصرت خُطاها فاسمطتِ القيعانُ من رغاها) (واتخذتنا كلنا طلاها ... ) يقول إنها كبيرة غزيرة إذا مشت سالت ألبانها فابيضت القيعان منها والرغا جمعُ رغوة، وأتخذتنا كلنا طلاها أي لشربنا ألبانها كأننا أولادها. ومن أجود ما قيل في إرتفاع الإبل وارتفاع اسنمتها قول أبي دؤاد: (فإذا أقبلتْ تقولُ أكامٌ ... مشرفاتٌ فوقَ الأكام اكامُ) (وإذا عرضت تقول قصور ... من سماهيج فوقها آطامُ) (وإذا ما فجيتها بطن غيبٍ ... قلت نخلٌ قد حانَ منهُ صرامُ) الغيب ما واراك من الشجر، وسماهيج أرضٌ بالبحرين. (الفصل الثالث) في ذكر الفلوات والظلال والسير والنعاس وما يجري مع ذلك فمن أبلغ ما قيل في صفة بعد الفلاة قول مسعود أخي ذي الرمة: (ومهمةٍ فيه السرابُ يلمحُ ... يدأبُ فيه القومُ حتى يطلحوا) (ثم يظلونَ كأن لم يَبرَحُوا ... كأنما أمسوا بحيثُ أصبحوا) وقال رؤبةُ بن العجاج (يكلُ وفد الريح من حيث إنخرق ... )

ذكر أن الريح تكل فيه لبعده، ووفد الريح مأخوذ من قول تأبط شرا (ويسبقُ وفد الريح من حيثُ ينتحي) وقال مسلم بن الوليد: (تجري الرياحُ بها مرضى مولهةً ... حَسَرى تَلوذُ بأطراف الجلاميدِ) قوله (بأطراف الجلاميد) زيادة ليست في بيت رؤبةَ. ويشبهون استواء الفلاة باستواء ظهر الترس قال الشاعر (ومهمةٍ كمثلِ ظهرِ الترسِ ... ) وأحسنَ ذو الرمة حيث يقول في هذا المعنى: د (ودَوٍّ ككفِّ المشتري غيرَ أنهُ ... بساطٌ لأخماسِ المراسيلِ واسعُ) شبهه بكف المشتري لأن كفه ألصق، وفي رواية أخرى لأن المشتري يبسط كفه للصفق. وقلت في نحوه: (وبحر ككفِّ الأكرمينَ يحفهُ ... صعيدٌ كأيدي السائلينَ مديدُ) وقال بعض المحدثين: (ودَوِّيةٍ مثل السماءِ قطعُتها ... مطوقةٌ آفاقُها بسمائِها) (ومن عجيب التشبيه في وصف الآل قول بعض الأعراب: (كفى حَزَنَاً أني تطاللتُ كيْ أرَى ... ذَرى علمي دَمخ فما يُرَيان) (كأنهما والآلُ ينجابُ عنهما ... من البعدِ عينا برقع خلقان) وهذا من أغرب ما روي من تشبيهات القدماء. وقال جميل بن معمر في السراب: (ألا تيكما أعلامُ بثنةَ قد بَدَت ... كأنَ ذراها عممته سبيب) (طوامِس لي من دُونِهنَّ عداوةٌ ... ولي من وراءِ الطامساتِ حبيبُ) (بعيدٌ على كسلانَ أو ذي ملالةٍ ... وأما على ذي حاجةٍ فقريب) والسبيب الشقة البيضاء. وقال ابن المعتز: (والآلُ ينزو بالصوى أمواجه ... نزوَ القطا الكدريّ في الأشراك) (والظلُّ مقرونٌ بكلَ مطيةٍ ... مشى المهارِ الدُّهم بين رِماكِ) ولا أعرف في هذا المعنى تشبيهاً أحسن ولا أصوب من هذا.

ومن عجيب التشبيه في وصف اعتدال الظل عند الظهيرة قول الراجز (وانتعل الظل فصار جوربا ... ) وقال آخر: (إذا شئتُ أدَّانيَ صرومٌ مشيعٌ ... معي وعقامٌ تتقي الفحل مُقلت) (يطوف بها من جانبيها ويتقي ... بها الشمس حيٌّ في الأكارع ميت) أداني: أعاني، صرومٌ: أي صارمٌ، مشيعٌ: شجاع كأن معه أصحاباً يشيعونه فهو جرئ يعني قلبه، العقام: التي لا تلد فذاك أشد لها يعني ناقة، والمقلت: التي لا يبقى لها ولدٌ، وحيٌ في الأكارع ميتٌ: يعني ظلا قد ضارع عند انتصاف النهار. ومن بديع ما قيل في السراب قول ابن المعتز: (وما راعني بالبَيْنِ إلا ظعائنٌ ... دَعوْنَ بكائي فاستجابت سواكبه) (بدَتْ في بياض الآلِ والبعدُ دونهُ ... كأسطر رِقٍّ أمرضَ الخط كاتِبه) ولهم في وصف الأسفار في البحار شعرٌ قليلٌ فمن أجود ما وصف به الموج قول الهذلي: (نعاجٌ يرتمين إلى نعاج ... ) ولا أعرف في السير والنعاس أجود لفظاً واستعارة مما أنشدناه أبو تمام: (يقولُ وقد مالت بنا نشوةُ الكرَى ... نعاساً ومن يعلق سُرى الليل يكسل) (أنخ نُعطِ أنضاء النُعاسِ دواءَها ... قليلاً ورفّهَ عن قلائصَ ذبّلِ) (فقلتُ له كيف الإناخةُ بعد ما ... حدا الليل عريان الظريفة مُنجلي) ومما يجري مع ذلك قول الآخر: (عودٌ على عود على عود خلق ... كأنه والليل يرمي بالغسق) (مشاجبُ وفلق سقبٍ وطلق ... ) وعود: يريد شيخاً كبيراً؟ على عود أي على بعير مسن، على عود خلق أي طريق قديم دارس فكأنه يريدُ كأن ذلك كما قال رؤبةُ: (فيها خطوطٌ من سواد وبلق ... كأنّه في الجلدِ توليعُ البهقِ) أي كأن ذلك شبه البعير بالمشاجب والطريق بالسقب وهو عمودٌ من عمد

الفصل الرابع

الخباء، شبه والشيخ بالطلق وهو القيد لانحنائه. وقريبٌ منه قول الآخر: (عودٌ على عودِ قوود للإبل ... يموتُ بالترك ويحيا بالعملِ) عودٌ: بعير، على عود يعني طريقاً، يموت بالترك: يعني الطريق يدرس إذا لم يسلك، ويحيا بالعمل: إذا سلك استبان. ومن المختار في صفة النعاس قول الآخر: (فأصبحنَ بالموماةِ يحملنَ فتيةً نشاوى من الأدلاج ميلُ العمائم) (كأن الكري سقاهم صرخديةً ... عُقاراً تمشي في المطا والقوائم) وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن عبد الرحمن عن الأصمعي أن أبا عمرو ابن العلاء كان يستحسن قول بشامة بن غدير ويعجب منه غاية العجب: (كأن يديها وقد أرقلت ... وقد حرنَ ثم اهتدينَ السبيلا) (يدا سابح خرَ في غمرةٍ ... فأدركه الموتُ إلا قليلا) ومما يجري مع ذلك قول الأعرابي: (بدأن بنا وابن الليالي كأنّهُ ... حُسامٌ جلا عنه القيون صقيلُ) (فما زلتُ أفني كلَ يوم شبابَهُ ... إلى أن أتتك العيسُ وهو ضئيلُ) (الفصل الرابع) (في ذكر الوحوش والسباع والكلاب والصيد وما يجري مع ذلك) فمن أجود ما قيل في وصف الثور إذا عدا فيخفى تارة ويظهر أخرى قول الطرماح، وكان الأصمعي يتعجب من حسنه: (يبدو وتضمرُهُ البلادُ كأنّهُ ... سيفٌ على شرف يُسَلُّ ويغمدُ) وقد أحسن عدي بن الرقاع في وصف ثورين وما يثيران في عدوهما من الغبار وهو: (يتعاورانِ من الغبارِ مُلاءةً ... بيضاءَ مُخملةً هما نسجاها)

(تُطْوَى إذا عَلَوَا مكاناً جاسِياً ... وإذا السنابكُ أسْهَلتْ نَشَرَاها) لا أعرف في صفة الغبار أحسن ولا أتم من هذا. وأما قوله في صفة قرن الظبي فليس له شبيه وهو من المشهور: (يزجي أغنَ كأن إبرةَ روقهِِ ... قلمٌ أصابَ من الدَّواةِ مِدَادَها) وقد أحسن الراعي في وصف الوعل: (يرود بها ذبَ الريادِ كأنّه ... فتىً فارسيٌ في سراويل رامحِ) ذب الرياد أي الوعل، ويرود يجئ ويذهب، شبه ما على قوائمه من الشعر بالسروايل وشبه قرنه بالرمح. وقال ابن المعتز: (كأني على طاوٍ من الوحشِ ناشطٍ ... تخالُ قرون الأجلِ من خلفهِ غابا) الأجل: القطيع من بقر الوحش، والغاب: الأجمة. وقال أيضاً: (وجَرَتْ لنا سُنحاً جآذرُ رملةٍ ... تتلو المها كاللؤلؤ المتبدِّدِ) (قد أطلعت إبَرَ القرونِ كأنها ... أخذ المَرَاود مِن سحيقِ الإثمِدِ) وقال ابن المعتز: (شغلته لواقحٌ ملأته ... غيرةً فهو خلفَهن كمىُ) (قابضٌ جمعها إليه كما يجمع ... أيتامه إليه الوصي) (كلما شم لاقحا سئ منها ... رأس فحلٍ برجِلها معليُّ) (خارجٌ من ظلالِ نقع كما ... مزقَ جِلبابه الخليعُ الغويُّ) (قد طواها التسويق والشدُّ حتى ... هي قبٌ كأنهن القسيُّ) (هربت في رؤوسهن عيونٌ ... غائراتٌ كأنهن الركيُّ) وقال أيضاً: (كأن آثارَ أظلافِ الظِّباء به ... ودعٌ يخلِّفه أظلافهُ نسقُ) ومن فصيح ما قيل في الكلب وبليغه قول أبي نواس: (كأن لحييه على افترارهِ شكّ مساميرٍ على طوارِهِ)

طواره: نواحيه. (سمعٌ إذا استروحَ لم يمارهِ ... إلا بأنْ يطلقَ من عذارهِ) (فانصاع كالكوكبِ في انحدراهِ ... لفتَ المشير موهناُ بنارهِ) (شداً إذا أخصف في جداره ... خرّق أذنيه شبا أظفارهِ) وهذا مثل قوله: (من كل أخدى ميسانِ المنكبِ ... يشبُ في القودِ شبوبَ المقربِ) (يلحق أذنيه بحدّ المخلبِ ... ) المقرب: الكريم من الخيل يشد لكرمه بقرب البيوت، ميسان المنكب أي من سعة جلده يميس منكبه. ومن بديع الوصف قوله: (كأنما الأظفورُ في قنابهِ ... موسى صناعٍ ردُ في نصابهِ) (تراه في الحضر إذا هاهابه ... يكادُ أن يخرج من اها به) أخذه من قول ذي الرمة: (لا يذخران من الإيغال باقية ... حتى تكاد تفري عنهما الأهب) والقناب: الغلاف. وقد أحسن في قوله وأجاد: (فجاء يزجيها على شياتها ... شمّ العراقيبِ مُؤنفاتُها) (مفروشة الأيدي شر نبثاتها ... مشرفة الأكتاف موفداتها) (قود الخراطيم مخرطماتها ... غرّ الوجوهِ ومحجلاتها) الموفدات: المشرفات، خرطوم مخرطهم مثل ليل أليل: ( ... كأن أقماراً على لبَّاتها ... ذل المآخير عملساتها) (لتفثأ الأرنب عن حياتها ... إن حياة الكلب في وفاتها) وقال ابن المعتز في سعة أشداق الكلاب:

(كأنها في حلقِ الأطواقِ ... ضواحك من سعة الأشداقِ) وقال في شدة عدو الكلب (كأنها تعجل شيئاً تحسبه ... ) من قول أبي نواس (كأنما يُعجلن شيئاً لقْطا ... ) ومن بليغ ما قيل في شدة العدو قول الأحمر في الثور: (وكأنما جهدت أليتهُ ... أن لا تمسَ الأرضَ أربعةُ) ومن جيد وصف السرعة قول الحماني: (يبادرُ الناظر وهو يبدُرُه ... كأنّ من يُبصرُهُ لا يبصرهُ) وقال الأصمعي وأحسن ما قيل في صفة الذئب قول حميد بن ثور: (ترى طرفيهِ ينسلانِ كلاهما ... كما أهتزَ عودُ النبعةِ المتتابعُ) (ينام بأحدى مقليتهُ ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظانُ هاجعُ) وقال الأصمعي من أوجز الكلام قول الراجز في الذئب: (أطلس يخفي شخصهُ غبارهُ ... في فمهِ شفرتهُ ونارهُ) (هو الخبيث عينه فرارُه ... ) ومما يجري مع ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن عن عمه عن أبي عمرو قال: رأيت باليمن غلاماً من جرم ينشد عنزاً فقلت له صفها يا غلام فقال: حسراء مقبلة شعراء مدبرة بين عثرة الدهسة وقنو الدبسة سجحاء الخدين خطلاء الأذنين قعساء الصورين كأن زنمتيها تتوا قلنسوة يالها أم عيال وثمال مال. الحسراء: التي قل شعر مقدمها، والشعراء: التي قد كثر شعرها، والغثرة غثرة كدرةٌ، والدهسة لون الأرض، والقنو شدة الحمرة، والدبسة حمرةٌ كدرةٌ، والسجحاء السهلة الخدين، والخطلاء الطويلة الأذنين المضطربتهما، والقعساء المتباعدة بين طرفي القرنين، والصور: القرن.

الفصل الخامس من الباب العاشر

الزنمتان اللحمتان المعلقتان تحت حنك الشاة، والتتو ذؤابة القلنسوة. ولأعرابي في الذئب: (وأطلس ملء العين يحملُ زورهُ ... وأضلاعهُ من جانبيه شوى النهدُ) (له ذنبٌ مثل الشراع يمدُّه ... ومتنٌ كمتنِ القوس أعوجُ منأدُ) (طواه الطوى حتى استمر مريرهُ ... فما فيهِ إلاّ الروحٌ والعظمُ والجلدُ) (يُقضقضُ عضلاً في أسرتها الردى ... كقضقضةِ المقرُور أرعَدَه البرد) (عَوَى ثم أقعى فارتجزتُ فهجتهُ ... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعدُ البرد) (وأتبعته أخرى وأضللتُ نصله ... بحيث تلوى اللبُ والرعْب والحقدُ) وقال غيره في الفيل: (أجردُ كالعود طويل النابين ... بعيد ما بينَ محطَ الرجلين) (ينفض أذنين كفضلى بردين ... ) وقال ابن الرومي فيه: (ولا أعضل النابين حامل مخطم ... به حجنٌ طوراً وطوراً به فَعَم) (يقلب جثماناً عظيماً موثقاً ... يهدُّ بركنيه الجبالَ إذا زَحَم) (ويسطو بخرطوم يطاوع أمرهُ ... ومشتبهات ما أصابَ بها عَثَم) (ولست ترى بأساً يقوم لبأسهِ ... إذا أعملَ النابين في الناس أو صدم) (الفصل الخامس من الباب العاشر) في ذكر الطيور مما جاء من منثور الكلام في وصف الحمام قول بعضهم: بهرماني العينين عاجي

المنقار أصهب القرطمتين سبجي الجناحين كأنما خطا بقلمين دري الدفتين فضي الحقيبة والبطن والكشحين أرجواني الساقين والقدمين معتدل الهامة جاحظ الحدقتين رحب الأذنين والمنخرين وساع الحوصلة والشدقين محدد النكبين والركبتين سبط الذنب والكفين طويلُ العنق والقوادم والفخدين قصير الخوافي والساقين عريض الصدر والدفتين والوظيفتين غليظ القصب أجش الهدرة منتصب الهامة ذكي الحركة بعيد الذرقة. ووصف ابن المعتز حماماً طلبه من إنسان: أريد حرمي الطرق عاجي المنقار أغنَ الهدير ذا ذنبٍ قصير يسحبُ حوصلته إذا هدر وتروح صفقته إذا صفق قرطاسي الدفتين سبجي الجناحين كأن رجليه خاضتا دماً أو شربتا عندما وكأن عينيه جمرة ورأسه زبدة. وقلت في حمام أبلق: (ومُتفقاتِ الشكل مُختلفاته ... لبسنَ ظلاماً بالصباح مرقّعا) (أخّذْنَ من الكافور أنفاً ومِنسراً ... وخَضّبن بالحناءِ كفاً وإصبعا) (وتدنو بأبصارٍ إذا ما أدرتَها ... جلونَ عقيقاً للعيونِ مرصعا) (تطيرُ بأمثالِ الجُلام كأنّها ... جنادلُ تدحوها ثلاثاً وأربعا) (تبوع بها في الجوّ من غير فترةٍ ... كأن مجاذيفاً تبوعُ بها معا) (إذا هيَ عبّت في الغديرِ حسبتها ... تزقُّ فراخاً في المغادر جُوَّعا) وقال بعضهم في عين العقعق: (يُقَلِّبُ عينين في رأسهِ ... كأنهما نقطتا زئبق) ومن المختار في الديك ما أنشده الجاحظ: (كأن الديكَ ديكُ بني نميرٍ ... أمير المؤمنين على السريرِ) والناس يستحسنون قول ابن المعتز في الديك:

(صفق إما إرتياحه لسني ... الصبح وإما على الدُّجى أسفا) وقال ديك الجن: (أوفى بصبغ أبي قابوس مفرقهُ ... كدرةِ التاج لما عُلَّيت شرفا) وقوله (صبغ أبي قابوس) يعني شقائق النعمان، وهذا كلامٌ بعيدُ المتناول ظاهر التكلف. وقلت فيه: (متوجٌ بعقيقٍ مقرطٌ بلجينِ ... عليه قرطق وشي مشمر الكفين) (قدزينَ النحر منه ثنتان كالودرتين ... حتى إذا الصبح يبدو مطرز الطرتين) (دعا دعا طروبٍ مصفق الكفين ... يزهي بتاجٍ وطوقٍ كأنه ذو رُعين) وقال السري الرفاء: (كشفَ الصباح قناعهُ فتألقا ... وسطا على الليل البهيم فأطرقا) (وعلا فبشرَ بالصباح مدرعٌ ... بالوشي توج بالعقيق وطوقا) (مُرخى فضولِ التاجِ في لَبَّاته ... ومُشّمرُ ثوباً عليهِ مغمقا) وقال ابن المعتز: (وقامَ فوقَ الجدارِ مشترفٌ ... كمثلِ طرفٍ أعلاهُ أسوارُ) (رافعُ رأسٍ طوراً وخافضهُ ... كأنما العُرْف منه مِنشار) ومن أجود ما قيل في وصف النعام قول عدي بن زيد: (ومكانٍ زعل ظلمانهُ ... كرجالِ الحُبش تمشي بالعمد) فقال شبه أعناقها إذا مدت بالعمد. ومن أحسن تشبيه أخذه العماني: (كأنها حين مدت عنقها حرقا ... سودُ الرجالِ تعادي بالمزاريق) وكان ينبغي أن يقول (مدت أعناقها) والذي قال ردئٌ، وقد جاء مثله. وقال ابن أبي عيينة: (يا جنةً فاتت الجنانَ فما ... تبلغها قيمةٌ ولا ثمن) (ألفتُها فاتخذُتها وطناً ... أنَ فؤادي لحبها وطن)

(أنظر وفكّر فيما تطيفُ به ... أنَ الأريبَ المفكر الفطنُ) (من سفنٍ كالنعام مقبلةٍ ... ومن نعام كأنها سفنُ) ومثله قوله: (زر وادي القصرِ نعم القصرُ والوادي ... وحبذا أهلهُ من حاضر بادي) (ترقى قراقيرهُ والعيسُ واقفةٌ ... والضبُّ والنونُ والملاحُ والحادي) وقول الآخر: (كأنّ بالسَّهب على خربائه ... عرشاً يخرّ الريحُ في قصبائه) (يضحك جنُ الأرضِ من نحائه ... كأنّ قوسَ الغيمِ من ورائه) يعني الغبار المنعرج خلفه. وقلتُ في فاختة: (مررتُ بمطرابِ الغداةِ كأنّها ... تُعلُّ مع الاشراقِ راحاً مُفلفَلا) ويروي (تعل رحيقاً في الغصون مفلفلا) : (منمرة كدراء تحسبُ أنها ... تجللُ من جلدِ السحابةِ مفصلا) (بَدَتْ تجتلي للعينِ طوقاً ممسكاً ... وطرفاً كما ترنو الخريدةُ أكحلا) (لها ذنبٌ وافي الجوانبِ مثل ما ... تُقشِّرُ طلعاً أو تجردُ مِنصلا) (إذا حلقّت في الجوّ خلتَ جناحَها ... يردُ صغيراً أو يحرك جُلجلا) (وقال أبو نواس في جباريات: (يخطرنَ من برانس قُشوب ... من حبرٍ عولينَ بالتذهيبِ) (فهن أمثالُ النصارى الشيب) وقلت في قبجة: (أهديتُها كالهديّ آنسةٍ ... وهي سليلُ النواشزِ النفرِ) (تلبسُ سمُّورةً مُشمّرةً ... تصونُ أطرافها من العفرِ) (وقد جرى المسكُ من محاجرها ... فضمَّ لبَّاتها مع الثغر)

(تخطرُ في حلةٍ مصدرةٍ ... كأنّ أكمامها من الحِبر) (واحمرّ منقارُها ومنخرها ... تفتحُ الوردِ في ندَى السحر) (كأنّها حينَ نقط قرطمها ... تضربُ ياقوتةً على دُرَرِ) وقال أبو نواس في طير الماء: (كأنما يصفرنَ من ملاعق ... صرصرة الأقلام في المهارق) ونقله إلى موضع آخر فقال أيضاً: (يصفرُ أحياناً إذا لم يهزجْ ... من مثلِ حرفٍ المجدحِ المغنج) المجدح: ما يجدح به السويق، والمغنج: المعطف. وأحسن ما شبه به ذلك قول بعض الأعراب يصف طيراً أنشده الأصمعي: (يضربنَ أحناكاً إلى الماءِ كلّها ... لبيقٌ كمفروج المناقيشِ أسجحِ) لبيقٌ: أي رفيق بذلك حاذق به، يقول هذه الأحناك لبيقة بالشرب، والمفروج: المفتوح ما بينه. وقلت في الخطاف: (وزائرةٍ في كلِّ عامٍ تزورنا ... فيخبرُ عن طيبِ الزمانِ مزارها) (تخبرُ أنَّ الجوَّ رقَ قميصهُ ... وأنَ الرّياضَ قد توشّى إزارها) (وأنَ وجُوهَ الغُدرِ راقَ بياضها ... وأنَ وجوهَ الأرضِ راع اخضرارها) (تحنُّ إلينا وهي من غيرِ شكلنا ... فتدنو على بُعدٍ من الشكل دارُها) (فيعجبنا وسطَ العراصِ وقوعُها ... ويُؤنسنا بينَ الديارِ مطارُها) (أغارَ على ضوءِ الصباحِ قميصُها ... وفازَ بألوانِ الليالي خِمارُها) (تصيحُ كما صرّت نعالُ عرائس ... تمشت إليها هندها ونوارها) (تجاورُنا حتى تشبَّ صغارُها ... وتقضي لباناتِ النفوسِ كبارها) ولم أسمع في ذلك أحسن من قول بعض المحدثين: (وغريبة حنّتْ إلى أوطانها ... جاءت تبشرُ بالزمانِ المقبل)

(فرشت حناح الآبنوسِ وسطرت ... بالعاج فيهِ وقهقهتْ بالصندلِ) وقلت في أصواتها: (أيا عجباً من آنس لك نافرٍ ... يعاودُ وُصلاً وهو في حالِ هاجرِ) (يزور على بعدِ المكان ولم يردِ ... وصالاً فقل في زائر غيرِ زائر) (له في الذُّرى شذرٌ يمرُ وينثني ... كما حَرك الكعبين كفُ مُقامِر) وهذا معنى لم أسبق إليه. وقال أبو نواس في أصوات الخطاف: (كأن أصواتها في الجوّ طائرة ... صوتُ الجُلامِ إذا ما قصّت الشعرا) وقال ابن المعتز في البازي: (فارسُ كفٍ مائلِ كالأسوارِ ... ذو جُؤجُؤٍ مثلِ الرُّخامِ المرمارِ) (أو مصحفٍ منمنمٍ بأسطارٍ ... ومقلة صفراءَ مثلِ الدّينارِ) (يرفع جفناً مثلَ حرفِ الزُّنار ... ) وهذا تشبيه في غاية الاصابة. ومن أحسن ما قيل في منسر البازي قول أبي نواس: (ومنسرٍ أكلفَ فيه شنج ... كأنه عقدُ ثمانينا) وقال ابن المعتز في عين البازي وأجاد فيه: (ومقلةٍ تصدقهُ إذا رَمَقْ ... كأنها نرجسةٌ بلا ورق) وقال أبو النواس: (في هامةٍ علياءَ تهدي مِنسراً ... كعطفةِ الجيم بكفَ أعسرا) وقال ابن المعتز في بزاة: (وفتيان غدوا والليل داجٍ ... وضوءُ الصبح متهمُ الطلوعِ) (كأن بُزاتهم أمراءُ جيشٍ ... على أكتافها صدأٌ الدُّروعِ) وقال في عين البازي (كأنها في الرأس مسمار ذهب ... )

وقال أيضاً: (ومنسر عضب الشباه دام ... كعقدك الخمسينَ بالإبهامِ) (وخافق للصيدِ ذي اصطلام ... ينشرهُ للنهضِ والإقدامِ) (كنشرك البردَ على المستامِ ... ) وقال أيضاً: (ذي جؤْجؤ محبر موشيّ ... ومقلةٍ تلحقُ بالقصيّ) (كأنها دينارُ صيرفيّ ... واتصلت براته القُوهِيّ) (صاف كغصن الذهب المجلي ... ) وقال أيضاً: أقمر من ضرب قمرِ ... يصقلُ حملاقاً شديدَ الطحرِ) (كأنه مكتحلٌ متبرٌ ... في هامةٍ لمّتْ كلِمَ الفقرِ) (تريح إن راح لأمرِ بهر ... من منخرٍ رحبٍ كعقدِ العشرِ) وقلت في الصقر: (وصَلَتَان فلتان أنمَر ... كأنه إذا هوى للأعفرِ) (معنبرٌ يهوي إلى مزعفرِ ... بأبيضٍ من البزاةِ أقمر) (منمنم الصدرِ كصدرِ الدفتر ... بمثل أهداب جفون الأحور) وقلت: (بصلتانٍ سلطٍ جسورِ ... تخالهُ في مفصلٍ مزرور) (ضمَ جناحيهِ على سمُّور ... معوّج المنسرِ والأظفور) (كالجيم في منقطع السطور ... ) وقلت في عصفورة يقال لها السقا: (ومفتنَّة الألوانِ بيضٌ وجوهها ... ونمرٌ تراقيها وصفرٌ جنوبُها) (كأنّ دراريعاً عليها قصيرةً ... مرقعةً أعطافُها وجيوبُها) (تعدلُ ألوانَ الأغاني كأنما ... تعدلُ أوزانَ الأغاني عريبها) (تسامُ إستقاءً في العشا إذا عرى ... وعطلَ أيام المصيفِ ذنوبُها) وكان الأصمعي يتعجب من حسن بيت الطرماح في صفة الظليم مجتاب. وقلت في بلابل:

(مررتُ بدكنِ القمصِ سودِ العمائمِ ... تغني على أعرافٍ غيدٍ نواعمِ) (زُهينَ بأصداغ تروقُ كأنها ... نجومٌ على أعضادِ أسود فاحم) (ترى ذهباً ألقتهُ تحتَ مآخر ... لها ولجيناً بطنه بالمقادم) (فيا حسنَ خلقٍ من نضارٍ وفضةٍ ... وخزٍِّ وديباج أحمّ وقاتم) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن أبي ذكوان وأبي خليفة عن التوزي قال قال عمرو بن الحارث الجمحي ما رأى الأصمعي مثل نفسه قال الرشيد يوماً أنشدونا أحسن ما قيل في وصف العقاب فعذر القوم ولم يأتوا بشئ فقال الأصمعي أحسن ما قيل فيها: (باتتْ يورَّقها في وكرِها سغبٌ ... وناهضُ يخلسُ الأقواتَ من فيها) وقال امرؤ القيس: (كأن قلوبَ الطيرِ رَطباً ويابساً ... لدى وَكرِها العنابُ والحشفُ البالي) فقال الرشيدُ ما بعل القوم بشئ إلا وجدت عندك فيه شيئاً. وقال آخر في الغراب: (وجرى ببينهم غداةَ تحملوا ... من ذي الأبارقِ شاجحٌ يتفيدُ) (شنج النسا خرقُ الجناح تخاله ... في الدارِ إثر الظاعنينَ مُقَيدُ) وقال آخر في عقعق: (إذا بارك الله في طائرٍ ... فلابارك الله في عقعق) (طويل الذنابي قصير الجناح ... متى ما يجد غفلةً يسرق) (يُقلِّب عينينِ في رأسهِ ... كأنهما قطرتا زئبق) وقال آخر في الزنابير: (لها حماةٌ كأنها شعرِ ... تظهرُ مسودةَ وتستترُ) (قد أذهبت فلي الجبينِ غرَّتهُ ... إذ فضِّضتْ في جيادِنا الغرَر) وقلت في ظبية داجنة وقمارى:

الفصل السادس من الباب العاشر

(فيها مؤانسةٌ لنا وحشيةٌ ... تومي بناظرها إلى ظمياء) (تختالُ في مَتصْندلٍ متكفر ... تبراً أضرَ بفضةٍ بيضاء) (ودقيقة الأطراف وهي جسيمةٌ ... ريِّا تمرمرُ في متونِ ظِماء) (ومغنياتٍ من وراءِ ستائرٍ ... مشقوقة الأوساطِ والأحناءِ) (غنَّتْ فلم تحوج إلى مشهورةٍ ... وشَدَتْ فلم تفقر إلى الميلاء) (تبدو على أعناقهنَّ أهلةٌ ... سودٌ تبدلُ ظلمةً بضياءِ) (الفصل السادس من الباب العاشر) (في ذكر بقية الحيوان من السنور والقنفذ والفأرة والحية والعقرب والحرباء والضب والبق والبراغيث وما يجري مع ذلك) كتب الصاحب أبو القاسم في وصف قنفذ: قد أتحفتك يا سيدي بعلق نفيس يتعجب المتأمل من أحواله ويحار الناظر في أوصافه ويتبلد المعتبر في آياته فما تعرف بديهة النظر أمن الحيوان هو أم من الجماد أم هو من الشجر أم من النبات ومن الناطق هو أم من الصامت أم من الحار أم من البارد أم من الرطب أم من اليابس حتى إذا أعطى متدبره النظر أوفى حقوقه والفحص أكمل شروطه علم أنه حي سلاحه في حضنه ورامٍ سهامه في ضمنه مقاتل رماحه على ظهره ومخاتلٌ سره خلاف جهره ومحارب حصنه من نفسه يلقاك بأخشن من حد السيف ويستتر بألين من مسه حتى إذا حذر جمع أطرافه فتحسبه رابية قتاد أو كرة حرشف ومتى أمن بسط أكنافه وهي أمضى من الأجل وأرمى من ثعل إن رأته الأراقم رأت حينها أو عاينت الأساود عانيت حتفها صعلوك ليل لا يحجم عن دامسه وحارس ظلام لا يجبن في حنادسه شعر: (كمغشم الفتيانِ غير مهبَّل ... سهّد إذا ما نام ليلُ الهوجلِ)

لجرمه من الضب شبه ومن الفأر شكل ومن الورل نسبة ومن الدلدل سبب ولم أعمه عليك وهو أنقد ولذلك قيل من لم يذق غماضا ولم يرقد حثاثا بات بليلة الأنقد، وذكره الشهيم وهو الشيظم وأثناه عيمة معرفة لا يدخل الألف واللام عليها كتحوط ودجلة وكحل، ولا أعنيك هو القنفذ، ومن أحواله أن العرب تسلخ جلده فتخرجه كالشحمة البيضاء وتجعله من أنفس مآكلها وأفخر مطاعمها حتى تراه أرفع من الأفاعي وأنفع من الجرذان وتدعي جهلة الأعراب أنه من مراكب الشيطان وهو ألطفُ من الفرس حساً وأصدق سمعاً وقد جاء في المثل (أسمع من قنفذ) ومن أو ابده أنه يَسود إذا هرم ويصير كأبر ما يكون من الكلاب وأعظم ويشبهُ به ركب المرأة عقب النتف والنورة ولذلك قال ابن طارق في أرجوزة له: (يصيرُ بعدَ حلقهِ ونورِتهْ ... كقنفذِ القفَ اختبى في فَروته) ويشبه الساعي والنمام به لخبثه ومكره واضطرابه في ليله قال أيمن به خريم: (كقنفذِ الرملِ لا تخفى مدارجهُ ... خبٌ إذا نامَ ليلُ الناسِ لم ينم) وقال عبدة بنِ الطبيب: (قومٌ إذا دَمسَ الظلامُ عليهم ... حدجوا قنافذَ بالنميمة تمرعُ) وقال جرير: (يَدبّون حولَ ركياتهم ... دبيبَ القنافذِ في العرفج) فخذه يا سيدي ممتعاً واقبله شاكراً بري فيه فاحتط عليه احتياط الشحيح على ماله والجبان على روحه وارغب إلى الله تعالى في حفظه واسأله إطالة عمره وهو حسبي ونعم الوكيل. ولم أسمع في صفة الهرة أظرف من قول ابن طباطبا العلوي الاصفهاني قال فيها: (أرِقتْ مُقلتي لحبَ عَرُوس ... طفلةٍ في الملاح غيرِ شموس) (فتنتني بظلمةٍ وضياءٍ ... إذ بَدتْ لي كالعاج في الأبنوس)

(تتلقّى الظلامَ من مُقلتيها ... بشعاع يحكي شُعاعَ الشموس) (ذات دَل قصيرة كلما قامت ... تهادى طويلة في الجلوس) (لم تزل تسبغُ الوضوءَ وتنقى ... كلَ عضوٍ لها مس التنجيسٍ) (دأبها ساعةَ الطهارةِ دفنُ العنبرِ ... الرطبِ في الحنوطِ اليبيس) ومن أجود ما قيل في الحية قول النابغة: (صلُ صفا لا ينطوي من القصَرْ ... طويلةُ الأطرافِ من غيرِ خَفَر) (مهروتةُ الشدقينِ حولاءُ النظَرْ ... تفترُ عن عُوج حِداد كالابَرْ) (داهية قد صغرت من الكبر ... ) وقال الآخر: (خُلِقتْ لهازمُهُ عرين ورأسه ... كالقرص فطلح من دقيقٍ شعيرِ) (فكأنَّ شدقيةِ إذا إستعرضتهُ ... شِدْقا عجوزٍ مضمضَتْ لطهورِ) وأجاد خلف في قوله: (ثم أتى بحيةٍ ما تنجي ... أبتر مثل يبذقِ الشطرنجِ) وليس من شعر المحدثين في الحية أحسن من قول ابن المعتز: (كأنني ساورتني يومَ بينهم ... رقشاءُ مجدولة في لونها بلقُ) (كأنها حين تبدو من مكامنها ... غصنٌ تَفتح فيهِ النورُ والورق) (ينسل منها لسانٌ تستغيثُ به ... كما تعوذَ بالسبابةِ الغرقُ) وقوله أيضاً: (أنعتُ رقشاء لا يحيى لديغتها ... لوقدِها السيف لم يعلق بهِ بللُ) (تلقى إذا انسلختْ في الأرض جلدتها ... كأنّها كمُ درع قدهُ بطلُ) وقلت: (وخفيفةِ الحركاتِ تقترعُ الربىِ ... كالبرقِ يلمعُ في الغَمام الرائح) (منقوطة تحكي بطونَ صحائف ... أبانَ تبدو من بطونِ صفائحِ) (ترضى من الدنيا بظلَ صخيرةٍ ... ومن المعايش باشتمامِ روائح)

وهذا من قولهم إن الحية إذا هرمت لم تحتج إلى الطعم واكتفت بالنسيم) وقال أعرابي: (وحنشٍ كحلقةِ السوارِ ... غايتهُ شبرٌ من الأشبارِ) (كأنهُ قضيبُ ماءٍ جاري ... يفترُ عن مثل تلظّي النار) وقال آخر: (يرقونه فكأنما ... يعنى برُقْيتهِ سواه) وقال أبو العباس ثعلبُ يقالُ إنه لم يسمع في صفة الحية أحسن من هذا البيت وأنشد: (كأنما لسانهُ على فيهِ ... دخانُ مصباحٍ ذكتْ ذواكيه) وقال عبد الصمد بنُ المعدل في العقرب: (يا ربَ ذي إفكٍ كثير خُدعه ... يبرزُ كالقرنينِ حينَ يطلعهُ) (في مثلِ ظهرِ السبتِ حينَ تلطعه ... أسودُ كالسّيحةِ فيه مصبعه) (لا تصنعُ الرقشاءُ مالا تصنعه ... ) وقلت فيها أيضاً: (وإذا شتوتُ أمنتُ لسعةَ عقربٍ ... كالنارِ طارتْ من زنادِ القادحِ) (قد خلتها تمشي بسبحة عابدٍ ... كلا لقد تمشي بصعدةٍ رامح) وقال آخر: (يحملُ رُمحاً ذا كعوبٍ مُشتهر ... فيه سنانٌ كالحريقِ يستعرْ) (أنفَ تأنيفاً على حسنِ قدرِ ... تأنيف أنفِ القوسِ شُدَّت بالوتر) ومن أحسن ما قيل في الحرباء وهي دويبة شبيهة بالعظاءة تأتي شجرة التنضبة فتمسكُ بيديها غصنين منها وتقابل الشمس بوجهها فكلما زالت عين الشمس عن ساق منها خلت يديها عنه وأمسكت بساق آخر حتى تغيب الشمس فتسبح في الأرض وترتع قال أبو داود: (أنَّى أتيحَ لها حرباءُ تنضبة ... لا يرسلُ الساقَ إلا ممسكاً ساقا) والعرب تقول أحزمُ من الحرباء لأنها لاترسل غصناً إلا أمسكت بآخر،

ويشبهُ به الرجل الحصيف الذي لا يترك سبباً إلا أخذ بسبب أمتن منه. قال ابن الرومي في امرأة ورقيبها: (ما بالها قد حُسِّنت ورقيبُها ... أبداً قبيحٌ قُبِّح الرقباءُ) (ما ذاك إلا أنها شمسُ الضُحى ... أبداً يكونُ رقيبها الحِرباءُ) وقال بعض العلماء: الحرباء فارسيةٌ معربة وأصلها خورباء أي حافظ الشمس، وخور اسم للشمس بالفارسية. وكان ذو الرمة أنعت العرب للحرباء قال: (ودَوِّيّةٍ جرداء جدَّاء خيَّمت ... بها صبواتُ الصيفِ من كل جانبْ) (كأنَ يدي حربائها متمسكاً ... يدا مُذنب يستغفرُ الله تائبْ) وقال أيضاً: (وقد جعل الحرباء يصفرُّ لونهُ ... ويخضرُّ من حرَ الهجيرِ غباغبه) (ويسبح بالكفينِ سبحاً كأنه ... أخو فجرة أوفى به الجذعُ صالبُهْ) وقال ايضاً: (يصلى بها الحرباء للشمس مائلا ... على الجذل إلا أنه لا يُكبِّر) (إذا حولَ الظلَ العشىُ رأيته ... حنيفاً وفي قرنِ الضحى يتنصَّرُ) وهذه تشبيهاتٌ مصيبةٌ عجيبةُ الإصابة دالةٌ على شدة الحذق وثقوب الذهن، وقد أجمعت العرب أن ذا الرمة أحسنهم تشبيهات. وقال ابن المعتز: (ومهمهٍ فيه بيضاتُ القطا كِسرا ... كأنها في الأفاحيصِ القواريرُ) (كأنَ حربائها والشمسُ تَصهرهُ ... صال لنا من لهيبِ النارِ مقرور) وهذا تشبيهٌ مصيببٌ أيضاً إلا أن للأول ماءً وطلاوةِ ليس لذا ومن أحسن ما قيل في الضب قول الحماني (ترى ضبّها متسعاً رأسه ... كما مدَ ساعِده الأقطعُ) (له ظاهرٌ مثل بردِ الوشيّ ... وبطنٌ كما حسر الأصلع) (هو الضبُ ما مدَ سكانه ... فإذ ضمّه فهو الضُّفدعَ) ومن أجود ما قيل في البعوض وأجمعه قول بعضهم أنشده أبو عثمان:

(إذا البعوضُ زجلتْ أصواتها ... وأخَذَ اللحن مُغنياتها) (لم تُطربِ السامع خافضاتها ... وأرقَ العينينِ رافعاتها) (صغيرةٌ كبيرةٌ أذاتها ... يقصر عن بُغْيتها بُغاتها) (ولا يصيب أبداً رُماتها ... رامحة خرطومها قناتها) وقال آخر: (حنانة أعظمها أذاها ... ) وقال ابن المعتز: (بتُ بليلٍ كلّهِ لم أطرفِ ... قرقسهُ كالزيبر المنتَّفِ) (يثقبُ الجلدَ وراء المطرفِ ... حتى ترى فيه كشكل المِصحفِ) (أو مثل روس العصفر المندَّف ... ) وقلت: (غناءٌ يسخنُ العينَ ... وينفي فَرَحَ القلبِ) (ولا يأتي على الزمرِ ... ولا يجري مع الضّرب) (غِناءُ البقَ بالليلِ ... ينافي طرَبَ الشّربِ) (إذا ما طرَقَ المرء ... جرى في طلقِ الكرب) (نحيفٌ راحِ كالشنَ ... ولكنْ بات كالوطب) (إذا ما نقبَ الجلدَة ... أخفى موضعَ النَّقب) (سوى حمرٍ خفياتٍ ... تحاكي نقطَ الكتبِ) وقد ذكروا أن كل معنى للأوائل أخذه المتأخرون وتصرفوا فيه إلا قول عنترة في الذباب فإنه لم يتعرض له ولو رامة من رامه لا فتضح وهو قوله: (وترى الذبابَ بها يُغني وحدَهُ ... زجلاً كفعل الشاربِ المترنمِ) (هزجاً يحكُ ذراعَه بذراعهِ ... فعلَ المكبَ على الزنادِ الأجذمِ) وقلت: (وبدا فغناني البعوضُ مُطرباً ... فهرقتُ كأس النوم إذ غناني) (ثم انبرى البرغوثُ ينقطُ أضلعي ... نقطَ المعلمُ مُشكلَ القرآن) (حتى إذا كشفَ الصباحُ قِناعَه ... قرأتْ ليَ الذبانُ بالألحانِ)

وكتب أبو القسم الآمدي: وصار كاتب الديوان أفرغ من حجام ساباط وحسبك أيدك الله أن كاتب الديوان في هذا الوقت شيخٌ كان يخلفني ويخلف من كان يلي الديوان قبلي يُعرفُ بابن نوح حسن الشيبة عظيم الهامة كثير الصمت لو رأيته لقلتَ هذا نوح النبي & سمتاً ووقاراً وليس له عملٌ خلف سلته إلا صيد الذبانِ فهو أعلم خلق الله بأجناسها إذا مر به ذبانَ يطيرُ عرفه بطيرانه قبل أن يسقط فيقول هذا ذكرٌ وهذا أنثى وهذا ربيعيٌ وهذا صيفي وهذا مُلحٌ وهذا لجوجٌ يسقط على العين والأنف ويطرد فيعود وهذا يلسع وهذا ليس بلساع وهذا يقع على الأقذار وهذا نزهٌ عيوف لا يقع إلا على المآكل الحلوة والأشياء العذبة وهذا من صيد الليث وهو جنس من العناكب وليس هذا من صيده وهذا يقع في شبكة الخدرنق وهو العنكبوت الطويل الأرجل وهذا يسفدُ وهو يطير وهذا لا يسفد إلا واقعاً وهذا مما يدخل رأسه في رؤوس الذبان السبعة التي تقع في الأكحال لأنه أقرح وهذا إن وقع رأسه في كحل عمي من يكتحل به لأنه أحمر الجبهة وهذا يقبل بدنه على خرطومه وهذا لا يقبل وهذا هزجٌ مغنٍ وهذا صموتٌ وهذا يُنذرُ وهذا يبشرُ بطنينه وزمزمته فيصدق فيما يعدُ ويوعد ويكون ذلك أخذاً بالكف. وقد ألف فيها كتابا حسنا فيه نوادر وعبر. وظننته قد نظر في باب الذباب والبعوض من كتاب الحيوان واستقى من هناك ففاتحتة فاذا هو لايعرف الجاحظ ولا سمع بكتاب الحيوان قط ونظرت فإذا أبو عثمان لم ينته في معرفة الذباب إلى شئ مما انتهى إليه وعرفه. ومن أجود ما قيل في البراغيث قول بعضهم وقد ظرف في ذلك: (فيا لعبادِ اللهِ ما لقبيلةٍ ... إذا ظهرتْ في الأرضِ شدُ مُغيرها) (فلا الدينُ ينهاها ولا هي تنتهي ... ولا ذو سلاح من معدٍ يضِيرُها) وقال آخر: (هنيئاً لأهل الرّيِّ طيبُ بلادهم ... وأن أميرَ الرِّيِّ يحيى بنُ خالدِ)

(بلادٌ إذا جنَ الظلامُ تقاقرت ... براغيثها من بينِ مثنى وواحدِ) (ديازجةٌ سودُ الجلودِ كأنّها ... نعالُ بريدٍ أرسلتْ في المزاود) وقلت: (ومن براغيث تنفي النوم عن بصري ... كأنّ جَفنيَّ عن عيني قَصيرَانِ) (يطلبنَ مني ثأراً لستُ أعرفهُ ... إلا عدواة سودانٍ لبيضان) وقد شكاهن الرماح الأسدي فأحسن في قوله: (تطاولَ بالفسطاس ليلي ولم يكن ... بحنو الفضَا ليلي عليّ يطولُ) (يؤرقني حدبُ صغارٌ أذلةٌ ... وإنّ الذي يؤذينهُ لذليلٌ) (إذا ما قتلناهنَ أضعفنَ كثرةً ... علينا ولا ينعى لهنَ قتيلُ) (ألا ليتَ شعري هل أبيتنَ ليلةً ... وليس لبرغوثٍ إليّ سبيلُ) وقال ابن بالمعتز: (وبراغيث إن ظفرنَ بجسمي ... خلتُ في كلِّ موضعٍ منهُ خالا) وأما القمل فأعجب ما قيل فيه قول بعضهم: (للقملِ حولَ أبي العلاءِ مصارعٌ ... من بينِ مقتولٍ وبين عقيرِ) (وكأنهنَ إذا عَلونَ قميصَهُ ... فردٌ وتوأمَ سمسمٍ مقشورِ) وقد أبدع جرير في قوله: (ترى الصيبانَ عاكفةً عليهِِ ... كعنفقة الفرزدقِ حين شابا) وقلت في النمل: (وحيٍ أناخوا بالمنازلِ باللوى ... فصاروا بها بَعدَ القطارِ قطينا) (إذا اختلفوا في الدارِ ظلتْ كأنهاِ ... تبددُ فيها الريحُ بزرَ قطونا) (إذا طرقوا قِدري مع الليلِ أصبحتْ ... بواطنُها مثلَ الظوِاهرِ جُونا) (لهم نظرةٌ يُمنى ويُسرَى إذا مشوا ... كما مرَ مرعوبٌ يخافُ كمينا) (ويمشون صفاً في الديارِ كأنّما ... يجرونَ خيطاً في الترابِ مُبينا) (ففي كلَ بيتٍ من بيوتيَ قريةٌ ... تضُمُّ صُنوفاً مِنهُمُ وفنُونا)

(فيا مَنْ رأى بيتاً يضيقُ بخمسةٍ ... وفيهِ قرياتٌ يَسعن مئينا) قالوا ومن الأبيات الجامعة للشر قول بعض القدماء: (به البقُ والحمّى وأسدٌ خفيةٌ ... وعمرو بنُ هند يعتدي ويجورُ) (وبالمصر برغوثٌ وبقٌ وحصبةٌ ... وحُمّى وطاعونٌ وتلك شرور) (وبالبدو جوعٌ لايزالُ كأنَّهُ ... دخانٌ على حدِّ الأكامِ يمورُ) (ألا إنما الدنيا كما قالَ رَبنُّا ... لأحمدَ حزنٌ تارَةً وسرورُ) وقلت في الجراد: (أجنحةُ كأنها أرديةٌ من قصبِِ ... لكنها منقوطةٌ مثل صدورِ الكُتبِ) (وأرجل كأنّها ... مناشرٌ من ذهب) وقلت: (وأعرابية ترتادُ زاداً ... فتمرقُ من بلادٍ في بلادِ) (غدتْ تمشي بمنشارٍ كليلٍ ... تبوعُ به قرارةَ كلَ وادي) (وتنشر في الهواء رداءَ شرب ... على أرجائه نقطُ المدادِ) (وتلبسُ تحتَ ذاك عطاف لاذٍ ... على أكنافه ودع الجساد) ومن عجيب ما قيل في الفأر ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن سعيد عن الرياشي قال دخل أعرابي البصرة فاشترى خبزاً فأكله الفأر فقال في ذلك: (عجّلْ ربُ الناسِ بالعقابِ ... لعامراتِ البيتِ بالخرابِ) (كحل العيونِ وقس الرقابِ ... مجردات أحبل الأذنابِ) (مثل مدارِ الطفلةِ الكعابِ ... كيف لها بأنمر وثّاب) (مُنهرتِ الشدقِ حديدِ النابِ ... كأنما يكشرُ عن حرابِ) (يفرسها كالأسد الوثابِ ... ) آخر الباب العاشر من كتاب ديوان المعاني والحمد لله حق حمده وصلواته على محمد وآله وصحبة والخلفاء الراشدين من بعده.

هذا كتاب المبالغة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما أراد بنا من عاجل الخير وآجله ومؤتنفه وراهنه فجعل لنا في أنفسنا مواعظ وفي أبداننا زواجر يرشدنا ويهدينا ويكفنا عما يردينا من مرض بعد صحة وشيبة بعد شيبة لنعتبر بتغير الأحوال علينا وتغير الحدثان إيانا حمداً تتألف أشتاتهُ وتتصل مواده وصلى الله على محمد وآله. (هذا كتاب المبالغة) (في صفة الشباب والشيب والخضاب والعلل والموت والمراثي) والزهد وما يجري مع ذلك وهو: (الباب الحادي عشر من كتاب ديوان المعاني) فأول ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي قال سمعتُ ابن الأعرابي يقولُ لا أعرفُ في التفجع على الشباب وفي ذم الشيب أحسن من قول أبي حازم الباهلي على قرب عهده: (لا تكذبنَ فما الدُّنيا بأجمعها ... من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بدلُ) (شَرْخ الشبابِ لقد أبقيتَ لي أسفاً ... ما جدَ ذكرك إلا جّدَّ لي ثكلُ) (كفاك بالشيب ذنباً عندَ غانيةٍ ... وبالشبابِ شفيعاً أيها الرجلُ)

وأحسن منه عندي قول منصور النمري: (ما تنقضي حسرةٌ مني ولا جزعُ ... إذا ذكرتُ شباباً ليس يرتجعُ) (بانَ الشبابُ ففاتتني بشرتهِ ... صروفُ دهرٍ وأيام لنا خُدعُ) (ما كنتُ أوفي شبابي كنهَ غرتهِ ... حتى انقضى فإذا الدنيا لهُ تبع) قوله (فأذا الدنيا له تبع) من أشرف كلام وأنبله وأجمعه وأوجزه، وسمعه الرشيد فقال نعم لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب. وقال محمود الوراق: (لا يحسن النسك والشباب ... ولا البطالاتُ والخضابُ) (كلُ نعيمٍ وكلُ عيشٍ ... قبلَ الثلاثينَ يُستطابُ) وقال غيره: (فقالتْ وهل بعدَ الثلاثينَ مَلعب ... فقلتُ وهل قبلَ الثلاثينَ ملعبُ) وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الصولي قال حدثنا الفضل بن الحباب الجمحي قال حدثنا محمد بن سلام قال من كلام يونس بن حبيب: الكبر وكل عيب والعزل وكل ذم والولاية وكل مدح والشباب وكل صحة واليسار وكل فضيلة والفقر وكل ذلة. وقال ابن المعتز: (لهفي على دَهر الصبا القصيرِ ... وغصنهِ ذي الورقِ النضيرِ) (وسكرهِ وذنبهِ المغفورِ ... وَمَرح القلوبِ في الصُّدورِ) (وطولِ حبلٍ الأملِ المجرورِ في ظلِّ عيشٍ غافلٍ غريرِ) (أغدو وجنى الصبا أميري ... ملء العيونِ الغانياتِ الحورِ) وقال الحماني: (وأيامهُ الغُرُ مثلُ الخطوطِ ... في المسكِ فوقَ خدودِ الحسانِ ( ...

(لياليَ أنت جُذيلُ الصِّبا ... وأيامه وعُذيق الغواني) وقال أيضاً: (أيام كنتُ من الغواني ... كالسوادِ من القلوبِ) (فإذا أستطعنَ خبأني ... بين المخانقِ والجيوب) وقال أبو عبد الله بن المعتز: (يا قلبُ ليسَ إلى الصبا من مرجعٍ ... فاحزنْ فلستَ بمثلهِ مفجوعا) وقال يصف نفسه في شبيته: (من بعدِ ما قد كنتُ أيَّ فتىً ... كقضيبِ بانٍ ناعمٍ رطبِ) (فإذا رأتني عينُ غانيةٍ ... قالت أو ابدُ طرفها حسبي) ونحوه قوله: (إذا ما تمشت فيَّ عينُ خريدةٍ ... فليستْ تخطّاني إلى من ورائيا) وقال أعرابي: (سقى اللُّه أياماً لنا وليالياً ... لهنَ بأكنافِ الشبابِ ملاعبُ) (إذا العيشُ عضٌ والشبابُ بغرةٍ ... وشاهدُ آفاتِ المحبينَ غائبُ) وإنما آتي بالبيت والبيتين لأني أعتمد الفقرة فأوردها وأقصد النادرة فأكتبها وأتوخى المعنى الشريف واللفظ الظريف فأزفهما إليك وأجلوهما عليك ولو تحذلقت في المعاني وأضفتُ إلى كل شئ منها شكله وقرنتُ إليه مثله أو أكثرت من عدد ما أورده من الأبيات لصار كل فصل من فصول كتابنا باباً طويلاً وكل باب منه كتاباً كبيراً حتى يكون جديراً بالإملال والإضجار وداخلاً في حد الإكثار والإهذار ونعوذ بالله منهما. وقلت في معنى ابن المعتز: (تذكرُ إذا أنتَ قضيبٌ رطيب ... عليه للحسنِ رداءٌ قشيبْ) (خالطَ ماءَ الحسنِ في وجههِ ... ماءُ شبابٍ لم يَرقه المشيبْ) (إذا مشى يخطر في بردهِِ ... غابر فيه الشكل حسنٌ رطيبْ) (كنتَ قضيبَ البانِ لم يقتضبْ ... وأنتَ من بعدُ قضيبٌ قضيبْ قضيبْ) (فاللهو مُغبرٌ مقادِيمه ... معفرُ الوجهِ حريبٌ سليب)

(خذ بنصيبٍ من سرورِ الصبا ... فما لشيخٍ من سرورٍ نصيبْ) وأول من بكى الشباب وذم المشيب عبيد بن الأبرص في قوله: (والشيبُ شينٌ لمن أمسى بساحتهِ ... لله درُ سواد الله الخالي) وقال مُزاحم العقيلي: (عزاء على ما فاتَ من وصلِ خلّةٍ ... وريق شبابٍ سلهُ الشيبُ منجلي) (ومثل ليالينا بخطمة فاللوى ... بلينَ وأيام قصار بمأسلِ) وقد أحسن أبو العتاهية في قوله: (عريتُ من الشبابِ وكانَ غضّاً ... كما يَعرى من الوَرَقِ القضيبُ) (ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً ... فأخبرهُ بما فعلَ المشيبُ) وقلت: (قوامٌ كما شاءَ المشيبُ معوجٌ ... ووجهٌ كما لا تشتهيه مُشنّجُ) (وفرعٌ جلاه الشيبُ حتى كأنّما ... تغشَّاه معروفٌ من الصُّبحِ أبلجُ) (وعهدي به بالأمس جَوْناً كأنما ... تجلّله عرفٌ من الليلِ أدعجُ) (لياليَ جاءتك الليالي عرائساُ ... تَروقُ وتصبي أو تضوعُ وتأرجُ) (حسانَ الوجوهِ كالرياضِ أنيقة ... تخيطُ لها كفُ الغمامِ وتنسج) (رِقاقُ جلابيبِ النسيم أريجةٌ ... لها نكهةٌ كالمسكٍِ أبانَ يُمزَجُ) وقال رؤبةَ وأحسن في ذلك: (كرَ الجديدانِ بنا وانطلقا ... ولا يجدانِ إذا ما أخلقا)

(ولو يبيعانِ الشبابَ أنفقا ... والشيب لا سوقَ له إن سُوِّقا) وقال المقنع أظنه: (وذادت عن هواه البيض بيضٌ ... لها في مفرقِ الراسِ إنتشار) (جديدٌ واللبيسٌ أعزُّ منه ... وأحرَى أنْ ينافسَهُ التجار) وقد أحسن الفرزدق في قوله: (وفي الشيبِ لذاتٌ لخادعِ نفسهِ ... ومن قبلهِ عيشٌ تعلّلَ جادبُهْ) ومن الشعر الجذل السهل المطيع الممتع القريب البعيد الممكن المتعذر قول النمري: (ومنازل لك بالحمى ... وبها الخليطُ نزولُ) (أيامهنَ قصيرةٌ ... وسرورهنَ طويلُ) (وسعودهنَ طوالع ... ونحوسُهُنَّ أفولُ) (والمالكية والشباب ... وقينةٌ وشَمولُ) ومن أبلغ ما قيل في كراهة الشيب قول البحتري: (وددتُ بياضَ السيفِ يومَ لقينني ... مكانَ بياضِ الشيبِ حَلّ بمفرقي) وقد أحسن أبو تمام الاحتجاج للشيب في قوله: (فأصغري أنّ شيباً لاحَ بي حدثاً ... وأكبري أنني في المهدِ لم أشبِ) (لا تنكري منه تجديداً تجللهِ ... فالسيفُ لا يُزدرَى إن كان ذا شطب) (ولايروعنك إيماضُ القتيرِ بهِ ... فأنَ ذاك إبتسامُ الرأي والأدب) ووجدت بيتاً فاسد السبك فأصلحته وقلت: (نجومُ مشيبٍ في ظلامِ شبيبةٍ ... وما حسنُ ليلٍ ليسَ فيهِ نجومُ) وقال أبو عبد الله الأسباطي: (لا يرعكِ المشيب با ابنةَ عبد الله ... فالشيب زينةٌ ووقار) (وإنما تحسنُ الرياضُ إذا ما ... ضحكت في خلالها الأنوار) وقال الخوارزمي متأخر:

(وقالوا أفِقْ من سكرةِ اللهو والصِّبا ... فقد لاحَ صبحٌ في دُجاكَ عجيبُ) (فقلت لهم كفُّوا الملامَ وأقصروا ... فإنَّ الكرّى عندَ الصباحِ يطيبُ) وهذا معنى مليح أظنه ما سبق إليه. وأول من تهاون بالشيب جرير في قوله: (يقولُ العاذلاتُ علاكَ شيبٌ ... أهذا الشيبُ يمنعني مراحي) وتبعه الناس فمن أحسنهم قولاً فيه ابن الرومي حيث يقول: (لاحَ شيبي فرحتُ أمرحُ فيهِ ... مَرَحَ الطرفِ في العذارِ المحلى) (وتولى الشبابُ فازددت غياً ... في ميادينِ باطلي إذ تولّى) (إنَ من ساءهُ الزمانُ بشئٍ ... لأحقُ امرئٍ بأن يتسلى) وهذا من قول أحمد بن زياد الكاتب: (ولما رأيتُ الشيبَ حلَ بياضُه ... بمفرقِ رأسي قلتُ للشيب مرحبا) (ولو خلتُ أني إن كففتُ تحيتي ... تنكبَ عني رمتُ أن يتنكَّبا) (ولكنْ إذا ما الكرهُ حلَ تسامحتْ ... بهِ النفس يوماً كان للكرهِ أذهبا) وفي ألفاظ هذه الأبيات زيادة على معناها، وأبيات ابن الرومي متوازنة اللفظ والمعنى مع إصابة تشبيهه في وقوله: (مرح الطرفِ في العذار المحلى ... ) وقد بالغ في ذم الشيب أبو تمام فقال: (دقةٌ في الحياةِ تدْعى جمالاً ... مثل ما سمِّيَ اللديغ سليما) (غرةٌ مرةٌ إلا إنما كنت ... أغرّاً أيامَ كنت بهيما) وقال ابن المعتز: (لقد أبغضتُ نفسي في مشيبي ... فكيفَ تحبّني الخودُ الكعابُ) وقلت: (فلا تعجبا أن يعبنَ المشيبَ ... فما عبنَ مِنْ ذاك إلا معيبا) (إذا كانَ شيبي بغيضاً إليَّ ... فكيفَ يكون إليها حبيبا) (وقد كنتُ أرفُل بردَ الشبابِ ... قشيباً وأرفُلُ وشْياً قشيبا)

(إذا ملتُ ملتُ قضيباً رطيبا ... وإن صلت صلت قضيباً قضوبا) ومن مليح ما قيل في الشيب وهزء النساء من صاحبه قول كشاجم: (ضَحكت من شيبةٍ ضحكتْ ... في سوادِ اللمةِ الرجلهْ) (ثم قالتْ وهي هازلةٌ ... جاءَ هذا الشيبُ بالعجله) (قلتُ من حبيك لا كِبر ... شابَ رأسي فانثنتْ خجلهْ) (وثنتْ جَفناً على كحلٍ ... هي منه الدهرَ مُكتحله) (أكثرتْ منهُ تُعجُّبها ... وهي تجنيهِ وتضحكُ لهْ) ومن مليح ما قيل في ذلك وغريبه قول الآخر: (فظللتُ أطلبُ وصلها بتعطفٍ ... والشيبُ يغمزُها بان لا تفعلي) وذكر مسلم بن الوليد كراهة الشيب وكراهة مفارقته إذا جاء فأحسن حيث يقول: (الشيب كرهٌ وكرهٌ أن يفارقني ... أحبب بشئٍ على البغضاءِ مودودُ) فتبعه علي بن محمد الكوفي فقال: (بكى للشيبِ ثم بكى عليهِ ... فكانَ أعزّ فقداً من شبابِ) (فقلْ للشيبِ لا تبرح حميداً ... إذا نادَى شبابُك بالذهاب) ونقله إلى موضع آخر فقال: (لعمرك للمشيبُ علىَ مما ... فقدتُ من الشبابِ أشدّ فَوتا) هذا البيتُ مضطربُ اللفظ والرصف والصنعة فاعتبره: (تمليتُ الشبابَ فكانَ شيباً ... وأبليت المشيبَ فصارَ مَوتا) وكان من تمام الصنعة أن يقول (أشد فقداً) لقوله (فقدت من الشباب) وقلت: (والشيب زورٌ يجتوى وقربُه ... لا يرتضى وفقدهُ لا يشتهي) (قد يشتهي كلُ امرئٍ بُلوغَه ... وقلَ من يبلغه إلا شكا) (كأنما الشبابُ كانَ فرقةً ... له من الأنفسِ حبٌ وقِلى) وقد أجاد الأعرابي في قوله في صفة الشيب: أكره ضيف وأبغض طيف أحب

غائب وأفجع آيب. وقلت: (تكلف مدحَ الشيبِ عندي مُعَّمرٌ ... وهل يمدحنَّ الشيبُ إلا تكلفا) (فقلت أنظرني أو لا منه مؤلماً ... لقلبِ فتًى أو آخراً منه مُتلفا) (تصرَّم من عمري ثلاثونَ حِجةً ... لبستُ بها ثوبَ الشبّابِ مُطرَّفا) (شبابٌ أطارَ الوجدَ عنّي غيابُهُ ... وصرفُ زمانٍ لم أجد عنه مصرفا) (أقمتُ به صدرَ السرورِ فلم يَزَلْ ... به الشيبُ حتى ردّه مُتحنِّفَا) (فطِرْ بجناحِ اللهوِ في زَمَنِ الصِّبا ... فأخِلق به إنْ شئتَ أنْ يتحيفا) (تناولَ وخْط الشيب أطرافَ عارضي ... فأصبحَ ليلاً بالصباحِ مُشنَّفا) ومن المشهور قول دعبل الخزاعي: (لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ ... ضحك المشيبُ برأسهِ فبكى) ومما يحتج به للمشيب على الشباب أن الشباب قلما يبقى أكثر من أربعين سنة وقد يعيش المرء في الشيب التسعين والمائة، وقال امرؤ القيس في ذلك: (ألا انَّ بعدَ الفقرِ للمرءِ قنوةَ ... وبعد المشيبِ طولَ عمرٍ ومَلبَسَا) وقال أعرابي: (ما بالُ شيخ قد تخدّد لحمهُ ... أبلى ثلاثَ عمائم ألوانا) (سوداءُ داجيةٌ وسحقٌ مفوّفُ ... وأجدّ لوناً بعد ذاك هجانا) (قصّر الليالي خطوهُ فتدانى ... وحنونَ قائمَ ظهرهِ فتحاني) (والموتُ يأتي بعد ذلك كلهِ ... وكأنما يعني بذاك سوانا) لا أعرف في وصف الشيب من أول ما يبتدئ إلى أن ينتهي أحسن من هذا، وقوله (وكأنما يعني بذاك سوانا) من أبلغ ما يكون من الموعظة. وقلت: (وشبابٍ خفَ نازله ... ليته عادَ كما كانا) (ومشيب آبَ نازلهُ ... ليته إذ كان ما بانا)

(خانني دهرٌ وثقت بهِ ... رُبَ موثوقٍ به خانا) وأنشدنا أبو أحمد: (وأنكرتُ شمسَ الشيبِ في ليلِ لمنى ... لعمري لليلي كانَ أحسنَ من شمسي) (كأنَ الصبا والسمت يطمسُ نورهُ ... عروسُ أناسٍ ماتَ في ليلةِ العُرسِ) ومن بديع الاستعارة في الشيب قول البحتري: (في الشيبِ زجرٌ لهُ لو كانَ ينزجرُ ... وبالغٌ منهُ لولا أنه حجرُ) (إبيضَّ ما اسودَ من فوديهِ وارتجعتْ ... جلية الصُّبحَ ما قد أغفلَ السَّحرُ) (وللفتى مهلةٌ في الحبَ واسعةٌ ... ما لم يمتْ في نواحي رأسهِ الشَّعَرُ) ولا أعرف في الشيب أجمع من قول أبي تمام: (غدا الشيبُ مختَطاً بفوديَّ خُطةً ... سبيلُ الرّدَى منها إلى النفسِ مهيعُ) (هو الزورُ يجفى والمعاشرُ يُجتوى ... وذو الألفِ يُقلى والجديدُ يرقعُ) (لهُ منظرٌ في العينِ أبيضُ ناصع ... ولكنهُ في القلبِ أسودُ أسفعُ) (ونحن نرحيهِ على الكرهِ والرِّضا ... وأنفُ الفتى في وجههِ وهو أجدعُ) ومن أعجب ما سمعت في الخضاب قول بعضهم: (عجبَتْ لمّا رأتني ... غادةٌ ما بين غيدِ) (ضحكَتْ إذ أبصرتْني ... قد تزينتُ لعيدِ) (ثم نادينَ جميعاً ... يا عتيقاً في جديدِ) (غرَّنا منكَ خضابٌ ... قد تراءى من بعيد) (لا تغالطنا فما ... تصلح إلا للصُّدُودِ) وقال ابن الرومي: (فدعتهُ إلى الخضابِ وقالتْ ... إنّ دفنَ المعيبِ غيرُ مُعيبِ)

وقال: (عذارٌ كمثلِ الأتحمي مطرزٌ ... وفرعٌ كلونِ العبقري محبرُ) (وقد كانَ من صبغِ الشبابِ ممسّكاً ... فأصبحَ في كفَ المشيبِ مكفرُ) (فقلْ للعذولِ أقصرِ الآن إنني ... على الرَّغمِ من أنفِ الصبابةِ مُقصرُ) (كَفَاك تكاليفَ الملامِ كواكبٌ ... من الشيبِ في ليلِ الشبيبة تزهرُ) (لوائح من تحت الخضابِ كأنما ... سنى الصبح في وجهِ الدجنة يكشر) وأول من ذكر أنه شاب من غير كبر ابن مقبل في وقوله: (ما شبتُ من كبرٍ ولكني أمرؤٌ ... عالجت قرعَ نوائبِ الدهرِ) (فرأيتها عضلا موقحة ... عزت فما تُسطاع بالكسرِ) (فلذاك صرت معَ الشبيبة نازلا ... في غير منزلتي من العمر) ومن أجود ما قيل في تقارب الخطو قول أبي الطمحان: (حنتني حادثاتُ الدهر حتى ... كأني خاتلٌ أدنو لصيدِ) (قريب الخطو يحسبُ من رآني ... ولستُ مقيداً أني بقيد) وقد أحسن الآخر في قوله أيضاً: (الدَّهرُ أبلاني وما أبليتهُ ... والدهرُ غيّرني وما يتغيّرُ) (والدهرُ قيّدني بقيدِ مُبرَمٍ ... فمشيْتُ فيه وكلِّ يومٍ يقصرُ) وقوله (وكل يوم يقصر) من أحسن العبارة عن ازدياد الضعف وتقاصر الخطو في كل يوم. ومن أعجب ما قيل في الصلع قول الأعرابي: (قد ترك الدهر عصاتي صفصفا ... فصار رأسي جبهةً إلى القفا) (كأنما قد كان ربعاً فعفا ... يمسي ويضحي للمنايا هدفا) ومثله قول الآخر: (ثم حسرت عن صفاةٍ تلمع ... فأقبلتْ قائلةً تسترجعُ) (ما رأس ذا إلا جبيناً أجمع ... )

ومثله أيضاً: (جلاه عن أهلِ الهوى قبح الجلا ... جبين وجهٍ وجبينٌ في القفا) وقال ابن الرومي في معناه يهجو رجلاً يجذب طرته من قفاه إلى وجهه: (يجذبُ من نقرته طُرةً ... إلى مدى تقصرُ عن نيله) (فوجههُ يأخذ من رأسه ... أخذَ نهارِ الصيفِ من ليلهْ) وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي لخلف بن خليفة: (وقام إلى رأسهِ حاذقٌ ... فصيرَ من رأسهِ قرعَهْ) (يُريكَ بريقاً كطست الجلا ... بيض كما نصب الطلعه) (فما شوق عيني إلى قرة ... كشوقِ يميني للصَّلْعه) (يكادُ وإن لم يردها الضميرُ ... تشوقُ الحليم إلى صَفْعه) (فملنا عليهِ بأيماننِا ... نسائلهُ عن خبرِ الوقعة) وقال مالك بن أسماء: (أو أرى بذيّال على العقبِ جُثّتي ... إذا الصلعُ وارَوا هامَهم بالقلانسِ) (تودُ النساء المبصراتي أنَّهُ ... يعار فيستأجرنه للعرائسِ) وقلت في مدح الحلق: (قُتل الشعر من خفيف ثقيل ... وكثيرٍ على الرؤوسِ قليل) (ضِيق الشعر حينَ طال قليلاً ... ضامَه اللهُ من قصيرٍ طويل) (إنما الحلقُ راحةٌ وجمالٌ ... فاشدُدِ الكفّ بالمريحِ الجميلِ) (ما أرى للحسامِ يصدأ حُسناً ... إنما الحسنُ للحسامِ الصقيلِ) ويشبهون الرأس المحلوق بالصخرة أخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو بكر بن دريد عن عبد الرحمن عن عمه قال كان يزيد بن الطثرية زير نساء يتحدث إليهن فتحدث إلى امرأة من بني أسد فهويها وهويته فخطبها إلى أبيها فرده، وخطبها ابن عم له فزوجه فدخل عليها ابن عمها وهي تقول:

(لم يبق إلا شبحاً وعظما ... وأدمعاً تنهلُ منها سجما) (علمت ما بي فجفوت علماً ... من سئمَ الوصل تجني الجرما) فنهاها زوجها أن تتمثل فأنشأت تقول: (تمثلتُ بيتاً ثم أذريتُ دمعةً ... فمن لامني فيه فبدَّل ما بيا) (فما أشرف الايفاع إلا صبابةً ... وما أضربُ الأمثال إلا تداويا) فأتى الزوج أباها فأخبره فأتاها أبوها فقال والله لأن تمثلت لأضربن ظهرك وبطنك، فدخل عليها زوجها وهي تقول: (فإن تضربوا ظهري وبطني كلاهما ... فليس لقلب بين جنبيَّ ضاربُ) فاشتد ذلك على زوجها وهم بطلاقها وخرج مغضبا وإذا يزيد بفنائه وهو يقول: (تراءتْ وأستارٌ من البيتِ دونَها ... إلينا وحانت غفلةُ المتفقدِ) (بعيني مهاةٍ تحدرُ الدمعُ منهما ... بريمين شتى من دموعٍ واثمدِ) فجمع أهل بيته وإخوته وأتى أخاه واستعداه عليه فضربه أخوه وحلقه. فقال وهو يحلق: (أقول لثورٍ وهو يحلقٌ لمتي ... بعقفاءَ مردودٌ عليها نصابها) (تَرفق بها يا ثورُ ليس ثوابُها ... بهذا ولكن غير هذا ثوابها) (فيا رُبّ يوم قد تغلل وسطها ... أنامل رخصات حديث خضابها) (تولى بها ثورٌ تزفُ كأنها ... سلاسل درع لينها وانسكابها) (وأصبح رأسي كالصخيرةِ أشرَفتْ ... عليها عقابٌ ثم طارت عقابها) وقد أحسن الفرزدق الاستعارة في وصف الشيب وهو قوله: (والشيب ينهض بالشبابِ كأنَّهُ ... ليلٌ يصيحُ بجانبيهِ نهارُ) ولأبي إسحاق الصابي أبيات في الصلع لم يسبق إلى معناها قالها على وجه المجون: (لما رماني الزمانُ بالصّلعِ ... وقلَّ مالي وضاقَ متسعي)

(حاسبتُ عن لمتي مزينها ... حسابَ شيخ للحقّ متبعِ) (قلتُ له اقنع من أصلِ واجبها ... بالثلثِ مما به عملتَ معي) (واعملْ على أنها مزارعةٌ ... شكوتُ فيها شكاةَ مُتضع) (فاحطط خراجَ الذي أصبتَ به ... واستوفِ مني خراجَ مُزدرَعِ) ومما جاء في مدح الصلع ما أخبرنا به أبو أحمد عن ابن الأنباري عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال ألح رجلٌ النظر إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال له إلى أي شئ تنظر؟ قال إلى بطن مندح وهامةٍ صلعاء فقال عليه السلام أما البطن فأسفله طعم وأعلاه علم وأما الهامةُ فكما قال الشاعر: (بنى لنا المجدَ آباءُ لهن شرفٌ ... صُلعُ الرؤوسِ وسيما السؤددِ الصلعُ) وقال آخر: (كفى حَزناً أني أدبِ على العصا ... فيأمنُ أعدائي ويبغضني أهلي) (ويوصي بي الوغدُ الضعيفُ مخافةً ... عليَّ وما قام الحواضنُ عن مثلي) (أقيمُ العصا بالرجلِ والرجلَ بالعصا ... فما عدّلت ميلي عصايَ ولا رجلي) وقال محمود الوراقُ في ذم الخضاب: (يشيبُ الناسُ في زمنٍ طويل ... ولي في كلَ ثالثةٍ مشيبُ) (وأخفي الشيبَ جهدي وهو يبدو ... كما غطى على الريبِ المريبُ) وقلت: (جريت لعارضِ غيثِ الليالي ... تحالك لونه فابيضَّ جُلُّه) (وصرت تقصّ ما يبيضُ منه ... أتحلقه إذا ما ابيضَّ كلُّه) (تعزّ عن الشبيبةِ والهَ عنها ... فإن الليلَ ليسَ يدوم ظله) (وخلَ الشيبَ يضحكُ ناجذاهِ ... فإنَّ الصبحَ لا يخفى مطله) (وإن حلت عرى اللذاتِ فيهِ ... فلستَ بعاقدٍ ماجذ حبله)

الفصل الثاني من الباب الحادي عشر

(الفصل الثاني من الباب الحادي عشر) (في ذكر العلل والأمراض والمراثي والتعازي والزهد) أحسن ما قيل في الرمد قول الواثق أنشدناه أبو أحمد عن الصولي قال وجدتُ مع هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات من شعر الواثق بالله في خادم له قد اشتكت عينه: (لي حبيبٌ قد طال شوقي إليه ... لا أسميهِ من حذاري عليه) (لم تكن عينهُ لتجحدَ قتلي ... ودمي شاهدٌ على جفنيه) ومن ههنا أخذ هذا المعنى فتدوول قال ابن الرومي أو الناجم: (قالوا اشتكت عينهُ فقلتُ لهم ... من كثرةِ القتلِ مسها الوَصَبُ) (حُمرتها من دماء من قتلت ... والدمُ في النّصلِ شاهدٌ عجب) ومن بديع ذلك وغريبه ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي أيضاً: (يكسِر لي طرفاً به حمرةٌ ... قد خلطَ النّرجِسَ في وردهِ) (ما احمرت العينُ ولكنه ... يكحلها من وردتيْ خدِّهِ) أخذه من بعض أهل زمانه: (قالوا بدت في عينه حمرةٌ ... قد حازها من وردة الخد) (فقلت لم يرمد ولكنه ... يصافح النرجسَ بالوردِ) ومن مليح ما قيل في شكاية الحبيب قول العباس بن الأحنف: (زعموا لي أنها صارتْ تحم ... ابتلى الله بهذا من زعمْ) (اشتكتْ أكمل ما كانت كما ... يكسف البدر إذا ما قيل تم) ومما قيل في اصفرار اللون من العلة قول أبي تمام: (معدن الحسنِ والملاحة قد أصبح ... للسّقم مَعدِناً وقراراً)

(لم تشن وجهه الجميلَ ولكن ... حَملت ورد جنتيهِ بهارا) ونحوه قول أحمد ابن إسحاق الطالقاني: (لقد حلّتِ الحمّى بساحةِ خَدّهِ ... فأبدلتِ التّفاحَ بالسوسنِ الغضَ) والأصل في ذلك قول عبد نبي الحسحاس أخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو إسحاق الشطبي قال حدثنا ابن أبي سعيد قال حدثنا الخزامي قال حدثنا عبد الملك الماجشون عن يوسف بن عبد العزيز الماجشون قال كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان بن عفان: إني اشتريت لك عبداً حبشياً شاعراً. فكتب إليه عثمان لا حاجة لي فيه فإن قصارى الشاعر منهم أن يهجو أعراضهم ويشبب بكريماتهم فاشتراه بنو الحسحاس وكان يكسرُ في كلامه فقال يوسف فحدثني من رآه في شجرة واضعاً إحدى رجليه على الأخرى يقرض الشعر وينسب بأخبث نسيب ويقول: (ماذا يُريدُ السقامُ من قمرٍ ... كلُ جمالٍ لوجههِ تبعُ) (ما يبتغي خابَ من محاسنها ... أما لهُ في القباحِ متسّع) (لو كانَ يبغي الفداءَ قلتُ له ... ها أنا دونَ الحبيبِ يا وجع) ثم يقول لنفسه (أحسنك والله) يريدُ أحسنت. وكان كما حدث عثمان رضي الله عنه فإنه ما زال يهجو مواليه ويشبب بفتياتهم حتى قتلوه فضحكت منه امرأةٌ وقد ذهبوا ليقتلوه فقال فيها: (فإن تضحكي مني فيا ربَ ليلةٍ ... جعلتكِ فيها كالقباء المفرّجِ) وقال أيضاً: (ولقد تحدرَ من جبينِ فتاتكم ... عَرَقٌ على وجهِ الفراشِ وطيبُ) ومن عجيب ما يُروي له قوله يمدح نفسه: (إن كنتُ عبداً فنفسي حُرةٌ كرماً ... أو أسودَ اللونِ إني أبيضُ الخلقِ) وهذا أحسن ما مدح به أسود. ومن أحسن ما وصف به نحول العليل قول أبي نواس الحسن بن هانئ:

(يا قمراً للنصفِ من شهرهِ ... أبدى ضياءً لثمان بقين) ومن أحسن ما قيل في تهوين الحمى على المحموم قول محمد بن زياد الكاتب: (قالوا محمدٌ المحمدُ موجعُ ... والشمسُ تكسفُ ساعةً وتعودُ) (فلئن حُممت فلا حُممت فإنها ... داءُ الأسودِ وفي الرجالِ أسودُ) وهذا عندي أحسن من قول البحتري: (وما الكلبُ محموماً وإن طال عُمرهُ ... ألا إنما الحمى على الأسدِ الوردِ) على أنه معنى مولد وشئ تدعيه العامة ولا تعرف صحته. وقلت: (وقد سرَّني أني رأيتُكَ واطئاُ ... على عقبي داءٍ تراخَى فأدبرا) (وقد ظلّ يبغي رائدَ البرءِ مورداً ... لديكَ ويبغي فارِطَ السّقمِ مصدرا) (ولا غرْوَ أن يغشاك عارضُ علةٍ ... فإني رأيتُ الوردَ يغشى الغضنفرا) (ولو كنتَ نجماً ما كسفتَ وإنما ... كسوفُك إن أمسيتَ بدراً مُنوّرا) ومن ذلك قول علي بن العباس النونجتي: (لئنْ تخطّتْ إليك نائبةٌ ... حطّتْ بقلبي ثقلاً من الألمِ) (فالدهرُ لا بُدّ محدثٌ طبعاً ... في صفحتيْ كلِّ صارمٍ خَذمِ) وفي ألفاظ هذا البيت زيادة على معناه. وقال أيضاً في رجَل اعتل: (طالَ فكري تعجّباً لمصوغٍ ... ذهباً كان يقبلُ الأقذاءَ) (والحسامُ الهذاذ يزدادُ حُسناً ... كلما زادهُ الصقالُ جلاءً) والرغبة من هذين البيتين في معناهما وأما سبكهما ووصفهما فلا خير فيه والبيت الثاني أصلح والبيت الأول متكلف جداً. وقال عبد الصمد بن المعذل يذكر الحمى: (فطوراً ألقيها سُخنةً ... وطوراً ألقيها فَتره)

(وقد أعقبتْ خلفي حِدَّةً ... وأورثني إلفها ضجره) (للعبد إن غاظني لطمةٌ ... وللحرِّ إن ساءني زجره) (ويربو الطحالُ إذا ما شبعت ... فتعلوا الترائب والصدره) (وأمسى كأني من معدتي ... لبستُ ثيابي على ذُكره) (أسائلُ أهلي عن سحنتي ... وأمنحهم نظرةً نظره) (وأجزع إن قيل بي صفرةٌ ... وأشفقُ إن قيلَ بي حُمره) ومن أجود ما قيل في الفصد قول ابن الرومي: (أيها البدرُ لم تَزَل في كمال الأمرِ ... بدراً وفي النماء هلالاً) (كيفَ كانت عقبى افتصادك كانت ... صحةً مستفادةً واندمالا) (واعتدلاُ بينَ المزاج كما أوتيتَ ... في الخلقِ والخلاقِ اعتدالا) (فعلَ الله ذاك إنك ما زلت ... لمرضي ما ارتضى فعَّالا) وفي الفصد شعرٌ كثيرٌ ليس في أكثر ما مر بي مختارٌ إلا ما أنشدتهُ لعلي بن عبد العزيز الجرجاني: (ياليتَ عيني تحملتْ ألمكِ ... وليتَ نفسي تقسمتْ سقمكْ) (أو ليتَ كفّ الطبيب إذ فصدتْ ... عرقك أجرى من ناظريَّ دمك) (أعرتهُ حسنَ وجنتيك كما ... تعيره إن لثمتَ من لثمك) (طرفك أمضى من حدِّ مبضعهِ ... فالحظ بهِ العرقَ واغتنم ألمك) ومن مليح ما قيل في الزكام ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن أبي ذكوان الجرمي قال دعا عيسى بن علي عبد الله بن المقفع إلى الغداء فقال: أعزك اللهُ لستُ يومي هذا للكرام باكيل. قال ولم؟ قال لأني مزكومٌ والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. قال وكانت عجوز من بني عجل تقول: حقر من يحقر الزكام. ولم يمر بي في الصداع شئ مليح أثبته لك غير أني سمعت لبعضهم أبياتاً في صغر العمامة حتى أشبهت عصابة يعصب بها الصداع وهي هذه الأبيات:

(وقدّمتَ إلي وعداً بأنك مُلبسي ... ثياباً إليهنَ المحاسنَ تنسبُ) (فلا تكسني منهنَ إلا عمامةً ... بأمثالها الأمثالُ في النقص تضربُ) (يقولُ أناسٌ لي إذا ما لبستها ... أرأسك هذا من صداعُ معصبُ) على أن رصفها ليس بمختار. ولبشار بيت حسنٌ فيه ذكر الصداع وهو قوله: (حلَ من قلبهِ مَحَلَ شرابٍ ... يشتهى شربهُ ويخشى صُدَاعهْ) وقد قارب الآخر: (لطيرتي بالصداعِ نالتْ ... فَوقَ منالِ الصداعِ مِني) (وجدتُ فيهِ إتفاقَ سوءٍ ... صدَّعنّي مثل صدَّعني) وقلت في المعنى الأول: (يقومُ بقامةٍ كنواةِ قسبٍ ... وينشر لحية مثلَ الشراع) (عليهِ عمامةٌ قصرت وذفت ... فتحسبهُ تعصبَ من صُداعَ) وقال بعضهم في الجدري: (وجههُ للحسنِ معدنْ ... فتأملْ وتبيّنْ) (نقطٌ من جدري ... كدباقي معَيَّنْ) وأما النقرس فقد مربي فيه أبياتٌ جيادٌ أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن سوار بن أبي شراعة عن عبد الله بن محمد الدمشقي الكاتب عن محمد بن الفضل ابن إسماعيل بن علي بن عبد الله أن أبا الفضل ناله نقرس في رجله فدخل إليه أبوه إسماعيل يعوده فقال له كيف أنت يا بني؟ فقال: (أشكو إلى الله ما أصبتُ بهِ ... من ألمٍ في أناملِ القدمِ) (كأنني لم أطأ بها كَبِداً ... من حاسدٍ سرَّ قلبهُ ألمي) (والحمد لله لا شريكَ لهُ ... لحمي للأرضِ بعدها ودمي) (ما مِنْ صحيحٍ إلا ستنقله ... الايامُ من صحة إلى سقم) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن المبرد وأبي العيناء قال كان أبو علي الحرمازي

في ناحية عمرو بن مسعدة وكان يجري عليه فخرج عمرو إلى الشام مع المأمون وتخلف الحرمازي ببغداء لنقرس ناله فقال: (أقامَ بأرض الشام فاختلَّ جانبي ... ومطلبهُ بالشام غُير قريبِ) (ولا سيما من مفلسٍ حلفَ نقرس ... أما نقرسٌ في مفلسٍ بعجيب) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن زكريا قال ذكر أعرابي رجلاً قد أثرى فقال قد تنقرس، وذلك لقول الناس إن النقرس يعرض لذوي النعمة والترفة، ومنه قول الأعرابي: (فصرتُ بعدَ الفقرِ والتأيس ... يخشى عليَّ القومُ داءَ النقرسِ) ويقال للرجل العالمِ نقرس وللداهية نقرس قال الملتمس ( ... يخشي عليك من الحباء النقرس) ومن مليح النوادر ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن يموت بن المزرع قال حضر الجماز عند أبي يوماً ودخل رجلٌ فقال له ما أخرك عنا فقال أصابتني خلفه أما تري وجهي فقال الجماز ما أبين الاختلاف على وجهك. وقال المتنبي في الحمى: (وزائرتي كأنَ بها حياءً ... فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ) (جعلتُ لها المطارفَ والحشايا ... فعافتها وباتتْ في عظامي) (إذا ما فارقتني غسَّلتني ... كأنا عاكفانِ على حرام) وهذا البيت معيب لأن الغسل غير مقصور على الحرام وحده بل هو من الحلال والحرام جميعا فليس لتخصيص الحرام به وجه. وقلت في حمى نالتني: (وأخبر أني رحتُ في حلة الضنى ... لياليَ عشراً ضامها اللهُ من عشرِ) (تنفضني الحمَّى ضحى وعشيةً ... كما انتفضتْ في الدجنِ قادمتيْ نَسر) (تذرُ عليّ الورس في وضح الضحى ... وتبدله بالزعفرانِ لدَى العصرِ) (إذا انصرفتْ جاء الصداع مشمراً ... فأربى عليها في الأذيةِ والشرَ) (وتجعل أعضائي عيوناً دوامعا ... تواصل بين السكب والسجم والهمرِ) (فتحسبه طلاًّ على أقحوانة ... وعهدي به يحكي حباباً على حمر)

(ولما تمادتْ عذتُ منها بحميّة ... كمنْ ترك الرمضاء وانفل في الجمر) (وما منها إلا بلاءٌ وفتنةٌ ... وضرُ على الأحرار يا لك من ضر) من مرض لمرض الجفون: أنشدني أبو أحمد عن الصولي قال أنشدني أبو عبيد الله ابن عبد الله لنفسه: (تمارضتَ لما لم تكنْ لك علةٌ ... وقلتَ شهيدي ما بطرفي من القسم) (فلا تجعلنْ سقماً بطرفك علةً ... فقد كانَ ذاك السقم في صحةِ الجسمِ) وقال غيره: (أحببتُ من أجلهِ منْ كان يشبهه ... وكلُ شئ من المعشوقِ معشوق) (وقد حلبت بجسمي سُقْم مقلته ... كأنَّ جسمي مِن عينيهِ مسروق) وقال الأخطل: (كيف يضني بعد ما ... كان الضَّنى عوناً لعينهْ) وقال ابن الرومي وقد مرض فتخلفَ اخوانه عن عيادته: (عليلكم لا يعادُ من عللهْ ... وضيفكم لا يسَدّ من خللهْ) (لا إن جفوتم دنا المماتُ ولا ... إن زُرتمُ تنسؤنَ في أجلهْ) (ما ضرَ مجفوَّكم جفاؤكمُ ... بالأمس في جسمه ولا أملهْ) وأنشدني أبو أحمد عن الصولي لمحمد بن محمد بن إبراهيم اليزيدي: (مالي مرضتُ فلم تعدْ ... ورغبتُ فيك فلم تُجد) (الحبُ يذهبهُ الأذى ... فاحذرْ عليه ولا تعد) وهذا شعرٌ مطبوعٌ مختار، والبيت الأخير مأخوذ من قول الأعرابي: (فإني رأيتُ الحبَ في القلبِ والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبُ يذهبُ) وقلت: (وقد عادني الأخوانُ من كلِّ جانب ... وما قصروا في العرفِ والفضل والبرَ) (فلمْ لم تكنْ فيهم فيكمل حسنهم ... أيا ظالماً أخلى النجومَ من البدرِ) (وإذ كنتَ لم تنهضْ إليَّ ولم تكد ... فلم لمْ تسلْ عني فتخبر عن أمري) (ومالك لم تبعثْ إليَّ بأسطرٍ ... تمجمجها إحدى يمينك في ظهر)

(تضنُ بتسليم وزرةِ ساعةٍ ... فكيف يُرحي جودُ كفيك بالوفر) (فإن كنتَ لا تبقي على الحال بيننا ... فهلا تخاف سوء بادرةِ الشعرِ) (إذا لمْ تكونوا للحقوقِ فمنْ لها ... وأنتم كرامُ الناسِ في البدوِ والحضر) (وأنتَ إذا أنحيتَ تفري أديمَها ... فما ذنبُ ذي جهلٍ فرَى مثلَ ما تفري) (وما لعداة العلم تذكرُ عيبهم ... وأنت على أمثالِ غايرهم تجري) ومن الغريب البديع مدح الموت وهو قول ابن الرومي: (قد قلت إذْ مدحوا الحياةَ فأكثروا ... للموتِ ألفُ فضيلةٍ لا تعرفُ) (فيها أمانُ لقائهِ بلقائهِ ... وفراقُ كلِّ معاشرٍ لا يُنصِفُ) ومن أحسن ما قيل في مكابدة النفس عند الموت قوله أيضاً: (بات الأميرُ وباتَ بدرُ سمائنا ... هذا يُودَّعنا وهذا يكسفُ) ولعل ذلك مأخوذٌ من قول الأول: (ألمْ يبلغك والأنباء تنمى ... وللدنيا بأهليها صروفُ) (صريعٌ لم يُوسدهُ قريب ... ولم يشركه في الشكوى أليفُ) (يظلُ كأنه قمرٌ منيرٌ ... يجولُ على محاسنهِ كسوفُ) ولهذا البيت رونقٌ عجيبٌ وطلاوة حسنة. ومن عجيب ما جاء في وصف المصيبة قول حذيفة بن اليمان: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً إلا صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة فأنها خلقت كبيرة ثم تصغر. وهذا قول مصيبٌ لا يتمارى به ومنه أخذ قوله: (وكما تَبلى وجوهٌ في الثّرى ... فكذا يَبلى عليهنَ الحزنُ) ولا أعرف في التعزي عن المصيبة كاملاً أحسن تقسيماً من قول الأعرابي ومات له ثلاثة بنين في يوم واحد فدفنهم وعاد إلى مجلسه فجعل يتحدث كأن لم يفقد واحداً فليمَ على ذلك فقال: ليسوا في الموت ببدع ولا أنا في المصيبة بأوحد ولا جدوى للجزع فعلام تلومونني. فهذه الثلاثة الأقسام لا رابع لها.

وعزي رجل رجلاً وقد ولدت امرأته ابناً وماتت في نفاسها فقال أعظم الله أجرك فيما أبادو أجزل حظك فيما أفاد. ولا أعرف أحداً أجاد هذا المعنى كما أجاده عبد الملك بن صالح الكاتب: أخبرنا أبو أحمد عن الصولي قال قيل للرشيد إن عبد الملك بن صالح يعد كلامه ويفكر فيه فلذلك بانت بلاغته فأنكر ذلك الرشيد وقال هو طبعٌ فيه ثم أمسك حتى جاء يوماً ودخل عبدُ الملك فقال للفضل بن الربيع إذا قرب من سريري فقل له ولد لأمير المؤمنين في هذه الليلة ابنُ ومات له ابنٌ فقال له الفضل ذلك فدنا عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين سرك الله فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجعلها واحدة بواحدةٍ ثواب الشاكرين وأجر الصابرين. فلما خرج قال الرشيد أهذا الذي زعموا أنه يتصنع للكلام ما رأى الناس أطبع من عبد الملك في الفصاحة قط. وعزي أعرابي رجلاً قفال لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. أحسن ما قيل في مدفون قول ابن الرومي في بستان جارية أم علي بنت الراس: (لله ما ضمنتْ حفيرتُها ... من حُسنِ مرأىً وطُهر مُختبرِ) (أضحتْ من الساكني حفائرِهمْ ... سُكنى الغوالي مداهنَ السررِ) (لو علمَ القبرُ من أتيحَ لهُ ... لانخفضَ القبرُ غير محتفرِ) وهذا البيت مأخوذ من قول الأول: (لو علمَ القبرُ من يواري ... تاهَ على كلِّ مَنْ يليه) وقالوا أحسن مرثيه للعرب ابتداءً قول أوس بن حجر: (أيتها النفسُ أجملي جَزَعاً ... إن الذي تحذرينَ قد وقعا) وأحسن مرثية لمحدث ابتداءً قول أبي تمام الطائي: (أصمَّ بك الداعي وإن كانَ اسمعا ... وأصبحَ مغنى الجودِ بعدك بلقعا) فقال فيها: (فتىً كان شرباً للعفاةِ ومرتعى ... فأصبح للهنديةِ البيضِ مرتعا)

(إذا ساءَ يوماً في الكريهةِ منظراً ... تصلاهُ علماً أن سيحسنُ مسمعا) (فإن ترم عن عمرٍ تدانى به المدى ... فخانك حتى لم يجدْ فيك منزعا) (فما كنتَ إلا السيفَ لاقي ضربيةً ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا) وقالوا أرثى بيت قالته العرب قول متمم بن نويرة في أخيه مالك قتل في الردة قتله خالد بن الوليد: أخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا أبو بكر بن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال كان متمم بن نويرة قدم العراق فأقبل لا يرى قبراً إلا بكى عنده فقيل له يموت أخوك بالملا وتبكي على قبره بالعراق! فقال: (لقد لامني عندَ القبورِ على البكا ... رفيقي لتذرافِ الدموع السوافك) هذا البيت غير مختار الرصف عندي وفي ألفاظه زيادة على معناه: (أمنْ أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائحٌ ... على كلَ قبر أو على كلَ هالكِ) (فقلت له أنَ الشجي يبعثُ الشجى ... فدعني فهذا كلهُ قبرُ مالك) يقول قد ملأ الأرض مصابه عظماً فكأنه مدفون بكل مكان. وهذا أبلغ ما قيل في تعظيم الميت. ومنه أخذ القائل قوله أخبرنا به أبو أحمد عن ابن الأنباري عن ثعلب عن الرياشي لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز وهو عندي من أرثى ما قيل: (لهفي عليك للهفة من خائف ... كنتَ المجيرَ لهُ وليسَ مجيرُ) (عمتْ صنائعهُ فعمَ مصابهُ ... فالناسُ فيهِ كلهم مأجورُ) (فالناسُ مأتمهمْ عليهِ واحدٌ ... في كلَ وادٍ رنةٌ وزفيرُ) (يثني عليك لسان من لم تولهِ ... خيراً لأنك بالثناءِ جدير) (ردَّتْ صنائعه إليه حياتَه ... فكأنه من نشرها منشورُ) والصحيح أن يقول (منشرٌ) لأنه يقال أنشر الله الموتى فنشرواهم. وقالوا أرثى بيت قالته العرب قول المحدث: (على قبرهِ بينَ القبورِ مهابةٌ ... كما قبلها كانَتْ على صاحبِ القبرِ)

وقالوا بل قول الآخر: (أرادوا ليخفوا قبرهُ عن عدوهِ ... فطيبُ ترابِ القبرِ دلَ على القبرِ) وقالوا أرثاه قول ابن مناذر: (أنعى فتَى الجودِ إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجودِ) (أنعى فتًى مصَ الثرى بعده ... بقيّة الماءِ من العودِ) وأخبرنا أبو أحمد قال سمعت محمد بن يحيى قال سمعت محمد بن يزيد يقول لو سئلتُ عن أحسن أبيات تعرف في المراثي لم أختر على أيبات الخريمي: (ألم ترني أبني على الليث بنيةً ... وأحثي عيلهِ التربَ لا أتخشعُ) (وأعددته ذُخراً لكلَ ملمةٍ ... وسهمُ المنايا بالذَّخائرِ مُولعُ) (وأني وإن أظهرتُ مني جلادةً ... وصانعتُ أعدائي عليه لموجعُ) (ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتهُ ... عليهِ ولكن ساحةُ الصبرِ أوسع) وقال أبو عمر بن العلاء أرثى بيت قول عبدة: (فما كانَ قيسٌ هلكهُ هلك واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما) وقال خلف الأحمر أرثى بيت: (الآن لما كنتَ أكمل من مشى ... وافتر نابك عن شباة القارح) (وتكاملت فيك المروءة كلها ... وأعنتَ ذلك بالفعالِ الصالح) وقال الأصمعي أرثى بيت للعرب: (ومن عجبٍ أن بتَ مستشعرَ الثّرى ... وزدت بما زودّتني مُتمتعا) (ولو أنني أنصفُتك الودَ لم أبتْ ... خلافك حتى ننطوي في الثرى معا) ومن أحسن ما قيل في بقايا آثار الميت قول الحسين بن مطير: (فتى عيشَ في معروفهِ بعدَ موتهِ ... كما كانَ بعدَ السيلِ مجراه مرتعا)

وفي هذه القصيدة: (أيا قبرَ معنٍ كنت أولَ حفرةٍ ... من الأرض خطتْ للسماحة مضجعا) (ويا قبرَ معن كيفَ واريتَ شخصه ... ولو كان حياً ضقتَ حتى تصدعا) (فلما مضى معنٌ مضى الجودُ والندى ... وأصبحَ عرنينُ المكارم أجدعا) وأنا أقول إن هذه الأبيات أرثى ما قيل في الجاهلية والاسلام. وقالوا أرثى بيت قيل قول مهلهل في كليب: (نبئتُ أنَّ النارَ بعدك أوقدتْ ... واستبَّ بعدك يا كليبُ المجلسُ) (وتكلموا في أمر كلَ عظيمة ... لو كنتَ شاهدهم إذاً لم ينبسوا) وكان كليب إذا أوقد ناراً لم يوقد أحدٌ ناراً ولم ينزل ضيفٌ إلا عليه وإذا جلس مجلساً لم يتكلم فيه أحد إلا هو. وقالوا أحسن ما قيل في المراثي قول متمم بن نويرة في أخيه مالك: ( ... وكن كندْمانَي جذيمةَ حقبةً ... من الدهرِ حتى قيلَ لن نتصدعا) (فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا) وليس في المحدثين أحسن مراثي من أبي تمام فمن ذلك قوله: (غدا غودة والمجدُ نسجُ ردائِه ... فلم ينصرفْ إلا وأكفانهُ الأجرُ) (فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجلهُ ... وقال لها من تحتِ أخمصكِ الحشر) (فتى ماتَ بينَ الضّربِ والطعن ميتةً ... تقومُ مقامَ النصرِ إنْ فاتَه النصرُ) (فتى سلبتْه الخيلُ وهو لها حمى ... وبزتهُ نارُ الحربِ وهو لها جمر) (كأن بني نبهانَ يومَ وفاتهِ ... نجومِ سماءٍ خرَ من بينها البدرُ) (مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَِ روضةٌ ... غداةَ ثوى إلا اشتهتْ إنها قبرُ) (وكيف احتمالي للسحاب صنعية ... بإسقائه قبراً وفي لحدهِ البحرُ) ولولا كراهة الإطالة لا وردت القصيدة كلها إذ ليس فيها إلا مختارٌ.

وقوله في إدريس بن بدر السامي: (أإدريسُ ضاع المجدُ بعدك كلُّه ... ورأي الذي يرجوهُ بعدك أضيعُ) (وضلَ بك المرتادُ من حيث يهتدي ... وضرت بك الأيامُ من حيث تنفعُ) (وتبسطُ كفاً في الخطوبِ كأنما ... أناملُها في البأسِ والجودِ أذرعُ) (ولم أنسَ سعي الجود حول سريره ... باكسسفِ بالٍ يستقيمُ ويظلعُ) (وقد كانَ يدعى لابس الصبرِ حازماً ... فقد صار يُدعى حازماً حين يجزعُ) وقوله في بني حميد: (عهدي بهم تستنيرُ الأرضُ إن نزلوا ... فيها وتجتمعُ الدنيا إذا اجتمعوا) (ويضحكُ الدهرُ منهم عن غَطارفةٍ ... كأنَ أيامَهم منْ أُنسِها جُمع) (فيما الشماتة إعلاناً بأسدِ وغى ... أفناهُم الصبرُ إذْ أبقاهم الجزعُ) وقوله أيضاً: (إذا فقدَ المفقودُ من آل مالكٍ ... تقطعَ قلبي رحمةً للمكارمِ) (خليليَّ من بعد الأسى والجوَى قفا ... ولا تقفا فيضَ الدُّموع السّواجمِ) (ألمّا فهذا مصرعُ البأسِ والندى ... وحسبكما إن قلتُ مصرعُ هاشمِ) (ألم تريا الأيامَ كيفَ فجعننا ... به ثمَّ قد شاركننا في المآتمِ) (خطوْنَ إليه من نداهُ وبأسِه ... خلائق أوقى من سيور الثمائم) وقد كثرت علة محاسنه في هذا الباب فما أدري ما أوردُ وما أترك. وقد أحسن القائل: (وسميته يحيى ليحيا ولم يكنْ ... إلى ردَ أمرٍ الله فيهِ سبيلُ) (تيممتُ فيه الفالَ حين رزُقته ... ولم أدرِ أنَّ الفالَ فيه يفيلُ) وأخذ أبو تمام قول الفرزدق في جارية له ماتت وفي بطنها غلام: (وجفن سلاح من معدّ رُزئته ... ) والبيت: (وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أنَ الليالي أنسأته لياليا)

وكان وجه الكلام أن يقول (وفي جوفه ذو حفيظة من دارم) فقال أبو تمام وزاد زيادة أسقط بها بيت الفرزدق حتى صار لا قيمة له معها وهو قوله في ابنين لعبد الله بن طاهر قد ماتا صغيرين في يومٍ واحدٍ: (نجمانِ شاءَ الله أن لا يطلعا ... إلا ارتدادَ الطرفِ حتى يأفلا) (إن الفجيعةَ بالرياض نواضراً ... لأجل منها بالرياضِ ذوابلا) (لو ينسيان لكان هذا غاربا ... للمكرماتِ وكانَ هذا كاهلا) (لهفي على تلك الشواهدِ فيهما ... لو أمهلتْ حتى تكونَ شمائلا) (لغدا سكونُهما حِجاً وصباهما ... حِلماً وتلك الأريحيّةُ نائلا) (إنَّ الهلالَ إذا رأيتَ نموَّهُ ... أيقنتَ أن سيكون بدراً كاملا) ثم قال يوسيه: (إن ترزَ في طَرفيْ نهارٍ واحدٍ ... رُزءين هاجا لوعة وبلابلا) (فالثقل ليس مضاعفاً لمطيةٍ ... إلا إذا ما كان وهماً بازلا) ثم قال أيضا: (شمخت خلالك أن بؤسيك مرء ... أو أن تذكّرَ ناسياً أو غافلا) (إلا مواعظ قادها لك سمحة ... أسجاج لُبِّك سامعاً أو قائلا) (هل تكلفُ الأيدي بهزّ مُهّندٍ ... إلا إذا كان الحسامُ الفاصلا) وقالوا ليس للعرب مرثية أجود من قصيدة كعب بن سعد التي يرثي فيها أخاه أبا المغوار ويقول فيها: (أتى دونَ حلوِ العيشِ حتى أمرهُ ... نكوبٌ على آثارهنَ نُكوبُ) (هوتْ أمهُ ما يَبعثُ الصبحُ غاديا ... وماذا يؤدِّي الليلُ حينَ يؤوبُ) (حليمٌ إذا ما الحلم زين أهلَه ... مع العلمِ في عينِ العدوِّ مهيبُ)

(هوتْ أمهُ ماذا تضمنَ رحلهُ ... من الجودِ والمعروف حينَ ينوب) (فتى أريحي كيف يهتزُّ للندى ... كما اهتزَّ من ماءِ الحديدِ قضيب) (حليفُ الندى يدعو الندَى فيجيبهُ ... قريباً ويدعوه الندَى فيجيب) (فإن تكنِ الأيامُ أحسنَ مرَّة ... إليّ فقد عادتْ لهنَ ذنوبُ) (وحدَثتماني إنما الموتُ بالقرى ... فكيف وهذي هضبةٌ وكثيبُ) وقال فيها: (وداعٍ دعانا من يجيب إلى الندى ... فلما يجبه عند ذاك مجيب) (فقلت ادع أخرى وارفض الصوتَ مسمعا ... لعلَ أبا المغوارِ منك قريبٌ) ومن عجيب المراثي قول الرقاشي في البرامكة: (الآن استرحنا واستراحتْ ركابنا ... وقلَ الذي يجدي ومن كان يجتدي) (فقلْ للمطايا قد أمنتِ من السُّرَى ... وطيِّ الفيافي فدفداً بعد فدفدِ) (وقلْ للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولن نظفري من بعدهِ بمسّود) (وقلْ للعطايا بعدَ فضل تعطلي ... وقل للرزايا كلّ يوم تجدَّدي) (ودونك سيفاً برمكياً مُهنّداً ... أصيبَ بسيفِ الهاشميّ المهندِ) ومن جيد المراثي قول الآخر: (سأبكيك للدُّنيا وللدِّين أنني ... رأيتُ يدَ المعروفِ بعدك شلتِ) (ربيعٌ إذا ضنَ الغمامُ بمائهِ ... وليثٌ إذا ما المشرفيةُ سلتِ) وقد أحسن أبو الحسن بن الأنباري القول في ابن بقية حين صلب: (عُلوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ ... بحقٍ أنتَ إحدى المعجزات) (كأنَّ الناسَ بعدك حينَ قاموا ... وفودُ نداك أيامَ الصلات) وهذا البيت مأخوذٌ من قول ابن المعتز في عبد الله بن سليمان حين توفي: (وصلوا عليه خاشعين كأنهم ... قيامٌ خضوعٌ للسلامِ عليه)

(كأنك قائمٌ فيهم خطيباً ... وكلهمُ قيامٌ للصلاتِ) (مددتَ يديك نحوهمُ جميعا ... كمدِّكها إليهمْ بالهباتِ) (ولما ضاقَ بطنُ الأرضِ عن أن ... يضمَّ عُلاك من بعدِ المماتِ) (أصاروا الجوَّ قَبرك واستنابوا ... عن الأكفانِ ثوبَ السافياتِ) (فلم أرَ قبلَ جذعِك قطُ جذعاً ... تمكنَ من عناقِ المكرماتِ) ومن جيد ما قيل في عظم شأن الميت قول ابن المعتز: (هذا أبو القاسم في نعشهِ ... قوموا انظرُوا كيف تزولُ الجبالُ) وقول أبي تمام: (بني مالك قد نيّهَتْ خاملَ الثرى ... قبورٌ لكم مستشرفات المعالمِ) (رواكد قيد الكفَ من متناولٍ ... وفيها عُلاً لا يرتُقى بالسلالمِ) وقلت: (سائل القبرَ كيفَ أضمرتَ قدساً ... وأباناً ويَذّبُلاً وحراءَ) (من رأى البدرَ بالتراب توارَى ... أو على ذروةِ النعوشِ تراءى) وقال ابن المعتز وأحسن: (تعالوا نزر قبر السماحةِ والرفد ... ولا نعتذر من دمعِ عينٍ على خدِّ) (لقد عشتَ لم يَعَلَقْ بفعلكِ ذمةٌ ... ومتَ على رغمِ المحامدِ والمجدِ) وقال أيضاً: (ألستَ ترى موتَ العلى والمحامد ... وكيفَ دفّنا الخلقَ في قبر واحدِ) (وللدَّهرِ أيامٌ يُسئنَ عوامداً ... ويحسنَ إن أحسنَّ غيرَ عوامدِ) وقال دعبل بن علي الخزاعي: (حنطتهُ يا نَصرُ بالكافور ... ورفعتهُ للمنزلِ المهجورِ) (هلاّ ببعضِ خلالهِ حنطتهُ ... فيضوعُ أفقُ منازلٍ وقبورِ)

وقلت: (على الرغم من أنف المكارم والعلى ... غدتْ داره قفراً ومغناه بلقعا) (ألم ترَ أن البأسَ أصبحَ بعدهُ ... أشلَ وأنَ الجودَ أصبحَ أجدعا) (فمرا على قبرِ المسودِ وانظرا ... إلى المجدِ والعلياءِ كيف تخشعا) (فإن يكَ واراه الترابُ فكبّرا ... على الجودِ والمعروفِ والفضلِ أربعا) (ولا تسأما نَوْحاً عليهِ مُكرَّراً ... ونَوحاً لفقدِ العارفاتِ مُرجّعا) (فما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحد ... ولكنّه بنيانُ قوم تضعضعا) (ولا تحسبا أني أواريهِ وحدهُ ... ولكنني واريتهُ والنَّدَى معا) ومن بارع المراثي قول ديك الجن الحمصي: (ماتَ حبيبٌ فمات ليثٌ ... وغاضَ بحرٌ وباخَ نجمُ) (سَمَتْ عيونُ الرَّدَى إليهِ ... وهي إلى المكرماتِ تسمو) (ما أمك اجتاحتِ المنايا ... كلُ فؤاد عليك أمُّ) ومما جاء في صفة القبر قول الشاعر: (ورَسمُ دارٍ مُقفرُ الجنابِ ... يزدادُ عُمراناً على الخرابِ) وقالوا أصدق ما قيل في صفة الدنيا قول أبي نواس: (إذا إمتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشَّفتْ ... له عن عدوٍ في ثيابِ صديقِ) وهو مأخوذٌ من قول جرير في وصف النساء: (دعينَ الهوى ثم ارتمينَ قلوبنا ... بأسهم أعداءٍ وهنَ صديق) وقالوا بل أصدق ما قيل في صفة الدنيا قول الأول: (حُتوفها رصدٌ وعيشُها نكدٌ ... وصفوها رتقٌ وملكُها دُوَلُ) وقلت: (ما بالُ نفِسك لا تهوَى سلامتَها ... فأنت في عَرَضِ الدنيا ترغبها) (دارٌ إذا أتتِ الآمالُ تعمُرها ... جاءت مقدمةُ الآجالِ تخرِبها) (أصبحتَ تطلبُ دنيا لستَ تدركُها ... فكيف تُدركُ أخرى لستَ تطلبها) ومن جيد ما قيل في الزهد قول ابن المعتز:

(نسيرُ إلى الآجال في كلِّ لحظةٍ ... وأيامُنا تطوَى وهنَ مراحلُ) (ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كأنه ... إذا ما تخطته الأمانيُّ باطل) وقلت: (ألستَ تَرى موتَ العلا والفضائل ... وكيفَ غروبُ النجم بين الجنادلِ) (فما للمنايا أغفلتْ كلَ ناقصٍ ... ونقبنَ في الآفاقِ عن كلَ فاضل) (على الرِّغم من أنفِ العُلا سبقَ الرَّدَى ... بكلَ كريمِ الفعلِ حرِ الشمائل) (على أنَ من أبقتهَ ليسَ بخالدٍ ... وليسَ امرؤٌ يرجو الخلودَ بعاقل) (رأيتُ المنايا بينَ غادٍ ورائحٍ ... فما للبرايا بينَ ساهٍ وغافل) (ولم أرَ كالدنيا حبيباً مضرةُ ... ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كباطلِ) وقال ابن المعتز: (كم بدارِ الموتِ من ذي إرْبَة ... عجزتْ منهُ على الموتِ الحِيَلْ) (ومُلوك بليتْ أيديهم ... ولقد كانت مطايا للقبل) وقلت: (فتعجبتُ كيفَ لانحذرُ الموت ... وأنفاسُنا خُطانا إليه) وقرأت للجاحظ كلاماً مفقود النظير معدوم الشبيه لا أعرف لأحد مثله وهو: أيها المستدل على أمور الدنيا كفاك بها على نفسها دليلاً ويومها لك من غدها تشبيهاً وتمثيلاً تالله لقد أطلعتك بمؤتلفاتها على حدوث تأليفها وأثبتت لك الصانع بآثار صنعته فيها ووقفتك على معرفة كمالها بما توافى فيك من أجزائها ودلتك بتحليل المركبات فيها على انحلال تركيبها. ووقفتك بقطع الشمس والقمر قطرها على إدبارها وانقطاعها فكشف لك انتهاء حدودها عن تناهي أمدها وأبان لك دؤوب اطراد نهارها وليلها وتتابع دوران بروجها ونجومها وتعاقب أزمنة بردها وحرها واعتدالها وحركات نيرانها ورياحها ومياهها أنه مسوقة محثوثة إلى أمدها كما تحث براياها بالأوقات الجارية إلى آجالها. ثم قال وتحدث ما تخوفك به طوارق أحداثها وتوطنك على إيطان جثمانها حدثاً من أحداثها لا تمسك منها بعروة إلا شهدت على أشكالها فأية نصيحة أصدق لك من نصيحتها أوعظة أشفى

وأبلغ من عظتها أو شهادة أصح وأعدل من شهادتها بالفناء على نفسها، ألم تر أجزاءها مؤتلفة بالاجتماع مختلفة بالطباع يهلك بعضها بعضاً ويعود إبرامها نقضاً، فيا ناسياً للصخر وتهدمه وللحديد وتثلمه واثقاً ببقاء لحمه ودمه ومساعفاً لشبقه وقرمه إذكر أن جسدك وشيكا مفارقك وأنه وإن جددته مخلقك وأنك تطلقه في شهواته ويوثقك وتبقى عليه من التعب ويوبقك ففيم تشتغل به عن مصلتحك وعلام تتكل في عقبيك إلى أن قال وتقوى على الزهد فيما يتنافسه الجهال بذكر الموت وفجأته وبغتاته ووضوح آياته وغموض ميقاته وانخذال المحالة عن دفعه ويأس النفوس من منعه عند غوصه عليها في الأبدان وتخليله لها من الأعظم والأعصاب والعروق واللحم والإهاب حتى يسوقها من الإغماض والأوصال سياق رهاق مضيق للخناق محقق للفراق مؤيس من التلاق عند إحساسه بموت جسده عضواً فعضواً وفقدان قوته جزءً جزءً وهي تمرح في الصدر حشرجة وفي الجوانح رجرجة وفي اللهوات غرغرة وفي الحلقوم خرخرة بالنزع الجاذب والعلن الكاذب والفواق الدائب والأنفاس الذواهب فهناك تنفس الصعداء وتوقد البرحاء وفي سمعه وبصره بقية يرمق بها أولاده يتامى ونساءه أيامي وأمواله نهبى وجموعه شتى ووجوه الشامتين به مشرقة والدموع من أحبته مستبقة والجيوب عليه مشققة والشعور مقطعة والخدود باللطم مبقعة وذلك غير عائد عليه ولا عليهم بمنفعة في كلام طويل. ومن جيد ما قيل في إفضاء السلامة بصاحبها إلى الهلاك قول النمر بن تولب: (تداركْ ما قبلَ الشبابِ وبعدَهُ ... حوادثَ أيامٍ تمرُ وأغفل) (يودُ الفتى طولَ السلامةِ والغنى ... فكيفَ ترى طولَ السلامة يفعل) (يُرَدُّ الفتى بعد اعتدالٍ وصِحّةٍ ... ينوءُ إذا رام القيامَ ويحمل) وقيل لرجل من الأوائل: ما كان سبب موت أخيك؟ قال كونه فأحسن ما شاء. وقال بعضهم في معناه: (ما بالُ من آفته بقاؤهُ ... نغصَ عيشي كله فناؤهُ)

وقال آخر في نحوه: (فإنَّ الداء أكثر ما تراهُ ... من الأشياء تحلو في الحلوقِ) ومن جيد ما قيل في موت الولد قول ابن الرومي: (بكاؤكما يشفي وإن كانَ لا يجدي ... فجودا فقد أودي نظيركما عندي) (توفى حمامُ الموتِ أوسطَ صبيتي ... فللَّه كيفَ اختارَ واسطةَ العقدِ) (طواهُ الرّدَى عني فأضحى مَزَارهُ ... بعيداً على قرب قريباً على البعدِ) (عجبت لقلبي كيفَ لم ينفطِرْ له ... ولو أنه أقسى من الحجر الصَّلدِ) (وما سرَّني أن بعتهُ بثوابهِ ... ولو أنه التخليد في جنةِ الخلدِ) (ولا بعتهُ طوعاً ولكنْ غُصِبتُه ... وليسَ على ظلمِ الحوادثِ من مُعدي) وأما موت الأخ فقد روينا فيه خبراً مليحاً أخبرنا به أبو طاهر محمد بن يوسف قال أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن بكر قال حدثنا أيوب بن سليمان قال حدثني يوسف قال حدثنا صهيب بن محمد قال حدثنا إسماعيل بن عمرو قال حدثنا إسماعيل ابن عياش عن عبد الله بن دينار قال قدم لقمان من سفرٍ فلقى غلاماً له فقال له فعل أبي؟ قال مات قال ملكت أمري فما فعلت أمي؟ قال ماتت قال ذهب همي قال فما فعلت أختي؟ قال ماتت قال سترت عورتي قال فما فعلت امرأتي؟ قال ماتت قال جدد فراشي قال فما فعل أخي؟ قال مات قال: أوه انقطع ظهري انتهى. وذكر قدامة بن جعفر أن أبا جعفر المنصور لمادفن ابنه جعفر الأصغر قال للربيع كيف قال مطيع بن إياس فأنشده: (يا أهل بكوا لقلبي القرح ... وللدموع الذوارفِ السفيح) (راحوا بيحي ولو تطاوعني ... الأقدار لم تبتكرْ ولم ترحِ) (يا خيرَ من يحسن البكاء له ... اليوم ومنْ كانَ أمسِ للمِدَحِ) (قد شمتُ الحزنَ بالسرورِ وقد ... أديلَ مكروهُه من الفرحِ)

فبكى المنصور ثم قال: صاحب هذا القبر أحق بهذا الشعر، ثم أذن للناس فدخلوا ونصبت الموائد فلم يقدر أن يمد يده من الجزع الذي كان خامره فقام شبيب بن شيبة فأنشده قول الثقفي في ابنه علي وكان شرطة عبيد الله بن العباس باليمن فقتله بشر بن أرطأة فقال يرثيه: (لعمري لقد أوْدَى ابنُ أرطأةَ فارساً ... بصنعاءَ والليث الهزبر أبي الأجر) (تأملْ فإن كانَ البكا رَدَّ هالكاً ... على أحدٍ فاجهدْ بُكاك على عمرِو) فسري عنه وأكل مع الناس ورفع الحزن مع رفع الطعام. ومن عجيب المراثي قول الأشجع: (مضى ابن سعيد حين لم يبقَ مشرقٌ ... ولا مغربٌ إلا لهُ فيهِ مادحُ) (وما كنتُ أدري ما فواضلُ كفه ... على الناس حتى غيبتهُ الصفائحُ) (فأصبحَ في لحدٍ من الأرضِ ميتاً ... وكانَ بهِ حياً تضيقُ الأباطحُ) (سأبكيك ما فاضتْ دُمُوعي وإن تغض ... فحسبك مني ما تحنُ الجوانحُ) (كأنْ لم يمتْ حيٌّ سِواكَ ولم تقمْ ... على أحدٍ إلا عليك النوائحُ) (لئن حسنتْ فيك المراثي وقيلها ... لقد حسنتْ من قبلُ فيك المدائحُ) (وما أنا من رزءٍ وإن جَلّ جازعٌ ... ولا بسرورٍ بعدَ موتك فارح) وأنشدنا أبو قاسم عبد الوهاب بن إبراهيم قال أنشدنا العقدي قال أنشدنا أبو جعفر عن المدائني لعرفجة بن شريك يرثي أوساً: (رأيتُ المنايا تصطفي سَرَواتنا ... كأنَّ المنايا تبتغي من تفاخِره) (فما كانَ قيسٌ عاجزاً غير إنهُ ... حمى أنفه من أن يضيعَ مجاورُه) (وطابَ لوردِ الموتِ نفساً ولم يخمْ ... وقد ضاقَ بالنكس اللئيم مصادِرُه) (فصادفَ رق الموت حراً سميدعاً ... إذا سئلَ المعروفَ لانت مكاسره) (حمى أنفه أوس ولم يثن وجههُ ... ويفني الحياءُ المرءَ والرمح شاجِره) ومن ههنا أخذ أبو تمام قوله:

هذا كتاب المبالغة

(وقد كان فوتُ الموت سهلاُ فردَّهُ ... عليهِ الحفاظ المرُ والخلقُ الوعرُ) وعزى ابن السماك الرشيد عن ابن له مات فقال: أما بعد فإن استطعت أن يكون شكرك الله حين أخذه أكثر من شكرك لله حين وهبه فافعل فإنه حين قبضه أحرز لك هبته ولو بقي لم تسلم من فتنته، عجباً لجزعك على ذهابه وتلهفك على فراقه أرضيت الدار لنفسك فترضاها لولدك أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت معلقاً بالخطر والسلام. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداًُ لا يحصى عدده ولا يبلغ أمده، وصلواته على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين المختارين وسلم. (هذا كتاب المبالغة) (في صفة أشياء مختلفة يختم بها كتاب ديوان المعاني وهو:) 3 - (الباب الثاني عشر منه فأول ذلك) (القول في الحنين إلى الأوطان) أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان قال قال أبو سرح سمعني أبو دلف أنشد: (لا يمنعنك خفضُ العيشِ في دعةٍ ... نزوعُ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ) (تلقى بكلَ بلادٍ أنتَ ساكنها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيرانِ)

فقال: هذا ألأم بيت قالته العرب. قال أبو هلال رحمه الله: النزوع ههنا ردئ والجيد النزاع، وإنما جعل أبو دلف هذا البيت الأم بيت لأنه يدل على قلة رعاية وشدة قساوة وحنين الرجل إلى أوطانه منقبة من علامات الرشد لما فيه من الدلائل على كرم الطينة وتمام العقل. وقالت الحكماء: حنين الرجل إلى وطنه من علامات الرشد. وقال بزرجمهر: من أمارات العاقل بره بإخوانه وحنينه إلى أوطانه ومداراته لأهل زمانه. وقال أعرابي: لا تشك بلداً فيه قبائلك ولا تجف أرضاً فيها قوابلك. وقالت العرب: أكرم الخيل أشدها خوفا من السوط وأكيس الصبيان أشدهم بغضاً للمكتب وأكرم الصفايا أشدها حنيناً إلى أوطانها وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمهاتها وأكرم الناس آلفهم للناس. وقد بين الله تعالى فضل الوطن وكلف النفوس به في قوله تعالى {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم} فجعل خروجهم من ديارهم كفؤ قتلهم لأتفسهم ومنه قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} وقول تعالى: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا} فجعل إخراجه إياهم من ديارهم بدلاً من العذاب المستأصل لهم لشبهه به عندهم. وقال بعض الحكماء: الخروج من الوطن أحد السبابين والجلاء أحد القتلين. وقال يحيى بن طالب: (إذا إرتجلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاني الهوى وارتاح قلبي إلى الذكرِ) (يقولونَ إنَّ الهجرَ يشفي من الهوى ... وما ازددتُ إلا ضعف ما بي على الهجرِ) وكان كثيرٌ من العرب ممن يعتزي إلى فضل كرم لا ينتجعون وكذلك كانت قريش. وقال الحارث بن ظالم: (رفعتُ الرُّمح إذ قالوا قُريشٌ ... وشبهت الشمائل والقبابا)

(ولو أني أطاوعُ كنتُ فيهم ... وما سيرتُ أتبع السحابا) وقال الحويدرة: (وتقيمُ في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعنُ غيرنا للأمرعِ) والأمرع جمع لا واحد له من لفظه، وكانوا يسمون منزلهم دار الحفاظ لأنهم كانوا يقيمون فيه لقرى الأضياف وإعطاء الفقير وصلة المسكين وابن السبيل. وقال أبو تمام: (كم منزل في الأرضِ يألفهُ الفتى ... وحنينهُ أبداً لأوّل منزلِ) وقد قالت الهند: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك لأن غذاءك منهما وغذاءهما منك. وقال آخر: أرض الرجل ظئره وداره مهده. وقال آخر: الحنين إلى الوطن من رقة القلب ورقة القلب من الرعاية والرعاية من الرحمة والرحمة من كرم الفطرة وكرم الفطرة من طهارة الرشد وطهارة الرشد من كرم المحتد قال الشاعر: (لقربُ الدَّار في الاقتار خيرٌ ... من العيش المُوسّع في اغترابِ) وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أهله كما تتقوت الحبة ببل المطر إذا أصاب الأرض. وقال أفلاطن: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها. وقال يدواي كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تتطلع إلى هوائها وتنزع إلى غذائها. وقلنا: ليس الإنسان أقنع بشئ منه بوطنه لأنه يتبرم بكل شئ ردئ ويتذمم من كل شئ كريه إلا من وطنه وإن كان ردئ التربة كريه الغذاء ولولا حب الناس للأوطان لخرب أخابث الأرض والبلدان، قال الشاعر: (ألا ليت شعري هل تحننَّ ناقتي ... بصحراء من نجران ذات ثرى جعدِ) (وهل تنفضنَّ الريحُ أفنانَ لمتي ... على لاحقِ الأطلين مطمر ورد) (وهل أردن الدهر حسمي مزاحم ... وقد ضَربْتهُ نفحةٌ من صبا نجد) وذكر بن الرومي العلة التي يحب الوطن لأجلها وليس له في ذلك امام إلا

أحمد بن إسحاق الموصلي فإنه قال: (أحبُ الأرضَ تسكنها سليمى ... وإن كانتْ بواديها الجدوب) (وما دهري بحب تراب أرض ... ولكنْ من يحلُّ بها حبيبٌ) وقال ابن الرومي: (ولي وطنٌ آليتُ أن لا أبيعهُ ... وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا) (عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً ... كنعمةٍ قوم أصبحوا في ظلالكا) (فقد ألفتهُ النفسُ حتى كأنهُ ... لها جسدٌ لولاهُ غودرتُ هالكا) (وحبّبَ أوطانَ الرجالِ إليهم ... مآربُ قضاها الشبابُ هُنالكا) (إذا ذكروا أوطانهمْ ذكرتهمُ ... عهود الصبا فيها فحنوا ذلكا) (وقد ضامني فيه اللئيم وغرَّني ... وها أنا منهُ معصمٌ بحبالكا) (فإن أخطأتني من يمينك نعمة ... فلا تخطئنه نقمةٌ من شمالكا) وقلت في نحو من ذلك: (ثوى في حفرةِ العانات يمنٌ ... تغلغل في المنازل والرباع) (وإن تهوَ البقاع فليس غرواً ... هوى أهل البقاع هوى البقاعِ) وقال ابن الرومي: (فإذا تصورَ في الضمير وجدتهُ ... وعليه أفنانُ الشباب تميدُ) وقيل لأعرابي كيف تصنع بالبادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شئ ظله؟ فقال وهل العيش إلا ذاك يمشي أحدنا ميلا ويرفض عرقاً ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه ويجلس يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى. وذكر أعرابي بلده فقال رملةٌ كنت جنين ركامها ورضيع غمامها. وقالت أعرابيةٌُ: إذا كنت في غير أهلك فلا تنس نصيبك من الذل. وقال الشاعر في معناه (نصيبك من ذلِّ إذا كنت خاليا ... ) وقلت: (حسبتُ الخيرَ يكثر في التنائي ... فكانَ الخيرُ أكثر في التداني)

(ذكرتُ مقامنا بسراة حُزوى ... فسرت مع الوساوس في عنان) (ألا لله حزمٌ واصطبارٌ ... تقاسمه بنياتُ الزَّمان) (عزيزٌ أضمرتهُ نوى شطون ... فظلَ من المهانةِ في ضمان) (يناطُ إلى العزيز إذا تبوَّى ... بمنزل غربةٍ طرف الهوانِ) وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه كما يحن النجيب إلى عطفه. وقلت: (إذا أنا لا أشتاقُ أرضَ عشيرتي ... فليسَ مكاني في النهى بمكينِ) (من العقل أن أشتاقَ أول منزلٍ ... عنيتُ بخفضٍ في ذراهُ ولين) (وروض رعاهُ بالأصائلِ ناظري ... وغصن ثناهُ بالغداةِ يميني) وقال ابن المولى: (سررتُ بجعفرٍ والقرب منه ... كما سرَ المسافرُ بالإيابِ) (كممطورٍ ببلدتهِ فأضحى ... غنياً عن مطالعة السحابِ) وهو من قول الآخر: (فكنتُ فيهمْ كممطور ببلدتهِ ... فسرَ أن جمعَ الأوطانَ والمطرا) وفضل بعضهم السفر على المقام واحتج بقول الله تعالى {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} قال فقسم الحاجات فجعل أكثرها في البعدُ، وقال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} قال فاخرج الكلام مخرج العموم ولم يخص أرضاً دون أرضِ ولا قرباً دون بعد، وينشد في هذا المعنى قول أبي تمام: (وطولُ مُقام المرءِ في الحيَ مخلقٌ ... لديباجتيهِ فاغتربْ تتجددِ) (فإني رأيتُ الشمسَ زِيدتْ محبةً ... إلى الناس إذ ليستْ عليهم بسرمدِ) وقال في الحث على الأسفار والطلب والتزهيد في المقام والدعة: الراحة

عقلةٌ في الحركات ومن غلى دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء. وقال عبد الله بن وهب: حب الهوينا يكسب الضنى، وقال أبو المعافى: (وإنَّ التواني أنكحَ العجرَ بنتهِ ... وساقَ إليها حينَ أنكحها مهرا) (فراشاً وطيئاً ثمَ قال لها أتكي ... فقصرا كمالا بُد أن تلد الفقرا) وقال نهيك بن أساف: (أأمّ نُهيك إرفعي الطرفَ صادِقاً ... ولا تيأسِي أن يثرَي الدهر بائس) (سيغنيك سعي في البلادِ وغربتي ... وبعل التي لم تحظَ في البيت جالس) أخبرنا أبو أحمد عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال قال أكثم بن صيفي: ما يودني أني مكفي وأني أسمنت وألينت، قيل ولم ذاك قال مخافة عادة العجز. وفي الحديث المرفوع (سافروا تغنموا) وقال الشاعر وذم طول الضجعة: (فإن تأتياني بالشتاء وتلمسا ... مكان فراشي فهو بالليل باردُ) وقال آخر: (أبيض بسامَ برودٌ مضجعه ... واللقمةُ الفردُ مراراً تشبعهُ) وقال الحطيئة يهجو القعود والراحة: (دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي) وقال أبو عبادة البحتري: (وقد سألتُ فما أعطيتُ مرغبةً ... وكان حقيَ أن أُعطي ولم أسلِ) (أرمي بظني ولا أعدو الخطاءَ به ... فاعجبْ لاخطاءِ رامٍ من بني ثُعَلِ) (أسيرُ إذ كنت في طولِ المقام بها ... أكدي لعليَ أجدى عند مُرتحلي) (شرق وغرب فعهد العاهدين بما ... طالبت في ذملان الأنيق الذمل)

(ولا تقل أممٌ شتَّى ولا فرق ... فالأرض من تربةٍ والناس من رجلِ) وقال بشار بن برد: (تخاف المنايا إذ ترحلَ صاحبي ... كأنَ المنايا في المقام يناسيه) أخذه من قول الأعشى: (وكم مِن رَدٍ أهلَه لم يَرِمْ ... ) والأول أجود سبكاً وأفصحُ لفظاً. وأخبرنا أبو أحمد عن الجوهري عن أبي زيد قال قال أبو الحسن كان خالد بن عبد الله القسري يطعم الأعراب في حطمه أصابتهم في كل يوم يطعم ثلاثين ألف انسان خبزاً وسويقاً وتمراً فقيل لأعرابي لو أتيت خالداً فإنه يطعم الأعراب فقال: (يقولُ ابنُ حجاج تجهزْ ولا تمت ... هُزالا بحرَّان تعاوى كِلابها) (فقد خبرَ الركبان أنَ جديدَه ... تباح ورغفانا شباعاً رِغابُها) (وماء فراتٍ ما اشتهيتُ وقريةَ ... تدبُ دبيبَ النملِ فيك شرابُها) (فأقسم لا أبتاعُ رُغفانَ خالد ... بأرواحِ نجدٍ ما أقامَ تُرابُها) (إذا باحت بالعُرمتين وصارةٌ ... رِياح الخزامى حينَ تندى رِحابها) وأخبرنا أبو أحمد قال حدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا الفضل بن محمد العلاف قال لما قدم بغاببتي نمير كنت كثيراً ما آتيهم فلا أعدم أن ألقى منهم الفصيح فجئت يوماً إليهم في عقب مطر فإذا شابٌ جميلٌ قد نهكه المرض فليس به حَراك وإذا هو ينشد: (ألا ياسني برقٍ على قللِ الحمى ... ليهنك من برقٍ عليّ كريمُ) (لمعتَ اقتداء الطرفِ والقومُ هُجَّع ... فهيجت أسقاماً وأنت سقيمُ) (فهل من مُعير طرفَ عينٍ خلية ... فإنسانُ طرف العامريّ كليمُ) (رمى قلَبه البرقُ اليمانيُّ رميةً ... بذكر الحمى وهناً فباتَ يهيم) قال فقلت إن فيما بك لشغلاً عن الشعر قال صدقت ولكن البرق أنطقني.

وقال عبد الله بن محمد الفقعسي: (ألا ليت شعري هل أبيتينَ ليلة ... بسلع ولم تغلقْ عليَّ دروبُ) (وهل أحدٌ باد لنا وكأنه ... حصان أمام المقربات جنيب) (يحول السراب الطلح بيني وبينه ... فيبدو لعيني تارةً ويغيب) (فإني لأرعى النجمَ حتى كأنني ... على كلِّ نجمٍ في السماء رقيبُ) (وأشتاقُ للبرقِ اليماني إذا بدا وأزدادُ شوقاً إن تهبّ جَنوب) وله أيضاً: (ومنْ حاجتي لولا الحياءُ وأنني ... أرى الناسَ قد أغروا بعيب صبا الكهلِ) (مسيري مع الفتيانِ في طلقِ الهوى ... أباري مطاياهم على سلسلٍ رسلِ) (فلم يبقَ من تلك اللذاذةِ عندهم ... وعنديَ غيرُ الذكر للعهدِ والأهلِ) وقال أعرابيٌ: (أمُغترباَ أصبحتَ في رامهرمزٍ ... ألا كل كعبيّ هناك غريبُ) (إذا راحَ ركبٌ مصعداً إنَّ قلبهُ ... مع الرائحينَ المصعدينَ جنيبُ) (وإنَّ الكثيبَ الفردَ من أيمن الحمى ... ليحلو بسمعي ذكرهُ ويطيبُ) (تفوقتُ ذرّات الصبا في ظلالهِ ... إلى أن أتاني بالفطام مشيبُ) (إذا هبَ عُلوي الرِّياح استمالني ... كأني لعلويِّ الرياح نسيبُ) ومما يجري مع ذلك قول الآخر: (إذا عقدَ القضاءُ عليك أمراً ... فليسَ يحلهُ غيرُ القضاءِ) (فما لكَ قد أقمتَ بدارِ ذُلٍّ ... ودارُ العزَ واسعة الفضاء) (تبلغ بالكفاف فكل شئٍ ... من الدنيا يؤولُ إلى إنقضاء) وقال امرئ القيس: (وقد طَوَّفْتُ في الآفاقِ حتى ... رضيتُ من السلامةِ بالإيابِ)

فصل في مدح الإخوان

وقال البحتري: (وكانَ رجائي أن أؤوبَ مُمَلَّكاً ... فصارَ رجائي أن أؤوب سليما) (فصل في مدح الاخوان) من أحسن التشبيه في مدح الأخ ما أنشدني أبو علي بن أبي حفص عن جعفر بن محمد: (أخٌ لي كأيام الحياةِ أخاؤهُ ... تلوّن ألواناً عليّ خطوبُها) (إذا عبتُ منه خلةً فهجرتهُ ... دعتني إليه خَلةُ لا أعيبُها) وقال البحتري: (قدمتَ فأقدمتَ الندى يحمل الرضا ... إلى كلِّ غضبانٍ على الدهرِ عاتبِ) (وجئت كما جاء السحابُ محرِّكاً ... يديك بأخلاق تفي بالسحائبِ) (فعادتْ بك الأيامُ وهي كواكبٌ ... جلا الدهرُ منها عن خُدودِ الكواعبِ) (وما أنسَ لا أنسَ اجتذابَك همّتي ... إليك وتزييني بأعلى المراتبِ) (فيا خيرَ مصحوبٍ إذا أنا لم أقمْ ... بشكرِك فاعلمْ أنني شرُ صاحبِ) وكتب بعضهم: لست أذم من أيامنا إلا قصرها وطول الحسرة على أثرها. وقريبٌ من المعنى الأول قول الآخر: (خليلٌ إذا ما جئتُ أبغيه حاجةً ... رجعت بما أبغي ووجهي بمائه) (بلوت رجالاً بعده في إخائهم ... فما ازددت إلا رغبة في إخائه) وقال دعبل بن علي: (أخٌ لي عاداهُ الزمانُ فأصبحتْ ... مذمّمة فيما لديه المطالبُ) (متى ما تذوقهُ التجاربُ صاحباً ... من الناس ردته إليك التجاربُ) وقال إبراهيم بن العباس:

(ومؤمل للنائبات إذا ... هبَ الزمان باذره هبَّا) (لما رآني نهب حادثة ... جعل الذخائر دونها نهبا) وقال أيضاً: (ولكنَ الجوادَ أبا هشام ... وفي العهد مأمون المغيب) (بطئُ العهد ما استغنيت عنهُ ... وطلاعٌ عليك مع الخطوبِ) والبيت الأخير يشير إلى قول جرير (وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... ) ونحوه قول إبراهيم أيضاً: (أسدٌ ضارٍ إذا هيجتهُ ... وأبٌ برٌ إذا ما قدرا) (يعرفُ الأبعدُ إن أثرى ولا ... يعرفُ الأدنى إذا ما افتقرا) وقال أيضاً: (ولكنَ عبدَ اللهِ لما حوى الغنى ... وصارَ له من بين إخوانه مالُ) (رأى خلةً منهم تسدُ بمالهِ ... فساهمهمْ حتى استوتْ بهمُ الحال) ونحوه قوله أيضاً: (بدا حينَ أثرَى بإخوانهِ ... ففلل عنهمْ شباه العدمْ) (وذكره الحزمُ غبَ الأمور ... فبادَرَ قبلَ انتقال النعمْ) ومما هو في هذا السبيل ما كتب بعضهم: ما شخصتُ حتى شخص عقلي فصار عديلك واستقل ودي فأضحى زميلك ولا مطمع لي في مستقرهما حتى تستقر النوى بك وتحقق الأماني فيك ولك. وقال أبو تمام: (ليالي نحنُ في غفلاتِ عيش ... كأنَ الدهرَ منها في وثاقِ) (وأياماً لنا وله لدانا ... عرِينا في حواشيها الرقاقِ) وفي هذا الموضع أيضاً قوله:

(أأيامنا ما كنتِ إلا مواهباً ... وكنت بإسعافِ الحبيبِ حبائبا) (سنغربُ تجديداً لعهدك في البكا ... فما كنتِ في الأيام إلا غرائبا) وقلت في فضل الصديق على القريب: (رأيتُ بالودَ عن القربى غنى ... وليسَ بالقربَى عن الودِّ غنى) (وصاحب الودِّ حُسامٌ منتضى ... يزينُ في السلم ويكفي في الوغى) وقلت أيضاً في قوله: (ليسَ حدُ الحسام أكفى وأغنى ... من أخ ذي كفاية وغناءِ) (وأخُ المرءِ عصمةٌ في بلاءٍ ... يعتريهِ وزينةٌ في الرخاءِ) وقال شبيب بن البرصاء: (إذا المرءُ أغراهُ الصديقُ بدالهُ ... بأرض الأعادي بعض ألوانها الربد) ومن أجود ما قيل في الاغضاء عن الأخ قول النابغة: (ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمهُ ... على شعثٍ إيُّ الرجالِ المهذبُ) وقال بشار بن برد: (إذا كنتَ في كلَ الأمورِ معاتباً ... صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتُبه) (فعشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنهُ ... مقارفُ ذنبٍ مَرَّة ومجانبهْ) (إذا أنتَ لم تَشرب مراراً على القذى ... ظمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُهُ) وقال آخر: ألبس أخاك على تصنُّعه ... فلربَّ مُفتضح على النص) (ما ظلتُ أفحص عن أخي ثقةً ... إلا ذممتُ عواقبَ الفحصِ) وقال آخر: (ومنْ ذا الذي ترضى سجاياهُ كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعدَ معائيه) وكتب الصاحب في فصل: وتمثلت لي أخلاقك التي لولاها لم يسلس الماء ولم يرق الهواء ولم ترع الحقوق والذمم ولم يعرف المجد والكرم أخلاقٌ جددٌ غير

أخلاق لا تأخذ الأيام جدتها ولا تثهج الليالي بردتها. ومن جيد ما قيل في إظهار الرغبة في الإخوان قول أبي فراس بن حمدان: (قل لإخواننا الجفاةِ رويداً ... إذ رجونا إلى احتمال الملال) (إن ذاك الصدودَ من غير جُرم ... لم يَدَع فيّ موضعاً للوصال) (أحسنوا في وصالكم أو فسيئوا ... لاعدمناكم على كلَ حالِ) وقلت في معناه: (كم قد منحتك حسناً ... وليس منك جزاءُ) (ترَى يضرُّك أن لوْ ... يكون منك وفاءُ) (لا تبلنا بصدود ... إنَ الصدودَ بلاءُ) (بل مالنا منك بد ... فاصنع بنا ما تشاء) وأنشدنا أبو أحمد: (اذكر أخانا تولى اللهُ صحبتهُ ... إني وإن كنتُ لا ألقاهُ ألقاهُ) (اللَّهُ يعلمُ أني لستُ أذكره وكيفَ يذكره من ليس ينساه) وقال الخريمي: (أخٌ لي كَذوبُ الشهدِ طعمُ إخائهِ ... إذا اختلفتْ بيضُ الليالي وسودُها) (كأمنيةِ الملهوفِ حزماُ ونائلاً ... وعوناً على عمياءِ أمرٍ يكيدُها) (لهِ نعمٌ عندي ضعفتُ بشكرها ... على أنهُ في كلَ يومٍ يزيدُها) (تحملَ عني شكرها فأراحني ... وللشكرِ مرقاةٌ كؤودٌ صعودها) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدني أبو إسحاق الشطبي قال أنشدنا حماد الراوية:

في ذم الإخوان والرفقاء وما يجري مع ذلك

(تصفحتُ إخواني بعينِ عنايةٍ ... فأصلحتُ منها كلَ ما أفسدَ الدهرُ) (وأرضاك عفو الشكر دونَ إجتهادهِ ... وفي دون ما أوليت ما اجتهد الشكرُ) ومن مليح ما قيل في مدح الزمان: (رقَ الزمانُ لفاقتي ... ورثى لطولِ تحرُّقي) (فأنالني ما أشتهي ... وأراحَ مما أتقي) (فلأعفرنَ له الكثيرَ ... من الذنوبِ السُّبَّقِ) (حتى جنايتهُ بما ... فعلَ المشيب بمفرقي) (في ذم الإخوان والرفقاء وما يجري مع ذلك) من قديم ما يروى في ذلك قول لبيد بن ربيعة: (ذهبَ الذين يُعاشُ في أكنافهمْ ... وبقيت في خلفٍ كجلدِ الأجربِ) وضمنه جحظة البرمكي فقال: (قومٌ أحوالُ نَيلَهم فكأنني ... حاولتُ نتفُ الشعرِ من آنافِهِمْ) (قمْ فاسقنيها بالكبيرِ وغنّني ... ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافهم) وأنشدنا أبو القسم عن العقدي عن أبي جعفر لأبي الشيص: (وصاحبٍ كان لي وكنتُ له ... أشفقَ من والدٍ على ولدِ) (كنا كساقٍ يمشي بها قدمٌ أو كذراعٍ نيطتْ إلى عضدِ) (حتى إذا دانت الحوادثُ منْ ... خطوي وحلَ الزمانُ من عقدي)

(أحولَّ عني وكان ينظرُ منْ ... عيني ويرمي بساعدي ويدي) (وكانَ لي مؤنساً وكنتُ له ... ليس بنا حاجةٌ إلى أحدِ) (حتى إذا استرفدتْ يدي يدَه ... كنت كمسترفدٍ يدَ الأسد) ومن جيد ما قيل في ذي الوجهين: (تعاشرُني ضحكاً كأنك ناصحٌ ... وعينك تُبدي أنَّ قلبك لي دوِي) (لسانك لي شهدٌ وقلبك علقمٌ ... وشرُّك مبسوطٌ وخيرك ملتوي (أراك إذا لم أهو شيئاً هويتهُ ... ولستَ لما أهوى من الشئ بالهوِي) (عدوُّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت عدوِّي ليس ذاك بمستوي) (وكم موطن لولايَ طحتَ كما هوى ... بإجرامه من قُلة النيقِ مُنهوي) (كأنك ان قيل ابنُ عمك غانمٌ ... شج أو عميدٌ أو أخو مغلة جوي) (بدا منك غشٌ طالما قد كتمته ... كما كتمتَ داءَ ابنها أم مُدَّوِي) وقريبٌ من ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد قال أخبرنا الصولي قال أخبرنا أبو ذكوان عن الرياشي قال سمعت أبا عبيدة يقول دخل رجلٌ الكوفةَ فنزل بآل عطارد فلم يضيفوه ورأى لهم أبينةً عاليةً فقال ارتجالاً: (تناهوا برفع الدُّور حتى كأنها ... جبال وما شدى بخير شعابها) (فليسوا بفتيان السماحة والنَّدَى ... ولكن فتيانا تسوَّى ثيابها) (فقد أصبحتْ أضيافُ آل عُطارِدٍ ... خماصاً مطاياها خفاقاً عيابها) ومن ذلك قول الشاعر: (لعمري لقد أعطيتَ بُرداً وحُلةً ... وعراك من ثوبِ السماحةِ سالبهُ) (فما يكُ من خيرٍ فما تستطيعه ... وما يك من شرٍ فإنك صاحبُه) وقال يزيد المهلبي: (فإذا غنيت فكلهم لي خاتلٌ ... وإذا افتقرت فكلهم لي جافي) وما أكثر أحدٌ في ذم الزمان إكثار إبراهيم بن العباس فمن جيد قوله:

(كم أخٍ كانَ مني فلما ... أن رأى الدَهرَ جفاني جفاني) (مُستعدٌّ لي بسهم فلما ... أن أرى الدَّهرَ رماني رماني) وقال غيره: (إحذَرْ مودةَ ماذقٍ ... شابَ المرارةَ بالحلاوَهْ) (يُحصي العيوبَ عليك أيامَ ... الصداقةِ للعدواة) وقال إبراهيم: (بلوتُ الزمانَ وأهلَ الزَّمان ... وكلٌ بلومٍ وذمٍ حقيق) (فأوحشني من صديقي الزمان ... وآنسني بالعدو الصديق) وقوله: (أخ كنت آوي منهُ عندَ ادّكارِه ... إلى ظل آباءٍ من العزِ باذخ) (سمعت نوبُ الأيامِ بيني وبينه ... فأقلعنَ منا عن ظلومٍ وصارخ) (وإني وإعدادي لدهري محمداً ... كملتمس إطفاء نارٍ بنافخ) وقال بعض الجعفرين: (إن الجديدينِ في طولِ اختلافهما ... لا يفسدانِ ولكن أفسد الناسِ) (فلا يغرنك أضغانٌ مُزملةٌ ... قد يُركبُ الدبر الدامي بأحلاسِ) قالوا هو من قول زفر بن الحارث: (وقد ينبتُ المرعى على دِمن الثرىِ ... وتبقى حزازاتُ النفوسِ كما هيا) قالوا يعني الرجل يظهر لك الود ويضمر خلافه كالنبات الحسن ينبت على القذر فيصير رائق الظاهر خبيث الباطن، وقال آخرون: الدمنة حيثُ تنزلُ الإبلُ فتدمن بالأبوال والأبعار فلا تنبت شيئاً فإذا طال عليه العهد وسفته الرياح وأصابته السماء نبت بعد حين، فيقول قد ينبت ذاك وهو مما لا ينبت ويتغير بالنبات وتبقى حزازات القلوب لا تتغير، وهذا التفسير هو الصحيح لأن ألفاظ البيت تقتضيه والأول فاسدٌ لأنه ليس على مقتضاها. وقال أبو فراس بن حمدان في ذم الإخوان فأجاد: (تناساني الأصحابُ إلا عُصيبَةً ... ستلحقُ بالأخرى غداً وتحولُ)

(فمن قبلُ كانَ الغدرُ في الناس سُبّهً ... وذمَّ زمانٍ واستلامَ خليل) (وفارق عمرو بنُ الزبيرِ شقيقَه ... وخلّى أميرَ المؤمنين عقيلُ) (ومن الذي يبقى على الدهر إنهم ... وإنْ كثُرتْ دعواهمُ لقليلُ) (وصرنا نَرَى أنَّ المتارِكَ مُحسنٌ ... وان خليلا لا يضرُّ وصولُ) (أقلّبُ طرفي لا أرى غيرَ صاحبٍ ... يميلُ مع النعماءِ حيثُ تميلُ) وقلت: (إلى كم تستمر على الجفاء ... ولا ترعى حُقوقَ الأصدقاءِ) (فمن لي أن أرَى لك مثلَ فعلي ... فنصبح في الودادِ على استواءِ) (ألا أني لأعرفُ كلَ شئٍ ... سوى خلقِ الرعايةِ والوفاءِ) (عريتَ من الوفاءِ ليس بدعاً ... لأنك قد عريتَ من الحياءِ) (فإن ترجع إلى الحسنى وإلا ... فخيرُ سبيلنا تركُ اللقاءِ) (وإن كانَ التقاربُ ليس يُجدي ... فما الاجداءُ إلا في التنائي) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدني ابن لنكك البصري لنفسه يذم الزمان: (يا زماناً ألبسَ ... الأحرار ذلاً ومهانَهْ) (لستَ عندي بزمان ... إنما أنتَ زُمانَهْ) وقلت: (زمانٌ كثوبِ الغولِ فيهِ تلونٌ ... فأولهُ صفوٌ وآخرهُ كدرُ) وقال آخر في خلاف ذلك: (أرى حُللاً تصانُ على رجال ... وأعراضاً تهانُ فلا تصانُ) (يقولونَ الزَّمان به فسادٌ ... وهم فسدوا وما فسدَ الزَّمانُ) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا أبو بكر بن دريد: (مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكبَ الأعالي بارتفاعِ الأسافلِ) وقال أبو الشعر موسى بن سحيم: (متى ما تفكر في الزمانِ وأهلهِ ... ثقل لاعبٌ هذا وليسَ بلاعبِ)

وأنشدنا الآخر أيضاً: (تبلدَ هذا الدهرَ فيما رَجوته ... على أنه فيما أحاذِره نَدب) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا جحظة لمحمد بن يعقوب بن داود: (لا تعجبنك عمامتي ... فالفقرُ من تحتِ العمامة) (والفقرُ في زمنِ اللئامَ ... لكلَ ذي كرم علامه) وقلت في قريب منه: (وليسَ ينفكُ كشخانٌ يجاذبنا ... علامةُ الحرَ أن يبلى بكشخانِ) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا جحظة البرمكي لنفسه: (ربَ قد ضاقت النفوسُ ... وقد قلَّت الحِيلْ) (فلكٌ لا يدورُ ... إلا بما تشتهي السفلْ) وقال أبو تمام: (على أنها الأيامُ قد صرنَ كلها ... عجائب حتى ليسَ فيها عجائبُ) (ومن عادةِ الأيام أنَّ صُروفَها ... إذا سرَ منها جانبٌ ساء جانبُ) وقال قابوس بن وشمكير: (قلْ للذي بصروفِ الدهرِ عيَّرنا ... هل عاندَ الدَّهرُ إلا من له خطرُ) (فإن تكنْ نشبتْ أيدي الزمانِ بنا ... ومسّنا من تمادي بُؤسه ضَررُ) (ففي السماءِ نجومٌ غير ذي عدد ... وليسَ يكسفُ إلا الشمسُ والقمرُ) (أما ترى البحرَ يعلو فوقه جيفٌ ... وتستقرُ بأقصى قعره الدُّرَر) وقريبٌ من هذا ما قلته: (إن كنتَ تسلم من شغبِ الزمان ولا ... أعطى السلامة منه كلما شغبا) (فالعاصفاتُ إذا مرَّتْ على شجرٍ ... حطمنه وتركن البقلَ والعشبا) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا جحظة البرمكي لنفسه في المعنى الأول:

(يقولونَ زُرنا واقضِ واجبَ حقنا ... وقد أسقطتْ حالي حقوقهمُ عني) (إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها ... ولا لهم أنفتُ لهم منّي) وأنشدنا أبو علي بن أبي حفص قال أنشدني أبو جعفر للعطوي: (ليَ خمسونَ صديقاً ... بين قاضٍ وأميرِ) (لبسوا الوفرَ فلم أخلع ... بهمْ ثوبَ الفقيرِ) (كلهمْ كالَ ليّ الحر ... مانَ بالصّاعِ الكبيرِ) ومن ههنا أخذ ابن الرومي قوله: (سألتُ قفيزينِ من حنطة ... فجدتَ بكرٍ من المنع وافي) وقد تقدم. وقلت: (أليس صعباً أن ترى كاشحاً ... مالك يُدٌ من مداراته) (أصبحت في دار إساآته ... أعداد أنفاسي وساعاته) وأنشدني عم أبي لأبي الأسد الدينوري: (ليتك أدَّبتني بواحدةٍ ... تقنعني منك آخرَ الأبدِ) (تحلفُ لي لا تبرُّني أبداً ... فإنّ فيها برداً على كِبدي) (اشفِ فؤادي مِنِّي فإنّ به ... عليّ قرحاً نكأته بِيَدي) (إن كانَ رزقي إليك فارمِ به ... في ناظري حيةٍ على رصدِ) (فكيفَ أخطأت لا أصبت ولا ... تهضت من عثرة إلى سَدَدِ)

فصل فيما قيل في فضل الوعد ومدح الإنجار

(لو كنتُ حُراً كما زعمت وقد ... كَدَدتني بالمطالِ لم أعُد) (لكنني عُدتُ ثم عُدت فإن ... عدتُ إلى مثلِ هذه فعد) (قد صرتُ من سوءِ ما بليتُ به ... أكْنَى أبا الكلبِ لا أبا الأسدِ) وقلت: (العين تذرف والفؤاد يذوبُ ... والوجد يحضر والعزاء يغيبُ) (ولقلة الكرماء أنت مضيعٌ ... ولكثرة الجهالِ أنت غريب) (تالله لم تخطئك أسباب الغنى ... إلا لأنك عاقلٌ وأديب) (فاصبر فقد عزّاك عن دركِ الغنى ... أن ليسَ يدركه أغرُ نجيبُ) (عابوا قطوبي ان تعذرَ مطلبي ... أرأيتَ بدراً ليس فيه قطوب) (وشحوب جسمي من مواصلة السرى ... هل من هلالٍ ليسَ فيهِ شحوب) (ولقد يَدلُ على كمال كرامتي ... أني إلى قلبِ الكريم حبيبُ) (ولقد جلا حزني وفرّج كربتي ... أنَّ اللئيم لرؤيتي مكروبُ) (لا تلعبنَ فمن ورائك طالبٌ ... ومن العجائبِ لاعبٌ مطلوبُ) وقال أبو تمام: (هب من له شئٌ يريدُ حجابهُ ... ما بال لا شئ عليه حجابُ) (ما زالَ وسواسي لقلبي خادعا ... حتى رجا مطراً وليس سحاب) (ما إنْ سمعتُ ولا أراني سامعاً ... يوماً بصحراء عليها بابُ) (ما كنت أدري لا دريت بأنه ... يجري بأفنية البيوتَ سرابُ) (فصل فيما قيل في فضل الوعد ومدح الإنجار) أخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الصولي قال حدثنا ابن زكريا عن ابن دينار قال حدثنا محمد بن عبيد الله العتبي قال كلم منصور بن زياد يحيى بن خالد بن برمك في حاجة لرجل فقال عده عني قضاءها فقال وما يدعوك أعزك الله إلى العدة مع وجود القدرة؟ فقال له يحيى هذا قول من لم يعرف موضع الصنائع من القلوب إن الحاجة إذا

لم يتقدمها موعد ينتظر به تجحها لم تتجاذب الأنفس بسرورها ولم تتلذذ بتناولها وإن الوعد تطعم والإنجاز طعام. وليس من فاجأ طعام كمن وجد رائحته وتمطق له وتطعمه ثم طعمه فدع الحاجة تحتم بالوعد ليكون لها عند المصطنع حسن موقع ولطف محل وحلاوة ذوق. وأخبرنا أبو أحمد قال حدثنا الصولي قال حدثنا أحمد بن يزيد قال أخبرنا البحتري عن خارجة بن مسلم بن الوليد عن أبيه قال سألت الفضل بن سهل حاجةً فقال أسوفك اليوم بالوعد وأحبوك غداً بالإنجاز فإني سمعت يحيى بن خالد يقول المواعيد شباك الكرام يصطادون بها محامد الإخوان وإن كان المعطي لا يعد لارتفعت مفاخر إنجاز المواعيد وبطل فضل صدق القول. وقال عيسى بن ماهان لجلسائه إني أحب أن أهب بلا وعد وأحب أن أعد لأخرج بالإنجاز من جملة المخلفين وأدخل في عداد الوافين ويؤثر عني كرم المنجزين فإن من سبق فعله وعده وصف بكرمٍ فرد وسقط عنه جميع ما ذكرت. وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي قال أخبرني عون بن محمد قال ذكر العتابي المأمون فقال إنه ألقح معروفه عندي بالوعد ونتجه بالنجح وأرضعه بالزيادة وشيبه بالتعهد وهرمه باستتمامه من جهاته وهنأه بترك الامتنان به. ومن عجيب ما جاء في الحث على الإنجاز ما حدثني به أبو أحمد عن الصولي عن يموت بن المزرع قال حدثنا عبد الصمد بن المعذل قال شكا رجلٌ جعفر بن يحيى إلى أبيه بأنه وعده ومطل به. فوقع: يا بني أنتم معاقل الأحرار ومظان المطالب ومعادن الشكوى فكونوا سواءً في الأقوال والأفعال فإن الحر يدخر وعد الحر ويعتقده وينفقه قبل ملكته فإن أخفق أمله كان سبباً لذمه واتهامه وسوء ظنه حتى يوارى قبح ذلك وحسن تقيته فأنجذ الوعد وإلا فقصر القول فإنه أعذر والسلام. وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن يونس عن الحميدي عن سفيان قال سمعت الزهري يقول: حقيق على من أزهر بالوعد أن يثمر بالفعل. ومن جيد ما مدح به المنجز قول أبي تمام:

ما قيل في الضحك والبشر عند السؤال

(نؤمُّ أبا الحسين وكان قدما ... فتى أعمارُ موعدة قصارُ) (تحنُ عِداته أثر التقاضي ... وتنتجُ مثل مانتج العِشارُ) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن المغيرة بن محمد قال كلم المأمون في الحسين ابن الضحاك الخليع أن يردَ عليهِ رزقه فقال المأمون: أليسَ هو القائل في الأمين: (فلاَ فرحَ المأمون بالملك بعدَه ... ولا زال في الدنيا طريداً مشردا) فما زالوا به حتى أذن له أن ينشده فأنشده: (ابن لي فإني قد ظمئتُ إلى الوعدِ ... متى تنُجز الوعدَ المؤكّد بالعهدِ) (أُعيذك من صدَ الملوك وقد ترَى ... تقطع أنفاسي عليك من الوجدِ) (فما لي شفيعٌ عندَ حُسنك غيرهُ ... ولا سببٌ إلا التمسك بالوُدَّ) (أيبخلُ فرد الحسنِ فرد صفاتِه ... عليّ وقد أفردته بهوى فردِ) فاستحسن الناسُ هذا التشبيب فلما قال: (رأى اللهُ عبد الله خير عباده ... فملكهُ واللهُ أعلم بالعبدِ) قال هذه بتلك وقد عفونا عنك. فقال يا أمير المؤمنين فأتبع عفوك بإحسانك فأمر برد أرزاقه عليه وكانت في كل شهر خمسمائة دينار فقال المأمون لولا أني نويت العفو عنه وجعلت ذلك وعداً له من قبل ما فعلته، وإنما ذكر العهد في تشبيبه فذكرنيه. وماأحسن ما قاله بعض ملوك العجم: البخل بعد وعد يضعف قبحه على البخل قبله فما قولك في أمر البخل أحسن منه وأجمل. (ما قيل في الضحك والبشر عند السؤال) أول من أتى بذلك زهير في قوله: (تراهُ إذا ما جئته مُتهلِّلاً ... كأنك مُعطيه الذي أنت سائلُهْ) ولو قال مكان (إذا ما جئته) (إذا ما سألته) لكان أجود. ومن الجيد في ذلك قول أبي نواس:

(بشرهمُ قبلَ النوالِ اللاحقِ ... كالبرقِ يبدو قبل جودٍ دافقِ) (والغيثُ يخفي وقعهُ المرامق ... إن لم يجده بدليلِ البارق) وأخذه أبو تمام هذا فقال: (يستنزلُ الأملَ البعيدَ ببشرهِ ... بُشرى المخيلة بالغياث المغدقِ) (وكذا السحائبُ قلما تدعو إلى ... معروفها الرُّوّاد ما لم تبرقِ) وتبعهُ البحتري فقال: (كانت بشاشُتك الأولى التي بدأتْ ... بالبشرِ ثم أقتبلنا بعدها النَّعما) (كالمُزنة استؤنفَتْ أولى مخيلتها ... ثم استهلت بغزر تابعَ الدِّيَما) وقال أبو عبد الله القطر بلي قلت للبحتري وقعت دون أبي تمام في هذا المعنى فقال لعمري ولكن سأرضيك فيه فقال في أبي الصقر: (يُوليك صدرَ اليوم قاصية الغنى ... بفوائد قد كنَّ أمسِ مواعدا) (سُوم السحائبِ ما بدأنَ بوارقا ... في عارضٍ إلا ثنينَ رواعدا) والرعد لا يكون إلا ومعه الغيثُ فكأنه قال إلا ثنين مواطراً ثم رده فقال: (إنما البشرُ روضةٌ فإذا ... أعقب بذلاً فروضةٌ وغدِيرُ) وقال البحتري: (ملكٌ عندهُ على كلَ حالِ ... كرمٌ زائدٌ على التقديرِ) (وكأنّا من وعدِهِ ونداه ... أبداً بين روضة وغدير) وقال: (ضحكات في إثرهنَّ العطايا ... وبروق السحابِ قبلَ رُعودهْ) وله أيضاًُ: (متهللٌ طلقٌ إذا وعدَ الغنى ... بالبشر أتبع بشرَه بالنائلِ) (كالمزن إن سطعتْ لوامعُ برقه ... أجلتْ لنا عن ديمة أو وابل) وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا الصولي لنفسه:

فصل في تعمية الأشعار

(لست تلاقي سائلاُ برد ... تعيد بشر سؤدد وتبدي) (كالبرقِ يأتيك أمامَ الرَّعدِ ... بشرى الغيوثِ بحبابِ رغدِ) (يلقى بك الطالبُ نجمَ السعدِ ... بلغت في الأعمار أقصى العدِ) (فصل في تعمية الأشعار) عمى عبد كان للأحول على أبي صالح محمد بن عبيد الله بيتاً غلط فيه ورسمه: (نظيف خفيف نظيف فايق ... نظيف مقيل بعلب نظيف) (طريف مدل فايق نظيف ... فايق مقبل نظيف فايق) (رشيق بدر معلب لمن ... نظيف مهذب معشوق نظيف) مهذب ملاحظ رشيق مغاضب نظيف. فأخرجه وكان البيت: (إذا قلتُ أسلو دامت العينُ بالبكا ... دماءً وحقنها مدامعُ حفلُ) وكان الجواب الصادر: (ألا أيها الشخصُ الذي كان نزهة ... يحصِّنهُ سترٌ من الله مسبل) (لماذا هتكت الستر عنك تعمداً ... ولستَ بحمدِ اللهِ ممن يُجهل) (رأيتك قد عميتَ بيتاً رسمتهُ ... بكلَ خطاءٍ فهو مثلك أحولٌ) (وكان لمتبولِ الفؤادِ معذبٌ ... أخي حسرةُ بالهجرِ والصدِّ يُقتلٍِ) (فقالَ وقد رامَ السلوَ فلم يجد ... وبات كئيباً بالياً يتململُ) (إذا قلتُ أسلو دامت العينُ بالبكا ... دماءً وحقنها مدامعُ حُفَّلُ) وعمى حمزة الأصفهاني على أبي جعفر محمد بن أيوب بيتاً رسمه: (نرجس خيري بنفسج حماحم ... شاهسفرم اقحوان نسرين) (نسرين أقحوان نسرين مرزنجوش ... ورد ياسمين نسرين) (زعفران نمام سُوسن أفرنجمشك ... آس منثور مرزنجوش) (بنفسج بلحية ياسمين مرزنجوس ... نسرين نمام منثور)

خيري منثور أقحوان زعفران سيسنبر خزامى بنفسج مرزنجوش. فأخرجه وكان البيت: (كفى حزناً أنَ الجوادَ مُقتَّرٌ ... عليهِ ولا مَعرُوفَ عند بخيل) فكان الجواب الصادر: (فِداك أبا يعلى أخٌ لك لم يَزَلْ ... يَعدُّك ذخراً عندَ كلَ جليلِ) إلى أن قال: (فقالَ وقد جابَ البلادَ فلم يجد ... أخا ثروةٍ يسخى لهُ بفتيل) (كفى حزناً أنَ الجوادَ مقترٌ ... عليهِ ولا معروفَ عندَ بخيلِ) ومن أحسن ما قيل في هذا قول أبي سعيد الأصفهاني وقد عمى عليه زياد بن جعفر الهمداني بيتاً فأخرجه وكان الجواب: (إذا العارضُ السحُ بالوبلِ جادا ... وأنزل غيثاً أغاثَ البلادا) (وأسرجَ فيهِ وميضُ البروقِ ... مصابيحَ تزهو منه اتقادا) (وثج فما شكَ ذو ناظر ... رأى سيلهُ أنَّ فيهِ مزادا) (فعمَ بشؤبوبه سادتي ... وخصَ بأغزرِ سقى زيادا) (زياد بن جعفر المستجار ... لصرفِ الزمانِ إذا ما تمادى) (فداؤك نفسي وإن سمتني ... غناءً طويلاً حماني الرُّقادا) (أتتني الطيورُ فساترنني ... ببيت تعمقت فيهِ عنادا) (إلى أن تمكنتُ من صيدها ... وقد صدتها إذ عرفتُ المصادا) (وقلتُ لها غرِّدي بالذي ... كتمتِ فأسرعنَ نحوي انقيادا) (وأنشدتُ بيتاً مُعادَ الفصول ... ولستَ ترى فيه معنى مُعادا) (ومن ذلَ قلَ ومن قلَ ذلَ ... ومن سادَ جادَ ومن جاد سادا) (أردتَ سقاطي فما نلتهُ ... فنلتُ المنى وبلغتُ المرادا) (وأبقاك ربي بقاء النعيم ... عليك وملاك منه وزادا)

وكتب إلى أبي عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي جواباً عن معمى: (دمعي على الخدِّ سكبُ ... ونارُ شوقي تشبُ) (وليس يبقى على ما ... يلقاه قلبي قلبُ) (للهِ عهد الليالي ... إذ مورد العيش عذبُ) (وإذ شبابيَ لدنٌ ... وغصنُ قدّي شطب) (يا جعفر القوم يا من ... يدعي إذا جلَ خطب) (فداكَ عبدٌ مشوقٌ ... إلى لقائك صبُّ) (أبعدتني وسواءٌ ... بعدٌ لديّ وقرب) (أخلاطٌ طيبٍ أتتني ... منها يبيسٌ ورطب) (قربتْها نارُ طبعٍ ... يدوم والنارُ تخبو) (عودٌ ومسكٌ ذكيٌ ... وعنبرٌ مستحبُ) (أوردتُها نارَ فكري ... ففاحَ شرقٌ وغرب) (وهبَ للفهم منها ... روائحٌ لا تهبُ) (فنلت بالشمِ مالم ... ينله عجمٌ وعُرب) (بيتا كما أهتزَ روضٌ ... أو أكملَ الوشي عصب) (شيبٌ وسنٌ وجهلٌ ... هذا لعمرك صعب) (بجعفرٍ وأخيه ... نالَ الورى ما أحبوا) (نفسي فداكم وما قد ... أهلَ يالحج ركب) (ذنبي انقطاعي إليكم ... إن عدَ للناس ذنب) (فذاك للخلق كهفٌ ... وذاك للمجدِ قطب) (ليثٌ إذا عضَ دهر ... غيثٌ إذا إشتدَ جدبُ) (لي منهما اليومَ رأىٌ ... يُرى غداً وهو كسبُ) والتعمية أن تجعل مكان كل حرف من البيت اسماً على مثال ما تقدم فإذا

مضت الكلمة تدير دائرة على ذلك حتى تأتي على آخر البيت. ووجه استخراج المعمى أن تنظر إلى الأسماء التي جعلت مكان الحرف فما تكرر منها وكثر في البيت فظن أنه للألف وربما لم يصدق هذا الظن ولكنه الأمر الأكثر فاطلب بعده اللام فإنها تقع بعد الألف كثيراً وانظر إلى ما طال في البيت من الكلمات فإذا رأيت الألف في أولها فظن بالثانية أنها لام وربما تكرر ذلك في موضعين من البيت وثلاثة، ومما يستدل به على معرفة اللام أيضاً أن يقع بعد الاسم إذا ظننت أنه الألف حرفان على صورة واحدة في مثل اللبيب والليل والليث وفي قولك الله وما أشبه ذلك، ومما يستدل به على معرفة اللام أيضاً أن يقع في البيت كلمة على حرفين وقد عرفت الألف واللام فتكون الكلمة تزداد يقيناً في الألف واللام وإذا صحت لك الألف واللام رأيت في البيت كلمة على حرفين والثاني منهما ألف فظن أنها (ما) أو (ذا) أو (يا) لأن ذلك أكثر ما يقع فإذا صحت الميم من (ما) ثم رأيت كلمة على حرفين فظن بها أنها (من) فإن رأيت كلمة على حرفين وأولها ألف فظن بالثاني أنه نون أو واو أو ميم، فإذا عرفت الألف في أول كلمة ورأيت قبلها حرفاً فظن أنه واو أو فاء أو باء أو كاف فإذا عرفت الألف ورأيتها وقد وقعت آخر البيت فظن بالحرف الذي قبلها أنه هاءٌ أو كاف لأن ذلك أكثر ما يقع فإذا تكررت لك هذه الحروف في البيت وقفت منه على أكثره، ثم تعمد إلى الحروف التي يقل تكرارها في البيت فتنظر إلى الكلمة الرباعية أو الخماسية فتظن أنها أبداً أن فيها أحد الحروف الستة اللام والراء والنون والفاء والتاء والميم لأنها لا تخلو من حرف منها أو حرفين. ولا ينفع ما مثلناه من هذه الأمثلة إلا مع جودة الفريحة وشدة الذكاء والفطنة ومع النشاط وصدق الشهوة. وذكر بعض أهل العلم وأظنه أبا الحسن العروضي أنه عمي له قول الشاعر: (وكن ذاكراً بيت النويبغ إنه ... سيحلو على سمع اللبيب ويعذبُ) فكانت تعميته: زيد بكر عمرو سعد بدر بكر بدر سهل صقر فهد بدر شهر

عمرو زيد صقر سهل رشد بدر عمرو حمد قصر عقر مكر شهر زيد بدر فخر شهر صقر قصر سلم فخر بدر شهر شهر سهل صقر سهل زيد صقر فخر سعد سهل صقر. قال فأول ما استخرجت منه الألف لأنها أكثر ما فيه من الحروف ثم عرفت بعدها اللام لأنهما واقعتان في قوله (النويبغ) وفي قوله (اللبيب) فلما صحت الألف واللام رأيت اللام قد تكرر فعلمت أنها لا تتكرر إلا في مثل اللبيب واللطيف وكان أقربها في ظني اللبيب، عمدت بعد ذلك إلى الكلمة الثالثة فرأيت الباء والياء فيهما وبقي الحرف الثالث فعرضته على الحروف فخرج لي بيت وبيد ويبش وبيض وبيع وبين فلم أجزم على شئ منها فتركتها موقوفة ثم قصدت إلى الكلمة السابعة فرأيت فيها اللام والباء فلم أشك أن الحرف الأول العين وأن الكلمة (على) ثم قصدت الكلمة الثامنة فرأيت العين في آخرها فطلبت على هذا المثال ما آخره عين فجاءني جمع ورجع ودمع وسمع فتركتها موقوفة ثم عمدت إلى الكلمة الأخيرة فرأيت فيها ما تبينته وعرفته الياء والعين والباء فعمدت إلى الياء والعين فوضعتهما مع سائر الحروف فخرج لي: يعتب ويعجب ويعذب ويعرب ويعطب وما شاكل ذلك فقابلت ما خرج من وجوه الكلمة الأخيرة على ما يقرب في المعنى مع إدخال اللبيب بينهما فصح لي أن الثامنة (سمع) وأن الأخيرة يعذب وعلمت أن زيداً في أول الكلمة الأخيرة واو فلما صح (على سمع البيب) لم أشك أن الكلمة السادسة (سيحلو) قد ظهرت فيه السين والياء واللام والواو والألف فلما عرضت الكلمة مع سائر الحروف لم يطابق يعذب في المعنى إلا يحلو فلما ظهر ذلك علمت بالمعنى والوزن جميعاً أن الذي ظهر من البيت يدل على أنه في ذكر شئ فيه كناية في وسط البيت وأولها ألف والنون تليها كثيراً فأدى الوزن إلى أن بعدها هاء وأن الكلمة (إنه) فلما ظهرت النون وكنت قد عرفت الواو من الكلمة الأخيرة علمت أن أول كلمة في البيت (وكن) بغير شك وأن الثانية (ذاكرا) لأن الذال ظهرت في يعذب والألف معروفة والكاف قد بانت من الكلمة الأولى والألف الثانية

معروفة بقيت الراء فلما عرضتها على سائر الحروف لم يجئ غير الراء ثم قصدت إلى الكلمة الرابعة فلم أجد فيها حرفاً غير ظاهر قد عرفته إلا الغين فقط فلم أدر ما هو فلولا أن الوزن أدى إليه بعد طول تعب لك يكن يظهر فلما علمت أنها (النويبغ) لم أشك أن الثالثة (بيت) وظهر البيت كله. ومن المعمى بغامض الحساب قول ابن طباطبا: (إن رحت ما في يديه ملتمساً ... وكنتُ أشكو إليهِ ضيقَ يدي) (أحصت ألوفا يسراهُ أربعة ... منقوصة سبعة من العددِ) وفي هذا المعنى شئ كثير هذا أجوده فاعرف ذلك. وقلت في ضرب من المعمى: (وأصفرٌ تحمرٌ أطرافه ... يا حسنهُ منْ مطرف مُعلمِ) (صدَّره الانسانُ في بيتهِ ... وهو مهانٌ ليسَ بالمكرم) (والمرءُ قد يعلو على ظهره ... وهو سليم الدِّين لم يأثم) (وهو على ما كان من ذلّة ... سُمِّى باسم الملك الأعظمِ) أعني حصيراً والملك يسمى حصيراً، قال الشاعر: (ومقامه غلب الرّقاب كأنهم ... جندٌ لدى باب الحصير قيامُ) وقلت: (وميت لا يكاد المرء يدفنه ... إلا إذا عادَ حياً بعدما ماتا) (وميّت غيبوا في الأرض جُثَّته ... عمداً لكي يجعلوا الأحياء أمواتا) الأول الذكر والثاني الفخ. ومن مليح المعمى ما أخبرنا به أبو أحمد قال حدثنا ابن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا عبد الحميد بن عقبة قال حدثني أبو عثمان المازني قال هجا أبو عيينة إسماعيل بن جعفر بن سليمان بشعر موري فلم يفهمه وكان كلما جاءه من يأنس به عرضه عليه حتى دخل رجل فأقرأه إياه وهو قوله: (إني أحاجيك فاعلمنَّ فما ... لؤلؤةٌ منك قد ثقبناها) (وكرمةٍ من أبيك منبتها ... حتى إذا أينعتْ قطفناها) (تخبرنا ما هما وما سُبُلٌ ... تشعبت منك قد سلكناها)

أحسن ما قيل في تقبيل اليد

(لم نمش فيها ريثاً ولا عجلاً ... ولم نطأها وقد وطئناها) (فإن تصبها فأنت ذو فطن ... وحاجتي أنْ تصيب معناها) فقال أيها الأمير أنه كلامٌ ردئ أكره أن أستقبلك به فقال هاته قال أما اللؤلؤة فالبنت وأما الكرمة من أبيك فالأخت وأما السبل التي تشعبت فالأم لم نطأها بالاقدام ووطأناها بالفعل وقال الآخر يذكر دعوة يدعو بها على رجل: (وسارية لم تسر في الأرض تبتغي ... محلاً ولم يقطع بها البيدَ قاطعٌ) (سرت حيثُ لم تسرِ الركاب ولم تنخ ... لورد ولم يقصر لها القيد مانع) (تكرّ وراءَ الليلِ والليلُ مظلمٌ ... إذا قرعَ الأبوابَ منهنّ قارعُ) (إذا وفدت لم يردد اللهُ وفدها ... على أهلها واللهُ راءٍ وسامعُ) (وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميلِ الظنّ ما الله صانعُ) (أحسن ما قيل في تقبيل اليد) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن خالد عن أبي بكر بن محمد بن خلاد الباهلي عن محمد بن الفضل عن أبي الزناد عن عبد الرحمن عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال كنت في غزوة في بعض مصالح رسول الله فتلقانا العدو فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص ثم قلنا حين رجعنا إلى أنفسنا كيف ننظر في وجوه القوم وقد بؤنا بغضب من الله ثم قلنا نأتي المدينة فنبيت بها ثم نخرج فلا يرانا أحدٌ فلما أتينا المدينة قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فأتيناه فلما خرج إلى الصلاة قلنا يا رسول الله نحن الفرارون. قال (بل أتنم الكرارون) فقبلنا يده قال ثم قلنا يا رسول الله إنا هممنا بكذا فقال إنا فئة المسلمين ثم قرأ {إلا متحرفا فالقتالِ أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغض من الله} . وبإسناد لنا أن ابن أبي ليلى قبل يد أبي مسلم فقال له رجل أتقبل يد أبي مسلم فقال له رجلٌ أتقبل يد أبي مسلم؟ قال أو ليس أبو عبيدة قبل يد عمر؟ قال أوتجعل أبا مسلم مثل عمر؟ قال أوتجعلني

الحض على السلام

مثل أبي عبيدة. وحدثنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن زكريا عن محمد بن عبيد الله العتبي قال قبل رجلٌ يد المهدي فقال يد أمير المؤمنين أحق يد بتقبيل لعلوها في المكارم وطهرتها من الماء ثم وأنك ليوسفي العفو إسمعيلي الصدق شعبي الرفق فمن أرادك بريدة خوف أو سوء فجعله الله طريد خوفك وحصيدة سيفك. ومن أجود ما قيل في ذلك من الشعر ما أنشدنا أبو أحمد عن الصولي لإبراهيم بن العباس في الفضل بن سهل قال أنشدنا ثعلب وأبو ذكوان: (لفضلِ بن سهل يدٌ ... تقاصرَ عنها المثلْ) (فبسطتها للغِنى ... وسطوتُها للأجل) (وباطنها للندَى وظاهرُها للقبل) فأخذه ابن الرومي فقال للقسم بن عبيد الله رحمه الله: (أصبحتَ بين خصاصةٍ وتجمّل ... والمرءُ بينهما يموتُ هزيلا) (فأمدد إليّ يداً تعوَّد بطنُها ... بذلَ النوالِ وظهرها التقبيلا) وقال أيضاً (له راحةٌ فيها الحطم وزمزم ... ) وقلت: (فظاهرُها للناس ركنٌ مقبلٌ ... وباطنهُا عين من الجواد عيلم) (هو البحر لاعينٌ من الجودِ عيلمٌ ... عفاء على عين من الجود عيلم) (يجلُ عن تقبيلِ ظاهرِ كفه ... وباطنها عن أن تقاس بزمزم) ومما جاء في كراهة ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن الغلابي عن العتبي قال إستأذن رجل هروان الجعدي في تقبيل يده فأبى وقال إنها لمن العربي ذلة ومن العجمي خدعة فلا حاجة لي في أن تذل لي أو تخدع فاعفني من ذلك. (الحض على السلام) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن إبراهيم بن عبد الله النمري عن الضحاك بن مخلد عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله & (إذا

وهو يهرق الماء فسلم عليه الرجل فرد عليه فقال إنه ما حملني على الرد عليك إلا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد علي فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي فإنك إن تفعل لا أرد عليك السلام) وعنه عليه السلام (تمام التحية أخذ باليد) وحدثنا أبو أحمد عن الصولي عن الغلابي عن العباس بن بكار عن المفضل الضبي عن جدته عن مكعت الأسدي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: (يقول أبو مكعت صادقا ... عليك السلام أبا القاسم) (سلام الإله وريحانه ... وروح المصلين والصائم) فقال رسول الله

جاء أحدكم المجلس فليسلم فإن قام والقوم جلوس فليسلم فإن الأولى ليست بأحق من الآخرة) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن إبراهيم بن فهد عن عبد الله بن رجاء عن سعيد بن سلمة عن أبي بكر عن نافع عن ابن عمر أن رجلا مر برسول الله وهو يهرق الماء فسلم عليه الرجل فرد عليه فقال إنه ما حملني على الرد عليك إلا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد علي فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي فإنك إن تفعل لا أرد عليك السلام) وعنه عليه السلام (تمام التحيةِ أخذٌ باليد) وحدثنا أبو أحمد عن الصولي عن الغلابي عن العباس بن بكار عن المفضل الضبي عن جدته عن مكعت الأسدي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: (يقولُ أبو مُكعت صادقاً ... عليك السلامُ أبا القاسم) (سلام الإله وريحانه ... وروح المصلين والصائم) فقال رسول الله (عليك السلامُ تحيةُ الموتى) قال المصنف تقول العرب للميت (عليك السلام) قال الشاعر: (عليك أبا بشر سلامٌ ورحمةٌ ... وقد بنْتَ منا كلنا لك حامدُ) (فلا يُبعدَنك اللهُ ميتاً فإنما ... حياةٌ الفتى سيراً إلى الموتِ قاصدُ) وقال عبدة بن الطبيب: (عليك سلامُ الله قيس بن عاصم ... ورحمتهُ ما شاءَ أنْ يترحما) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة قال دخل الحسن بن الكناني على عبد الله بن جعفر ذي الجناحين فأنشده قوله فيه: (عليك السلامُ أبا جعفرٍ ... وسيد فهر لدى المحضر) (فأنتَ المهذَّبُ من هاشم ... وخير قريشٍ إذا تذكر)

السلام على الكفار

فقال له عبد الله أخطأت مرتين (عليك السلام) أكثر ما تستعمل هذه للأموات وقد أمكنك أن تقول (سلامٌ عليك أبا جعفر) ثم جعلت لي ما كان لرسول الله ووصفتني بصفته، قال فاستمع البيت الذي سقت له ما سقت قال هاته فقال: (فهذي ثيابي قد أخلقتْ ... وقد عضَّني زمنٌ منكرُ) فقال عبد الله هذي ثيابي لك بها، ودعا بغيرها ودفعها إليه. (السلام على الكفار) حدثنا أبو أحمد عن الصولي عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال سلم نصراني علي الشعبي فقال له الشعبي وعليك السلام ورحمة الله، فقال له رجل سبحان الله تقول لهذا النصراني ورحمه الله! فقال الشعبي أليس في رحمة الله يعيش قال بلا قال فما وجه الإنكار علي عافاك الله تعالى وإيانا برحمته. (رد السلام بالإشارة) حدثنا أبو أحمد عن الصولي عن العباس بن الفضل الأسفاطي عن ثابت عن عبد العزيز عن هشام بن سعدٍ عن نافع عن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله إلى البقيع فقام فصلى فجاءت الأنصار تسلم عليه قال فسألت بلالاً كيف كان يردُ عليهم قال كان يشير إليهم بيده. وأنشدنا عنه عن محمد الأسدي عن أبي هفان عن أبي محلم لأبي طراد أسعد بن البكا البكري: (مررنا فقلناها السلام عليكمُ ... فبلغها ضيق المحل غَيورُ) (وما كنت أدري أن في الخير ربية ... ولا إنّ رجعاً بالسلام يضير) (ما جاء في المصافحة) وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن الأسفاطي عن يعقوب بن حميد عن إسحاق ابن إبراهيم بن سعيد عن صفوان بن سليم عن إبراهيم بن عبيد بن رفاهة عن ابن

حياك الله وبياك

أبي ليلى عن حذيفة قال قال النبي & (إذا لقي المؤمن المؤمن فصافح أحدهما صاحبه تناثرت الخطايا بينهما كما يتناثر ورق الشجر) . وقال الحسن: المصافحة تزيد المودة. وحدثنا عنه عن الغلابي عن ابن عائشة قال دخل سوار العنبري على المنصور فقال يا أمير المؤمنين على ما أحدث الناسُ اليوم أم على ما كان عليه الأوائل؟ قال بل على ما كان عليه، فدنا فصافحه. وأخبرنا عنه قال سمعت إبراهيم بن المنذر يقول دخل الفقهاء على المتوكل ونحن وقوف بين يديه فاستدناهم فكلٌ قبل يده إلا إسحاق بن إسرائيل فإنه قال يا أمير الؤمنين ما ينقصك أن أقبل يدك ولم يقبل يد المتوكل وقد حدثني الفضل ابن عياض عن هشام بن حسان عن الحسن قال المصافحة تزيد في المودة ويبقى بها المؤمنين فبسط المتوكل يده فصافحه، وصله المتوكل بأكثر مما وصل به أصحابه. وأنشدنا عنه عن أحمد بن إبراهيم المازحي لبعض شعراء الشام: (تصافحت الأكفُ وكان أشهى ... إلينا لو تصافحت الخدُودُ) (نموت إذا التقى كفٌّ وكفٌّ ... فكيفَ إذا التقى جيدٌ وجيد) وقال آخر: (فصافحتُ من لاقيتُ في البيتِ غيرها ... وكلُ الهوَى مني لمنْ لم أصافحْ) وقال أبو العتاهية يهجو عبد الله بن معن بن زائدة: (أختُ بني الشيبان مرَّتْ بنا ... ممسوطةً كوراً على بغلِ) (قد نقطتْ في كفِّها نقطةً ... مخافةَ العينِ من الكحلِ) (لقيتهُ يوماً فصافحته ... فقال دع كفي وخذ رجلي) (حياك الله وبياك) معنى حياك الله سلام عليك، والتحية أيضاً الملك فحياك الله على هذا التأويل ملكك الله، والتحية البقاء، وهو على هذا التأويل أبقاك الله، قال الأصمعي بياك

قولهم مرحبا

أضحكك، وقال علي الأحمري أرادوا بوأك منزلاً فقال بياك للاتباع كما قالوا الغدايا والعشايا، وقال ابن الأعرابي معناه قصدك بالتحية وبيت الشئ قصدته واعتمدته. وحدثنا عنه عن زياد بن خليل التستري عن إبراهيم بن بشار الرمادي عن سفيان عن محمد بن سوقة قال أتانا ميمون بن مهران فقلت له حياك الله فقال مه هذه تحية الشباب قل حياك الله بالسلام. وحدثنا عنه عن المغيرة بن محمد عن إسحاق الموصلي قال نزل الطماح العقيلي بقوم من بني تميم فأحسنوا إليه فأراد الرحيل عنهم فقال: (حيَّاكم اللهُ فإني مُنقلبْ ... بشكرِ إحسانكم كذا يجبْ) (وإنما الشاعر كالكلبِ الكلِب ... يملك عند رغبٍ وإنْ رهبْ) (لا يرعوي لمبغض ولا مُحبّ ... أكثر ما يأتي على فيهِ الكذبْ) وأنشدنا عنه عن المبرد لعمارة: (حيَّا الآله خيالها من دانِ ... لو كانَ زارَ زيارةَ اليقظان) (لو كانَ عَرَّج أو تعللَ ساعة ... حتى نسأله عن الأوطانِ) (كفانِ شيدتا بناءَ محامدٍ ... لمهذّبٍ هشّ أخي إخوان) (تلقى له دعة الكهولِ وحلمهم ... وتقاهُم وحلاوة الفتيان) وأنشدنا عنه عن أحمد بن إبراهيم: (حياكَ من لم تكن ترجو تحيتهُ ... لولا الدراهمُ ما حّياكَ إنسانُ) (قولهم مرحبا) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن محمد بن زيد المبرد النحوي عن أبي عثمان المازني قال لما أتى الرشيد الرقة تلقاه محمد بن ذؤيب العماني فأنشده: (هارون يا ابن الأكرمينَ حسباً ... لما ترحَّلتَ وكنتَ كثبا) (من أرض بغداد تؤم المغربا طابت لنا ريح الجنوب والصبا)

(ونزلَ الغيثُ لنا حتى رَبا ... ما كانَ من نشرٍ وما تصوّبا) (فمرحباً ومرحباً ومرحبا ... ) فقال الرشيدُ وبك مرحباً وأهلا، ووصله بصلة سنية. وحدثنا عنه عن عبيد الله بن عبد الله قال لما دخل أبو مضر أنشده سعيد بن الوليد المعروف بالبطين: (مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي الجودِ طاهرِ بن الحسينِ) (مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي الغرتينِ في الدولتينِ) (مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي المحتدينِ في المصرينِ) (مرحباً مرحباً بمن كفهُ البحرُ ... إذا فاضَ مُزبد العبرينِ) فوصله وقدمه. وقديماً ما استعلموا مرحباً في كلامهم، (ومنه) قول طفيل الغنوي: (وبالسهل ميمون النقيبةِ قوله ... لملتمس المعروفِ أهلٌ ومرحبُ) وأخبرنا عنه عن محمد بن العباس اليزيدي عن محمد بن الحسن الزرقي عن الحسين بن علي العلوي المديني عن بعض أصحابه عن المازني قال كان أعرابي يلزمنا وكان فصيحاً فقال له علي بن جعفر بن سليمان وكان جافياً لا يعطيه شيئاً إلا مرحباً فقال فيه الأعرابي: (وما مَرْحباً إلا كريح تنسمتْ ... إذا أنتَ لم تخلطْ نوالاً بمرحبِ) ومثل هذا قول جحظة البرمكي: (قائلٌ إن شدوتُ أحسنتَ زدني ... وبأحسنتَ لا يباعُ دقيقُ) وأخبرنا عنه عن أبي العيناء قال استأذن رجل على الحسن بن سهل فقيل له من أنت قال رجل أمر له الأمير يوم كذا بعشرة آلاف درهم فأمر بإدخاله فلما رآه قال مرحباً بمن توسل إلينا بنا وشكر إحساننا إلينا، وأكرمه. وأخبرنا عنه قال سمعت إبراهيم بن المدبر الكاتب الضبي يثني على ابن الجهم في

صداقته ومروءته فقال في ذلك كنت واقفاً بين يدي المتوكل وقد جئ برأس إسحاق بن إسماعيل وجهٍ به بغا، فارتجل علي بن الجهم شعراً وقال: (أهلاً وسهلاً بك من رسول ... جئتَ بما يشفي من الغليلِ) (بجملة تغني عن التفصيلِ ... برأس إسحاق بن إسماعيل) ومر بأبيات فاستحسن ذلك المتوكل ووصله بصلةٍ سنية، قال وأنشدني ثعلب: (فمالك نعمةٌ سلفتْ إلينا ... وكيفَ وأنتَ تبخلُ بالسلامِ) (سوَى أن قلتَ لي أهلاً وسهلاً ... وكانت رَمية من غير رام) وقلت: (تضنُ بتسليم وزورةِ ساعةٍ ... فكيفَ يُرَجّى جودُ كفيك بالوفرِ) وأنشدنا عنه عن أبي موسى محمد بن موسى مولى بني هاشم قال أنشدني عبد السلام ابن رغبان الحمصي المعروف بديك الجن لنفسه: (بأبي وإن قلتُ لهُ بأبي ... من ليسَ يعرفُ غيرَه أربي) (قَرْطسْتُ عشراً في مَوَدَّتهِ ... لبلوغِ ما أمّلتُ من طلبي) (ولقد أراني لو مددْتُ يدي ... شهرين أرمي الأرضَ لم أصب) أنشدنا عنه قال أنشدنا عبد الله بن المعتز لنفسه: (قلتُ يوماً لها وحركتِ العود ... بمِضرابها فغنَّتْ وغنَّى) (ليتني كنتُ ظهرَ عودِك يوماً ... فإذا ما أخذتهِ صرتُ بطنا) (فبكتْ ثم أعرضتْ ثم قالتْ ... مَن بهذا أنباكَ في النومِ عنّا) (قلتُ لما رأيتُ ذلك منها ... بأبي ما عليك أنْ أتمَنَّى) قال وسمعت محمد بن عبيد الله بن يحيى الوزير يقول دخل أبو العيناء إلى أبي فقال له كيف حالك فقال أبو العيناء أنت أعزك الله الحال فانظر كيف أنت لي فوصله ووقع له بأرزاقه وحدثنا عنه عن عون بن محمد الكندي عن عبيد الله. عمر قال قيل لرجل من قريش كيف حالك؟ فقال كيف حالُ من يهلك ببقائه ويسقم بصحته ويؤتى من مأمنه. ومثله:

ما جاء في أطال الله بقاك

(ما حال من آفته بقاؤه ... نغصَ عيشي كله فناؤه) وقال سعيد بن حميد: (لكَ عبدٌ فلو سألت ... بهِ كيفَ حالهُ) (يا قريباً مزارهُ ... وبعيداً نوالهُ) (حاضراً لي صدوده ... حينَ يرجى وصاله) (مسعدٌ لي مقاله ... فاتكٌ لي مطاله) (محسنٌ في كلامه ... ومسئٌ فعالهُ) (ما جاء في أطال الله بقاك) أول من قاله عمر رضي الله عنه روى عن رفاعة بن رافع قال شهدت نفراً من أصحاب رسول الله فيهم عمر وعثمان وعليٌ وطلحة والزبير وسعدٌ يذكرون الموؤدة فاختلفوا فيها فقال عمر أنتم أصحاب رسول الله تختلفون فكيف بمن بعدكم فقال عليٌ عليه السلام إنها لا تكون موؤودة حتى يأتي عليها الحالات السبع فقال له عمر صدقت أطال الله بقاك. قال ابن لهيعة المعنى لا تكون موؤدة حتى تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً ثم تظهر ثم تستهل فحينئذ إذا دفنت فقد وئدت وليس كما يقول بعض الناس إن المرأة إذا تدوات فأسقطت فقد وأدت. وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن أحمد ابن يحيى عن عبد الله بن شبيب قال كتب إلي بعض إخواني من البصرة إلى المدينة: أطال الله بقاك كما أطال جفاك وجعلني فداك إن كان في فداؤك شعر: (كتبت ولو قدرتُ هوىً وشوقاً ... إليك لكنتُ سطراً في الكتاب) قال الشيخ أبو هلال رحمه الله تعالى: والبيت لأبي تمام. (جعلت فِداك) دخل الزبير على النبي & وهو عليلٌ فقال ما يعمدك جعلني الله فداك فقال

دعاء المكاتبة

النبي & (يا زبير أما تركتَ أعرابيتك بعدُ) وحدثنا عنه عن يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن إسحاق قال حجبني خادمٌ لجعفر بن يحيى يقال له نافذ فانقطعت عنه فسأل عني فعرفه سبب انقطاعي فقال قل له إن حجبك إنسانٌ فافعل به لا يكنى قال فجئت فحجبني فكتبت إليه ارتجالاً في الحال: (جُعلتُ فداءَك من كلِّ سوءٍ ... إلى حسنِ رأَيك أشكو أُناساً) (يحولونَ بيني وبينَ الدخولِِ ... فما أنْ أسلم إلا اختلاسا) (وأنفذتُ أمركَ في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلا شِماسا) فضحك لما قرأ الأبيات وأدخلني وقال أفعلت يا أبا إسحاق فقلت بعض ذلك، وتقدم إلى نافذ وغيره أن لا أحجب متى حضرت. (دعاء المكاتبة) حدثنا عنه عن أبي ذكوان قال سمعت إبراهيم بن العباس يقول ما أظن قول الكتاب: وقدمني الله قبلك مأخوذ إلا من قول الأغر بن كاسر في أخيه صقر: (أخي أنت في دينٍ ودُنيا كلاهما ... أسرُ بأن تبقى سليماً وأفخرُ) (إذا ما أتى يومٌ يفرِّقُ بيننا ... بموتِ فكن أنت الذي يتأخر) فقيل له هذا يروى لحاتم فقال وما على من لا يدري أن ينسب شيئاً إلى غير قائله. فأما قولهم (وأتم نعمته عليه وزاد في إحسانه إليه) فهو من قول عدي بن الرقاع: (صلّى الآله على امرئ ودعته ... وأتم نعمته عليه وزادها) قالوا وأول من قال (وأسأله أن يصلي على محمد) إسحاق بن سليمان بن علي. وأنشد للسري في ضد قولهم مت قبلك وإن الحظ عنده أن يكون هو ومن يحب يموتان في وقت واحد: (لامت قبلك يا أخي لا باخلاً ... بالنفسِ عنك ولا تمتْ قبلي) (وبقيتَ لي وبقيتُ فيك مُمتَّعاً ... بالبرَ والنعماءِ والفضلِ)

كيف أصبحت

(حتى إذا قصد الحمامُ لنا ... من بعدِ عمرٍ وارد الحبل) (مُتنا جميعاً لا يُؤخَّرُ واحد ... عن واحدٍ لمرارةِ الثكلِ) (وكفاك من نفسي شهيدٌ ناطقٌ ... يا صاحِ أنك عندها مِثلي) وفي نحو ذلك قول الآخر: (إني لأشفقُ أن أُؤخرها ... بعدي وأكره أن أقدِّمها) وقال يعقوب بن الربيع: (فلو أنها إذْ حانَ وقتُ حِمامها ... أحكمُ في أمري لشاطرتها عمري) (فحلّ بنا المقدارُ في ساعة معاً ... فماتت ولا أدري ومتُ ولا تدري) وقريب منه قول الآخر: (لا متَّ من قبلي ولا متُ من ... قبلك بل عشنا إلى الحشرِ) (حتى نُوافي الموتَ في ساعةٍ ... لا أنتَ تدري بي ولا أدري) (كيف أصبحت) حدثنا عنه عن أيوب بن سليمان بن داود المهلبي عن محمد بن عباد قال كان جرير ابن حازم يقول: العربُ تقول كيف أصبحت من نصف الليل إلى نصف النهار وكيف أمسيتَ من نصف الزوال إلى نصف الليل الأول، وتقول في يومك كان الليلة كذا إلى الزوال فإذا زالت الشمس قلت البارحة، هذا معروفٌ عندهم، وحدثنا عنه عن الفضل بن الحباب عن التنوخي قال العرب تقول صبحتك الأنعمة بطينات الأطعمة وحدثنا عنه عن البلعي عن أبي حاتم عن الأصمعي قال قيل لأبي عمرو بن العلاء كيف أصبحت قال أصبحت كما قال الربيع بن ضبع الفزاري: (أصبحتُ لا أحملُ السلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إن نفراً) (والذَّئْبُ أخشاهُ إن مررتُ بهِ ... وحدي وأخشى الرياحَ والمطرا) وحدثنا عنه عن أبي ذكوان عن التنوخي عن الفراء قال كنتُ عند الكسائي

فقال له رجلٌ كيف أصبحت؟ فقال أصبحت كما قال الصمة بن عبد الله بن طفيل القشيري: (أصبحتُ مالي من عز ألوذ بهِ ... إلا التعرز بعد السيف والبدن) (تعرضة جانب الأدنون جانِبها ... والأهلُ بالشام والإخوانُ باليمنِ) وأنشدنا عنه قال أنشدنا محمد بن يزيد المبرد النحوي قال أنشدني المازني عن أبي زيد: (كيف أصبحتَ كيف أمسيتَ مما ... يثبتُ الودَ في فؤادِ الكريمِ) وحدثنا عنه عن محمد بن الفضل بن الأسود عن عمر بن شبة عن الحسين ابن الضحاك الخليع قال كنت في المسجد الجامع بالبصرة إذ دخل علينا أبو نواس وعليه جبة خز جديد فقلتُ له من أين لك هذه يا أبا علي؟ فلم يخبرني فتوهمت أنه أخذها من مويس بن عمران لأنه دخل من باب بني تميم فقمت فأجد مويساً وقد لبس جبة أخرى فقلت: (كيف أصبحتَ يا أبا عمرانِ ... يا كريمَ الإخاءِ والإخوانِ) فقال صبحك الله به وأسمعك خيراً. فقلتُ: (إنَ لي حاجةً فرأيك فيها ... إننا في قضائها سيانِ) فقال هاتها على اسم الله تعالى فقلت: (جُبة من جبابك الخزِّ حتى ... لا يراني الشتاءُ حيثُ يراني) قال خذها، ومد كمه فذرعتها وجئت فقال أبو نواس من أين لك هذه؟ قلت من حيثُ كانت لك تلك. وحدثنا عنه عن وكيع عن علي بن عبد الله بن حمزة بن عتبة اللهبي قال دخلت على محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي أعوده فقلت له كيف أصبحت فقال كما قال الشاعر:

(إن الليالي أسرعت في نفضي ... أخذن بعضي وتركن بعضي) (أقعدني من بعد طول نهضي ... ) وقيل لأعرابي كيف أصبحت؟ فقال أصبحت والله كما قال الشاعر: (يا خيرُ إني قد جعلتُ أشتمر ... أرفعُ من ثوبيَ ما كنت أجُرّ) وحدثنا عنه عن الغلابي عن محمد بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه قال لقي بكر بن عبد الله المزني أبا تميمة الهجيمي فقال كيف أصبحت أبا تميمة؟ فقال أصبحت بين ذنوب قد سترها الله علي ما يقدر أحدٌ أن يعيرني منها بذنب وبين محبةٍ قد ألقاها الله في قلوب الناس لستُ لها بأهل وقد خفتُ أن أهلك بين هذين وأنا ضعيف الشكر. قال وقيل لقريبة الدبيرية كيف أصبحت؟ فقالت: (بخيرٍ على أنَّ النوَى مطمئنةٌ ... بليلى وإنَ العينَ يجري مَعينها) وقيل لأعرابي كيف أصبحت؟ قال بخير أحتسب على الله بالحسنةِ ولا أحتسب على نفسي بالسيئة. وقال رجلٌ لأبي العيناء وقد كبر وضعف: كيف أصبحت؟ فقال في الداء الذي يتمناه الناس لأعدائهم. وحدثنا عنه عن الغلابي عن إبراهيم عن عمر عن أبي عبيدة قال قيل للنمر بن تولب كيف أصبحت يا أبا ربيعة؟ فقال ارتجالاً على البديه: (أصبحتُ لا يحملُ بعضي بعضا ... أشكو العروقَ النابيات نبضا) (كما تشكي الأرجبي الغرضا ... كأنما كان شبابي قرضا) وحدثنا عنه عن القاسم بن إسماعيل عن محمد بن سلام عن ابن داب قال قيل لمحارب بن دثار كيف أصبحت؟ فقال أصبحت كما قال الشاعر الأعشى: (أرقتُ وما هذا السهادُ المؤرِّقُ ... وما بي من سُقمٍ وما بي عشقُ) (ولكنْ أراني ما أزال بحادثٍ ... أغادي بما لم يُمسِ عندي وأطرقُ) وحدثنا عنه عن المقدمي عن أبي عمر بن خلاد قال قال الربيع الحاجب لأبي العتاهية كيف أصبحت فقال:

(أصبحتُ والله في مضيق ... هل منْ دليلٍ على الطريقِ) (أفٍ لدنيا تلاعبتْ بي ... تلاعبَ الموج بالغريقِ) (أصبتُ فيها دُريهماتٍ ... فبغضتني إلى الصديقِ) وحدثنا عنه عن علي بن الصباح عن بشر بن مسعود المازني قال كان لسفيان بن عيينة جارٌ سئ الحال فحسنت حاله فقال له سفيان كيف أصبحت وكيف حالك لقد سررت بما صرت إليه بعد غم بما كنت فيه فدعا الرجل له ومضى، فقال له بعض جلسائه كيف تكلم هذا؟ قال هو جارٌ قال إنه قد صار صراطاً لهؤلاء، قال سفيان إن كان في الناس أحدٌ طلب الدنيا من حيث يستحق فهذا. وحدثنا عنه عن المغيرة بن محمد المهلبي قال قدم أبو العتاهية البصرة إلى عيسى بن جعفر فأقام شهوراً ثم أعتل فقال: (أصبحتُ بالبصرة ذاغربة ... أدفَعُ من همّ إلى كرْبَه) (أطلبُ عُتبي من حبيب نأى ... وليسَ لي عُتبي ولا عُتبه) وحدثنا عنه عن المبرد قال قال الجماز لأبي العالية كيف أصبحت؟ قال على غير ما يحب الله وغير ما أحب وغير ما يحب إبليس لأن الله تعالى يحب أن أطيعه ولاأعصيه ولست كذلك وإبليس يحب أن أعصي الله ولا أطيعه ولست كذلك وأنا أحب أن أكون على غابة الثروة والصحة ولست كذلك. حدثنا عنه عن الحسن بن الحسين الأزرق عن العباس بن محمد عن عمرو بن الحارث عن محمد بن سلام قال قال أبو حراثة وهو من بني ربيعة بن حنظلة ليزيد بن المهلب: كيف أصبحت أصلح الله الأمير؟ قال كما تحب يا أبا حراثة قال لو كنت كذا لكنت قائماً مثلي وكنت أنا قاعداً في مقعدك وكان قميص ابني المرقوع على ابنك والتومتان اللتان في أذن ابنك على ابني. قال يزيد فالحمد لله الذي جعلك كذا وجعلني كذا، فقال إلا أني في ضيق أنتظر سعةً وأنت في سعة تنتظر ضيفاً. وحدثنا عنه عن أبي العيناء عن العتبي قال قيل لأعرابي كيف

أصبحت قال أصبحت أعثر بالعبرة وأقيد بالشعرة وأفزع من النعرة. وحدثنا عنه عن الغلابي عن دماذ عن الهيثم بن عدي قال كان هرم بن سنان المزني قد آلى على نفسه أن لا يسلم عليه زهير إلا وهب له غرة من ماله فأشفق عليه زهير من ذلك وكان يمر بالمجلس وهرم فيهم فيقول أنعموا صباحاً غير هرم خيركم تركت ففخر عقبة بن كعب بن زهير بذلك في قوله: (إني لأصرفُ نفسي وهي صاديةٌ ... عن مصعبٍ ولقد بانت ليَ الطرق) (رعوي عليه كما أرعى على هرم ... قبلي زهيرٌ وفينا ذلك الخلقُ) (مدحُ الكرام وسعىٌ في مسرتهم ... ثم الغنى ويدُ الممدوح منطلقُ) ومثله قول حاجز الأزدي: (وإني لأستبقي إذا العسرُ مسني ... بشاشةَ وجهي حينَ تبلى الطبائعُ) (فأعفي ثرى قومي ولو شئتُ نولوا ... إذا ما تشكى الملحفُ المتضارع) (مخافةَ أن أقلي إذا جئتُ زائراً ... وترجعني نحوَ الرجالِ المطامع) ومن مليح ما قيل في فديتك: (فدتك النفس وهي أقلُ بذلٍ ... صلي حسن المقال بحسنِ فعلِ) (أريني منك في أمري نهوضاً ... يبين أن شغلك بي كشغلي) وأخبرنا عنه عن محمد بن خلف بن المرزبان قال اجتمع عندي أحمد بن أبي طاهر والناشي ومحمد بن عروس فدعوت لهم مغنية فجاءت ومعها رقيبة لم ير الناس أحسن منها قط فلما شربوا أخذ الناشي رقعة فكتب فيها / (فديتك لو أنهم أنصفوا ... لردُّوا النواظرَ عن ناظريك) (تَردِّينَ أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العينُ إلا إليك) (ألا يقرؤا ويحهم ما يرونَ ... من وحي حسنك في وجنتيك) (وقد جعلوك رقيباً علينا ... فمن ذا يكون رقيباً عليك)

ما جاء في الدعاء للخارج إلى السفر

قال فشغفنا بالأبيات فقال ابن أبي طاهر أحسنت والله وأجملت قد والله حسدتك هذه الأبيات ووالله لا جلست وقام وخرج من ساعته ولم يعد إلى الشرب بقية يومه. (ما جاء في الدعاء للخارج إلى السفر) أخبرنا عنه عن إبراهيم بن فهد الساجي عن نصر بن علي عن عبد الله بن داود عن مسعر عن ميسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ودع رسول الله & رجلاً أراد سفراً فقال (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) وحدثنا عنه عن أبي علي العتابي قال رأيت أبا شراعة القيسي آخذاً بسفينة إبراهيم بن المدبر وقد عزل عن البصرة وهو يريد الخروج وأبو شراعة ينشده: (ليت شعري أيَّ قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من طولِ العجفْ) (نَزَلَ الرحبُ من الله بهم ... وحُرمناك لذنبٍ قد سلف) (إنما أنتَ ربيعٌ باكرٌ ... حيثما صَرَّفه الله انصرفْ) (يا أبا إسحاق سِرْ في دعةٍ ... حيثما شئتَ فما منك خلفْ) وأخبرنا عنه عن الغلابي عن الزبير قال ودع ابن المعافي صديقاً له أراد سفراً فأنشده عند وداعه: (خلفَ الله الذي خلفته ... ووقاك اللهُ وعثاءَ السفرْ) (إنني أشكرُ ما أوليتني ... لم يضع حسن بلاء من شكر) (ردَّك اللهُ إلينا سالماً ... بعدَ غنم واغتباطٍ وظفر)

الدعاء للقادم من السفر

(الدعاء للقادم من السفر) أنشدنا عنه لمحمد بن عبد الله الأخيطل: (أقدمُ قدمتَ قدومَ عارضِ مُزنةٍ ... يهتزُّ بينَ أهابِها الفضفاضِ) (من كلِّ مثعبة الرِّياح ثقيلةٍ ... تمشي به مشي الوجى المنهاض) (مُسودةٌ مُبيضةٌ فكأنها ... دُهمٌ مولوعةٌ الشوى ببياض) وقال ابن الرومي: (قدومُ سعادةٍ وقفولُ يمن ... هي السرَّاء تمحقُ كلَ حُزنِ) (أظلتك السلامة ما تغنَّتْ ... مُطوَّقة على فننٍ تغني) قوله (أظلتك السلامة) في غاية الرشاقة وأحسن منه قوله: تمحق كل حزن. (الدعاء للمهزوم) حدثنا عنه عن الغلابي عن عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي عن عوانه قال لما انهزم أسلم بن زرعة الكلبي من مرداس بن أذنية بآسك وكان في ألفي رجل، ومرداس الخارجي في أربعين رجلاً، وفيهم يقول شاعرهم (أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويهزمكم بآسك أربعونا) (كذبتم ليسَ ذَاك كما زعمتم ... ولكنّ الخوارجَ مؤمنونا) (همُ الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا) فدخل أسلم البصرة فقالت له امرأةٌ من قومه والله لأن تعيش حميداً خيرٌ من أن تموت شهيداً ولأن تدوم عبادتك بحياتك أزلف لك من أن تنقطع بمماتك،

الدعاء للمعزول

قال ودخل على ابن زيادٍ فعنفه واستعجزه فقال أيها الأمير كنت في ألفين جميعهم مثلي وقاتلت أربعين كل واحدٍ منهم مثلي ويزيد علي ولأن يذمني الأمير حياً خيرٌ من أن يمدحني ميتاً. وحدثنا عنه عن القسم بن إسماعيل عن رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة قال لما هزم أبو فديك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بهجر قدم البصرة في ثلاثة أيام فدخل عليه الناس وفيهم صفوان بن عبد الله بن الأهتم المنقري أبو خالد بن صفوان والناس لا يدرون كيف يدعي للمهزوم حتى قال صفوان أم والله أيها الأمير لقد تعرضت للشهادة جهدك وطلبتها طاقتك ووسعك فعلم الله فقرنا إليك وقلة عوضنا منك فاختار لنا عليك ببقائك ولم يختر لك علينا باستشهادك فالحمد لله الذي زين بك مصرنا وآنس ببقائك وحشنا وجلا بسلامتك غمنا. فعلم الناس كيف يدعى للمهزوم فسلكوا هذا المسلك. ومن أحسن الاعتذار للمهزوم قول فروة بن مسيك العطيفي وأجاد: (فإن نهزم فهزّامونَ قدماً ... وإن نهزم فغير مهزمينا) (وما إن طبّنا جبنٌ ولكنْ ... منايانا ودولة آخرينا) فقوله (ودولة آخرين) من أحسن الاعتذار الواقع من المهزوم. (الدعاء للمعزول) أنشدنا عنه عن عون بن محمد الكندي لأبي تمام الطائي: (ليهنك إن أصبحتَ مجتمعَ الشملِ ... وراعي المعالي والمحامي عن المجدِ) (وإنك صنتَ الأمرَ فيما وليتهُ ... وفرقتَ ما بينَ الغوايةِ والرشدِ) (فلا يحسب الأعداءُ عزلك مغنما ... فإنّ إلى الإصدارِ ما غاية الورد) (وما كنتَ إلا السيفُ جردَ للوغى ... وأخمد فيه ثم رُدَ إلى الغمدِ) وأخبرنا عنه عن الحسين بن يحيى قال حدثنا إسحاق قال عزل هشام بن إسماعيل

دعاء الأعياد

المخزومي عن المدينة فاشتد العزل عليه فقال له عروةُ بن أذينة: (فإن تكن الأمارة عنك زالت ... فإنك للمغيرة والوليدِ) (وقد مرَ الذي أصبحتَ فيهِ ... على مروانَ ثمَ على سعيد) وأخبرنا عنه قال دخلت يوماً مع أبي العباس محمد بن يزيد النحوي إلى عبد الله ابن الحسين القطر بلى وقد صرف عن عمل فقال أقول لك ما قاله أبو عبادة البحتري: (شهدَ الخرجُ إذ توليتهُ أنك ... في جمعهِ الأمينُ الأعفُ) (حيثُ لا عند مجتبي منه إلظاظ ... ولا في سياق جابيهِ عُنفُ) (سيرةُ القصدِ لا الخشونة عنفٌ ... لتعدي المدى ولا اللين ضعفُ) (وعلى حالتيك يستصلحُ الناس ... إباءً من جانبيك وعطفُ) (لن يُولي تلك الطساسيج إلا ... خلف منك آخرَ الدهرِ خلفُ) (إنْ تشكت رعيةٌ سوءَ قبضٍ ... بك أو أعقبَ الولايةَ صرفَ) (فقديماً تداولَ العسرُ واليسر ... وكلّ قذى على الريح يطفو) (يفسدُ الأمر ثم يصلحُ عن قربٍ ... وللماءِ كدرةٌ ثم يصفو) ولما عزل إبراهيم بن المدبر عن البصرة أنشده أبو صفوان الثقفي: (أبا إسحاقَ إن تكن الليالي ... عطفنَ عليك بالعزلِ اللئيم) (فلم أرَ صرفَ هذا الدهر يجري ... بمكروهٍ على غيرِ الكريمِ) وقال أبو العتاهية في محمد بن هشام السدري: (لا يهنأ الأعداء عزل ابن هاشمٍ ... فكلُ مُولى قصرهُ الصرفُ والعزلُ) (لقد كان ميمونَ الولايةِ قابضاً ... يدَ الجورِ مبسوطاً به الحقُ والعدلُ) (يَرُومُ رجالٌ حطهُ وهو سابقٌ ... أبى الله إلا أن يطولَ وأن يعلو) (دعاء الأعياد) أخبرنا عنه عن جبلة بن محمد الكوفي عن أبيه قال قال ابن شبرمة لعيسى

ما قيل في القيام للأجلاء

ابن موسى يوم أضحى: قبل الله منك الفرض والسنة واستقبل منك الخير والنعمة وقرن بالإقبال يومك. (ما قيل في القيام للأجلاء) أخبرنا أبو أحمد عن الصولي قال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الأكبر قال خضر بعض العرب مجلساً فجاء صديقٌ له فتلقاه من بعيد وقال: (لئن قمتُ ما في ذاك عنديَ غضاضةٌ ... عليَّ وإني للشريفِ مُذلل) (على أنه مني لغيرك ذلةٌ ... ولكنه بيني وبينك يجملُ) ومن مشهور ما قيل في هذا المعنى: (فلما بصرنا بهِ ماثلاً ... حللنا الحبى وابْتدَرْنَا القياما) (فلا تنكرنَّ قيامي لهُ ... فإن الكريمَ يجلُ الكراما) وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي عن يحيى البحتري لأبيه في عبيد الله بن عبد الله من قصيدة طويلة: (ومُبجل وسطَ الرجالِ خُفوفهم ... لقيامهِ وقيامهم لقعودهِ) (فالله يكلؤهُ لنا ويحوطهُ ... ويعزهُ ويزيدُ في تأييده) وقال غيره: (أتعجبُ أن أقومَ إذا بدا لي ... لأكرمهُ وأعظمهُ هِشامُ) (فلا تعجبْ لإسراعي إليهِ ... فإنّ لمثلهِ خلقَ القيامُ) وقال البحتري: (يقومونَ من بعدٍ إذا بصروا بهِ ... لأبلجَ موفورِ الكرامةِ أروعِ) (ويبتدرُ الراؤونَ منهُ إذا بدا ... سنى قمرٍ من سُدَّة الملكٍ مَطلعِ) (إذا سارَ كفَ اللحظ عن كلِّ منظر ... سواه وغضَ السمعُ عن كلِّ مسمعِ)

ما قيل في شعبان وشهر رمضان وشوال

(فلستَ ترى إلا إفاضةَ شاخصٍ ... إليهِ بعينٍ أو مشيراً بأصبعِ) (ما قيل في شعبان وشهر رمضان وشوال) فمنه قول الفرزدق وأجاد في ذلك: (إذا ما مضى عشرونَ يوماً تحركت ... أراجيفُ بالشهرِ الذي أنا صائمه) (وطارتْ رقاعٌ بالمواعيدِ بيننا ... لكيْ يلتقي مظلومُ قوم وظالمهْ) (فإن شالَ شوالٌ تُشل في أكفنا ... كؤوسٌ تعادى العقلَ حينَ تسالمه) ومعاني هذه الأبيات كلها متبكرة لم يسبق إليها الفرزدق. وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي عن الرياشي عن أبيه: (وقفنا فلولا أننا راضنا الهوى ... لهتكنا عندَ الرقيبِ نحيبُ) (ومن دونِ ما نلقاهُ من لوعةِ الهوى ... تُشَقُّ جيوبٌ بل تُشقُ قلوبُ) (على أنَ شوالاً أشالَ بوصلنا ... ومرتعهُ للعاشقينَ خصِيب) وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي قال أنشدنا ابن بسام لنفسه: (سقيا لشهرِ الصومِ من شهرِ ... عندي لهُ ما شاءَ من شكرٍ) (كم من عزيزٍ فيهِ فُزنا به ... أنهضهُ الليلُ من الوكر) (ومن إمامٍ كانَ لي وصلهُ ... إلى كحيلِ العينِ بالسحرِ) (لو كانَ يدري بالذي خلفهُ ... أعجلهُ ذاك عن الوتر) (وخلةٌ زارتك مُشتاقة ... في ليلةِ القدرِ على قدرِ) (فانصرفَ الناسُ بما أمَّلوا ... وبُؤت بالآثام والوزرِ) وأنشد المبرد للحارثي: (شهرُ الصيام وإن عظَّمت حرمتهُ ... شهرُ طويلٌ بطئ السيرِ والحركهْ) (يمشي الهوينا إذا ما رامَ فرقتنا ... كأنهُ بطةٌ تنجرُ في شبكه) (لا يستقرُ فأما حينَ يطلبنا ... فلاسليك يُدانيهِ ولا سُلكه)

(كأنهُ طالبٌ ثأراً على فرس ... أجدُ في إثرِ مطلوب على رمكهْ) (يا صدق من قالَ أيامٌ مباركةٌ ... إن كانَ يكنى عن اسم الطولِ بالبركهْ) وقال آخر: (مضى رمضانُ محموداً وأوفى ... علينا الفطرُ يقدمهُ السرورُ) (وفي مرَ الشهورِ لنا فناءٌ ... ونحنُ نحبُّ أن تفنى الشهورُ) وحدثنا أبو أحمد عن الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى قال كتب الحسين بن وهب إلى الحسن بن رجاء يوم شك وقد أفطر الواثق: (هَززتكَ للصبوحِ وقد نهانا ... أميرُ المؤمنينَ عن الصيامِ) (وعندي من قنان المصرِ عشرٌ ... تطيبُ بهنَ دائرةُ المدام) (فكن أنتَ الجوابَ فليسَ شئٌ ... أحبّ إليَّ من حذفِ الكلامِ) وقال غيره: (أقول لصاحبيَّ وقد بدا لي ... هلالُ الفطرِ من تحتِ الغمام) (سنسكرُ سكرةً شنعاءَ جهراً ... وننعرُ في قفا شهرِ الصيام) وقال محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله الجعفري: (هل لك في صهباءَ مشمولةٍ ... ليست من الدبسِ الذي ينبذُ) (فإنَ شعبانَ على طيبهِ ... دربٌ إذا فكرتَ لا ينفذُ) وقال أحمد بن يزيد: (ألا سقياني من معتقةِ الخمرِ ... فلا عذرَ لي في الصبرِ أكثرَ من شهرِ) (وإنْ كنتما لم تعلما فتعلما ... بأنَ زمانَ الصومِ ليس من العمرِ) وحدثنا أبو أحمد عن الصولي قال حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي الموج الرازي وقال حدثني أبي قال كتب علي بن جبلة إلى أبي دلف يستسقيه نبيذاً في يوم عيد الفطر فوجه إليه بما كفاه وبمائتي دينار فقال علي بن جبلة

فصل في معان مختلفة

(وأبيض عجليُّ رأيتُ غمامةُ ... وأسيافهُ تقضي على الحِدْثَانِ) (مَددتُ إليهِ ذمّتي فأجارها ... وأغنى يدي عن غيرهِ ولسانيِ) (شربتُ وَرَوَّيْت النديمَ بماله ... وأدركت ثأرَ الراح من رمضانِ) (وكانَ لشوالٍ عليّ ضمانةٌ ... فكانت عطايا جودهِ بضمانِ) وحدثنا عن الصولي قال حدثنا أبو ذكوان القسم بن إسماعيل قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة قال أسلم أعرابي في أول الإسلام فأدركه شهر رمضان فجاع وعطش فقال الأعرابي يذكر ذلك: (وجدنا دينكم سهلاً علينا ... شرائعهُ سوى شهرِ الصيامِ) (فصل في معان مختلفة) أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن عمه قال كانت عند رجل من بني أسد ابنة عم له ورآها فدخل إليها يوماً وهي متغضبة فقال ما شأنك. قالت إنك لا تشبب بي كما يشبب الرجال بنسائهم، قال أفعل ثم أنشأ يقول: (تمتْ عبيدةُ إلاّ في ملاحِتها ... والحسنُ منها بحيثُ الشمسُ والقمرُ) (ما خالفَ الظبيُ منها حينَ تُبصِرُها ... إلا سوالفُهُ والجيدُ والنظرُ) (قُلْ للذي عَابها من حاسد حَنق ... أقصر فرأسُ الذي قد عبتَ والحجر) وأنشدنا للعديل بن الفرج العجلي: (هل تقضينَ لمستهام حاجةً ... نيطت إليك بها حبالُ رجائهِ) (أفنى تجلدهُ بقاءُ دموعهِ ... وأدامَ عَبرتهُ فناءُ عزائهِ) وحدثنا أبو أحمد عن الصولي عن أحمد بن محمد الخراساني قال كنت في مجلس ابن ثوابة فناظره رجلٌ عن ضيعة له فاستقصى الحجة وأخذ بنفسه فقال ابن ثوابة

يا مابون فوثب الرجل وهو يقول: (كلانا يرى الجوزاءَ يا جُمل أن بدت ... ونجمُ الثريا والمزارُ بعيدُ) فتحدث الناس بها مدةَ. قال أبو بكر ويشبه هذا حديثاً حدثناه أبو العيناء قال خاصم يوماً جيلان القمي المقبول الزيادي فقال المقبول يا دعي فأنشأ جيلان يقول: (بثينةُ قالت يا جميلُ أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مُريبُ) فبلغ هذا ابن عائشة التيمي فقال: جيلان في التمثل بهذا البيت في هذا الموضع أشعر من جميل قائله. أنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا أبو بكر بن دريد لنفسه يهجو بعض النحويين: (عفظير إن اختلفنا ... في الفعلِ من فاعلينِ) (فقال قومٌ يثني ... لجمعنا الهمزتين) (وقال قومٌ يعدّي ... بملتقى الساكنين) (وأنتَ أعلم منا ... بذا وذاك وذين) (لأنكَ الدهرَ فعلٌ ... يعتلُ من جهتينِ) وأنشدني عم أبي رحمه الله: (صحبتكم دهراً طويلاً لعسرتي ... أرجى نجاحاً والظنونُ فنون) (فما نلتُ منكم طائلاً غيرَ أنني ... تعلمتُ ذلَ العيشِ كيفَ يكونُ) وأنشدني أيضاً في مسجون: (لئن حجبتك الحجبُ عنا فربما ... رأينا جلابيبَ السحابِ على الشمسِ) وأنشدنا أبو أحمد عن ابن المسيب عن ابن الرومي: (خيرُ مال موزونه لذوي الحمد ... كما خيرُ حمدِهم مَوْزونهْ) (وأصحُ الآراءِ ما ظنَ ذو الأفنِ ... بذي الرأي أنهُ مأفونه) ومن ههنا أخذ المتنبي قوله: (وإذا أتتك مذمَّتي من ناقصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ)

(والمحلُ الخلاءُ من كلِّ ضيفٍ ... ومضيف معطلٌ مسكونهُ) (وأخسُ الرجالِ من راحَ فيهمْ ... مُسلمَ العرضِ سالماً ماعونهُ) (أنفقِ المال قبل انفاقك العمرَ ... ففي الدهرِ ريبهُ ومنونهْ) (لا تظننَ أنَّ مالك شئ ... كدم الجوفِ خيرهُ محقونهْ) (قلما ينفعُ الثراءُ بخيلاً ... علقتْ في الثرَى المهيْلِ رهونْه) (كلْ وأطعمْ فربما راع ريعاً ... زاكياً منْ تعولهُ وتمونهْ) (وإذا ما ظننتَ شرّاً فخفهُ ... ربَ شرٍ يقينهُ مظنونهْ) (كم ركونٍ جنى عليك حذاراً ... من أطالَ الركونَ قلَّ ركونهْ) وأنشدنا أبو أحمد عن ابن الأنباري عن أبيه: (يموتُ قومٌ فيحي العلمُ ذكرَهُمُ ... ويلحقُ الجهلُ أحياءَ بأمواتِ) ونحوه قول دعبل: (سأقضي ببيتٍ يحمدُ الناسُ أمرَهُ ... ويكثر من أهلِ الروايةِ حامله) (يموت ردئ الشعرِ من قبلِ ربهِ ... وجيّده يبقى وإنْ ماتَ قائله) أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن أبي عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن خالد عن يونس: دخل الطرماحُ بن حكيم على خالد بن عبد الله القسري فقال له: أنشدني بعض شعرك فأنشده قوله: (وشيبني أنْ لا أزال مُناهِضاً ... بغيرِ غِنى أسمو بهِ وأبوعُ) (وإنَّ رجالَ المالِ أضحوا ومالهم ... لهم عندَ أبوابِ الملوك شفيع) (امخترمي ريبُ المنونِ ولم أنلْ ... من المالِ ما أعصى بهِ وأطيعْ) فأمر له بعشرين ألفاً وقال له اعصي بها الآن وأطع إذا شئت.

التفاضل بين الإخوان

(التفاضل بين الإخوان) أنشدنا أبو أحمد عن أبي بكر: (وبعضُ الأمرِ أصلحهُ ببعضٍ ... فإنَ الغثَّ يحملهُ السمينُ) (ترى بينَ الرجالِ العينُ فضلاً ... وفيما أضمروا الفضلُ المبين) (كلونِ الماءِ مشتبهاً وليست ... تخير عن مذاقتهِ العيون) (الحث على موافقة الناس) من أحسن ما ورد في ذلك قول الشاعر: (الناسُ إن وافقتهم عذبوا ... أولاً فإنّ جناهمُ مرُ) (كم منْ رياضٍ لا نظيرَ لها ... تُركتْ لأنّ طريقها وعرٌ) وقلت: (لما أدلّ أملني فسلوته ... من ذا يدلُ فلا يملُ محُّبه) (تالله ما اتبُّعَ النبيُّ محمدٌ ... لو كانَ فظاً أو غليظاً قلبه) (إغباب الزيارة) قال مسلم بن الوليد: (إني كثرتُ عليهِ في زيارتهِ ... فملَ والشئ مملولٌ إذا كثرا) (قد رابني منهُ أني لا أزالُ أرى ... في عينهِ قصراً عني إذا نظرا) وقال الكميتُ: (ولو لم تغب شمس النهار لَملَّتِ ... ) فأخذه أبو تمام فقال: (فإني رأيتُ الشمسَ زِيدتْ محبةً ... إلى الناس إذ ليستْ عليهم بسرمدِ) ونقله آخر إلى ذكر الغيث: (عليك بإقلالِ الزيارةِ إنها ... تكون متى دامت إلى الهجرِ مسلكا) (فإني رأيتُ القطرَ يسأم دائبا ... ويطلبُ بالأيدي إذا هو أمسكا)

في ذم العجائز قول الشاعر

وقال آخر: (وأغببتُ الزيارةَ لا ملالاً ... ولكنْ منْ محاذرةِ الملالِ) وهذا كله من قول النبي & (زد غباً تزدد حباً) وقلت: (ما زلتَ تلقاهُ فضاقَ صَدْرُه ... وعادَ من بعدِ الوصالِ هجرُهُ) (من أكثر الغشيانَ خسَّ قدْرُهُ ... لو كثرَ الياقوتُ هانَ أمره) (ولم يعزّ حُمرُهُ وصُفرُهُ ... ولا علا بين الأنامِ ذِكرهُ) (في ذم العجائز قول الشاعر) (رأيتُ البيضَ قد أعْرضنَ عني ... فمنْ لي أن تساعدَني عجوزُ) (كأنَ مجامعَ اللحيينِ منها ... إذا حَسرتْ عن اللحيينِ كوز) ومن المشهور قول الحرمازي: (لا تنكحنَ عجوزاً إنْ دعيتَ لها ... واخلَعْ ثيابَك عنها ممعناً هربا) (فإن أتَوْك وقالوا إنها نصفٌ ... فإنَ أطيبَ نصفيها الذي ذهبا) وقال آخر: (وما غرني إلاّ خضابٌ بكفِّها ... وكحلٌ بعينيها وأثوابها الصفرُ) (وجاءوا بها قبلَ المحاقِ بليلةٍ ... فكانَ محاقاً كلهُ ذلك الشهرُ) (ما ورد في فضل الحمام) قال السري بن عبد الله الرفاء: (أسعيدُ هلْ لكَ في زيارةِ منزلٍ ... تثنى عليهِ جوارحُ الزوارِ) (رحب ترَى الجُدران فيهِ ينابعاً ... وترى السماء كثيرة الأقمار) (ينضو حيُ الوجهِ ثوب حيائهِ ... فيهِ فيخطر كالجسام العاري) (وترى على غدرانهِ بُهمَ الوغى ... يخطرنَ ما بين القنَا الخطارِ)

الشطرنج قلت فيه

(سُلت سيوفهمُ بغيرِ بوارقٍ ... وجَرت خُيولهم بغيرِ غبارِ) مع أبيات أخر غير مختارة الرصف. وقلت: (قُم بنا نَنزل في خيرِ دارِ ... وهيَ إن ميزتَها شرُ دارِ) (منزلٌ تخلعُ دينَك فيهِ ... حينَ تأتيهِ خليعَ الإزار) (لا ترَى فيهِ الشموسَ نهاراً ... وترى الأقمارَ نصفَ النهّار) (وعلى حيطانهِ أسدُ حربٍ ... فَوقَ أمهارٍ وفوقَ مِهار) (شَهدُوا الحربَ بأرْماح زورٍ ... وسيوفٍ نابياتِ الشفار) (وترى الأبدان حينَ أتته ... تكتسي الصحةَ وهي عواري) (بينابيعَ كقضبانِ درٍ ... تتكافا من وراءِ الجِدار) وقال عبد الله بن المعتز في ذم حمام: (وحمامنا كالعجوز ... يشقى بها الواردُ) (فبيتٌ لهُ منتنٌ ... وبيتٌ لهُ باردُ) ولقد أخذ هذا اللفط بعينه بعض المحدثين وزاد فيه فقال: (وحمّامُنا هذه كالعجوز ... تلذُّ ويشقى بها الواردُ) (فبيتٌ لها منتنٌ ضيقٌ ... وبيتٌ لها واسعٌ باردُ) ومن أجود ما قيل في صفة النورة قول الآخر: (ومجرَّدٌ كالسيفِ أسلم نفسهُ ... لمجردٍ يكسوهُ مالا ينسجُ) (ثوباً تمزِّقُهُ الأناملُ رقةً ... ويذيبهُ الماءُ القراحُ فيبهج) (وكأنه لما ألتقى في خصره ... نصفان ذاعجُ وذا فيروزجُ) (الشطرنج قلت فيه) (إذا أعفيت الصهباء ... من قدحٍ ومن شجَ) (وكانَ الكأسُ لا يجُدي ... ومزجي الراحَ لا يزجي) (مجتاب شملة برجد بسراته ... قذرا واسلم ما سواه البرجد)

ما ورد في النرد

(وألغى اللهوَ من يلغى ... وأرجى الشربُ من يرجي) (لأيام أخاضتنا ... من الأحزانِ في لجَ) (فمنها الجسمُ في نقصٍ ... ومنها القلبُ في وهج) (فما أنفكُ في حرٍ ... وإنْ أصبحتُ في ثلجِ) (وما منْ شَرِّها ناجٍ ... وما من كيدها مُنجي) (تمتعنا بمسموعٍ ... مليحِ النظم والنسج) (ونتلو ذكرَ من نهوَى ... على نردٍ وشِطرَنج) (كأنا منهُ في هرج ... ولسنا منهُ في هرج) (تمشَّى الزنجُ للرُّوم ... وقامَ الرومُ للزنج) (فما أحسنها بيضاً ... تمشينَ إلى دعج) (أقمنا بيننا حَرْباً ... بلا عجٍ ولا ثجّ) (شهدناها بلا طبلٍ ... ولا بوقٍ ولا صنج) (وجئناها بلا سيفٍ ... ولا رُمح ولا زج) (ترى أفراسنا تعدو ... بلا لجم ولا سرج) (مشى الفرزانُ مُعوجاً ... لأمرِ غيرِ مُعوجِّ) (ورخٌ ينتحي نهجاً ... فلا يعدو عن النهج) (وفيلٌ ليسَ يحدوهُ ... يدا شلج ولا علج) (وعند الشاهِ منصوبٌ ... لواءُ النصرِ والفلج) (وحولي أوجهُ غُرٌ ... عليها سيمةُ السرجِ) (إذا ما دونَ الحسنُ ... تراهمْ أولَ الدّرجِ) (ما ورد في النرد) وقال السري بن عبد الله الرفاء: (ومحكمان على النفوسِ وربما ... لم يحكما فيهنَ حكما عادلا)

وأما القدح

(يلقاهما المرزوقُ سعداً طالعاً ... ويراهما المحروم سعداً آفلاً) (فإذا هما اصطحبا على كفِّ الفتى ... ضراء أو نفعاه نفعاً عاجلا) (وأما القدح) فأجود ما قيل فيه قول ابن مقبل: (خروجٌ من الغمي إذا صكَ صكةَ ... بدا والعيونُ المستكفةُ تلمحُ) (غدا وهو مجدولٌ وراحَ كأنهُ ... من المسِّ والتقليب بالكفِّ أفطح) (إذا امتحنتهُ من معد عصابةٌ ... غدا ابهِ قبل المفيضين يقدح) (انتظار الفرج) أنشدنا أبو أحمد عن ابن دريد: (إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ ... وضاقَ بما بهِ الصدرُ الرحيبُ) (وأوطنت المكارهُ واطمأنَّتْ ... وأرستْ في مطامِنها الخطوبُ) (أتاك على قيوط منك غوثٌ ... يمنُ بهِ اللطيفُ المستجيبُ) (وكلُ الحادثاتِ إذا تناهتْ ... فمقرونٌ بها الفرج القريب) وقلت: (لكلَ ملمةٍ فرجٌ قريبٌ ... كمثلِ الليل يتلوهُ الصباحُ) (وإنَ لكلَ صالحةٍ فساداً ... كذاك لكلَ فاسدةٍ صلاحَ) (وللأيامِ أيدٍ باسطاتٌ ... وأفنيةٌ موسعةٌ فساحُ) (وقد تأتي وأوجهها صباحٌ ... كما تأتي وأوجهها قباحُ) (وللحالاتِ ضيقٌ وإتساعٌ ... وللدُّنيا إنفلاقٌ وانفتاح) (فلا تجزعْ لها واصبرْ عليها ... فإنَ الصبرَ عقباهُ النجاح) (وكلُ الحادثاتِ إذا تناهتْ ... فمقرونٌ بها الفرجُ المتاحُ) (معنى آخر) قد ينفعُ الأدبُ الأحداثَ في مهلٍ ... وليسَ ينفعُ بعدَ الكبرةِ الأدبُ)

معنى آخر

(إنَ الغصونَ إذا قَوَّمْتها اعتدلتْ ... ولا يلينُ إذا قومتهُ الخشبُ) وأجود ما قيل في ازدحام المنتجعين على أبواب المفضلين البيت المشهور: (مَن أكثر الإحسانَ من فعلهِ ... وعمَ بالفضلِ جميعَ الأنامْ) (يزدحمُ الناس على بابهِ ... والمشربُ العذبُ كثيرُ الزِّحام) وقال أبو الهول: (إذا السماء أبَتْ إلاّ محاذَرَةً ... سحَّتْ يد الفضل ياقوتاً وعقيانا) (ترَى الرِّفاق إلى أبوابهِ زمراً ... وردَ القطا أقبلتْ مثنى ووحدانا) (معنى آخر) (ليسَ جودٌ أعطيتهُ بسؤالٍ ... قد يهزُ السؤالُ غيرَ جوادِ) (إنما الجودُ ما أتاك ابتداءً ... لم تذق فيهِ ذلةَ الترداد) (ومن أجود التشبيهات في المحجمة قول بعضهم) (وخضراء لا من بناتِ الهديل ... يلففُ بالسير مِنقارها) (كأنّ مشقَ عيونِ القطا ... إذا هنّ تؤمن آثارها) وقال أيضاً في الحجامة: (أما وأبيك لا أنساهُ تدمي ... مضاربُ سيفهِ البطلِ الكميا) (وبَرقاً في أناملهِ إذا ما ... تألقَ فتّح الوردَ الجنيا) (إذا ظمئتْ فراخُ أبيك يوماً ... سقاها من رقابِ الناس ريّا) (وإن جَرحَ الأخادعَ مطمئناً ... كسا الوجناتِ ديباجاً بهيا) (ولم أرَ مثلهُ يأتي عُقوقاً ... ويدعوهُ الورى برّاً تقيا) وقال آخر: (أبوك أوهى النجادُ عاتقه ... كم من كميّ أدمى ومن بطلِ) (يأخذنَ من مالهِ ومن دمهِ ... لم يمس من ثأرهِ على وجلٍ)

ومما قيل في خطل الرأي قول الآخر

(ومما قيل في خطل الرأي قول الآخر) (عُذرك عندي بك مبسوطُ ... والعتبُ عن مثلك محطوطُ) (ليس بمسخوطٍ فعالُ امرئ ... كلُ الذي يأتيهِ مسخوطُ) وقال آخر: (يا من يقلقله طنينُ ذبابِ ... ويفلُ عزمتهُ صريرُ البابِ) (ضربَ السرادق في رُواقي بابهِ ... والدارُ تعجزُ عن مقيلِ ذبابِ) (وأقامَ للبوابِ حاجبِ حاجبٍ ... أرأيتَ حاجبَ حاجبِ البوابِ) (إفساد المعروف بالمن) قال بعضهم: (ألبانُ إبلِ تَعِلَّة بنِ مساورٍ ... ما دامَ يملكها عليَ حَرامُ) (وطعام عمر وابن أوفى مثله ... ما دامَ يسلك في البطونِ طعام) (إنَ الذين يسوغ في أحلاقهم ... زادٌ يمنُ عليهم للئامُ) (لعنَ الإله تعلةَ بنَ مساورٍ ... لعناً يشنُ عليهِ من قُدام) (من يعيب غيره وهو معيب) من المشهور في ذلك قول الشاعر: (أرَى كلَ إنسانٍ يرى عيبَ غيرهِ ... ويعمي عن العيب الذي وهو فيه) (وما خيرُ من تخفى عليهِ عيوبهُ ... ويبدو له العيبُ الذي لأخيه) ولأبي دلامة في معناه: (إذا الناسُ غطوني تغطيت عنهمُ ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحثُ)

معنى آخر

(إن حفروا بئري حفرتُ بئارهم ... ليعلمَ قومٌ ما تضمُ النبائت) (معنى آخر) (صديقك حينَ تستغني كثيرٌ ... ومالك عندَ فقرك من صديقِ) (فلا تغضبْ على أحدٍ إذا ما ... طوَى عنكَ الزيارةَ عند ضيق) في مدح قوادة حاذقة: (تكادُ لو لم تك إنسيةً ... تجري من الأنسانِ مجرَى الدم) (لا تعصم الحسناءُ من كيدِها ... ولو ثوتَ في منزلِ الأعصَم) وقول الآخر في ذلك: (تُسهلُ كلَ ممتنع عسيرٍ ... وتأتي بالمرادِ على إقتصادِ) (فلو كلفتها تحصيل طيفِ الخيالِ ... ضحى لزارَ بلا رُقادِ) وقريبٌ من ذلك قول الآخر: (مَن ذمَ إدريسَ في قيادتهِ ... فإنني شاكرٌ لإدريسِ) (منَّ بمستصعب فجاءَ بهِ ... أطوعَ من آدمٍ لإبليس) (وكانَ في سرعةٍ المجئ بهِ ... آصف في حملِ عرشِ بلقيس) (معنى آخر) (ما ازددتُ في أدبي حرفاً أسرُ بهِ ... إلاّ تزيدتُ حرفاً تحته شوم) (إنّ المقدَّم في حذقٍ بصنعتهِ ... أنى توجهَ منها فهو محروم) وقريب منه: (ولرُبَّما رُزِق الفتى بسكوته ... ولربما حُرمَ الفتى ببيانه) ومن الجيد في ذلك قول الآخر: (إذا اجتمعت في امرءينِ صناعةٌ ... وأحببتَ أن تدري الذي هو أحذقُ) (فحيث يكون النقص فالمالُ واسعٌ ... وحيث يكون الحذق فالرِّزق ضيق)

معنى آخر

(معنى آخر) (إذا قلَّ مالُ المرءِ لانتْ قناتهِ ... وهانَ على الأدنى فكيفَ الأباعدُ) ومثله قول الآخر: (المرء يكرمُ للغنى ... ويهان للعدمِ العديم) وقال آخر: (غضبان يعلم أن المالَ ساقَ لهِ ... ما لم يسقه له علمٌ ولا أدبٌ) (فمن يكنْ عن كرام الناس يسألني ... فأكرم الناسِ من كانت له نشب) وقال آخر: (كفي حزناً أني أروحُ وأغتدي ... ومالي من مالٍ أصونُ به عرضي) (وأكثر ما ألقى صديقي بمرحباً ... وذلك لا يغني الصديقَ ولا يرضي) وقال آخر في معناه: (أجلك قومٌ حينَ صرت إلى الغنى ... وكلُ غنيٍ في القلوبِ جليلُ) (وليس الغنى إلا غنى زينَ الفتى ... عشيةَ يُقري أو غداةَ ينيل) (ما ورد في حظ الجاهل) فمن جملة ذلك قول الشاعر: (وما لبُ اللبيبِ بغيرِ حظٍ ... بأغنى في المعيشة من فتيلِ) (رأيت الخط يسر كل عيب ... وهيهات الخظوظ من العقولِ) والعرب تقول إسع بجد أودع. وقال الحارث بن حلزة: (والعيش خيرٌ في ظلال ... النوكِ ممن عاش كدَّا) وقلت: (لكلَ حرٍ مبتلي ... يعيشُ في حلا نكد) (والنحسُ في طالعهِ ... أثبتُ من وصلِ وتد) (فكن رقيعاً ساقطاً ... تصدرُ بحظٍ وترِدْ) (وكن رفيعاً ماجداً ... واصبر على مالم ترد) (هيهاتَ أن يحظى الفتى ... بجدِّ سعدٍ دونَ جد) وقال آخر: (الجدُ انهضُ بالفتى من عقلهِ ... فانهض بجدٍ في الحوادثِ أو ذر) (وإذا تعسرتِ الأمورُ فارجها ... واستأنفِ الأمرَ الذي لم يعسر)

الإستعانة بالجاهل في وقت الحاجة

(ما أقربَ الأشياءَ حينَ يسوقها ... قَدرٌ وأبعدها إذا لم يُقدر) (الاستعانة بالجاهل في وقت الحاجة) قال بعضهم: (ولن يلبث الجهالُ أن يتهضموا ... أخا الحلم ما لم يستعنْ بجهولِ) وقال الأحنف بن قيس: (وذي ضغنٍ أمتُ القولَ منه ... بحلم واستمرّ على المقال) (ومن يحلم وليسَ لهُ سفيهٌ ... يلاقي المعضلاتِ من الرجالِ) وقال غيره: (لا بدَ للسيدِ من أرماح ... ومن عديدِ يتقى بالرَّاح) (ومن سفيهٍ دائم النباح) (معنى آخر) (وما الجودُ من فقرِ الرجالِ ولا الغنى ... ولكنهُ خيمُ النفوس وخيرُها) (فنفسك أكرمْ عن أمورٍ كثيرةٍ ... فمالك نفسٌ بعدها تستعيرها) (وقد تخدعُ الدنيا فيمس غنيها ... فقيراً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها) (وكم طامعٍ في حاجةٍ لا ينالها ... وكم آيسٍ منها أتاهُ بشيرها) (الاقتداء بالقرين) أجود ما قيل فيه قول رسول الله & (المرء على دين خليله) . ومن أقدم ما قيل فيه قول عدي بن زيد العبادي: (عن المرءِ لا تسألْ وأبصرْ قرينهُ ... فإنَّ القرينَ بالمقارنِ مقتدي)

المأخوذ بذنب غيره

وليس وصقه بالجيد. وقال غيره: (ولا يسل الإنسانُ إلا قرينهُ ... وإنْ لم يكونا من قبيلٍ ولا بلد) (المأخوذ بذنب غيره) قال الشاعر في ذلك: (جنى ابن عمك ذنباً فابتليت بهِ ... إن الفتى بابنِ عمَ السوءٍ مأخوذ) ومن قديم ما قيل في ذلك قول النابغة: (أحملتني ذَنبَ امرئٍ وتركتهُ ... كذي العُرِّ يكوى غَيرَهُ وهو راتعُ) وقال غيره: (إني وقتلى سلكياً ثم أعقله ... كالثورِ يضربُ لما عافتِ البقرُ) (في النهي عن الظلم قول الأول) (البغيُ يصرعُ أهله ... والظلم مرتعهُ وخيم) وقال النبي & (الظلم ظلماتُ يومَ القيامة) وقال بعضهم: (ظُلمك من خُلقك مُستخرَجٌ ... والظلمُ مشتقٌ من الظُّلمة) وقلت في عاملٍ صودر: ( ... لو أنصفَ الظالمُ من نفسهِ ... لأنصفَ الظالمُ في نفسه) (إن كانَ لا يرحمُ في يومهِ ... لكانَ لا يرحمُ في أمسه) (ما ورد في الجبن) (وأفلتنا هجين بني سُليم ... يُفدِّي المُهر من حبَ الإياب) (فلولا اللهُ والمُهرُ المُفدَّى ... لأبْتَ وأنتَ غربالُ الإهابِ) وقال آخر: (باتَتْ تُشجِّعني هندٌ وقد علمتْ ... أن الشجاعةَ مقرونٌ بها العطبُ)

ومن المضحكات قول الآخر

(يا هندُ لا والذي حجَ الحجيجُ لهُ ... ما يشتهي الموتَ عندي من له أدبُ) وقال أخر في المعنى: (نجوتُ نجاءَ لم يرَ الناسُ مثله ... كأنِّي عُقابٌ عندَ تيمن كاسرُ) وقال آخر: (يقولُ ليَ الأميرُ بغيرِ شكٍ ... تقدم حينَ جد بنا المراسُ) (ومالي إنْ أطعتك من حياةٍ ... ومالي بعدَ هذا الرأسِ راس) (ومن المضحكات قول الآخر) (ألم ترني وعمراً حينَ نغدو ... إلى الحاجاتِ ليس لنا نظيرُ) (أسايرهُ على يُمنَى يديهِ ... وفيما بيننا رجلٌ ضريرُ) ومن المضحكات قول القاساني في الجبن والتطفيل: (أرىَ في النوم رُمحاً أو أسناناً ... فأسلحُ في الفراشِ على مكاني) (ولكني المبارزُ حينَ أدعى ... إلى أكل العصيدةِ والفراني) (وما عمروٌ هناك أشدّ مني ... ولا العبسي عنترة الطعانِ) (ولا زيد الفوارسِ حينَ أدنو ... فألقى بالكلاد كل والجران) (تراني عندها ليثاً نفيراً ... إذا ما اصطكَّ مني الماضغان) (أشدُ على الخبيصةِ لا أبالي ... بأيّ جنوبها وقعتْ بناني) (وكم طبق رددتُ وليسَ فيه ... من البقلِ المحصل حبتان) (الخلق من الثياب) قال الحمدوني: (طالَ تردادهُ إلى الرَّفوِ حتى ... لو بعثناهُ وحدهُ لتهدّى) وقال آخر: (قال غسّاليَ لما ... جئته قولاً صحيحا) (يا عزيزي أنا لا ... أغسلُ بالصابونِ ريحا)

من أحب لبناته الموت

وأحسن من ذلك كله وأشهرُ قول الآخر: (يا ابن حربٍ كسوتي طيلساناً ... ملَ من صحبةِ الزمانِ وصدَّا) (إن تنحنحت فيه ينحز عيراً ... أو تحركتُ فيه ينقدُ قدَّا) (من أحب لبناته الموت) قال بعض الأعراب: (إني وإن سيقَ إليّ المهرُ ... ألفٌ وعبدان وذودٌ عشرُ) (أحبُ أصهاري إليّ القبر ... ) وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: (لكلَ أبي بنتٍ يُراعي شؤونها ... ثلاثةُ أصهارٍ إذا طُلبَ الصهرُ) (فبعلٌ يُراعيها وخدرٌ يكنها ... وقبرٌ يُواريها وخيرُهما القبرُ) جعل القبر خير الثلاثة الأصهار فإنه نعم الصهر في الستر. كلام الملحدين لعنهم الله " فمنهم ديك الجن عبد السلام بن رغبان الحمصي: (هي الدنيا وقد نعِموا بأخرى ... وتسويفُ النفوسِ من السوافي) (فإن كذبوا أمنت وإن أصابوا ... فإنَ المبتليك هو المُعافي) (وأصدقُ ما أبثُّك أن قلبي ... بتصديقِ القيامةِ غير صافي) وقال ابن أبي البغل: (باحَ ضميري بمضمرِ الأمرِ ... وذاك أني أقولُ بالدهرِ) (وليسَ بعد المماتِ حادثةٌ ... وإنما الموتُ بيضةُ العقرِ) وقال آخر: (يا ناظراً في الدين ما الأمر ... لا قدرٌ صحَ ولا جَبرُ) (ما صحّ عندي من جميعِ الورى ... يذكرُ إلا الموتُ والقبرُ) قبحهم الله لقد أعظموا القول ولم ينتفعوا إلا بالفضيحة في الدنيا والاثم في الآخرة. وإنما أورد مثل هذا لتعرف أهله ولأن تسمية الكتاب توجيه. ونحوه

فصل آخر

قول ابن الرومي وأجاد: (أيارب إن سويتَ بيني وبينهُ ... لما كانَ عدلاً أن نكونَ سواءً) (فكيفَ وقد أعليتهُ وخفضتني ... فكنتُ له أرضاً وكانَ سماءً) (فصل آخر) كتب أبو الشيص إلى رجل كان وعده مخدة فأبطأت عليه: (يا صديقي وأخي في ... كلَ ما يعرو وشِدَّه) (ليتَ شعري هلْ زَرَعتمْ ... بذرَ كتانِ المخدَّه) وأخبرني أبو أحمد عن أبيه عن أحمد بن أبي طاهر قال أهدى بعض العمال إلى دعبل بن علي الخزاعي برذوناً زمناً فرده وكتب إليه: (وأهديتهُ زَمِناً فانيا ... فلا للركوبِ ولا للثمنْ) (حملتَ على زمنٍ شاعراً ... فسوفَ يكافي بشعرٍ زمن) (أيا الفضل ذمّاً وغرماً معاً ... فما كنتَ ترجو بهذا الغبن) ووعد رجل دعبلاً نعلاً يهديها إليه عند قدومه من الحج فأبطأت عليه فقال دعبل الخزاعي: (وعدتُ النعلَ ثمَّ صدفتَ عنها ... كأنك تشتهي شتما وقذفا) (فإنْ لم تهدِ لي نعلاُ فكنها ... إذا أعجمت بعد النونِ حرفا) وأخبرني أبو أحمد عن أبيه عن أحمد بن أبي طاهر قال كتب إلى أبو علي البصير يستهدني بخوراً كنتُ أهديثُ منه إلى بعض إخواني، والأبيات: (يا شقيقي ويا خليلي إباءً ... المرجَّى لكلَ خيرٍ ومير) (أنتَ من أطيبِ الأنامِ بخوراً ... غيرَ أني شممتهُ عندَ غيري) (وهو جمُ لديك فابعث بدرجٍ ... منهُ إن لم أكنْ تعديتُ طوري) فكتبتُ إليه: (قد بعثنا إليك منهُ بدرجٍ ... وأزرناك منهُ أطيبَ زورِ)

(بين ندٍ وبينَ عودٍ مطرّاً ... مالهُ مشبهٌ بنجدٍ وغورٍ) (أنتَ منه أزكى وأطيب عرفاً ... وهو أزكى من كل طيبٍ وَنور) (ما تعديتَ فيه طوْرَك عندي ... فتبخر منهُ بأيمنِ طير) وحدثني أبو أحمد عن أبيه عن أحمد قال حدثني أبو دعامة الشاعرُ قال كتب العتابي إلى مالك بن طوق ويستزيده ويستهديه ويدعوه إلى صلة الرحم والقرابة بينه وبينه وكان مما كتب: إن قرابتك من قرب منك خيره وإن ابن عمك من عم نفعه وإن عشيرتك من أحسن معاشرتك وإن أحب الناس إليك أجداهم بالمنفعة عليك وإن أهداهم إلى مودتك من أهدى إليك، ولذلك أقولُ: (ولقد بلوتُ الناسَ ثمَ سبرتهم ... ووصلتُ ما قطعوا من الأسباب) (فإذا القرابةُ لا تقربُ قاطعاً ... وإذا المودةُ أقربُ الأنسابِ) قال أبو هلال رحمه الله: هذا آخر ما رأينا تضمينه هذا الكتاب وبالله التوفيق والحمد لله حق حمده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه آمين.

§1/1