ديوان الصبابة

ابن أبي حجلة

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل للعاشقين بأحكام الغرام رضا وحبب إليهم الموت في حب من يهوونه فلا تكن يا فتى بالعدل معترضاً فكم فيهم من عاشق ومحب صادق: رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا ... فسام صبراً فاعياً نيله فقضا أحمده من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وشبب يذكر محبوبه إن كان تهامياً في حجازاً وشامياً في نوى: طور إيمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحميد المجيد شهادة من أصبح موته لبعده أقرب من حبل الوريد وقال لعاذله لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وأنك لتعلم ما نريد: ولو أن ما بي من حبيب مقنع ... عذرت ولكن من حبيب معمم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة من أخلص في موالاته وتبرأ من الإثم حين تولى عنه محبوبه بخاتم ربه وبراءته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يحبهم ويحبونه ويقفون عند ما أمرهم ولا يتعدونه ما ذر شارق وهام عاشق. أما بعد فإن كتابنا هذا كما قيل. كتاب حوى أخبار من قتل الهوى وسار بهم في الحب في كل مذهب مقاطعيه مثل المواصيل لم تزل تشبب فيه بالرباب وزينب فهم ما هم تعرفهم بسيماهم قد تركهم الهوى كهشيم عقال المحتظر وأصبحوا من علة الجوى على قسمين فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فهم ما بين قتيل وشهيد وشقي وسعيد على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم وتباين مراتبهم وأحوالهم وغير ذلك مما تصبح به أوراقه يانعة الثمر وتمسي به صفحاته في كل ناحية من وجهها قمر فإذا نظرت إلى الوجود بأسره شاهدت كل الكائنات ملاحاً على أن جماعة من العصريين غلبوا من تقدم بالتأليف في هذا الباب ولم يفرق غالبهم في التشبيب بين زينب والرباب: وكل يدعى وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا فربع كتابنا هذا بذكر العامرية مغمور وهو بالنسبة إلى ما ألفه الشهاب محمود مشكور ومن وقف عليه علم صحة هذا الكلام وأنشدني تصديق هذه الدعوى إذا قالت حذام مؤلف طوق الحمامة بالنسبة إلى حجلته يحجل وصاحب منازل الأحباب ممن عرف المحل فبات دون المنزل. وعذرت طيفك في الجفاء ... يسري فيصبح دوننا بمراحل آخر فيا دارها بالخفيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال فإن قلت الفضل للمتقدم وهل غادر الشعراء من متردم قلت نعم في الخمر معنى ليس في العنب وأحسن ما في الطاوس الذنب فدع كل صوت بعد صوتي فأنني أنا الصائح المحكي والآخر الصدا فكم ترك الأول للآخر ولا اعتبار بقول الشاعر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يالفة الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل فقد سقط في يديه وقيل في الرد عليه: أفخر بآخر من كلفت بحبه ... لا خير في الحبيب الأول أتشك في أن النبي محمداً ... ساد البرية وهو آخر مرسل وقال ديك الجن الحمصي يرد على حبيب قوله المتقدم: كذب الذين تحدثوا عن الهوى ... لا شك فيه للحبيب الأول ما لي أحن إلى خراب مقفر ... درست معالمه كأن لم يوهل فقال حبيب حين بلغه قول ديك الجن المذكور: كذب الذين تخرصوا في قولهم ... ما الحب إلا للحبيب المقبل أفطيب في الطعم ما قد ذقته ... من مأكل أو طعم ما لم يؤكل فقال ديك الجن أيضاً حين بلغه قول حبيب هذا: أرغب عن الحب القديم الأول ... وعليك بالمستأنف المستقبل نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى ... كهوى جديد أو كوصل مقبل وقال أبو البرق وسلك بينهما جادة الإنصاف وبقوله يجب الاعتراف لأنه أحسن في المقال حيث قال: زادوا على المعنى فكل محسنٍ ... والحق فيه مقالة لم يجهل الحب للمحبوب ساعة وصله ... ما الحب فيه لآخر ولأول

على أنني لم أجحد ما في منازل الأحباب من ذكر حبيب ومنزل ولا تحملت على مصنفه فوا عجباً من قلبي المتحمل ولكن قصدت التنبيه على أن حسن التأليف مواهب وأن للناس فيما يعشقون مذاهب ومعلوم أن الجنون فنون وكل حزب بما لديهم فرحون ولم يزل كتابنا هذا في مسوداته منذ حجح وبيوته من بحورها في لجج لا أبيح ما فيه من منازل الأحباب لساكن ولا أمكن عاشقاً من المرور بتلك الأماكن: أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه حتى برز لطلبه المرسوم الشريف الملكي الناصري أدام الله نشر إعلامه ولا أخلى كنانة من سهامه ما نفذت مراسيم سهام المقل وتثني قوام الحبيب الذي طاب به الزمان واعتدل فبادرت إلى تجهيزه وسبك إبريزه حسب المرسوم والمعدن الشريف من غير تسويف ولا تكليف ولم أبح زهر منثوره لغير حضرته الشريفة من الأنام لأنه كان يقال كل ما يصلح للمولى على العبد حرام لا جرم أنه جاء بنظره السعيد نزهة للنظر وقال الواقف على عتبة بابه أن السعادة لتلحظ الحجر فهو للسلطان بستان وللعاشق سلوان وللمحب الصادق جبيب موافق وللمهجور نجوة وللنديم قهوة وللناسي تذكرة وللأعمى تبصرة وللشاعر المجيد بيت القصيد وللأديب الماهر مثل سائر وللمحدث قصص وللحاسد غصص وللفقيه تنبيه وللحبيب بالقمر تشبيه: تبادره بالبدر منه بوادره ... وتحلو له عند المرور نوادره ففيه له في كل يوم وليلة ... حبيب ملم أو نديم يسامره ولي فيه نظم أن تضوع نشره ... ففي طيه حلو الكلام ونادره ولي فيه منثور غدا في مقامه ... وعرف سناه مشرق الروض عاطره ولي فيه من سحر البيان رسائل ... إذا ما جفاني أحور الطرف ساحره ولي فيه أسرار الحروف لأنه ... ينقطه دمعي فتبدو سرائره فنثور دمعي مثل نظيم سطوره ... خدودي إذا ما خط فيها دفاتره تمد مداد الدمع أقلام هديه ... فدمعي حبري والسواد محابره خدمت بديوان الصبابة عاملا ... فباشر قتلي من سباتي ناظره فلولا الهوى ما مات مثلي عاشق ... ولا عمرت بالعامري مقابره وفي غزلي ذكر الغزال ومربع ... تطار حتى فيه الحديث جآذره أنزهه عن وصف خدر عنيزة ... ومنزل قفر سرن عنه اباعره تجر قوافيه معال غدا بها ... جرير كعبداً وثقته جرائره يشيب بها فود الوليد لأنه ... يسير وجنح الليل سود ضفائره ولست أرى يوماً بدارة جلجل ... سوى شاعر دارت عليه دوائره إذا ما نسي ذكر حبيب ومنزل ... فإني لمن أهواه ما عشت ذاكره أجاور في سفح المقطم جيرة ... فيا حبذا المحبوب حين تجاوره فيا طيف من أهواه طرفي إن غفا ... أتهجره بالله أم أنت زائره وحقك لو سايرته بعض ليلة ... لسايرت صيامات في الحب سائرة ويا تيه طيف من خيالك طارق ... فيطرق إجلالاً كأنك حاضرة وبي من يحج الغصن رمح قوامها ... إذا بات في الروض النضير بناظره إذا قبلت في الحلي والطيب قيل لي ... حبيبك بستان تضوع أزاهره وإن رمت منها وهي غضبى التفاتة ... ثنت عواطفها نحو الغزال تشاوره أيبرد ما ألقاه من حر هجرها ... وقد حميت يوماً علي هواجره تحصنت في حصن الهوى من عواذلي ... وبات لقلبي جيش هم يحاصره ولو لم يكن أعمى البصيرة عاذلي ... لما عميت عمن هويت نواظره يشبهها بالغصن والغصن عندها ... يشاهدها يغضي ويطرق ناظره أللغصن خد كالشقيق إذا بدا ... وشعر كجنح الليل سود غدائره

لئن طاب ذلي في هواها فإنني ... وحقك ممن عز في مصر ناصره مليك يهز الرمح أعطاف قده ... كما اهتز غصن طار في الحب مليك تريه قبل ما صار هو كائن ... بصيرته أضعاف ما هو ناظره يليك إذا ما جئته حسن اللقا ... مجبل المحيا بارع الحسن باهر مليك إذا ما صار كالبدر في الدجى ... فأولاده مثل النجوم تسايره مليك أرى من حوله كل عالم ... يذكره في العلم ما هو ذاكره مليك له في كل يوم ولية ... بشير توالت بالهناء بشائره مليك أسود الغاب تحذر بأسه ... لأن ملوك الأرض طرا تحاذره تروعهم شهب السماء وبروقه ... وما هي إلا سمره وبواثره إذا افترعت أشكال حال اجتماعهم ... فأي ضمير لم يدس فيه ضامره أي كماة لم بحرها يرعهم نزاله ... وأيّ مكان ما علته منابره وأي قصيد بخرها لم يرق له ... وغائص فكري ناظم الدر ناثره ولي فيه من غر التصانيف خمسة ... وهذا الذي طوق الحمامة عاشره يضوع به المنثور كالزهر عندما ... تراوحه ريح الصبا وتباكره فكم فيه لي من مرقص حول مطرب ... بتشبيبه في الحي يطرب زامره ولو لم يكن مثل السكر دان ما غدا ... بحضرته يوماً تطيب حواضره نعم الفته باسم مولانا السلطان على ... الوجه المشروح وتوليت لأجله عمله بنفسي فجاء كما قيل عمل ... ... .... ... ... ... الروح للروح أهيم بمن هام الحبيب بحبه ... ألا فاعجبوا من ذا الغرام المسلسل وسلكت في تأليفه الاختصار ... والاقتصار على النوادر القصار لأنه كان يقال الوضع وضعان ... وضع له افتخار ووضع له نجار وقال يحيى بن خالد لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وحدثوا بأحسن ما تحفظون وخذوا من كل شيء طرفاً فإنه من جهل شيئاً عاداه. وسميته ديوان الصبابة ليصبح الواقف عليه مولهاً ويعلم أنه إن لم أكن أنا للصبابة من لها: ما يعلم الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها أي والله قلما يبرح المطيع هواه ... كافا ذا صبابة وجنون

الفصل الأول

ورتبته على مقدمة وثلاثين باباً وخاتمة أما المقدمة ففي ذكر حد العشق واشتقاقه وما قيل في وسمه ورسمه وأسبابه وعلاماته ومراتبه وأسمائه ومدحه وذمه وذكر اختلاف الناس فيه هل هو اختياري واضطراري ونحو ذلك وأما الأبواب فالباب الأول في ذكر الحسن والجمال وما قيل فيهما من تفصيل وإجمال والباب الثاني في ذكر المحبين والظرفاء من الملوك والخلفاء. والباب الثالث في ذكر من عشق على السماع ووقع من النزوع إلى الحبيب في نزاع. والباب الرابع في ذكر من نظر أول نظرة فاحترق من خد الحبيب بجمرة. والباب الخامس في ذكر تغير الألوان عند العيان من صفرة ووجل وحمرة وخجل وما في معنى ذلك من عقد اللسان وسحر البيان. والباب السادس في ذكر الغيرة وما فيها من الحيرة وقرع سن ديك الجن. والباب السابع في ذكر إفشاء السر والكتمان عن أبناء الزمان. والباب الثامن في ذكر مغلطة الحبيب واستعطافه وتلافي غيظه وانحرافه والباب التاسع في ذكر الرسل والرسائل والتلطف في الوسائل. والباب العاشر في ذكر الاحتيال على طيف الخيال وغير ذلك مما قيل فيه اختلاف معانيه. والباب الحادي عشر في ذكر قصر الليل وطوله وخضاب شفقه ونصوله وما في معنى ذلك. والباب الثاني عشر في ذكر قلة عقل العزول وما عنده من كثرة الفضول. والباب الثالث عشر في ذكر الإشارة إلى الوصل والزيارة. والباب الرابع عشر في ذكر الرقيب والنمام والواشي الكثير الكلام. والباب الخامس عشر في ذكر العتاب عند اجتماع الأحباب وما في معنى ذلك من الرضا والعفو عما مضى. والباب السادس عشر في ذكر إغاثة العاشق المسكين إذا وصلت العظم السكين. والباب السابع عشر في ذكر دواء علة الجوى وما يقاسيه أهل الهوى. والباب الثامن عشر في ذكر تعنت المعشوق على الصب المشوق وغير ذلك من أقسام الهجر وصبر النابض فيه على الجمر. والباب التاسع عشر في ذكر الدعاء على المحبوب وما فيه من الفقه المقلوب. والباب العشرون في ذكر الخضوع وانسكاب الدموع. والباب الحادي والعشرون في ذكر الوعد والأماني وما فيهما من راحة العاني. والباب الثاني والعشرون في ذكر الرضا من المحبوب بأيسر مطلوب. والباب الثالث والعشرون في ذكر اختلاط الأرواح كاختلاط الماء بالراح. والباب الرابع والعشرون في ذكر عود المحب كالخلال وطيف الخيال وما في معنى ذلك من رقة خصر وتشبيه الردف بالكثيب. والباب الخامس والعشرون في ذكر ما يكابده في طلب الأحباب من الأمور الصعاب. والباب السادس والعشرون في ذكر طيب ذكرى حبيب. والباب السابع والعشرون في ذكر طرف يسير من المقاطيع الفائقة والأغزال الرائقة مما اشتمل على ورد الخدود ورمان النهود وغير ذلك مما هنالك. والباب الثامن والعشرون في ذكر طرف يسير من أخبار المطربين المجيدين من الرجال وذوات الجمال وما في معنى ذلك من ذكر موالاتهم ووصف آلاتهم. والباب التاسع والعشرون في ذكر من ابتلى من أهل هذا الزمان بحب النساء والغلمان. والباب الثلاثون في ذكر من اتصف من العفاف بأحسن الأوصاف. وأما الخاتمة ففي ذكر من مات من حبه وقدم على ربه من غني وفقير وكبير وصغير على اختلاف ضروبهم وتباين مطلوبهم ولأجل ذكرهم أسست قواعد هذا الكتاب ودخلت فيه من باب وخرجت من باب ومن هنا نشرع في ذكر ما يجلب الراحة كمراوح الخيش وتكون عند المطالعة كالطليعة للجيش وهذه المقدمة في ذكر رسم العشق ووسمه ومدحه وذمه وذكر اختلاف الناس فيه هل هو اختياري واضطراري ويشتمل ذلك على خمسة فصول: الفصل الأول رسم العشق ورسمه وما قيل في اسمه أقول هذا الفصل عقدناه لذكر رسم العشق وحده وجزر بحره المتلاطم ومده وما للناس فيه من الكلام الباين والقول المتباين إذ فيهم من التبس عليه فسماه باسم سببه أو باسم ما يؤول لغيه وغير ذلك مما التبس عليهم فيه الجواب وإصابة الصواب وعذرهم الظاهر قول الشاعر: يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... والله ما أدري لهم كيف أنعت فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت مؤقت

فمن حدود المليحة ورسومه الصحيحة قول فيثاغورث الذي أخذ عن أصحاب سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فيما ذكره صاعد في كتاب الطبقات العشق طمع يتولد في القلب ويتحرك وينمو ثم يتربى وتجتمع إليه مواد من الحرص وكلما قوي زاد صاحبه في الاهتياج واللجاج والتمادي في الطمع والفكر والأماني والحرص على الطلب حتى يؤديه ذلك إلى الغم المقلق ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالة السوداء أو التهاب الصفراء وانقلابها إليها ومن طبع السوداء إفساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمنى ما لا يتم حتى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه وربما مات غماً وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحاً وربما شهق شهقة فتختنق روحه فيبقى أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنه مات فيدفنونه وهو حي وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت وتراه إذا أذكر من يهواه هرب دمه واستحال لونه قال الإمام ابن الإمام محمد بن داود الظاهري وتكرار وإذا كان ذلك كذلك فإن زوال المكروه عمن هذه حالته لا سبيل إليه بتدبير الأدوية ولا شفاء له في نسخة وقال فزاري إلا بلطف رب العالمين وذلك إن المكروه العارض من سبب واحد قائم بنفسه يتهيأ التلطف فيه بزوال سببه فأما إذا وقع السببان وكان كل واحد منهما سبباً فإذا كانت الصوداء سبباً لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سبباً لاحتراق الدم والصفراء وقلبهما إلى تقوية السوداء فهذا هو الداء العضال الذي يعجز عن معالجته الأطباء ومنها قول أفلاطون الآخذ للحكمة عن فيثاغورس المتقدم ذكره العشق قوة غريزية متولدة من وسواس الطامع وأشباح التخيل نام بإيصال الهيكل الطبيعي محدث للشجاع جنباً وللجبان شجاعة يكسو كل إنسان عكس طباعه حتى يبلغ به المرض النفساني والجنون الشوقي فيؤديانه إلى الداء العضال الذي لا دواء له. ومنها قول ارسطاطاليس الآخذ للحكمة عن أفلاطون المتقدم ذكره العشق عمى العاشق عن عيوب المعشوق وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمي ويصم وقول الشاعر: فلست براء عيب ذي الود كلّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضياً وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وقول لآخر وعين السخط تبصر كل عيب ... وعين أخي الرضا عن ذاك عميا ومنها ما مشى عليه أبو علي بن سينا وغيره من الأطباء العشق مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والتماثيل وقد يكون معه شهوة جماع وقد لا يكون وقال بعض الأدباء الظرفاء العشق عبارة عن طلب ذلك الفعل المخصوص من شخص مخصوص وهذا ظريف وقال الجنيد العشق ألفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبها كرم الله تعالى على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الألفة وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة ومالوا إلى الآخر مع كونها مخبراً لهم عنها بصورة اللفظ وقال الأصمعي سألت إعرابية عن العشق فقالت: جل الله عن أن يرى وخفى عن أبصار الورى فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وقال بعضهم إن الجنون فنون والعشق فن من فنونه واحتج بقول قيس: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين إني جننت فهاتوا من جننت به ... إن كان ينفي جنوني لا تلوموني

الفصل الثاني

وقيل لأبي زهير المدايني ما العشق فقال: الجنون والذل وهو داء أهل الظرف وقيل لأبي وائل الأوضاحي ما تقول في العشق فقال: إن لم يكن طرفاً من الجنون فهو عصارة من السحر وقالت إعرابية: هو تحريك الساكن وتسكين المتحرك وقال المأمون ليحيى بن أكثم ما العشق فقال: سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثر بها نفسه فقال له تمامة: أسكت يا يحيى إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد صيداً فأما هذه فمن مسائلنا نحن فقال له المأمون: قل يا تمامة قال: العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب مالك وملك قاهر ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها قد أعطى عنان طاعتها وقوة تصرفها وقياد ملكها وتوارى عن الأبصار مدخله وعمي عن القلوب مسلكه فقال له المأمون أحسنت يا تمامة وأمر له بألف دينار وهذا القدر كاف في معرفة العشق ورسمه. الفصل الثاني أسبابه وعلاماته أقول هذا الفصل عقدناه للكلام على أسباب العشق النفسانية وعلاماته الجسمانية على أن هذا النوع الأخير كثير والمتصف به من المحبين جم غفير وسنورد من ذلك ما يعذب وروده وتخفق كقلب العاشق بنوده إن شاء الله تعالى قال بعض الأطباء سبب العشق النفساني الاستحسان والفكر وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن ولذلك أكثر ما يعتري العزاب وكثرة الجماع تزيله بسرعة وقال ابن الأكفاني في كتابه غنية اللبيب عند غيبة الطبيب إن أكل الطيور المسموعة يورث العشق وقال أيضاً في الخلاصة علامته نحافة البدن وخلاء الجفن للسهر وكثرة ما يتصعد إليه من الأبخرة وغور العين وجفافها إلا عند البكاء وحركة الجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ ونفس كثير الانقطاع والاسترداد والصعداء ونبض غير منتظم لا سيما عند ذكر أسماء وصفات مختلفة فأيها اشتد عنده اختلاف النبض وتغير الوجه فهو وقال أرسطاطاليس الفلكي للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعاً ولذلك إذا اشتركوا في أصل المولد أو اجتمعوا وتناظروا في أشكال محمودة وقع بينهم العشق والمحبة في بيت أحدهم أو في حده وكان رب البيت أو صاحب الحد ناظراً إليه أو كانت الكواكب المذكورة ناظرة في أشكال محمودة أو متقارنة فزحل يهيئ الفكرة والتمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوسوسة والجنون وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة وتنميق الكلام والتذلل والتلطف والزهرة تهيئ للعشق والوله والهيمان والرقة وتبعث في النفس التلذذ بالنظر والمؤانسة بالحديث والمغازلة التي تبعث على الشبق والغلمة وتدعو إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه وقال بطليموس سببه أن تكون الشمس والقمر في برج واحد أو متناظرين من تثليث أو تسديس فمتى كان كذلك كانا مطبوعين على مودة كل واحد منهما لكون سهمي سعادتهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس بعد أن يكون نظر صاحب سهم المحبة والصداقة فذلك يدل على أن هذين المولودين محبتهما من جهة المنفعة ومنفعتهما من جهة واحدة وإن أحدهما ينتفع بمودة صاحبه فتجلب المنفعة ما بينهما المحبة والمودة ويمتزجان ويؤيد هذا قول الخيزارزي: ولكن أرواح المحبين تلتقي ... إذا كانت الأجساد عنهن نوّما وأحسب روحينا من الأصل واحداً ... ولكنه ما بيننا منقسما ولو لم يكن هذا كذا ما تألّمت ... له مهجتي بالغيب لما تألما ومن علاماته إغضاء المحب عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرف إلى الأرض قال الله تعالى مخبراً عن كمال أدب نبيه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ما زاغ البصر وما طغى وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يميناً ولا شمالاً ولا طمح متجاوزاً إلى ما وراء ومنها اضطراب يبدو للمحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع اسمه كما قيل: وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري دعا باسم ليلى أسخن الله عينه ... وليلى بأرض الشام في بلدٍ قفر

ومنها أنه يستدعي سماع اسم محبوبه ويستلذ الكلام في أخباره ويحب أهل محبوبه وقرابته وغلمانه وجيرانه ومن ساكنه كما قال الشاعر: فيا ساكني أكتاف دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وقال آخر: أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب ومنها كثرة غيرته عليه ومحبة القتل والموت ليبلغ رضاه والإنصاف لحديثه إذا حدث واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال وتصديقه وإن كذب وموافقته وإن ظلم والشهادة له وإن جار وأتباعه كيف يسلك والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه والتعمد للقعود بقربه والدنو منه واطراح الأشغال الشاغلة عنه والزهد فيها والرغبة عنها والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته والتباطئ في المشي عند القيام عنه وجوده بكل ما يقدر عليه مما كان يتمتع به قبل ذلك حتى كأنه هو الموهوب له وهذا قبل استعار نار الحب فإذا تمكن أعرض عن ذلك كله وبدله سؤالاً وتضرعاً كأنه يأخذه من المحبوب حتى أنه يبذل نفسه دون محبوبه كما كانت الصحابة يفدون النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله كما قيل: بفديك بالنفس صب لو يكون له ... أعز من نفسه شيء فداك به ومنها الانبساط الكثير الزائد والتضايق في المكان الواسع والمحاربة على الشيء يأخذه أحدهما وكثرة الغمز الخفي والميل والتعمد للمس اليد عند المحادثة ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة وشرب ما أبقى المحبوب في الإناء قلت ومنها تقبيل نعله في غيبته وقد رأيت من فعل هذا فعنفته على ذلك فقال: أسكت يا فلان ما تعلم ما في هذا من اللذة ثم أني وجدت هذا المذكور بمكة وأرسل معي كتاباً إلى محبوبه المذكور لأنه جاور فقلت له: كيف أمكن الصبر يا زيد عن عمرو فأنشد: ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب ومنها تقبيل جدار الدار كما قيل: أقبِّل ذا الجدار وذا الجدار ... أمر على الديار ديار ليلى وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا ومنها الاتفاق الواقع بين المحب والمحبوب ولا سيما إذا كانت المحبة محبة مشاكلة ومناسبة فكثيراً ما يتكلم المحبوب بكلام أو يريد أن يتكلم به فيتكلم المحب به بعينه وكثيراً ما يمرض المحب بمرض محبوبه قلت وقد اتفق هذا غير مرة للسلطان الملك الناصر أحمد لما كان بالكرك مع محبوبه الشهيب فإنه كان يمرض لمرضه ويصح لصحته أخبرني بذلك من لا ارتاب في قوله ممن كان في خدمته ملازماً له وأما وقوع ذلك للمتقدمين فكثير فمن ذلك ما حكى عن أبي نواس أنه مرض فدخل عليه بعض أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة قال فانبسط معنا وقال: من أين جئتم فقلنا: من عند عنان جارية الناطقي فقال: أو كانت عليلة قلنا: نعم وقد عوفيت الآن فقال: والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سبباً غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعاً أن يكون الله عافاه منها قبلي ثم دعا بدواه وكتب إلى عنان: إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا بحماك وخصلةٍ كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك حتى إذا اتفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك

الفصل الثالث

ومنها أنه إذا سئل عن أمر أجاب بخلافه وكثرة التثاؤب والتمطي والتكسل إذا نظر إلى محبوبه ونكثه في الأرض بإبهام رجله. وهذا كثير ما يقع للنساء وعضها على شفتها السفلى وضربها على عضديها أو ثدييها وإظهار محاسنها لمن تهواه توهمه أنها ترى ذلك لبعض أهلها ونظرها إلى أعطافها ووضعها الحديث في غير موضعه - إياك أعني واسمعي يا جارة - ومنها الانقياد للمحبوب في جميع ما يختاره من خير وشر فإن كان المحبوب مشغوفاً بالعلم اجتهد المحب في طلبه أشد من اجتهاده وإن كان مشغوفاً بالنوادر والحكايات الحسان والأخبار المليحة المستحسنة بالغ المحب في طلبها وحفظها وإن كان مشغوفاً بحرفة أو صناعة اجتهد في تعلمها أن أمكنه ذلك فالمحبة النافعة أن يقع الإنسان على عشق كامل يحمله عشقه على طلب الكمال والبلية كل البلية أن يبتلي الإنسان بمحبة فارغ بطال صفر من كل خير فيحمله حبه على التشبه به. وفي أخبار العشاق أن عاشقاً عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقته فوجد في تركته اثنا عشر حملاً وفردة من السراويلات ذكره الصيمري وعشق آخر الهاونات من أجل صوت هاون محبوبته فوجد في تركته عشرة آلاف منها وقد وقفت من هذا على أشياء كثيرة والجنون فنون. الفصل الثالث مراتبه وأسمائه أقول هذا الفصل عقدناه لذكر مراتب الحب وسياقه وأسمائه واشتقاقه على اختلاف لغاته وانفاق رواته ومن المعلوم أن الشيء إذا كان عند العرب عظيماً وخطره جسيماً كالهزبر والرمح والخمر والسيف والداهية والمحبة المحرقة وما أدراك ماهية وضعوا له أسماء كثيرة وكانت عنايتهم به شهيرة ولا شيء يعدل اعتناءهم بالحب الذي يسلب اللب فأول مراتبه الهوى وهو ميل النفس وقد يطلق ويراد به نفس المحبوب. قال الشاعر: إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب كما قال الشاعر: ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الكلف وهو شدة الحب وأصله من الكلفة وهي المشقة يقال كلفة تكليفاً إذا أمره بما يشق عليه فكان الحبيب يكلف المحب ما لا يطيق ويتغافل عن قوله تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وقيل هو مأخوذ من الأثر وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم والكف أيضاً لون بين المواد والحمرة وهي حمرة كدرة ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب وفي الصحاح العشق فرط الحب وهو عند الأطباء من جلة أنواع الماليخوليا والمراد بالماليخوليا تغير الظنون والفكر عن المجرى الطبيعي إلى الفساد وهو أمر هذه الأسماء وقلما نطقت به العرب وكأنهم ستروا اسمه وكنوا عنه بهذه الأسماء فلم يكادوا يفحصون به ولا تكاد تجده في شعرهم القديم وإنما أولع به المتأخرون ولم يقع هذا اللفظ في القرآن ولا في السنة إلا في حديث ابن داود الظاهري كما يأتي بيانه وقال ابن سيده العشق عجب المحب بالمحبوب يكون في عناف الحب وذعارته وقيل العشق الاسم والعشق المصدر وعشيق كثير العشق وامرأة عاشق وشجرة يقال لها. وقيل عاشقة تخضر ثم تدق وتصغر قال الزجاجي واشتقاق العاشق من ذلك وقال الفراء العشق نبت لزج فسمى العشق الذي يكون بالإنسان لزوجته ولصوقه بالقلب.

وقال ابن الأعرابي العاشقة اللبلابة تحضر وتصفر وتعلق بالذي يليها من الشجرة فاشتق من ذلك العاشق ذكره في ديوان العاشقين والعشيق يكون للفاعل والمفعول وجمع العاشق عشق وعشاق ويقال في المرأة عاشقة وامرأة عاشق أيضاً وقد تقدم ذكر ذلك والله أعلم ثم الشغف قال العزيزي في غريب القرآن شغفها حباً أصاب حبه شغاف قلبها والشغاف غلاف القلب ويقال هو حبة القلب وهي علقة سوداء في صميمه وشغفها حباً ارتفع حبه إلى أعلى موضع في قلبها مشتق من شغاف الجبال أي رؤسها وقولهم فلان مشغوف أي ذهب به الحب أقصى المذاهب وأما الشعف بالعين المهمله فهو إحراق الحب القلب قال في الصحاح شعفه الحب أي أحرق قلبه وقد قرى بهما جميعاً شغفها حباً وشغفها وكذلك اللوعة واللاعج أعني مثل الشغف في الإحراق فاللاعج اسم فاعل من قولهم الضرب لعجه إذا آلمه وأحرق جلده ويقال هوى لاعج لحرقة الفؤاد من الحب وفي الصحاح لوعة الحب حرقته فهذا هو الهوى المحرق ثم الجوى وهو الهوى الباطن وفي الصحاح الجوى الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن ثم التتيم وهو أن يستعبد الحب ومنه سمي تيم الله أي عبد الله ومنه قيل رجل متيم ثم التيل وهو أن يسقمه الهوى ومنه رجل متبول وفي الصحاح تبلهم الدهر واتبلهم إذا أفناهم ثم التدلة وهو ذهاب العقل من الهوى ويقال دلهه الحب أي حيره ثم الهيام وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه ومنه رجل هائم والهيام بالكسر الأبل العطاش وقوم هيم أي عطاش والصبابة رقة الشوق وحرارته والمقة المحبة والوامق المحب والوجد والحسران الحزن وأكثر ما يستعمل في الحزن والدنف لا تكاد تستعمله العرب في الحب وإنما ولع به المتأخرون وإنما استعملته العرب في المرض والشجو حب يتبعه هم وحزن الشوق سفر القلب إلى المحبوب قال في الصحاح الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء وقد جاء في السنة وأسألك النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك واختلف في الشوق هل يزول بالوصال أو يزيد فقالت طائفة يزول لأنه سفر القلب إلى المحبوب فإذا وصل إليه انتهى السفر فألقت عصاها واستقر بها النوى. كما قر عيناً بالإياب المسافر وقالت طائفة بل يزيد واستدلوا بقول الشاعر: وأعظم ما يكون العشق يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيام قالوا الآن الشوق هو حرقة المحبة والتهاب نارها في حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب وذلك مما يزيده القرب والمواصلة والصواب أن الشوق الحادث عند اللقاء والمواصلة غير النوع الذي كان عند الغيبة عن المحب قال ابن الرومي: أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني وألثم فاها كي تزول صبابتي ... فيشتد ما القي من الهيمان كان فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن ترى الروحين يمتزجان والبلبال الهم ووسواس الصدر والبلابل جمع بلبلة يقال بلابل الشوق وهي وساوسه والتباريح الشدائد والدواهي يقال برح به الحب والشوق إذا أصابه منه البرح وهو الشدة والغمرة ما يغمر القلب من حب أو سكر أو غفلة والشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد إلى محبوبه. وقال الراجز: إني سأبدي لك في ما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد ؟ وشجن لي ببلاد السند وقال آخر: تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي والوصب ألم الحب ومرضه فإن أصل الوصب المرض والكمد الحزن المكتوم والكمد تغير اللون. والأرق والسهر وهو من لوازم المحبة والحنيني الشوق أصل مادته الستر والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ولا ما يضره فهو شعبة م الجنون ومن الحب ما يكون جنوناً والود خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة والخلة توحيد المحبة فالخيل هو الذي يوحد حبه لمحبوبه وهي مرتبة لا تقبل المشاركة ولهذا اختص بها من العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله عليهما كما قال واتخذ الله إبراهيم خليلاً وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً وفي الصحيح عنه لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً وقيل إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح. قال الشاعر:

الفصل الرابع

قد تخللت موضع الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا زعم من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل وقال محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله وهذا الزعم باطل لأن الخلة خاصة وهي توحيد المحبة كما تقدم والمحبة عامة قال الله تعالى أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقد صح أن الله تعالى اتخذ نبياً خليلاً فحصل من أنعام الحب العام على الخاص والعام: حللت بهذا حلةً ثم حلة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما والغرام الحب اللازم يقال رجل مغرم بالحب وقد لزمه الحب. وفي الصحاح الغرام الولوع والغريم الذي يكون عليه الدين وقد يكون الذي له الدين: قال كثير: قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها والوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، وله أسماء غير هذه أضربت عنها خوف الإطالة والمحبة. أم باب هذه الأسماء كلها وقيل الشوق جنس والمحبة نوع منه، ألا ترى أن كل محبة شوق وليس كل شوق محبة وخالف ذلك صاحب المنظوم والمنثور. فقال: زعموا أن العشق والوجد والهوى أن يهوى الشيء فيتبعه غياً كان أو رشداً والحب حرف تنتظم هذه الثلاثة فيه، وقد يقال للعاشق والواجد والذي يهوى الأمر محب وللناس في حد المحبة كلام كثير فقيل: هي الميل الدائم بالقلب الهائم وقيل: هي قيامك لمحبوبك بكل ما يحبه منك. وقيل: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس كما قال المتنبي: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل وقيل هي مصاحبة المحبوب على الدوام كما قيل: ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي وقيل هي حضور المحبوب عند المحب دائماً كما قال الآخر: خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فاين تغيب وفي اشتقاقها أيضاً أقوال فقيل هي مشتقة من حبة القلب وهي سويداؤه، ويقال ثمرته فسميت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب وقيل هي مشتقة من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم وقيل من حباب الماء فتح الحاء وهو معظمه أو يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب وقيل: من حب الماء الذي يوضع فيه لأنه يمسك ما فيه من الماء ولا يسع غيره إذا امتلأ به كذلك إذا امتلأ القلب من الحب فلا اتساع فيه لغير المحبوب وعلى ذكر حب الماء الذي يسميه المصريون الزير ما أحسن قول القاضي محيي الدين عبد الظاهر ملغزاً في كوز الزير وفيه اعتراض يشينه وحسن نظم يزينه. وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب الفصل الرابع مدحه وذمه أقول هذا الفصل عقدناه لمدح العشق وذمه وترياقه وسمه فكم مدحه عاقل وذمه متعاقل هيهات فات من ذمه المطلوب ومن أي للوجه المليح ذنوب فمن خصاله المحمودة وفضائله الموجودة ما قاله العلامة قدامة العشق فضيلة تنتج الحيلة وتشجع الجبان وتسخي كف البخيل وتصفي ذهن الغبي وتطلق بالشعر لسان العجم وتبعث حزم العاجز وهو عزيز يدل له عز الملوك وتضرع له صولة الشجاع وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقيل لبعض العلماء أن ابنك قد عشق فقال الحمد لله، الآن وقت حواشيه ولطفت معانيه وملحت إشاراته وظرفت حركاته وحسنت عباراته وجادت رسائله وجلت شمائله فواظب على المليح واجتنب القبيح وقيل لآخر كذلك فقال لا بأس إذا عشق لطف وظرف ودق ورق وقيل للبزرجمهر متى يكون الفتى بليغاً فقال إذا صنف كتابً أو وصف هوى أو حبيباً وقد صدق فيما قال العباس ابن الأحنف: وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خير فيمن لا يحب ويعشق وقال غيره: وما سرني أني خلى من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب وقال آخر: ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب وقال آخر: اسكن إلى سكن تلذ بحبه ... ذهب الزمان وأنت خالٍ مفرد وقال آخر:

إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء وقال آخر: ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولا وافى إليك حبيب وقال آخر: ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق وقال المتنبي: وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق وقلت أنا مضمناً لقول المتنبي هذا مع زيادة التورية: إن تسألوا عما لقيت من الهوى ... فأنا الذي مارسته وعرفته خالفت في رشف الرضاب وطعمه ... وعذلت أهل العشق حتى ذقته حكي أن الملك بهرام جور كان له ولد واحد فأراد ترشيحه للملك بعده فوجده ساقط الهمة دنيء النفس فسلط عليه الجواري والقيمان فعشق منهن واحدة فأعلم الملك بهرام بذلك ففرح وأرسل إلى التي قيل أنه عشقها أن تجني عليه وقولي أني لا أصلح إلا لشريف النفس عالي الهمة ملك أو عالم فلما قالت ذلك راجع العلم وما عليه الملوك من شرف الهمة حتى برع في ذلك وتولى الملك فكان من خيرهم وأثبت ذلك في حكمة إلى كسرى إن الملك لا يكمل إلا بعد عشقه وكذلك العالم قالوا والعشق المباح مما يؤجر عليه العاشق كما قال شريك وقد سئل عن العشاق فقال أشدهم حباً أعظمهم أجراً. قالوا وأرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم ضعيفة وأرواحهم بطيئة الانقياد لمن قادها حاشي سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه وكلام العشاق ومنادمتهم تزيد في العقول وتحرك النفوس وتطرب الأرواح وتجلب الأفراح وتشوق إلى مساع أخبارهم الملوك فمن دونهم ويكفي العاشق المسكين الذي لم يذكر مع الملوك ومع الشجعان الأبطال أنه يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء فمن دونهم تدور أخباره وتروى أشعاره ويبقى له العشق ذكراً مخلداً ولولا العشق لم يذكر له اسم ولا جرى له رسم ولا رفع له رأس ولا ذكر مع الناس وقال المرزباني سئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق فقال: نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دمائة أهل الحجاز وظرف أهل العراق فلا يسلم منه وقال بعضهم لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة ناقصاً أو منقوص البنية أو على خلاف تركيب الاعتدال: وا عجباً للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر ويكفي العاشق أنه يرتاح للمعروف وإغاثة الملهوف كما قيل: يرتاح للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوماً عند ليلى شمائله وقال أبو النجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ ويقول: وددت بأن الحب يجمع كله ... فيقذف في قلبي وينفلق الصدر لا ينقضي ما في فؤادي من الهوى ... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر فقلت يا فتى أما لهذه البنية حرمة تمنعك من هذا الكلام. فقال بلى والله ولكن الحب ملأ قلبي فتمنيت المني والله ما سرني ما بقلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك وإني أدعو أن يثبته الله في قلبي عمري ويجعله ضجيعي في قبري دريت به أم لا أدري هذا دعائي وله قصدت وفيه ترغبت مما يعطي الله سائر خلقه. ثم مضى قلت: ذكرت هنا ما قاله الأخطل وقد لامه عبد الملك على الخمر، فقال: ليت شعري ما يعجبك فيها ... وأولها مراراً وآخرها خمار فقال لكن بينهما والله نشوة لا أبيعها بخلافتك يا أمير المؤمنين أخذه الشاعر فقال: إن يكن أول المدام كريهاً ... أو يكن آخر المدام صداعاً فلها بين ذا وذاك هنات ... وصفها بالسرور لن يستطاعا وأما ما جاء في ذمة وسريان سمه فأكثر من أن يحصر فكم ترك الغنى صعلوكاً والمالك مملوكاً كما قيل: ظل من فرط حبه مملوكا ... وقد كان قبل ذلك مليكا تركته جآذر القصر صبا ... مستهاماً على الصعيد تريكا وهذه الأبيات لبعض ملوك الأندلس وسيأتي ذكرها في الباب الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه ووقع فيما يأباه أي والله. والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يعشق

الفصل الخامس

قالوا وكم عاشق هرب من الحب إلى مواقف التلف ليتخلص من التلف بالتلف. وعلى هذا حكاية دعبل الشاعر. قال: كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا أنا بفتى يجر رمحه بني يدي. فالتفت فنظر إلي فقال: أنت دعبل. قلت: نعم. قال: اسمع مني ثم أنشد: أنا في أمري رشاد ... بين حب وجهاد بدني يغزو وعدوي ... والهوى يغزو فؤادي ثم قال كيف ترى. قلت: جيد والله. قال: فوالله ما خرجت إلا هارباً من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال الواوا الدمشقي: سبيل الهوى وعر وحلو الهوى مرّ ... وبرد الهوى حر ويوم الهوى دهر وقال غيره: العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة للعشق تنفي سكرة الوسن وقال عبد المحسن الصوري: كان ابتداء الذي بي مجوناً ... فلما تمكن أمسى جنوناً وكنت أظن الهوى هينا ... فلاقيت منه عذاباً مهينا وقال محمد اليزيدي: كيف يطيق الناس وصف الهوى ... وهو جليل ما له قدر بل كيف يصفو لحليف الهوى ... عشق وفيه البين والهجر وما أحسن قول عبد الله بن إسباط القيرواني: قال الخلي الهوى محال ... فقلت لو ذقته عرفته فقال هل غير شغل قلب ... إن أنت لم ترضه صرفته وهل سوى زفرة ودمع ... إن لم ترد جريه كففته فقلت من بعد كل وصف ... لم تعرف الحب إذ وصفته تنبيه، الهوى أكثر ما يستعمل في الحب المذموم. قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالاً مقيداً ومنه الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ". وقال ابن عباس: الهوى إله معبود وقرأ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فتلخص من الآية الكريمة. والحديث الشريف أن الهوى ينقسم إلى قسمين: هوى محمود وهو في الخير والصلاح، وهوى مذموم وهو في الشر والفساد، وفي كتاب السهل المواتي في فضائل ابن مماتي: أن بعض الصوفية قال: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى النار. قلت: لو قال يهوى بصاحبه إلى الهاوية لكان أنسب. وقال بعضهم الهوى الهوان زيدت فيه النون كما قيل: فسألتها بأشارة عن حالها ... وعلي فيها للوشاة عيون فتنفست صعداً وقالت ما الهوى ... إلا الهوان أزيل عنه النون وقوله تعالى: " أخلد إلى الأرض واتبع هواه " قيل أخلد إلى الأرض أي سكن إليها ونزل بطبعه عليها وكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء. قال سهل قسم الله للأعضاء من الهوى لكل عضو حظاً فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضاً أرضاً سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل قلبه إلى العرش وحاصل القضية أن العشق والهوى أصل كل بلية وفيه ذل كل نفس أبية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه ". قال الإمام: أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل نفسه لمعشوقه كما قيل: اخضع وذل لمن تحب فليس فيّ ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد وقال آخر: مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر وقال الشيخ شرف الدين بن الفارض: هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل وعش خالياً فالحب راحته عنا ... فأوّله سقم وآخره قتل فأوله سقم وآخره قتل الفصل الخامس اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري أقول هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره وأسفر كالصباح سفره إذ للناس فيه كلام من الطرفين وتبختر بين الصفين فقائل بأنه اضطراري وقائل بأنه اختياري ولكل من القوانين وجه مليح.

وقدر رجيح ونحن نذكر من ذلك ما يعم به الانتفاع ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع فمن ذلك ما قاله القاضي أبو عمر ومحمد بن أحمد النوفاني في كتابه تحفة الظراف العشاق معذورون على كل حال مغفور لهم جميع الأقوال والأفعال إذ العشق إنما دهاهم على غير اختياري بل اعتراهم على جبر واضطرار والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور لا في المقضي عليه الصلاة والسلام فتضع حملها فكيف ترى هذه وضعته أباختيار منها كان ذلك أم باضطرار لا بل باضطرار وفقد اقتدار هذا مما لا شك فيه دولب ولا يختلج خلافه في قلب قلت: وجاء في تفسير قوله تعالى " فلما رأينه أكبرنه " أي رأينه في أعينهن كبيراً وقيل حضن من الدهش. وقال ابن عباس أمذين وأمنين من الدهش وقطعن أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن ألماً لحز أيديهن لاشتعال قلوبهن بحسنه. وقال وهب: كن أربعين امرأة فمات منهن تسع وجداً بيوسف وكمداً عليه. وما أحسن قول بعض بني عذرة، وقد قال له بعض العرب ما لأحدكم يموت عشقاً في هوى امرأة يألفها إنما ذلك ضعف نفس ورقة وخور تجودنه فيكم يا بني عذرة. فقال أما والله لو رأيتم الحواجب الزج فوق النواظر الدعج تحتها المباسم الفلج لأتخذتموها اللات والعزى. وقال الفضيل بن عياض: لو رزقني الله دعوى مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق لان حركاتهم اضطرارية لا اختيارية ورؤى أبو السائب المخزومي وكان من أهل العلم والدين بمكان متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم ارحم العاشقين وقوي قلوبهم واعطف عليهم قلوب المعشوقين فقيل له ذلك. فقال: والله للدعاء لهم أفضل من عمرة من الجغرانة ثم أنشد: يا هجر كف عن الهوى ودع الهوى ... للعاشقين يطيب يا هجر ماذا تريد من الذين جفونهم ... قرحى وحشو قلوبهم جمر متذبلين من الهوى ألوانهم ... مما تجن قلوبهم صفر وسوابق العبرات فوق خدودهم ... درر تفيض كأنها قطر والظاهر أن قوله أفضل من عمرة من الجعرانة هو الذي جسر الفتح ابن خاقان على قوله من أبيات: أيها العاشق المعذب صبراً ... فخطايا أهل الهوى مغفورة زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجة مبرورة قلت وقد بالغ في هذا الكلام حتى استحق الملام فليته اكتفى بما قتل في التمثيل: على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليّ ولا ليّا والظاهر أن الحامل له على هذا ما ذهب إليه الشافعي في أن الميت عشقاً من الشهداء للحديث الوارد في ذلك وسيأتي ذكره في باب العفاف إن شاء الله تعالى. وقال التميمي في كتابه امتزاج الأرواح. سئل بعض الأطباء عن العشق. فقال أن وقوعه بأهله ليس باختيارهم ولا بحرصهم عليه ولا لذة لأكثرهم فيه ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المدنفة والأمراض المتلفة فقال: لا فرق بينه وبين ذلك. وقال المدائني لام رجل رجلاً من أهل الهوى. فقال: لو كان الذي هوى اختيار لا اختياران لا يهوي ولكن لا اختيار الذي هوى قالوا والعشق نوع من العذاب والعاقل لا يختار العذاب لنفسه وفي هذا قال المؤمل شفا المؤمل يوم الحيرة النظر ليت المؤمل لم يخلق له بصر يكفي المحبين في الدنيا عذابهم والله لا عذبتهم بعدها سقر حكي أنه نال ما تمنى لأنه عمي بعد قوله، وقال أبو محمد بن حزم قال رجل لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها فقال عمر ذلك مما لا يملك وقال كامل في سلمي: يلومونني في حب سلمى كأنما ... يرون الهوى تمنيته عمداً ألا إنما الحب الذي صدع الحشا ... قضاء من الرحمن يبلو به العبدا وقال الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " بالعشق وهذا لم يريدوا به التخصيص وإنما أرادوا به التمثيل وأن العشق من تحميل ما لا يطاق والمراد بالتحميل ههنا التحميل القدري لا الشرعي الأمري انتهى كلامه.

الباب الأول

وقال عبيد الله بن طاووس في قوله تعالى " وخلق الإنسان ضعيفاً " قال إذا نظر إلى النساء لم يصبر نقله عنه سفيان بن سعيد في تفسيره وقالوا قد رأينا جماعة من العشاق يطوفون على من يدعو لهم أن يعافيهم الله من العشق ولو كان اختيارياً لأزالوه من نفوسهم ومن هنا يتبين خطأ كثير من العاذلين ويظهر أن عزلهم من هذا الحال بمنزلة عذل المريض في مرضه وما أحسن قول بعضهم: يا عاذلي والأمر في يده ... هلا عذات وفي يدي الأمر وإنما ينبغي العدل قبل تعلق هذا الداء بالقلب وانصباب دمع العاشق الصب. وذهب جماعة من الأطباء وغيرهم إلى أنه اختياري لا اضطراري وقد تقدم في حد العشق الذي ذكره ابن سينا وغيره أنه مرض وسواسي يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل فهذا تصريح منهم بأن الإنسان هو المختار في العشق بتسليط فكرته الواقع في بحار سكرته قالوا ولأن المحبة إرادة قوية والعبد يحمد ويذم على إرادته ولهذا يحمد مريد الخير وإن لم يفعله وقد ذم الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأخبر أن عذابهم أليم ولو كانت المحبة لا تملك لم يتوعدهم بالعذاب على ما لا يدخل تحت قدرتهم ومنه قوله تعالى " ونهى النفس عن الهوى " ومحال أن ينهي الإنسان نفسه عما لا يدخل تحت قدرته قالوا والعقلاء قاطبة مطبقون على لوم من يحب ما يتضرر بمحبته وهذه فطرة فطر الله عليها الخلق فلو اعتذر بأني لا أملك قلبي لم يقبلوا له عذراً قلت، والقول الصحيح الذي ليس فيه رد ولا عن محبوبة صد التفصيل في ذلك وهو أن العشق يختلف باختلاف بني آدم وما جبلوا عليه من اللطافة ورقة الحاشية وغلظ الكبد وقساوة القلب ونفور الطباع وغير ذلك منهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش كما تقدم في حق النسوة اللاتي متن لما رأين يوسف عليه الصلاة وقد كان مصعب ابن الزبير إذا رأته المرأة خاضت لحسنه وفيه يقول الشاعر: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت بنوره الظلماء ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته ولم يعرف نعله من عمامته قال الشاعر: فما هو إلا أن يراها فجاءة ... فتصطك رجلاً ويسقط للجنب فهذا وأمثاله عشقه اضطراري والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس ومنهم من يكون أول عشقه الاستحسان للشخص ثم تحدث له إرادة القرب منه ثم المودة وهو أن يود لو ملكه ثم يقوى الود فيصير محبة ثم يصير خلة ثم يصير هوى ثم يصير عشقاً ثم يصير تتيماً والتتيم حالة يصير بها المعشوق مالكاً للعاشق ثم يزيد التقيم فيصير ولها والوله والخروج عن حد الترتيب والتعطل عن التمييز فهذا وأمثاله مبدأ عشقه اختياري لأنه كان يمكنه دفع ذلك وحسم مادته على أن هذا النوع أيضاً إذا انتهى بصاحبه إلى ما ذكرناه صار اضطرارياً كما قال الشاعر: العشق أول ما يكون مجانة ... فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً ولهذا قال بعض الفلاسفة لم أر حقاً أشبه بباطل ولا باطلاً أشبه بحق من العشق هزله جد وجده هزل أوله لعب وآخره عطب قال الشاعر: تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق قال صاحب روضة المحبين وهذا بمنزلة السكر مع شرب الخمر فإن تناول المسكر اختياري وما يتولد عنه من السكر اضطراري فمتى كان السبب واقعاً باختياره لم يكن معذوراً فيما تولد عنه بغير اختياره ولا ريب أن متابعة النظر واستدامة الفكر بمنزلة شرب المسكر فهو يلام على السبب ولهذا إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يلم عليه صاحبه كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يلام على ذلك كما في قصة مغيت وبربرة المشهورة وقد ظهر بهذا أن العشق يكون اضطرارياً تارة وتارة اختيارياً وذلك بحسب كمالة العاشق كما تقدم فحينئذ يكون إدعاء من قال أنه اضطراري مطلقاً أو اختياري مطلقاً غير مقبول عند ذوي العقول والله تعالى أعلم أقول وإلى هنا انتهى الكلام على هذه الفصول التي طاب زمانها واعتدل وظهر بها في جنة الورد حمرة الخجل وما بقي إلا الدخول في الأبواب على الوجه المقترح والإتيان بما فتح الله سبحانه ومن دق باب كريم فتح. الباب الأول ذكر الحسن والجمال

وما قيل فيهما من تفصيلي وإجمالي

وما قيل فيهما من تفصيلي وإجمالي أقول هذا باب عقدناه للكلام على الحسن وأقسامه: والحبيب وكلامه. ولا سيما إذا ابتسم عن حبب. واضطرب في ثغره الصرب. فعذب مقبله. وتساوى من حسنه في الحالي ماضيه ومستقبله. هنالك يحتوي من الجمال على القسمين الذين هما الظاهر والباطن. والظاعن والقاطن. فالجمال الباطن المحمود لذاته كالعلم والبراعة. والجود والشجاعة. والجمال الظاهر ما ظهر من غصن قوامه الرطيب. ووجهه الذي فاق البدر بلا غيبة للشمس عند المغيب. فعند ذلك يشمت بالبدر بشاماته. ويقول لخدة الذي ازداد بها حسناً من زاد زاد الله في حسناته. فلذلك قيل الحسن الصريح. ما استنطق الآفواه بالتسبيح. وقيل بل هو كما قيل شيء به فتن الورى غير الذي يدعي الجمال ولست أدري ما هو قلت وهو الصحيح لأنه لا يدري كنهه ولا يعرف شبهه. حتى كأنه فكرة لا تتعرف. ومجهول لا يعرف. ولذلك قال بعضهم للحسن معنى لا تناله العبارة ولا يحيط به الوصف وقيل الحسن مشتق من الحسنة قلت والذي يظهر أنه لهذا المعنى قيل للشامات حسنات قال بعضهم في سوداء مليحة يا رب سوداء تجلى. بحسنها الظلمات ماذا يعيبون فيها رؤيته. وكلها حسنات وقلت أنا ووجه زال رونقه فأضحت. محاسنه بلحيته عيوباً قليل الحظ بالشامات أمسي. فما حسناته إلا ذنوب. وقيل الحسن أمر مركب من أشياء وضاءة وصباحة وحسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشرة وقيل الحسن تناسب الخلقة واعتدالها واستواؤها ورب صورة متناصبة الخلقة وليست في الحسن بذاك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها وقالت عائشة رضي الله عنها البياض شطر الحسن وقالوا في الجارية جميلة من بعيد ملحية من قريب فالجميلة التي تأخذ جملة بصرك فإذا دنت منك لم تكن كذلك والمليحة التي كلما كررت بصرك فيها زادتك حسناً وقيل الجميلة السمينة من الجمال وهو أشحم والمليحة أيضاً من الملحة وهي البياض والصبيحة كذلك من الصبح لبياضه وقال بعضهم الظرف في القدر والبراعة في الجيد والرقة في الأطراف والخصر والشأن كله في الكلام وأحسن الحسن ما لم يجلب بتزيين وقال امرؤ القيس: وجدت بها طيباً وإن لم تطب وقال آخر: إن المليحة من تزين حليها ... لا من غدت بحليها تتزين وقال بعض أهل اللغة العرب تقول الحلاوة في العينين والملاحة في الفم والجمال في الأنف والظرف في اللسان ومنه قول الحسن رضي الله عنه إذا كان اللص ظريفاً لا يقطع أي إذا وقع دفع عن نفسه بطلاقة لسانه ومنطقه وما أحسن قول بعضهم البدن فيه الوجه والأطراف. وفي الوجه المحاسن وإليها الاستشراف. وفي المحاسن النكت التي هي الغاية في الاستحسان والاستظراف. كالملاحة في العين ونكتة الملاحة الدعج وكالحسن في الفم ونكتة الحسن الفلج وكالطلاوة في الجبين ونكتة الطلاوة البلج وكالرونق في الخد ونكتة الخد الضريح. وما يستحسن في المرأة طوال أربعة وهي أطرافها وقامتها وشعرها وعنقها. وقصر أربعة يديها ورجليها ولسانها وعينيها والمراد بهذا القصر المعنوي فلا تبذر ما في بيت زوجها ولا تخرج من بيتها ولا تستطيع بلسانها ولا تطمع بعينها. وبياض أربعة لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها وسواد أربعة أهدابها وحاجبها وعينيها وشعرها. وحمرة أربعة لسانها وخذها وشفتيها مع لعس واشراب بياضها بحمرة. وغلظ أربعة ساقها معصمها وعجيزتها وما هنالك. وسعة أربعة جبهاتها وجبينها وعينها وصدرها. وضيق أربعة فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها وما هنالك وهو المقصود الأعظم من المرأة. قيل وجدت جارية في زمن بني ساسان بهذه الصفات المذكورة جميعها فما كان أحقها أن يقال في حقها. لو أن عزة حاكمت شمس الضحى في الحسن عند موفق لقضى لها وحكى أن يعصور أحد ملوك الصين أهدى إلى كسرى أنوشر وأن ملك فارس هدية من جملتها جارية تغيب في شعرها وتتلألأ جمالاً فبعث إليه كسرى بهدية من جملتها جارية طولها سبعة أذرع تضرب أهداب عينيها خديها كأن بين أجفانها لمعان البرق مقرونة الحاجبين لها ضفائر تجرهن إذا مشت.

فصل: قال روضة المحبين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبد الله وكان عمر بن الخطاب يسميه يوسف هذه الأمة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت امرؤ حسن الله خلقك " وقال بعض الحكماء ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة فإن رأى صورته حسنة فلا يشنها بقبيح فعله وإن رآها قبيحة فلا يجمع بين قبح الصورة والفعل. وقد نظم بعضهم هذا فقال: يا حسن الوجه توق الحنا ... لا تفسدنّ الزين بالشين ويا قبيح الوجه كن محسناً ... لا تجمعن بين قبيحين ولما كان الجمال من حيث هو محبوباً للنفوس معظماً في القلوب لم يبعث الله نبياً لا جميل الوجه كريم الحسب حسن الصوت كما قال علي بن أبي طالب وقد سئل أكان وجه الرسول صلى الله عليه وسلم مثل السيف قال: لا بل مثل القمر وفي صفته صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه فكان كما قال شاعرة حسان بن ثابت: متى يبدو في الدجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لمعتدي وقال أيضاً: فأجمل منه لم تر قط عيني ... وأكمل منه لم تلد النساء خلقت مبراء من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالحير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رآه ينشد قول زهير: لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المضيء لليلة البدر ونظرت إليه عائشة يوماً ثم تبسمت فسألها عن ذلك فقالت: كأن أبا كثير الهذلي إما عناك بقوله: وإذا نظرت إلى اسرّة وجبه ... برقت كبرق العارض المتهلل وفي الجملة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسن في الذروة العليا وروى بعض الصحابة لقي راهباً فقال: صف لي محمداً كأني أنظر إليه فإني رأيت صفته في التوراة والإنجيل. فقال: لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصر فوق الربعة أبيض اللون مشرباً بالجمرة جعد الشعر ليس بالقطط جمته إلى شحمة أذنه صلب الجبين واضح الحد أدعج العينين أقنى الأنف مفلج الثنايا كأن عنقه إبريق فضة وجهه كدائرة القمر فأسلم الراهب وكان صلى الله عليه وسلم مع هذا الحسن قد ألقيت عليه المحبة والمهابة فمن وقعت عليه عيناه أحبه وهابه وقد كمل الله سبحانه له مراتب الكمال ظاهراً وباطناً فكان أحسن خلق الله خلقاً وخلقاً وصورة ومعنى وهكذا كان يوسف عليه الصلاة والسلام. قال ربيعة: قسم الحسين نصفين فبين سارة ويوسف نصف الحسن ونصف الحسن بين سائر الناس وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى يوسف ليلة الإسراء وقد أعطى شطر الحسن وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحسن أن يكون الرسول حسن الوجه حسن الاسم وكان يقول إذا أبرد تم بريداً فليكن حسن الوجه حسن الاسم وقد روى الخرائطي من حديث ابن جريج عن أبي مليكة يرفعه من آتاه الله وجهاً حسناً واسماً حسناً وجعله في موضع غير شائن له فهو من صفوة الله من خلقه. وقال وهب: قال داود يا رب أي عبادك أحب إليك. قال: مؤمن حسن الصورة. فقال أي عبادك أبغض إليك قال: كافر قبيح الصورة ويذكر عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب فجعل ينظر في المرآة ويسوي شعره ولحيته ثم خرج إليهم فقالت: يا رسول الله وأنت تفعل هذا. فقال نعم: " إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليجملن نفسه فإن الله جميل يحب الجمال " وقال معاوية لرجل دخل عليه فرى في وجه ما يكرهه مما يمكن إزالته ما يمنع أحدكم إذا خرج من منزله أن يتعاهد أديم وجهه.

فصل: قوله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " أي في أحسن تعديل لقامته وصورته وحسن شارته منتصباً يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل لا كالبهائم وعلى هذا حكاية الرشيد لما خلا بزوجته في ليلة مقمرة فقال لها: إن لم تكوني أحسم من هذا القمر فأنت طالق فأفتى علماء زمانه بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال: لا يقع عليه الطلاق فقيل له: خالفت شيوخك فقال الفتوى بالعلم ولقد أفتى به من هو أعلم منا وهو الله سبحانه وتعالى حيث قال: " لقد خلقت الإنسان في أحسن تقويم ". وجاء تفسير قوله تعالى يزيد في الخلق ما يشاء أنه الصوت الحسن والوجه الحسن ولهذا قال أبو فراس: قد فاق بدر السماء حسناً ... والناس في حبه سواء فزاده ربه عذاراً ... تم به الحسن والبهاء لا تعجبوا ربنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء وحكي عن بعض النساء أنها كانت تكثر صلاة الليل فقيل لها في ذلك فقالت أنها تحسن الوجه وأنا أحب أن يحسن 3 وجهي. وحكي أن المأمون استعرض جيشاً فمر رجل قبيح فاستنطقه فرآه ألكن فأمر بإسقاطه. وقال: إن الروح إذا وقع أثرها في الظاهر كانت صباحة وإذا وقع أثرها في الباطن كانت فصاحة وهذا الرجل لا ظاهر له ولا باطن ولكن شخص له حكمان: أحدهما من جهة جسمه وهو منظره والآخر من جهة نفسه وهو مخبره وكثيراً ما يتلازمان ولذلك فرغ أصحابه الفراسة من معرفة أحوال النفس الهيئة البدنية حتى قال بعض الحكماء قلما توجد صورة حسنة تدبرها نفس رديئة وقد قال عليه الصلاة والسلام اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه فهذا كله يدل على أن الحسن وكمال الجسم من الفضائل ويدل عليه قوله تعالى: " وزاده بسطة في العلم والجسم " والحسن أول سعادة الإنسان لأن الله تعالى بلطف حكمته لم يخلق الصورة مختارة الصفات سليمة من الآفات إلا وأضاف إليها ما يناسبها من العقل والصفات وقلما تجد الخلق إلا تبعاً للخلقة تناسباً مطرداً وأصلاً لا ينعكس وإجماعاً لا ينفرد وما خلق الله نبياً قط إلا وقد بهر أهل زمانه بحسنه وإحسانه فإذا نظرته أول مرة رأيته أحسنهم صورة وأتقنهم بنية فهو أولاهم مرتبة وأعلاهم منقبة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يعذب الله حسان الوجوه سود الحدق ". قال الإمام فخر الدين الرازي في أسرار التنزيل ما ملخصه حسن الصورة وإن كان أمراً مرغوباً فيه فإن حسن السيرة من مطالب الحكمة ولا شك أن الحكمة أفضل من الشهوة فكان حسن السيرة أفضل من حسن الصورة لا محالة، ومنها أن يوسف عليه الصلاة والسلام اجتمع له حسن الصورة وحسن السيرة ثم أنه بسبب حسن الصورة وقع في أنواع من البلايا منها أن أباه كان يحبه أزيد من أخوته بدليل قوله تعالى " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " فهذا قصدوا قتله بدليل حكايته عنهم " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم " ومنها أنه وقع بسب الحسن في أسر الرق ومراودة امرأة العزيز وإدخاله السجن بسبب ذلك فلما علم الملك بعد ذلك حسن سيرته اصطفاه لنفسه وقال له إنك اليوم لدينا مكين أمين ولم يقل صبيح مليح فدل ذلك على أن حسن السيرة أفضل من حسن الصورة ومعلوم أن حسن الصورة لا يبقى إلا أياماً قلائل وأما حسن السيرة فإنه لا يزول أثره ولا تبطل نتيجته قلت وممن حصل له الأذى بسبب حسن صورته نصر بن حجاج وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر ليلاً فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج فدعا نصر بن حجاج وهو من بني سليم فرآه أحسن الناس وجهاً وله شعر حسن فحلق شعره فكان أحسن منه بشعر فقال: لا تساكني في بلد فتشفع نصر إليه أن لا يخرجه من المدينة فلم يقبل عمر رضي الله عنه فلما ودعه نصر قال له يا أمير المؤمنين لقد سمتني قتل نفسي فقال عمر كيف ذلك فقال قال الله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم " فقرن هذا بهذا. فقال عمر: ما أبعدت لكن أقول ما قال شعيب عليه السلام: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ولقد أضعفت لك يا نصر عطاءك ليكون ذلك عوضاً لك أقول ذكرت بحلقة شعره فكان أحسن منه بشعر قول بعضهم في ذلك: حلقوا رأسه ليزداد قبحاً ... غيرة منهم عليه وشحا

فصل

كان صيحاً عليه ليل بهيم ... فمحوا ليله وأبقوه صبحاً وما أحسن قول السراج الوراق في مليح قلندري: عشقت من ريقته قرقفاً ... وماله إذ ذاك من شارب قلندر يا حلقوا حاجباً ... منه كنون الخط من كاتب سلطان حسن زاد في عدله ... فاختار أن يبقى بلا حاجب وقال ابن سنا الملك: حكيت جسمي نحوك ... فهل تعشقت حسنك وكان جفنك مضني ... فصرت كلك جفنك وزادك السقم حسناً ... والله إنك أنك فصل قد تقدم ذكر ما يستحسن من المرأة فلنذكر هنا ما قالته الشعراء في تشبيه الأعضاء بالحروف لأنهم أكثروا من ذلك فشبهوا الحاجب بالنون والعين بالصدغ بالواو والفم بالميمي والصاد والثنايا بالسنين والطرة المضفورة بالشين ومن أحسن ما قيل في ذلك قول محاسن الشواء أرسل فرعاً ولوى هاجري صدغاً فأعيا بهما واصفة فخلت ذا من خلقه حية: تسعى وهذا عقرباً واقفه ... ذي ألف ليست لوصل ودي واو ولكن ليست العاطفة. وقول الآخر ياسين طرتها وصاد عيونها ... إلى أعوّذ بسورة طه وقول ابن مطروح قالت لنا ألف العذار بخده ... في ميم مبسمه شفاء الصادي وقول ابن نقاده ضم الجمال فصاده من عينها ... والنون حاجبها بخال ينقط والميم فوهاً فالحروف تألفت ... مكتوبة والصبر عنها يكشط وقول الآخر: لا تقول لي لا فمكتوب على ... وجهك المشرق نورا نعم بحروف صورت من قدرة ... ما جرى قط عليها قلم نونها الحاجب والعين بها ... طرفك الفتان والميم الفم وقال شهاب الدين أحمد بن الخيمي: إن صدغ الحبيب والفم والعا ... رض منه واو وصاد ولام هي وصل بين المحاسن لما ... تم حسناً وبالعذار التمام غير أني أراه وصل وداع ... فيه يفضي افتراقنا والسلام وقلت أنا: حبيب تعالي قد حين سمته ... وقال قوامي رمحه ما يقوم وخط عذاري أعجم الخال لامه ... ولم أدر أن اللام في الخط يعجم وقلت أيضاً: يرنو إليّ بعين نون حاجبها ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان وقلت أيضاً: في عكس هذا المعنى أشارت وهو تشبيه الحروف بالأعضاء في تقريظ قصيدة مدحت بها مولانا السلطان الملك الناصر حسن. فكم ألف بها أمسى ... رشيق القامة النضره وكم شين بحاشية ال ... كتاب تخالها طرّه وعين أصبحت في العين ... مثل العيز والنقرة وقلت أيضاً: في تقريظ كاب ورد على بعض الأحباب من رسالة افتتحها بقصيدة منها: رفضت النوم بعدك يا علي ... فلا تعجب لدمعي أن توالا ووافاني كتاب منك عال ... حكت الفاته السمر الطوالا وكم شاهدت من خطا ولكن ... مثالك ما رأيت له مثالا لين أمست به الفات قطع ... فكم وصل به ضمن الوصالا وكم ألف به للوصل لاحت ... كغصن البان ليناً واعتدالا تعانق لامها طوراً يميناً ... وآونة تعانقه شمالا ظننت اللام فيه عذار خدّ ... وخلت النقط فوق الخدخالا وامسى طالع الطاآت فيه ... يعلم لينه غصن الكمالا وقال القاضي الفاضل من رسالة كتب بها إلى موفق الدين خالد القيرواني وقد وقف له على رسالة كتبها بالذهب جاء منها فمن ألفات ألفت الهمزات غصونها حمائم ومن لامات بعدها يحسدها المحب على عناق قدودها النواعم ومن صادات نقعت غلة القلوب الصوادي والعيون الحوائم ومن واوات ذكرت ما في وجنة الأصداغ من العطفات ومن ميمات دنت الأفواه من ثغرها لتنال جنى الرشفات ومن سينات كأنها الثنايا في تلك الثغور ومن دالات على الطاعية لكاتبها بانحناء الظهور ومن جيمات كالمناسر تصيد القلوب التي تخفق لروعات الاستحسان كالطيور وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وخالد فيها خالد وتحيته فيها المحامد ويده تضرب في ذهب ذائب والناس تضرب من حدي بارد.

الباب الثاني

الباب الثاني ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء أقول هذا باب عقدناه لذكر أحسن الملوك طباعاً وأطولهم باعاً وأطيبهم عيشاً وأكثرهم طيشاً وأرقهم شعراً وأدقهم فكراً وأقربهم مرجوعاً وأكثرهم بالحبيب ولوعاً أذهم في الحقيقة أولى الناس بذلك وأحقهم بالنوم على تلك الأرائك وذلك بحسب ما سولته لهم نفوسهم وزينه لهم جليسهم كما قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى إذا كنت في القوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى فمنهم من قنع من محبوبه بالنظر ... حتى مات كمداً ولحق مثل نور الدين الشهيد بالشهدا وستأتي حكايته في باب العفاف إن شاء الله تعالى ومنهم من أصبح دونه في العفاف وأقام سالف محبوبه مقام السلاف ومنهم من خلع العذار واحتج بقول الشعر في العقار: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء فجمع ما بين ذات العقود وابنة العنقود ولكن مع صيانة ورجوع إلى ديانه فهو وإن طال به المجلس اختصر وإن جنى فيه على محبوبه اعتذر كما قيل: إن أكن قد جنيت في السكر ذنباً ... فاعف عني يا راحة الأرواح أي عقل يبقى هناك لمثلي ... بين سكر الهوى وسكر الراح ومنهم من نال بالراح اللذة المحظورة وأخرج بها وجنة الحبيب من صورة إلى صورة فجارى النديم في الجريال وسما إلى الحبيب سمو حباب الماء حالاً على حال فأفضى به ذلك إلى هلكه وفساد ملكه كما اتفق للأمين بن الرشيد وغيره قال الربيع: قعد الأمين يوماً للناس وعليه طيلسان أزرق وتحته لبد أبيض فوقع في ثمانمائة قصة فوالله لقد أصاب وما أخطأ وأسرع فما أبطأ ثم قال يا ربيع أتراني لا أحسن التدبير والسياسة ولكن وجدت شم الآس وشرب الكاس والاستلقاء من غير نعاس أشهى إلى مقابلة الناس وكذلك خلع قبله الوليد بن يزيد وبعده المتوكل وغيرهم من الخلفاء والأمراء ممن آثر راحة النفس على تعب السياسة والذي آراه إطلاق ما ذهبوا إليه بالصريح ومفارقة الجميع على وجه مليح كما قيل: لو رأى وجه حبيب عاذلي ... ولتفارقنا على وجه مليح وما أحسن قول أبي الفتح البستي إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً: فاحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان هابطة لما غدا وهو برج اللهو والطرب ومن هنا نشرع في ذكر من ذل لمحبوبه من الملوك فصبح مع كونه مالكاً له كالملوك وهم في ذلك لشدة البأس على خلاف ما عليه الناس وهذا وذلك لأن العشق وأصحابه طبقات فمنهم من لا يطيب له العشق إلا بالذل هو الغالب على العشاق الصادقين في المحبة كما قال الشيخ شرف الدين بن الفارض: ولو عز فيها الحب ما لذلي الهوى ... ولم يك لولا الذل في الحبّ عزتي كما قيل: تذلل لمن تهوى لتكسب عزة ... فكم عزة قدنا له المرء بالذل ومنهم من يرى توحيد المحبوب وعدم الشريك كما قيل: ليس في القلب موضع لحبيبين ... ولا أحدث الأمر اثنان فكما العقل واحد ليس بدري ... خالقاً غير واحد رحمن فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعداً ومدان وكذا الدين واحد مستقيم ... وكفور من عنده دينان هو في شرعة المودة ذو شر ... بعيد من صحة الإيمان فمن كان على خلاف هذا ممن يرى الشريك في المحبة كالرشيد وغيره كما يأتي بيانه في بابه لم يكن محباً حقيقة وهذا الغالب عل الملوك لكثرة ما لديهم واختلاف الشكل عليهم كما قيل: تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل فالملوك ليسوا كغيرهم لقدرتهم على من يحبونه بالنقود النضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة نعم قد يعشق الملك العظيم فلا يذهب به عشقه إلى ترك تدبير ملكه وإنما أكثر ما يظهر من أمر الملوك أن يضعوا محبوبهم في مقام مالكهم وهم مالكوه كما قال الحكم بن هشان ملك الأندلس ظل من فرط حبه مملوكاً: لقد كان قبل ذاك مليكا ... تركته جآذر القصر صبا مستهاماً على الصعيد تريكا ... يجعل الخد واضعاً فوق ترب

للذي يجعل الحرير أريكا ... هكذا يحسن التذلل بالحرّ اذا كان الهوى مملوكاً وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار: ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني وقال المستعين بالله بن الحكم الأموي أحد خلفاء المغرب واجآد: عجباً يهاب الليث حدّ سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان وأقارع الأهوال لا متهيباً ... منها سوى الأعراض والهجران وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان حاكمت فيهنّ السلو إلى الصبا ... فقضى بسلطان على سلطان فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عزّ ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثاني ما ضرّ أني عبدهنّ صبابةً ... وبنو الزمان وهن من عبداني قلت وكم: مثله من ملك قاهر وسلطان قادر ... تذل لهيبته الأملاك وتذعن لسطوته الفتاك هدم الهوى ... أركانه وأذل عزه وسلطانه فقصر جفنه في الليالي الطوال ... واقعه مع عقله الحسن في أسر الاعتقال فقال: أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي وقيل هما للرشيد وقيل هما للمأمون وقيل هما للمهدي وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان كان السلطان أبو عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أحد ملوك الأندلس جميلاً حسن السياسة متظاهراً بالدين رأيته مراراً بغرناطة وأنشدني شعر وأحضرت عنده إنشاد الشعراء ومن شعره: أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك فأما بذل وهو أليق بالهوى ... وأما بعز وهو أليق بالملك وقال الملك الأمجد: من مثلي في عصري ... بستاني في قصري معشوقي مملوكي ... غني لي من شعري وقال الملك الظاهر في مملوكه أيبك الجامدار: أنا مالك مملوك ظبي أغيد ... ومن العجائب مالك مملوك وأنا الفتى وإنني من وصله ... بين البرية معدم صعلوك ولكم سفكت دماً بسيف عنوة ... ودمي بسيف لحاظه مسفوك وقال الملك الأشرف في مملوكه وكان خازنداره دوبيت: أفدى قمراً تحار فيه الصفة ... يسخو بدمي وهو أمين ثقة ماذا عجباً يحفظ مالي ويرى ... روحي تلفت به ولا يلتفت وبقية ماله من المقاطيع ذكرتها في الباب الأول من نقل الكرام في مدح المقام وذكرت فيه أيضاً حكاية محبوبه ابن مملوكه وما بان فيها عنه من حسن السيرة وهي من أغرب ما يحكى عن الملوك وقال الملك تميم: بالله جدّ لي بوعد صدق ... وخلّ هذا الدلال عنكا ولا تدعني أظل أشكو ... مثل محياك ليس يشكا وحكي عن المأمون أنه غضب على جاريته عريب المعنية وكان كلفا بها فأعرض عنها وأعرضت عنه ثم أسلمه الغرام وقلقه الشوق حتى أرسل إليها يطلب مراجعتها فلما اجتمعا لم تلتفت إليه وكلمها فلم ترد عليه فأنشأ يقول: تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يزري محاسنك السلام أنا المأمون والملك الهمام ... ولكني بحبك مستهام يحق عليك أن لاتقتليني ... فيبقى الناس ليس لهم إمام فقالت له: يا أمير المؤمنين والدك أمير المؤمنين هرون الرشيد أعشق منك حيث يقول ملك الثلاث الآنسات الأبيات المتقدمة وتمام حكايتها ذكرتها في الباب الثاني من السكردان وهي حكاية مليحة جداً ورأى المأمون أيضاً يوماً غلاماً مليحاً لأحمد بن يوسف فقال: ما اسمك؟ فقال: فتح. فقال المأمون: يا فتح يا فاتحاً لبلوائي ... ويا عليماً بطول شكوائي الحمد لله لا شريك له ... مولاك عبدي وأنت مولائي فبلغ ذلك أحمد فوهبه الغلام قلت فكان كما قيل:

كل ما يصلح للمو ... لى على العبد حرام وقعد والده الرشيد يوماً عند زبيدة وعندها جواريها فنظر إلى جارية واقفة على رأسها فأشار إليها أن تقبله فاعتلت بشفتيها فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه قبلته من بعيد. فاعتل من شفتيه. ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه: فما برحت مكاني ... حتى وثبت عليه فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة فوهبتها فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدر مكانهما فكتبت إليه زبيدة: وعاشق صب بمعشوقه ... كأنما قلباهما قلب روحاهما روح ونفساهما ... نفس كذا فليكن الحب وحدث أبو جعفر قال بينما محمد ابن زبيدة يطوف في قصر له إذ مر بجارية له سكرى وعليها مطرف خز وهي تسحب أذيالها من التيه فراودها عن نفسها فقالت يا أمير المؤمنين إنك قد هجرتني مدة ولم يكن عندي علم بموافاتك فانظرني الليلة حتى أتهيأ للقياك وآتيك في غد فلما أصبح انتظرها فلم تجئ فقام ودخل عليها وسألها انجاز الوعد. فقالت: يا أمير المؤمنين أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك وخرج من مجلسه فقال: من بالباب من الشعراء فقيل له مصعب والرقاشي وأبو نواس فأمر بهم فدخلوا فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره كلام الليل يمحوه النهار فأنشأ الرقاشي يقول: متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار وقد تركتك صبا مستهاما ... فتاة لا تزور ولا تزار إذا استنجزت منها الوعد ... كلام الليل يمحوه النهار وقال مصعب: أتعذلني وقلبي مستطار ... كئيب لا يقرّ له قرار بحبّ مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار ولما مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار فقلت لها عديني منك وعداً ... فقالت: في غدمنك المزار فلما جئت مقتضياً أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو نواس: وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار وقد سقط الردى عن منكبيها ... من التخميش وانحل الإزار وهز الريح أردافاً ثقالا ... وغصناً فيه رمان صغار هممت بها وكان الليل ستراً ... فقام لها على المعنى اعتذار وقالت في غد فمضيت حتى ... أتى الوقت الذي فيه المزار وقلت الوعد سيدتي فقالت ... كلام الليل يمحوه النهار فقال له: ويلك أكنت مطلعاً علينا أو ثالثنا في القصر. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكن نطرت إليك فعرفت ما في نفسك وعبرت عما في ضميرك فأمر له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه مثلها وذكرت هنا ما قلته في ابن نهار: أقول لموعدي زوروا بليل ... بدا كالبدر فيه ثم غابا كلام الليل يا ابن نهار زيد ... إذا طلعت عليه الشمس ذابا وقلت: أتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت أسهر فيك مع سماري وتلوم إن أصبحت في يوم الجفا ... مجنون ليلى فيك يا ابن نهار حكي أنه كان للمتوكل غلام اسمه شفيع وكان من أحسن الفتيان فكان المتوكل يجن به جنوناً فأحب يوماً أن ينادم حسين بن الضحاك وأن يرى ما بقي من شهرته وكان قد أسن فأحصره فسقاه حتى سكر وقال الشفيع: اسقه فسقاه وحياه بوردة وكانت على شفيع ثياب موردة فمد حسين يده إلى ذراع شفيع فقال المتوكل: أتخمش أخمص قدمي بحضرتي فكيف لو خلوت به ما أحوجك إلى الأدب وكان المتوكل قد غمز شفيعاً على العبث به فدعا بدواة فكتب: وكالوردة الحمراء حيّا بزهرة ... من الورد يمشي في قراطق كالورد تمنيت أن أسقي بعينيه شربة ... تذكرني ما قد نسيت من العهد سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... خلياً ولكن من حبيب على وعد ثم دفعها الشفيع فأعطاها للمتوكل فاستملحها وقال: أحسنت يا حسين ولو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك ولكن بحياتي يا شفيع إلا كنت ساقية بقية يومنا وأمر له بمال كثير وكان شفيع المذكور يكتب على طرز قبائه الأيمن: بدر على غصن نضير ... شرق الترائب بالعبير

الباب الثالث

ويكتب على الطراز الأيسر: خطت صحيفة وجهه ... في صفحة القمر المنير ومن غريب ما يحكى أن يزيد بن عبد الله بن مروان كان صباً بحبابة جاريته فخلا يوماً في لهو معها وقل: لا كذبن قول من قال أن الدهر لا يصفو لأحد يوماً وأحضر حاجبه وقال له: لا تأذن لأحد يدخل علي ولا تعلمني بخبر ولو كان فيه ذهاب ملكي مدة هذا اليوم وأقام معها في أتم حال فتناولت رماناً فشرقت فماتت لوقتها فعرض له عليها طرف من الوله فحال بينه وبين الصبر ومنع من دفنها حتى سأله جماعة من بني أمية في دفنها ولاطفوه في ذلك فأمر بدفنها وقال: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وقيل أنه لم يقم بعدها إلا سبعة أيام ومات أسفاً عليها ومثل فعله هذا في عدم دفنه لمحبوبته ما حكيته في نقل الكرام في مدح المقام في الباب الرابع عن السلطان جلال الدين خوارزم شاه لما مات مملوكه فلج منع من دفنه فكان يحمل معه في محفة وكلما حضر بين يديه طعام. قال: احملوا هذا إلى فلج. فقال له بعض الأمراء: أيها الملك قد مات فلج. فضرب عنقه فلا حول ولا قوة إلا بالله. وتمام حكايته ذكرتها في الكتاب المذكور. الباب الثالث ذكر من عشق على السماع ووقع مع الحبيب في النزاع أقول هذا باب عقدناه لذكر من عشق قبل أن يرى فتم عليه ما تم لما جرى من دمعه ما جرى فأصبح لا يقر له قرار بعد أن كان قرير العين وشهد على عينيه بما لم تريا فكان كمن كلف أن يعقد بين شعيرتين كم ليلة رقص فيها على السماع وجمعة سهر من لياليها مثنى وثلاث ورباع فهوا على طبقة ممن عشق باللمس أو غيرها من بقية الحواس الخمس والظاهر أن ذلك لمشاكله بينه وبين المحبوب في نفيس الأمر أو تعارف سابق في عالم الذر كما قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس في الاقتباس: محبة ما عرفت الدهر سلوتها ... تسري إلى النفس أو تجري مع النفس وما لها آخر لكن أولها ... تعارف سابق في حضرة القدس في عالم الذر ناجاني البشير بها ... أهلاً بميتها طهرا من الدنس أشهى إلى القلب من أمن علي وجل ومن مجال الكرى في الأعين النعس قولي لمشاكله بينة وبين المحبوب إلى آخره فيه إشارة إلى أنك لا تحد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في بعض الصفات لا بد من هذا. ولهذا اغتنم أبقراط حين وصف له رجل من أهل النقص أنه يحبه. فقال: ما احبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه. ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأل عائشة رضي الله عنها عن امرأة كانت تدخل على نساء قريش فتضحكهن قدمت المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس بها فقال: على من نزلت فلانة. فقالت: على فلانة المضحكة. فقال: الحمد لله الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأنشد طرفة: تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتقي وخليل وقال أبو الهذيل العلاف: لا يجوز في دور الفلك ولا في تركيب الطبيعة ولا في القياس ولا في الحس ولا في الممكن ولا في الواجب أن يكون محب ليس لمحبوبه إليه ميل والظاهر أن هذا للسر الذي ذكرناه من وجودج ما بينهما من المشاكلة، فإن قلت فقد رأينا من أحب من لا يحبه ولا يلتفت إليه. قلت: ذكر عن ذلك أجوبة أحسنها أن يقال المحبة على قسمين: القسم الأول: محبة غرضية، فهذه لا يجب الاشتراك فيها بل يقابلها مقت المحبوب وبغضه للمحب كثيراً، إلا إذا كان له معه غرض نظير غرضه فإنه يحبه لغرضه منه كما يكون بين الرجل والمرأة لأن لكل منهما غرضاً مع صاحبه. القسم الثاني: محبة روحانية، سببها المشاكلة والاتفاق بين الروحين فهذه لا تكون إلا من الجانبين ولا بد فلو فتش المحب محبة صادقة قلب محبوبه لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو فوقه أو دونه وذكر بعضهم أن سبب المحبة ثلاثة أشياء أما رؤية صورة أو سماع نغمة أو سماع صفة فهذه الثلاثة هي أصل ينبوع المحبة إذ لا يخلو حب أحد من أن يستند إلى شيء منها وقد قيل ثلاث محبات فحب علاقة. وحب تملاق رحب هو القتل وأحوال الناس تختلف في ذلك فمنهم من يحب بمجرد الوصف دون المعاينة فيفني بمن وصف له محبة وما رآه ولكن وصفه له واصف كما قيل:

فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمي أخذه القاضي الفاضل فقال ... عللوني عن الشآم بذكر أن قلبي عليه بالأشواق مثلته الذكرى لسمعي كأني ... أتمشى هناك بالأحداق وقال بعض الحكماء أن الله عز وجل جعل القلب أمير الجسد وملك الأعضاء فجميع الجوارح تنقاد له كل الحواس تطيعه وهو مديرها وبإرادته تنبعث ووزيره العقل وعاضده الفهم ورائده العينان وطليعته الأذنان وهما في باب النقل سيان لا يكتمانه شيئاً ولا يطويان عنه سراً يعني العين والأذن وقيل لأفلاطون: أيهما أشد ضرراً السمع أم البصر فقال: هما للقلب كالجناحين للطائر لا ينهض إلا بهما ولا يستقل إلا بقوتهما وربما قص أحدهما فتحامل بالآخر على تعب ومشقة قيل فما بال الأعمى يحب وما رأى والأصم يحب وما سمع فقال له: لذلك قلت: أن الطائر قد ينهض بإحدى جناحيه ولا يستقل طيراناً فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى وطيرانه قوي وكان يقال الحب أوله السماع ثم النظر كما أن أول الحريق الدخان ثم الشرر. حكي إن أبي تمام أنه سمع جارية تغني بالفارسية فشجاه صوتها فقال: ولم أفهم معانيها ولكن ... شجت قلبي فلم أحمل شجاها فكنت كأنني أعمى معنى ... يحب الغانيات ولا يراها قال ابن طاهر قلت لأبي تمام: أخذت هذا المعنى من أحد فقال: نعم من قول بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا لمن لا ترى تهوى فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا قلت والظاهر أن بشار أخذ قوله هذا من كلام الحكم المتقدم ذكره وتبعه أبو يعقوب الخزيمي فقال: قالت وتهزأ بي غداة لقيتها ... يا للرجال لصبوة العميان فأجبتها نفسي فداؤك إنما ... عيني وأذني في الهوى سيان وقال بشار أيضاً الحب إنما يتولد بالقلب والفكر وأنشد في ذلك. يزهد في حب عبدة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يعشق ذو اللب وما تبصر العينان في موضع الهوى ... لا تسمع الأذنان إلا من القلب وقال الحصري وقد صدق فيما نطق إنما أحست الحواس الخمس بواسطة توسطتها النفس وقد قال الخليل بن أحمد. إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يرعاك قلبي وإن غيبك عن بصري العين تبصر من تهوى وتعشقه ... وناظر القلب لا يخلو من النظر وقال مظفر بن إبراهيم الأعمى في الاعتذار عن العشق مع العمى: قالوا عشقت وإنك أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمي وحلاه ما عاينتها ... فتقول قد شغفتك وهما وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما من أين أرسل للفؤاد ... وأنت لم تنظره سهماً ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقماً وبأي جارحة وصلت ... لوصفه نثراً ونظماً والعين داعية الهوى ... وبه تنم إذا استتما فأجبت أني موسميّ ... العشق انصاتا وفهما أهوى بجارحة السما ... ع ولا أرى ذات المسمى وقال المدني: أيا من لامني في حب ... من لم يره طرفي لقد أفرطت في وصفك ... لي في الحب بالضعف فقل هل تعرف الجنة ... يوما بسوى الوصف وما أحسن قول المهذب ابن الشحنة من قصيدة مدح بها مولانا السلطان الملك الناصر صلاح الدين أيوب مطلعها: وإني امرؤ أحببتكم لمارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق وقالت لي الآمال إن كنت لاحقاً ... بأبناء أيوب أنت الموفق وقلت أنا من قصيدة أمدح بها مولانا السلطان الملك الناصر حسن وفيه زيادة حسنة مطلعها: وحياة وجهك وهو بدر مشرق ... قلبي عليك كما عملت واشفق يا من إذا لاح آس عذاره ... أمسي ولي بالعيش غصن مورق ما لاح خدك بالعذار مكاتباً ... إلا ظننت بأنه معتق ومنها

فصل

كم ذا رقصت على السماع بذكره والأذن قبل العين قالوا تعشق وحاصل القضية أن من الناس من يعشق على السماع ويفني في محبة من لا رآه لكن وصف له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنعت المرأة لغير زوجها حتى كأنه ينظر إليها والحديث في الصحيح قال في الواضح المبين ومنهم من يعشق أثراً رآه يحكى أن رجلاً عشق أثر كف امرأة رآه في حائط فلما آيس أهله من صلاحه تركوه حتى مات ومنهم من يحب في النوم شكلاً لا يعرفه فيهم به كما قيل. يا ليت شعري من ... كانت وكيف سرت أطلعة الشمس ... كانت أم هي القمر أظنها العقل ... أبداها تدبره أو صورة الروح ... أبدتها الفكر فقد تحير في ... إدراكها البصر أولم يكن كل هذا فهي حادثة ... أتى بها سبباً في حتفي القدر ومنهم من يعشق باللمس قيل وهو رأس الشهوة ومنهم من يعشق بالشم كما قيل: والعين تعشق ما تهوى وتبصره ... كذلك يعشق فيك الأنف والأذن ومنهم من أخبرني أنه دخل إلى حمام فرأى فيه شعرة طويلة سوداء لبعض النساء ولم يعلم لمن هي فأخذها وأقامت عنده زماناً وأصابه من حب صاحبتها، ما أشرف به على التلف كما قيل: تلفت بشعرة وسمعت غيري ... يقول سملت من تلفى بشعره ومنهم من يعشق جنية رآها في نومه ووصفت نفسها له وجاءته غير مرة على زعمه كما حكى أبو الفرج الأموي أن جعفر المنصور كان يتعشق من الجن حتى كثر ولعه بذلك فصار يصرع في النوم مرات حتى مات من ذلك فحزن عليه أبو جعفر حزناً شديداً وكان جعفر خليعاً ماجناً ولما نهى المنصور مطيع بن أياس عن صحبة ابنه جعفر قال وأي مستصلح فيه وأي غاية لم يبلغها في الفساد فقال ويلك وبأي شيء هذا قال يزعم أنه يعشق امرأة من الجن وهو مجتهد في خطبتها ودأبه جمع أصحاب العزائم عليها وهم يعدونه ويمنونه فوالله ما فيه فضل لغير ذلك جد ولا هزل ولا كفر ولا إيمان ومن شعره فيها: لإبنة الجنى في الحي ّتطل ... دارس الآيات عاف كالخلل قلت هذا الذي يقال في حقه الجنون فنون. ومثل هذا ما أخبرني به صاحبنا جمال بن عبد الله قال: قال الثعالبي في فقه اللغة زعموا أن التناكح قد وقع بين الأنس والجن لقوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد لأن الجنيات إنما تصرع الرجال من الأنس على العشق وطاب الفساد وكذلك رجال الجن لنساء بني آدم. فصل ذكر ما ينخرط في سلك العشق على السماع والشهاه على الغائب كقول ديك الجن وقيل عبد المحسن الصوري: بأبي فم شهد الضمير له ... قبل المذاق بأنه عذب كشهادتي لله خالصة ... قبل العيان بأنه رب وما أحسن قول الآخر: أهم إلى العذب من ريقه ... كما هيم العاشقين العذيب شهدت عليه وما ذقته ... بقينا ولكن من الغيب غيب وقال بشار بن برد: يا أطيب الناس وقار غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك وقال المتوكل الليثي: كأن مدامة صهباء صرفاً ... ترقرق بين رواق ودن تعل به الثنايا من سليمى ... فراسة مقلتي وصحيح ظني وقال امرؤ القيس: وثغر لها طيب واضح ... لذيذ المقبل والمبتسم وما ذقته غير ظني به ... وبالظن يقضي على ما أكتم وقال ابن حمد الصقلي: وما ذقت فاهاً ولكنني ... نقلت شهادة عود الإدراك وقال البهاء زهير: فتنت به حلواً مليحاً فحدثوا ... بأعجب شئ كيف يحلو ويملح وقد شهد المسواك عندي بطيبه ... ولم أرى عدلاً وهو سكران يطفح وقال ابن النقيب: قالوا فلان يصوغ كذباً ... يكسوه من لفظه طلاوة حلو حديث فقلت من لي ... لو أنه صادق الحلاوة

الباب الرابع

قلت: وبقي هنا حكاية تتعلق بمن عشق على السماع من الحمقى والمغفلين وهي ما حكاه الجاحظ قال: عبرت يوماً على معلم فوجدته في هيئة حسنة وقماش مليح فقام إلي وأجلسني معه ففاتحته في القراآت فإذا هو فيها ماهر ففاتحته في شيء من النحو فوجدته فيه ماهراً ثم في أشعار العرب واللغة فإذا به كامل في جميع ما يراد منه فقلت: والله قوي عزمي على تقطيع دفتر المعلمين فكنت كل يوم أجالسه وأزوره قال: فأتيت في بعض الأيام إلى زيارته فوجدت الكتاب مغلقاً فسالت عنه جيرانه فقالوا: مات عنده ميت فقلت: أروح أعزيه فجئت إلى بابه فطرقته فخرجت إلى جاريته فقالت: ما تريد فقلت: أريد مولاك فقالت: مولاي جالس وحده في العزاء ما يعطي لأحد الطريق إليه فقلت: قولي له صديقك فلان يطلبك فدخلت وخرجت إلي وقالت: بسم الله فعبرت إليه فإذا هو جالس وحده فقلت أعظم الله أجرك: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. وهذا سبيل لا بد منه فعليك بالصبر ثم قلت له: هذا الذي توفي ابنك قال: لا قلت: فوالدك قال: لا قلت: فأخوك قال: لا قلت: فمن قال: حبيبتي. فقلت في نفسي: هذه أول المناحس. ثم قلت: سبحان الله النساء كثر وتجد غيرها وتقع عيناك على أحسن منها فقال: وكأني بك قد ظننت أني رأيتها فقلت في نفسي: هذه منحسة ثانية ثم قلت: وكيف عشقت من لا رأيته فقال: أعلم أني كنت في الطارمة وإذا برجل عابر وهو يغني ويقول: يا أم عمر جزاك الله مكرمة ... ردئ على فؤادي أينما كانا فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما قيل فيها هذا الشعر فهويتها فلما كان بعد يومين عبر ذلك الرجل وهو يغني ويقول: إذا ذهب الحمار بأم عمر ... فلا رجعت ولا رجع الحمار فعلمت أنها ماتت فحزنت وقعدت في العزاء ثلاثة أيام بهذا اليوم قال الجاحظ فعادت عزيمتي وقويت همتي على تقطيع الدفتر بحكاية أم عمرى. الباب الرابع ذكر من نظر أول نظرة فاحترق من خد الحبيب بجمرة أقول هذا باب عقدناه لذكر من أوقعه النظر في الضرر المؤدي إلى السهر إذ هو داعية الأرق وزناد الحرق كم دعا إلى الجماع المحرم بالإجماع فهو سهم مسموم وفعل مذموم وفي مبدئه يمكن استدراكه وأسيره يرجى فكاكه فإذا تكرر أدى إلى ما صورته كيت وكيت أما ترى الحبل بتكراره البيت كما قيل: كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضرّمهجته ... لا مرحباً بسر ورجاء بالضرر قولي وفي مبدئه يمكن استدراكه إلى آخره وذلك أن الرجل تمر به المرأة فيكون ظاهر هيئتها وشكلها وصورتها مشاكلاً لطبعه فتتحرك نفسه وتنبعث همته من أول نظرة فإذا تكرر نظره إليها ازداد حبه لها وإن جلس حتى يراها صار الذي به أضعاف ما كان فإن نظرت إليه نظرة افتتن بجمالها ووقع في أسر حبالها ودخل في عدد العاشقين وهذا مما يؤيد قول من ذهب إلى أن العشق اختياري لأنه لم يصر عاشقاً إلا بعد وقوع هذه المقدمات وكان يمكنه حسم مادة ذلك بعد النظرة الأولى اللهم إلا فيما ندر كما تقدم في ذكر النسوة اللاتي رأين يوسف عليه السلام ففتن من أول نظرة وكان يقال النظر من المحب موت عاجل ومن المحبوب سهم قاتل وكان يقال رب عشق غرس من لحظه وحرب جنى من لفظه وكان يقال من أطلق طرفة كثر أسفه وكان يقال من كثرت لحظاته دامت حسراته وقال إعرابي العشق نبت بذره النظر وماؤه المزاورة ونماؤه الوصل وقتله الهجر وحصاده التجني. وقال الصوري: غرست الهوى باللحظ ثم احتقرته ... وأهملته مستأنساً متسامحا ولم تدر حتى أينعت شجراته ... وهبت رياح الوجد فيه لواحقا فأمسيت تستدني من الصبر عازباً ... عليك وتستدعي من النوم نازحاً

وقال الأصمعي كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون: قد جاءت فتحرك الناس فقمت معهم فإذا بجارية قد وردت الماء ما رأيت مثلها قط في حسن وجهها وتمام خلقتها فلما رأت كثرة تشوف الناس إليها أرسلت برقعها فكأنه غمامة غطت شمساً فقلت لم تمنعينا النظر إلى وجهك هذا الحسن فأنشأت تقول: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولاعن بعضه أنت صابر ثم نظر إليها أعرابي وقال أنا والله ممن قل صبره وأنشد: أوحشية العينين أين لك الأهل ... أبالحزن حلوا أم محلهم السهل وأية أرض أحرجتك فإنني ... أراك من الفردوس إن فتش الأصل قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحل لأن علامات الجنان مبينة عليك ... وإن الشكل يشبهه الشكل أقول هذا والله هو السحر الحلال والعذب الزلال قد اشتمل على مذهب السحر الكلامي والبدر السامي فكأني بها وقد ذكرت له الأهل ووصفت من حيها وخدها الحزن والسهل هنالك يأتيها سعياً على الرأس لا سعياً على القدم وتكون وجناتها أحب إليه من حمر النعم وينشد: أريني مكان البدر إن أفل البدر ... وقومي مقام الشمس إن بعد الفجر ففيك من الشمس المنيرة ضوءها ... وليس لها منك التبسم والثغر حكي أنه دخل أصبهان مغن كان يتغنى بهذين البيتين: سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح فإن الحب آخره المنايا ... وأوله شبيه بالمزاح قلت وفي هذا دليل على أن العين هي التي تجلب الحين وإذا كان كذلك فلنذكر هنا مناظرة وقعت بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما وهي لما كانت العين زائدة ومحبة القلب زائدة وهذه لها لذة النظر وهذا له لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان وفرسي رهان فلما وقعا في السهاد والحرق وأضر بصاحبهما الأرق قال القلب، يقول الأرجاني لطرفه الجاني: تمتعتا يا مقلتي بنظرة ... وأوردتما قلبي أشر الموارد أعينيّ كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد وقال أبو الطيب المتنبي: وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل وقول الآخر: عوقب قلبي وجنى ناظري ... وربما عوقب من لا جنى وقول الآخر: نظر العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلاً ما زالت اللحظات تغزو قلبه ... حتى تشحط بينهن قتيلاً وقول الآخر: يا من يرى سقمي يزيد ... وعلتي أعيت طبيبي لا تعجيز فهكذا ... تجني العيون على القلوب وقال ابن مدرك: جرحت بلحظي خدّ الحبيب ... فما طالب المقلة الفاعله ولكنه اقتس من مهجتي ... كذاك الديات على العاقله فلما سمعت العين إنشاده وفهمت مراده أشاوت إليه وأخذت في الإنكار عليه فقالت يا للعجب من ظالم يتظلم وأخرس يتكلم أليس من الخبر الذي شاع وذاع أنك أنت الملك ونحن الأتباع ترسلني فيما تريد كالبرق وتعقب ذلك بالتهديد أما سمعت قول أبي هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإن خبث الملك خبثت جنوده. وقال سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فبين ذنبي وذنبك إذ ذاك كما بين عماي وعماك. وقال علام الغيوب " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب " فلما سمعت النفس ما دار بينهما من الجدال قالت في الحال. أنا ما بين عدوّين ... هما قلبي وطرفي ينظر الطرف ويهوى ... القلب والمقصود حتفي وقال آخر: يقول قلبي لطرفي إذ بكى جزعاً ... تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا فقال طرفي له فيما يعاتبه. بل أنت حملتني الأمال والطمعا ... حتى إذا ما خلا كل بصاحبه كلاهما بطويل السقم قد قنعا ... نادتهما كبدي لا تعتبا فلقد

فصل

قطعتماني بما لاقيتما قطعا وقال آخر: عاتبت قلبي لما ... رأيت جسمي نحيلاً فالزم القلب طرفي ... وقال كنت الرسولا فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا فقلت كفا جميعاً ... تركتماني قتيلا قلت فكانا كما يقول العامة قفا بين صفاعين وما أحسن قول الآخر: فوالله ما أدري أنفسي ألومها ... على الحب أم عيني قريحة أم قلبي فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب فعيني وقلبي قد تشاركن في دمي ... فيا رب كن عوناً على العين والقلب فصل في ذكر سحر العيون ونبل الجفون قلت والحاكم بينهما الذي يحكم بين الروح والجسد إذا اختصما كما ورد في الخبر عن سيد البشر " لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح والجسد فيقول: الجسد للروح أنت التي حركتني وأمرتني وصرفتني وإلا فأنا لم أكن أتحرك ولا أفعل شيئاً بدونك فتقول الروح له: وأنت الذي أكلت وشربت وتمتعت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه وتعالى ملكاً يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخلا بستاناً فقال المقعد للأعمى: أنا أرى ما فيه الثمار ولكن لا أستطيع القيام. وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئاً فقال المقعد: تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقولان عليهما فيقول: فكذلك أنتما ". فصل ذكر سحر الجفون ونبل العيون فمن ذلك قول بشاره وهو أغزل بيت قالته الشعراء فيما حكاه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان: أنا والله أشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق ونقل شيخنا الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي في تاريخ الإسلام عن ابن حيوس أنه قال من أغزل ما أعلم قول عبد المحسن الصوري: بالذي ألهم تعذيبي ... ثناياك العذابا ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا قلت وهما من قول جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... يقتلتتا ثم لا يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا وأنشد صاحب المرقص والمطرب: لو لم أمت باللحظ قال العذل ... ما قيمة السيف الذي لا يقتل وقال ابن سهل الإشبيلي في مطلع موشحه: ألحاظها للقتل ... في كرها أوفي نصيب ترمي وكلي مقتل ... وكلها سهم مصيب وقال الملك الناصر داود صاحب الكرك: بأبي أهيف إذا رمت منه ... لثم ثغر يصدني عن مرامي قد حمى خده بسور عذار ... مقلتاه أضحت عليه مرامي فصل وصف العيون الضيقة وغيرها قال ابن النبيه: يصد بطرفه التركي عني ... صدقتم إن ضيق العين نخل وقال أيضاً: من بنى الترك لين العطف قاسي القلب سهل الخداع صعب المراسي ضيق العين وهو من صفة البخل فإن جاد كان ضد القياس: جذب القوس فاكتست وجنتاه ... ثوب ورد طرازه من آس ورمى عن قوسين سهمين هذا ... في فؤادي وذاك في القرطاس وقال ابن قرناص: علقته تتريا ... ويشجى القلوب ببينه لا يرتجى الجود منه ... بالوصل من ضيق عينه وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: بهت العذول وقد رأى ألحاظه ... تركية تدع الحليم سفيها فثنى الملام وقال دونك والأسى ... هذي مضايق لست أدخل فيها وقال الشيخ صفي الدين الحلي: لي منهم رشا إذا غازلته ... كادت لواحظه بسحر تنطق إن شاء يلقاني بخلق واسع ... عند اللقاء نهاه طرف ضيق حكى الخرائطي عن بعض العلويين قال بينما أنا واقف على الحسن ابن هانئ وهو ينشد: ويلي على نجل العيون ... النهد الضمر البطون الناطقات على الضمير ... لنا بألسنة الجفون

الباب الخامس

فوقف عليه أعرابي ومعه ابن له فقال: أعد إلي فأعاد عليه فقال: يا ابن أخي أويلك أنت وحدك من هذا ويلي أنا وأنت وويل ابني هذا وويل هذه الجماعة وويل جيراننا كلهم. وقال سبط التعاويذي: بين السيوف وعينه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان وقال رشيد الدين الفارقي: إن في عينيك معنى ... حدث النرجس عنه ليت لي من غضه ... سهماً ففي قلبي منه وقال محمد بن العفيف التلمساني: لحاظك أسياف ذكور فما لها ... كما زعموا مثل الأرامل وله أيضاً: يا عاشقين حاذروا ... مبتسماً عن ثغره فطرفه الساحر مذ ... شككتم في أمره يريدان أن يخرجكم ... من أرضكم بسحره وقال أيضاً: قضاة الحسن ما صنعي بطرف ... تمنى مثله الرشأ الربيب رمى فأصاب قلبي اجتهاد ... صدقتم كل مجتهد مصيب وقلت أنا من قصدي: حبيب نازل في كل قلب ... وسيف لحاظه يهوى النزالا يرى قتل المحب بلا دليل ... ولا سيما إذا أبدى الدلالا إذا استقبلت سيف اللحظ منه ... رأيت الموت من ماضيه حالا وقلت أيضاً من قصيد: تغار الشمس منها حين تبدو ... كغصن البان في خضر البرود بأطراف من الحناء حمر ... وألحاظ كبيض الهند سود وقلت أيضاً من قصيد: آلت لواحظه على أهل الهوى ... إن لا ترى قتلاً بغير مهند يرنو وصارم لحظه في جفنه ... ماضي الغرار ولم يمسي بأثمد فإذا تجرد للمحب فلا تسل ... عن سيف جفن كالحسام مجرد وقلت أيضاً من قصيدة: غزالي غزاني باللحاظ لأنه ... إذا ما بدا في حومة الحرب ضيغم تكلمني ألحاظه بسيوفها ... ولم ترى قبلي ميتاً يتكلم وقلت من قصيدة: تسل سيوفاً من لواحظ طرفها ... ولكن من عادة الجفن غامد تجردها والدمع كالنيل سائح ... فما ثنثني إلا وسيحان جامد وقلت أيضاً من قصيد: يرنو إليّ بعين نون حاجبها ... كالقوس تصمى الرمايا وهي مرنان أمير حسن من الأتراك حاجبه ... على المحب له في مصر سلطان غزت لواحظه في أهل مصر كما ... غزا الأنام بأرض الشام غازان وأما الجور فقد اختلف الناس فيه فقال أبو عبيدة الحوراء الشديدة بياض العين في شدة سواد سواداها. وقال يعقوب الحور سعة العين وكبر المقلة وكثرة البياض. وقال قطرب الحوراء الحسنة المحاجر صغرت العين أم كبرت. وقال أبو عمرو الظبية الحوراء السوداء العين التي ليس في عينها بياض ولا يكون هذا في الإنس إنما يكون في الوحش واشتقاق حور يدل على صحة ما قاله يعقوب وأبو عبيدة لأنهم إما يوقعونه في الغالب على البياض مثل الدقيق الحواري الدرمك الشديد البياض وقلما يتفق بياض العين إلا مع شدة سوداها لأن بياضها مع الزرقة ليس هنالك في النقاء وقد أكثر الشعراء في وصف العين بالحور والسواد وقل في شعرهم وصف العين الزرقاء على أنه جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الزرقة في العين يمن " وقال بعض العرب: أحبك إن قالوا بعينك زرقة ... كذلك عتاف الطير زرق عيونها ومن هنا أخذ العبدي قوله حين قال له معاوية: إنك أحمر فقال: والذهب أحمر فقال إنك الأزرق فقال: والبازي أزرق. الباب الخامس ذكر تغير الألوان عند العيان من صفرة وجل وحمرة خجل وما في معنى ذلك من عقد اللسان وسحر البيان

أقول هذا باب عقدناه لذكر تغير لوني المحبين إذا وقعت العين في العين وهرب الدم إلى شبكة الدماغ فقال له الحاجر: إلى أين وقد نصت الأطباء على السبب في ذلك وجلو من اصفرار المحب واحمرار المحبوب سواد كل حالك وأنا أورد هنا ما قالوه بنصه وأصوغه كالخاتم بفصه وأعقبه بذكر ألوان الحسان بأحسن بيان وأوضح تبيان هذا مع ما ينجر في ذيل ذلك من التفصيل بين السمر والبيض ووقوع محب السمان من الشعور والأرداف في الطويل والعريض. واختم ذلك بفصل في ذكر ما يعتري المحب من خفقان قلبه وطيران عقله ولبه فأقول وبالله التوفيق. قال بعض الأطباء: سبب اصفرار وجه العاشق الفزع فإن الدم لا يأوي مع الفزع وربما نظر المعشوق إلى العاشق فجأة فيضطرب قلبه وتشتعل الحرارة ثم تخمد فإذا خمدت برد التامور فإذا برد التامور جمد الدم واستحال اللون إلى السواد والخضرة ثم يستقر فيصفر وأما احمرار وجه المعشوق فمن الخجل والخجل عرض من حركة تامور القلب فتحيل الدم وتلطفه فيظهر في أرق مكان في الوجه وذلك عند معالجة الحرارة العرضية ومجاهدتها الدم لما يندفع فيطلب الخلاص حتى ينتهي إلى تحت الرأس فيمنعه الحاجز من النفود فيهبط إلى الوجه فيحمر الوجه قالوا والوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمر وإذا فزع يصفر ومنه قولهم ديباج الوجه يريدون تلونه من رقته قال الشاعر: حمرة خلط صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجاً وقالوا حمرة لون الإنسان يولدها الفرح والصحة والنعمة وصفرة لونه يولدها الفزع والبؤوس والغم والسقم وأما أحسن الألوان فإنه الأحمر بدليل أن الدم صديق الروح والحمرة لونه وأفضل الياقوت وأفخره الأحمر وأجود الذهب أحمره وأفضل العسل الذهبي والياقوتي وتمدح الأرض بحمرة التربة وأكرم الخليل أشقرها وهب ديباجها وأكرم الأبل حمرها وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعظم مقدار ذلك لو أن لي حمر النعم ولو أن لي طلاع الأرض ذهباً وأحسن الأنوار الورد والشقائق والجلنار وأحسن الحلل المصبوغة المعصفرة وأحسنها ما كان صبغة القرمز وأحسن الخمر الحمراء ولذلك وصفتها الشعراء بلون النار والعندم والعصفر والياقوت والعبقر وأحسن الألوان المخلوقة النار ومن أجل ذلك اكتنى عبد العزى بن عبد المطلب بالهب وكان يكنى قبل ذلك أبا عتبة لأنه كان من أحسن الناس وجهاً وكانوا يشبهون احمرار وجهه بلهيب النار لأنه كان مشرق الوجه ملتهبة كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أهلك الرجال الأحمران وأهلك النساء الأحامرة والأحمران الخمر اللحم والأحامرة الذهب والزعفران الخمر والخمر واللحم قال الشاعر: إن الأحامرة الثلاثة ضيعت ... مالي وكنت بهن قدماً مولعاً الخمر واللحم السمين وما طلى ... بالزعفران فلا أزال مروعاً وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الطائر الأحمر وقال وهب ابن عبد الله ما رأيت ذالمة سوداء في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المتنبي من الجأذر في زي الأعاريب. حمر الحلى والمطايا والجلاليب. وأما قول الشاعر: هجان عليها حمرة في بياضها ... تروق به العينين والحسن أحمر فإنه عني به الحسن في حمرة اللون مع البياض دون غيره من الألوان وقال ابن عبد ربه الحسن أحمر وقد تضرب فيه الصفة لطول المكث في الكون والضمخ بالطيب. قال أعرابي: وما تسليت عن صفراء حالية ... كالعاج صفرها إلا كان والطيب وقال آخر: كأن لون البيض في الأدحى ... لونك لولا صفرة الجاوي يريد أنها تتضمخ بالجاوي وهو الزعفران وصفة البيضة لا تدرك صفرته وقالوا الجارية الحسناء تتلون تلون الشمس فهي بالضحى بيضاء وبالعشاء صفراء. قال الشاعر: بيضاء صحوتها وصفراء ... العشية كالنهار وقال بشار بن برد: فخذي محاسن زينة ... ومعصفرات هن أفخر فإذا بلغنا فادخلي ... في الحمرات الحسن أحمر وقال الحريري في ردة الغواص أما قولهم الحسن أحمر فمعناه أنه لا يكتسب ما فهي الجمال إلا بتحميل مشقة يحمار منها الوجه كما قالوا للسنة المجدبة حمراء كنوا عن الأمر المستعصب بالموت الأحمر كما قيل:

فصل

وإذا رأت عيناك طرفاً أسودا ... فاعلم بأن هناك موتاً أحمرا وأحسن زينة النساء في أجسادهن الخضاب ولذلك أطنبت فيه الشعراء وشبهوه بالعناب وغير ذلك قال أبو نواس فيه: يا قمراً أبصرت في مأتم ... يندب شجواً بين أتراب يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب وقال ابن عكاشة: من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طوقت عنابا وما أحسن قول الواو الدمشقي: فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضت على العناب بالبرد وقال المرزباني قال لي ابن دريد سهرت ليلة فلما كان آخر الليل أغمضت عيني فرأيت رجلاً طويلاً أصفر الوجه كوسجاً دخل علي وأخذ بعضادتي الباب وقال أنشدني أحسن ما قلت في الخمر فقلت ما ترك أبو نواس لأحد شيئاً فقال أنا أشعر منه فقلت ومن أنت فقال أنا ابن ناجية من أهل الشام وأنشدني: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبي نرجس وشقائق حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق فقلت أسأت الترتيب فقال ولم قلت لإنك قلت وحمراء فقدمت الحمراء ثم قلت بين ثوبي نرجس وشقائق فأخرت الحمرة فهلا قدمتها على الأخرى فقال وما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض ثم انصرف: وقال المتنبي: قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد أخذه الآخر فقال: قالت لترب معها منكرة ... لوقفتي هذا الذي نراه من قالت فتى يشكو الهوى متيم ... قالت بمن قالت بمن قالت بمن وقال ابن النبيه: وفي الكلمة الحمراء بيضاء طفلة ... بزرق عيون السمر يحمي احوارها وقال عماد الدين ابن دبوقا من أبيات: أرى العقد في ثغره محكما ... يرين الصحاح من الجوهر وتكملة الحسن إيضاحها ... رويناه عن وجهك الأزهر ومنثور دمعي غدا أحمرا ... على آس عارضك الأخضر وبعت رشادي بغي الهوى ... لأجلك يا طلعة المشترى وقلت أنا من قصيد: لعمرك لا زيد يكون ولا عمر ... ولا ثغر إلا دون تقبيله ثغر لا بيض إلا أسود حظي عندها ... ولا سمر إلا دون أعطافها السمر وقال بدر الدين بن المحدث: يصفر لوني حين أنظر وجنة ... منها تعلم حسنه الورد الجنى يفنى الزمان وليس يفنى حبه ... وقد انحنيت وما آراه ينحني حكي عن أبي أيوب وزير المنصور أنه كان إذا دعاه المنصور يصفر ويرعد فإذا خرج من عنده تراجع لونه فقيل له إنا نراك مع كثرة دخولك على أمير المؤمنين وأنسه بك تتغير إذ دخلت إليه فقال مثلي ومثلك في هذا مثل بازي وديك تناظر فقال البازي للديك ما أعرف أقل وفاء منك لأصحابك فقال وكيف قال تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك ويخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت من هنا إلى هنا وصحت وإن علوت حائظ دار كنت فيها سنين طرت منها وتركتها إلى غيرها وأما أنا فأوخذ من الجبال وقد كبرت فتخاط عيناي وأطعم الشيء اليسير وأساهر فأمنع من النوم وأونس اليوم واليومين ثم أطلق على الصيد وحدي فأطير إليه وآخذه وأجيء إلى صاحبي فقال له الديك ذهبت عنك الحجة أما والله لو رأيت بارزين في سفود ما عدت إليهم أبداً وأنا في كل يوم أرى السفافيد مملوءة ديوكاً فلا تكن حليماً عند غضب غيرك وأنتم لو عرفتم من المنصور ما أعرفه لكنتم أسوأ حالاً مني عند طلبه لكم قلت والذي هرب منه وقع فيه على الصحيح الأشهر ولم يزل يصفر منه حتى إذاقه الموت الأحمر هذا بعد أن أخذ أمواله وتركه في أسوأ حالة حكي أنه كان يدهن حاجبه بدهن يسحر فيه المنصور فلا يمكن منه إذا رآه حتى ضرب به المثل فقيل أدهن من أبي أيوب وما أفاده ذلك شيئاً لأنه فعل به ما فعل وقابله بما ليس له به قبل. فصل التفضيل بين البيض والسود والسمر ذوات النهود وهذا النوع الأخير مما يميل إليه المصريون في الغالب. وللناس فيما يعشقون مذاهب. فما قيل في تفضيل السمر لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهازيلا

فصل

إني امرؤ اركب المهر المضمو في ... يوم الرهان فدعني وأركب الفيلا وقال علي بن الجهم وعائب للسمر من جهله ... فيا ظبي مفضل للبيض ذي محك قولوا له دعنا أما تستحي ... من جعلك الكافور كالمسك وقال أبو جعفر الشطرنجي: أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعدة لا شك إذ لو أنكما واحد ... أنكما من طينة واحدة وقال الشريف الرضي في تفصيل السود: أحبك يا لون السواد فإنني ... رأيتك في العينين والقلب توأما وما كان سهم العين لولا سوادها ... ليبلغ حبات القلوب إذا رمى إذا كنت تهوى الظبى ألمي فلا تلم ... جنوني على الظبي الذي كله لما وقال مسلمة: لام العواذل في سوداء فاحمة ... كأنها في سواد القلب تمثال وهام بالخال أقوام وما علموا ... أني أهيم بشخص كله خال وقال ابن رشيق: دعا بك الحسن فاستجيبي ... يا مسك في صبغة وطيب تيهي على البيض واستطيلي ... تيه شباب على مشيب ولا يرعك اسوداد لون ... كمقلة الشادن الربيب وقال آخر: وإن سواد العين في العين نورها ... وما لبياض العين نور فيعلم وقد ذكرت بقية ما قيل في هذا النوع من المقاطيع الحسان في السكردان عند ذكر الملك الكامل شعبان رحمه الله. وأما ما قيل في تفضيل البيض على السود فأكثر من أن يذكر له شاهد أو يمتد إليه ساعد المساعد قال الجاحظ والعرب تمدح بالبياض وتهجو بالسواد ولكن ربما مدحوا بالسواد ولكن أصل ما يبنون عليه أمرهم ذمه. قال كشاجم: يا مشبهاً في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمة خلقك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة وأما القصيرة الغليظة من النساء فإنها نوع مذموم عند صاحب كل منثور ومنظوم. قال الشاعر: وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلى ولم تشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار النساء شر النساء البحاتر والبحاتر هن القصار الغلاظ. وقال بعض السلف: جعل الله البهاء والهوج مع الطول والدهاء والدمامة مع القصار والخير فيما بين ذلك. وما أظرف قول الشريف الناسخ: وأحرباه من هوى قصيرة ... في الارض منها ألف ألف قامة إذا رنا إلى الخفاف طرفها ... قال القفايا كاتب السلامة وبعض الناس يفضل السمان ويقول: السمنة نصف الحسن وهو يستر كل عيب في المرأة ويبدي محاسنها قيل ولهذا قيل جميله لأن الجميلة السمينة من الجمل وهو الشحم وقد تقدم ذكره: فصل ذكر ما يعتري الحب من اصفرار لونه عند رؤية محبوبه وخفقان قلبه وطيران عقله قال صاحب روضعة المحبين: وقد اختلف في سبب هذه الروعة والفزع والاضطراب فقيل سببه أن للمحبوب سلطاناً على قلب محبه أعظم من سلطان الرعية فإذا رآه فجأة راعه ذلك كما يرتاع من يرى من يعظمه فجأة فإن القلب معظم للمحبوب خاضع له والشخص إذا فجأه المعظم عنده راعه ذلك وقيل سببه انفراج القلب له ومبادرته إلى تلقيه فيهرب الدم منمه فيبرد ويرعد ويحدث الاضطراب والرعدة وربما مات وبالجملة فهذا أمر ذوقي وجداني وإن لم يعرف سببه ومن أحسن ما قيل في الاعتذار عن خفقان القلب عند رؤية المحبوب قول الوراق الخطيري: يقول لي حين وافى ... قد نلت ما ترتجيه فما لقلبك قدجا ... خفقه يعتريه فقلت وصلك عرس ... والقلب يرقص فيه ومثله قول الآخر: لا تنكروا خفقان قلبي ... والحبيب لدي حاضر ما القلب إلا داره ... دقت له فيها البشائر وما أحسن قول ابن سنا الملك: أما والله لولا خوف سخطك ... لهان عليّ ما القى برهطك ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك وقال معين الدين: لم أنسه إذ قال أين تحلني ... حذراً علي من الخيال الطارق

الباب السادس

فأجبت في قلبي فقال تعجباً ... أرأيت عمرك ساكناً في خافق وقال آخر: وسكنت قلباً خافقاً ... يأساً كنا في غير ساكن وقال الطغرائي: مرض النسيم وصح والداء الذي ... أشكوه لا يرجى له فراق هذا خفوق البرق والداء الذي ... ضمت عليه جوانحي خفاق أورد الابن الأبار في تحفة القادم. حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئاً وكان معانقي أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق ثم قال نسب بعض أهل عصرنا ابن تقي إلى الجفاء في قوله ابعدته: عن أضلع تشتاقه ولو قال ... أبعدت عنه أضالعاً تشتاقه لكان أحسن ثم ذكر بعدها مما فضلوه على قول ابن تقي المذكور قول ابن الحكم جعفر بن عنان: إن كان لا بد من رقاد ... فأضلعي هاك عن وسادي ونم على خفقها هدوّاً ... كالطفل في هزة المهد وقال ابن الأثير في المثل السائر في أبيات ابن تقي المذكور وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى ولقد خفت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصاً والبيت الأخير هو الموصوف بالابداع وبه وبأمثاله أقرت الأبصار بفضل الإسماع وقلت أنا موافقا لأهل ذلك العصر في الرد على ابن تقي: أتاني زائر فحكى الهلالا ... وأتبعه صدوداً واستطالا فقلت له فقال لا لا ... دوام الوصل يورثك الملالا الباب السادس ذكر الغيرة وما فيها من الحيرة وقرع من ديك الجن أقول هذا باب عقدناه لذكر غيرة المحب على المحبوب حتى من نفسه وأبناء جنسه والمحبون فيها نوعان والمضروبون يسوطها ضربان فالأول يحبه الله ورسوله ويتم به للعاشق رسوله والثاني مذموم وصاحبه ملوم فالنوع المحبوب منها أن يغار عند قيام الريبة والنوع المذموم أن يغار من غير ريبة بل من مجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة ولا تترك منها حبة لأنها توقع العداوة بين المحب والمحبوب وربما حملته على الوقوع فيما اتهمه به ويترتب عليها مفاسد كثيرة مما يؤدي إلى فساد الصورة والحكايات في هذا الباب مشهورة وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح " أن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله أن تكون في ريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة ". وقال عبد الله بن شداد الغيرة غيراتان غيرة يصلح بها الرجل أهله وغيرة تدخل النار. وقا لصاحب روضة المحبين الذي يحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ورسوله فهو من المحبين فكذب من أدعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمته ويسعى في إذاءه ومساخطه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت وأقول الأحوال أن يغار له من نفسه يترك ارتكاب معاصيه والتفريط في حقه وأما الغيرة على المحبوب فإنما تحمد حيث يحمد الاختصاص به ويذم الاشتراك فيه شرعاً وعقلاً كغيرة الإنسان على زوجته وأمته والشيء الذي هو يختص به وهذه الغيرة تختص بالمخلوقين ولا تتصور في حق الخالق لأنه سبحانه وتعالى يجب على جميع المخلوقين أن يحبوه ويذكروه ويعبدوه ويحمدوه خلافاً فالبعض جهلة الصوفية ممن كان إذا رأى من يذكر الله أو يحبه يغار منه وربما سكتة أن أمكنه ويقول غيره الحب تحملني على هذا وإنما ذلك حسد وبغي وعدوان ونوع معاداة الله ومراغمة لطريق رسله أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبته بمحبة الصورة وهذه الغيرة إنما تحسن في محبة من لا تحسن المشاركة في محبته كغيرة الإنسان على محبوبه من الآدميين كما تقدم ذكره. قال القشيري قيل لبعضهم أتحب أن تراه قال لا قيل ولم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي.

قال الشيخ شسم الدين بن قيم الجوزية وهذه أيضاً غيرة فاسدة وغاية صاحبها أن يعفى عنه وأن بعد ذلك من سطحاته المذمومة وأن يعد في مناقبه وفضائله أن يقال له أتحب أن ترى حبيبك فيقول لا فلا ورؤيته أعلى نعيم الجنة وهو سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله النظر إليه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان من دعائه اللهم أني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وقول هذا القائل أنزه ذلك الجمال عن نظر مثل من خدع الشيطان والنفس وهو شبه ما يحكي عن بعضهم أنه قيل ألا تذكره فقال أنزهه أن يجري ذكره على لساني وقد وقع بعضهم في شيء من ذلك فلاموه فأنشد: يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إ ذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا إليها ... ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني وبعضهم من ترك الحج غيرة على بيته أن يزوره مثله وقد لمت شخصاً على ترك الصلاة. فقال لي أني لا أرى نفسي أهلاً أن أدخل بيته فأنظر إلى تلاعب الشيطان بهؤلاء وأما الغيرة على المحبوب من الآدميين فلنا فيها ضروب وحسنات غالبها ذنوب فمنهم من يغار على المحبوب من النسيم أذاهب أو سماع أنه في الدرب: أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذار أو خوفاًتكون لحبة وقال آخر: تغار من ألطيف الملم حماتها ... ويغضب من النسيم غيورها وقال ابن الأثير في المثل السائر: سافرت إلى الشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة فدخلت مدينة دمشق فوجدت جماعة من أربابها يلهجون بيت من الشعر لإبن الخياط وهو: أغار إذا آنست في الحي البيت المتقدم فقلت لهم هذا البيت مأخوذ من قول أبي الطيب المتنبي: لو قلت للدنف المشوق فديته ... مما لا به لاغرته بفدائه والمتنبي أخذه من قول العباس ابن الأحنف: لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... ألا حسبتك ذلك المحبوبا حذار عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيبا ومنهم من يلحق في الغيرة يومه بأمسه ويغار على المحبوب من كلام نفسه كما قال البحتري: إني لأحسد ناظري عليكا ... حتى أغض إذا نظرت إليكا وأراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا ولو استطعت منعت لفظك غيرة ... كي لا أراه مقبلاً شفتيكا خلص الهوى لك واصطفتك مودتي ... حتى أغار عليك من ملكيكا ومنهم من يغار عليه ... من أزراره ولبس إزاره أرى الأزرار على ليلى فأحسده ... إن الأزرار على ما ضم محسود قلت ولهذا البيت حكاية لطيفة وهي ما حكي عن الحسن بن زيد أمير المدينة أنه قال يوماً لأبي السائب وكان قد جمله وكساه فكان يركب معه في موكبه ويسلم على النساء إذا مر بهن فنهاه الأمير عن ذلك فسار معه يوماً وعليه قلنسوة ففعل كعادته فأنشده الأمير: أرى الأزرار على ليلى البيت. فقال له أبو السائب بأبي أنت وأمي. من الذي قال هذا البيت. فقال: قيس فتخلف أبو السائب عن مسايرته ثم لحق ولا قلنسوة عليه. فقال له الأمير: أين القلنسوة. قال: تصدقت بها على الشيطان الذي ألقى هذا اليبت على لسان قيس. ومنهم من يغار عليه من ارتشاف السلاف كما قال كشاجم: وعذبني قضيب في كثيب ... تشارك فيه لين واندماج أغارا إذ أدنت من فيه كاس ... على در يقبله زجاج وأشفق إن دنا المصباح منه ... على بدر يقابله سراج أخذه المتنبي فقال في ممدوحه ... أغار من الزجاجة حيت تجري على شفة الأمير أبي حسين وقد عيب عليه ذلك لكونه خاطب ممدوحه بما تخاطبه به المليحة ومنهم من ينزل نفسه منزلة الأجنبي فيغار على المحبوب من نفسه كما قال أبو تمام: بنفسي من أغار عليه مني ... وأحسد مقلة نظرت إليه ولو ان قدرت طمست عنه ... عيون الناس من حذري عليه حبيب بث في جسمي هواه ... وأمسك مهجتي رهناً لديه فروحي عنده والجسم خال ... بلا روح وقلبي في يديه وقال أيضاً:

أغار عليك من قلبي ... وأن أعطيتني أملي وأشفق أن أرى خديك ... نصب مواقع القبل وقال الآخر: يا من إذ أذكر اسمه في مجلس ... لذ الحديث به وطاب المجلس أني لمن نظري أغار وأنني ... بك عن سواي من الأنام لأنفس ومنهم من يغار عليه من وصاله له مخافة أن يكون مفتاحاً لغيره كما قال علي بن عبد الله الجعبري: ربما سرني صدوك عمداً ... وطلابيك وامتناعك عني حذراً أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني وقال آخر: ولما رمت باللحظ غيري حسبتها ... كما اثرت بالعين تؤثر بالقلب وأني لأرجو أن تدوم ببعدها ... ولكن سوء الظن من شدة الحب وقد بالغ ابن مطروح حيث يقول: فلو أضحى على تلفي مصرا ... لقلت معذبي بالله زدني ولا تسمح بوصلك لي فإني ... أغار عليك منك فكيف مني ومنهم من يمتنع من ذكر محبوبه مخافة تعريضه لحب غيرة له كما قال علي بن الرافعي: ولست بواصف يوماً حبيبا ... أعرضه لأهواء الرجال وما بالي أشوق قلب غيري ... ودون وصاله ستر الحجال وكثيراً من الجهال وصف امرأته ومحاسنها لغيره فكان ذلك سبب فراقها واتصالها بالموصوف له وذلك من قلة عقله وحمقه وقد رأيت جماعة بهذه الصفة ومنهم من بالغ في الغيرة حتى قتل محبوه مخافة أن يموت هو فيمتنع بمحبوبه بعده غيره كما ذكر ذلك عن جماعة من جملتهم ديك الجن الحمصي وقد أفردت لحكايته رسالة مستقلة وسميتها قرع سن ديك الجن وكتبت بها إلى مولانا السلطان الناصر حسن في سنة ستين وسبعمائة وهو في سرياقوت فأصبحت وكان قد تقدم ما يوجب ذلك فلذلك أفسحت الرسالة المذكورة بقولي يقبل الأرض وينهي أن ديك الجن المذكور من جملة جنونه أنه كان يهوى جارية وغلاماً له فمن شدة حبه لهما وغيرته عليهما خشي أن يموت وأن غيره يتمتع بهما بعده فعمد إليهما فذبحهما بسيفه وأحرق جسديهما وصنع من رماد الجارية برنية للخمر ومن رماد الغلام برنية أخرى كذلك وكان يضعهما في مجس أنسه عن يمينه وشماله فكان إذا اشتاق إلى الجارية قبل البرنية المجعولة من رمادها وملأ منها قدحه وأنشد: يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها التراب وطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها وأجلت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها فوحق نعيلها وما وطيء الثرى ... شيء أعز علي من نعيلها ما كان قتلها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها لكن بخلت على سواي بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها وإذا اشتاق إلى الغلام قبل البرنية المجعولة من رماده وملأ منها قدحه وبكى وأنشد قوله فيه: أشفقت بأن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلي بعد الوصال بهجره قمر أنا استخرجنه من دجنه ... لبليتي وأثرته من خدره فقتلته وله علي كرامة ... فلي الحشا وله الفؤاد بأسره عهدي به ميتاً كأحسن نائم ... والطرف يسفح دمعتي في نحره لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه بكى له في قبره غصص تكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره أقول هذا الذي يقال له الجنون فنون فإنا لله وإنا إليه راجعون من فعل هذا المجنون على أنه من أرق الناس شعراً وأكثرهم للمحبوب ذكراً فمن شعره ونظمه الرائق قوله في الدعاء على المحبوب: كيف الدعاء على من خان أو ظلما ... ومالكي ظالم في كل ما حكما لا واخذ الله من أهمى بجفوته ... عني ولا اقتص لي منه ولا انتقما أقول صار الطالب مطلوب وهذا الفقه المقلبو ما كفله أنه فعل بالأحباب ما لا تفعله الكلاب حتى لا يقول لا واخذ الله من أهوى بجفوته ويمزج رقة شعره بقسوته فهو في الخفة والطيش وقتل المحبوب لا في أيش ولا علي ايش فمن غلب عليه هواه كما تراه ففعل بمحبوبه ما فعل وأقام ضربه بالسيف مقام القبل:

الباب السابع

أحبابه لما تفعلون بقلبه ... ماليس تفعله به أعداؤه وقد أثبتت هذه الرسالة بكمالها في الباب الأول من كتابي مرآة العقول. ومما ينخرط في سلك هذه الحكاية ما حكاه الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره عند قوله تعالى " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك " ونقل عن العزيز أنه كان قليل الغيرة وتربة أقليم مصر اقتضت هذا يعني قلة الغيرة ثم قال وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا وهو أنه كان مع ندماء المختصين به في مجلسي أنسه وجاريته تغني من وراء الستارة فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية وكانت قد غنت بهما فما لبث حتى أتى برأس الجارية مقطوعاً في طشت وقال له الملك استعد من هذا الرأس فسقط ذلك الرجل المستعيد ومرض مدة حياة ذلك الملك. قلت: لو مات كان معذوراً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومثل هذا أيضاً ما فعله جعفر بن سليمان وذلك أنه لما اشترى جاريته الزرقاء وكانت جارية نفسه غالية الثمن وهي بثمانين ألف درهم وكانت من الفتيات الحسان ذوات الألحان فقال لها يوماً هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو بقبلة فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه فقالت: لا والله إلا يزيد بن عون العبادي قبلني وقذف في لؤلؤة بعثها بثلاثين ألف درهم فلم يزل جعفر يطلبه ويحتال له حتى وقع في ديه فضربه بالسياط حتى مات. قلت: استراح والله من هذا الصداع كله وأنشد عبد المحسن الصوري حيث قال في عدم الغيرة على محبوبه: تعلقته سكران من خمره الصبا ... به غفلة عن لوعتي ونحيبي وشاركني في حبه كل ماجد ... يشاركني في مهجتي بنصيب فلا تلزموني غيرة ما ألفتها ... فإن حبيبي من أحب حبيبي وقد بلغ الآخر فقال يتبجج بالقيادة: أقود بحمد الله لا عن كراهة ... وغيري قواد على رغم أنفه وما أحسن قول أبي الحسين الجزار: قلت لما سكب الساقي ... على الأرض الشرابا غيرة مني عليه ... ليتني كنت ترابا وقال نور الدين الأشعري وأحسن ما شاء: تميل الريح بالأغصان لطفا ... كما مالت بشاربها العقار وتجمع بينهم من بعد بعد ... وأوراق الغصون لها إزار وتخفق غيرة عند التلاقي ... فهل أبصرت قواداً يغار الباب السابع إفشاء السر والكتمان عند عدم الإمكان أقول هذا باب عقدناه لذكر إفشاء السر وضده وهزل كل منهما وجده إذ للمحبين فيهما مذهبان فمنمهم من أباح إباحته ورأى في إفشائه راحته ومنهم من رأى كتمانه من الديانة فحل من مراتب الحب في أعز مكانة حيث قال:؟؟؟؟؟؟؟؟ باح مجنون عامر بهواه وكتمت الهوى فمت بوجدي فإذا كان في القيامة نودي ... من قتيل الهوى تقدمت وحدي نعم من الناس من كتمه فأراه كتمانه عدمه ومنهم من أفشاه فوقع فيما يخشاه ولكل من المذهبين شاهد وبحر دمع زائد لا ينجو غريقه ولا تسلك طريقه فالعاشق منهما بين داءين كلاهما الأخطر وسيفين لا بد من قتله بإحدهما على الصحيح الأشهر كما قال شهاب الدين السهروردي: وارحمتا للعاشقين تحملوا ... سرالمحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دمائهم ... وكذا دماء العاشقين تباح وإذا هم كتموا تحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السفاح والذي أراه في ذلك لكه وتمييز وأبله من طله أن المحب إذا علم من محبوبه الوفاء وعدم الجفاء فالواجب عليه إفشاء السر إلى الحبيب وابداء العلة إلى الطبيب كما قيل: وبح بالسرائر في أهله ... وإياك في غيرهم أن تبوحا وقد ظفر أبو جعفر الشطرنجي حيث قال: قل لمن شئت أنني بك مغرم ... ثم دعه يروضه إبليس وقد قال بعض من مارس الحب وجلب أشطره إفشاء المحب سره إلى المحبوب وشكوى ما يقاسيه طرف من السحر. قلت: بل هو السحر ومعظمه وجله وقد عرف ذلك من جربه وأدبه الحب وهذبه.

وعلى هذا حكاية أحمد بن واصل قال لما كلفت عباسة بنت المهدي بجعفر بعد أن زوجه بها الرشيد وشرط عليه أن لا يقربها واشتد وجدها به وعشقها له ولم يطاوعها على ما أحبت وخاف على نفسه من الرشيد أن يظهر أمرها فكتبت له. عزمت على قلبي أن يكتم الهوى ... فصاح ونادى إنني غير فاعل فإن لم تصلني بحت بالسر عنوة ... وإن عنقتني في هواك عواذلي وإن كان موت لا أموت بغصتي ... وأقررت قبل الموت أنك قاتلي فنالت منه ما أرادت وهل حصل لها ذلك إلا بإفشاء سرها وشكوى ضرها. وقال ابن شاذان الكاتب: قالت لي عريب جارية المأمون كنت مع الواثق وهو يطوف على حجر جواريه عند خروجه إلى الأنبار متنزهاً فدخل على فريدة جاريته وكان يحبها جداً وكان أيضاً يهوي وصيفة لها ولم يكن يعلم ذلك غيري فلما رأته عندمولاتها دخلت خزانتها وقامت على رأسها وعليها عصابة مكتوب عليها بالذهب هذان البيتان: عينيّ تبكي حذر البين ... ما أسخن الفرقة للعين لم أر في الحب ولوعاته ... أوجع من فرقة إلغين فقال لي الواثق فهمت يا عريب فقلت: نعم يا سيدي فكتب على الأرض بقضيب في يده: ظهر الهوى وتهتكت أستاره ... والحب خير سبيله إظهاره فاعص العوازل في هواك مجاهرا ... فألذ عيش المستهام جهاره فحفظت الأبيات وتضاحكا ففطنت فريدة فقالت: يا سيدي علمت ما أنتما فيه فأمنن على أمتك بقبولها فقال الواثق قد فعلت خديها إليك يا عريب فأخذت بيدها فما ملك نفسه حتى انصرف من خلفي مسرعاً فخلا بها وأمرني بألف دينار. ومنهم من لا يجري ذكر العشق على لسانه البتة ويسكت حتى كان به السكتة ولم أر في ذلك مما يتنافس فيه المتنافس أحسن من قول ابن قلاقس: كتمت الهوى عند العواذل ظنة ... عليهم بمن أصبو إليه وأهواه ولو قلت أني عاشق فطفوا به ... لعلمهم أن ليس يعشق إلا هو ومنهم من يبوء بإثمه ... ويرى التصريح باسمه فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر وقال ابراهيم بن عبد الله: رأيت على خد جارية ... مكتوباً بالغالية كل يوم أذوب من ألم الشوق ... وقلبي من الصدود قريح لم أجد خلوة إليك فاشكو ... ما بقلبي لعله يستريح ويح قلبي كأنه لحد قبر ... ضم أعضاء ميت فيه روح وفي البيت الثاني من هذه الأبيات تنبيه على إفشاء السر إلى الحبيب لا يكون إلا خلوة فينبغي أن لا يعلم به خلاً ولا صديقاً ما وجد إلى ذكل طريقاً كما قيل: يا موقد النار إلهاباً على كبدي ... إليك أشكو الذي بي لا إلى أحد إليك أشكو الذي بي من هواك فقد ... طلبت غيرك للشكوى فلم أجد وقال الأحوص: لعمرك ما استودعت سري وسرها ... سوانا حذاراً أن تضيع السرائر ومن ظريف ما مر بي في هذا الباب أن بعض العشاق أنشد يوماً محبوبته قول الشاعر: سري وسريك لم يشعر به أحد ... إلا الإله ولا أنت ثم أنا فقالت له لا تنسى القوادة فإنها لا بد أن تدري بسرنا وتطلع على أمرنا. ومن أحسن ما سمعته في ذم مفشي السر قول الحسين بن بشر. لحى الله امرأً أوعاك سراً ... لتكتمه وفض الله فاه فإنك بالذي استوعبت منه ... أنم من الزجاج بما حواه قلت وما يبعد أن يكون المتصف بهذه الصفة من ذرية القائل: وما أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي فإن قليل العقل من بات ليله ... تقلبه الاسرار جنباً على جنب وأين هذا من قول القائل: وقائلة ما بال جسمك لا يرى ... سقيماً وأجسام المحبين تسقم فقلت لها قلبي بحبك لم يبح ... لجسمي فجسمي بالهوى ليس يعلم ويحكى أن سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم مرت في جواريها بعروة بن أذينة وهو يغني فقالت لجواريها: من الشيخ. فقلن: عروة. فمات نحوه. فقالت: يا أبا تمام أنك تزعم لم أنك تعشق قط كيف وأنت تقول: قالت: وابثثتها سري فبحت به.

الباب الثامن

وقد كنت عندي تحب الستر فاستتر الستر تبصر من حولي فقلت لها: غطى هواك وما ألقى على بصري وقالت: كل ما ترى حولي من الجوار أحرار إن كان 87 هذا الكلام خراج عن قلب سليم قط حكي عن أحمد بن أبي عثمان الكاتب أنه صديقاً لأبي الفضل عبد الغفار الأنصاري فعشق أحمد جارية لأم جعفر اسمها نعمي وهام بها فأطلعه على سره ووصفها له فعشقها عبد الغفار الأنصاري فأعتل علة طويلة فاتصل خبره بأم جعفر وظنت أن به علة فوجهت إليه طبيباً فأنشد: أرسلت أم جعفر لي طبيباً ... لشكائي فضل علم الطبيب ودوائي واصل دائي لديها ... في يدي شادن غرير ربيب خبروها بأن نعمي دوائي ... كي تداوي مريضها عن قريب فسمعت أم جعفر الآبيات وسألت عن قصته فلما وقفت عليها وهبته الجارية وهجر أحمد عبد الغفار وقال جعلتك موضعاً لسري فأفسدت علي والمفاسد المترتبة على إفشاء السر إلى الغيرة كثيره ولهذا قاال أبو العلاء المعري: فظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن عليّ فؤاداً وقال الصاحب محي الدين الجزري من رسالة فواعجباً كيف لا يتفطن من لا اسمية ولا ينشق لكثرة ما أحوم حول القول فيه ولا أوفيه أن شرحت فاضت نفوس فضلاً عن عيون وترامت إلى مهاوي الإثم الظنون ولو ابديت بعضه أخاف أن يفطن الناس وأن افضت فيه أخشى أن لا يسعه قرطاس. ومن أحسن ما سمعه في كتمان السر قول النابغة. وكان الإمام علي رضي الله عنه يتمثل به وهو: لا تفش سرك لا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحاً فإني رأيت وشاه الرجال ... لا يتركون أديماً صحيحاً وكتب بهما عبد الملك بن مروان إلى الحجاج وكان قد استكتمه أمراً في كتاب كتبه ليه فظهر وقال عمرو بن العاص ما استودعت أحداً سراً فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق منه صدراً به حين استودعته أخذه الشاعر فقال: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسهفصدر الذي يستودع السر أضيق وقال آخر: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشي وأضيع وقال أبو جعفر الشطرنجي: فلا تخبر بسرك بل أمته ... وصير من حشاك له حجاباً فما أودعت مثل النفس سراً ... ولا أغلقت مثل الصدر باباً وحكى الماوردي أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال: ومستودعي سراً تضمنت ستره ... فأودعته من مستقر الحشى قبرا فقال ابنه عبد الله وهو صبي وأحسن ما شاء. وما السر في قلبي كثا وبحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا ولكنني أخفيه حتى كأنني ... من الدهر يوما ما احطت به خبرا وقال آخر: يا ذا الذي اودعني سره ... لاترج أن تسمعه مني لم أجره بعد في خاطري ... كانه ما مر في اذني وقال بشار: لأخرجن من الدنيا وحبكم ... بين الجوانح لم يعلم يه أحد وقال طلحة بن أبي بكر: لا تظهرن محبة لحبيب ... فترى بعينيك منه كل عجيب أظهرت يوماً للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيب قيل أسر رجل إلى رجل حديثاً لما فرغ قال: أحفظته. قال: بل نسيته وقال ابن المعتز كلما كثرت خزان الأسرار زاد ضباعاً ومن كلام الحكماء احفظ ذهبك كما تكتم مذهبك ومنها مقتل الرجل بين فكيه. ومن كلام القاضي الفاضل وأمت الأسرار في قلبك والحد موتاها في جنبك فقبيح بك أن يرى لك سر إلا ربك. ووصف أعرابي قوماً فقال: سيوفهم آفات الأعمار وصدورهم قبور الأسرار وما أحسن قول ابن مماتي من أبيات: وضاق علي السجن حتى كأنني ... حللت به للضيق في صدر محنق فياليتني كالدمع في جفن عاشق ... فأخرج أو كالسر في صدر أحمق وقال العباس بن الأحنف. باخ دمعي فليس يكتم سراً ... ووجدت اللسان ذا كتمان كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... فاستدلوا عليه بالعنوان الباب الثامن مغالطة الحبيب واستعطافه وتلافي غيظه وانحرافه

أقول هذا باب عقدناه لذكر مغالطة الحبيب في نفسه وإلحاق يومه بأمسه وهو من أعظم الأبواب حشوه وأكثرها رشوه وأحسنها اختراعاً وأكثرها خداعاً وأبلغها حطابة وأكثرها إصابة وسنورد من ذلك ما يعذب إيراده ويحسن عند أهل الإنشاء إنشاده ليعلموا أن الأديب على الحبيب يحتال ويجاري برقة ألفاظه الجريال فمن ذلك وهو من أحسن ما سمعته في مغالطة الحبيب: قم بنا يانور عيني ... نجعل الشك يقينا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فإلى كم ياحبيبي ... يأثم القاتل فينا ومثله قول الآخر: ما أنس لا أنس قولها بمنى ... ويحك إن الوشاة قد عملوا ونمّ واش بنا فقلت لها ... هل لك يا هند في الذي زعموا قالت لماذا ترى فقلت لها ... كي لاتضيع الظنون والتهم وقال العباس بن الأحنف: كان لم يكن بيني وبينكم هوى ... ولم يك موصولا بحبلكم حبلي واني لاستحي لكم من محدث ... يحدث عنكم بالملالة والمطل وقال آخر: نسبت الى ذنب ولم اك مذنباً ... وحملتني في الحب ما لا أطيقه وما طلبي للوصل حرصاً عل البقا ... ولكنه أجر إليك أسوقه قلت: ما يرضى يروح سواء بسواء ... حتى يسوق إليه الأجر أيضاً ومما قتله أنا في هذا المعنى: لم أطلب الوصل من أجلي فديتك يا ... من زاد حظي سواداً منه شامات لكن خشيت بأن تبلى بعشق رشا ... يقتص لي منك والدنيا مكافات وقال آخر: قد أكثر الناس أنواع الحديث بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا وقال آخر: يا سيدي عندك لي مظلمه ... فاستفت فيها ابن أبي خيثمه فإنها يرويه عن جده ... وجده يرويه عن عكرمه عن ابن عباس عن المصطفى ... نبينا المبعوث بالمرحمه إن انقطاع الخل عن خله ... فوق ثلاث ربنا حرمه وأنت مذ شهر لنا هاجر ... أما تخاف الله فينا فمه وقال جميل: وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا أنني لك عاشق نعم صدق الواشون أنت حبيبه ... إلي وإن لم تصف منك الخلائق قلت هكذا رأيته في غالب ما وقفت عليه من نسخ الحماسة وسمعت من أفواه أهل الأدب أعني أن قافية البيت الأول عاشق والصحيح أنها وامق لأن المعنى على ذلك بيانه أن الوامق المحب لغير ريبة والعاشق المحب لريبة وإذا كان ذلك كذلك لم تصح المغالطة إلا بقوله وماذا عسي يقول الواشون سوى إني لك وامق أي محب لغير ريبة: وقال ابن رواحة الحموي: إن كان يحلو لديك قتلي ... فزد من الهجر في عذابي عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب حكى أن بعضهم أنشد شاباً كان يحبه: ماذا تقول إذا اجتمعنا في غد ... وأقول للرحمن هذا قاتلي وأقول للرحمن هذا قتلي فقال له الشاب أقول هذا أراد أن ... فما مكنته. وقال ابن سينا الملك: ومن رسالة وأنا والله في أمرك مغلوب والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب ولا أتجالد عليك. أغرك وأخون حبك ولا أتصنع عليك فأغشك. وأغم قلبك اعمل ما شئت فأن الصابر وأقتل كيف شئت فأنا الشاكر وقل لي فلي سمع يعشق قولك والتفت تر آمالي ترفرف حولك فأفعل فأنت المعذور واستطل فما أنا المضرور بل المسرور وارجع إلى الود الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور: وقال أيضاً: وأنا أستعيذ بالله من ذنب يوجب عتبك ويلمح عذبك ويصرف قلبك ويجعلك ثاني عطفك ويغيرك على الفك: لست على هجرك جلد القوي ... ولا على عتبك شاكي السلاح وقال ابن السوادي الشاعر المشهور: أشكو إليك ومن صدودك أشتكي ... وأظن من شغفي بأنك منصفي وأصد عنك مخافة من أن يرى ... منك الصدود فيشتفي من يشتفي وحكى القاضي: أبو عمر محمد بن يوسف الأزدي قال كنت أساير أبا بكر محمد بن داود الأصفهاني ببغداد وإذا بجارية تغني من شعر:

الباب التاسع

أشكو إليك فؤاد أنت متلفه ... شكوى عليل إن إلف يعلله سقم يزيد على الأيام كثرته ... وأنت في عظم ما ألقى تقلله الله حرم قتلى في الهوى سفها ... وأنت يا قاتلي ظلماً تحلله فقال محمد بن داود كيف السبيل إلى استرجاع هذا فقلت له هيهات سارت به الركبان: وقال أبو عبد الله: قلبي عليك أرق من خديكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكا لم لا ترق لمن تعذب قلبه ... ظلماً ويعطفه هواء عليكا وقال ناصر الدين بن النقيب: لقد وجبت عليك زكاة حسن ... وفيه كمثل مافي المال حق فلا تعدل به غني فإني ... لمصرفه الفقير المستحق وقال القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله من قصيدة: لولم أكن في رتبة ارعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب لهتكت ستري في هواك ولذلي ... خلع العذار ولج فيك مؤنبي لكن خشيت بأن تقول عواذلي قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي: وقال آخر: حججي عليك إذا خلوت كثيرة ... وإذا حضرت فإنني مخصوم لا أستطيع أقول أنت ظلمتني ... الله يعلم انني مظلوم وقال المكرم: الناس قد أثموا فينا بظنهم ... وصدقوا بالذي أدرى وتدرينا ماذا يضرك في تصديق ظنهم ... بأن نحقق ما فينا يقولونا حملي وحملك ذنباً واحداً ثقة ... بالعفو اجمل من إثم الورى فينا وقال المتنبي: زودينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال يحول وصلينا بوصلك الآن في الدنيا ... فإن المقام فيها قليل أقول: هذا البيت الأخير حسن في بابه فيما يتعلق بمغالطة الحبيب واستعطافه وأما الأول ففيه تنغير فليته أراح واستراح وترك التهكم بالوجوه الملاح على أن التلعفري اقتدى به في التهكم بأحبابه: فقال ذو بيت: يا تارك ربع الصبر مني مهدوم ... ما إن يرى لغائب الوصل قدوم صف ربك في العشاق وارفق بهم ... ولا تحسب أن دولة الحسن تدوم الباب التاسع الرسل والرسائل والتلطف في الوسائل أقول هذا باب عقدنا لذكر مراسله الأحباب وشكوى الجوى في الجواب وهو باب مطروق نافق السوق طالما عرض فيه المحب على الرسول سلعة النحول لا سيما من عيل صبره واشتهر أمره فأصبح وهو في البيت طريح واستعمل في مراسلة الحبيب حتى الريح كما قيل: فيا نسيم الصبا أنت الرسول له ... والله يعلم أني منك غيران بلغ سلامي إلى من لا أكلمه ... أني على ذاك الغضبان غضبان لا يا رسول لا تذكر له غضبي ... فذاك مني تمويه وبهتان وكيف أغضب لا والله لا غضب ... إني لما رام من قتلي تفرحان أكل يوم لنا رسل مرددة ... وكل يوم لنا في العتب ألوان أستخدم الريح في حمل السلام لكم ... كأنما أنا في عصر سليمان فهو من الهوى على شطر ومن إقامة الهجر على سفر لا يقر له قرار ولا يصلي لوجنة محبوبه بنار لا جرم أنه يتعلل بالنسيم العليل ويقول لاستنشاق اليسير منه قليلك لا يقال له قليل. ومن أحسن ما سمعته في هذا الباب قول الواو الدمشقي: بالله ربكما عوجا على سكنى ... وعاتباه لعل العتب يعطفه وحدثاه وقولا في حديثكما ... مابال عبدك بالهجران تتلفه فإن تبسم قولا في ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه وإن بدا لكما في وجهه غضب ... فغالطا وقولا ليس نعرفه أخذه: من قول عمر بن أبي ربيعة من أبيات يصف بها قواده: فأتتها طبة عالمة ... نمزج الخد مراراً باللعب تغلظ القول إذا لانت لها ... وترخى عند سورات الغضب قيل إن ابن عتيق قال لعمر لما سمع قوله هذا ما أحوج المسلمين إلى خليفة يدبر أمرهم مثل قوادتك هذه. ومثل قول الواو قول الآخر: ألا يا نسيم الريح بلغ رسلتي ... سليمى وعوض بي كأنك مازح

وإن أعرضت عني فموه مغالطا ... بغيري وقل ناحت عليه النوائح وقول الآخر دوبيت: باللطف إذا لقيت من أهواه ... عاتبه وقل له الذي ألقاه أن أغضبه الوصال غالطه به ... أورق فقل عبدك لا تنساه وقال أبو فراس: هبت لنا ريح شمالية ... متت إلى القلب بأسباب أدت رسالات الهوى بيننا ... عرفتها من بين أصحابي وكان الصاحب بن عباد رحمه الله إذا سمع هذين البيتين ترمخ لهما وقد عقدت للنسيم باباً مستقلاً في كتابي سلوك السنن في وصف السكن وذكرت فيه أشياء تليق بهذا الباب منها قول أمين الدين ابن عطايا: أنا أهوى غصن النقى وهؤلاء ... وفؤادي بحبه في التيه يا نسيم الصبا ترفق عليه ... وتلطف به ولا تؤذيه وتحمل رسالة ليس إلا ... ك أميناً في حملها أرتضيه وإذا لم يكن رسولي نسيماً ... نحو غصن النقا فمن يثنيه وقال ابن الخياط الدمشقي يا نسيم الصبا الولوع بوجدي ... حبذا أنت لو مررت بهند ولقد رابني شداك فبالله متى عهده باطلال نجد. وقال مهيار الديلي: حملوا ريح الصبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحاً وخزامى وابعثوا لي في الدجى طيفكم ... إن أذنتم لجفوني أن تناما حكي أن نور الدين علي بن سعيد المغربي صاحب المرقص والمطرب مر مع جماعة من الأدباء المصريين وفيهم أبو الحسين الجزار فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة وقد هب الهوى فكشف ثيابه عنه فقال أبو الحسين الجزار قفوا لينظم كل منا في هذا شيئاً قال فما لبث أن قال نور الدين المذكور: الريح أقود ما يكون لأنها ... تبدي خفايا الردف والأعكان وتميل بالأغصان عند هبوبها ... حتى تقبل أوجه الغدران ولذلك العشاق يتخذونها ... رسلاً إلى الأحباب والأوطان وقال أبو الحسين الجزار ما بقي أحد منا يأتي بمثل هذا فسيروا بنا. وقال علي الصفار: إذا هب نسيم بطيب نشر ... طربت وقلت إيه يا رسول سوى أني أغار لأن فيه ... شذاك وأنه مثلي عليل وكان القاضي محي الدين بن عبد الظاهر يحب شاباً مغنياً اسمه نسيم وله فيه عدة مقاطيع منها قوله: إن كانت العشاق من اشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا فأنا الذي أتلو لهم يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا فقلت: أنا كأني حاضر أخاطبه مضمناً. إن كنت في عشق النسيم متيماً ... وزعمت أن هواء ليس بمتلف فأنا أقول لمن تحرش بالهوى ... عرضت نفسك للبلى فاستهدف وقال القاضي محي الدين أيضاً في محبوبه النسيم: يا من غدا لي من عوا ... صف هجرة الريح العقيم أترى يطبب لي الهوى ... ويقال قد رق النسيم وقلت أنا كأني حاضراً خاطبة: بالله إن رق النسيم وأخمدت ... نار تؤججها يد التبريح نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ودع العدول وقوله في الريح وقال القاضي محي الدين أيضاً: شكرا لنسمة أرضكم ... كم بلغت عني تحية ولكم أطالت بل أطا ... بت في رسائلها الذكية لا غرو إن حفظت أحا ... ديث الهوى فهي الذكية أخذه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي من أهل العصر فقال: يا طيب نشر هب لي من أرضكم ... فأثار كامن لوعتي وتهتكي أهدي تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إن ذا ريح ذكي فقلت أنا لما وقفت على قوله هذا وقول القاضي محيي الدين المتقدم عليه: إن ابن أبيك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلاً فراح كلامه في الريح

الباب العاشر

وقد ذكرت في النسيم أشياء مليحة في كتابي سلوك السنن المذكور واقتصرت منها على هذا القدر هنا خوف الإطالة ويجب أن يكون الرسول من أهل الصيانة وممن يرجع إلى ديانة لئلا يطمع فيصير خليلاً بعد أن كان رسولاً كما اتفق لرسول ابن سناء الملك الذي قال فيه: راح رسولاً وجاءني عاشق ... وعاقه عن رسالتي عائق وعادلا لي بالجواب بل بجوى ... أخرسه والهوى به ناطق وقال آخر: رجع الرسول إلي وهو متيم ولهذا قال ابن الأثير ليس على الحسن أمانة وفي مثله تعذر الخيانة. وقال المتنبي: مالنا كلنا جو يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول وكلما عاد من بعثت إليها ... غار مني وخان فيما يقول أفسدت بيننا الأماني عينا ... ها وخانت قلوبهن العقول يستريح أي عيناها بسحرها أفسدت أمانة الرسول في الرسالة وخانت قلوبهم أي فارقت العقول القلوب بسببها قال الأرجاني: قسماً لقد رجع النسيم عليلاً ... لما سرى مني إليك رسولاً ودرى بحبك أنه قد خانني ... فغدا يجر من الحياة ذيولاً ومن أحسن ما سمعته في الرسائل والتلطف في الوسائل ما حكى عن الملك عبد العزيز بن السلطان صلاح الدين أنه كان في أيام أبيه أحب قينة وشغف بها فبلغ صلاح الدين فمنعه من صحبتها ومنعها منه فحزن ولم يمكنه أن يجتمع بها ومضى على ذلك مدة أيام فسيرت إليه مع خادم كرة عنبر فكسرها فوجد فيها زر ذهب فلم يفهم مرادها بذلك وجاءه القاضي الفاضل فعرفه الصروة فقال في الحال: أهدت لك العنبر في وسطه ... زر من التبر رقيق اللحام فالزر من العنبر تفسيره ... زر هكذا مستتراً في الظلام وقال علاء الدين المغربي من رسالة النيرين وهي من المحب الكئيب إلى حبيب الحبيب افتتحها بقوله يقبل الأرض وينهي بين يدي المالك الرحيم سلطان الملاح وليث الكفاح منها: ذهب النيل وعادا ... وغرامي يتمادى كلما قلت غدا ين ... قص بعض الوجد زادا كل قلب غير قلبي ... نال في الحب المرادا وأناالمسكين وحدي ... نلت في الصحب العنادا قال الراوي ثم أن علاء الدين قال وأنا المسكين وحدي بلت في صحن القطائف وعملت الخل ناطف وصلت إبليس بدقته وتركته ينخفض ويصفق ويغني تللاله: يا عوينات الغزاله رحم الله من قتلني ... وأي فخر في قتل مثلي وهل أنا الأشويعر مخارف مسخرة قد جعل رسائله وسائله وقصائده مصائده مصايده يستحلب ضرع الضراعة ويميط قناع القناعة إن جاع أكل من تقطيع الأعاريض وإن عطش شرب من بحور القريض في زمان لا فرق فيه عند أهله بين القادح والمادح والصائح والنائح: قد ذقت منه ما ليس يقلعه ... أبو الحسين القلاع من ضرسي بل أي شيء أحسن من خشفين مترفين اليفين يتراضعان ثدي الصحبة ويتراشفان كأس المحبة ويقتطفان ثمر الوصال ويتسالمان أنواع الدلال ويتواصفان لواعج الغرام ويتباسطان مباسطة الحمام ولا يحضرهما غير مزاح ومراح ولا يلثمها غير كأس راح: اثنان كالفرد من طول اعتناقهما باتا بليل حميد غير مذموم يسفران عن نيرين ويبتسمان عن درين ويتسارقان النظر بلواحظ جؤذرين كأنهما اقتسما فنون الحسن والإحسان بفكتي الميزان إن تناقلا بعتاب أو تراسالا بكتاب قدر منثور وسحر غير محظور وإن تسابقا في ميدان الهوى أو تراشقا بسهام الجوى فالواتر موتور والساحر محسور وهي رسالة لطيفة ظريفة كلها من هذا النوع اقتصرت منها على هذا القدر الإطالة وقد ذكرتها بكمالها في الجزء الثاني من حاطب ليل وقلت أنا مما كتبته إلى بعض الأصحاب. كتبت إليكم والسطور حروفها ... بها أعين ترنو لكم وترمق ولي قلم أمسى لرطب لسانه ... سلام مشوق قد براه التشوق الباب العاشر الاحتيال على طيف الخيال وغير ذلك مما قيل فيه على اختلاف معانيه

أقول هذا باب عقدناه لذكر طيف الخيال الزائر وما قيل في سيره من الممثل السائر الحلوب إذا للشعراء في اقتناصة تحيل وحسن نحيل طالما كثروا من ذكره واستخرجوه من وكره فقربوا عليه بعد المسافة ولم يعافوا الحاق زجره بالعيافة. ومن المشهورين فيه بالإجادة أبو عبادة وغيره كأبن النقيب المنحيل على اصطياد خيال الحبيب: حيث قال وأحسن في المقال ... نصبت جفوني للخيال حبائلا لعل خيالا في الكرى منه يسنح ... وكيف أذا أغمضتهن أصيده ومن عادة الأشراك للصيد تفتح وما احسن قول الشيخ جمال الدين ابن نباتة في التورية. ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراك وقلت أيضاً: واقسم لو جاد الخيال بزورة ... لصادف باب الجفن بالتفح مقفلا وقال أبو محمد عبد الله السروجي وأحسن ما شاء: انعم بوصلك فهذا وقته ... يكفي من الهجران ما قد ذقتهد أنفقت عمري في هواك وليتني ... أعطي وصولاً بالذي أنفقه يا من شغلت بحبه من غيره ... وسلوت كل الناس حين عشقته أنت الذي جمع المحاسن وجهه ... لكن عليه تصبري فرقته كم جال في ميدان حبك فارس ... بالصبر مني في هواك سبقته قال الوشاة قد ادعى بك نسبة ... فسررت لما قلت قد صدقته بالله إن سألوك عني قل لهم ... عبدي وملك يدي وما اعنقته أو قيل مشتاق إليك نقل لهم ... أدري بذا وأنا الذي شوقته يا حسن طيف من خيالك زارني ... من فرحتي بلقاه ما حققته فمضى وفي قلبي عليه حسرة ... لو كان يمكنني الرقاد لحقته وقال أبو تمام: زار الخيال لها لا بل أزار له ... فكراً إذا نام فكر الناس لم ينم ظبي تقنصته لما نصبت له ... من آخر الليل اشراكاً من الحلم وقال أيضاً: يا لها لذة تنزهت الأرواح ... فيها سراً من الأجسام مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غيرانا في دعوة الأحلام وقال البحتري: وهو من المكثرين في وصف الخيال المجيدين فيه ولكثرة ولوعه به واشتهاره ضرب به المثل. فقيل خيال البحتري ومن ذلك قوله: إذا ما الكرى أهدى إلى خيالها ... شقى قربه التبريح أو نقع الصدى إذا انتزعته من يدي انتباهة ... ظننت حبيباً راح مني أو عدا فلم أر مثلينا ولا مثل شأننا ... نعذب أيقاظاً وننعم هجداً وقوله: ولم أنس اسعاف الكرى بدنوها ... وزورتها بعد الهدو وما تدري إذا الليل أعطانا من الوصل يلغة ... ثنتنا تباشير الصباح إلى الهجر وقوله أيضاً: بعثت طيفها إلي ودوني ... سير شهرين للمهاري العتاق زاروا هنا من الشام فحيا ... مستهاماً صباً بأرض العراق فقضى ما قضى وعاد إليها ... والدجى في بردوء الأخلاق وقوله: وليلة هومنا على العيش أرسلت ... بطيف خيال يشبه الحق باطله فلولا بياض الصبح طال تشبثي ... بعطفي غزال بت وهنا أغازله فكم من يد لليل عندي حميدة ... وللصبح من خطب تذم غوائله وقال عبد الصمد بن المعدل: واصل النوم بيننا بعد هجر ... فاجتمعنا ونحن مفترقان غير أن الأرواح خافت رقيباً ... فطوت سرها عن الأبدان منظر كان لذة القلب إلا ... أنه منظر بغير عيان قال المرتضي هذه الأبيات تروي للحميدوني وهي كثيرة من مثله ودخل ابن القطان الشاعر البغدادي يوماً على. الوزير الزيني وعنده الحيص بيص فقال قد عملت بيتين لا يمكن أن يعمل لهما ثالث لأنني قد استوفيت المعنى فيهما: فقال الوزير وما هما فأنشد: زار الخيال بخيلاً مثل مرسله ... فما شفاني منه الضيم والقبل مازارني قط إلا كي يوافقني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل

فقال الوزير للحيص بيض ما تقول في دعواه فقال إن أعادهما سمع لهما ثالثاً فأعادهما فقال الحيص بيص: وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفة حين أعيا اليقظة الحيل وقال آخر: ألا رب طيف منك بات معانقي ... إلى أن دعا داعي الصباح محيعلا وأول من وصف الطيف عمرو بن قمئة فيما حكاه المرتضى في كتاب الطيف والخيال فقال: نأتك أمامة إلا سؤالا ... وألا خيالاً يوافي خيالا خيال يخيل لي نيلها ... ولو قدرت لم تخيل نوالا وأول من طرد الطيف طرفة بن العبد حيث قال: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإني واصل سبل من وصل وتبعه جرير فقال: طرقتك صائدة الفؤاد وليس ذاوقت الزيارة فأرجعي بسلام وأعجب من جرير في طرد الخيال الراعي حيت هجاء فقال: طاف الخيال بأصحابي فقلت لهم ... أتلك ليلى أتت ليلاً أم الغول وقد رد على جرير مولانا قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي وأحسن ما شاء حيث قال: يا ليت شعري هل أحب ... جرير إذ أبدى اعتذاره إن كان يصدق حبه ... فالقلب منه كالحجاره لا بل أشد قساوة ... فانظر له أبدى عراره إذ قال قولاً لم يقله ... عاشق أود وجساره طرقتك صائدة الفؤاد ... وليس الزياره وقال في الرد عليه أيضاً: هذا مقالك يا جرير ... لدي أشنع ما يقال هل ثم وقت ليس يصلح ... للزيارة والوصال أم قيل قبلك فارجعي ... ولذاك ذنب لا يقال أم كان حبك كاذباً ... فمنامه ينفي الخيال أم كان قلبك من حد ... يد ليس تؤذيه النبال وقلت أنا: واخجلتا لك يا جر ... ير في المحافل والمشاهد طرقتك صائدة الفؤاد ... فكنت صباً غير صائد فرددت طيف خيالها ... هذا خيال منك فاسد ألطيف أعشق منك إذ ... وافى إليك وأنت راقد ؟ لاعاد مثلك ما بقى ... في الناس للعشاق عائد وقلت أيضاً من قصيدة: يطالبني قلبي به فكأنني ... غريم وقلبي في تقاضيه مغرم ولي منه في ليل الكرى ونهاره ... خيال ملم أو حبيب مسلم وقال شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني: يا حبذا طيفك من قادم ... يا أحسن العالم في العالم طيف تجلى نوره ساطع ... حتى رأته مقلة النائم يا غائباً يحكم في مهجتي ... علي طالت غيبة الحاكم عار على حسنك أن يشت ... كي حظي منه أنه ظالمي وقد أحسن التهامي في تفضيل الخيال على الحقيقة حيث قال: وصل الخيال ووصل الخود إن بخلت ... سيان ما أشبه الوجدان بالعدم ألطيف أحسن وصلاً إن لذته ... تخلو من الإثم والتنغيص والندم وقد بلغ النهاية في اللطف كشاجم حيث اعتذر على لسان الحبيب عن تأخر الخيال فقال: لقد بخلت حتى بطيف مسلم ... علي وقالت رحمة لحبيبي أخاف على طيفي إذا جاء طارقا ... وسادك أن يلقاه طيف رقيبي وما أحسن أيضاً اعتذار المغربي وقد ضمنه ابن عنين وكتب به من اليمن إلى أخيه بدمشق: سامحت كتبك في القطيعة عالماً ... أن الصفيحة أعوزت من حامل وعذرت طيفك في الجفاء لأنه ... يسري فيصبح دوننا بمراحل وقال آخر: وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا فكدت أوقظ من حولي به فرحا ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا ثم انتبهت وآمالي تخيبني ... نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا وقال ابن المعتز: أبصرته في المنام معتذراً ... إلي مما جناه يقظانا ولان حتى إذا هممت به ... وجدته عند الصبح لا كانا

الباب الحادي عشر

قيل من نكد الدنيا أن الإنسان يرى في منامه أنه شم طيباً أو واصل حبيباً أو نال عزاً أو وجد كنزاً فإذا انتبه لم ير من ذلك شيئاً وربما رأى أنه قد أحدث فإذا انتبه رأى ذلك يقيناً في ثيابه كما قيل فيه: أرى في منامي كل شيء يسرني ... ورؤياي بعد النوم أدهى وأقبح فإن كان خيراً فهو أضغاث حالم ... وإن كان شراً جاءني قبل أصبح وقال المعري: إلى الله أشكو أنني كل ليلة ... إذا نمت لم أعدم خواطر أوهام فإن كان شراً فهو لا شك واقع ... وإن كان خيراً فهو أضغاث أحلام وما أحسن قول ابن التلميذ:؟ عاتبت إذ لم يزر خيالك في النوم فشوقي إليك مسلوب فزارني منعماً وعاتبني ... كما يقال المنام مقلوب وقال ابن الأحنف: واحلم في المنام بكل خير ... فاصبح لا أراه ولا يراني ولو أبصرت شراً في منامي ... لقيت الشر من قبل الآذان وما أظرف قول ابن المعتز: ألم الخيال بلا حمده ... وأبدلني الوصل من صده وكم نومة لي قواده ... أتت بالحبيب على بعده ومثله قول الآخر: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ تركت هجا ابليس ثم مدحته ... وذاك الأمر عز عندي سلوكه يقرب من أهواه حيناً فإن أبى ... حكاه خيالاً في الكرى فأ.... وقال بعض مشايخ العصر: لو أن طيفك في المنام جليسي ... ما بت أشكو لوعتي ورسيسي قمر أدار علي خمرة ريقه ... ولحاظه وحديثه المأنوس ما عمدتي في قربه وحضوره ... ووفائه إلا على إبليس وما أحسن قول القاضي الفاضل رحمه الله هذا على أن الطيف لا أعتد له بمنة وإن ركب المجاهل وقطع المراحل وتخطى إلي أغصان القنا وخاض جداول الظبا ووطئ شوك النصال وعثر بجبال الخيال ودنا وأعين الشهب حولي روان وأطراف القسي دوان وكيف أعتد له بمنة والفكر مدنية وأنا يقظان ويمثل ما لم يكن من قربه كما مثلت العيون منه ما كان حكي عن بعض المغفلين أنه تعب في تحصيل امرأة كان يهواها مدة طوية فلما حصلت عنده في البيت وضع رأسه ونام فقالت له لأي شيء فعلت هذا. فقال: من عشقي فيك أنام لعلي أرى خيالك في النوم. وحكي عن بعض البخلاء أنه قال لمحبوببته وضعت خدي على الأرض لكي ترضي. فقالت: أعطني ديناراً حتى أخليك تضع خدك على خدي ولقد بلغ نهاية اللطف قول القائل: قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقال خلفته ولو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد قالت صدقت الوفى في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي وقول الآخر: فهلا منعتم إذ منعتم كلامها ... خيالاً يوافينا على البعد هاديا ؟ سقى الله أطلالاً بأفنية الحمى وإن كن قد أبدين للناس حاليا قزلخ فيشكل التعيين المناسب فالإضافة للتعيين وقوله وسعياً كما معطوف الخ المناسب عطفه على مزارك كما نقله عن القوت ويؤيده رواية شعباً كماً ولغة إلزام المثنى الألف فصيحة اهـ؟. ؟ منازل لو مرت بهن جنازتي لقال الصدى يا صاحبي انزلا بيا وقال توبة بن الحميري: فإن تمنعوا ليلى وطيب حديثها ... فلن تمنعوا مني البكارا لقوا فيا فهلا منعتم إذ منعتم حديثها ... خيالاً يوافينا على البعد هاديا ؟ الباب الحادي عشر قصر الليل وطوله وخضاب شفقه ونصوله وما في معنى ذلك أقول هذا باب عقدناه لذكر من طال سهاد جفنه القصير فأمس وما له إلا إسفار الصباح سفير فهو ينشد من شدة الحرق وكثرة الأرق: يا ليل طل ولا تطل ... لا بد لي من أن أسهرك لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك ولم تزل العشاق تشكو من الليل وطوله ويصفونه بسواد الوجه عند حلوله وعذرهم في ذلك ظاهر وكيف لا وقد قال فيه الشاعر: مات الظلام بليل ... أحييته حين عسعس لو كان لليل صبح ... يعيش كان تنفس وقال شرف الدين أحمد بن منقد: لما رأيت النجم ساه طرفة ... والقطب قد ألقى عليه سبانا

وبنات نعش في الحداد سوافرا ... أيقنت أن صباحهم قدماتا وقال أيضاً: ولرب ليل فيه تاه نجمه ... قطعته سهر أفطال وعسعسا وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا قلت وقبل الشروع في إيراد مقاطيع هذا الباب تذكر هنا حكاية لطيفة تتلعق بطول الليل وقصره وهي ما حكاه أبو محمد إسماعيل بن منصور الجواليفي قال وقف علي والدي وهو جالس في حلقة يقرأ فيها عليه الطلبة شاب فقال يا سيدي قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما. فقال له قل فأنشد: وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجرة النار يصلينا به النار فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا قال فلما سمعهما والدي قال له يا ولدي هذا شيء من معرفة النجوم وتسييرها لا من صنعة أهل الأدب فانصرف الشاب من غير حصول فائدة فاستحيا والدي لكونه سأل عن شيء ليس عنده منه علم وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقة حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير المسؤول عنه إن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول لأنه يكون آخر فصل الخريف وإذا كانت في آخر فصل الخريف وإذا كانت في آخر الجوراء كان الليل في غاية القصر لأنه في آخر فصل الربيع فكأنه يقول إذا لم يزرني فالليل عندي في غابة الطول وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر وقد أنصف القائل: لاأظلم الليل ولاادعى ... أن نجوم الليل ليست تسير ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال وإن زارت فليلي قصير وما أحسن قول الأرجاني: وما ليلنا إلا سواء وإنما ... تفاوته أنا سهرنا ونمتم ومن أحسن ما قيل في قصر الليل: قول أبي اسحق الصولي ... وليلة من ليالي الزهر قابلت فيها بدرها ببدري ... لم تك غير شفق وفجر حتى تولت وهي بكر الدهر وقال الرضي: يا ليله كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر وقال آخر: سألت الليل لم ولى هزيماً ... وقد بات الحبيب على اقتراحي فقال كواكبي غارت وسارت ... مخامرة علي إلى الصباح ومن أحسن ما قيل في طول الليل قول العباس بن الأحنف: أيها الراقدون حولي أعينو ... ني على الليل واتركوا الإعتذارا حدثوني عن النهار حديثاً ... أوصفوه فقد نسيت النهارا وقال آخر: عهدي بنا وراء الليل مشتمل ... والليل أطول كاللمح بالبصر والآن ليلي مذ بانوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر وقال ابن العتارية: لقد ساهرتني عيون الدجى ... وقد نام عني عيون الملاح إذا ماشكا الليل هجر الصباح ... شكوت إلى الله هجر الصباح وقال ابن الزقاق: لي مسكن شطت به غربة ... جادت لها عيناي بالمزن ما أحسن القجر ولا راقني ... بياضه مذ بان في الظعن كأنما الصبح لنا بعده ... عين قد ابيضت من الحزن وما أحسن قول القاضي الفاضل: بتنا على حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح وقال ياقوت: كان الثريا راحة تشبر الدجا ... لتعلم طال الليل أم قد تعرضا فليل تراه بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا أخذه الشيخ صدر الدين بن الوكيل فقال: بكف الثريا وهي جذماً يقاس لي ... شقاق الدجى مدت من الشرق والغرب ولو ذرعوها بالذراع لما انقضت ... فما تنقضي بالليلأوينقضي نحبي وقد أحسن الأرجاني في الاعتذار عن طول الليل فقال: لا أدعي جور الزمان ولا أرى ... ليلي يزيد على الليالي طولا لكن مرآة الصباح تنفست ... للهم أصدأ وجهها المصقولا وقال مضر بن الفقعسي: وليل تقول الناس من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها كان لنا منه بيوتاً حصينة ... مسوح أعاليها وساج كسورها

وقال آخر: ولي سنة لا أدري ما سنة الكرى ... كأن جفوني مسمعي والكرى عذل وقلت أنا: مذ غبت عني شمس الدين ما اكتحلت ... عيني بغبر ذرور السهد والسهر كم بت أرعى نجوم الليل من أرقي ... يا أشبه الناس من كل الناس بالقمر وقال الشريشي فأما أكثر الشعراء فهم من الليل أفزع وإلى النهار أنزع لأن الليل أجمع لأشتهات الهموم والفكر وأجلب لشوارد الأحزان والذكر. وقال امرؤ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي وقال قيس بن ذريح: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدى ... لي الليل هزتني إليك المضاجع وقال ابن المعت: لا تلق إلا بليل من تواصله ... فالشمس نمامة والليل قواد كم عاشق وظلام الليل يستره ... لاقى الأحبة والواشون رقاد وقال المتنبي: كم زورة لك في الأعراب خافية ... أزهى وقد رقدوا من زورة الذيب أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثنى وبياض الصبح يغري بي هذا البيت أمير شعر المتنبي على كثرة الجيد فيه وفيه مقابلة خمسة بخمسة وقد أخذه بعضهم فقال: أقلى النهار إذا أضاء صباحه ... وأظل أنتظر الظلام الدامسا فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكا ... والليل يرثى لي فيدبر عابسا وقد أحسن في أخذه فإن فيه أيضاً مقابلة خمسة بخمسة. قال ابن يحيى في قول المتنبي المذكور أنه مأخوذ من قول ابن المعتز: فالشمس نمامة والليل قواد قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: قال لي شيخنا تقي الدين بن دقيق العيد: قل لهؤلاء علماء المعاني والبيان والبديع أتحسنون أن تقولوا مثل قول المتنبي: أزورهم وسواد الليل البيت فإذا قالوا لا قل فأي فائدة فيما تصنعونه. يريد بذلك أن العمل غير العلم والمباشرة دون الوصف. ومثل قوله هذا ما حكاه بعضهم عن بعض الوعاظ أنه كان على منبره يتكلم في المحبة وأمور العشق وأحواله ومديد أطناب الأطناب في ذلك فقام إليه بعض الجماعة فقال: بعيشك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها وهل زفت عليك فروع ليلى ... زفاف الأقحوانة في نداها فقال الواعظ لا والله فقال له فابشر. وقال المتنبي: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبران المانوية تكذب وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب المانوية قوم يعتقدون أن الخير كله من النور والشر كله من الظلام فكذبهم بأنه وجد الخير في الظلام حيث ستره عن أعدائه ووقاه شرهم وكان عوناً له على زيارة من يحبه. وقال ابن رشيق: أيها الليل طر بغير جناح ... ليس في العين راحة في الصباح كيف لا أبغض الصباح وفيه ... بان عني أولو الوجوه الصباح حكى الأصمعي قال حضرت مجلس لارشيد وعنده مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال ما أحدثت بعدنا يا با نواس. فقال: يا أمير المؤمنين ولو في الخمر فقال: قاتلك الله ولو في الخمر فأنشده: يا شقيق الروح من حكم ... نمت عن ليلى ولم أنم الأبيات حتى أتى على آخرها فقال: أحسنت والله يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم وعشر خلع فأخذها وخرج. وحكى عن المطرز الشاعر أنه مر وفي رجليه نعل له بالية وهي تثير الغبار فرآه الشريف المرتضى فأمر بإحضاره وقال له: أنشدني أبياتك التي تقول فيها: فإن لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا فأنشده إيهاها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال أهذه كانت من ركائبك فاطرق المطرز ساعة ثم قال لما عاد هبات سيدنا الشريف أيده الله تعالى إلى مثل قوله: أيده الله تعالى إلى مثل قوله ... وخذ النوم من جفوني فأنى

الباب الثاني عشر

قد خلعت الكرى على العشاق عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملكه على من لا يقبل فاستحيا الشريف منه وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى يقول والله قول المطرز عندي أحسن من قول الشريف وقال أبو البشر المظفر الأعمى دخلت على الملك الكامل فقال لي أجز هذا النصف قد بلغ العشق منتهاه. فقلت وما درى العاشقون ما هو فقال وإنما غرهم دخولي فقلت فيه فهاموا به وتاهو فقال ولي حبيب يرى هواني فقلت وماتغيرت عن هواه فقال رياضة النفس في احتمالي فقلت وروضة الحسن في حلاه فقال أسمر لدن القوام ألمى فقلت يعشقه كل من يراه فقال ريقته كلها مدام فقلت ختامها المسك من لماه فقال ليلته كلها رقاد فقلت وليلتي كلها انتباه ثم أن مظفر الدين أكملها مدحاً في السلطان الملك الكامل تغمده الله برحمته ومنه وكرمه. الباب الثاني عشر ؟ قلة عقل العذول وما عنده من كثرة الفضول أقول هذا باب عقدناه لذكر من أكثر القيل والقال من العذال واستحق بامساك لحيته عند عذله نتف السبال وكيف لا وهو لكثرة فضوله وقلة محصوله يدخل الروح والجسد والوالد والولدج طالما أصبح بين المحبين قفا بين صفاعين لا يفتح له باب ولا يرد عليه جواب. وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل وما التيه خلقي في الهوى غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل فليته استراح وأراح وصان عرضه المباح فقد أكثرت الشعراء في الرد عليه واعتذرت المحبون ل إليه كما قيل: يا عاذلي في هواه ... إذا بدا كيف أسلو يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو وكان يقال ليس من العدل سرة ... العذل وكان يقال رب ملوم لا ذنب له وكان يقال ... لعل لها عذراً وأنت تلوم فكم عاذل زاد المحب بعذله لجاجة ... وجنوناً أكثر من الحاجة لأبدلن هوى بلوم أنه ... كالريح يغري الناس بالأحراق وقال آخر: وماعذولي ناهياً عنكم ... لكنه بالصبر أمار قال اسلهم إن لم تطق هجرهم ... قلت النار ولا العار وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: يا من إذا باعت الأبصار أسودها ... بحبة فوق خديه فقد ربحت يزيدني العذل تبريحاً ألذ به ... فليت عذال قلبي فيك لا برحت وما أحسن قول بلدينا محمد بن العفيف التلمساني: أسرفت في اللوم ولم تقتصر ... وزدت في لومك يا ذا العذول قد رضيت نفسي بمحبوبها ... وإنما المولى كثير الفضول وقال والده وأحسن ما شاء. ولي على عاذلي حقوق هوى ... شكري عليه ببعضها يجيب لام فلما رآه هام به ... فكنت في عشقه أنا السبب وقال آخر: قد اجتهد اللاحي وجاء يلومني ... وزخرف لي زور الكلام بمينه وقال أسل عن هذا وعد عن غرامه ... فقلت له هذا الفضول بعينه وحكى ابن وكيع أنه كان يهوى غلاماً نصرانياً بتنيس فلامه بعض أصحابه عليه ولم يكن رآه فاتفق أن الغلام مر بهما فلما رآه صاحب ابن وكيع استحسنه وقال لو عشقت هذا ما لمتك ولم يعلم أنه محبوبه الذي لامه عليه فقال ابن وكيع في الحال: أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قلبها رآه فقال لو عشقت هذا ... ما لامك الناس في هواه قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاه وقال شيخ الشيوخ بحماة: زعموا أني هويت سواكم ... كذبوا ما عرفت إلا هواكم قد علمتم بصدق مرسل دمعي ... فسلوه إن كان قلبي سلاكم قال لي عذلي متى تبصر الرشد ... وتسلو فقلت يوم عماكم وقال أيضاً: أن قوماً يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا

سمعوا وصفها فلاموا عليها ... أخذوا طيباً وأعطوا خبيثا وقال أيضاً: من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم لمن لا يخون إن قلت ما نصحك إلا أذى ... قال وما عشقك إلا جنون وقال محمد بن شرف القيرواني: قل للعذول لو اطلعت على الذي ... عاينته لعناك ما يعنيني أتصدني أم للغرام تردني ... وتلومني في الحب أم تغريني دعني فلست معاقباً بجنايتي ... إذ ليس دينك في المحبة ديني وما أحسن قول الآخر: يقول لي العاذل في لومه ... وقوله زور وبهتان ما وجه من أحببته قبلة ... قلت ولا قولك قرآن وما آخر لقد راعني بدر الدجى بصدوده ... ووكل أجفاني برعي كواكبه فيا عاذلي دعني عساه يعود لي ... ويا مهجتي صبراً على ما كواك به وقال عرقلة: قال العواذل ما الذي استحسنته ... منه وما يسبيك قلت جميعه وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله: يا خيبة العاذل الذي قد ... أطال في العذل واستطالا عذبني ثم قال تسلو ... عن حب ماما فقلت لالا وقال أيضاً: أيها العاذل الغبي تأمل ... من غدا في صفاته القلب ذائب وتعجب لطرة وجبين ... إن في الليل والنهار عجائب وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: كم على عاذلي وكم لحبيبي ... ذاك تكبيرة وذا تهليله يا ثقاتي وأيت مني ثقاتي ... أين من ينبغي إلي الوسيلة أنا ميت فقبلوني إليه ... فحياتي وحقه وتقبيله وقال النور الأسعردي أقول لعاذلي لما نهاني ... وقد وجد المقالة إذ جفاني علمت بأنه مر التجني ... وفاتك أنه حلو اللسان وقال أبو الفتح قادوس في الأكتاف من عاذري في عاذل ... يلوم في حب رشا إذا طلبت وصله ... قال كفى بالدمع شا ومثله قول شيخ الشيوخ بحماة: أغضب العشاق منه أنني ... لم أبع في حبه رشدي بغي قلت قد أضنيت جسمي قال قد ... قلت كي تذهب روحي قال كي وقال أيضاً راموا فطامى عن هوى ... غذيته طفلاً وكهلاً فوضعت في جيبي يدي ... وقلت خلوني وإلا ومثله قول الوادعي: يا لائمي في هواها ... أفرطت في اللوم جهلاً ما يعلم الشوق إلا ... ولا الصبابة إلا وما أحسن قول ابن سنا الملك في هذا المعنى: أهوى الغزالة والغزال وربما ... نهنهت نفسي عفة وتديناً ولقد كففت عنان عيني جاهداً ... حتى إذا أعييت أطلقت العنا وقوله أيضاً: دنوت وقد أبدى الكري منه ما أبدى فقبلته في الخد تسعين أو إحدى وقوله أيضاً: وظبي حكى ريم الفلا في نفاره ... فما باله لم يحكه في التلفت يدافعني عن وصله بتهجم ... فيا ليته لو كان يدفع بالتي وقال شيخ الشيوخ بحماة: إليكم هجرتي وقصدي ... وفيكم الموت والحياة أمنت أن توحشوا فؤادي ... فآنسوا مقلتي ولاتو وقال ابن المعتز: زاحم كمي كمه فالتويا ... وافق قلبي قلبه فاستويا وطالما ذاقا الهوى فاكتويا ... يا قرة العين ويا همي ويا وقال ابن مطروح: والله لا خطر السلو بمهجتي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا رجع الكلام في العذل. وقال الآخر دوبيت لما نظر العذال وجدي بهتوا ... في الحال وقالوا لوم هذا عنت مانحسب إلا أننا نعذله ... يسمع من يعقل من يلتفت وقال الآخر: قالوا اسله واطرح هواه ... فقد بدا كذبه وأفكه فقلت بالله لا تطيلوا ... والله والله ما أفكه وما أحسن قول شهاب الدين ابن الخيمي رحمه الله: وعذول رابني في نصحه ... كلما زدت إبا زاد لجاجا

ما عذولي قط إلا عاشقاً ... ستر الغيرة بالعذل وداجى وقال آخر: لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل أنشدني الشيخ برهان الدين القيراطي: ذهب العمر بلوم ... وصدود من غزال في سبيل الحب عمر ... ضاع في قيل وقال وقال الشيخ إبراهيم بن المعمار: لو رأى حسن وجهه ... عاذلي في التبسم ذهبت روحه كما ... قيل في دور درهم وقال أيضاً: لح العذول ولامني ... فيمن أحب وعنفا فهممت ألطم رأسه ... مما ملئت تأسفا لكنما زلقت يدي ... وقعت على أصل القفا ومات أظرف قول النور الأسعرديك وقالوا دع المعشوق واهجره دائماً ... ألم تره بعد الملاحة ينتف أينتف من أجلي ويتعب دائماً ... واهجره تالله ما أنا منصف وقال آخر: قل للعذول أطلت اللوم في قمر ... يزيد في كل يوم حسنه نورا إن كنت تزعم ما في حسنه عجب ... قم فانظر الورد في خديه منثورا وقال محيي الدين البغدادي إن لامني من لا رآه فقد ... جار على الغائب بالحكم وإن لحاني من رأه فقد ... أضله الله على علم وقال البهازهير: أنت الحبيب الأول ... ولك الهوى المستقبل عندي لك الود الذي ... هو ما عهدت وأكمل القلب فيك مقيد ... هـ الدمع فيك مسلسل يا من يهدد بالصدو ... د نعم تقول وتفعل قد صح عذرك في الهوى ... لكنني أتعلل قل للعذول لقد أطل ... ت لمن تتول وتعذل عاتبت من لا يرعوي ... وعذلت من لا يقبل غضب العذول أخف من ... غضب الحبيب وأسهل وقال أبو العتاهية لقيت أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته وقلت له ما آن لك أن ترعوي وتزدجر فرفع رأسه إلي وقال: أتراني يا عتاهي ... تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسد بال ... نسك عند القوم جاهي فلما ألححت عليه في العذل أنشأ يقول: لاترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر فوددت أني قلت هذا البيت بكل شيء قلته وقال جويان القواس. أصغي إلى قول العذول بجملتي ... مستفهماً عنه بغير ملال لتلقطي زهرات ورد حديثكم ... من بين شوك ملامة العذال قلت هذا هو العاشق والمحب الوامق ألا تراه كيف صغى إلى عذوله الفاعل الصانع وجنى من عذله جني النحل ممزوجاً بماء الوقائع فهو في هذا المقام من الإثبات كما قال أبو الشيص من أبيات. أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فلتلمني اللوم وقال ابن رشيق وقد زاد على أبي الشيص في قوله هذا ابن جابر الخزاعي حيث يقول: هددت السلطان فيك وإنما ... أخشى صدودك لا من السلطان أهوى الملامه فيك حتى لو درى ... أخذ الرشا مني الذي يلحاني حسبي لقول الناس بعد منيتي ... هذا قتيل في وداد فلان فلأنفقن عليك عمري كله ... ولأعشقن عليك كل هوان قلت والذي أقوله أنا في هذا المقام أن صاحب هذا الكلام غريم الغرام ونديم كؤس المدام ألا تراه كيف بالغ حتى جعل للعذول جعاله فأصبحت حالته كما قيل ضغث على أباله فهو كما قال بعض السادات من أهل الولايات لو لم تعلم العوام ما في قلوبنا من حلاوة العفو لتقربوا إلينا بالجنايات ومثل قوله هددت بالسطان قول الآخر: وإن نذرت فيك العشية قتلتي ... فللموت عندي في هواك سلام ومن أعجب الأشياء خوفي في الهوى ... ولي كل يوم في حماك حمام وقلت أنا: عاذل بالغ في عذله ... وقال لما هاج بلبالي بعارض المحبوب ما تنتهي ... قلت ولا بالشيب والوالي وقلت أيضاً: عذلوا على من رام قتلي في الهوى ... فكلامهم ضرب من الهذيان جهلوا وما علموا بأن الطعن في المح ... بوب غير الطعن في الميدان

وقلت أيضاً: كم خالف العذال قولي في الذي ... في كل يوم حسنه يزداد أن قلت أمسي في الملاحة مفرداً ... قالوا تثنى عطفه المياد وقلت أيضاً: يا عاذلي لا تلمني ... في حب هذا القبطي واقطع بوصل بيننا ... بالله رأس القط وقلت أيضاً مليح الترك لا سيما الخطابي ... عليه الشيخ يعذر للتصابي فدعني من ملامك يا عذولي ... فحبي للخطا عين الصواب وقلت فيمن اسمها حكم الهوى: حكم الهوى صدت فبت لأجل ذا ... ولهان من فرط الصبابة والجوى يا عاذلي لا تلمني في حبها ... نفذ القضاء وهكذا حكم الهوى وقلت: أقول لظبي قلبه يشتكي الأسى ... هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل نصحتك علماً بالهوى والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو وقلت من قصيدة: وازنت ميلي للعذول وقده ... فرأيت ميلي للقوام رجيحا يا عاذلي لا صافحتك يد النوى ... حتى توسد في التراب صفيحا ولقد نصحت بني الصبابة في الهوى ... لكنهم لا يقبلون نصيحا وقلت: من قصيدة مدحت بها مولانا السطان الملك الناصر. فيا من جاء يعدل مستهاما ... على حلو الشمائل ما أمرك وقلت: أيضاً من قصيدة أمدحه بها خلد الله ملكه مطلعها. لك من حبيبك ما تحب وتشتهي ... فاجعل مدامك من مقبله الشهي وإذا بدا لك ثغره متبسماً ... فاضحك على ذقن العذول وقهقه وقلت: أيضاً من قصيدة أرسلتها إلى مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي بدمشق الشام. يا ساكني السفح لي في حكيم سكن ... وأنتم في سويدا القلب سكان دمعي يزيد كباناس لعبدكم ... والعاذلون على ثوراء ثيران ومنها قد كان ما كان من هجرانه زمناً ... وقد وفى الآن فالعذال لاكانوا أنا الذي لاأبالي في الغرام بما ... يروي فلان ولا ما قال فلتان ومنها: برهنت حسن الذي أهوى وقلت له ... ما للعذول على ما قال برهان ما لامني مذ رآني في الهوي رجبا ... بمزح شعبان فما رمت شعبان تنبيه كانت أسماء الشهور عند العرب غير هذه الأسماء المستعملة الآن لأنهم كانوا يسمون رجب الأصم ويسمون شعبان العاذل وبهذا يظهر معنى قولي في البيت الأخيرعلى أن الشعراء استعملوا هذا المعنى قديماً وحديثاً ومن أحسن ما سمعت فيه. وشادن مبتسم عن حبب ... مورد الخد مليح الشنب يلومني العاذل في حبه ... وما دري شعبان أني رجب وقلت أنا أيضاً: يسطو علي من الدلال كأنه ... غازان إذ يسطو على حرمانه إن ردني عنه قضيب قوامه ... فأنا القتيل بلحظه وبيانه إني وحقك في هواه متيم ... صب غداً رجباً على شعبانه وقولهم سبق السيف العذل هو مثل من أمثال العرب يضرب في الأمر الذي لا يقدر على رده وأصله أن سعداً وسعيداً ابني ضبة ابن أد خرجا في طلب أبل لهما فرجع سعد ولم يرجع سعيد فكان أبو ضبة إذا رأى رجلاً مقبلاً قال أسعد أم سعيد ثم أنه في بعض مسيره أتى إلى مكان ومعه الحرث بن كعب في الشهر الحرام فقال له الحرث قتلت ههنا فتى هيئته كذا وكذا وأخذت منه هذا السيف فتناوله ضبة فعرفه فقال أن الحديث شجون ثم ضره فعذله فقال سبق السيف العذل فتداولت الشعراء ذلك ونظموه. ومن أحسن ما سمعته فيه قول السراج الوراق: قلت إذ جرد لحظا ... حده يدني الأجل يا عذولي كف عني ... سبق السيف العدل وعلى ذكر العذل والملام ذكرت قول أبي نواس في المدام: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء قال المفضل الضبي دخلت على الرشيد يوماً فقال دلني على بيت أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي وجودة الموعظة وآخره أبقراط في معرفة الدواء فقلت يا أمير المؤمنين لقد هولت علي فقال هو قول أبي نواس: دع عنك لومي ... البيت قلت وبقى

الباب الثالث عشر

لهذا البيت حكاية لطيفة حكاها الحريري في درة الغواص عن حامد بن العباس أنه سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الخمار وقد علق به فأعرض عن كلامه فقال ما أنا وهذه المسألة فجعل حامد منه ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر فسأله عن ذلك فتنحنح القاضي لإصلاح صوته ثم قال الله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها " والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية وقد قال: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها ثم تلاه أبو نواس فقال: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء فأسفر حينئذ وجه حامد وقال لعلي بن عيسى ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله تعالى أولاً ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً وبين الفتيا وأدى المعنى وتبرأ من العهدة فكان خجل على ابن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة. وقال الشيخ صدر الدين ابن الوكيل. إن الذي جعل الهموم عقاربا ... جعل المدام حقيقة درياقها لم يصلب الراووق إلا عندما ... قطع الطريق على المدام وعاقها ومعنفي في الخمر لو قد ذاقها ... ما لامني لكنه ما ذاقها قال أطرح صفراء يطفي خمرها ... لهب القلوب إذا اشتكت احراقها فأجبته ذقها وخذ من بعد ذا ... في طرق لومك إن أردت فراقها وقد أنصف شيخ الشيوخ بحماة حيث قال: أعاذلي ليس مثلي من تفنده ... وليس مثلك مأموناً على عذلي ما دمت خلواً فما تنفك مهتماً ... أعشق وقولك مقبول علي ولي وقال الآخر: لو تعلم الورق حنيني نحوكم ... لمزقت من طرب أطواقها ولو يذوق عاذلي صبابتي ... صبا معي لكنه ما ذاقها حكي أن السلطان صلاح الدين قال يوماً للقاضي الفاضل لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب فلعله ضعيف أمض إليه وتفقد أحواله فملا دخل القاضي إلى دار العماد الكاتب وجد أشياء أنكرها في نفسه مثل آثار مجالس أنس وطيب ورائحة خمر وآلات طرب فأنشده: ما ناصحتك خبايا الود من رجل ... مالم ينلك بمكروه ومن العذل محبتي فيك تأبى ان تسامحني ... بأن أراك على شيء من الذلل الباب الثالث عشر ذكر الإشارة إلى الوصل والزيارة أقول هذا باب عقدناه لذكر الزائر والمزور وما قيل فيهما من منظوم ومنثور وغير ذلك من عيادة الحبيب وما يستدل به عليه من روائح الطيب كما قيل: لو أن ركباً يمموك لقادهم ... نسيبك حتى يستدل بك الركب نعم طالما أهدى الحبيب بزيارته سروراً وأمس له الفضل زائراً ومزوراً كما قيل: فلفضله فالفضل في الحالين له فالزيارة من الحبيب لا تمل ولو ألحق فيها الوابل بالطل ومن أحسن ما قيل في زيارة الحبيب وعوده من قريب قول العكوك: بأبي من زارني مكتتما ... خائفاً من كل شيء جزعا زائراً نم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا رصد الغفلة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا ركب الأهوال في زورته ... ثم ما سلم حتى ودعا وما أحسن قول المعتز: زارني والدجى أحم الحواشي ... والثريا في الغرب كالعنقود وكأن الهلال طوق عروس ... بات يجلى على غلائل سود ليلة الوصل ساعدينا بطول ... طول الله فيك غيظ الحسود وقال الآخر: زارت عله غفلة الرقيب ... كظبية روعت بذيب وكان وقت الوصال منها ... أقصر من جلسة الخطيب قال الشيخ العلامة علاء الدين مغلطاوي في كتابه الواضح المبين أنشدنا عبد العزيز بن سرايا الحلى لنفسه زاعماً أنها أصدق كلمة قالها الأواخر. يقولون لي بالله ما أنت فاعل ... إذا زرارك المحبوب قلت أ ... وقال يعقوب الشيباني:

فصل

قلت إذ زار من أحب وجنح الليل ... روض أبدي النجوم نهاراً ملك الحب زاره ملك الحسن ... فزادا على الوجود اقتدارا فافرشوا الورد أطلسا حين يمشي ... واجعلوا عسجد الكؤس نثارا واصرفوا حاجب الهلال فقد نم ... يسري إلى العيون مرارا واحجبوا أبيض الصباح وقولوا ... لنجاشي الظلام كن برد دارا وعلى ذكر البرد دارا ما أحسن قول الآخر دوبيت: يا ليل بك الثناء والمدح يليق ... إذ أنت لأهل العشق خل وصديق إذ أنت جعلت برد دار الهم ... لا تعط عليهم قط للصبح طريق وقال ابن النبيه: قلت لليل إذ حباني حبيباً ... وغناء يسبي النهي وعقارا أنت يا ليل حاجبي فامنع الصبح ... وكن أنت يا دجى برد دارا وما أحسن قول شمس الدين محمد ابن العفيف. ومليح كالبدر زار بليل ... فجلا حسنه الدجى إذ تجلى ما درى منزلي ولكن قلبي ... بلهيب الجوى هداه ودلا وعجيب منه فقيه ذكي ... بمحل النزاع كيف استدلا وقال الآخر: يا حبيبي وأنت ما ... زلت بالوصل منعما زرتني بعض ليلة ... بت فيها مهموما حين وليت غائبا ... أفل البدر في السما ليت شعري من الذي ... من أخيه تعلما وقال بشار بن برد. يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ... ثنّ ولا تجعلها بيضة الديك قيل أن الديك يبيض في السنة بيضة ولهذا قال بشار ذلك وقال ابن الساعاتي في تاريخه في سنة ست وتسعين وستمائة باض ديك ببغداد وسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به. قلت وأخبرني الآن بعض الصوفية المقيمين عندي بالصهريج أنه باض عندهم ديك بيضة صغيرة وجعل يصيح مثل الدجاجة ثم أقام بعد ذلك سبعة أيام ومات رجع الكلام وقلت أنا. لي حبيب له حبيب مواف ... كل يوم يأتي إليه مرارا قلت زرني فقال حبي عندي ... شغل الحلى أهله أن يعارا وقلت أيضاً من قصيدة. زار الحبيب ووجه الورد خجلان ... فاصفر حين تثنى قده البان قد كان ما كان من هجانه زمناً ... وقد وفى الآن فالعذل لا كانوا ما ضرني ضيق عيشي حين واصلني سم الخياط مع الأحباب ميدان فصل نم الطيب على الحبيب ما أحلى قول ابن سكرة. أهلاً وسلهلاً بمن زارت بلا عدة ... تحت الظلام ولم تحذر من العسس تسترت بالدجى عمداً فما استترت ... وناب اشراقها ليلاً عن القبس ولو طواها الدجى عنا لأظهرها ... برق اللثام وعطر النحر والنفس أخذه المعتمد بن عبادة فقال: ثلاثة منعتها عن زيارتنا ... خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق ضوء الجبين ووسواس الحلى وما ... تحوي معاطفها من عنبر عبق هب الجبين بفضل الكم تستره ... والحلى تنزعه ما حيلة العرق وقال: يوم يقول الرسول قد أدنت ... فأت على غير رقبة ولج أقبلت أهوى إلى رحالهم ... أهدي إليها بريحها الأرج قيل ويستدل بالطيب على السلوك في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين مثل الحمام ومعركة الحرب وموسم الحج وما زالت الشعراء تصف مواطن الحبيب بالطيب كما قال فيه ابن النبيه. إن جاء من يبغي لهم منزلا ... فقا له يمشي ويستنشق وقال محمد بن عبد الله النميري في زينب أخت الحجاج من قصيدة: تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات له أرج من مجمر الهند ساطع ... تطلع رياه من الكفرات يخمرن أطراف البنان من التقى ... ويطلعن نصف الليل معتجرات ومنها ولما رأت ركب النمري أعرضت ... بكره لأن يلقينه حذرات

فصل

ولهذا البيت حكاية لطيفة اتفقت لقائله مع الحجاج وهي مشهورة بين أهل الأدب أضربت عن اثباتها هنا خوف الإطالة وقال الطغرائي: فسر بنا في ظلام الليل معتسفاً ... فنفحة الطيب تهدينا إلى الحلل وقال آخر: وليس نسيم المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف وقال آخر: لو كان يوجد ريح مسك فائح ... لوجدته منهم على أميال وقال ابن الرومي: أعقبته من طيب ذكرك نفحة ... كادت تكون ثناءك المسموعا وقال المتنبي: وتفوح من طيب الثناء روائح ... لهم بكل مكانة تستنشق فصل ومن أحسن ما سمعته في العيادة قول الطغرائي خبروها اني مرضت فقالت ... اضنى طار فاشكا أم تليدا وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا واتتني في خفية وهي تشكو ... ألم الشوق والمزار البعيدا ورأيتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت علي عطفاً وجيدا أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ جمال الدين بن نباتة: وملولة في الحب لما أن رأت ... أثر السقام بعظمي المنهاض قالت تغيرنا فقلت لها نعم ... أنا بالسقام وأنت بالأمراض وما أحسن قول ابن السليمان: وأنا الذي أضنيته وهجرته ... فهل صلة أو عائد منك للذي وقال آخر: لا تهجروا من لا تعود هجركم ... وهو الذي بلبان وصلكم غذى ورفعتم مقداره بالابتدا ... حاشاكمو أن تقطعوا أصله الذي ومن عظيم ما يحكى عن الملك المعظم عيس بن الملك العادل أن شرف الدين بن عنين كتب إليه وهو ضعيف: انظر إليّ بعين مولى لم يزل ... يولى الندى وتلاف قبل تلافي أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثوابي والثناء الوافي فحضر إليه الملك المعظم بنفسه ومعه صرة فيها ثلثمائة دينار وقال أنت الذي وهذه صلتك وأنا العائد قلت وقد استخدم ابن عنين الصلة والموصول وأجاد وعامله الملك المعظم في السبق إلى فهم مقصوده معاملة الجواد ولو وقع هذا من مثل سيبويه لكان أدل دليل على فضله وسداد نبله فما الشأن بوقوعه من هذا الملك المعظم شأنه العظيم سلطانه فكم أقر لابن عنين عيناً ووفى عنه ديناً فغال به السول وطرب من الصلة والعائد بيره الموصول لا جرم أنه ملأ بمدائحه ديوانه وقال فيه م قصائده الطنانة: كريم الثنا عار من العار باسل ... جميل المحيا كامل الحسن والحسني لعمرك ما آيات عيسى خفية ... هي الشمس للأقصى سناها وللأدنى ولي أنا من قصيدة في هذا الوزن أمدح بها مولانا السلطان الملك الناصر مخلصها. تطاول غصن البان يحكي قوامه ... فقلت له والله قد جئت في المعنى ولكن بدراً التم والبحر قصرا ... عن الناصر السلطان في الحسن والحسنى ومن ظريف ما اتفق لابن عنين هذا مع الملك المعظم أنه حضر في وقت بين يديه مع جماعة من الشعراء فقال لهم السلطان لا بد أن تهجوني في وجهي فقبلوا الأرض واستعفوا من ذلك فقال لا بد من ذلك وألح عليهم فقال ابن عنين. نحن قوم ما ذكرنا لامرئ ... قط إلا واشتهى أن لا يرانا فقال له السلطان صدقت فقال: شعرنا مثل ال.... ... .... فقال السطان لا والله قبحك الله. فقال صقع الله به أصل لحانا. رجع الكلام إلى العيادة ما أحسن قول السراج الوراق: قال صديقي ولم يعدني ... وعارض السقم في أثر لقد تغيرت يا صديقي ... ويعلم الله من تغير وقوله أيضاً: مرضت لله قوما ... ما فيهم من جفاني عادوا وعادوا وعادوا ... على اختلاف المعاني ولهذا البيت أشباه ونظائر ذكرتها في كتابي الطارئ على السكردان منها ما حكي عن القاضي أبو بكر ابن العرب وقد وقف على حلقته وهو مشتغل بالعلم شاب مليح وبيده رمح فقال له بعض الفقهاء: اذهب بهذا الرمح فهز الرمح وقال: الساعة أضربك به فأنشد القاضي أبو بكر في الحال لنفسه: يهددني بالرمح ظبي مهفهف ... لعوب بالباب البرية عابث

الباب الرابع عشر

فلو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث وقد سألت جماعة من أهل العلم والأدب عن استخراج الثالث من هذا البيت فلم يجب أحد منهم بطائل. وقال ابن النقيب: سمعت بما تشكو وما أنت واجد ... فظلت دموع العين في الخد تسفح وأرسلت خطى في العيادة نائبا ... وما كل خط للعيادة يصلح وقال المعتمد بن عبادة: مرضت فأمسكت الزيارة عامداً ... وما عن قلى أمسكتها إلا ولا هجر ولكنني أشفقت من أن أزوركم ... فأبصر آثار الكسوف على البدر وقال الشهاب محمود في القول بالموجب: رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا فقالت بعيني هذا السقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضا وأورد في كتابه حسن التوسل قول الأرجاني: غالطتني إذ كست جسمي الضنى ... كسوة أعرت من اللحم العظاما ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما وقلت أنا حين وقفت على قول الأرجاني هذا بديها: شكوت إلى الحبيبة سوء حظي ... وما قاسيت من ألم البعاد فقالت إن حظك مثل عيني ... فقلت نعم ولكن في السواد وما أحسن قول محاسن الشواء ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... ومافيهم إلا للحمي فارض وقد بهتوا لما رأوني شاحباً ... وقالوا به عين فقلت وعارض وقال ابن النقيب: وما بي سوى عين نظرت لحسنها ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي وقالوا به في الحب عين ونظرة ... لقد صدقوا عين الحبيب ونظرتي والأصل في هذا كله: وجاؤا إليه بالتعاويذ والرقي ... وصبوا عليه الماء من ألم النكس وقالوا به من أعين الجن نظرة ... ولو صدقوا قالوا به أعين الإنس وما أحسن قول بلدينا محمد بن عفيف التلمساني في مليح يعمل الكوافي. إسم حبيبي وما يعاني ... قد شغلا خاطري ولبي قالوا علي فقلت قدراً ... قالوا كوافي فقلت قلبي وقول الشيخ صدر الدين بن الوكيل: وبي من قسا قلباً ولان معطفا ... إذا قلت أدناني يضاعف تبعيدي أقر برقي إذ أقول أنا له ... وكم قالها أيضاًولكن لتهديدي وقال السراج الوراق: قالوا وقد ضاعت جميع مصالحي ... لهموم نفس ليت لا حملتها قد كان عندك يا فلان صريمة ... فأجبتهم بعت الحمار وبعتها الباب الرابع عشر الرقيب النمام والواشي الكثير الكلام أقول هذا باب عقدناه لذكر كل رقيب غائر العين كثير المين يرى المحب بعين المقت في كل وقت ويرميه في الحضرة والمغيب بكل سهم مصيب فكم ترك المحب مضني وأفقره فيمن أحب وما أستغني فهو كالصبح قاطع اللذات تعيس الحركات قبيح المنظر سيء المخبر كثير اللجاج حجر في دكان زجاج فهو والنمام في الأذى فرسار هان رضيعاً لبان ومن أبلغ ما سمعته في الرقيب. أنا والحب ما خلونا ولا طر ... فة عين إلا علينا رقيب ما خلونا بحيث أن يمكن الدهر ... بأن أقول أنت الحبيب بل خلونا بقدر ما قلت أنت ... ألح فراقي فقلت كيم الطبيب وقول ابن المعتز: وإبلائي في محضر ومغيب ... من حبيب مني بعيد قريب لم تر دماء وجهه العين إلا ... شرقت قبل شربها برقيب وقال أيضاً: وقد دنت الشمس للمغيب ... وحان سوقي إلى الحبيب طوبى لمن عاش عشر يوم ... له حبيب بلا رقيب قيل لبعض العرب ما أمتع لذات الدنيا فقال ممازجة الحبيب وغيبة الرقيب قال الصاحب ابن عباد: قال لي أن رقيبي سيّء الخلق فداره ... قلت دعه وجهك الجنة حفت لمكاره وقال آخر: سهم الحب جرح في فؤادي ... وذاك الجرح من عين الرقيب يوكل ناظريه بنا ويحكي ... مكان الكاتبين من الذنوب فلو سقط الرقيب من الثريا ... لصب على محب أو حبيب وقال آخر:

يسقيك من كفه مداما ... ألذ من غفلة الرقيب كأنها إذ صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب وقال أبو نواس: لاحظته فتبسما ... وخلا المكان فسلما وبدا الرقيب فقلت لا ... سلم الرقيب من العمى وقال الصفي الحلي: ومليح له رقيب قبيح ... يتعنى وغيره يتهنى ليس فيه معنى يقال ولكن ... هو عند النجاه جاء لمعنى وقال آخر قالت صفا الوقت ولكن الرقيب كالقذى ... قلت إذا غاب الرقيب أرضني قالت إذا وقال آخر: أحب العذول لتكراره ... حديث الحبيب على مسمعي وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... يكون إذا كان حبي معي وقال أبو جعفر أحمد بن الأبار. زارني خفية الرقيب مريبا ... يتشكى القضيب منه الكئيبا قال لي ما ترى الرقيب مطلا ... قلت زره أتى الجناب الرحيبا عاطه كؤس المدام دراكا ... وادرها عليه كوباً فكوبا واسقنيها بخمر عينيك صرفا ... واجعل الكأس منك ثغراً شنيبا ثم لما أن نام من نتقيه ... وتلقى الكرى سميعاً مجيبا قال لا بد أن تدب عليه ... قلت أبغي رشا وآخذ ذيبا قال فإبدأ بنا واثن عليه ... قلت كلا لقد رأيت عجيبا فوثبنا على الغزال ركوبا ... ودببنا على الرقيب دبيبا هل رأيتم أو هل سمعتم بصب ... ناك محبوبه وناك الرقيبا قال ابن بسام لقد تظرف ابن الأبار وأبر وأحسن ما شاء وقدر وأظنه لو قدر على إبليس الذي تولى هذا المذهب لدب عليه ولم يخلص من يده وابن المعتز كنى ولم يصرح حيث قال. فكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خبرا ولا تسأل عن الخبر وقال أبو نواس: إذا هجع النيام فخل عني ... وعمن كان يصلح للدبيب ألذ النيك ما كان اغتصابا ... بمنع الحب أو خوف الرقيب وقال أبو الوليد محمد بن حسان الحنفي: نشر النسيم بعرفكم يتعرف ... وأخو الغرام بحبكم يتشرف شرف المتيم في هواكم أنه ... طوراً ينوح وتارة يتلهف صب إذا كتم الغرام ولم يبح ... نمت عليه به الدموع الذرّف لطفت معانيه فهب مع الصبا ... ورقيبه يهبو به لا يعرف لم يدر زورته الرقيب لأنه ... أخفى عليه من النسيم وألطف وكأنما يفد النسيم دياركم ... وله على تلك الديار توقف قال عروة بن عبد الله: كان عروة ابن أذينة الليثي نازلاً في دار أبي العقيق فسمعته ينشد لنفسه: إن التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع لضمير إلى الفؤاد فسلها بيضاء باكرها النغيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو حلها منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ماكان أكثرها لنا وأقلها فدنا وقال لنا لعلها معذورة ... في بعض رقبتها فقلت لعلها فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد الترحيب والبشر ألك حاجة قال نعم أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها فأنشدته الأبيات فلما بلغت إلى قول فدنا وقال لعلها معذورة طرب وصاح وقال هذا والله الدائم الصبابة الصادق لا كالذي يقول: إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عني فأهلي بي أضن وأرغب لقد عد الأعرابي طوره وأني لأرجو أن يغفر الله لصاحب هذه الأبيات لحسن ظنه بها وطلب العذر لها قال فعرضت عليه الطعام فقال لا والله ما كنت لأخلط بهذه الأبيات طعاماً حتى الليل وانصرف. وقال ابن رشيق: تأذى بلحظي من أحب وقال لي ... أخاف من الجلاس أن يفطنوا بنا وقال إذا كررت لحظك دونهم ... علي فما يخفى دليل مريبنا فقلت بلينا بالرقيب فقال ما ... بلينا ولكن الرقيب بلي بنا وقال آخر:

فصل

ورقيب عدمته منن رقيب ... أسود الوجه والقفا والصفات هو كالليل في الظلام وعندي ... هو كالصبح قاطع اللذات وسألت في وقت صاحبنا الشيخ برهان الدين القيراطي هل تحفظ شيأ مليحاً في هجو الرقيب فسكت لحظة وأنشدني لنفسه: قال لي صاحب يروم قريضا ... في هجاء الرقيب فهو قبيح عندكم في الرقيب شيء مليح ... قلت ما في الرقيب شيء مليح وقلت أنا من قصيدة: فديتك قد غاب الرقيب فغن لي ... وقل في ثقيل نحسه متغيب رقيب نفى عن أرض ليلى عشية ... وأخرج منها خائفاً يترقب وقلت أيضاً: عاذلي في الحبيب دعني فإني ... برحت بي في حبه البرحاء راقب الله في محب حبيب ... من نجوم السمالة رقباء وقلت أيضاً من قصيدة: فبت ولي شغل عن العذل شاغل ... يذود الكري عني من السهد ذائد وقلت أيضاً من رسالة: وأما الرقيب فأمره عجيب وغلق الباب في وجهه نصر من الله وفتح قريب فهو بالنهار من الذين يراؤون وبالليل ابن فاعلة لا ينام ولا يخلي الناس ينامون فأذاه إذا ورد من بعيد أقرب من حبل الوريد والعاشق بينه وبين العذول ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فهو إن قعد قامت القيامة وإن راح لا كتب الله عليه سلامة. فصل النمام والواشي وما أظرف ما سمعت في ذلك قال لي عودي غداة رأوني ... ما الذي تشتهيه واجتهدوا بي قلت مقلي به لسان وشاة ... قطعوه فيه بصنع عجيب وأضافوا إليه كبد حسود ... فقئت فوقها عيون رقيب وهذا مأخوذ من كلام بعض العشاق وقد قيل له ما الذي تشتهيه. فقال أعين الرقباء وألسن الوشاة وأكباد الحساد. وقال آخر: لي عندهم يوم التواصل دعوة ... يا معشر الجلساء والندماء أشوي بها قلوب الحاسدين بها ... وألسنة الوشاة وأعين الرقباء وقال صلى الله عليه وسلم " أبغضكم إلي المشأون بالنميمة المفرقون بين الأحبة ". وقال صلى الله عليه وسلم " أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى منهم: رجل يأكل لحوم الناس ويمشي بالنميمة ". وقال وضاح اليمني: فاعص الوشاة فإنما ... قول الوشاة هو الفتن إن الوشاة إذا أتو ... ك تنصحوا ونهوك عن حكي أنه غنى معن بحضرة السلطان عماد الدين زنكي صاحب الشام بقول الشاعر: ويلي من المعرض الغضبان إذ نقل ... الواشي إليه حديثاً كله زور سلمت فازور يثني قوس حاجبه ... كأنني قوس خمر وهو مخمور فاستحسنهما السلطان وقال: لمن هما. فقيل: لابن منير فأمر بإحضاره ليتخذه نديماً ويحله من حضرته مقاماً عظيماً. وقال السري: وألقاك بالبشر الجميل مداهناً ... فلي منك خل ما علمت مداهن أنتم بما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن وقال شهاب الدين الأثير: إني بحبك مستهام مغرم ... وسوى هواك على القلوب محرم لا تسمعي قول الوشاة فإنهم ... زادوا الكلام ونقصوه وتمموا فمناي أن ترضي ولو بمنيتي ... أي الطلاق ثلاثة لي يلزم وقال آخر: شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستبيح دم الحجاج في الحرم خصاله لست أحصيها لكثرتها ... لكتها جمعت في نون والقلم يشير إلى قوله تعالى هما زمشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم وجاء في التفسير إن الهماز الذي يهمز الناس أي يذكرهم بالمكروه ويأكل لحومهم بالطعن والغيبة. وعن الحسن هو الذي يلوي شدقيه في أقفية الناس وقيل الهمزة المؤاخذ بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب وقيل بالعكس وقيل الهمزة جهراً واللمزة سراً بالحاجب والعين والنمام ناقل الكلام السيء وقد أكترث الشعراء من ذمه وخالفهم ابن رشيق فقال: لم كره النمام إخواننا ... أساء إخواني وما أحسنوا إن كان نماماً فمعكوسه ... من غير تكذيب لهم مأمن وقال آخر:

الباب الخامس عشر

اسمع نصيحة عارف ... جمع النصيحة والمقه إياك واحذر أن تكو ... ن من الثقاة على ثقة وقال آخر: ومجلس راق من واش يكدره ... ومن رقيب له باللوم إيلام ما فيه ساع سوى الساقي وليس به ... بين الندامى سوى الريحان نمام وقال آخر: لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوام كيف يخفي ما أكابده ... والذي أهواه نمام وقال الشيخ صدر الدين بن الوكيل: أخفيت حبك عن جميع جوارحي ... فوشت عيوني والوشاة عيون ووددت أن جوانحي وجوارحي ... مقل تراك وما لهن عيون يا ليت قيساً في زمان صبابتي ... حتى أريه العشق كيف يكون الباب الخامس عشر العتاب عند اجتماع الأحباب وما في معنى ذلك من الرضى والعفو ؟ عن ما مضى أقول هذا باب عقدناه لذكر معاتبة الذمن الأماني وبث هوى أرق من النسيم المتواني نعم في العتاب فوائد جمة وإزالة كرب فلا يكن أمركم عليكم عمة وهو على أقسام عتاب هو في تأكيد المودة يحصل الحاصل وعتاب لتكذيب الناقل وعتاب التمييز الحق من الباطل ومن العلوم أن للعتاب بين الأحباب أصلاً وفضلاً وقطعاً ووصلاً لا بد منه ولا غناء عنه اللهم إلا عند من لا يراه البتة ولا يعاتب الحبيب إلا فلتة كالبحتري حيث يقول: أعاتب الحب فيما جاء واحدة ... ثم السلام عليه لا أعاتبه وفي أمثال العرب أسوأ الآداب كثرة العتاب: وقال الأحنف: العتاب مفتاح التقالي والعتاب خير من الحقد. وقد قال بشار في تقليل العتاب: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه إذا كنت لم تشرب مراراً على القذي ... ظمئت وأي الناس راقت مشاربه وقال سعيد بن حميد الكاتب. أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول وقال آخر: وبعض العتاب إذا ما رفعت ... يباعد هجر أو يدلي وصالا فعاتب أخاك ولا تجفه ... فإن لكل مقام مقالا ومن أظرف ما سمعته في من جفى من الأحباب ثم بادر بالعتاب قول بعضهم: عتبت علي ولا ذنب لي ... بما الذنب فيه ولا شك لك حاذرت لومي فبادرتني ... إلى اللوم من قبل أن أبدرك فكنا كما قيل فيما مضى ... خذ اللص من قبل أن يأخذك ومنهم من يكره العتاب جملة ويقول وهو مفتاح الهجر ووسيلة الصدود. والقطيعة كما قيل: لا تقر عن سماع من ... تهوى بتعداد الذنوب ما ناقش الأحباب إلا ... من يعيش بلا حبيب ومنهم من يراه ولا يأباه كما قيل: تصالح عاشقان على عتاب ... فما افترقا إلى يوم الحساب فلا عيش كوصل بعد هجر ... ولا شيء ألذ من العتاب فلا هذا يمل حديث هذا ... ولا هذا يمل من الجواب وقال آخر: وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فإين حلاوة الرسائل والكتب كتب الحسن إلى غلام كتاباً يستعطفه فوقع الغلام في كتابه يزاد هجراً إلى يوم القيامة فقال الحسن: كتبت إلى الحبيب ببيت شعر ... أعاتبه فاغضبه جوابي أجبني يا ملول على كتابي ... فإن النفس تسكن بالجواب قوقع في الكتات يزاد هجراً ... وإبعداً إلى يوم الحساب وذكرت هنا قول ابن رشيق وقلبي من بني الكتاب يسبي ... قلوب العاشقين بمقلتيه رفعت إليه أستقصي رضاه ... وأسأله خلاصاً من يديه فوقع قد رددت فؤاد هذا ... مسامحة فلا يعدى عليه وقال الشيخ العلامة أبو الثناء شهاب الدين محمود مضمناً. وبتنا على حكم الصبابة مطمعي ... زفيري وأحشائي وشرب المدامع وحبي يعاطيني كؤس ملامة ... وينشدني والهم للقلب صادع

فصل في العفو والرضى

أتطمع من ليلى بوصل وإنما ... تقطعت أعناق الرجال المطامع فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنياً بها السم ناقع قلت هذا التضمين فيه نظر وعبرة لمن اعتبر وكيف لا وقد مزج قائله السم بالرضاب والحق الحبيب بالحباب فأصبح وقد ضاقت عليه الحيلة وشبه ثغر محبوبه بأنياب ضئيلة فقابل صفو عتابه بالكدر فيا قلبه القاسي أحديد أنت أم حجر وما أظنه ملا كؤس هذا الملام إلا من ماء ملام أبي تمام حيث تجاوز الحد في الاستعارة وخرج وعلى كتفه من الملام كاره فقال: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي فهلا تنزه عن الانخراط في هذا السلك واقتدى بقول ابن سنا الملك. وأملي عتاباً يستطاب فليتني ... أطلت ذنوبي كي يطول عتابه وفي غزلي ذكر العذيب وبارق ... وما هو إلا ثغره ورضا به أو تخلق بأخلاق الناس وتأسى. يقول أبي فراس: أساء فزاده الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان من حبيب يعد على الواشيات ذنوبه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب على أنه رحمه الله يجوز أن يكون قصد معنى جليل القدر فحينئذ يكون كلامي حديث خرافة يا أم عمرو. وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وقال آخر. وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وأحسن منه قول عتيق بن محمد الوراق. كلما أذنب أبدى وجهه ... حجة فهو مليّ بالحجج كيف لا يفرط في إجرامه ... من إذا شاء من الذنب خرج وقال الحكم بن قنبر المازني: كأنما الشمس من أعطافه لمعت ... حسناً والبدر من أزراره طلعا مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الإساءة معذور بما صنعا في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفع وهذا مأخوذ من قول أبي نواس في سياقه. وجهي إذا أقبلت يشفع لي ... وبلاء طرفك حسن ما خلفي وفيه زيادة بذكر ما خلفها ولكن بيت الحكم بناء وأعذب ثناء. وقال أبو فراس: قل لأحبابنا الجناة علينا ... درجونا على احتمال الملال أحسنوا في فعالكم أو أسيؤوا ... لا عدمناكم على كل حال وقال أيضاً: ألا أيها الجاني ونسأله الرضا ... ويا أيها المخطي ونحن نتوب لحا الله من يرعاك في القرب وحده ... ومن لا يرد الغيب حين تغيب وقال الآخر: إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر وقال الآخر. وإذا ما غضبت يوماً عليه ... لذنوب يطول فيها المقال عطفتني عواطف الحب حتى ... أترضاه كي يزول الملال وقال الآخر: حججي عليك إذا خلوت كثيرة ... وإذا حضرت فإنني مخصوم لا أستطيع أقول أنت ظلمتني ... والله يعلم أنني مظلوم وقال القراء: ولو كان هذا موضع العتب لاشتفى فؤادي ولكن للعتاب مواضع. وقال ابن المعتز: أقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن ير عندك فيما قال أو فجراً فقد اطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستتراً وقلت أنا من رسالتي قرع الباب وبأنتظار الجواب فنعوذ بالهل من زلة العاقل وتبرأ إليه من التمادي في الباطل. وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني من بنيات الطريق فقد حصحص الحق وقرع العتاب حلقة الباب فقال طق. وقال الآخر: وهبه أرعوي بعد العتاب ألم تكن ... مودته طبعاً فصارت تكلفا وكأنني بمولانا وقد وقف على عتبة العتاب وقال من دق الباب سمع الجواب فأجابهم: فإن كنتم تلقون في ذاك كلفة ... دعوني أمت وجداً ولا تتكلفوا ؟ فصل في العفو والرضى ؟ والصفح عما مضى جاء عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى " فاصفح الصفح الجميل " إنه الرضا بغير عتاب وقال تعالى: " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يقبل من معتذر صادق وكاذب لم يرد على الحوض ". وقال الشاعر:

الباب السادس عشر

ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه فخذ بحقك أولاً ... فاصفح بفضلك عنه إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه وقال آخر: ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما عن غير ذي ناصر يا غاية القصد وأقصى المنى ... وخير مرعى مقلة الناظر إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فما له غيرك من غافر أعوذ بالود الذي بيننا ... أن تفسد الأول بالآخر كان أبو محمد اليزيدي ينادم المأمون فغلب عليه الشراب ذات ليلة فعربد فأمر المأمون بحمله إلى منزله برفق فلما أفاق استحيا وانقطع عن الركوب أياماً فلما طال عليه ذلك كتب إلى المأمون أبياتاً منها. أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت وما إن يستوي السكر والصحو ولا سيما أن كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما أن يجوز به اللغو فلما قرأها المأمون وقع في الرقعة سر إلينا فقد عفونا عنك فلا عتب عليك وبساط النبيذ يطوي معه أخذه الشاعر فقال: إنما مجلس الشراب بساط ... فإذا ما انقضى طوينا بساطه وقال ابن سنا الملك: وما ذلك الحبيب فإنه حضر متفضلاً وجاء متذللاً لا متدللاً واستجار بحرم الحرمة وخفض جناح الذل من الرحمة واعتذر بأن الإدلال دلاه بغرور وأوقعه في أمور وأخرجه من الظمات إلى النور فقبل عذره وقبل ثغره وامتثل أمره وثنى عنان القلب إليه حسن تثنيه وأذهبت حلاوة جني ريقه مرارة تجنيه. وذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسته بألف شفيع وقال الآخر: وزعمت بأني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ فنعم ظلمتك فاعذري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائد وقال ابن زيدون: يا قمراً مطلعه المغرب ... قد ضاق بي في حبك المذهب ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت فاصفح إنني المذنب فإن من أغرب ما مر بي ... أن عذابي فيك مستعذب وقال آخر: وما قابلت عفوك باعتذار ... ولكني أقول كما تقول سأطرق باب عفوك باعتذار ... ويحكم بيننا الخلق الجمول الباب السادس عشر إغاثة العاشق المسكين إذا وصلت العظم السكين أقول هذا باب عقدناه لذكر أكثر الناس فتوة وأغزرهم مروة وأرقهم قلباً وأحسنهم مربى ممن أصبح بين المحبين قديم هجر وهجرة وأمس له بكؤس المحبة ألف سكرة لا جرم أنه أعان ذوي المحبة ووازن بنفسه من في قلبه من الغرام مثقال حبة فسعى في إصلاح حاله وساواه بنفسه وماله والله القائل في هذا المعنى. قف مشوقاً أو مسعداً أو حزيناً أو معيناً أو عاذراً أو عذولاً فإن كنت خالياً من ذلك كله. أعني بأطماع كذوب على النوى إذا لم تقاتل يا جبان فشجع قلت أولا أقل من ذلك يا ابنة مالك والهل القائل في ذلك: لو تعلم الناس من شوقي ومن كافي ... ما بت أعلمه استسقوا بميعاد واستشفعوا لي إلى ألفي بأجمعهم ... وجاء عائدهم في ذي قوّاد ومن أعجب ما سمعته في إغاثة العاشق والأخذ بثأره وما حكاه الجاحظ قال بلغني أن عاشقاً مات بالهند عشقاً فبعث ملك الهند إلى المعشوق فقتله. وقال الخرائطي كان رجل نحاس عنده جارية لم يكن له سلوة غيرها وكان يعرضها في المواسم فتغالي الناس فيها حتى بلغت مبلغاً كثيراً من المال وهو يطلب الزيادة فعلقها رجل فقير فكاد عقله أن يذهب فلما بلغه ذلك وهبها له فعوتب في ذلك فقال أني سمعت الله يقول: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً " أفلا أحيي الناس جميعاً. وحكى الخرائطي أنه كان لبعض الخلفاء غلام وجارية من غلمانه وجواريه متحابين فكتب الغلام إليها يوماً. ولقد رأيتك في المنام كأنما ... عاطيتني من ريق فيك البارد وكأن كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعاً في فراش واحد فطفقت نومي كله متراقدا ... لأراك في نومي ولست براقدا فأجابته الجارية:

خيراً رأيت وكل ما أبصرته ... ستناله مني برغم الحاسد إني لأرجو أن تكون معانقي ... فتبيت مني فوق ثدي ناهد وأراك بين خلاخلي ودمالجي ... وأراك فوق ترائبي ومجاسدي فبلغ الخليفة خبرهما فأنكحهما وأحسن إليهما على شدة غيرته. وقال أبو الفرج بن الجوزي سمع المهلب فتى يتغنى في جارية له فقال المهلب. لعمري إني للمحبين راحم ... وإني ببر العاشقين حقيق سأجمع منكم شمل ودّ مبدّد ... وإني بما قد ترجوان خليق ثم وهبها له ومعها خمسة آلاف دينار وروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه جاءته جارية تستعدي على رجل من الأنصار فقال لها عثمان ما قصتك فقالت يا مير المؤمنين أحب ابن أخيه فما أنفك أراعيه فقال له عثمان أما أن تهبها لابن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال أشهدك يا أمير المؤمنين أنها لابن أخي، وأتى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له لست بسارق ولكني أصدقك. تعلقت في دار الرياحي خودة ... يذل لها من حسنها الشمس والبدر لها في بنات الروم حسن ومنصب ... إذا افتخرت بالحسن صدقها الفخر فلما طرقت الدار من حر مهجة ... أبيت وفيها من توقدها جمر تبادر أهل الدار بي ثم صيحوا ... هو اللص محتوماً له القتل والأسر فلما سمع علي شعره رق له وقال للمهلب اسمح له بها ونعوضك عنها فقال يا أمير المؤمنين اسأله لنعرف نسبه فقال النهاش بن عتبة العجلي فقال خذها فهي لك. وحكى التميمي في كتابه امتزاج النفوس أن معاوية بن أبي سفيان اشترى جارية من البحرين فأعجب بها إعجاباً شديداً فسمعها يوماً تنشد أبياتاً منها. وفارقته كالغصن يهتز في الثرى طريراً وسيما بعدما طرشار به فسألها فقالت له هو ابن عم لي فردها إليه وفي قلبه منها شرر النيران وذكر الخوائطي أن المهدي خرج إلى الحج حتى إذا كن بزبالة وجلس يتغدى إذا بشاب بدوي دخل عليه وبكى وقال يا أمير المؤمنين إني عاشق ورفع صوته فقال للحاجب ويحك ما هذا قال إنسان يصيح أني عاشق قال أدخلوه فأدخلوه فقال من عشيقتك قال ابنة عمي قال ألها أب قال نعم قال فماله لا يزوجك بها قال ههنا شيء يا أمير المؤمنين قال ما هو قال إني هجين والهجين الذي أمه ليست بعربية قال له المهدي فما يكون قال إنه عندنا عيب فأرسل في طلب أبيها فأتى به فقال هذا ابن أخيك قال نعم قال فلم لا تزوجه كريمتك فقال له مثل مقالة ابن أخيه وكان من أولاد العباس عنده جماعة فقال هؤلاء كلهم بنو العباس وهم هجن فما الذي يضرهم من ذلك قال هو عندنا عيب فقال له المهدي زوجه إياها على عشرين ألف درهم عشرة آلاف للعيب وعشرة آلاف مهرها قال نعم فحمد الله وأثنى عليه وزوجه إياها وأتى ببدرتين فدفعهما إليه فأنشأ الشاب يقول: ابتعت ظبية بالغلاء وإنما ... يعطي الغلاء لمثلها أمثالي وتركت أسواق القباح لأهلها ... إن القباح وإن رخصن غوالي وعرض خالد بن عبد الله القسري سجنه يوماً فكان فيه يزيد بن فلان العجلي فقال له خالد في أي شيء حبست يا يزيد قال تهمة أصلح الله الأمير قال أفتعود إن أطلقتك قال نعم أيها الأمير وكره أن يعرض بقصته لئلا يفتضح معشوقه فقال خالد حضروا رجال الحي حتى نقطع يديه بحضرتهم وكان ليزيد أخ فكتب شعراً ووجه به إلى خالد. أخالد هذا مستهام متيم ... رمته لحاظ أنه غير سارق اقر بما لم يأته المرء إنه ... رأى القطع خيراً من فضيحة عاتق ولو الذي قد خفت من قطع كفه ... لألفيت في أمر له غير ناطق إذا أبدت الرايات للسبق في العلا ... فأنت ابن عبد الله أول سابق فلما قرأ خالد الأبيات علم صدق قوله فأحضر أولياء الجارية فقال زوجوا يزيد فتاتكم فقالوا أما وقد ظهر عليه ما ظهر فلا فقال إن لم تزوجوه طائعين لتزوجونه كارهين فزوجوه ونقد خالد المهر من عنده وذكر أحمد بن الفضل الكاتب أن غلاماً وجارية كانا في كتاب فهواها الغلام فلم يزل يتلطف بمعلمه حتى صيره قريباً منها فلما كان في بعض أيامه في غفلة من الغلمان كتب في لوح الجارية.

الباب السابع عشر

ماذا تقولين فيمن شفه سقم ... من طول حبك حتى صار حيرانا فلما قرأته الجارية أغرورقت عيناها بالدمع رحمة له وكتبت تحته: إذا رأينا محباً قد أضر به ... طول الصبابة أوليناه إحسانا جاء المعلم فسمع ذلك منمهما فأخذ اللوح وكتب هذين البيتين. صلي العريف ولا تخشين من أحد ... أمسى العريف صغير السن ولهانا أما الفقيه فلا يسطو عليه أذى ... فإنه قد بلي بالعشق ألوانا وذكر الخرائطي عن أبي عساف قال مر أبو بكر رضي الله عنه بجارية وهي تقول: وهويته من قبل قطع تمائمي ... متماشياً مثل القضيب الناعم فسألها أحرة أنت أم مملوكة فقالت مملوكة فقال من هواك فتلكأت فأقسم عليها فأنشدت: وأنا التي لعب الغرام بقلبها ... قتلت بحب محمد ابن القاسم فاشتراها من مولاها وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب وقال هؤلاء فتن الرجال فكم والله قد مات بهن كريم وعطب بهم سليم ودخلت عزة على أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز وكانت من العابدات فقالت لها ما معنى قول كثير: قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ما كان هذا الدين قالت وعدته قبلة ومطلته ثم خرجت منها فقالت أنجزيها وعلي إثمها حدث محمد بن عبد الله بن أبي مليكة عن أبيه عن جده قال دخل عبد الرحمن ابن أبي عمار وهو يومئذ فقيه الحجاز على نخاس يعرض جواري فعشق منهن واحدة واشتهر بذلك حتى مشى إليه عطاء وطاوس ومجاهد يدلونه فكان جوابه. يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فلا أبالي أطار اللوم أم وقعا فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فلم يكن همه غيره فبعث إلى سيد الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم وأمر قيمة جواريه أن تطيبها ففعلت ودخل الناس عليه فقال مالي لا أرى ابن أبي عمار فأخبر أنه منقطع في منزله لفرط ما به فأتاه ابن جعفر فلما رآه أراد أن ينهض فاستجلسه وقال له ما فعل حب فلانه قال هو في اللحم والدم والعصب والعظام قال أتعرفها إن رايتها قال أو أعرف غيرها قال فأنا قد ضممنا إليها واحدة والله ما نظرت إليها وأمر بها فخرجت في الحال إليها فقال هي هذه قال نعم بأبي أنت وأمي قال فخذ بيدها فقد جعلتها لك أرضيت قال أي والله وفوق الرضا فقال له ابن جعفر لكن والله لا أرضى أن أعطيكها هكذا احمل إليه يا غلام مائة ألف درهم. الباب السابع عشر ذكر دواء علة الجوى أقول هذا باب عقدناه لذكر دواء الحب الذي أعجز أهل الطب فهم فيه حيارى سكارى وما هم بسكارى على أن الذي أجمعوا عليه وأشاروا إليه أنه لا شفاء من هذا الداء العضال إلا بطيب الوصال مثل غمز النهدين وقرع الشفتين والتصاق البدنين. ؟؟؟؟؟؟ رأيت الحب ليس له دواء ... سوي وضع الصدور على الصدور ولا سيما ممن بدت نهوده وتوردت خدوده وعذب مذاقه وطاب عناقه. اعانقه والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد العناق تداني وألثم فاه كي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان كأن فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن ترى الروحان يمتزجان وقال الآخر: شفاء الحب تقبيل وشمّ ... ووضع للبطون على البطون ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون وقال آخر: أسقم قلبي ثم لم يبره ... عاقد زنار على خصره لا تلتقي روحي مع جسمه ... حتى أرى صدري على بطنه وقال أبو جعفر العدوي: فسكر الهوى أدوى لعظمي ومفصلي ... إذا سكر الندمان من لذة الخمر وأحسن من قرع المثاني ونقرها ... تراجع صوت الثغر يقرع للثغر وقال أبو دهقان: حدثنا عن بعض أشياخه ... أبو هلال شيخنا عن شريك لا يشتفي العاشق مما به ... بالشم والتقبيل حتى.... وقال في الأغاني قال ابو العيناء أنشدت أبا العير قول المأمون: ما الحب إلا قبل ... وغمز كف أو عض ومن لم يكن ذا حبه ... فإنما يبغي الولد ما الحب إلا هكذا ... إن نكح الحب فسد

فقال كذب المأمون وأكل من ... رطلين وربعاً بالميزان وأخطأ وأساء الأدب هلا قال كما قلت أنا: وباض الحب في قلبي ... فوا ويلا إذا فرخ وما ينفعني الحب ... إذا لم أكسر البربخ وإن لم يطرح الأصلع ... فزجيه عن المطبخ ثم قال لي كيف رأيت قلت عجباً من العجب قال كنت ظننت أنك تقول غير هذا قابل يدي فارفعها قلت قول المأمون إن نكح الحب فسد هذا على قول من يرى ذلك كما ذكر المرزباني أن أعرابياً قال علقت أمرأة كنت آتيها فأخذتها وما جرت بيننا ريبة قط إلا أني رأيت بياض كفها في ليلة ظلماء فوضعت يدي على يديها فقالت مه لا تفسد ما صلج فإنه ما نكح الحب إلا فسد. وحكى عن بعض الأدباء أنه كان يعشق جارية فقالت أنت صحيح الحب كامل الوفاء فقال نعم قالت فامض بنا حيث شئت فلما حصل في منزله لم يكن همه إلا أن رفع ساقيها وجعل يجامعها بجميع جوارحه فقالت له وهي في القالب. أصرفت في ني ... وال ... مصلحة ... فارفق بفضلك إن الرفق محمود فأجابها وهو في عمله لا يفتر: ولم أ ... ذ ... من تبقى مودته ... لكن ذ ... هذا ذ ... مجهود فنفرت من تحته وقالت يا فاسق أراك على خلاف ما قلت كأنك تجعل جماعي سبباً لذهاب حبك والله لا جمعني وإياك سقف بعد هذا أبداً وعلى هذا القول جماعة أعني أن الحب إذا نكح فسد ومنهم من قال لا يستحكم الحب إلا بعد إيقاع الوطء وأنه إذا وقع الوطء ازدادت المحبة ويسمونه مسمار المحبة كما قيل: لم يصف حب لمعشوقين لم يذقا ... وصلاً يجل على كل اللذاذات وقال هدبة بن الخشرم: والله لا يشفى الفؤاد الهائما ... نفث الرقي وعقدك التمائما ولا الحديث دون أن تلازما ... وتعلق القوائم القوائما وقال آخر: قولا لعاتكة التي ... في نظرة قضت الوطر إني أريدك للنكاح ... ولا أريدك للنظر لو كنت مقتنعاً بذ ... لك كان هذا للقمر كان زهير بن مسكين يهوى جارية واستهام بها فلما أمكنته من نفهسا لم تر عنده ما يرضيها فذهبت ولم ترجع إليه بعد فقال فيها أشعاراً كثيرة منها: تقول وقد قبلتها ألف قبلة ... كفاك أما شيء لديك سوى القبل فقلت لها حب على القلب حفظه ... وطول سهاد تستفيض له المقل فقالت وأيم الله ما لذة الفتى ... من الحب في قلب يخالفه العمل وأما نكاح الطيف فاختلفوا فيه فذهب أبو تمام الطائي إلى أنه لا يفسد الحب بخلاف نكاح الحقيقة وخالفه في ذلك جماعة ومنهم من إذا أفضى إلى معشوقه اقتصر على الرشف وعفة النفس وخوف الوقوع في الكبيرة إذا كان محبوبه ممن لا يجوز له نكاحه كما قيل: ولرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع وقال آخر: أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات القلب والبصر لا يضمر السوء إن طال الوقوف به ... عف الضمير ولكن فاسق النظر وقال آخر: خود حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام وسيأتي ما ورد في هذا المعنى في باب العفاف والثاني ما قاله العلماء في أسباب الباه وهو أن شهوة القلب ممتزجة بلذة العين وحب النفس معقودة باختيار الطبائع إلا ان يكون الحب تكلفاً لاستفراغ ماء الشهوة فيصير الحرص على الجماع على قدر الهوى والهوى على قدر المؤانسة فيمن وافقت عينه قلبه ونفسه طباعه ممن يحب تمكن حبه وارتفعت عنه شهوة الجماع فوقع فيما تكره المرأة من الرجل كما قيل: رأت حبي سعاد بلا جماع ... فقالت حبلنا حبل انقطاع إذا المحبوب لم يك ذا ممر ... رأى المعشوق كالشيء المضاع وزعم بعضهم أن من جملة ما يتداوى به من لم يفز بالظفر السفر كما قال بعضهم: إذا ما شئت أن تسلو حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي وقال آخر: وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأن النأي يشفي من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد

على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود وقال الآخر: وقالوا دواء الحب حب يزيله ... لآخر أو طول التمادي على الهجر وقال آخر: تداويت من ليلى بليلى من الهوى ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمر وذكر الحافظ أبو عبد الله البخاري في تاريخه بإسناده أن محمد بن داود صنع خاتماً ونقش عليه سطرين الأول وما وجدنا لأكثرهم من عهد الثاني فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وكان إذا رأى رجلاً يلح بالنظر إلى الأحداث قال له اقرأ ما على الخاتم فلعله ينتهي عن ذلك والله أعلم. وقال شمس الدين ابن الأكفاني في كتابه غنية اللبيب عند غيبة الطبيب ما نصه إذا شرب العاشق طبيخ الحرمل سلا العشق وكذلك النيلج الهندي إذا شرب منه أربع شعيرات بالماء قبل أن يتمكن منه العشق سلا وكذلك الحجر الموجود بعض الأوقات في أجواف الدجاج إذا رمي في ماء وشربه العاشق سلا وكذلك أن علق عليه أيضاً وكذلك حجر السلوان ومحكه باللبن ومن علق عليه حجر الللقق وهو عاشق سلا وإن كان حزيناً زال حزنه ومن كان عاشقاً لذكر وتمرغ في مناخ بغلة زال عشقه انتهى. تنبيه التداوي بالجماع لا يبيحه الشرع بوجه ما إذا كان المحبوب ممن لا يجوز نكاحه وأما التداوي بالضم والقبل فإن تحقق الشفاء به كان نظير التداوي بالخمر عند من يبيحه بل هذا أسهل من ذاك فإن شربه من الكبائر وهذا الفعل من الصغائر. شربة فيستعمل البوس والعناق والشفاه الرقاق في قاعة وأيوان وبركة وشاذروان وطعام سبعة ألوان وبنفسج ونرجس وأس ومنتور وورد وريحان ودنان خندريس وألف دينار في كيس وجارية من بني الأتراك بساق سمين وطرفاً كحيل تستعمل هذه الحوائج على نطع أحمر ذي نقش أخضر وبعد هذا يدخل الحمام فإنه مجرب والسلام. شربة أخرى يؤخذ ثلاث مثاقيل من صافي وصال الحبيب ومثقال من عيدان الجفاء وخوف الرقيب وثلاث مثاقيل من نوي الاجتماع منقاة من غلث الهجر والانقطاع وواقية من خالص الود والكتمان منزوعة من عيدان الصد والهجران ويؤخذ عطر البخور ولثم الثغور وضم الخصور من كل واحد مثقالان ويؤخذ مائة بوسة رمانية محكوكة مرضوضة منها خمسون صغاراً سكرية وثلاثون زق الحمام وعشرون عصافيريه ويؤخذ غنج حلبي وشخير عراقي من كل واحد مثقالان ويؤخذ أوقيتان من مص اللسان ولثم الفم مع الشفتين ويدق الجميع ويخلط ويذر على وزن ثلاثة دراهم غلمة مصرية ويضاف إليها حسن الأعكان المطوية ويغلى الجميع بماء المحبة على شراب الأنس وحطب الطرب في مرجل العجلة ويصفي الجميع على معقد دمشقي سلطاني ويحل فيه أوقيتان من شراب الرضا ويشرب على الريق ثلاثة أيام ويكون الغذاء مزورة من يقطين الاشتياق ويضاف إليها قلب لوز العناق وماء ليمون الاتفاق ويتناول بعد ذلك ثلاثة أرطال من المدام وتتبع برطلين من شيل الساقين ويدخل الحمام فإنه نافع والسلام. سيف قاطع وبرق لامع ساطع فيما يتعلن بدواء علة الجوى وهو ما حكاه أرباب الرياضي في الاعداد ربعة وثمانين ومائتين وتسمى العدد المحب وصورته بالقلم الطبيعي هذه. وحروف نقطه دفر وفي الأعداد يقال له المحبوب وهو مائتان وعشرون وصورته بالقلم الطبيعي هذه.

فصل

وحروف نقطه كر فعدد عشرين ومائتين يحبه أبداً عدد ربعة وثمانين ومائتين فإذا كان عند إنسان خاتم أو لوح فضة أو ما أمكن من المعادن يكون وزنه 220 وعند إنسان خاتم ثان أو لوح زنته زنة الثاني من العددين فإن الذي عنده أربعة وثمانون ومائتان يحب الذي عنده عدد عشرين ومائتين فإن أردت الاستعطاف وجذب القلوب وأخذ النفوس فاكتب في رقعة صورة الأعداد الأربعة وثمانين ومائتين بالقلم الطبيعي المتقدم صفته واكتب في رقعة أخرى صورة الأعداد المائتين وعشرين وأمسك الرقعتين بين اللذين قد تباغضا فإنهما يتحابان وما يكون بينهما شر ما دامت الرقعتان معهما فإن لم يمكن ذلك فالق الرقعتين في حق نظيف واكتب اسم كل واحد منهما أو لقبه المشهور وضع الحق في موضع يمران عليه فإنهما يتحابان وإن كتبت الأعداد المتحابة بماء وسكر وسقيت كلا منهما فإنهما يتحابان وأعجب من ذلك أنك تطعم إنساناً قد أبغض أخر أربعة وثمانين حبة رمان ومائتين وتطعم الآخر المبغوض في ذلك الوقت بعينه مائتين وعشرين حبة من الرمان فإنهما يتحابان ومما يؤكد المحبة فيما ذكر بعض الحكماء أنه إذا وصلت بلة من ريق كل من المتحابين إلى معدة الآخر اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جرم الكبد وكذ إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه فإنه يخرج من ذلك النفس شيء يختلط بأجزاء الهواء فإذا استنشقاه دخل في الخياشيم فوصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النوم في جرم القلب ووصل بعضه إلى الرئة ثم إلى القلب فدب إلى العروق الضوارب في جميع البدن فينعقد من بدن هذا ما تحلل من بدن هذا فيصير مزاجاً فيتولد العشق وتتأكد المحبة قال الشيخ مغلطاي وهذا الذي أميل إليه ويوشك أن يدوم ويثبت ولا يغيره مر الليالي وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فصل

الباب الثامن عشر

اختلف الفقهاء هل يجب على الزوج مجامعة امرأته فقالت طائفة لا يجب عليه ذلك لأنه حق له فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه بمنزلة من استأجر دار إن شاء سكنها وإن شاء تركها وهذا من أضعف الأقوال لأن القرآن والسنة والعرف والقياس يرده قال الله تعالى ولهن مثل الذي علين بالمعروف فإذا كان الجماع حق الزوج عليها فهو حق لها على الزوج بنص القرآن وقال الله تعالى وعاشروهن بالمعروف ومن ضد المعروف أن يكون عنده شابة شهوتها تعدل شهوته أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة ولا يذيقها لذة الوطء مرة واحدة ومن زعم أن هذا من المعروف كفاه طبعه في الرد عليه وقالت طائفة يجب عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر وتخير المرأة بعد ذلك إن شاءت تقيم معه وإن شاءت تفارقه فلو كان لها حق في الوطء أكثر من ذلك لم يجعل للزوج تركه في تلك المدة وهو أمثل القولين مع ما فيه وقالت طائفة يجب عليه أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشروها بالمعروف قالوا وعليه أن يشبعها وطأ إذا أمكنه كما عليه أن يشبعها قوتاً وكان ابن تميمة يرجح هذا القول ويختاره قال تلميذه ابن قيم الجوزية وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على استمعال هذا ورغب فيه وعلق عليه الأجر وجعله صدقة لفاعله فقال وفي بضع أحدكم صدقة ففي هذا كمال اللذة وكمال الإحسان وحصول الأجر وفرح النفس وذهاب أفكارها الرديئة عنها وخفة الروح وذهاب كثافتها وغلظها وخفة الجسم واعتدال المزاج وجلب الصحة ودفع المواد الردئية فإن صاف ذلك وجهاً حسناً وخلقاً دمثاً أي سهلاً وعشقاً وافراً ورغبة تامة واحتساء باللثواب فذلك اللذة التي لا يعادلها شيء ولا سيما إذا وافقت كمالها فإنها لا تكمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة فتلتذ العين بالنظر إلى المحبوب والأذن بسماع كلامه والأنف بشم رائحته والفم بتقبيله واليد بلمسه وتنعكف كل جارحة على ما تطلبه من لذاتها ويقابله المحبوب بنظير ذلك فإن فقد من ذلك شيء لم تزل النفس متطلعة إليه متقاضية له فلا تسكن كل السكون ولذلك تسمى المرأة سكناً لسكون النفس إليها ولذلك فضل جماع النهار على جماع الليل وله سبب آخر طبيعي وهو أن الليل وقت تبرد فيه الحواس وتطلب حظها من السكون والنهار محل انتشار الحركات فذلك قوله تعالى: " وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً " وكان محمد بن المنكدر يدعو في صلاته ويقول اللهم قوم لي ذكري فإن فيه صلاحاً لأهلي وقال عبد الله بن صالح كان الليث بن سعد إذا غشى أهله يقول اللهم شد لي أصله وارفع لي صدره وسهل على مدخله ومخرجه وارزقني لذته وهب لي ذرية صالحة تقتل في سبيلك قال وكان جهورياً فكان يسمع ذلك منه وقال علي بن عاصم حدثناً خالد الحذاء قال لما خلق الله آدم وخلق حواء قال يا آدم اسكن إلى زوجك فقالت حواء يا آدم ما أطيب هذا زدنا منه. الباب الثامن عشر تعنت المعشوق على الصب المشوق وغير ذلك من أقسام الهجر وصبر القابض فيه على الجمر أقول هذا باب عقدناه لذكر الجني وقول المحبوب إليك عني فهو باب لمن مر به حلو المذاق عطر الخلاق بالاتفاق لا يعرف طعمه إلا من ذاقه وعرف وصل الحبيب وفرقه ولم تزل العشاق تستحلي تجني الحبيب وتقول: ضرب الحبيب زبيب ... شرط المحبة عند أرباب الهوى إن المليح على التجني يعشق لا يصدهم حد ولا يقفون من سيوف اللحاظ عند حد فكم رأوا جور الحبيب عدلاً وقالوا لخده إذا أقبل أهلاً وسهلاً لا يأخذهم فيه لومة لائم ولا يعدون جور بارد الظلم من المظالم: من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه ... حلواً فقد جهل المحبة وادعى والعلم المشهور في هذا الباب قول عليه بنت المهدي: جبل الحب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج كأنها ذهبت في البيت الأول إلى قول العباس بن الأحنف: وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسل والكتب وقد زاد النميري على هذا فقال: راحتي في مقالة العذال. وشفائي في قولهم لا تغال لا يطيب الهوى ولا يحسن الحب لصب لصب إلا بخمس خصال:

الباب التاسع عشر

بسماع الأذى وعذل نصيح ... وعتاب وكاشح ومطال وقال جميل بن معمر: لا خير في الحب وقفاً لا تحركه ... عوارض اليأس او يرتاحه الطمع لو كان لي صبرها أو عندها جرعى ... لكنت أملك ماآتى وما أدع ومن أبلغ ما قيل في عنت الأحباب قول بعض الأعراب في محبوبته: شكوت فقلت كل هذا تبرما ... بحبي أراح الله قلبك من حبي فلما كتمت الوجد قالت تعنتا ... صبرت وما هذا بفعل شجي القلب وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي فشكواي تؤذيها أو صبري يسوءها وتجزع من بعدي وتنفر من قربي فيا قوم هل من حيلة تعرفونها أشيروا بها واستوجبوا الأجر من ربي: وقد قسموا الهجر على أربعة أقسام فقالوا هجر دلال وهجر ملال وهجر مكافأة على الذنب وهجر يوجبه البغض المتمكن في الصدور فأما هجر الدلال فهو ألذ كثير من الوصال وعليه عقدت هذا الباب قال كشاجم: لولا أطراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذة حتى تصيب غليلا وقال المتنبي: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يخشى ويتقي وقال أيضاً: زيدي أذى مهجتي أزدك هوى ... فأجهل الناس عاشق حاقد وقال آخر: لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك ويستحب لمن وسم بالجمال وأخذ بقلوب النساء والرجال أن يكون كثير التذلل قليل التبذل. فقد قال ابن وكيع: قالوا عشقت كثير التيه ممتنعاً ... فقلت هيهات عنكم غاب أطيبه لو جاد هان وقلت الجو دعاته ... وإنما عزّ لما عز مطلبه فإذا تبذل وأجاب كل من دعاه صار عرضة للظنون لأن النفس الحرة لا تنفك عن غيره وقد قال العباس ابن الأحنف: يا قوم لم أهجركم لملالة ... مني ولا لمقال واش حاسد لكنني جربتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد وأما هجر الملال فيثبطه مرور الأيام والليالي أما بتنائي الدار أو بطول الاختبار. حكي أن متيم الهاشمية لما اشتراها على ابن هشام حظيت عنده واحبها حباً شديداً فاتفق أنها غضبت عليه في وقت من الأوقات وتمادت في غضبها فترضاها فلم ترض فكتب إليها الإدلال يدعو إلى الملال ورب هجر دعا إلى الصبر وإنما سمى القلب قلباً لتقلبه وقد صدق عندي قول العباس بن الأحنف: ما أراني إلا سأهجر من ليس ... يراني أقوى على الهجران ملني واتقى بحسن إخاء ... ما أضر الإخاء بالإنسان فلما قرأت الرقعة خرجت إليه من وقتها ورضيت وأما الهجر الذي يتولد عن الذنب فالتوبة تزيله من القلب عند الاعتراف بالذنب ولا سيما إذا كان المحبوب. ملكه ملك رحمة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء يتقي الله في المحب وقد أفل ... ح من كان همه الاتقاء وأما الهجر الذي يوجبه البغض الطبيعي فهو الذي لا دواء له قال الحصري وهذا لا يصح بين ذوي الإخلاص وذوي الاختصاص إذ حقيقة المشاكلة تمنعه وصحة المناسبة تدفعه والذي أقوله أنا أيضاً أن هذا القسم مرضه مما لا يمكن علاجه ولا يعذب أجاجه فالمحبوب فيه لا يلام ومحبته كمن يرقص في الظلام ويسلم على من لا يرد عليه السلام: أحبابه كم يفعلون بقلبه ... ما ليس يفعله به أعداؤه أخذه الأرجاني فقال: أأحبابنا لم تجرحونا بهجركم ... فؤاداً يبيت الدهر بالهم مكمدا إذا أردتوا قتلي وأنتم أحبة ... فلا فرق ما بين الأحبة والعدا وقال آخر: يطالبني قلبي بكم كل ساعة ... إذا أفلس المديون لج المطالب ويشتاقكم شوق الذي مس الظما ... وقد منعت ظلماً عليه المشارب إذا أردتوا قتلي وأنتم أحبة ... إذاًفالأعادي واحد والحبائب الباب التاسع عشر الدعاء على المحبوب وما فيه من الفقه المقلوب كقولي: دعوت من الحبيب بعشق ظبي ... أقاسي منه أنواع الجفاء

فواصله وبالغ في صدودي ... فكان إذا على نفسي دعائي أقول هذا باب عقدناه لذكر من قارب حلول رمسه وأراد أن يدعو على روحه فدعا على نفسه فهو يتشهى ويشتكي ويتشفى وينتكي لا يثبت على حال ولا يفرق بسيف اللحظ بين الماضي والحال فبينا هو يشكو من محبوبه إذا هو يشكو اليه وبينا هو يدعو له إذا هو يدعو عليه فمن أحسن ما قبل في الدعاء للمحبوب قول بلدينا محمد بن العفيف التلمساني رحم الله شبابه وجعل من الرحيق المختوم شرابه أعز الله أنصار العيون: وخلد ملك هاتيك الجفون ... وضاعت بالفتور لها اقتداراً وإن تك أضعفت عقلي وديني ... وصان حجاب هاتيك الثنايا وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون ... واسبغ ظل ذاك الشعر يوماً على قديه هيف الغصون ... وخلد دولة الأعطاف فينا وإن جارت على القلب الطعين وقوله أيضاً: أدام الله أيام الوصال ... وخلد عمرها هاتيك الليالي واسبغ ظل أغصان التواني ... وزاد قدودها حسن اعتدال ولا زالت ثمارالأنس فيها ... تزيد لطافة في كل حال ولا برحت لنا فيها عيون ... تغازل مقلتي خشف الغزال وقال علاء الدين علي بن المظفر الكندي: أدام الله أيام العذار ... وبارك في لياليه القصار وأغنى الله روضة كل خد ... إذا استحيت عن الديم الغزار ولا زالت مباسم كل ثغر ... لشائم برقها ذات افترار ولا برحت على العشاق تضفو ... سياب العار في خلع العذار وقال ابن أبي الحديد: لا عانقتك من البرية كلها ... الأيدي اليمنى وبندقباكا كلا ولا رشفت رضابك بعد ما ... قد ذقته من فيك إلا فاكا وقال آخر: يا رب إن قدّرته لمقبّل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس وإذا قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... يارب فليك من عيون النرجس ومن أحسن ما قيل في الدعاء على المحبوب قول شهاب الدين بن غانم: والله ما أدعو على هاجري ... إلا بأن يمعن بالعشق حتى يرى مقدار ما قد جرى ... منه وما قد تم في حقي وقال الآخر: يا ذا الذي كل يوم ... يزيد عقلي خبالا ولهتني فيه حتى ... أعاد رشدي ضلالا أدعو عليك وقلبي ... يقول يا رب لا لا وقال الآخر وأحسن ما شاء: قد قلت لامت حتى ... أراك في العشق مثلي وقلت في السر مني ... لا يا رب لا تستجيب لي وقال الآخر: أيها المعرض صفحاً ... عن خطابي وجوابي الضياع لا أزال الله عمري ... أو يريني بك ما بي ربي فاجعله دعاء ... خائباً غير مجاب رق قلبي أن يرى ... قلبك في مثل عذابي وقال الآخر: يا رب إن لم يكن في وصله طمع ... ولم يكن فرج من طول جفوته فاشف السقام الذي في طرف مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته وقال الآخر: كم جفاني فرمت أدعو عليه ... فتوقفت ثم ناديت ذاهل لا شفى الله طرفه من سقام ... وأراني عذاره وهو سائل وقال ابن سنا الملك: أسر لطول أسري في يديه ... فيغضب إذ أسر لطول أسري سألت الله أن يبلى بعشق ... فيصبح عاشقاً لكن لهجري وقال ابن وكيع: إن كنت تعلم ما بي ... وأنت بي لا تبالي فصار قلبك قلبي ... وصرت في مثل حالي بل عشت في طيب عيش ... تفديك نفسي ومالي دعوت إذ ضاق صدري ... عليك ثم بدا لي وقوله أيضاً: فهم غالط مني فهماً ... جاءني يسأل عما علما مقسماً ما بلغته علتي ... كاذب والله في ما زعما رزق المظلوم منا رحمة ... ثم لا أدعو على من ظلما

الباب العشرون

وقال ابن منقذ: يا ظالماً يعرض عني إذا ... دعوت غضبان على ظالمي أظنه أنت وإلا فلم ... تخشى دعائي دون ذا العالم يا رب لا تسمعه فيه وإن ... كان دعاء المغرم الهائم وقال الآخر: قلت لمحبوبي وقد مر بي ... محبوبه كالقمر الساري هذا الذي يأخذ لي طرفه ... من طرفك الوسنان بالثأر وقال الآخر: ولما بدا لي أنه غير زائري ... وإن هواه ليس عني بمنجلي تمنيت أن يهوى سواي لعله ... يقاسي مرارات الهوى فيرق لي الباب العشرون الخضوع وانسكاب الدموع أقول هذا باب عقدناه لذكر من أصبح دمعه مسكوباً على مسكوب فبات وهو من جريانه كالرمح كما قيل انبوب على انبوب ولا إذا تمادى الهجر أو كان عليه بعض حجر هنالك يرى من انسكاب عبرته العبر وينشد إذا عزم الخليط على السفر: ومفارق سكن القلوب ... فلا خلت منه الربوع بعث الرسول وقال لي ... وأنا السميع له المطيع بالله قل لي ما جرى ... بعدي فقلت له الدموع وقال الآخر: قال لي من أحببت والبين قد جدّ ... وفي مهجتي لهيب الحريق ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت ابكي عليك طول الطريق وما أحسن قول القاضي الفاضل رحمه الله: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قد استخدمت بالافكار سرى ... وما أطلقت لي بالوصل أجره ولم أرنى على الايام إلا ... عقدت مودَة وحللت صره ولا استمطرت سحب العين إلا وصرت بادمعي في الشمس عصره وقوله أيضاً وهو من نثره الذي أصبح بين النجوم نثره فيصير حتى تنجلي هذه الغمرة وتقلع سحائب هذه السكرة وتجف مناديل الجفون فإنها صارت بالدموع عصره فقاتل الله البين ما أكثر فضوله بدخوله بين المحبين وفي هذا المعنى الباهر يقول ابن عبد الظاهر: لا تسلني عن اول العشق اني ... أنا فيه قديم هجر وهجره من دموعي ومن جبينك أرد ... ت غرامي بمستهل وغره ومن معاني المتنبي الغريبة قوله: أتراها لكثرة العشاق ... محسب الدمع خلقه في المآق وقوله أيضاً: لاتعذل المشتاق في أشواقه ... حتى يكون حشاك في أحشائه ان الفتيل مضرجاً بدموعه ... مثل الفتيل مضرجاً بدمائه وقوله أيضاً: وهبت السلو لمن لامني ... وبت من الشوق في شاغل كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل وقول الآخر: شقت عليه يد الأسى ... ثوب الدموع إلى الذيول وقال الآخر في الخضوع وانسكاب الدموع: ولم أنس لا أنسى ذاك الخضوع ... وفيض الدموع وغمز اليد وخدي مضاف إلى خدها ... قياماً إلى الصبح لم نرقد وقال إبراهيم بن المعمار: وبي غضبان لا يرضيه إلا ... دموع ساكبات مستمرة فما عطفت معاطفه بوصل ... وفي عيني بعد الهجر قطرة وقال الآخر: وقائلة ما بال عينيك مذ رأت ... محاسن هذا الشخص أدمعها هطل فقلت زنت عيني بنظر طلعة ... فحق لها من فيض أدمعها غسل وقال السري الرفاء: بروحي من رد التحية ضاحكاً ... فجدد بعد اليأس في الوصل مطمعي وحالت دموع العين بيني وبينه ... كأن دموع العين تعشقه معي وقال ابن وكيع: وسحاب إذا همي الماء فيه ... ألهب الرعد في حشاه البروقا مثل ماء العيون لم يجر إلا ... ظل يذكي على القلوب الحريقا وقلت من قصيدة حجازية: خليلي روض الرقمتين طرازه ... إذا لمع البرق الحجازي مذهب فلا تعجبا من سحب دمعي إذا همت ... فما كل برق لاح للعين خلب وقلت من أخرى حجازية: تزنى جفني القريح على الخدين قد وكفا ... فحسبه ما جرى من أدمعي وكفا إن عز نظم دموعي حين أنثر ... فالدر ما عز حتى جاوز الصدفا

الباب الحادي والعشرون

لا تعجبوا من وقا دمعي غداة جرى ... من عينيه ما جرى فالبحر فيه وفا ما زلت أبكي على وادي العقيق إلى ... أن قيل هذاك من عينيه قد رعفا وقلت أيضاً من قصيدة: بكيت على أرض بها كنت ماشياً ... فأشبهت في دمعي صخرها الخنسا تجرأت يا دمعي فلم تجرأ دائماً ... فيا دمع ما أجرى ويا قلب ما أقسى وقلت أيضاً من قصيدة: إن عيني على العقيق إذا لم ... يحك دمعي بلونه حمراء منذ أمسى لجين دمعي نضارا ... صح عندي لعيني الكمياء لا تسل ما جرى من الدمع لما ... صار من عاذلي على اجتراء أطلع الليل أدمعي فوق خدي ... مثل ما تطلع النجوم للسماء وقلت من قصيدة: لأن فترت عيني بحر دموعها ... فثغر الذي أهوى كما قيل بارد وإن حل طرفي بالدموع وكاءه ... فنهد الذي حيت بطرفي عاقد وقلت من قصيد: سقيت ببحر الدمع بارد أرضها ... وأرسلتها فيها على حين فترة فيا طرف إن لم تسعف الصب بالبكى ... قطعت حبال الدمع من حيث رقت وقلت من قصيدة: خالفت فيك معنفاً ونصيحا ... وأطعت جفناً بالدموع قريحاً فاعمل لقتلي محضراً فمدامعي ... كتبت لقلبي بالدما مشروحاً صب على سفح المقطم دمعه ... تجري العيون به دماً مسفوحاً لو شاهدت عيناك أحمر دمعه ... زكيت شاهد قلبه المجروحا وقلت أيضاً: الطرف من فقد الكرى ... يشكو الأسى إليه والخد من فرط البكى ... ياما جرى عليه وقلت: ومن أرحم لوعتي ... وابعث خيالاً في الكرى ودمع عيني لا تسل ... عن حاله ياما جرى كان المسعودي شارح: المقامات رحمه الله تعالى كثيراً ما ينشد: قالت عهدتك تبكي ... دماً حذار الثنائي فلم تعوضت عنها ... بعد الدماء بماء فقلت ما ذاك منى ... لسلوة وعزاء لكن دموعي شابت ... من طول عمر بكائي وقال آخر: وقائله ما بال دمعك أبيضاً ... فقلت لها يا علو هذا الذي بقي ألم تعلمي أن البكاء طال عمره ... فشابت دموعي مثلما شاب مفرقي وعما قليل لا دموعي ولا دمي ... يرين ولكن لوعتي وتحرقي وقال آخر: وقائلة ما بال دمعك أسودا ... وقد كان مبيضاً وأنت نحيل فقلت لها جفت دموعي من البكا ... وهذا سواد العين فهو يسيل وقال آخر: كانت دموعي حمراً يوم بينهم ... فمذ نأوا قصرتها بعدهم حرقى قطفت باللحظ ورداً من خدودهم ... فاستقطر البين ماء الورد من حدقى وقال الناشيء الأكبر: بكت للفراق وقد راعني ... بكاء الحبيب لفقد الديار كأن الدموع على خدها ... بقية طل على جلنار الباب الحادي والعشرون الوعد والأماني وما فيهما من راحة المعاني أقول هذا باب عقدناه لذكر الأماني التي لا بد منها ولا غنى عنها فلا أقل منها: أعلل بالمنى قلبي لعلي ... أروح بالأماني الهم عني وأعلم أن وصلك لا يرجى ... ولكن لا أقل من التمني ولم يزل المحبون يعللون بالأماني نفوسهم ويترعون براح راحتها كؤسهم فمنهم من فاز بالأمنية قبل حلول المنية ومنهم من مات بأعظم غصة وما وقع له الحبيب على قصة: من نال من دنياه أمنية ... أسقطت الأيام منها الألف وهذا النوع الأخير كثير والسقيم به من المحبين جم غفير: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا نعم منهم من بات من وعد الحبيب مسلوب الرقاد بعيد من لقاء الردى على ميعاد: يصدق قول الحبيب ويكذبه ويمتحنه ويجربه ويقول: ما زلت منتظراً لوعدك سيدتي ... في البيت ملتفتاً لقرع الباب يا كاذباً وعده بلسانه ... من لي بعض لسانك الكذاب

طالما أيس من وعد المحبوب وتمسك من رؤية ساقه بمواعيد عرقوب كما قيل: وما بلوغ الأماني في مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب تنبيه قولهم في المثل مواعيد عرقوب يقال لمن وعد وعداً وأخلف وأصل المثل المذكور أن عرقوباً كان له أخ فسأله شيئاً فقال له عرقوب إذا طلع نخلي فلما أطلع قال: إذا أبلح فلما أبلح قال إذا أزهى فلما أزهى قال إذا أرطب فلما أرطب قال إذا صار تمراً فلما صار تمراً أخذه من اليل ولم يعط أخاه شيئاً فضرب به المثل في خلف الوعيد فقيل مواعيد عرقوب. قال الشماخ: وواعدتني ما لا أحاول نفعه ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب وقال ابن حجاج: فديت من لقيني مثل ما ... لقيته والحق لا يصعب فقلت يا عرقوب أطمعتني ... فقال لم نفسك يا أشعب وقلت أنا من قصيدة حجازية: يهددني بالهجر في كل ليلة ... أصدق فيها وصله وأكذب ولما وردنا ماء مدين قال لي: وحق شعيب أنت في الحب أشعب والناس في الأماني على قولين: فمنمهم من يرى راحة قلبه وتنفيس كريه فيريح بها النفس ويتعلق من ضيائها بحبال الشمس. ومنهم من يقول: ليس الترجي مما ينجي ... فيرى الأماني من الخداع والوقوع في النزاع ولكل من القولين حجة ومذهب مسلوك المحجة ومن أحسن ما سمعته في القول الأول قول بعض بني الحرث. أماني من سعدى حسان كأنما ... سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا منى أن تسكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا وقول الآخر: ولما حللنا منزلاً طله الندى ... أنيقاً وبستانا من النور حاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا وقال أفلاطون الأماني حلم المستيقظ وسلوة المحزون. وقال غيره: الأماني رفيق مؤنس إن لم ينفعك فقد ألهاك. وقيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا فقال: ممازحة الحبيب ومحادثة الصديق وأماني تقطع بها أيامك. وقال القاضي الفاضل: وأحسن ما شاء وجدت ريح كتبه وروح قربه فرجعنا إلى العادة وعادت أيامنا وصرنا إلى الحسني ورق كلامنا وعاودتنا المنى وما كادت تحطر وإن حطرت فإنها كلا منا: أتمنى تلك الليالي المنيرا ... ت وجهد المحب أن يتمنى وقال يا قوت الرومي لله أيام تقضت بكم ... ما كان أحلاها وأهناها مرت فلم يبق لنا بعدها ... شيء سوى أن نتمناها وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: أصبو إلى البان بانت عنه هاجرتي ... تعللاً بليالي وصلها فيه عصر مضى وجلابيب الصبا قشب ... لم يبق من طيبه إلا تمنيه وقال العفيف: أيحق كاتب الإنشاء للناصر داود. لولا مواعيد آمال أعيش بها ... لمت يا أهل هذا الحي من زمن وإنما طرف آمالي به مرح ... يجري بوعد الأماني مطلق الرسن وقال ابن خفاجة: وليل إذا ما قلت قد بان وانقضى ... تكشف عن وعد من الظن كاذب ولا أنسى إلا أن أضاحك ساعة ... ثغور الأماني في وجوه المطالب حسبت الدياجي فيه سود ذوائب ... لها عنق الآمال بيض الترائب وقال آخر: في المني راحة وإن عللتنا ... من هواها ببعض ما لا يكون وقلت أنا: رقي لصب غدا مما يكايده ... من دمعه الصب يجري في مجاريه لم يبق فيه سوى روح يرددها ... لولا المني مات يا أقصى أمانيه وقلت أيضاً: يا طيب ريح سرى من نحوهم سحرا ... لولا تلافيه قلبي في الهوى تلفا كم ذا أعلل قلبي بالنسيم وما ... أرى لداء غرامي في هواء شفا وقال ابن زيدون: لأسرحن نواظري ... في ذلك الروض النضير ولآكلنك بالمني ... ولأشربنك بالضمير وقال آخر: علليني بموعد ... وامطلي ما حييت به ودعيني أفوز منك ... بنجوى تطلبه فعسى يعثر الزمان ... بحظي فينتبه وقال آخر:

وشادن قلت له ... هل لك في المنادمة فقال كم من عاشق ... سفكت في المني دمه وقال أبو بكر الحاتمي: لي حبيب لو قيل لي ما تمنى ... ما تعديته ولو بالمنون أشتهي أن أحل في كل طرف ... لأراه بلحظ كل العيون وقال أيضاً: أما مني قلبي فأنت جميعه ... ياليتني أصبحت بعض مناك يدني مزارك حين شط به النوى ... وهم أكاد به أقبل فاك وقال الحسين بن الضحاك: وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا وإذا ما تنفس النرجس الغض ... توهمته نسيم شذاكا خدع للمني تعللني فيك ... بإشراق ذا وبهجة ذاكا ومما احتج به أرباب القول الثاني: وأكثر أفعال الغواني إساءة ... وأكثر ما تلقى الأماني الكواذبا وقال الخالدين: ولا تكن عبد المني فالمني ... رؤس أموال المقاليس وقال ابن شرف القيرواني: غلف تمنوا في البيوت أمانينا ... وجميع أعمار اللئام أماني وقال ابن المعتز: لا تأسفن من الدنيا على أمل ... فليس باقيه إلا مثل ماضيه وقال: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تجنبوا المني فإنها تذهب بهجة ما خولتم وتصغر المواهب التي رزقتم. وقال رجل لابن سيرين رايت كأني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح فقال أنت رجل تكثر الأماني. وحكى أن الحجاج مر ذات ليلة بدكان لبان وعنده بستوقة فيها لبن وهو يقول متمنياً أنا أبيع هذا اللبن بكذا وكذا وأشتري كذا ثم أبيعه فأكسب فيه كذا وكذا فيكثر مالي ويحسن حالي وأخطب بنت الحجاج وأتزوجها فتلد لي أبناً وأدخل إليها يوماً فتخاصمني فأضربها برجلي هكذا ورفس برجله فكسر البستوقة وتبدد اللبن فقرع الحجاج الباب ففتح له فضربه خمسين سوطاً وقال أليس لو رفست ابنتي هكذا فجعتني فيها. وقال علي بن عبيدة الأماني مخايل الجهل. وقال غيره الأماني تخدعك وعند الحقائق تدعك. اتفق أن الزكي عبد الرحمن القوصي حضر عند الملك المظفر قبل أن يلي حماة وأنشده. متى أراك ومن تهوى وأنت كما ... تهوى على رغمهم روحين في بدن هناك أنشد والآمال حاضرة ... هنيت بالملك ولأحباب والوطن فوعده الملك المظفر إذا تملك حماة أن يعطيه ألف دينار فلما ملكها أنشده: مولاي هذا الملك فد نلته ... برغم مخلوق من الخالق والدهر منقاد لما شئته ... فذا أوان الموعد الصادق فوقع له بألف دينار وأقام معه ولزمته أسفار فأنفق فيها المال الذي أعطاه ولم يحصل بيده زيادة عليه فقال: ذاك الذي أعطوه لي جملة ... قد استردوه قليلاً قليل فليت لم يعطوا ولم يأخذوا ... وحسبنا الله ونعم الوكيل فبلغ ذلك المظفر فأخرجه من دار كان قد أنزله بها فقال: أتخرجني من كسر بيت مهدم ... ولي فيك من حسن الثناء بيوت فإن عشت لم أعدم مكاناً يضمني ... وإن مت تدري ذكر من سيموت فحبسه المظفر فقال ما ذنبي إليك قال قولك حسبي الله ونعم الوكيل فأمر بخنقه فلما أحس بذلك قال أعطيتني الألف تعظيماً وتكرمة يا ليت شعري أم أعطيتني ديتي قلت وقد عيب علي السلطان حقده عليه لأجل قوله حسبي الله ونعم الوكيل حتى قتله فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فكان حاله معه كما قيل: فكنت كالمتمني أن يرى فلقا ... من الصباح فلما رآه عمى والله القائل: وبما يرجو الفتى نفع فتى ... خوفه أولى به من أمله رب من ترجو به دفع أذى ... سوف يأتيك الأذى من قبله ذكرت هنا قول الآخر: لما بدا العارض في خده ... بشرت قلبي بالنعيم المقيم وقلت هذا عارض ممطر ... فجاءني فيه العذاب الأليم وقال ابن سنا الملك من رسالة المحبوب وأنت الذي نفضني من يده ورفضني من باله وأنت الذي فصلني قبل أن يستكمل الوصول مدة حمله وفصاله. وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم

الباب الثاني والعشرون

لعل عيناً أصابتنا فلا نظرت ... أو واشياً قال في ما بيننا كذبا لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل لعل الرضا منكم وكيف مناله ... يسر فؤاد أساءه منكم الهجر لعل صدى في النفس يروي أوامه ... وجمر جوى في القلب تخمد ناره لعل عاطفة تدني إلى أمل ... قلباً تحير بين اليأس والطمع ؟ لعل عين الرضا ممن كلفت به يوماً تبهرج ما قالته حسادي لعل زماناً قد تولى سينثني ... إلينا وقلباً قد قسا سيلين لعل ذيول العفو والعفو واسع ... يجررها الجافي على مفرق الذنب لعل سلو الفؤاد يعوده ... وذا غلط حاشي فؤادي أن يسلو لعل وما تغني لعل وإنها ... علالة صب واستراحة هائم ولا أقل من التعلل بلعل وما أقل غناها وأكثر عناها. ؟؟ الباب الثاني والعشرون الرضا من المحبوب بأيسر مطلوب أقول هذا باب عقدناه لذكر المحب المطبوع والعاشق القنوع ممن يقنع الحبيب بالنظر إذا حضر ويرضي منه بالسلام ولو مرة في العام فهو في الرضا منه بالنزر اليسير كما قيل. قليلك لا يقال له قليل أنا راض منكم بأيسر شيء ... يرتضيه من عاشق معشوق بسلام على الطريق إذا ما ... جمعتنا بالاتفاق الطريق وقال المعري: لاقاك في العام الذي ولى ولم ... يسألك إلا قبله في القابل إن البخيل إذا تمد له المدى ... في الجود هان عليه بذل الباذل وقال جميل: أقلب طرفي في السماء لعله ... يوافق طرفي طرفه حين ينظر وقال أيضاً: وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو استقين الواشي لقرت بلابله بلا وبأن لا أستطيع وبالمني ... وبالأمل المرجو فد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا تلتقي وأوائله قلت: انظر إلى هذا الشاعر الظريف والعاشق العفيف قد قنع من مناهل أحبابه بالوشل واكتفى باللمح من خلل الاستار والكلل ومن هذا المعنى المبتز قول ابن المعتز: ألست أرى النجم الذي هو طالع ... عليها فهذا للمحبين نافع عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها فيجمعنا إذ ليس في الأرض جامع والعلم المشهور في هذا الباب قول بعض الأعراب: أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني نعم وأرى الهلال كما تراه ... ويعلوها النهار كما علاني كان الشيخ أثير الدين أبو حيان يقول عن صاحب هذين البيتين هذا العاشق القنوع وقال الآخر: إلى الطائر النسر أنظر كل ليلة ... فإني إليه بالعشية ناظر عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده ... فنشكو جميعاً ما تجن الضمائر وقال بعض الأعراب: وما نلت منها وصلها غير أنني ... إذا هي بالت بلت حيث تبول ذكرت هنا ما حكى عن بعضهم أنه رأى امرأة حسناء في طاقة فأحبها ولازم المقام على بابها والمرور تحت الطاقة إلى أن أعيا وقل صبره وحصل على اليأس منها فدق الباب عليها فخرجت الجارية إليه فدفع إليها صفحة وقال دعي سيدتك تبول في هذه فبالت له في الصفحة وقالت للجارية أتبعيه وانظري ما يصنع بذلك فلم تزل تتبعه إلى أن دخل بعض الخربات فوضع ... في ذلك البول وقال يا ميشوم إذا فاتك اللحم فاشرب المرق. وحكى ابن الجوزي في كتاب الأذكياء أن الهدهد قال لسليمان عليه الصلاة والسلام أريد أن تكون في ضيافتي فقال له سليمان أنا وحدي فقال له بل والعسكر في جزيرة كذا في يوم كذا فمضى سليمان وجنوده إلى هناك فصعد الهدهد إلى الجو فصاد جرادة وخنقها ورمى بها في البحر وقال يا نبي الله كلوا فمن فاته اللحم نال من المرق فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولاً كاملاً أخذ بعضهم هذا المعنى فقال: وكن قنوعاً فقد جرى مثل ... إن فاتك اللحم فاشرب المرقة الباب الثالث والعشرون اختلاط الأشباح اختلاط الماء بالراح

أقول هذا باب عقدناه لذكر من أفرط في العناق إذا التفت الساق بالساق فأصبح هو ومحبيه كالشيء الواحد في رأي العين حتى عند الأحوال الذي يرى الشيء شيئين وذلك لفرط المحبة التي لا يشتفي قلب صاحبها بالوصال ولا تنقطع حبال دموعه بالاتصال كما قيل: وكدت وهو ضجيعي أن أقول له ... من شدة الحب قد أبعدت فاقترب وقال ابن الرومي: أعانقه والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد العناق تداني وألثم فاه كي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان ولم يك مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه رشفاً ما سوى الشفتان كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن ترى الروحان يمتزجان وقال آخر: سريت إليه والظلام كأنه ... صريع كري والنجم في الأفق شاهد فلو أن روحي مازجت ثم روحه ... لقلت ادن مني أيها المتباعد وقال أبو الحسين التونسي: ثم اعتنقنا فترانا معاً ... في ظلمة الليل ونور العتاب جسمين صارا في الهوى واحداً ... كشكلتين اختلطتا في كتاب وقال خالد الكاتب كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا في جسد واحد وقال نفطويه النحوي ولما التقينا بَعد بُعد بمجلس ... تغازل فيه أعين النرجس الغض جعلت اعتمادي ضمه وعناقه ... فلم يفترق حتى توهمته بعضي وما أحسن قول أبي بكر الأربلي هم الرقيب ليسعى في تفرقنا ... ليلاً وقد بات من أهواء معتنقي عانقته فاتحدنا والرقيب أتى ... فمذ رأى واحداً ولى على حنق وقال سيف الدين المشد ولما زار من أهواه ليلاً ... وخفنا أن يلم بنا مراقب تعانقنا لأخفيه فصرنا ... كأنا واحد في عقد كاتب وقال آخر: توهم واشبيننا بليل مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد فعانقته حتى اتحدنا تعانقاً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد قال قاضي القضاة كمال الدين بن العديم لما سمع هذين البيتين أمسكه امساك أعمى. وقال أبو الفضل: سقييا لعيش مضى والدهر يجمعنا ... ونحن نحكي عناقاً شكل تنوين فصرت إذ علقت كفي حبائلكم ... بسهم هجرك ترمي ثم ينوين ومثل هذا القول في عدم السلامة وتوجيه الملامة. قول بن سنا الملك وليلة بتنا بعد سكري وسكره ... نبذت وسادي ثم وسدته يدي وبيننا كجسم واحد من عناقنا ... وإلا كحرف في الكلام مشدد لو قال كحرف في النظام ما وقع في الملام لأن الحرف المشدد في اللفظ معدود عند العروضيين بحرفين وأما في الخط فلا فعلى هذا لا يتم له ما أراد ولو جعل ساعده للمحبوب كالوساد ولا عذر له لأن الوزن ساعده وأعانه على تحصيل هذه الفائدة وقال بعض شعراء الذخيرة: بتنا وراء الحجاب يلحفنا ... برد وقار والشمل مشتمل اثنان من شدة التعانق قد ... صارا كفرد بالروح يتصل لو أن غيث السماء أمطرنا ... لم يصب الأرض تحتنا بلل قال محمد بن عروس اجتمعت أنا وعلي بن الجهم في سفينة ونحن غير متعارفين فتذاكرنا ووجدته حلو المذاكرة فكان في بعض ما قاله أنا أشعر الناس فقلت له بماذا قال بقولي: ألا رب ليل ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤاداً من فؤاد معذب فبتنا جميعاً لو تراق زجاجة ... من الخمر في ما بيننا لم يشرب فقلت له والله لقد أحسنت ولكني أشعر منك قال بأي شيء قلت بقولي: لا والمنازل من نجد وليلتنا ... بقيد إذ جسدانا بيننا جسد كم رام فينا الكرى من لطف مسلكه ... يوماً فما انفك لا خد ولا عضد والأصل في هذا قول بشار بن برد وهو من الشعر الملوكي. ومرتجة الأرداف مهضومة الحشا ... تمور بسحر عينها وتدور إذا نظرت صبت عليك صبابة ... وكادت قلوب العشقين تطير

الباب الرابع والعشرون

خلوت بها لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور ذكرت بقولي أن في أول الباب الأحوال الذي يرى الشيء شيئين قول بعض المغاربة في مليح له رقيب أحوال. بأبي رشا يحوى مع الإحسان ... ملكية موضوعها إنساني أحوى الجفون له رقيب أحول ... الشيء في إدراكه سيآن يا ليته ترك الذي أنا مبصر ... وهو المخير في الغزال الثاني وقال ابن اسرائيل من ذو بيت ... قد بالغ في حديثه بالمين من قال رأيت مثله بالعين: ما يبصر مثله سوى ذي حول ... من حيث يرى الواحد كالاثنين وقول صدر الدين بن الوكيل: يقولون لي لم ذا كلفت بأحوال ... يقلب بالزوجين قلت لهم عذرا رأت كل عين حسن أوصاف أختها ... فعادت بطول الدهر تنظرها شزرا الباب الرابع والعشرون عود المحب كالخلال وطيف الخيال وما في معنى ذلك من رقة خصر الحبيب وتشبيه الردف بالكثيب أقول هذا باب عقدناه لذكر من أدى به النحول إلى الذبول وأصبح كالطلل بين الطلول فهو من شدة الضر كما قال صردر: وكم ناحل بين تلك الخيام ... تحسبه بين أطنابها فمحبوبه في الجفاء واحد كالألف وهو في رقته كالخيال يمشي إلى خلف. ولما رأتني كعود الخلال ... وجسمي كما ينسج العنكبوت فقالت تموت إلي كم ت ... ... فقلت أني ... إلى أن أموت والعلم المشهور في هذا الباب قول المتنبي: أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقال أيضاً: ولو قلم القيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب وقال أيضاً: إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل وإني لأعشق من عشقكم ... نحولي وكل فتى ناحل ولو زلتم ثم لم أبككم ... بكيت على حبي الزائل وقال المعمار ترك اصفراري والنحول كلاهما ... في العشق جسمي ينذر العشاقا فكأنه ألف بخط مذهب ... جعل الدجى أرقى له أوراقا وقلت أنا من قصيدة: كأن ضباب الأفق ند سرت به ... نسيم الصبا من نحو أرض الأحبة كأن الصدا بين الجبال متيم ... ولم يبق منه غير صوت وأنة وقال المتنقل: إن جفاني الكرى وواصل قوماً ... فله العذر في التخلف عني لم يخل الهوى بجسمي شخصاً ... فإذا جاءني الكرى لم يجدني وقال ابن لؤلؤ: وأرقني خيال من حبيب ... ثناءت داره لما رآني فمن سهري يلم فما أراه ... ومن سقمي يطوف فما يراني وقال محي الدين بن عبد الظاهر: أيها الصائد باللحظ ومن ... هو من دون الورى مقتنص لا تسم طائر قلبي هرباً ... إنه من أضلعي في قفصي وقال مضر المغربي: أذابه الحب حتى لو توهمته ... بالوهم خلق لا عياهم توهمه لولا الأنين ولوعات تحركه ... لم يدره بعيان من يكلمه وقال محاسن الشواء: ضنيت وضن من أهوى بوصل ... وعاداني الخيال وكان عائد فأشبهت الذي للسقم نقصاً ... وإن خالفته صلة وعارض وقال الأرجاني: ولولا سناها لم يروني من الضنى ... ولا أصبحوا من أجلها خصمائي ولكن تجلت مثل شمس منيرة ... فلحت خلال الضوء مثل هباء وقال آخر: قد كان لي فيما مضى خاتم ... فدق جسمي فتمنطقت به وزاد بي السقم فلو زج ... في مقلة النائم لم ينتبه وقال أبو العتاهية: لم يبق إلا القليل في ... وما أحسبها تترك الذي بقيا وقال آخر:

الباب الخامس والعشرون

رأيت العاشقين لهم جسوم ... براها الشوق لو نفخوا لطاروا وقال بن عبد ربه: ولما أن رأى أهلي سقامي ... تجاوز حده حد السقيم سددت منافس النسمات عني ... مخافة أن أطير مع النسيم وقال آخر: وإذا عائد دنا لكلامي ... لعبت بي أنفاسه في الفراش وقال آخر: عبثت به أيدي الضنى فكأنه ... سر خفي في ضمير كتوم أنحلني حبك يا متلفي ... وزادني الشوق فلم أعرف وذبت حتى لو رمى بي الهوى ... في ناظر الناظر لم يطرف وقال ناصر الدين الفقعسي: يقول جسمي لنحولي وقد ... أفرط بي فرط ضنى واكتئاب فعلت بي يا سقم ما لم يكن ... يلبس والله عليه الثياب ومما ينخرط في هذا اليلك ما وصفت به الشعراء الخصر من الخول وقد بالغ ابن إسرائيل فيه حيث قال وأحسن في المقال: واها على الخصر الرفيق وإنما ... قطع الطريق حديثه الموثوق خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق وقال الشيخ صفي الدين الحلي: مليح يغار الغصن عند اهتزازه ... ويخجل بدر التم عند شروقه فما فيه معنى ناقص غير خصره ... وما فيه شيء بارد غير ريقه قلت أخذه من قول بلدينا محمد بن العفيف التلمساني وأراد قصره على الحسن فقصر وجرى خلفه ليعثر على المعنى فاعثر عليه بل تعثر والفرق بينهما كما بين الأجاح والكوثر والخصر والخنصر ألا ترى قول ابن العفيف وحلاوة منطقه الظريف. فكم يتجافى خصره وهو ناحل ... وكم يتحالىريقه وهو بارد وكم يدعى صوناً وهذي جفونه ... بفترتها للعاشقين تواعد وقال أيضاً: شكوت إلى ذاك الجمال صبابة ... تكلف جفني أنه قط لا يغفو فلانت لي الأعطاف والخصر رق لي ... ولكن تجافى الشعروا ناقل الردف وقال أيضاً: تلاعب الشعر على ردفه ... أوقع قلبي في العريض الطويل يا ردفة جرت على خصره ... رفقاً به ما أنت إلا ثقيل وعلى ذكر الردف ما أحسن قول الآخر: للبدر من وجنته نكتة ... وفترة في الظبي من طرفه إذا مشى جاذ به ردفه ... كأنه يمشي إلى خلفه وقال الشيخ صفي الدين الحلي في مليح راقص: جاء وفي قده اعتدال ... مهفهف ما له عديل قد خففت عطفه شمال ... وثقلت جفنه شمول ثم أنثى راقصاً بقد ... تثني إلى نحوه العقول يجول ما بيننا بوجه ... فيه مياه الحيا تجول ورنح الرقص منه عطفاً ... خف به اللطف والدخول فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل وقال ابن رشيق: أحمل أثقالي على ردفه ... وأمسك الخصر لئلا يضيع وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: سألت النقا والبان يحكي لناظري ... روادف أو أعطاف من طال صدها فقال كئيب الرمل ما أنا حملها ... وقال قضيب البان ما أنا قدها الباب الخامس والعشرون ذكر ما يكابده الأحباب من الأمور الصعاب وغير ذلك مما يقاسونه من تحمل المشاق وألم الفراق كقوله: شكى ألم الفراق الناس قبلي ... وروع النوى حي وميت وأما مثل ما ضمت ضلوعي ... فإني ما سمعت ولا رأيت أقول هذا الباب عقدناه لذكر ما يقايسه المحب من ركوب الأخطار في طلب الأوطار فهو لا يزال مشغولاً بحاله متقلباً تحت أحماله يقاسي في طلب الحبيب من الأهوال ما هو أثقل من الجبال ويسمح في مقابلة اللمحة اليسيرة منه بالنفس والمال. قال الطغرائي: ومن طلب الأحبة كان اسخى ... ببذل النفس من كعب بن مامه ومن طلب الغنائم لم يهب من ... نضى من دون مطلبه حسامه وقال أيضاً: لأكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الأعين النجل ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الأستار والكلل

الباب السادس والعشرون

وقال الإمام محمد بن داوود الظاهري: حملت جبال الحب فيك وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف وما الحب من حسن ولا من سماحة ... ولكنه شيء به الروح تكلف وهذا البيت الأخير مثل قول الآخر: وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري وقد أنصف هذا العاشق لاعترافه بأن ثم من هو أحسن من محبوبه ولكن غلبة الهوى وميل النفس أوقعاه في هواه ومن أحسن ما سمعته في طلب الأوطار وركوب الأخطار قول ابن خفاجة: لقد جبت دون الحي كل تنوفة ... يحوم بها نسر السماء على وكر وخضت ظلام الليل يسود فحمة ... ودست عرين الليث ينظر عن جمر وجئت ديار الحي والليل مطرق ... منمنم ثوب الأفق بالأنجم الزهر أشيم بها برد الحديد وربما ... عثرت بأطراف المثقفة السمر فلم ألق الأصعدة فوق لامة ... فقلت قضيب قد أظل على نهر ولا شمت الأغرة فوق أشقر ... فقلت حباب يستدير على خمر فسرت وقلب البرق يخفق غيرة ... ههناك وعين النجم تنظر عن هناك وشزر قلت أنظر إلى هذه الأبيات التي أفرغت في قالب عجيب وأسلوب غريب فبينا صاحبها يصف أدهم الليل إذ مالت عليه الخيل كل الميل وبينا هو يكافح الأسود إذا به يتنهد على النهود وبيننا هو يقيم قدود الملاح مقام الرماح إذا به يقول لخدودها: من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح قد أحسن فيها الاستعارة وساير بنظمها العالي وعددها السبعة السيارة فنظمه في النجوم ودمع المتلبي بحالته كالرجوم ومن شعره في هذا النمط ودره الداخل في هذا السقط قوله أيضاً: وليل طرقت المالكية تحته ... أجد على حكم الشباب مزارا فخالطت أطراف الأسنة أنجماً ... ودست بهالات البدور ديار وقال أيضاً: يعللني منه بوعد رشفة ... خيال له يغري بمطل وليان شققت عليه لجة من صوارم ... عليها حباب من أسنة مران وقال ابن بسام: لقد صبرت على المكروه أسمعه ... من معشر فيك لولا أنت ما نطقوا وفيك داريت قوماًلا أخلاق لهم ... لولاك ما كنت أدري أنهم خلقوا وقال الآخر: تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن يطلب العلياء لم يعيه المهر وقال آخر: يغوص البحر من طلب اللآلي ... ومن طلب العلا سهر الليالي تروم المجد ثم تنام ليلاً ... لقد أطمعت نفسك بالمحال وقال المتنبي: تريدين ادراك المعالي رخيصة ... ولا بدون الشهد من ابر النحل الباب السادس والعشرون طيب ذكر الحبيب

أقول هذا باب عقدناه لذكر من صال وجال وذكر محبوبه حين تكسرت النصال في كل موقف الوقوف فيه هزيمة والموت غنيمة ولا سيما إذا أقيمت القسيء مقام الحواجب والتبست الخود بنهود الكواعب واشتبهت الرماح بالقدود والببيض بحمرة الخدود هنالك يجعل حبيبه المشار إليه نصب عينيه ولا يلهيه عنه ضرب الحسام ولا جعله غرضاً للسهام وعلى هذا حكاية الطغرائي التي أربي فيها على عنترة العبسي وزاد بها في الوفاء بشرط المحبة على كل جني وأنسي وهي ما حكاه غير واحد من أرباب التاريخ ممن خبر وخبر وتصدى وتصدر وذلك أن مؤيد الدين فخر الكتاب أبا إسماعيل الحسين الأًبهاني المنشيء المعروف بالطغرائي كاتب الإنشاء للملك مسعود وبين أخيه السلطان محمود بالقرب من همدان والري وانهزم الملك مسعود كان أول من أخذ الطغرائي فلما عزم السلطان أخو مخدومه على قتله بعد أن قيل له عنه شياء من جملتها أنه ملحد وأنه يحب المملوك الفلاني من مماليك السلطان ممن كان السلطان يحبه ويميل إليه فأغروه عليه إلى أن أمر بقتله وأن يشد إلى شجرة وأن يقف تجاهه جماعة ليرموه بالسهام ففعل ذلك وأوقف إنساناً خلف الشجرة من غير أن يشعر به الطغرائي وأمره أن يسمع ما يقول وقال لأرباب السهام لا ترموه إلا إذا أشرت عليكم فوقفوا والسهام في أيديهم مفوقة لرميه وأخبرني بعض من حكى لي هذه الحكاية من أهل الأدب أن أول من فوق إليه السهم المملوك المتيم هو بحبه فأنشد الطغرائبي في تلك الحالة يقول: ولقد أقول لمن يسدد سهمه ... نحوي وأطراف المنية شرع والموت في لحظات أحور طرفه ... دوني وقلبي دونه يتقطع بالله فتش عن فؤادي هل ترى ... فيه لغير هوى الأحبة موضع أهون به لو لم يكن في طيه ... عهد الحبيب وسره المستودع فمر السلطان بإطلاقه وحل وثاقه لما رآه من ثبات جنانه وسحر بيانه وقد زاد هذا العاشق على من تقدمه من المتصفين بهذا الوصف كابن عطاء السندي حيث يقول: ذكرت والخطى يخطر بيننا ... وقد نهلت مني المثقفة السمر فوالله ما أدري وإني لصادق ... أداء عراني من خيالك أم سحر وقال عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف ... لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم وما أرق قول الطغرائي أيضاً: إني لأذكركم وقد بلغ الظمأ ... مني فأشرق بالزلال البارد وأقول ليت أحبتي عاينتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد وقال آخر: ذكرت سلمى وحر الوغا ... كقلبي ساعة فارقتها فشبهت سمر القنا قدها ... وقد ملن نحوي فعانقتها وقال ابن تميم: ألا من يبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظي حولي ضئيل وأني جلت جيش الأعادي ... برمحي وهو في فكري يجول وقال أيضاً: ولقد ذكرتك والصوارم لمع ... من حولنا والسمهرية شرع وعلى مكافحة العدو ففي الحشا ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع ومن الصبا وهلم جرا شيمتي ... حفظ الوداد وكيف عنه أرجع وقال الشريف البياضي: ولقد ذكرتك والطبيب معبس ... والجرح منغمس به المسبار وأديم وجهي قد فراه حديده ... ويمينه حذراً على يسار فشغلتني عما لقيت وأنه ... لتضيق منه برحبها الأقطار وقال ابن رشيق: ولقد ذكرتك في الشفينة والردى ... متلاطم متوقع الأمواج والجو يهطل ةالرياح عواصف ... والليل مسود الذوائب داجي وعلى السواحل للأعادي عسكر ... يتوقعون لغارة وهياج وعلت لأصحاب السفينة ضجة ... وأنا وذكرك في ألذ تناجي وقال أبو الثناء محمود: ولقد ذكرتك والسيوف لوامع ... والموت يرقب تحت حصن المرقب والحسن في شفق الدروع تخاله ... حسناء ترفل في رداء مذهب والموت يلعب بالنفوس وخاطري ... يلهو بطيب ذكرك المستعذب وقال صفي الدين الحلي:

ولقد ذكرتك والعجاج كأنه ... مطل الغنى وسوء عيش المعسر والسوس بين مجتدل في جندل ... منا وبين مغفر في مغفر ظننت أني في صباح مسفر ... بضياء وجهك أو مساء مقمر تعطرت أرض الكفاح كأنها ... فتقت لنا أرض الجلاد بعنبر وقال أيضاً: لقد ذكرتك والجماجم وقع ... تحت السنابك والأكف تطير الهام في أفق العجاجة حوم ... فكأنها فوق النسور نسور فاعتادني من طيب ذكرك نشوة ... وبدت علي بشاشة وسرور فظننت أني في مجالس لذتي ... والراح تجلى والكؤوس تدور وقال آخر: وله حكاية مثل حكاية الطغرائي المتقدمة مذكورة في منازل الأحباب: ولقد ذكرتك والرماح تنوشني ... عند الإمام وساعدي مغلول ولقد ذكرتك والذي أنا عبده ... والسيف فوق ذؤابتي مسلول وقال أبو طالب الرفاء: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق وللناس في هذا البيت كلام وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان: ولقد ذكرتك والبحر الخضم طغت ... أمواجه والورى منه على سفر في ليلة أسدلت جلبابة ظلمتها ... وغار كوكبها عن أعين البشر والفلك في وسط الأمواج يحسبها ... عيناً وقد أطبقت شفراً على شفر والروح من حزن راحت وقد وردت ... صدري فيا لك من ورد بلا صدر هذا وشخصك لا ينفك في خلدي ... وفي فؤادي وفي سمعي وفي بصري وقلت أنا في رمل طريق مصر إلى الشام من مقامة: ولقد ذكرتكم برمل روعه ... في قلب كل مشرق ومغرب وبنو بياضة كالدبي من حولنا ... بسوأدهم سدوا فسيح السبب والقضيب تبري هام كل مدجج ... من كف أشوس بالحروب مهذب وأسنة الرماح تلمع في الدجى ... كوميض برق في الدجى متلهب وعلى العوالي كل نسر واقع ... يفري أديم الليث منه بمخلب والرعد للأرماج رعد قاصف ... والبحر يهدر كالهزبر الأغلب والبر بحر بالدما والبحر بر ... بالفرنج وكل كلب أجرب وعلى السواحل غارة شعواء ما ... فيها لمن يرجو النجا من مهرب وأنا باوتار القسى كأنني ... فيه أغني بالرباب وزينب وأقول ليت أحبتي يدرون ما ... أنا فيه من لهو وعيش طيب وقال مجنون ليلى: ذكرتك والحجيج له ضجيج ... بمكة والقلوب لها وجيب فقلت ونحن في بلد حرام ... به لله أخلصت القلوب أتوب إليك يا رحمن مما ... جنيت فقد تكاثرت الذنوب فأما عن هوى ليلى وتركي ... زيارتها فإني لا أتوب وللناس على هذا البيت الأخير كلام وحكى عن ليلى الأخيليلة أنها مرت مع زوجها بقبر توبة بن الحمير فقال لها هذا قبر الكذاب الذي قال: ولو أن ليلى الأخليلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح فقالت دعه فقال أقسمت عليك إلا ما دنوت منه فسلمت عليه فأبت فكرر عليها ذلك فلما تقدمت إلى القبر وقالت السلام عليك يا توبة طار من جانب القبر طائر كان هناك وزقا ونفر منه جمل ليلى فوقعت من أعلاه فاندقت عنقها وماتت من وقتها ودفنت إلى جانب توبة وهذا من العجائب لأنه وفى لها بما التزمه بعد الموت وقد بلغ الآخر حيث قال: لو حز بالسيف رأسي لي مودتها ... لمر يهوي سريعاً نحوها رأسي ولو بلى تحت أطباق الثرى جسدي ... لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي لو يقبض الله روحي صار ذكركم ... روحاً أعيش به ما دمت في الناس وقال آخر: ولقد ذكرتك والظلام معبس ... وأنا قعيد في البيوت وحيدتي والجو يصفر من قعودي في الهوا ... ما فيه خل يكون عنيدتي والبق والناموس حولي عسكر ... يتفاتلون على شريب دميمتي

الباب السابع والعشرون

والفار يلعب في الزوايا دائماً ... وينط كالقعقاع فوق كويرتي والعنكبوت يحوك حلة خيمة ... يصطاد ذبابا تجوز كويتي والأكل خبز مثل رأسي يابس ... والشرب مر من دخيل بليدتي وسماع نغماتي طنين بعوضة ... وصرير صرصرة وصفر بويمة فوددت تعنيق الفويرة كلما ... نطت لأنك مثلها في الخفة وحسدت أيدي لعنكبوت لشبهها ... بأصابع لك شبهها في الرقة وطربت من صوت الصراصر نغمة ... إذ اشبهت نغمات صوت حبيبتي فبكيت شوقاً حيث لا أنت معي ... تتنعمين تنعمي في غرفتي الباب السابع والعشرون طرف يسير من المقاطع الرائقة والأغزال الفائقة مما اشتمل على ورد الخدود ورمان النهود وغير ذلك أقول هذا الباب عقدناه لذكر طرف يسير من الغزل والنسيب ومحاسن التشبيب مما يطرب سماعه ويؤخذ لطالع الحسن ارتفاعه كقول بلدينا الشاعر الظريف محمد بن العفيف. أيسعدني يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي خط بخديك نازل نعم قد تناهى في الجفاء تطاولاً ... وعند التناهي يقصر المتطاول وما كنت مجنون الهوى قبل أن يرى ... لقلبي من صدغيك في الأسر عاقل ولولا سنان من لحاظك قاتل ... لما كنت أدري أن طرفك ذابل ولم لا يصح الوجد فيك وناظر ... لنسخة حسن من سناك يقابل ولو أن قيساً واصفاً منك وجنة ... لا عجزه نبت بها وهو باقل نعم هذا الباب من أوسع هذه الأبواب مجالاً وأجرأها جرياً لا وأحسنها خطاباً وأعذبها نصاباً فيه يتميز سمين الشعر من غثه وجديده من رثه ولا يكاد يجود فه إلا ذاك ولا يدركه إلا كثير الدراية وما أدراك وقد تقدم أن أغزل بيت قالته العرب قول بشار. أنات والله أشهى سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشاق وقال محمد بن العفيف وأحسن ما شاء. وعيون أمرضن جسمي ... وأضرمن لقلبي لواعج البلبال وخدود مثل الرياض زواه ... ما لأيام ورودها من زوال لم أكن من جناتها أعلم ... الله وإني بجمرها اليوم صالي وقال أيضاً: يحكي الغزال نظرة ولفتة ... من ذ رآه مقبلاً ولا افتتن أحسن خلق الله لفظ أو فما ... إن لم يكن أحق بالحسن فمن في ثغره وخده وشكله ... الماء والخضرة والوجه الحسن ولهذه الأبيات حكاية أتفقت لابن تقي المقتول بالقاهرة. وقال أيضاً: إذا ما رمت حل البند قالت ... معاطفه حمانا لا يحل وإن حلت بوجنته مدام ... يرى لعذاره دوره ونزول وقال أيضاً: بدا وجهه من فوق أسمر قده ... وقد لاح من سود الذوائب في جنح فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح وقال أيضاً: أحلى من الشهد من هويت وكم ... فتنت به في الهوى مرارات وكيف لا تستطاب ريقته ... وثغره سكر سنينات وقال آخر: ومليح قال صفني ... أنت في القول فصيح قلت قولاً باختصار ... كل ما فيك مليح وقال إبراهيم المعمار: ومليح قال حسني ... ازداد سرورا كم حوى جفني معنى ... قلت ألفاً وكسورا وقال أيضاً: حاكمت في شرع الهوى قاتلي ... ولي دم طل على خده فاتهم الحاكم لحظاً له ... يحقق الفتنة من عنده ومال للحق فلما رأى ... قد غريمي مال مع قده وقال خطيب سمهود: قال لي من هويت شبه قوامي ... وقد اهتز بالجمال دلالا قلت غصن على كئيب مهيل ... صافحته يد النسيم فمالا وقال السراج الوراق: قلت للأهيف الذي فضح ... الغصين كلام الوشاة ما ينبغي لك

قال قول الوشاة عندي ربح ... قلت أخشى يا غصن أن يستميلك وقال آخر: قال لي أهيف المعاطف صف لي ... حيفي قلت يا رشيق القوام لك قد لولا جوارح لحظك ... لغنت عليه ورق الحمام وقال النور الأسعردي: قد قنعنا بالخمر والماء والخضرة ... والأهيف الرشيق القوام وتركنا مناصب لناس زهدا ... فلماذا يؤذوننا بالكلام وقال ابن خفاجة: ومهفهف طاوي الحشى ... كالغصن يخطران خطر فإذا رنا وإذا شدا ... وإذا سقى وإذا سفر فضح الغزالة والحما ... مة والغمامة والقمر وقال كثير عزة: الله أعلم لو أردت زيادة ... في عزة ما وجدت مزيدا رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعاً وسجودا وقال أيضاً من أبيات وهو أحسن ما قيل في حسن الحديث ولها حكاية حكاها المبرد في الكامل من الخفرات اليبض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها. وقال ابن الرومي: وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز وقال ابن حمديس: لا يمل الحديث منها معادا ... كانتشاق الهواء ليس يمل وقال ابن أبي الحديد: بالله ضع قدميك فوق محامجري ... فلقد قنعت من الوصال بذاكا وأطل محادثتي فإن مسامعي ... تهوى حديثك مثل ما أهواكا وقال آخر: ومليح قلت ما الاسم ... حبيبي قال مالك قلت صف لي وجهك الزا ... هي وصف لين اعتدالك قال كالبدر وكالغصن ... وما أشبه ذلك وقال العطوي: ذات خدين ناعمين ضنينين ... بما فيهما من التفاح وثنايا وريقة كغدير ... من عقار وروضة من أقاح وقال امرؤ القيس: خليلي مرا بي على أم جندب ... نقضي لبانات الفؤاد المعذب ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب وقال النميري وأحسن في الوصف. وبيضاء مكسال كعرب خريدة ... لذيذ لذي ليل التمام التزامها كأن وميض البرق بيني وبينها ... إذا حان من بعض البيوت ابتسامها وقال ابن أبي ربيعة: طفلة باردة الصيف إذا ما ... معمعان القيط أضحى بنقد سخنة المشتى لحاف للفتى ... تحت ليل حين يغشاه البرد وقال المتنبي: أرخت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا وقال ابن المستوفي الأربلي: رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني قلت وللناس عليه كلام ولهم على فهمه زحام حتى أن بعضهم وضع فيه كتاباً: وقال آخر: بروحي وجسمي ذلك العرض الذي ... غدا مسكه فوق السوالف سائلا درى خدها أني أجن من الهوى ... فأظهر لي قبل الجنون سلاسلا وقال سعد الدين محمد بن عربي: لما تبدى عارضاه في نمط ... قيل ظلام بضياء اختلط وقيل نمل فوق عاج قد سقط ... وقال قوم أنها اللام فقط وقال آخر: رأيت الهلال على وجه من ... رأيت الهلال على وجهه وقال آخر: بررت فقابل ناظري من وجهها ... مرآة حسن بالجمال صقيل أبكي فأنظر أدمعي في خدها ... تجري فأحسب أنها تبكي لي وقال ابن قلاقس: فوق خديك دليل ... أن نهديك ثمار ما اختفى الرمان إلا ... وتبدى الجلنار وقال الخبزرازي: رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال الدجى من هلال البشر

الباب الثامن والعشرون

فلولا التورد في الوجنتين ... وما راعني من سواد الشعر لكنت أظن الهلال الحبيب ... وكنت أظن الحبيب القمر وقال محمد السلامي: بدائع الحسن فيه مفترقة ... وأعين الناس فيه متفقة سهام ألحاظه مفوقة ... فكل من رام لحظه رشفه قد كتب الحسن فوق وجنته ... هذا مليح وحق من خلقه وقال ابن رشيق: معتدل القامة والقد ... مورد الوجنة والخد قل للذي يعجب منه حسنه ... اقرأعليه سورة الحمد وقال أيضاً: شكوت بالحب إلى ظالمي ... فقال لي مستهزئاً ما هو قلت غرام ثابت قال لي ... اقرأ عليه قل هو الله وقال شيخ الشيوخ بحماة: سألته من ريقه شربة ... أشفي بها من كبدي حره فقال أخشى يا شديد الظمأ ... أن تتبع الشربة بالجره وقال يحيى الخباز: طلبت منه قبلة قال لي ... إياك أن تطمع في القرب البوس شاليش وقد اختشى ... أن تتبع الشاليش بالقلب وقال ابن أسد: أريقاً نم رضابك أم رحيقا ... رشفت فلست من سكري مفيقا وللصهباء أسماء ولكن ... جهلت بأن في الأسماء ريقا وقال السراج الوراق: قال من شبه ريقي ... بالزلال العذب زلا إنما ريقي شهد ... قلت ذا من فيك أحلى وقال آخر: ظبي ترى وجهك في وجهه ... وتشرب الخمرة من فيه وقال آخر: ما أنصفوا إذا لقبوا مشارباً من بعد ما أمسى لقلبي آكلا وقلت أنا: يا صاح سكري من هوى أغيد ... قوامه كالغصن أن ماسا ساق متى ما لاح لي كاسه ... ذكرني شاربه الآسا وقلت أيضاً: فتاة حين زارتني عشاء ... رأيت الشمس ليلاً وسط داري فورد خدودها ما لاح إلا ... وأحرق عاشقيه بجلنار فصف لي شعرها ليلاً وطول ... وقل في الخصر قولاً باختصار تدير لنا مراشفها عقاراً ... قريب العهد من كاس مدار ومنها: عدمتك يا عذولي فيه قل لي ... إذا لاح العذار فما اعتذاري كأنك ما شعرت بأن حبي ... غدا بعذاره حسن الشعار غدوت مكاتباً فيه بخط ... قريب الشكل من قلم الغبار سقاني من مقبله شراباً ... طهوراً لم يدنس باعتصار وأعقب وصله هجراً فقلبي ... على حرف من الهجران هار إذا ما قادني يوماً هواه ... مشيت وقطر دمعي كالقطار أيطمعني بخفض العيش دهري ... وجر الدمع فيه على الجوار وقلت أيضاً من قصيدة أمدح بها مولانا السلطان حسن: ترادفت التهاني والسرور ... وبشرنا بوصلكم بشير وبات بقلعه الجبل انشراح ... وأفراح وأحباب وحضور بروج الأفق فيها فرد بدر ... وافق بروجها فيه بدور تغازل باللواحظ في دجاها ... فما نامت ولا فتر الفتور ومنها: أغار من النسيم بها إذا ما ... تصافح كفه فيها الستور إذا نشرت ذوائبها تبدي ... لميت الحب في الدنيا نشور لها ثغر يصون الدرمجا ... يبيت عليه من خفر خفير وفرق بين ضوء الصبح لما ... يلوح وبينه فرق كبير الباب الثامن والعشرون ذكر طرف يسير من أخبار المطربين المجيدين من الرجال وذوات الحجال وما في معنى ذلك من ذلك مولا تهم ووصف آلاتهم

أقول هذا باب عقدناه لذكر من استراح من العناء بسماع الغناء من كل محب يشبب بالشباب ويغني بالرباب فهو يضرب بالعود ويجمع من المذكور والمؤنث بين الشيء وضده لا يلهبه غير ملاهيه ولا سيما إذا كان في الغناء ممن يعرف الصواب ويقيم الأعراب ويشبع الألحان ويعدل الأوزان ويصيب أجناس الإيقاع ويعطي النغم حقه من الإشباع ويختلس مواضع النيرات ويستوفي ما شاكلها من النقرات ويحسن الاختلاس ويملأ الأنفاس وغير وذلك مما هو معروف عند أرباب هذا الشأن من القبان ممن جمع في ذلك بين الحسن والإحسان كما قيل: ما تغنت إلا تفرج هم ... عن فؤادي وأقلعت أحزان يفضل المسمعين طيباً وحسناً ... مثل ما يفضل السماع العيان والناس في الغناء كلهم عبيد معبد واسحق الموصلي اللذين هما أطبع المتقدمين في الغناء فيما حكاه غير واحد من أرباب التاريخ وفي معبد يقول حبيب. محاسن أوصاف المغنين جمة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد وقال البحتري يصف صهيل فرس هزج الصهيل كان في نغماته نبرات معبد في الصهيل الأول ومعبد هذا كان منقطعاً إلى البرامكة ومات في أيام الرشيد وأخباره أشهر من أن تذكر وقد ذكرها صاحب الأغاني وغيره وأما اسحق الموصلي فإنه كان من أهل العلم والأدب والرواية والتقدم في الشعر وسائل المحاسن أشهر من أن يوصف وهو الذي صحح أجناس الغناء وميز طرائقها تمييزاً لم يقدر عليه أحد قبله ولا بعده من تدقيق المجاري وتمييز الأصناف التي جعلوها صنفاً واحداً وهي في نفسها كذلك ولكنها تفترق عند متيقظ مثله من كلامه حدود الغناء أربعة النغم والتأليف والإيقاع والقسمة وكان قد سأل المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب لا مع المغنين فإذا أراده للغناء دعاه فأجابه إلى ذلك وقال الواثق ما غناني اسحق قط إلا ظننت أنه زيد في ملكي وأن اسحق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ أحد بمثلها ولو أن العمر والنشاط ما يشتري لشريته له بشطر ملكي وجلس عند إبراهيم ابن مصعب للشرب فسقى الغلمان من حضر وجاء غلام قبيح الوجه بقدح إلى اسحق فلم يأخذ منه فقال له إبراهيم ألا تشرب فقال: أصبح نديمك أقداحاً تسلسلها ... من الشمول وأتبعها بأقداح من كف ريم مليح الدل ريقته ... بعد الهجوع كمسك أكتفاح لا تشرب الراح إلا من يدي ربنا ... تقبيل راحته أشهى من الراح فدعا بوصيفة تامة الحسن في زي غلام عليها أقبية ومنطقة فسقته حتى سكر ثم أمر بتوجيها إليه بكل ما معها في داره ومما لحنه اسحق وله حكاية ظريفة: قل لي من صد عاتباً ... ونأى عنك جانباً قد بلغت الذي أردت ... وإن كنت لاعباً واعترفن بما ادعيت ... وإن كنت كاذباً وقد تركت حكاية هذه الأبيات خوف الإطالة وهذا القدر كاف في أخبار اسحق في هذا الموضع وحكى أبو الفرج أنه أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال فخلا معها في قصره يوماً واصطبح فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة ما يزيد عن ألفي جارية في أحسن زي من الثياب والجواهر فوصل الخبر إلى أم جعفر فعظم ذلك عليها وأرسلت إلى علية أخت الرشيد تشكو إليها فأرسلت إليها علية لا يغيظك هذا فوالله لأردنه إليك وقد عزمت أن أصنع شعراً وأصوغ عليه لحناً وأطرحه إلى جواري فابعثي إلي كل جارية عندك وألبسيهن أنواع الثياب والجواهر حتى ألقي عليهن الصوت مع جواري ففعلت أم جعفر ما أمرتها به عليه فلما صلى الرشيد العصر لم يشعر إلا وعلية قد خرجت عليه من قصر ومعها ما ينيف عن ألفي جارية عليهن غرائب اللباس وكلهن في نغمة واحدة يغنين بهذين البيتين: منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل يا قاطعي قل لي لمن ... نويت بعدي أن تصل

قال فطرب لارشيد وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر ومعه علية وهو في غاية السرور وقال لم أر كاليوم سروراً قط وقال لمسرور الخادم لا تترك في الخزانة مالاً إلا نثرته فكان مبلغ ما نثره في ذلك اليوم ستة آلاف ألف درهم وما سمع بمثل ذلك قط وحكى عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى أنه أخرج إلى حضور جنازة وكان لرجل من أخوانه منزل بالقرب من مقبره فعزم عليه في الميل إليه فنزل وأحضر له طعاماً فغنيت جارية. طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة خدك التفاح وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعرف نسيمك الأرواح وإذا الخنادس أسبت ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجا مصباح فكتبها القاضي طرباً بها على ظهر يده ثم خرج، قال راويه فلقد رأيته يكبر على الجنازة وهذه الأبيات على ظهر يده. وما أحسن قول ابن تميم في عواده. وفتاة قد راضت العود حتى ... راح بعد الجماح وهو ذليل خاف من عرك إذنه إذ عصاها ... فلهذا كما تقول يقول وقال آخر: سقى الله أرضاً أنبتت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس فغتى عليه الطير والعود أخضر ... وغنى عليه الغيد والعود يابس وقال ابن قاضي ميلة: جاءت بعود يناغيها ويسعدها ... فانظر بدائع ما خصت به الشجر غنت على عوده الأطيار مفصحة ... غضا فلما ذوى غنى به البشر فلا يزال عليه أو به طرب ... يهيجه الأعجمان الطير والوتر وقال ابن حجاج: هذا ومحسنة بالعود عاشقها ... بذلك الطيب فى الإحسان مسرور إذا انثنت وتغنمت خلف قامتها ... غصناً عليه قبيل الصبح شخرور وقال آخر: وجارية إذا غنتك صوتاً ... فما لك من فراق الحلم بد كأن يسارها في العود برق ... ويمناها إذا ضربته برق وقال آخر: أشارت بأطراف لطاف كأنها ... أنابيب در قمعت بعقيق ودارت على الأوتار جساً كأنها ... بنان طبيب في مجس عروق وقال النور الأسعردي في جنكية: لبنت شعبان جنبك حين تنطقه ... يغدو بأصناف ألحان الورى هازي لا غرو إن صاد ألباب الرجال لها ... أما تراه يحاكي مخلب البازي وقال الصلاح الأربلي وأحسن ما شاء. الجنك مركب عقل في تشكله ... والرق قرع له الأوتار أطناب يجري بريح اشتياق في بحار هوى ... يؤم ساحل وصل فيه أحباب وقال ابن دانيال في دفية: ذات القوام الذي يهتز غصن نقا ... لو مر يوماً عليه طائر صدحا تبدي على الدف كالجمار معصمها ... لنقره ببنان يشبه البلجا غناؤها بريق الريح تمزجه ... فما ينقط إلا كل من رشحا وقال ابن عديم في مغنية: والله لو أنصف الأقوام انفسهم ... أعطوك ما ادخروا فيها وماصانوا ما أنت حين تغني في مجالسهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان وقلت أنا: وغانية مكملة المعاني ... بلطف ما عليه من مزيد إذا ما أطربتنا بالمثاني ... تثنت بين رمان النهود تغار السمر منها حين تبدو ... كغصن البان في خضر البرود بأطراف من الحناء حمر ... وألحاظ كبيض الهند سود سوالفها من الريحان أطرى ... يواخيها الشقيق من الخدود وقال آخر: بابي أغاني مطرب ... أبداً ترضاه النفوس يشدو فنرنو بالكؤس ... له ونرقص بالرؤس وقال آخر: وزامر يبعث في زمره ... إلى قلوب الناس أفراحا كأن إسرافيل في نايه ... ينفخ في الأموات أرواحا وقال آخر في مشبب: ومطرب قد رأينا في أنامله ... شبابة لسرور النفس أهلها ٍكأنه عاشق وافت حبيبته ... فضمها بيديه ثم قبلها وقال بن قرناص في مليح مشبب: مشبب بجفاه راح يقتلنا ... فإن تداركنا بالنفخ أحيانا

الباب التاسع والعشرون

هويت تشبيبه من قبل رؤيته ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا وقلت أنا: رعى الله أرباب اليراع فإنهم ... أزاحوا اعتذاري عنهم بالهوى العذري ٍمواصيلهم من نفخهم كل ساعة ... جلبنا الهوى من حيث أدري ولا أدري وقلت أيضاً ملغزاً في شبابة: وما خرساء إن نطقت رأينا ... تناقض فعلها أمر عجيبا منقبة وليس لها أزار ... توافينا ولم تخشى الرقيبا فتاة إن خلوت بها صحبي ... رأيت لهم معي فيها نصيبا ينازعني هواها كل صب ... وإن لم تشبه الرشا الربيبا فكم من عاشق فضحته فينا ... وكم جمعت بمجلسها حبيبا تجدد لي إذا نطقت سرورا ... يعيد زماني البالي قشيبا أرق من النسيم الرطيب صوتاً ... وأسرع في الورى منه هبوبا تغازل دائماً بعيونها من ... يطارحها التغزل والنسيبا فدع لومي إذا ما همت بها ... وأنشدني من الشعر الغريبا وشبب لي بها أبداً وقل لي ... ضروب الناس عشاق ضروبا فأغدرهم محب ذو ملال ... وأعذرهم أشبهم حبيبا وقال المصيص الخياط يهجو عوّاداً: وإذا تربع لا تربع بعدها ... وغدا يحرك عوده متقاعسا فكأن جرذان المدينة كلها ... في عوده يقرضن خبزاً يابسا وقال آخر: وغنى أبو الفضل فقلنا له ... سبحان مخليه من الفضل غناؤه حدُ على شربه ... فاشرب فأنت اليوم في حل وابلغ ما قيل في ذم المغني قول كشاجم: ومغن بارد النغمة ... مختل اليدين ما رآه أحدفي ... دار قوم مرتين وقال آخر: ومغن بار ... أذهب اللذات عنا فسألناه سكوتا ... فأبى يسكت عنا فشتمناه فغنى ... فاشتفى القواد منا وقال آخر: مغنية سوء ألفاظها ... يميت السرور ويحيي الكرب مقبحة الوجه مفلوجة ... فلا للنكاح ولاللطرب وقال آخر: ولرب زامرة يهيج زمرها ... ريح البطون فليتها لم تزمر شبهت أنملها على ضرباتها ... وقبيح مبسمها الشنيع الأبخر بخنافس قصدت عنيفا واغتدت ... تسعى إليه على خيار الشنبر هذا مثل قولهم في المثل أبصر الحامل والمحمول ودار الوكالة: وقال آخر: كأنها في حالة العيان ... خنافس دبت على ثعبان وما أحسن قول الوجيه الدرري فيمن يغني بالرباب ويجمع بين الأحباب لا تبعثوا بسوى المعذب جعفر ... فالشيخ في كل الأمور مهذب طوراً يغني بالرباب وتارة ... يأتي على يده الرباب وزينب الباب التاسع والعشرون ذكر من ابتلى من أهل الزمان بحب النساء والغلمان أقول هذا باب عقدناه لذكر عشاق زماننا هذا وهم ما تعرفهم بسيماهم فمنهم من أتصف بالانصاف وسلك طريقة السلف في العفاف وهذا النوع فيما يظهر أعز من الكبريت الأحمر لم أراه ولا رأيت من رآه وإن وجدت اسمه فأين مسماه. فاشهد بصدق مقالتي ... أو لا فكذبني بواحد هيهات بل قصارى أهل هذا العصر أن يعشق أحدهم بكرة ويواصل الظهر ويسلو العصر وعلى هذا حكاية بعض العلماء من أهل المدينة فيما حكاه عمرو بن شيبة قال كان الرجل يحب الفتاة فيدور بدارها حولاً يفرح إن رأى من رآها فإذا ظفر بها في مجلس تشاكيا وأنشد الأشعار واليوم يشير إليها وتشير اليه فيعدها وتعده فإذا التقيا لم يشكو حباً ولم ينشدا شعراً وقام إليها كأنه على نكاحها أمين الأمناء كما قيل. لم يخطو من داخل الدهليز منصرفا ... إلا وخلخالها قد قارب الشنفا وقال الأصمعي قلت لإعرابية ما تعدون العشق فيكم قالت العنق والضمة والغمزة والمحادثة ثم قالت يا حضري فكيف هو عندكم قلت يقعد ما بين رجلي عشيقته ثم يجهدها قلت يا ابن أخي ما هذا عاشق هذا طالب ولد.

وسئل إعرابي عن ذلك فقال هو مص الريقة ولثم الثغر ولاأخذ من أطايب الحديث بنصيب فكيف هو عندكم أيها الحضري فقال العض الشديد والجمع بين الركبة والوريد ورهز يوقظ النيام ويوجب الآثام فقال تالله ما يفعل هذا العدو فكيف الحبيب قلت وقد تقدم أن الملوك كغيرهم في العشق وإن الملط العظيم قد يعشق ولا يذهب به عشقه إلى ترك تدبير ملكه وهناك طبقة أخرى دون الملوك إذا عشقوا لم يتفرغوا لاشتغالهم بصنائعهم وطبقة أخرى يبخلون بأديانهم وعقولهم عن شغل قلوبهم بما لا يحل لهم ويحرم عليهم وما سوى هؤلاء فإن عشقهم عرض من الأعراض بل مرض من الأمراض إذا وصلوا إليه أسرعوا بأنصرافهم عنه وربما صار هجراناً بل عداوة إلى آخر العمر وهذا هو الغالب على أهل زماننا هذا وهو أفسد أنواع الحب إذ يوجد عند الفراغ ويذهب عند الشغل ويحدث عند غلبة الشهوة ويتلاشى بتلاشيها فهو أضعفها لا محالة وأمر صاحبه سهل إذ هو يسلو بالجفاء وحب بقليل الوفاء ومن كانت هذه حاله سهل أمره وانطفأ بالبولة جمره فمن أهل هذا العصر من اقتصر على دمية القصر فهام بالحسناء من النساء ومنهم من خلع في الأمرد العذار وقال للسلو عن وجنته الحمراء النار ولا العار ومنهم من قرن بين الفريقين وجمع من المذكر والمؤنث بين الضدين فتراه يأتي على ما حضر ولا يتوقف عند صورة من الصور كما قيل: أنا الرجل البصير بكل أمر ... دخلت من التصابي كل باب فيهوى المرد والشبان قلبي ... ولا يأبى مواصلة الكعاب وقد زاد ديك الجن على هذا حيث قال: أعشق المراد والنكاريش والشي ... ب وعند مثل البنين البنات خذ ما يشتهي ويعشق عندي ... حيوان نحل فيه الحياة وقال أيضاً: أنا من قولي مليح ... أو قبيح مستريح كل من يمشي على وج ... هـ الثرى عندي مليح حد ما ينكح عندي ... حيوان فيه روح وقال ابن تميم مضمناً: ومعشر عدلوا لما ركبت على ... أحوى محاسنه قبحن فعلهم دع يعدلوا مااستطاعوا إنني رجل ... لو استطعت ركبت الناس كلهم وقال بعض مشايخ العصر: وعارض قد لام في عارض ... وطاعن يطعن في سنه وقال لي قد طلعت ذقنه ... فقلت لا أفكر في ذقنه وقال أيضاً: شب وجدي بشائب ... من سنا البدر أوجه كلما شاب ينحني ... بيض الله وجهه وقال أيضاً بعض مشايخ العصر: وقد عنفوني في هواه بقولهم ... ستطلع منه الذقن فاصبر على الحزن فقلت لهم كفوا فإني واقع ... وحقكم بالوجد فيه إلى الذقن وقال أيضاً بعض مشايخ العصر: وكامل العارض قبلته ... فصدني وازور من قبلتي وقال كم أنهاكم عن فعل ذا ... وأنت ما تفكر في لحيتي وكتبت أنا إلى بعضهم: ليهن مولانا حبيب لم يزل ... بوصله في كل محسنا كم زينته لحية في وجهه ... أنبتها الله نباتاً حسنا فكتب إلي الجواب عن ذلك: يا مادحاً للحية سلواننا ... عن روضها لما زها لن يحسنا مذ أنبت فيه نباتاًحسنا ... قبلتها منه قبولاً حسنا فمكان كما قيل: حاشى لمثلي عن هواه يتوب ... هو دون كل العالمين حبيب أهواه طفلاًفي القماط وأمردا ... وبلحية وإذا علاه مشيب وقال أيضاً بعض مشايخ العصر وقد عشق شيخا كلفت به شيخاً كان مشيبه ... على وجنتيه ياسمين على ورد أخو العقل يدري ما يراد من الفتى ... أمنت عليه من رقيب ومن ضد وقالوا الورى قسمان في شرعة الهوى ... لسود اللحى ناس وناس إلى المرد فقلت لهم لو كنت أصبوا لأمرد ... صبوت إلى هيفاء مياسة القد وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركا ... فآثرت أن أبقى بأبيضهم وحدي وقال آخر وقد عشق عجوزاً. كلفت بها شمطاء شاب وليدها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب

فصل

وقال يا قوت الحموي وقد ظلم أهل الموصل من خصهم بالنسبة إلى اللوط حتى ضرب بهم المثل. وقال فيهم الشاعر: كتب العذارعلى صحيفة خده ... سطراً يلوح لناظر المتأمل بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأى إلا رأى أهل الموصل ولقد جببت البلاد ما بين جيحون والنيل فمن رأيته لا يخرج عن هذا المذهب فلا أدري لم يخص به أهل الموصل قيل وليس الأمر كذلك كما ادعى ياقوت من كل وجه لأن مجرد الميل إلى الذكر لا تخلو منه بقعة إنما أهل الموصل يزيدون على ذلك بأنهم يميلون إلى أصحاب الذقون وربما مالوا إلى من عذاره شيب ويقولون هنا شعرة وشعرة أي شعرة سوداء وشعره بيضاء وبعضهم يسميه زرزوريا وهذا قل أن يوجد في غير بلدهم وقد رموا بهذا من بين أهل البلاد وأهل الاسكندرية لأنهم يقولون ما نعطي فليستنا إلا لمن بنفقها على عائلته ووليداته، ما نعطيها لمن يأكل بها حلاوة قال الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية في كتابه روضة المحبين بعد ذكر قصة عاد وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع والعقوبة المستمرة ثم قصة قوم صالح كذلك ثم قصة العشاق أثمة الفساق ناكحي الذكران وتاركي النسوان وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون وقطع دابرهم وهم في سكرة عشقهم يعمهون وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أئمة من الأمم أجمعين وجعلهم سلفاً لإخوانهم اللوطية من المتقدمين والمتأخرين. قال لما تجرؤ على هذه المعصية وتمردوا ونهجوا لإخوانهم طريقاً وقاموا بها وقعدوا ضجت الملائكة إلى الله من ذلك ضجيجاً وعجت الأرض إلى ربها من هذا الأمر عجيجاً وهربت الملائكة إلى أقطار السموات وشكتهم إلى جميع المخلوقات وهو سبحانه قد حكم أنه لا يأخذ الظالمين إلا بعد إقامة الحجة عليهم والتقدم بالوعد والوعيد إليهم فلما خالفوا الرسول المرسل إليهم ووقعت الحجة عليهم فعل الله تعالى بهم ما أخبر به في كتابه العزيز فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد فهذه عاقبة اللوطية عشاق الصورة وهم السف وإخوانهم بعدهم على الأثر. فإن لم يكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منهم ببعيد وإنهم في الخسف ينتظرونهم ... على مورد من مهلة وصديد يقولون لا أهلاً ولا مرحباًبكم ... ألم يتعدكم ربكم بوعيد فقالوا بلى لكنكم قد سننتم ... صراطاً لنا في العشق غير حميد أتينا به الذكر إن من عشقنا لهم ... فأوردونا ذا العشق شر ورود فأنتم بتضعيف العذاب أحق من ... متابعكم في ذاك غير رشيد فقالوا وأنتم رسلكم أنذرتكم ... بما قد لقيناه بصدق وعيد فما لكم فضل علينا فكلنا ... نذوق عذاب الهون ذوق مزيد كما كلنا قد ذاق لذة وصلهم ... ومجمعنا في النار غير بعيد حكى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان عن الأصمعي أنه قال دخلت يوماً أنا وأبو عبيدة المسجد فإذا على الإسطوانة التي يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب على نحو سبعة أذرع: صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا فأنت عندي بلا شك بقيتهم ... منذ احتملت وقد جاوزت سبعينا قال لي يا أصمعي امح هذا فركبت ظهره ومحوته بعد أن أثقلته فقال أثقلتني وقطعت ظهري انزل فقلت له بقيت الطاء فقال هي شر حروف هذا البيت وقيل أنه لما ركب على ظهره وأثقله قال له عجل فقال قد بقي لوط فقال من هذا يهرب وكان الذي كتب ذلك أبو نواس. قلت وقد جاء في تفسير قوله تعالى أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض إن فسادهم كان اللواط. فصل النظر إلى وجه الأمرد ذكر الحافظ محمد بن ناصر

من حديث مجالد عن الشعبي قال قدم عبد القيس على النبي ص وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة فأجلسه عليه السلام وراء ظهره وقال كانت خطيئة من مضى النظر وفي الكامل عن أبي هريرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الأمرد وكان سعيد بن المسيب يقول إذا رايتم الرجل يلح بالنظر إلى غلام أمرد فاتهموه وصرح الشيخ محي الدين النووي في المنهاج بتحريم النظر إلى وجه الأمرد بشهوة أو بغير شهوة وذكر الخطيب من حديث عبد الرحمن ابن وافد عن عمرو بن أزهر عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجالسوا أولاد الملوك فإن الأنفس تشتاق إليهم ما لا تشتاق إلي الجواري العواتق. وكان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهم من السلف ينهون عن مجالسة الأمرد وقال النخعي مجالستهم فتنة وإنمائهم بمنزلة النساء حكى عن أبي سعيد الجزار وكان من المشايخ المعروفين بالزهد والعبادة أنه قال رأيت إبليس في منامي وهو يمر عني ناحية فقلت تعال فقال أي شيء أعمل بكم أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس قلت وما هو قال الدنيا ثم قال غير أن لي فيكم لطيفة قلت وما هي قال صحبة الأحداث فأخذت العصا لأضربه فقال أنا ما أخاف من العصا إنما أخاف من نور القلب. قال فتح الموصلي صحبت ثلاثين شيخاً من الأبدال كلهم يقولون إياك ومعاشرة الأحداث وحكى أبو عبد الله أحمد ابن الجلاد قال كنت أمشي مع أستاذي فرايت حدثاً جميل الصورة فقلت أترى يعذب الله هذه الصورة بالنار فقال أو نظرت إليه سوف ترى غبها قال فنسيت القرآن بعد عشرين سنة ومن المعلوم أن النظر إلى الأمرد يوقع في سكرة العشق كما قال تعالى عن عشاق الصور لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون فالنظر كاس من خمر والعشق هو سكر ذلك الشراب وسكر العشق هو أعظم من سكر الخمر فإن سكران الخمر يفيق وسكران العشق لم يفق إلا وهو من عسكر الأموات. سكران سكرى هوى وسكر مدامة ... ومتى يفيق فتى به سكران أنشدني بعض مشايخ العصر: يا من غدا بالمرد ذا لوعة ... ما أنت في حبهم بالمصيب في الخرد العين الذي تشتهي ... منهم ويفضلن بحب الحبيب وقال آخر: حبك الغلمان إن أم ... كنك النسوان غبن إنما يفسق في الظه ... ر إذا أعوز بطن على أن عشق النسوان أيضاً والنظر إلى من لا يجوز النظر إليها فيه ما فيه مما لا يدرك تلافيه وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " قلت ولا سيما نساء هذا الزمان من كل شمس خدر تطلع من قوادها بين قرني شيطان وغيرها ممن اشتغلت بالسحاق والخروج بعد زوجها من الباب أو الطاق كما قيل في معنى ذلك: شغل المرد بالبدال وأضحى ... نسوة الناس شغلهم بالسحاق كل جنس بجنسه قد تكفي ... فعزاء يامعشر الفساق وحكى عن بعضهم أنه قال لجارية تساحق ارجعي إلى الحق فقال الحق بعض مرادي تريدان السحق بعض حروفه الحق وهذا من الأجوبة اللطيفة فما أحقها أن يقال في حقها: مغرمة بالسحاق أضحت ... تبكي عليه بكل عين فما اكتفت في الهتوك إلا ... تضيف إسحاق في حنين حكى أن رجلاً دخل إلى بيت فوجد امرأتين وهما في السحاق فجذبه التي هي من فوق وقعد مكانها وقال هذا عمل يحتاج إلى حبال ورجال. وقال شيخنا زين الدين ابن الوردي في نساء أهل العصر هذا الشعر: قولوا لمن تهوى السحاق الذي ... حرمه الله وما فيه خير أخطأت يا كاملة الحسن إذ ... أقمت إسحاق مقام الزبير وقال آخر: قل لمن تدعى السحا ... ق إلى كم تساحقي ليس يشفي غليلك ... من جميع الخلائق غير ذي الأصلع الفقي ... ر الحليق الجوالق وقال ابن سناء الملك: يا هذه لاتستحي ... مني قد انكشف المغطى إن كان ... تثا ... ءب ... قد تمطى وقال بعض مشايخ العصر: ... إذا نديته ... لحاجة تختص بي قام لها بنفسه ... ما هو إلا عصبي

الباب الثلاثون

وسألني بعض الأصحاب أن أنظم له مثل هذا فقلت واستغفر الله وأتوب إليه. تأخرت لحيضها ... قلت لها تقدمي ... هذا عصبي ... يدخل معك في الدم وقال بعض مشايخ العصر: وكنت إذا رأيت ولو عجوزاً ... بيادر بالقيام على الحرارة فأصبح لا يقوم لبدر تم ... كأن النحس قد ولى الوزارة وقلت أنا: يا ... إن مر الحبيب مسلما ... وأشار نحوك دون كل الناس فانهض لخدمته ولأنك أحمقا ... ما في وقوفك ساعة من بأس وقلت أيضاً واستغفر الله العظيم من كل ذنب. ولما وفى في الصيام الحب أنشدني ... وقال: اشترط ما شئت واحتكم فالأمر أمرك ما عندي مخالفة إن صمت صمنا وإن أفطرت لم نصم وحكى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان بعد أن رد قول بعضهم. ولقد قال لي صديقي لما ... أن رآني أضرني الإفلاس قم تسكع بذا العمود فهذا ... ...يرجى بمثله ويرأس قلت قد كان ذا ولكن دهري ... أهله كلهم لئام خساس أين من كان عندهم يرفع ... ...وعلى الراحتين ثم يباس أين من كان عالماً بمقاد ... ير ... الكبار مات الناس فقال قيل أن الأمير فخر الدين ابن الشيخ رأى هذه الأبيات مكتوبة على ظهر كتاب بخط شرف الدين ابن قيم الشام فكتب تحتها من خلف مثلك ما مات وقال آخر: زعموا أنني خسرت عليها ... ليت شعري من أين تلك الخسارة من مغل من ضيعتي من قماشي ... من بقايا أموال تلك التجارة حضرتني فقام ... إذ ذا ... ك يحاكى بقطينة أو خيارة وقال آخر: ويحك يا ... أما تستحي ... تخجلني ما بين جلاسي تطلع من طوقي كذا عامداً ... تنكس العمة عن رأسي وقال ابن مطروح: سألت من أمر ضنى ... في قبلة تشفي الألم فقال لالا أبداً ... قلت له نعم نعم فقال غصباً قلت لا ... إلا سماحا وكرم قال فسر أقلت لا ... إلا على رأس علم قال فخذها بالرضا ... مني حلالاً وابتسم فلا تسل عما جرى ... واستغفر الله ونم الباب الثلاثون ذكر من اتصف بالعفاف وبأحسن الأوصاف

أقول هذا باب عقدناه لذكر أكثر المحبين ميلاً وأظهرهم دليلاً وأحسنهم سيرة وأزكاهم سريرة وأعفهم مع القدرة ولا سيما بنو عذرة الذين هم أشد الناس غراماً وأعظمهم هياماً فلذلك قلت وقول العشق مع العفة في بني عذرة كثير والمقتول منهم عشقاً جم غفير فإن ذكر أحدهم بالعفة فجميل جميل الصفات صادق العزمات وسنورد من أخباره في هذا المقام ما يصدق هذه الدعوى ويحقق أن التسلي بالمحبوب عن غيره ضرب من السلوى فمن ذلك ما حكاه محمد بن جعفر الأهوازي قال مرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه فدخل عليه العباس بن سهل فقال له جميل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله قلت أظنه قد نجا وأرجو له الجنة فمن هذا الرجل قال أنا فقلت له ما أحسبك سلمت وأنت منذ عشرن سنة تسبب ببثينة فقال أني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط فما قمنا حتى مات سنة اثنتين وثمانين من الهجرة ومن غريب ما حكاه الزبير من أخبار جمل أن بثينة المذكورة من بني عذرة وبنو عذرة قبيلة مشهورة بالعشق في قبائل العرب وإليهم ينسب الهوى العذري لأنهم أشد سائر خلق الله عشقاً قال سعيد بن عقبة لأعرابي ممن أنت قال من قوم إذا عشقوا ماتوا قال عذري ورب الكعبة ثم قال ولم ذلك قال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وقال رجل لعروة بن جزام يا هذا بالله أصحيح ما يقال عنكم أنكم أرق الناس قلوباً قال نعم والله لقد تركت ثلاثين شاباً في الحي قد خامرهم الموت ما لهم داء إلا الحب وقال رجل من بني قزارة لرجل من بني عذرة تعدون موتكم بالحب مزية وفضيلة وإنما ذلك ضعف بنيه وضيق روية ورق وخور تجدونه فيكم يا بني عذرة فقال له والله لو رأيتم النواظر الدعج من فوقها الحواجب الزج من تحتها المباسم الفلج والشفاه السمر تفتر عن الثنيايا الغر لا تخذتموها اللات والعزى ثم أنشد: تتبعت مرمى الوحش حتى رميتني ... من النيل لا بالطائشات الخواطف ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف وقيل بعضهم ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تحب فقال أحل الخمار وأحرم ما وراء الأزار وأظهر للحب ما يرضي الرب وقال الحافظ أبو محمد الاموي أن امرأة يثق بها حدثته أن فتى علقها وعلقته وشاع أمرهما فاجتمعا يوماً خاليين فقال لها هلمي نحقق ما يقال فينا فقالت لا والله لا كان هذا أبداً وأنا أقرأ " الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " وقيل لبعضهم وقد طال عشقه لجارية من قومه ما أنت صانع إن ظفرت بها ولا يراكما إلا الله قال والله لا جعلته أهون الناظرين لا أفعل بها خالياً إلا ما أفعله بحضرة أهلها حنين طويل ولحظ من بعيد وأترك ما يكره الرب ويفسد الحب وقيل لآخر ما كنت صانعاً لو ظفرت بمحبوتك فقال ضمها ولثهما وعصيان الشيطان في أثمها ولا أفسد عشق عشرين سنة بلذة ساعة تفني ويبقى حسابها إني إن فعلت هذا اللئيم ولم يلدني كريم قلت وممن اتصف من العفاف بأحسن الأوصاف من الخلفاء هرون الرشيد وذلك أنه عشق جارية فلما راودها عن نفسها قالت إن أباك ألم بي فتركها وشغف بها حتى كاد يخرج عى وجهه فكان ينشد: أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورد

فقال له القاضي أو كلما قالت جارية شيئاً تصدق قولها فقال الرشيد ما فوق الخلافة مرتبة فانظر ما أحسن عفة الجارية وامتناع هرون الرشيد مع شدة شغفه بها ودخل عليه منصور بن عمار فاستدناه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه فقال له منصور يا أمير المؤمنين تواضعك في شرفك أحب إلينا من شرفك فقال عظني فقال من عف في جماله وواسى من ماله وعدل في سلطانه كتبه الله من الأبرار فبكى الرشيد وقال زدني فقال لو طلبت شربة ماء فلم تجدها إلا بنصف الدنيا أكنت تشتريها به قال نعم قال فلو تعسرت عليك بعد شربها أكنت تشتري خروجها بالنصف الآخر قال نعم قال قبح الله دنيا تشترى بشربة ماء وبولة. وحكى عن السلطان ملك شاه السلجوقي أنه حضر بين يديه مغنية فأعجب بها واستطاب غناءها فهم بها فقالت يا سلطان العالم إني أغار على هذا الوجه المليح الجميل أن يعذب بالنار وإن الحلال أيسر وبينه وبين الحرام كلمة فقال صدقت واستدعى القاضي وتزوجها وأقامت في عصمته حتى مات رحمه الله. وحكى سهيل أكبر خدم السلطان نور الدين الشهيد أن السلطان المذكور اشترى مملوكاً بخمسمائة دينار وخلعة وبغلة وكان جميل الصورة وسلمه إلي وكنت قد ربيت السلطان فقلت في نفسي إنا لله وإنا إليه راجعون هذا ما اشتري مملوكاً قط بخمسين ديناراً فلم أشتري هذا بخمسمائة دينار ثم تركني أياماً وقال أحضره مع المماليك يقف في الخدمة كل يوم فلما كان بعد أيام قال أحضره بعد العشاء إلى الخيمة ونم أنت وأياه على باب البرج فقلت في نفسي هذا الشيخ في زمان شبابه ما ارتكب كبيرة ولما كبر سنه يقع فيها والله لا قتلته قبل أن يقع في المعصية فأخذت كتارة فأصلحتها وجئت بالمملوك وأنا في قلق فسهرت عامة الليل ونور الدين في أعلى البرج ثم غلبتني عيني فنمت ثم استيقظت فوقعت يدي على وجه الغلام فإذا به مثل الجمرة وعليه حما شديدة فرجعت به إلى خيمتي وأحضرت الطبيب فمات وقت الظهر فغسلته وكفنته ودفنته فدعاني نور الدين في اليوم الثاني وقال يا سهيل إن بعض الظن أثم فاستحيت فقال قد عرفت حالي وأنت ربيتني هل عثرت لي على زلة قلت حاشا لله قال فلم حملت الكتارة وحدثتك نفسك بالسوء ما أنا معصوم لما رأيت المملوك وقع في قلبي منه مثل النار فقلت أشتريه لعله يذهب عني ما أنا فيه فلم يذهب فقالت لي نفسي أريد كل يوم أن أراه فأمرتك بإحضاره فقالت أريد أن تحضره إلى البرج بالليل فأمرتك بإحضاره فلما حضر ما تركتني النفس أنام وبقينا في حرب إلى السحر فهممت أن أصعده إلى عندي فتداركني الله برحمته فكشفت رأسي وقلت إلهي عبدك محمود المجاهد في سبيلك الذاب عن دين نبيك صلى الله عليه وسلم الذي عمر المساجد والمدارس والربط يختم أعماله بمثل هذا فسمعت هاتفاً يقول قد كفيناك يا محمود فعلمت أنه قد حدث به حدث وأما أنت فجزاك الله عني خيراً والله أن أقتل عندي أهون من المعصية ثم أحسن إلي. وحكى عن فاطمة بنت الخثعمي أنها دعت عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم نفسها للنور الذي رأته بين عينيه فأبى وقال: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه قلت قصة عبد الله مع فاطمة هذه مثل قولهم في المثل واحد يشتهي التين وآخر يقطفه فحاله معها كحال توبة مع ليلى الأخيلية وهو ما حكى أنه راودها عن نفسها فنفرت منه وأنشدت: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل فكانت كما قيل: جننا بليلى وهي جنت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة ما نريدها ومثل قول الآخر: علقتها عرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

وممن اتصف بالعفاف من ذوي الغرام الإمام ابن الإمام محمد بن داود الظاهري وله في ذلك حكايات مشهورة وهذا موضع إيرادها ونشر أبرادها فمن ذلك قوله لكل شيء زكاة وزكاة الوجه الحسن إمكان أهل العفة من النظر إليه. وحكى محبوبه محمد وقيل اسمه وهب بن جامع الصيدلاني أنه دخل على أمير المؤمنين فسأله عن ابن داود هل رأيت منه ما تكره فقال لا يا أمير المؤمنين إلا إني بت عنده ليلة فكان يكشف عن وجهي ثم يقول اللهم أنت تعلم أني أحبه وإني أراقبك فيه قال فما بلغ من رعايتك له فقلك دخلت الحمام فلما خرجت نظرت في المرآة فاستحسنت صورتي فوق ما عهدت فغطيت وجهي وآليت أن لا ينظر أحد إلى وجهي قبله وبادرت إليه فلما رآني مغطى الوجه خاف أن يكون لحقني آفة فقال ما الخبر فقلت رأيت الساعة وجهي في المرآة فأحببت أن لا يراه أحد قبلك فغشى عليه قال الليث بن سكرة كان محمد بن واسع يتفق على محمد بن داود وما عرف فيما مضى من الزمان معشوق ينفق على عاشقه ويتقرب إلى قلبه بأنواع البر إلا هذا مع ما هو فيه من الصيانة وحسن الديانة فالحمد لله الذي رأينا في زماننا من يتخلق بأخلاق الناس ولهذا العاشق مع هذا المعشوق حكاية غريبة أضربت عنها خوف الإطالة وكان محمد بن داود قد وضع كتاب الزهرة لأجل محبوبه محمد بن جامع المذكور وهو مجموع أدب أتى فيه بكل غريبة ونادرة وشعر أنيق وقال في أوله وكيف تنكرت من تغير الزمان وأنت أحد مغيريه ومن جفاء الإخوان وأنت المقدم فيه ومن عجيب ما تأتي به الأيام ظالم يتظلم وغابن يتندم ومطاع يستظهر وغالب يستنصر ومن كلامه ما انفككت من هوى منذ دخلت الكتاب وبدأت في كتاب الزهرة وأنا في الكتاب ونظر أبي في أكثره. ومن ألطف ما حكى عنه أنه التقى هو وأبو العباس بن سريج في مجلس أبي الحسن بن عيسى الوزير فتناظرا في مسئلة من الإيلاء فقال له ابن سريج أنت بقولك من كثرت لحظاته جامت حسراته أحذق من أن تتكلم في الفقه فقال له محمد بن داود إن قلت ذلك فإني أقول: أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصعب على الصخر الأصم تهدما وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى حباً صحيحاً مسلما فقال له ابن سريج فيم تفتخر علي ولو شئت لقلت: ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته شفقاً بحسن حديثه وعتابه ... وأكرر اللحظات في وجناته حتى إذا الصبح لاح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته فقال محمد احفظ عليه أيها الوزير ما أقر به من الاجتماع حتى يقيم البينة بشاهدي عدل على البراءة فقال له ابن سريج يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك: أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما قال فضحك الوزير وقال لقد جمعتما علماً وفهماً وظرفاً ولطفاً ومن لطيف ما يحكى عن محمد أيضاً ما حكاه أبو القاسم الصائغ قال: قال لي محمد بن داود ما دخلت جامع المدينة مما يلي باب خراسان منذ عشرين سنة قلت ولم قال لأني دخلت ذات يوم فرأيت غلامين من أحسن الناس وجهاً يتعاتبان فلما رأيان تفرقا فآليت أن لا أدخل من باب كنت فيه السبب في الفرقة بين المتحابين ودخل عليه ثعلب فقال له أسمعنا شيئاً من صبوتك فأنشد: سقى الله أياماً لنا ولياليا ... لهن بأكناف الشباب ملاعب إذا العيش غض والزمان بغرة ... وشاهد آفات المحبين غائب ومن شعره: لكل امرئ ضيف يسر به بقربه ... ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف يقول خليلي كيف صبرك بعدنا ... فقلت وهل صبر فيسئل عن كيف

وقال ابن السراج في كتاب مصار العشاق وعن أبي عبد الله ابراهيم ابن محمد بن عرفة النجوي قال دخلت على محمد بن داود الظاهري في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك فقال حب من تعلم أورثني ما ترى قلت له ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه فقال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي قال حدثني سويد بن سعيد قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى العقاف عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي ص أنه قال " من عشق وكتم وعفه وصبر غفر الله ذنبه وأدخله الجنة " ثم أنشد: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أنظر إلى السحر يجري في لواحظه ... وأنظر إلى دعج في طرفه الساجي وانظر إلى شعرات فوق عارضه ... كأنهن نمال دب في عاج وأنشدنا لنفسه: ما لهم أنكروا سواداً بخديه ... ولم ينكروا سواد العيون إن يكن عيب خده بذر الشعر ... فعيب العيون شعر الجفون فقلت له نقيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر فقال غلبة الهوى وملكة النفس دعوا إليه. ومات في ليلته رحمه الله قلت وقد اختلف الناس في قوله عليه الصلاة والسلام من عشق وكتم وعف الحديث فقال وقد اختلف الناس في قوله عليه الصلاة والسلام من عشق وكتم وعف الحديث فقال بعضهم كتم عشقه عن الناس وقال بعضهم كتم اسم محبوبه وقال الحصري أحب فكتم ووصل فعف وهجر فمات فهو شهيد وقال عثمان بن زكريا المؤدب أحد رواة الحديث عن سويد كتم محبوبه أنه يحبه قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ علاء الدين أبو عبد الله مغلطاي في كتابه الواضح المبين هذا حديث اسناده صحيح وإن كان جماعة من العلماء أعلوه بما ليس بعلة يرد بها يعني قوله صلى الله عليه وسلم من عشق فكتم الحديث. ونقل في كتابه المذكور أيضاً أن هذا الحديث سنده كالشمس لا مرية في صحته ولا لبس قلت ولهذا عد جماعة من الفقهاء ميت العشق من الشهداء أخذا بهذا الحديث منهم الرافعي وغيره فبعضم اشترط الشروط المذكورة وبعضهم أطلق كالشيخ محيي الدين النووي فإنه أطلق ولم يشترط شيئاً فقال والميت عشقاً والميتة طلقاً يعني من الشهداء هذا مع شدته في الدين وعدم مساهلته في هذه الأشياء وما أحسن قول ابن الأثير دمع العاشق ودم القتيل متساويان في التشبيه والتمثيل إلا أن بينهما بوناً لأنهما يختلفان لوناً وقال الإمام العلامة أبو الوليد الناجي: إذا مات المحب جوى وعشقا ... فتلك شهادة يا صاح حقا زواه لنا ثقاة عن ثقاة ... إلى الحبر بن عباس ترقى وقال عبد الكريم القشيري: إن المحب إذاتوفي صابراً ... كانت منازله مع الشهداء يرويه أقوام غدو في صدقهم ... علماً وناهيكم بهذا الداء وقال الحسن بن هاني: ولقد كنا روينا ... عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب ... إن سعد بن عباده قال من مات محباً ... كان من أهل الشهادة وقال بن رواحة الحموي وأحسن ماشاء: لاموا عليك وما دروا ... إن الهوى سبب السعادة إن كان وصل فالمنى ... أو كان هجر فالشهادة إنه عكس قوله هذا فقال: يا قلب دع عنك الهوى واسترح ... ما أنت فيه حامداً أمرا أضعت دنياي بهجرانه ... إن نلت وصلاً ضاعت الأخرى وقال آخر: خليلي هل خبرتما أو سمعتما ... بأن قتيل الغانيات شهيد وقلت كأني حاضر أخاطبه: نعم قد سمعنا أن من كتم الهوى ... وعف إلى أن مات فهو شهيد فخذ عن مقال أنت فيه مذبذب ... فذلك ما قد كنت عنه تحيد سياق الذي يرويه ركب ذوي الهوى ... به كل يوم سائق وشهيد يطوفون بالأحباب خلف بيوتهم ... فمنهم قيام حولها وقعود بعومون في بحر المدامع عندما ... تميل بهم سفن الهوى وتميد أتبكي دوين العام من عام منهم ... وقد حد حولاً للبكاء لبيد قلت وقد انقضى الكلام على هذه الأبواب المحكمة العقود النقية النقود المجبورة الكسور العالية القصور مشتملاً كل باب منها على بيت قصيد وبحر مديد.

يسقي ثمر غروسها ويروي المجدب من طروسها. بعينين نجلاوين لو رقرقتهما ... لنوء الثريا لاستهل سحابها ومنا بقي إلا ذكر مصارع العشاق وأخبار من أصبح من المحبين ميتاً بالأشواق. إن لم أمت في هوى الأجفان والمقل ... فوا حيائي من العشاق واخجلي ما أطيب الموت في عشق الملاح كذا ... لا سيما بسيوف الأعين النجل يا صاحبي إذا ما مت بينكما ... دون الشهيين ورد الخد والقبل فاستغفرا لي وقولا عاشق غزل ... قضى صريع القدود الهيف والمقل وقال بلدينا محمد بن العفيف التلمساني رحمه الله: للعاشقين بأحكام الغرام رضا ... فلا تكن يا فتى بالعذل معترضا روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... عهد الوفا للذي للعهد ما نقضا قف واستمع راحماً أخبار من قتلوا ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا ... فسام صبراً فأعيا نيله فقضى وقال جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا وقال آخر: ما زال يهوى المقلا ... قلبي إلى أن قتلا الحمد لله الذي ... مات وما قيل سلا وقال آخر: ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا وقال محمد الواعظ: دعا لومي فلومكما معاد ... وقتل العاشقين له معاد ولو قتل الهوى أهل التصابي ... لما ماتوا ولو ردوا لعادوا خاتمة الكتاب في ذكر من مات من حبه وقدم على به من صغير وكبير وغني وفقير على اختلاف ضروبهم وتباين مطلوبهم ولأجل ذكرهم أسست قواعد هذا الكتاب ودخلت فيه من باب وخرجت من باب لأتوصل منه إلى ذكر من ساقه الهجر إلى السياق وتحمل من العشق ما لا طاقة له به من الباب إلى الطاق ومن هنا أشرع في ذكر مصارعهم وعرض بضائعهم إذ منهم الخاسر والرابح والصالح والطالح فمنمهم شقي وسعيد ومنهم قتيل وشهيد. وحكى أبو الفرج بن الجوزي قال ذكر لي شيخنا أبو الحسن علي بن عبد الله أن رجلاً عشق نصرانية حتى غلب على عقله فحمل إلى البيمارستان وكان له صديق يترسل بينهما فلما زاد به الأمر ونزل به الموت قال لصديقه قد قرب الأجل ولم ألق فلانة في الدنيا وأخشى أن أموت على الإسلام ولا ألقاها فتنصر فمات فمضى صديقه إلى النصرانية فوجدها عليلة فقالت أنا ما ألقيت صاحبي في الدنيا وأريد أن ألقاه في الآخرى وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم ماتت قلت لم أسمع بأغرب من هذه الحكاية ولا أعظم من هذه النكاية قد سبق على صاحبها الكتاب وضرب بينه وبين محبوبته بسور له باب فابتلى من فراق محبوبته ودينه بداءين ودارت عليه دائرة السوء في الدارين وكيف لا وقد ورد بكسادة في الحب دار البوار وأصبح بكفره وإسلامها على شفى جرف هار. سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب ذكرت بهذه الحكاية قول عبد الوهاب الأزدي يرثي حبيب له نصرانياً وأحسن ما شاء حيث قال: أخي بوداد لا أخي بديانة ... ورب أخ في الود مثل نسيب وقالوا أتبكي اليوم من ليس صاحبا ... غداً إن هذا فعل غير لبيب فقلت لهم هذا أو أن تلهفي ... وشدة إعوالي وفرط نحيبي ومن أين لي أبكي حبيباً فقدته ... إذا خاب منه في المعاد نصيبي

ومنهم شهيد

وكان هذا النصراني موسوماً بالجمال خماراً فعلقة عبد الوهاب المذكور واشتهر به وأقام يبايته في الحانة ثلاث سنين ويدخل معه الكنيسة في الأعياد والحدود طول هذه المدة حتى حفظ كثيراً من الإنجيل وشرائع أهله وهجره مرة فلم يجد سبيلاً إليه وزعم أن عليه قسماً شديداً أن لا يكلمه إلى مدة شهر فلما يئس دعا بالقاصد فاقتصد في إحدى يديه ودعا قاصداً آخر فاقتصد في اليد الأخرى ودخل داره وأغلق باب بيته وفجر الفصادين فما شعر أهله إلا والدم يدفع من سدة باب المحل الذي هو فيه فأدركوه وقد أشرف على الموت فصالحه محبوبه النصراني خوفاً على نفسه. ومن شعره فيه: أنظر إلى الشامة في خد من ... ألحاظه باللحظ جراحه كأنها من حسنها أذبدت ... حبة مسك فوق تفاحة ومنهم شهيد قال يا قوت في تاريخه كان مدرك ابن علي الشيباني شاعراً أديباً فاضلاً وكان كثيراً ما يلم بدير الروم ببغداد ويعاشر نصاراه وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يحيى وكان من أحسن الناس صوره وأكملهم خلقاً وكان مدرك بن علي يهواه وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث لا غير فإن حضر شيخ أو صاحب لحية قال له مدرك قبيح بك أن تختلط بالاحداث والصبيان فقم في حفظ الله فيقوم وكان عمرو يحضر مجلسه فعشقه مدرك وهام به فجاء عمرو يوماً إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجرة فقرأها فإذا فيها: بمجالس العلم التي ... بك تم حسن جموعها ألارثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها قال فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس وقرؤها فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دار الروم وجعل يتبع عمراً حيث شاء وقال فيه شعراً كثيراً قال الحريري وقد رأيت عمرا أبيض الرأس واللحية ومن شعر مدرك فيه هذه القصيدة المزدوجة الغريبة العجيبة المشهورة وهي: من عاشق ناء هواه داني ... ناطق دمع صامت اللسان معذب بالصد والهجران ... موثق قلب مطلق الجثماني من غير ذنب كسبت يداه ... يشكو هوى نمت به عيناه شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه يا ويحه من عاشق ما يلقى ... من أدمع منهلة ما ترقا ناطقة وما أجادت نطقا ... تخبر عن حب له استرقا لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك تطفئها نار الهوى وتذكى ... كأنها قطر السماء تحكي إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبي العذارى وغادر الأسد به حياري ... في ربقة الحب له أسارى ريم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لا من كحل وطرة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل ريم به أي هز بر لم يصد ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود متى يقل ها قالت الألحاظ قد ... كأنها ناسوته حين اتحد ما أبصر الناس جميعاً بدرا ... ولا رأوا شمساً وغصناً نضرا أحسن من عمر وفديت عمرا ... ظبي بعينيه سقاني خمرا ها أنا ذا بقده مقدود ... والدمع في خدي له أخدود ما ضر من فقدي به موجود ... لو لم يقبح فعله الصدود إن كان ذنبي عنده ألا سلام ... فقد سعت في نقضه الأيام واختلت للصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام يا ليتني كنت له صليباً ... أكون منه أبداً قريبا أبصر حسناً وأشم طيباً ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا يا ليتني كنت له قربانا ... ألثم منه الثغر والبنانا أو جائليقاً كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي ايمانا يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً ... يقرأ مني كل يوم أحرفا

أو قلماً يكتب بي ما ألقا ... من أدب مستحسن قد صنفا يا ليتني كنت لعمرو عوده ... أوحلة يلبسها مقدوده أو بركة باسمه معدوده ... أو بيعة في داره مشهوده يا ليتني كنت له زناراً ... يديرني في الخصر كيف دارا حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له حينئذ إزارا واكبدي من خده المضرج ... واكبدي من ثغره المفلج لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... اذهب للنسك وللتحرج إليك أشكو يا غزال الإنس ... ما بي من الوحشة بعد الأنس يا من هلالي وجهه وشمسي ... لا تقتل النفس بغير النفس جدلي كما جدت بحسن الود ... وارع كما أرعى قديم العهد واصدد كصدى عن طويل الصد ... فليس وجد منك مثل وجدي ها أنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبك لا أفيق محترقاً ما مسني حريق ... يرثي لي العدو والصديق فليت شعري فيك هل ترثي لي ... من سقم ومن ضنى طويل أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل في كل عضو منه سقم وألم ... ومقلة تبكي بدمع وبدم شوقاً إلى شمس وبدر وصنم ... منه إليه المشتكى إذا ظلم أقول إذ قام بقلبي وقعد ... يا عمرو يا عامر قلبي بالكمد أقسم بالله يمين المجتهد ... إن أمراً أسعدته لقد سعد يا عمرو ناشدتك بالمسيح ... ألا استمعت القول من فصيح يبيح عن قلب له جريح ... ناح بما يلقي من التبريح يا عمرو بالحق من اللاهوت ... والروح روح القدس والناسوت ذاك الذي في مهده المنحوت ... عوض بالنطق عن السكوت بحق ناسوت ببطن مريم ... حل محل الريق منها في الفم ثم استحال فس قتوم الاقدم ... يكلم الناس ولم ينفطم بحق من بعد الممات قمصا ... مشوبا على مقداره ما قصصا وكان لله تقياًمخلصاً ... يشفي ويبري ألمها وأبرصا بحق محيي صورة الطيور ... وباعث الموتى من القبور ومن إليه من الأمور ... يعلم ما في البر والبحور بحق من في شامخ الصوامع ... من ساجد لربه وراكع يبكي إذا ما نام كل هاجع ... خوفاً من الله بدمع هامع بحق قوم حلقوا الرؤسا ... وعالجوا طول الحياةبوسا وقرعوا في البيعة الناقوسا ... مستعملين يعبدون عيسى بحق ماري مريم وبولس ... بحق شمعون الصفا وجرجس بحق دانيل بحق يونس ... بحق حزقيل وبيت المقدس بحق ما في قلة الميرون ... من نافع الأدواء للجنون بحق ما يؤثر عن شمعون ... من بركات الخوص والزيتون بحق أعياد الصليب الزهر ... وعيدا نسموني وعيد الفطر وبالشعانين العظام القدر ... وعيد مرماري العظيم الذكر بحق شعباء وبالهياكل ... والدخن اللاتي بكف الحامل يشفى بها من كل خبل خابل ... ومن دخيل السقم في المفاصل بحق سبعين من العباد ... قاموا بدين الله في البلاد وأرشدوا الناس إلى الرشاد ... حتى اهتدى من لم يكن بهادي بحق اثني عشر من الأمم ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم وقوله فأقسطت الصواب فقسطت تأمل: حتى إذا أصبح الدجى جلا الظلم ... ساروا إلى الله ففازوا بالحكم بحق ما في محكم التنزيل ... من محكم التحريم والتحليل

وغير من نبأ جليل ... يرويه جيل قد مضى عن جيل بحق مر عيد الشفيق الناصح ... بحق لوقاذي الفعال الصالح بحق تمليخا الحكيم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح بحق معمودية الأرواح ... والمذبح المشهور في النواحي ومن به لابس الأمساح ... وعابد باك ومن سياح بحق تقريبك في الأعياد ... وشربك القهوة كالفرصاد وطول تفتيتك للأكباد ... بما بعينيك من السواد بحق ما قدس سعياً فيه ... بالحمد لله وبالتنزيه بحق نسطور وما يرويه ... عن كل ناموس له فقيه بحق جمع من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم لم ينطقوا قط بغير فهم ... موتهم كان حياة الخصم بحرمة الأسقف والمطران ... والجائليق العالم الرباني والقس والشماس والديراني ... والبطرك الأكبر والرهبان بكل ناموس له مقدم ... يعلم الناس ولما يعلم بحرمة الصوم الكبير الأعظم ... وما حوى مفرق رأس مريم بحق يوم الذبح في الإشراق ... وليلة الميلاد والتلاقي بالذهب الأبر يزفي الأوراق ... بالفصح يا مهذب الأخلاق ألا رغبت في رضا أديب ... باعده الحب عن الحبيب قد ذاب من شوق إلي المذيب ... أعلى مناه أيسر القريب فانظر أميري في صلاح أمري ... محتسباً في عظيم الأجر مكتسياً في جميل الشكر ... في نثر ألفاظ ونظم در قيل إنه ضعف وسل جسمه وذهب عقله وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش قال حسان بن محمد بن عيسى فحضرته عائداً مع جماعة من أصحابه فقال ألست صاحبكم القديم العشرة لكم فما منكم أحد يسعدني بنظرة إلى وجه عمرو قال فمضينا بأجمعنا إلى عمرو وقلنا له أن كان قتل هذا الرجل ديننا فإن أحياءه مروءة قال وما فعل قلنا قد صار إلى حال ما نحسبك تلحقه قال فلبس ثيابه ثم نهض معنا فلما دخلنا عليه وسلم عليه عمرو أخذ يبده وقال كيف تجدك يا سيدي فنظر إليه ثم أغمي عليه ثم أفاق وهو يقول: أنا في عافية إلا ... من الشوق إليكا أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا لا تعد جسماً وعد قلبا ... رهيناً في يديكا كيف لا يهلك مرشو ... ق بسهمي مقلتيكا ثم أنه شهق فارق فيها الدنيا فما برحنا حتى دفناه رحمه الله تعالى. ومنهم قتيل قال العلامة أبو القاسم محمد بن عبد الرحمن الشيرزي في كتاب روضة القلوب ونزهة المحب والمحبوب وشاهدت امرأة كانت من أهل شيرز تزوجت رجلاً جندياً أعجمياً وكانت تجد به وجداً شديداً حتى كانت لا تصبر عنه لحظة وكان إذا مشى إلى نوبته إلى القلعة تاتزر وتظل قائمة قبالته حتى ينصرف فإذا دخل عليها لاعبها وقبلها فيسكن بعض ما تجده فدخل عليها يوماً مغضباً من كلام جرى بينه وبين مقدمه فلما دخل أرادت منه العادة فلم يلتفت إليها فظنت أن ذلك لسبب حدث منها فارتاعت وجزعت فمكث ساعة عنها لم يرفع طرفة إليها فقوى عندها التخيل فلما خرج خرجت خلفه كعادتها فانتهرها فلم تشك أن غضبه لأجلها فرجعت وجعلت في رقبتها حبلاً وشدته في السقف فاختنقت به وماتت. ومنهم شهيد قال الوداعي حكى الأمير شهاب الدين أحمد العقيلي أن شرف العلا هوى غلاماً نصرانياً وتهتك فيه حتى لبس المسح وتزيا بزي الرهبان وكان يتبع الغلام حيث توجه فاتفق أن الملك الظاهر صلاح الدين سمع بحاله فبينما هو يتصيد في نواحي حلب قيل له أن شرف العلا في هذه الأرض فأرسل إليه من يحضره على هيئته فلما حضر وكان السطان في مجلس الشراب قال لبعض ندمائه املأ قدحاً كبيراً والق شرف العلا به فلما رأى القدح أخذه بيده وشربه وأنشد في الحال ارتجالاً يخاطب الملك الظاهر. جمعت بالكاس شملي ... فالله يجمع شملك

ومنهم قتيل

بحق رأسك دعني ... حتى أقبل نعلك ومنهم قتيل وهو مما رأته عيناي وسمعته أذناي ووعاه قلبي وذلك أني لما كنت في دمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة اتفق أن شاباً من أبناء دمشق جميل الصورة عدا على إنسان كان يحبه فقتله فحمل إلى الوالي فلما سأله أنكر فعراه ليضربه بالسياط فتقدم إنسان كان يعشق ذلك الشاب وقال للوالي لا تضربه فإنه ما قتله وإنما قتلته أنا فأحضر الوالي الشهود وكتب عليه محضراً بإقراره بالقتل وأطلق الشاب وكان يتمشى نائب دمشق يومئذ فلما حكيت له هذه القصة واطلع على باطنها توقف في قتله وأمر بحبسه فلم تمض إلا أيام قلائل حتى حضر أرعون الكاملي من حلب عوضاً عن أيتمش في نيابته بدمشق فكان أول شيء حكم فيه من الدماء شنق ذلك العاشق المسكين بمقتضى المحضر المكتتب عليه ولقد رأيته تحت القلعة وهو مشنوق والناس حوله يتأسفون عليه ويذكرون حكايته ويتعجبون منها وحكيت هذه الحكاية للقاضي كمال الدين بن النحاس فتعجب منها وأخبرني عن القاضي زين الدين بن السفاح وأخيه القاضي شمس وجماعة من أهل حلب الموجودين الآن أنهم أخبروه أن ناصر الدين محمد بن يكتوب أحد كتاب المنسوب المعروف بالقلندري أنه كان يهوى مغنية لا تزال زرموزتها معه في كيس حرير أطلس معلق في رقبته تحت ثيابه فإذا حضر في مجلس ولم يتفق حضورها فيه أخرج الزرموزة من الكيس ووضعها قدامه وجعل يبكي فإن لم يتفق له بكاء شديد أنشد: لأمتعت عيني محب بما ... يسرها إن هي لم تسجم على حبيب تلفت نفسه ... من التباريح ولم يضرم فلما قرأها لم يملك نفسه خوفاً وجزعاً فأسعدته عينه اليسرى ولم تسعده اليمنى فأقسم أن لا ينظر بها ما عاش في الدنيا إن لم تسعده بالبكا على حبيبه وهي أقوى حساسة من اليسرى فكان يسمى الصابر قلت ومن غريب ما يحكى أن ناصر الدين القلندري المتقدم ذكره كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلد من الكتاب على زنده ويكتب منه وهو يغني ويضرب برجله الأرض ويكتب في هذه الحالة ما شاء ولا يغلط ولا يلحن وأخبرني بعض من كتب عليه أن من غريب ما شاهد من حاله أنه كان يهوى شاباً من أولاد الجند من أولاد الجند بطرابلس كان يكتب عليه وكان آخر ما تمثل به ومات عقبه سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قول الصاحب بن عباد: يا من وهبت له نفسي فعذبها ... ورمت تخليصها منه فلم أطق أدرك بقية نفس فيك قد تلفت ... قبل الممات فهذا آخر الرمق قلت وليكن هذا ما وقع عليه الاختيار وطابت به لابن أبي حجلة حين سقط بمصر أوطار وكيف لا وقد سقطت منه على الخبير وأتيت من أخبار من غفر الله لنا ولهم بالجم الغفير فشهداؤه من أعيان المشاهد وقتلاؤه وإن اختلفت أسباب موتهم فداؤهم واحد ففي ذلك والحمد لله كفاية وإن كان التفسير قصراً غير مقصود عن الغاية على أن في رحلتي نشر العلمين في زيارة الحرمين ما هو كفص الخاتم لهذه الخاتمة والأمواج العظيمة لهذه الأبحر المتلاطمة لا جرم إني لم أذكر من اختبار أهل الحجاز إلا ما شار إليه هذا الكتاب ببنان بيانه وبدأ من ورقه وقلمه على صفحات وجهه وفلتات لسانه فكم في الرحلة المذكورة في ذكر من مات على هذه الصورة من أخبار متيم امتنع من هجوعه وأصبح غريقاً بسحاب دموعه. لدى سمرات الحي برق يسامره ... يذكره بالثغر ما هو ذاكره ؟ بذكره عهد العذيب وما حوى على حاجر سالت عليه محاجره إذا ما بدا البرق اليماني لعينه سقى السفح من ذيل المقطم عارض فكم فيه من صب وغرامه تطاول ليلي في هواه ولو يشا فيا للهوى العذري ما العذر عندما صحا وما صحا من زال في الحب عقله أيبرد ما ألقاه يا جارتي وقد أحاول منه وصله كل ساعة ولو لم يكن سلطان حسن لما سرى يجود عليهم حين يسري جواده فلولاه ما أمضى أمير ذوي الهوى ولولا سطا السلطان في مصر ما مشى هو الناصر المنصور والعادل الذي له في سبيل الله خير ذخيرة ودرياقه في الثغر عقرب نبله جزى الله عنه مصر ما هو أهله جواد غدت نعماً معنا قريبة فما عابه أن الجنود جنائب له من بياض الصبح والليل أدهم

فلا جابر يوماً لما هو كاسر لله سر في علاه لأجل ذا وتستقبل الآمال كعبة جوده فأي نوال ما أضاعت شموسه هو البحر إلا أن منهل جوده ولو لم يكن يجري ونظمي دره أجود فيه المدح كل عشية إذا تاه مدحي في دجى ليل نفسه عبرت على الشعري العبور فأومأت فمدحي له مدح المحب حبيبه وحبي له ما أن يقاس بغيره وقد مات قلبي أول الحب وانقضى

§1/1