ديكارت مبادئ الفلسفة

عثمان أمين

مقدمات

مقدمات إهداء المترجم دواعي نشر كتاب المبادئ ... إهداء المترجم: تقديم بقلم مترجم الكتاب إلى العربية: 1- دواعي نشر كتاب المبادئ: كتاب "مبادئ الفلسفة" الذي يسعدني اليوم أن أقدمه إلى قراء العربية أحد المؤلفات الفلسفية التي ما تزال ذات مكانة ممتازة، لا في تاريخ الفلسفة الديكارتية فحسب، بل في تاريخ الفلسفة على العموم. ألفه صاحبه على أثر الحملة العنيفة التي شنها عليه التقليديون من أنصار الفلسفة المدرسية, تلك الحملة التي لم تقتصر على اختيار ميدانها في وطنه فرنسا, بل تجاوزتها إلى هولندا. ولقد أشار الفيلسوف إلى هذه المعركة التي لا هوادة فيها حين كتب إلى صديق له يقول: لقد صممت على أن أكتب مبادئ فلسفتي قبل أن أبرح هذا البلد، وربما نشرتها قبل انقضاء عام. وقصدي أن أكتب عرضا مرتبا لدروس من فلسفتي في صورة دعاوى أقتصر فيها على ذكر جميع النتائج التي انتهيت إليها، والدواعي الحقيقية لها. وهذا أمر أظنني أستطيع أداءه في كلمات قلائل, وأود أن أطبع في الكتاب نفسه دروسا في الفلسفة التقليدية كفلسفة الأخ "أوستاش" مع تعقيباتي على كل مسألة.... وربما وازنت في النهاية بين الفلسفتين المتعارضتين، ولكني أسألك ألا تذكر لأحد شيئا عن قصدي هذا حتى يتم لي نشر ميتافيزيقاي. بعد ذلك بقليل نشر ديكارت ميتافيزيقاه التي أشار إليها في العبارة السابقة, وهي كتابه "التأملات في الفلسفة الأولى" وحدث أن ألف الأب "بوردان"

كتابا سخر فيه من التأملات الديكارتية، عاقدا العزم -كما يقول- "على أن يضيع ما لمؤلفها من شهرة في روما وفي كل جهة أخرى"، وتساءل اليسوعيون عن موقف ديكارت من تحدي "بوردان" وعهدوا إلى ألب "مرسن" أن يكشف لهم عن نية ديكارت. فكتب ديكارت ردا عليه يقول: "لقد عدلت عما كنت نويته من نقض تلك الفلسفة -أي: المدرسية- لأني أرى أن مجرد نهوض فلسفتي يقوض الفلسفة المدرسية تقويضا لا تحتاج بعده إلى تفنيد آخر"1. وإذن فقد قنع ديكات بتقويض الفلسفة المدرسية بنشر كتابه "مبادئ الفلسفة" متوخيا فيه أن يبسط مذهبه "على ترتيب خاص يجعل تعلمه ميسورًا" ومؤملا أن "يتحقق الناس بالتجربة أن آراءه ليس فيها شيء مما قد يخشاه رجال التعليم، بل سيجدوا فيها نفعا وإصلاحا كبيرا". وظهر الكتاب الموعود بأمستردام في 20 يوليو سنة 1644 بعنوان هذا نصه: "مبادئ فلسفة رينيه ديكارت". Renati Decartes principia Philosophiae. كتبه ديكارت باللغة اللاتينية، وقام الأب "بيكو" فوضع للكتاب فرنسية راجعها ديكارت ونشرت بباريس سنة 1947 بالعنوان التالي: Principes de la philosohie; ecrits en latin par Rene Descartes et traduits en francais par un de ses amis. وبعث ديكارت إلى مترجم الكتاب رسالة هامة جعلها بمثابة المقدمة للترجمة الفرنسية، أوضح فيها الخلاف بين الفلسفة القديمة والفلسفة الجديدة،

_ 1 مبادئ الفلسفة, المقدمة "طبع ليار ص9" 51-53.

والمميزات التي توجد في فلسفته، وفضلها في تقدم المعارف البشرية تقدما مضطردا غير محدود. وأهدى ديكارت كتاب المبادئ إلى الأميرة "إليزابث" وهي كبرى بنات الناخب البالاتيني "فردريك الخامس" الذي ملك على بوهيميا مدة قصيرة، وأمها هي "إليزابث على ستيوارت" ابنة جاك الأول ملك إنجلترا، ولقد كانت الأميرة إليزابث على جمال نادر وأخلاق رصينة وذكاء متوقد لا يخلو من القلق، وحظ من الثقافة المتينة المنوعة، هذا إلى دراية وحذق للعلوم الرياضية والفلكية والطبيعية، واتصلت الأميرة بالفيلسوف عن طريق المراسلات، فكانت تستشيره لا في الصعوبات التي كانت تلقاها في المسائل العلمية فحسب, بل في شئونها الخاصة, وكان ديكارت يقدر الأميرة تقديرا عاليا لما امتازت به من صفات نادرة. ونعتقد أن الفلسفة كسبت كسبا عظيما من تلك الصلة وما استتبعته من مراسلات ذات قيمة. فإذا كانت كتب الفيلسوف توقفنا على ديكارت الميتافيزيقي والعالم, فإن رسائله إلى الأميرة تكشف لنا عن جوانح الرجل ودخيلته. وهذا ما يجعل لها أهمية فريدة، فإن كل مذهب لا يساوي في الحقيقة إلا ما يساوي صاحبه, وما وضع فيه من نفسه. وكان في نية ديكارت أن يجعل كتاب المبادئ في ستة أجزاء: "مبادئ المعرفة, مبادئ الأشياء المادية, السماء, الأرض, النبات والحيوان, الإنسان". ولكنه لم يستطع إتمام الجزأين الأخيرين لقلة ما لديه من التجارب، فقنع بالأجزاء الأربعة الأولى التي يشمل أولها الميتافيزيقا، ويشمل ثانيها وثالثها ورابعها الفيزيقا المؤسسة على تلك الميتافيزيقا.

فكتاب المبادئ ينقسم إذن أربعة أجزاء: الأول وعنوانه: "مبادئ المعرفة البشرية"، يحوي على التقريب ما يحويه كتاب التأملات لولا أنه بأسلوب آخر، ولولا أن ما وضع في الواحد مطولا وضع في الآخر مختصرا وبالعكس. والجزء الأول هذا، إذا قِيس بالثلاثة الأخرى، وجد عبارة عن نحو عشر الكتاب كله، وهو أقل قدر من الميتافيزيقا لازم لكل فيزيقا في ذلك الوقت. والجزء الثاني وعنوانه: "مبادئ الأشياء المادية" بيّن ديكارت فيه لِمَ يعتبر الأجسام إلا مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا, ولم يعتبر في تغيراتها المتعاقبة إلا حركات خاضعة لبعض قوانين بسيطة جدا؟ وعنوان الجزء الثالث: "في عالم الشهادة" Du Monda Visible. وهو بحث في الميكانيكا السماوية، يصف ديكارت فيه حركة الأرض والكواكب الأخرى حول الشمس. وعنوان الجزء الرابع: "في الأرض" ويفسر فيه ديكارت الثقل وظاهرة المد والجزر وخواص المغناطيس ... إلخ، ويبقى الجذبة بين الأجسام؛ لأن فكرة الجذبة فكرة مبهمة.

ماهية الفلسفة ومقصدها عند ديكارت

2- ماهية الفلسفة ومقصدها عند ديكارت: يرى ديكارت أن الفلسفة هي دراسة الحكمة، والحكمة علم واحد كلي، هي تفسير جامع للكون أو هي نظام شامل للمعرفة البشرية. وليست الفلسفة مجرد مجموعة معارف جزئية خاصة, وإنما هي علم المبادئ العامة، يعني: أنها علم للأصول التي هي أسمى ما في العلوم. وإذن, فالفلسفة عند ديكارت يدخل فيها علم الله وعلم الطبيعة وعلم الإنسان, لكن دعامة الفلسفة عنده إنما هي في الفكر المدرك لذاته, والذي هو في ذاته مدرك الموجود الكامل أي: الله منبع كل وجود, والضامن لكل حقيقة.

والفلسفة عند فيلسوفنا نظر وعمل، لكن النظر هو بمثابة الأساس الذي يقوم عليه العمل. ولقد بين ديكارت نفسه ماهية الفلسفة وموضوعها في مقدمة كتاب المبادئ, قال: "لفظ الفلسفة هذا معناه: دراسة الحكمة وليس معنى الحكمة قاصرا على الحيطة والتبصر في الأمور، بل تفيد أيضا معرفة كاملة لجميع الأشياء التي يستطيع الإنسان معرفتها إما لهداية حياته, أو للمحافظة على صحته, أو لاختراع جميع الفنون"1. وإذن, فليست غاية العلم عند ديكارت مقتصرة على المعركة, بل إن من غاياته أن يكفل للإنسان الراحة والهناء. ولعل فكر ديكارت في هذا الموضوع أقل سموا من فكر أرسطو الذي جعل من براءة النظرة وخلوها من المنفعة طابع الفلسفة. على أننا ينبغي ألا نسرع في الحكم على ديكارت فهو نفسه يضيف إلى ما تقدم قوله: "ينبغي على البشر الذين جزؤهم الرئيسي هو الذهن أن يوجهوا أكبر قسط من عنايتهم إلى طلب الحكمة التي هي غذاؤه الصحيح ... وليس من النفوس نفس مهما بلغت من قلة النبل تظل متعلقة بأمور الحواس تعلقا كبيرا يحول دون انصرافها عنها أحيانا، مؤملة خيرا آخر أكبر، وإن كانت تجهل في الأغلب ماهية ذلك الخير ... وهذا الخير الأسمى إذا اعتبر بالنور الطبيعي دون نور الإيمان، لم يكن شيئا آخر غير معرفة الحقيقة بواسطة علتها الأولى، أعني: الحكمة"2. وكيف الوصول إلى تلك المعرفة ذات القيمة الكبرى؟ يرى عامة الناس، بل أغلب الفلاسفة، أن المعرفة على أربعة ضروب: "الضرب الأول لا يحوي إلا معاني بلغت من الوضوح بذاتها أن كان تحصيلها ممكننا من غير تأمل" أو لعل ديكارت قد خطر بباله هنا المعاني

_ 1 ديكارت: "مبادئ الفلسفة", المقدمة "طبع ليار ص7". 2 مبادئ الفلسفة, المقدمة "طبع ليار ص9".

الرياضية، "والثاني يشمل كل ما توقفنا عليه تجربة الحس. والثالث ما تفيدنا إياه المحادثة مع غيرنا من الناس, والرابع مطالعة الكتب"1. ويلاحظ أن ديكارت لم يضمن في إحصاء عملية الاستدلال. على أن من الصعب علينا أن نقبل ذلك التقييم الذي يضع محادثة الناس ومطالعة الكتب في مستوى واحد مع حدس المعاني الرياضية والتجربة, ولكن تلك الأضرب ليست إلا لصور الدنيا للمعرفة. فلكي تكون المعرفة كاملة ينبغي أن تكون مستنبطة من العلل الأولى. ومهمة الفيلسوف هي البحث عن تلك العلل أو المبادئ: "لقد وجد في كل زمان رجال عظماء حاولوا أن يجدوا مرتبة خامسة لبلوغ الحكمة، هي أسمى وأوثق ولا يعدلها شيء من المراتب الأربع الأخرى, وهي طلب العلل الأولى للمبادئ الحقة التي بها يكون بمقدور الإنسان أن يستنبط أسباب كل ما يستطيع أن يعرف. وأولئك الذين جدوا في هذا المطلب هم الذين سماهم الناس فلاسفة". وما شرائط تلك المبادئ الأولى؟ ينبغي أن يتوافر في تلك المبادئ شرطان: الأول: أن تكون من الوضوح والبداهة بحيث لا يشك الذهن في حقيقتها إذا جد في النظر فيها. والثاني: أن تعتمد عليها معرفة الأشياء الأخرى, فلا تتم تلك المعرفة بدونها، في حين أن المبادئ يمكن معرفتها بدون تلك الأشياء: "ينبغي أن نستنبط من تلك المبادئ الأولى معرفة الأشياء التي تعتمد عليها بحيث لا يكون من سلسلة الاستنباطات التي تقوم بها شيء إلا وهو شديد الجلاء"2. وعلى ذلك يكون منهج الفلسفة هو المنهج الاستنباطي, ومعيارها الوضوح والتميز وربط المعاني.

_ 1 مبادئ الفلسفة, المقدمة "طبع ليار ص10". 2 المبادئ, المقدمة ص15.

ب- والفلسفة عند ديكارت واحدة، ولكنها لسهولة التعليم تنقسم عدة أجزاء: "الجزء الأول هو الميتافيزيقا التي تشمل مبادئ المعرفة, التي بينها تفسير أهم صفات الله، ولامادية نفوسنا، وجميع المعاني الواضحة البسيطة التي هي فينا، والثاني الفيزيقا التي ينظر فيها على العموم بعد إيجاد المبادئ الصحيحة للأشياء المادية؛ كيف نشأ الكون كله؟ ثم علي الخصوص ما طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام التي توجد عليها كالهواء والماء والنار والمغناطيس؟ وبعد ذلك نحتاج إلى أن نفحص أيضا على الخصوص عن طبيعة النبات وطبيعة الحيوان, وبالأخص عن طبيعة الإنسان لكي نستطيع بعد ذلك أن نجد العلوم الأخرى التي فيها منفعة له؛ ولذلك كانت الفلسفة كلها كشجرة جذورها الميتافيزيقا, وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي جميع العلوم الأخرى التي ترجع إلى ثلاثة علوم كبرى, هي: الطب والميكانيكا والأخلاق, وأقصد الأخلاق الأرفع والأكمل التي تفيد معرفة تامة بالعلوم الأخرى؛ ولذلك كانت هي أقصى مرتبة من مراتب الحكمة"1. فلنلاحظ أن ديكارت قلب النظام المعهود في المعرفة البشرية, وجعل من الميتافيزيقا مدخلا إلى الميكانيكا وإلى الطب وإلى الأخلاق. فالميتافيزيقا عند ديكارت إنما تمدنا بالمبادئ الأولى للأشياء, ويشتق من الفيزيقا علمان عمليان, أو فنان هما: الميكانيكا والطب، وأخيرا يشتق من الفلسفة كلها علم الأخلاق الصحيح الذي هو آخر مراتب الحكمة, والذي هو عبارة عن الحياة على وفاق مع نظام العالم وإخضاع إرادتنا لنظام الأشياء. جـ- ارتاع ديكارت لما شاهد من عقم الفلسفة المدرسية وبعدها عن الحياة العامة، وأيقن أن الفلسفة يجب أن يكون لها غرض عملي، يجب أن يفيد منها

_ 1 المبادئ, المقدمة "طبع ليار ص20, 21".

الإنسان في إصلاح معاشه. وقد تبدو لأول وهلة على فلسفة ديكارت صبغة نظرية بحتة، لكن الحقيقة أن ديكارت لم تفارقه المشاغل العملية أبدا؛ فقد أراد أن يقيم علما طبيا مؤسسا على العقل، وكان دائم العناية بالأخلاق. كتب إلى شانو: "إن أمثل السبل لكي نعرف كيف ينبغي أن نحيا هو أن نعرف أولا من نحن؟ وما العالم الذي نعيش فيه؟ ومن هو خالق هذا الكون الذي فيه مقامنا؟ ". ولقد أصر ديكارت في القسم السادس من كتاب "المقال في المنهج" على ذلك الاتجاه العملي الذي يجب أن توجه إليه الفلسفة, وبين هذه الأفكار وأفكار "بيكون" مشابهة عجيبة: "بدلا من تلك الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، يمكن أن نجد فلسفة عملية نستطيع بها إذا عرفنا قوة الهواء وفعله، وفعل النجوم والسموات وجميع الأجسام الأخرى التي تحيط بنا، وكذلك الحال في جميع المهن التي يمارسها صناعنا، نستطيع أن نستعملها على ذلك النحو في جميع الاستعمالات التي اختصت بها، فنجعل بها أنفسنا سادة لها مسيطرين عليها"1. وفضل التفلسف عند ديكارت ليس مقصورا على سمو النظر وشرف المرتبة، بل إن فيه أيضا منفعة عملية، والفلسفة ضرورية لإصلاح أخلاقنا ولهداية حياتنا، إذ ترشدنا إلى ماهية الخير الأسمى. وديكارت يميز هنا -كما فعل الرواقيون- نوعين من الخيرات: خيرات ليس أمرها بأيدينا، وخيراتهي في مقدورنا، والخيرات من النوع الأول ليست هي الخير الحق, وقد قال ديكارت: "الخير الأسمى لكل واحد عبارة عن التصميم على فعل الخير, وما يحدثه ذلك من رضى في النفس, ولا أرى غيره خيرا يعدله في جلال قدرة, ويكون بمقدور كل واحد, فإن خيرات البدن والحظ واليسار ليست على الإطلاق في مقدورنا"، ولا

_ 1 ديكارت, "المقال في المنهج" القسم السادس.

يرى ديكارت فرقا بين الخير الأسمى وبين معرفة الحق. قال في المقال: "إرادتنا لا تتجه إلى الإقبال على شيء, أو الانصراف عنه إلا بقدر ما يمثله لنا ذهننا حسنا أو قبيحا. ويلزم عند ذلك أنه يكفي أن نحكم على الأشياء حكما حسنا ليكون فعلنا حسنا" وإذن فليس هنالك حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية. فالإرادة توجهها الأفكار، وهي تحسن حين تدبرها أفكار واضحة متميزة، وتسيء حين تتجه بأفكار غامضة مبهمة. وإذن, فالعلم والفضيلة شيء واحد، والخطأ والرذيلة أمران متماثلان. إنما قاعدة إرادتنا هو أن نريد نظام العالم" "ولا شيء هو في تمام استطاعتنا إلا أفكارنا". فإذا صح ذلك وجب أن نسعى لتغيير رغباتنا بدلا من محاولة تغيير نظام العالم. ويترتب على ذلك أن الفضيلة واحدة, وأن من كان له فضيلة فله جميع الفضائل. ونحن نتبين في نظرات ديكارت هذه مشابهة للنظرات الأخلاقية التي عرفناها عند سقراط والرواقيين. والواقع أن النظرة الديكارتية إلى الفلسفة إنما هي في صميمها نظرة قدماء الفلاسفة وأغلب فلاسفة القرون الوسطى، وديكارت في هذا كله ما زال يمت إلى الماضي بسبب وثيق. وكل ما هنالك من فرق عميق بين القديم والحديث إنما نجده في المنهج الفلسفي الجديد؛ ومن ثم في النتائج التي نتجت عنه. وفلسفة ديكارت قد اتخذت أيضا صورة استدلالية استنباطية, فسنرى أنه من المبدأ الأول للأشياء تستخرج الأشياء بحركة متصلة من حركات الفكر، لكن ديكارت إنما وضع نصب عينيه أن لا يستخدم إلا مبادئ هي من البداهة والوضوح, بحيث لا يستطيع العقل أن يشك في صحتها. وهذه البداهة والوضوح سيذيعان بالضرورة في سلسلة الأشياء التي تستخلص من تلك المبادئ.

الجزء الأول من مبادئ الفلسفة

2- الجزء الأول من "مبادئ الفلسفة": إن المكان الذي يخص به ديكارت الميتافيزيقا كثير الدلالة على منحى الفيلسوف. كانت الكتب المستعملة في المدارس والمعاهد تضع الميتافيزيقا بعد الفيزيقا، أعني: كانت تضعها آخر الدروس. فمثلا كتاب "الأخ أوستاش دوسان بول" Fr. Eustache de St. Paul المسمى "Summa philosophiae, quadripartita. De rebus Dialecticis, Moralibus, physreis & metaphyaieis. ظاهر في ترتيبه أن الجزء الأول يشمل المنطق والثاني الأخلاق والثالث الفيزيقا والرابع الميتافيزيقا. فالميتافيزيقا تقع في النهاية في هذا الكتاب وكذلك شأن الفلاسفة الإسلاميين كابن سينا ... لكن ديكارت قد خالف ذلك مخالفة ظاهرة فبدأ بالميتافيزيقا. وهذا القلب للترتيب التقليدي كان بمثابة ثورة في عهد الفيلسوف, فلم تعد الفلسفة عبارة عن الارتفاع عن الأشياء المشهودة إلى غير المشهودة، ومن العالم إلى الله، باعتبار أن الميتافيزيقا مرتبة عالية لا نجد فوقها إلا العلم الأعلى أو اللاهوت، وإنما الفلسفة تفسير للعالم بواسطة المبادئ التي تكفلها لنا الميتافيزيقا، وليس من الضروري أن تنصرف الفلسفة عن اللاهوت. ولكن تلك المعرفة العالية ليست مع ذلك هي قصد الفلسفة عن اللاهوت, إنما تنزع الفلسفة إلى علم الطبيعة ومقصدها الأكبر أن تعطي لعلم الطبيعة المبادئ التي هو بحاجة إليها. نجد إذن في الجزء الأول من المبادئ ما كان موضوع كتاب التأملات1. وديكارت يعنون هذا الجزء قصدا "مبادئ المعرفة"، على أن ترتيب الموضوعات لم يتغير إلا في نقطة واحدة؛ فدليل وجود الله من ماهيته لم يعد هنا الدليل الثالث بل الأول، باعتباره أقرب الأدلة إلى الحدس. والدليلان الآخران لا يأتيان

_ 1 راجع ترجمتنا العربية للتأملات، الطبعة الثانية, القاهرة 1956.

إلا بعد ذلك: دليل وجود الله من فكرته في ذهننا، ودليل وجود الله من وجود ذهننا مع فكرة كهذه "المواد 14، 15، 16 الدليل الأول، والمواد 17، 18، 19 الدليل الثاني، والمواد 20، 21، الدليل الثالث". أما التشبيه المأخوذ من فكرة آلة صناعية, وهي الفكرة التي تحتاج إلى علة تفسرها فلم يكن موجودا إلا في الردود على الاعتراضات لا في التأملات، وأدخله ديكارت في المبادئ "مادة 17"، وفي بقية ذلك اتبع ديكارت في كتاب المبادئ الترتيب الذي اتبعه في كتاب التأملات. وإن بين الكتابين تجاوبا, وعلى الخصوص بين الخاتمة؛ ففي الناحيتين تعالج مسألة الخطأ لا على العموم "فإن نظرية الخطأ في مكانها خلال المناقشة" بل الأخطاء الحقيقية التي نقع فيها أثناء البحث عن الحقيقة، مع إحصائها في البداية وفي النهاية ذكر عللها وعواقبها, وهي إفساد الفلسفة, وآية ذلك التعاليم المدرسية. ومع ذلك, فديكارت يبين هنا بأوضح مما قد بينه في التأملات نصيب الكسب وحرية الاختيار, يفسر الخطأ بضعف الإرادة التي تتراخى، والشك الذي هو كتحرر الذهن هو فعل من أفعال النشاط تمسك به الإرادة زمام نفسها "المواد: 31-44". ويصر فيلسوفنا أكثر مما فعل على فكرة "اللامتناهي" في حين أنه في التأملات قد مال إلى اعتبار الله الموجود الكامل, ومع ذلك فبين الكتابين فرق عظيم، ولو تتبعناه إلى النهاية لأدى إلى توجيه الميتافيزيقا وجهة الأخلاق أكثر من توجيهها وجهة العلم. لكن ديكارت لا يقدر وقوع أمر كهذا, وإنما تقوده فكرة اللامتناهي إلى تفسيرين, كلاهما أدخل في باب العلم: اللامتناهي في العظم فضاء يضاف إلى فضاء بلا وقوف عند حد, واللامتناهي في الصغر, ومادة تنقسم بلا تناهٍ "المواد 26، 27" فمن الجهتين ينفتح مجال واسع أمام الذهن لمعرفة الكون. ولكن ديكات قد استعمل الحيطة فاستعاض عن "اللامتناهي"

"ذلك اللفظ الخطر" بلفظ "اللامحدود" indefini وهو في هذا لم يفعل أكثر من اتباع ذهنه في ميله الطبيعي, لقد كان يشعر بأن ذهنه متناهٍ. فكل تأكيد سواء كانت الأشياء لامتناهية أو لم تكن، يجعل الذهن متساويا للانهائية الله، وذلك ادعاء باطل. على أن ذلك الموقف المتحوط الحذر كان يلائم أخلاق ديكارت, فهو يتجنب الفصل في ذلك الموضوع الخطر، موضوع لاتناهي العالم، ولا يرد بشأنه على رجال الدين, بل إنه يتفادى كل سؤال مقحم محرج من جانبهم، وبهذا يستبعد الصعوبات العملية التي قد تنجم عن اعتبار العلل الغائبة "مادة 20، 40, 41". إن ذهننا لا يستطيع في تبجح سخيف أن يدعي المقدرة على النفاذ إلى مقاصد الله، وهو يستبعد أيضا كل صعوبة لاهوتية تنتج من سبق التدبير الإلهي، ذلك السابق المتناهي، فيما يظهر، مع الحرية الإنسانية. ولقد نبهه جاسندي إلى ذلك الأمر، ولقد عاد ديكارت إليه في كتاب المبادئ وإن كان قد تعرض لبيان وجهة نظره فيه من قبل. وربما جاز لنا أيضا أن نعزو إلى حيطة ديكارت منحه التعاليم المدرسية قسطا كبيرا من العناية في الجزء الأول من المبادئ. فهو يعالج مشكلة "الليات" ويعيد الكلام في "التقسيمات الحقيقية والصورية والعرضية"1 التي كان قد تعرض لها من قبل في نهاية رده على كاتيروس2. وكان ديكارت قد أراد أن يبسط فلسفة تعطي الجواب الشافي عن كل مسألة, من أجل ذلك لا نراه يرفض المسائل التي كانت لها منزلة الشرف عند المدرسيين، بل يعالجها على طريقة ما, مبينا أن فلسفته تستطيع أيضا أن تحملها, إذ إن فلسفة جديدة لا تحل محل الفلسفة التي تريد تقويضها إلا إذا استخدمت أنقاضها كمولد وأدوات لمبانيها الخاصة.

_ 1 المبادئ, مواد 51 إلى 65. 2 مؤلفات ديكارت، طبع آدم وتانري م 8، ص24-32.

لم يكن تاريخ الفلسفة في القرن السابع عشر علما وكانت فكرة الناس عن مذاهب القدماء من أبسط الفكرات، إلا أنها صحيحة مضبوطة. ويقسم ديكارت قدماء الفلاسفة شيعتين: الذين يشكون وليسوا بأقل الناس حكمة، والذين يدعون من غير حق أنهم على يقين؛ وعلى هذا النحو يقسم "بسكال" الناس إلى شكاك وقطعيين1. لم يقتصر ديكارت على أن جعل من الطائفة الأولى الأكاديميين, بل يجعل منهم أيضا أسلاف الأكاديميين حتى أفلاطون وسقراط نفسه. وهو يمتدحهم؛ لأنهم أقروا بسذاجة أنهم ما عرفوا حقا, بل شبيها بالحق، ولا ننسى النصيب الذي جعله ديكارت لهذا المذهب في فلسفته, إذ هو يفتتحها بالشك. وديكارت يؤيد أولا قضية الشك في ظاهر الأمر, ولكنه سرعان ما يرجع ويفارقهم فرقة نهائية لكن الفلاسفة الآخرين أقل صراحة من الشكاك في نظر ديكارت. هم يعلنون أنهم مالكون للحق، ويرون حقا مبادئ ليست كذلك ولعل ديكارت يقصد هنا أرسطو مع أنصاره المحدثين وديمقريطس. وديكارت منصف لتلك الفلسفة الثانية، فإن المبادئ التي يتخذها هو كالامتداد والشكل والحركة توجد من قبل عند ديمقريطس وعند أرسطو نفسه، ولكنها مخلوطة بفروض أخرى تفسد حقيقتها، ويستخلصها ديكارت من تلك اللوثة المنكودة ويجلي ما لتلك المبادئ من بداهة. وعلى هذا النحو يستعمل فيلسوفنا من المذاهب القديمة القسم القطعي والقسم الارتيابي, ويدخلهما في مذهبه فيعطيهما بطابع جديد. ذلك أننا نجد ديكارت يأخذ أسباب الشك فيبررها هذه المرة ويحملها إلى القمة، ولكن ينتهي الأمر بأن تتعارض تلك الأسباب من نفسها. ومن جهة أخرى نجد أسباب القسمين تكتسب قوة لم تكن لها قط من قبل. من أجل هذا, تجيب فلسفة ديكات عن التعريف

_ 1 "حديث بسكال مع مسيو دوساسي".

الذي كان أطلقه عليها أولا, والذي وضح شرطين كافيين: الموضوع الكامل وبداهة المبادئ ثم إمكان استخلاص جميع المعلومات التي توجد في الطبيعة, وبعبارة أخرى: هي مزج موفق بين الفيزيقا والرياضة. وههنا نجد الإصلاح الكبير بل الثورة التي قام بها فيلسوفنا؛ فهو لم يكف عن التصريح بذلك في كتاب المبادئ في خاتمة الأجزاء الأربعة, وفي كل لحظة في صلب الكتاب. وهنالك شخص على الأقل قد فهم ذلك, وبين بوضوح مدى ذلك العمل وهو الأب "بيكو"1, وهو يذكر بحق أن الفيزيقا كانت إلى عهده هي علم الطبيعة كله, وأن الرياضة لم تكن إلا جزءًا منها بين أجزاء أخرى كبيرة, ولكن ديكارت قد قلب ذلك النظام, فالرياضة أصبحت على يديه كل شيء ولن تكون الفيزيقا إلا جزءًا. والموضوعات التي تدرسها الرياضة تشمل عددا لامتناهيا من الممكنات. والعالم الحقيقي الواقع إنما هو أحد هذه الممكنات وهو خاضع لنفس القواعد ولنفس القوانين التي تخضع لها جميع العوالم الأخرى. وإذن فلكي نفهم العالم الواقع جيدا ينبغي أولا أن نعرف قوانينه، وهكذا تستعاد حقوق الرياضة وامتيازاتها، وبفضل الرياضة تستطيع الفيزيقا -إذ ترضى بأن تصبح تابعة لها- أن تدعي لنفسها شرف العلم الصحيح. وقبل ذلك قال غاليليو بأن الرياضة تعطينا المفتاح, أو هو مكتوب بحروف جفرية والرياضة تعطينا الجفرة؛ ولكن أهي الجفرة الصحيحة الحقيقية الواقعية؟ ما علينا بعد هذا إذا كنا بها نستطيع أن نترجم عن الأشياء أو أن نفسرها. أجل, إن الآثار التي نشاهدها في هذا العالم يمكن أن تتحقق بوسائل غير ما نظن، ولكن هذه معقولة لنا، وتلائم حاجاتنا. وإذن فهي لنا كالوسائل الصحيحة, وتحل عندنا محل الوسائل الحقيقية

_ 1 ديكارت "رسالة الانفعالات" المقدمة.

التي لا نعرفها. بل إذا استطعنا يوما أن نعرف الوسائل الحقيقية لو صح أنها موجودة وليست خرافة, فلسنا نكسب من ذلك شيئا لا للنظر -ما دمنا قد كسبنا بدونها من قبل معرفة للأشياء صحيحة واضحة متميزة- ولا للعمل ما دامت تلك المعرفة تمكننا من أن نؤثر على الطبيعة1. فالواقع هو كله عندنا في الفكرة الواضحة المتميزة، وهي ماهية الحقيقة وجوهرها. والكلمة الأخيرة في تلك الفيزيقا -كما كان الحال في الميتافيزيقا عند ديكارت- هي "المثالية الجوانية". وفيلسوفنا يريد اليقين المطلق التام, فهو يستدل تبعا لذلك, وهو أخيرا يلتجئ إلى الموجود الكامل كما لو كانت قضيته خاسرة, قال: "إن الشك في عقلنا, أو في فكرنا بمثابة العيب في حق الله"2. هذا, وقد راعيت في الترجمة على العموم أن تكون مطابقة لأصلها اللاتيني الذي كتبه ديكارت، وإن كنت قد رجحت في بعض المواضع صياغة الترجمة الفرنسية التي راجعها الفيلسوف قبل نشرها. ولا يفوتني ههنا أن أنوّه بطبعتين للمبادئ بالفرنسية, انتفعت بهما في تعليقاتي على الكتاب: الأولى طبعة "لوي ليار" والثانية طبعة "دور إندان". القاهرة إبريل 1959 عثمان أمين

_ 1 "مؤلفات ديكارت" طبع آدم وتانري م 3، ص327. 2 "مؤلفات ديكارت" م 3 ص99، وم 9 "القسم الثاني" ص123، مادة 7، 22.

إهداء المؤلف

إهداء المؤلف مدخل ... إهداء المؤلف: إهداء إلى حضرة صاحبة الشوكة 1 الأميرة إليزابث كبرى بنات فردريك، ملك بوهيميا، وكونت بالاتينا والأمير الناخب للإمبراطورية: سيدتي: إن أعظم نفع ظفرت به من المؤلفات التي نشرتها من قبل هو أنني قد نلت بسببها شرف الالتفات إليّ من سموك، وحظيت حينا بالتحدث إلى جنابك, فتيسر لي بهذا أن أتبين في شخصك خصالا قيمة نادرة جعلتني أعتقد أنني أسدي خدمة للجمهور إذا أنا قدمتها إلى الخلف قدوة تحتذى. لا يليق بي أن أتملق أو أن أكتب أشياء ليس لي بها معرفة يقينية، وعلى الخصوص في الصفحات الأولى لهذا الكتاب، الذي قصدت فيه إلى أن أضع مبادئ جميع الحقائق التي يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفها. وإن التواضع الكريم الذي نراه متألقا في جميع أفعال سموك يجعلني على ثقة من أن الكلام البسيط الصريح الذي ينطق به رجل, لا يكتب إلا ما يعتقد، سيلقي لديك من ارتياح أكثر مما تلقي خطب الثناء المنمقة بعبارات التفخيم، التي يعمد إليها من درسوا فن المديح. ولهذا لن أضع في هذه الرسالة شيئا ما لم تكن التجربة والعقل قد جعلاني مستيقنا منه. وسوف أكتب في الديباجة كما في بقية الكتاب على النحو الذي يلائم الفيلسوف.

_ 1 "صاحبة الشوكة" "Serenissime" لقب كان يمنح لبعض الشخصيات العالية, ولبعض الولادة.

إن هناك فرقا بين الفضائل الحقيقية والفضائل التي ليست إلا ظاهرية، كما أن هنالك فرقا كبيرا بين الفضائل التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة والفضائل التي تكون مصحوبة بالجهل أو بالخطأ، والفضائل التي أسميها ظاهرية ليست في حقيقة الأمر إلا رذائل. ولكن من حيث إنها ليست من الشيوع بقدر الرذائل الأخرى التي هي أضداد لها، ومن حيث إنها أبعد عنها من الفضائل التي تشغل منزلة وسطى, فقد جرت عادة الناس أن يقدروها أكثر مما يقدرون من الفضائل؛ ولذلك لما كان عدد من يخافون المخاطر خوفا شديدا جدا أكثر من عدد من يخافونها قليلا جدا، غلب على الناس أن يقابلوا بين التهور والاستحياء كما يقابلون بين فضيلة ورذيلة، وزاد تقديرهم للتهور على تقديرهم للشجاعة الحقيقية. ولذلك أيضا وجدنا المبذرين يمدحون عادة أكثر مما يمدح أهل السخاء، ووجدنا الأخيار المخلصين حقا لا ينالون من الاشتهار بالبر والتقوى قدر ما ينال المخرفون والمنافقون. وكثير من الفضائل الحقيقية لا تصدر عن معرفة حقيقية, بل إن منها ما يصدر أيضا عن نقص أو خطأ, فغالبا ما تكون البساطة علة لرقة القلب، والخوف علة للتقوى، واليأس علة للشجاعة. والفضائل المصحوبة بنقص يختلف بعضها عن بعض ويسميها الناس أيضا بأسماء مختلفة. أما الفضائل الخالصة الكاملة التي لا تصدر إلا عن معرفة الخير, فهي كلها من طبيعة واحدة، ويمكن أن يشتمل عليها اسم الحكمة؛ لأن كل من صدقت عزيمته وثبتت إرادته على أن يستعمل عقله دوما أحسن ما وسعه من استعمال، وان يتوخى في جميع أفعاله ما يراه أحسن الأشياء، وهو حكيم حقا بقدر ما تهيئه له طبيعته. وبهذا وحده يكون عادلا ومعتدلا، ويكون مالكا لكل الفضائل الأخرى، وتكون كلها مجتمعة فيه بقسطاس مستقيم, فلا تطغى إحداها على الأخرى. وهذا هو السبب في أن هذه

الفضائل مع كونها أكمل جدا من الفضائل التي تلمع وتبرز بسبب امتزاجها ببعض النقص، غير أنه لما كانت العامة أقل التفاتا إليها، لم تجر العادة بأن تنظم لها عقود الثناء1. يضاف إلى هذا أن من بين الأمرين المطلوبين للحكمة على نحو ما وصفنا -أعني: إدراك الذهن لما هو خير، واستعداد الإرادة لأن تتبعه على الدوام- أن هنالك أمرا هو مناط الإرادة وحده يمكن أن يملكه الناس جميعا على السواء؛ نظرا إلى أن قرائح بعض الناس أقل جودة من قرائح غيرهم2. ولكن مع أن من لم يرزقوا جودة القريحة يستطيعون أن يبلغوا من الحكمة ما تؤهلهم له

_ 1 في هذه الفقرة الموجزة فرّق ديكارت بين الفضائل الظاهرية والفضائل الحقيقية. وفي الفضائل الحقيقية ميز بين تلك التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة وتلك التي تكون مصحوبة بجهل أو خطأ, والفضائل الظاهرية هي رذائل يظنها العوام فضائل كالتهور والتبذير. ومن الفضائل الحقيقية ما ينشأ أحيانا من عيب أو خطأ؛ فالبساطة يمكن أن تكون علة لرقة القلب، واليأس علة للشجاعة. أما الفضائل الكاملة فمصدرها معرفة الخير، ويرى ديكارت أن الخير لا يفترق عن الحق؛ فإنه "لما كانت إرادتنا لا تتجه إلى الإقدام على شيء أو تجنب شيء إلا حسبما يقدمه الذهن لنا على أنه حسن أو سيئ، فيكفي أن نحكم حكم حسنا لكي نعمل عملا حسنا". فلا فرق عند ديكارت بين حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية؛ لأن الإرادة تتوجه بالأفكار، وهي تعمل حسنا حين تسترشد بأفكار واضحة متميزة, وتعمل سيئا حين تترك زمامها لأفكارها غامضة مبهمة. وإذن فالعلم والفضيلة شيء واحد, وكذلك الخطأ والرذيلة لا يفترقان، ودستور إرادتنا هو أن نريد أن نظلم العالم: "فليس هنالك أمر هو كله في مقدورنا إلا خطرات نفوسنا". وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نسعى إلى تغيير رغباتنا بدلا من أن نفكر في تغيير نظام العالم. وينتج من ذلك أن الفضيلة واحدة لا تتجزأ، فمن ملك فضيلة واحدة فقد ملك الفضائل جميعا, ونتبين في هذا العرض الموجز للأخلاق الديكارتية أثر المذاهب الأخلاقية عند سقراط والرواقيين. "انظر كتابنا "الفلسفة الرواقية"، الطبعة الثانية، القاهرة 1959، وأيضا: كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة 1957". 2 لكل إنسان ذهن، أي: ملكة يتصور بها الأفكار الواضحة المتميزة، لكن طاقة هذه الملكة ليست بدرجة واحدة عند الناس جميعا. غير أن هذا لا يعني أن بين الناس اختلافا في الماهية؛ لأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.

طبائعهم، وأن ينالوا رضى الله بفضائلهم، ما داموا مستمسكين بعرا العزيمة الصادقة مصممين على أن يعملوا كل ما يرونه خيرا، وأن لا يدخروا جهدا في تعلم الواجبات التي يجهلونها. بيد أن من يقصدون إلى فعل الخير بعزم صادق، ويبذلون في تثقيف أنفسهم عناية خاصة، ويملكون أيضا قريحة نفاذة, لا جرم يصلون إلى مرتبة من الحكمة أرفع من مرتبة غيرهم. وإني لأرى أن هذه الأمور الثلاثة قد اجتمعت في سموك بغاية الكمال, فعنايتك بتثقيف نفسك تتجلى في أنه لا شيء من ملهيات البلاط ولا الأسلوب المألوف في تربية الأميرات, ذلك الأسلوب الذي يصرفهن عادة عن الدرس والتحصيل، قد استطاع أن يحول بينك وبين أن تدرسي بمزيد من العناية أحسن ما في العلوم، ونفاذ قريحتك الذي لا نظير له يتبين من أنك نفذت إلى أسرار العلوم وأحطت بها إحاطة دقيقة في زمن وجيز جدا. ولكن عندي دليل يخصني أنا، وهو أنني لم ألق قط شخصا قد استطاع أن يفهم، بمثل ما بلغت من إحاطة وإتقان، كل ما تشتمل عليه مؤلفاتي؛ فإن هنالك كثيرين، حتى من بين ذوي الأذهان الفذة والعلم الغزير، يجدونها غامضة جدا. وقد لاحظت عند جمهرة المتبحرين في الرياضيات أنهم غير مستعدين إطلاقا لهم مباحث الميتافيزيقا، ولاحظت من جهة أخرى أن من يستسهلون هذه لا قدرة لهم على أن يفهموا تلك؛ ولهذا أستطيع أن أقول محقا: إنني لم ألق قط إلا ذهن سموك وحده الذي يستسهل هذه وتلك على السواء، ولهذا يحق لي أن أصفه بأنه ذهن لا نظير له. ولكن الشيء الذي يزيد من إعجابي هو أن هذه الإحاطة بجميع العلوم على هذا النحو من التنوع والكمال, لم أجدها عند عالم من الشيوخ أنفق سنوات عديدة في الدرس والتحصيل، بل عند أميرة ما زالت شابة محياها أقرب إلى أن يمثل محيا إحدى

ربات الجمال1 اللواتي يتحدث عنهن الشعراء، من أن يمثل محيا إحدى ربات الشعر2 أو محيا العالمة "مينرفا"3. وختاما، ألاحظ في سموك كل ما هو مطلوب من جانب الذهن للحكمة الكاملة الفائقة، وليس هذا فحسب, بل كل ما يمكن أن يكون مطلوبا من جانب الإرادة أو الأخلاق، وفيها نرى علو الهمة والرقة، ملتئمتين مع الجلالة التئاما جعل صروف الدهر -مع أنها وجهت إليك ضرباتها المتواليات، ومع أنها بدت وكأنها قد بذلت كل ما في وسعها لتحويلك عن طبعك الرضي- لم تستطع قط أن توغر صدرك أو تكسر قلبك. وقد تضطرني هذه الحكمة الكاملة إلى إكبارك إكبارا يجعلني لا أقتصر على الاعتقاد أنك صاحبة الفضل في هذا الكتاب، إذ يبحث في الفلسفة التي هي دراسة الحكمة, بل يجعلني أشعر بأن حرصي على التفلسف، أي: السعي إلى تحصيل الحكمة، ليس أشد من حرصي على أن أكون يا سيدتي، لسموك, الخادم المتواضع جدا، والمطيع المتواضع جدا, ديكارت

_ 1 ربات الجمال Les Graces هن في أساطير اليونان ثلاث ربات يمثلن أفتن ما في جمال المرأة. 2 ربات الشعر Les Muses تسع أخوات يمثلن ربات الشعر, والفنون عند اليونان. 3 مينرفا Minerve من آلهة الرومان تمثل ربة الحكمة, وراعية للفنون والصناعات.

رسالة من المؤلف إلى مترجم الكتاب

رسالة من المؤلف إلى مترجم الكتاب: وهي بمثابة تقديم له: سيدي: إن ترجمة "مبادئ" التي بذلت جهدك في إخراجها قد بلغت من الوضوح والإتقان ما يجعلني أتوقع أن يكون قراء الكتاب في الفرنسية أكثر من قرائه في اللاتينية، ويجعلني آمل أن يكونوا له أحسن فهما. والذي أخشاه هو أن يصدّ العنوان كثيرين ممن لم ينشئوا على الدراسات, أو ممن ساء ظنهم بالفلسفة؛ لأن الفلسفة التي تلقنوها لم تفز برضاهم. وذلك يجعلني أرى أن من الخير أن أضيف إليها تقديما يبين لهم ما هو موضوع الكتاب؟ وما القصد الذي توخيته حين كتبته؟ وما المنفعة التي يمكن أن تنال منه؟ لكن مع أنه قد يكون من شأني أنا أن أكتب تقديما من هذا القبيل، إذ المفروض أني أعرف تلك الأمور خيرا من أي شخص آخر، إلا أني لا أستطيع أن أظفر من نفسي بشيء أكثر من أن أضع هنا موجزا للنقط الرئيسية التي يبدو لي أن من الواجب بحثها في ذلك التقديم، وأترك لحسن تصرفك أن تنشر منها على الجمهور ما تراه ملائما المقام. كنت أبغي أولا أن أشرح فيه معنى الفلسفة، مبتدئا بأقرب الأشياء إلى فهم الكافة، مثل أن لفظ "الفلسفة" معناه دراسة الحكمة، وأنه لا يقصد بالحكمة التحوط في تدبير الأمور فحسب، بل يقصد منها معرفة كاملة لكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه، إما لتدبير حياته، أو لحفظ صحته, أو لاستكشاف الفنون

جميعا؛ وأن المعرفة التي يتوسل بها إلى هاتيك الغايات لا بد أن تكون مستنبطة من العلل الأولى بحيث يكون من الضروري لاكتسابها "وهو ما يسمى على التحقيق تفلسفا" أن نبدأ بالفحص عن هاتيك العلل الأولى، أي: بالفحص عن "المبادئ"؛ وأن هاتيك المبادئ لا بد أن يتوافر فيها شرطان: أحدهما: أن يكون من الوضوح والبداهة بحيث لا يستطيع الذهن الإنساني أن يرتاب في حقيقتها متى أمعن النظر فيها, والثاني: أن تعتمد عليها معرفة الأشياء الأخرى، بحيث إنها يمكن أن تعرف بدون هذه الأشياء ولا تعرف هذه الأشياء الأخرى، بحيث إنها يمكن أن تعرف بدون هذه الأشياء ولا تعرف هذه الأشياء بدونها، ويلزم بعد هذا أن نسعى إلى أن نعرف بدون هذه الأشياء ولا تعرف هذه الأشياء بدونها، ويلزم بعد هذا أن نسعى إلى أن نستنبط من تلك المبادئ معرفة الأشياء المعتمدة عليها بحيث لا يكون في سلسلة الاستنباطات شيء إلا وهو بين كل البيان، والله وحده هو حقا الموجود الذي هو حكيم إطلاقا، أي: المحيط علنه بحقائق الأشياء جميعا. لكنا نستطيع أن نقول: إن مراتب الناس من الحكمة متفاوتة بمقدار تفاوتهم في معرفة أهم الحقائق، وأنا واثق أنه لا شيء مما قد قلته الآن إلا ويقره جميع العلماء. وكنت أبغي بعد ذلك أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة, وأن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين والهمجيين، وأن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها؛ ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. وكنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها وأن يشغل

بها؛ كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته واستمتاعه عن هذا الطريق بجمال اللون والضوء, أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين وليس له من مرشد إلا نفسه. ولأن يحيا المرء دون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما؛ والتلذذ برؤية كل ما يستكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تتكشف لنا بالفلسفة. وأود أن أقول أخيرا: إن هذه الدراسة ألزم لإصلاح أخلاقنا وهداية سلوكنا في الحياة من استعمال عيوننا لهداية خطواتنا. والبهائم العجماوات التي لا هم لها إلا حفظ جسومها، لا تكل عن الدأب والسعي في طلب أقواتها. أما الناس الذين أهم جزء فيهم هو الذهن, فيجب عليهم أن يجعلوا طلب الحكمة همهم الأكبر؛ لأن الحكمة هي القوت الصحيح للعقول. وأستطيع أيضا أن أقنع نفسي أن هنالك كثيرين ما كان يفوتهم هذا الطلب لو أنهم أملوا شيئا من النجاح فيه, وعرفوا مبلغ مقدرتهم عليه. وليس من النفوس نفس مهما تكن من قلة النبل، تظل متعلقة بالحواس تعلقا شديدا فلا تتحول عنها حينا من الدهر، متشوقة إلى خير آخر أعظم وإن تكن في الغالب تجهل ماهية ذلك الخير. والذين آتاهم الله حظا عظيما، فأنعم عليهم بالعافية والمناصب والأموال ليسوا أقل من غيرهم رغبة في ذلك الخير، بل إني لأحسبهم أشد لهفة واشتياقا إلى خير آخر أكمل, وأسمى من كل ما يملكون من خيرات. وهذا "الخير الأسمى" إذا نظر إليه بالنور الفطري دون نور الإيمان، لم يكن شيئا سوى معرفة الحقيقة عن طريق عللها الأولى، أعني: الحكمة التي تدرسها الفلسفة1. ولما كانت هذه الأمور كلها حقا لا مراء فيها، لم يصعب إقناع الناس بها, متى أحسنا عرضها والتدليل عليها.

_ 1 إن فضل التفلسف عند ديكارت ليس مقصورا على سمو النظر وشرف الرتبة، بل إن فيه أيضا منفعة عملية، والفلسفة ضرورية لإصلاح عقولنا ولهداية حياتنا، إذ ترشدنا إلى ماهية "الخير الأسمى". والخير الأسمى لكل واحد عبارة عن التصميم على فعل الخير، وما يحدثه ذلك من رضى في النفس. ولست أرى غيره خيرا يعدله في جلال قدره, ويكون في مقدور كل واحد؛ فإن خيرات البدن والحظ والمال ليست في مقدورنا على الإطلاق؛ والخير الأسمى، كما رأينا في إهداء "المبادئ" إلى الأميرة إليزابث، لا يفترق عن معرفة الحقيقة.

لكن من حيث إنه قد حِيل بيننا وبين أن نعتقد هذه الأمور، بسبب التجربة التي تدلنا على أن محترفي الفلسفة هم غالبا أقل حكمة وأقل اعتصاما بالعقل من غيرهم ممن لم يشتغلوا بتلك الدراسة قط، فيلزمني ههنا أن أشرح بإيجاز: مم تتألف كل المعرفة التي نملكها الآن؟ وإلى أي درجات الحكمة وصلنا؟ الأولى لا تشتمل إلا على تصورات بلغ من وضوحها بذاتها أن أصبح اكتسابها ميسورا دون تأمل، والثانية تشتمل على كل ما تدلنا عليه تجربة الحواس، والثالثة ما نتعلمه من أحاديثنا مع غيرنا من الناس، ويصح أن نضيف إلى ما سبق درجة رابعة، وهي مطالعة الكتب لا أقول جميعا، بل على الخصوص تلك التي كتبها أشخاص قادرون على تزويدنا بإرشادات حسنة؛ لأن مطالعة الكتب ضرب من التحدث مع مؤلفيها. ويبدو لي أن كل الحكمة التي يقع امتلاكها في مألوفنا مكتسبة بهذه الطرق الأربعة فقط؛ لأني لا أضع الوحي الإلهي من بينها؛ إذ إن هدايته ليست على درجات، وإنما يرفعنا دفعة واحدة إلى إيمان لا يتزعزع. نعم, لقد وجد في كل العصور من فطاحل المفكرين من حاولوا في سعيهم إلى بلوغ الحكمة أن يجدوا طريقا خامسا أرفع وأوثق بمراحل من الطرق الأربعة الأخرى؛ ذلك هو البحث عن العلل الأولى والمبادئ الحقة التي يستطيع المرء أن يستنبط منها أسباب كل ما في مقدورنا أن نعرفه، وعلى هؤلاء الذين اشتغلوا بهذا البحث على الخصوص أطلق الناس اسم الفلاسفة1. وأول وأكبر من

_ 1 لقد كان مطمع الفلسفة على الدوام أن تحقق الوحدة بين المعارف الإنسانية المختلفة؛ ولذلك عمدت إلى تفسير الأشياء بواسطة مبدئها الأول. ومثل هذا المقصد يقتضي أن تكون الفلسفة استنباطية، بمعنى أن تكون نسقا واحدا، كل اكتشاف فيه يكون بمثابة مبدأ لتفسير المشكلة التي تليه.

وصلت إلينا مؤلفاتهم هما أفلاطون وأرسطو, ولم يكن بينهما من فرق سوى أن أفلاطون قد سار على آثار أستاذه سقراط, فاعترف في خلوص نية بأنه لم يهتد بعد إلى شيء يقيني، وأنه قد اكتفى بتحرير ما بدا له شيئا محتمل الصدق, وتخيل لهذا الغرض بعض مبادئ حاول بواسطتها أن يفسر الأشياء الأخرى. أما أرسطو فكان أقل صراحة، ومع أنه تتلمذ على أفلاطون عشرين سنة ولم يكن لديه مبادئ غير مبادئ أستاذه, فقد غير طريقة عرضها تغييرا تاما، وقدمها على أنها صحيحة ومؤكدة، ولو أن الأرجح أنها لم تكن قط في تقديره كذلك1. ولقد أصاب هذان الرجلان من الألمعية والحكمة التي تكتسب بالوسائل الأربع السابقة ما أضفى عليهما سلطانا كبيرا جعل من جاءوا بعدهما يقفون عند متابعة آرائهما أكثر مما يسعون إلى شيء أفضل. والنزاع الكبير الذي نشب بين تلاميذهما إنما كان مداره أن يتبينوا: هل ينبغي أن توضع الأشياء كلها موضع الشك أم أن هناك أشياء يقينية؟ وهو خلاف أفضى بالفريقين إلى ضلال بعيد؛ لأن فريقا ممن ذهبوا إلى الشك قد وسعوا نطاقه وجعلوه يمتد إلى أفعل الحياة،

_ 1 ذهب "ليار" في طبعته لكتاب "المبادئ" "الطبعة الرابعة، مارس سنة 1926" إلى أن حكم ديكارت هنا على أفلاطون وأرسطو حكم سطحي وغير دقيق وغير عادل. وقد تابعه "دوراندان" في طبعته لكتاب "المبادئ" "باريس 1950" فقال: إن ديكارت لم يكن محقا في اتهام أرسطو بقلة الصراحة. أما نحن, فنرى أنه قد فات كلا الباحثين أن ديكارت لم يكن بصدد حكم عام على فلسفتي أفلاطون وأرسطو، وإنما الذي كان يعنيه هو مشكلة البحث عن الحقيقة أو مشكلة اليقين, وإذن, فقد جاء حكمه على آرائهما من هذا الوجه فحسب. ويبدو لنا خلافا لليار ودوراندان أن هذا الحكم في غاية النفاذ والسداد؛ فالذي يستخلص من محاورات أفلاطون كلها هو الاعتراف الصريح بأنه ليس لدينا يقين, وإنما الذي نناله من المعرفة هو شيء شبيه بالحق، وحتى محاورة "فيدون" إنما نخرج منها، لا بأدلة يقينية، بل بأسباب تدعونا إلى الاعتقاد بخلود الروح بعد مفارقتها للبدن. أما أرسطو, فبعد مجهود طويل شاق لتفنيد أقوال أفلاطون رجع إلى ما ذهب إليه أستاذه, ولكن في صورة جديدة. وهذا هو الذي جعله يقف في فلسفته مواقف مختلفة ومتعارضة؛ فهو في المنطق صوري، وفي الميتافيزيقا واقعي, وفي الأخلاق وسط بين المثالية والواقعية "انظر كتابنا: "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة 1958".

بحيث إنهم أهملوا استعمال الحيطة والتبصر في سلوكهم، أما من ناصروا مذهب اليقين فقد افترضوا أنه يعتمد على الحواس، فاطمأنوا إليها كل الاطمئنان، حتى إنه يقال: إن "أبيقور" بلغت به الجرأة في أقواله أن صرح، خلافا لجميع استدلالات علماء الفلك، بأن الشمس ليست أكبر حجما مما تبدو لنا. وهناك عيب يمكن أن يلاحظ في جميع المنازعات، وهو أنه لما كانت الحقيقة وسطا بين الرأيين المتقابلين، فإن كل طرف يبعد عنها بمقدار ما يكون ميله إلى معارضة الطرف الآخر. لكن خطأ من مالوا كل الميل إلى جانب الشك لم يجد من تابعه زمنا طويلا. أما خطأ الفريق الآخر فقد تيسر تصحيحه شيئا ما، حين تبين أن الحواس تخدعنا في كثير من الأشياء. غير أني لا أحسب أن ذلك الخطأ قد زال زوالا تاما؛ لأن أحدا لم يبين أن اليقين ليس في الحواس بل في الذهن وحده حين يكون لديه مدركات بديهية، وأنه حين لا يكون لدينا إلا معارف اكتسبناها عن طريق درجات الحكمة الأربع الأولى، حينذاك لا ينبغي أن نشك في الأشياء التي تبدو لنا حقيقة إذا كانت متصلة بسلوكنا في الحياة، ولكن لا ينبغي كذلك أن نعدها يقينية يقينا يمتنع معه أن نغير رأينا فيها, إذا اضطرتنا إلى ذلك بداهة من بداهات العقل1.

_ 1 أراد ديكارت هنا أن يقسم الفلسفة فريقين: فريق من رأوا الصعوبة في إقامة علم أكيد، لكنهم لم يحاولوا أن يتغلبوا عليها, فوقفوا عند الشك وقفة نهائية، في حين أن الشك ما هو إلا مرحلة يتلوها مراحل. وفريق من لم يروا الصعوبة، ووثقوا بوسيلة للمعرفة سهلة لكنها خداعة، وهي الحواس, والعيب المشترك عند الفريقين، أنهم لم يقدروا على مجاوزة مرتبة المعرفة الحسية، ولم يروا أن هنالك ضربا من المعرفة صعبا لكنه أكيد وهو الفهم.

وقد نشأ عن الجهل بهذه الحقيقة, أو عن عدم استعمالها ممن عرفوها أن معظم من أرادوا في هذه القرون الأخيرة أن يكونوا فلاسفة قد تابعوا أرسطو متابعة عمياء، حتى إنهم كثيرا ما أفسدوا معنى كتاباته، ناسبين إليه آراء مختلفة ما كان ليقر نسبتها إليه لو أنه عاد إلى هذه الدنيا. أما من لم يتابعوه -ومنهم كثيرون من ذوي العقول الراجحة1- فلم يبرءوا من التشبع بآرائه في شبابهم؛ لأنه لا يعلم في المدارس سواها، وقد شغلهم ذلك شغلا حال دون وصولهم إلى معرفة المبادئ الحقة. ومع أني أقدرهم جميعا ولا أريد أن أعرض نفسي للخزي بتوجيه اللوم إليهم، فإني أستطيع أن أقدم على قولي دليلا لا أظن أن منهم من ينكره، وهو أنهم قالوا بشيء لم يكونوا على معرفة كاملة به وافترضوه مبدأ. فأنا مثلا لا أعرف منهم من يفترض الثقل في الأجسام الأرضية، ولكن مع أن التجربة تدلنا بوضوح على أن الأجسام التي تسمى ثقيلة تهبط نحو مركز الأرض, فإننا لا نعلم مع ذلك ما هي طبيعة ما يسمى ثقلا، أي: طبيعة العلة أو المبدأ الذي يجعلها تهبط على هذا النحو، وعلينا أن نستقي معرفتنا بذلك من مصدر آخر. ويمكن أن يقال مثل هذا عن الخلاء والذرات، وعن الحار والبارد، وعن الجاف والرطب، وعن الملح والكبريت والزئبق وما شابه ذلك مما افترضه بعضهم مبادئ2. لكن جميع النتائج التي تستنبط من مبدأ ليس ببديهي, لا يمكن أن تكون بديهية مهما يكن الاستنباط من حيث صورته صحيحا. ويترتب على هذا أن

_ 1 لعل ديكارت قد انصرف باله, وهو يكتب هذه العبارة إلى الفلاسفة الأفلاطونيين من أهل "عصر النهضة" أو إلى بعض معاصريه مثل "جاليليو". 2 أنكر ديكارت على "المدرسيين" التجاءهم إلى "الكيفيات الحسية" -كالحار والبارد ... إلخ- واتخاذها مبادئ لتفسير الأشياء. فمن حيث إن تلك الكيفيات ليست معاني بسيطة, بل مركبة لاعتمادها في وقت واحد على طبيعة الموضوع وطبيعة الذات المدركة، فهي ليست بالمعاني الواضحة بذاتها. إن التجديد الأكبر عند ديكارت -كما يقول ليار- أنه أراد أن لا يستخدم إلا مبادئ بديهية، وجعل بداهة العقل وحدها معيارا للحق. "ليار: طبعة "المبادئ" ص14".

جميع الاستدلالات التي أقاموها على مثل تلك المبادئ لم تستطع أن تؤديهم إلى المعرفة اليقينية لشيء واحد، ولم تستطع بالتالي أن تجعلهم يقدمون خطوة واحدة في البحث عن الحكمة. وإذا كانوا قد وجدوا أية حقيقة, فمرجع ذلك إلى بعض الطرق الأربعة المشار إليها فيما تقدم. وعلى الرغم من هذا لا أريد أن أنتقص شيئا مما قد يدعيه كل واحد منهم لنفسه من فضل، لكني مضطر إلى أن أقول تهدئة لخواطر من لم ينصرفوا إلى الدرس: إن مثلنا كمثل المسافر، إذا أدار ظهره إلى المكان الذي يبتغي الذهاب إليه نأى عنه بقدر مضيه في الاتجاه الجديد زمانا أطول وبسرعة أشد، بحيث إنه لو عاد بعد ذلك إلى الطريق السوي لم يستطع أن يدرك المكان المقصود في نفس الوقت الذي كان يدركه فيه لو أنه لم يشرع في السير إطلاقا. وكذلك شأن الفلسفة، إذا اصطنعنا فيها مبادئ فاسدة كان ابتعادنا عن معرفة الحقيقة ومعرفة الحكمة بمقدار ما نبذل من عناية في تعهدهما, وما ننفق من جهد في استخلاص مختلف النتائج منهما، ونحن نظن أننا نحسن التفلسف، مع أننا نكون قد أمعنا في الابتعاد عن الحق. ويتعين أن نستخلص من هذا أن أولئك الذين تعلموا أقل قدر من كل ما خصّ حتى الآن باسم الفلسفة, هم أقدر الناس على إدراك الفلسفة الحقة. وأود, بعد إيضاح هذه الأمور، أن أورد هنا الأدلة اللازمة لإثبات أن المبادئ التي تعيننا على الوصول إلى مراتب الحكمة هذه -وهو قوام الخير الأسمى في الحياة الإنسانية- هي المبادئ التي وضعتها في هذا الكتاب. وحسبنا لإثبات ذلك دليلان اثنان: الأول: أن هذه المبادئ واضحة جدا. والثاني: أن باستطاعتنا أن نستنبط منها جميع الحقائق الأخرى؛ لأن هذين الشرطين وحدهما هما المطلوبان في المبادئ. ومن الميسور لي أن أثبت أنها

واضحة جدا: أولا، بالاستناد إلى النحو الذي وجدتها عليه، أعني: باطّراح جميع القضايا التي عرض لي فيها وجه من وجوه الشك، إذ من المستيقن أن القضايا التي أمعنا النظر فيها، ووضعناها موضع الاختبار فلم نستطع اطراحها بعد ذلك، هي أجلى وأوضح ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرف. ونظرا إلى أني رأيت أن من يريد أن يشك في كل شذى لا يستطيع مع ذلك أن يشك في وجوده حين يشك، وأن ما سبيله في الاستدلال هذا النحو من عدم استطاعته أن يشك في ذاته ولو كان يشك في كل ما سواه, ليس هو ما نقول عنه: إنه بدننا, بل ما نسميه روحنا أو فكرنا. بهذا الاعتبار أخذت كينونة هذا الفكر أو وجوده على أنه المبدأ الأول، ومن هذا المبدأ استنبطت بكل وضوح المبادئ التالية، أعني: وجود إله هو صانع ما هو موجود في هذا العالم. ولما كان الله تعالى منبع كل حقيقة، فإنه لم يخلق الذهن الإنساني على فطرة تجعله يخطئ في الحكم الذي يطلقه على الأشياء التي يتصورها تصورا واضحا جدا ومتميزا جدا، تلك هي المبادئ التي استعملتها فيما يتصل بالأشياء اللامادية أو الميتافيزيقية. ومن هذه المبادئ استنبطت استنباطا واضحا كل الوضوح، مبادئ الأشياء الجسمانية أو الفيزيقية، أعني: وجود أجسام ممتدة طولا وعرضا وعمقا، وذات أشكال مختلفة ومتحركة على أنحاء مختلفة. هذا بإيجاز جميع المبادئ التي استنبطت منها حقيقة الأشياء الأخرى1. والدليل الثاني على وضوح هذه المبادئ هو أن الناس عرفوها في كل زمان وتلقوها جميعا على أنها مبادئ صحيحة ولا سبيل إلى الشك فيها، ولا يستثنى منها إلا وجود الله، إذ وضعه بعضهم موضع الشك، بسبب إسرافهم في الاعتداد بمدركات الحواس، وأنهم لا يستطيعون أن يروا الله بأبصارهم, ولا أن يلمسوه بأيديهم.

_ 1 تلك خلاصة للميتافيزيقا الديكارتية كلها، وفيها يشير ديكارت في بيان قوي جلي إلى المراحل المختلفة التي مر بها فكره.

ولكن على الرغم من أن جميع الحقائق التي أضعها بين مبادئ قد عرفها الناس جميعا في جميع الأزمان, غير أني لا أعلم أن أحدا حتى الآن قد تبين أنها مبادئ الفلسفة, أي: إن من شأنها أن تستخلص منها المعرفة بجميع الأشياء التي في العالم؛ ولذلك يبقى على ما منا أن أثبت أن هذا هو شأنها. ويبدو لي أن أفضل سبيل أستطيع به أن أثبت ذلك هو أن أبينه بالتجربة، أي: أن أدعو القراء إلى قراءة هذا الكتاب1؛ لأني وإن لم أكن قد تناولت فيه جميع الأشياء لاستحالة هذا الأمر، فإني أحسب أني قد خسرت جميع الأشياء التي عرضت لها في مواضعها، بحيث إن من يقرءونه بشيء من الانتباه سيكون لديهم ما يدعوهم إلى الاعتقاد بأنه لا حاجة إلى التماس مبادئ أخرى غير ما قررت للوصول إلى أرفع معرفة أتيح للذهن الإنساني أن يبلغها. فإذا قرءوا مؤلفاتي أولا وحرصوا على ملاحظة تفسيرها للمسائل المختلفة، وإذا تصفحوا أيضا مؤلفات غيري، لرأوا قلة ما أدلوا فيها من الأدلة المقبولة لتفسير تلك المسائل نفسها بمبادئ مخالفة لمبادئي. وأود أن أقول لهم، كيما يتيسر لهم القيام بما أدعوهم إليه: إن أولئك الذين ألفوا آرائي يلقون في فهم مؤلفات غيري وفي معرفة قيمتها الحقيقية عناء أقل بكثير مما يلقاه من لم يألفوا تلك الآراء، وهذا عكس ما قلت منذ قليل عمن بدءوا بدراسة الفلسفة القديمة، من أنهم كلما زاد اشتغالهم بها قل في الغالب استعدادهم لتعلم الفلسفة الحقة. وأود أن أضيف كلمة عن رأيي في الطريقة التي أنصح بها في قراءة هذا الكتاب، وهي أني أود للقارئ أن يتصفحه كله أولا كما يتصفح رواية دون أن

_ 1 تتبين المبادئ الأولى بعلامتين: أن تكون واضحة جدا، وأن يكون من الممكن أن نستخلص منها جميع الأشياء الأخرى. ولقد أراد ديكارت حين كتب "مبادئ الفلسفة" أن يبين بالتجربة أن مبادئ فلسفته قد استوفت الشرط الثاني، إذ إن المبادئ في الواقع تفسير عام للأشياء بواسطة المبادئ الأولى.

يحل انتباهه من أمر عسرا, ودون أن يقف عند الصعوبات التي قد تعترض سبيله فيه حتى يلم إلماما عاما الموضوعات التي تناولتها. فإذا وجد بعد ذلك أنها جديرة بأن تبحث، ورغب في استطلاع أسبابها استطاع أن يقرأ الكتاب مرة أخرى لكي يلتفت إلى ارتباط أفكاري واتصالها. ولكن لا ينبغي أن يطرح الكتاب إذا لم يتبين ذلك الارتباط في كل المواضع أو لم يفهم أفكاري كلها، بل ينبغي أن يضع بالقلم علامة بإزاء المواضع التي يجد فيها صعوبة، وأن يمضي في القراءة دون توقف حتى النهاية. واعتقادي أنه إذا قرأ الكتاب مرة ثالثة فسيجد فيه حلا لأغلب الصعوبات التي وضع العلامات بإزائها من قبل, فإذا بقيت بعد ذلك بعض الصعوبات وجد لها الحل أخيرًا متى أعاد القراءة. لقد استرعى نظري عند دراسة طبائع المفكرين على اختلافها أنه لا يكاد يوجد منهم من قد بلغ من الغلظة والتخلف ما يجعله عاجزا عن أن يثوب إلى الرأي السديد، بل أن يحصل أرفع العلوم متى وجه التوجيه السليم، وهذا يمكن إثباته كذلك بدليل العقل؛ لأنه ما دامت المبادئ واضحة، وما دام لا ينبغي أن يستخلص منها شيء إلا باستدلالات بديهية جدا، فكل امرئ لديه دائما من قوة الذهن ما يعينه على فهم الأشياء التي يعتمد عليها. لكن فضلا عن العقبات الناشئة من الأوهام الشائعة التي لا يخلو منها أحد خلوا تاما، وإن تكن أشد إضرارا بمن أحالوا دراسة العلوم الفاسدة، فيكاد يحدث دائما أن أصحاب الأذهان المعتدلة يهملون الدراسة؛ لأنهم لا يظنون أنهم قادرون عليها، وأن غيرهم ممن هم أشد منهم حماسة يتعجلون فيشتطون، وكثيرا ما يؤدي تعجلهم إلى أن يتلقوا مبادئ ليست بديهية يستخلصون منها نتائج غير يقينية1؛ ولذلك أود أن أؤكد لمن يبالغون في عدم الاطمئنان إلى قوة أذهانهم بأنه لا شيء في

_ 1 يرى ديكارت أن التعجل والتهور سببان رئيسيان من أسباب الخطأ.

مؤلفاتي إلا ويستطيعون أن يفهموه إذا بذلوا جهدهم في بحثه، ومع ذلك فأود كذلك أن أحذر الآخرين بأن أصحاب الأذهان الممتازة أنفسهم محتاجون إلى كثير من الوقت, والانتباه لكي يلحظوا جميع الأشياء التي قصدت تضمينها في كتابي. ثم لكي أعين القارئ على جودة التصور لقصدي من نشر "المبادئ" أود هنا أن أشرح الترتيب الذي يبدو لي أن من الواجب اتباعه للاستزادة من المعرفة. فأقول أولا: إن الإنسان الذي لا يملك بعد إلا المعرفة العامية الناقصة التي يمكن تحصيلها بالوسائل الأربع التي شرحتها فيما تقدم، يجب قبل كل شيء أن يسعى إلى أن يؤلف لنفسه مذهبا أخلاقيا يكفي لتنظيم أعماله في الحياة؛ لأن هذا الامر لا يحتمل إرجاء، ولأننا ينبغي على الخصوص أن نسعى إلى الحياة الصحيحة1 وبعد ذلك ينبغي أيضا أن يدرس المنطق ولا أقصد منطق المدرسيين؛ لأنه على التدقيق ليس إلا جدلا يعلم الوسائل لإفهام غيرنا الأشياء التي نعلمها، أو للإدلاء دون حكم بأقوال كثيرة من الأشياء التي لا نعرفها، فهو بذلك يفسد الحكم السليم دون أن ينميه، بل أقصد المنطق الذي يعلم المرء توجيه عقله لاكتشاف الحقائق التي يجهلها. ولما كان كثير الاعتماد على الاستعمال، فيجمل أن يتدرب المرء زمانا طويلا على ممارسة قواعده المتصلة بالمسائل السهلة

_ 1 بين ديكارت في كتاب "المقال في المنهج" أنه قبل أن يضع معارفه موضع الشك قد ألف لنفسه أخلاقا مؤقتة: "وأخيرا لما كان لا يكفي قبل البدء في تجديد المسكن الذي نقيم فيه أن نهدمه، وأن نحصل مواد العمارة والمعماريين أو أن نعمل بأنفسنا في العمارة، وأن نكون عدا ذلك قد وضعنا له الرسم بعناية، بل يجب كذلك أن يكون لنا مسكن آخر نستطيع أن نأوي إليه في راحة أثناء العمل في ذلك المسكن. وكذلك لكي لا أظل مترددا في أعمالي حينما يجبرني العقل على ذلك في أحكامي، ولكي لا أحرم نفسي منذ الآن من أسعد حياة أقدر عليها، فإنني وضعت لنفسي قواعد للأخلاق مؤقتة". "القسم الثالث, الترجمة العربية, القاهرة سنة 1930، ص73".

البسيطة كمسائل الرياضيات1. ثم إذا اكتسب عادة الاهتداء إلى الحقيقة في هذه المسائل، وجب أن يبدأ في جد بالإقبال على الفلسفة الحقة2، التي جزؤها الأول هو الميتافيزيقا التي تحتوي على مبادئ المعرفة, ومن بينها تفسير أهم صفات الله, ولامادية النفوس، وجميع المعاني الواضحة البسيطة المودعة فينا3. والثاني هو الفيزيقا، ويبحث فيها على العموم، بعد أن يكون المرء قد وجد المبادئ الحقة للأشياء المادية، عن ماهية الكون كله، وعلى الخصوص عن طبيعة هذه الأرض وطبيعة جميع الأجسام التي توجد حولها، مثل: الهواء والماء والنار والمغناطيس والمعادن الأخرى, وبعد ذلك يحتاج أيضا إلى أن يفحص على الخصوص عن طبيعة النبات وطبيعة الحيوان وخصوصا طبيعة الإنسان؛ لكي يستطيع المرء بعد ذلك أن يجد العلوم الأخرى التي فيها منفعة له4. فالفلسفة بأسرها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا, والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية, هي: الطب والميكانيكا والأخلاق، وأعني الأرفع والأكمل التي لما كانت تفترض معرفة تامة بالعلوم الأخرى، فقد بلغت المرتبة الأخيرة من مراتب الحكمة5.

_ 1 قابل ديكارت في هذه الفقرة بين منهجه وبين منطق القدماء؛ فمنطق هؤلاء يشتمل على معانٍ معطاة لا ضابط له على مسوغات الاطمئنان إليها، وهو يحللها ويفصل بعضها عن بعض ويستخرج منها كل ما تحتوي عليه. إذن فهو لا يعدو أن يكون وسيلة للعرض والبسط، فإذا كانت مقدماته صحيحة كانت النتائج التي ينتهي إليها صحيحة، وإذا كانت مقدماته فاسدة كانت نتائجه فاسدة, أما المنهج فخلاف ذلك؛ إنه يعلم المرء توجيه عقله للكشف عن الحقائق التي يجهلها. 2 المنهج الديكارتي شامل، ينطبق أيضا على جميع أجزاء العلم، والمسالك التي يتخذها لتوجيه الذهن نحو الحقيقة هي بعينها دائما. ومع ذلك فمن حيث إنه جاء من الرياضيات, فتطبيقه على الرياضيات أيسر سبيل للتدرب عليه. 3 هذا هو النظام الذي اتبعه ديكارت في القسم الأول من كتاب "مبادئ الفلسفة". 4 المنهج الديكارتي يذهب من البسيط إلى المركب، ومن العام إلى الخاص. 5 يرى ديكارت أن الفلسفة واحدة: الميتافيزيقا تزودنا بالمبادئ الأولى للأشياء، والفيزيقا تطبقها على تفسير الظواهر في العالم الخارجي، ومن الفيزيقا اشتق علمان لهما صيغة علمية أو فنان =

ومن حيث إن المرء لا يجني الثمرات من جذور الأشجار, ولا من جذوعها بل من أطراف فروعها، فكذلك أكبر منفعة للفلسفة تعتمد على أجزائها التي لا يستطاع تعلمها إلا آخر الأمر1. ولكن مع أني أكاد أجهلها كلها، فإن دأبي على خدمة الجمهور جعلني أنشر، منذ سنوات عشر أو اثنتي عشرة سنة، بضع محاولات في أمور كان يبدو لي أني قد تعلمتها. والجزء الأول من هذه المحاولات مقال في المنهج لحسن توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، وفيه لخصت القواعد الرئيسية للمنطق ولمذهب في الأخلاق ناقص يستطيع المرء اتباعه مؤقتا ريثما يجد خيرا منه. والأجزاء الأخرى رسائل ثلاث: إحداها عن "البصريات"، والأخرى عن "الآثار العلوية", والثالثة عن الهندسة2, وقد قصدت "بالبصريات" أن أبين أن في إمكان المرء أن يمضي في سبيل الفلسفة شوطا بعيدا لكي يصل عن طريقها إلى معرفة الفنون النافعة للحياة، نظرا إلى أن اختراع النظارات المقربة الذي شرحته فيها هو من أشق ما حاوله الإنسان من اختراعات. وأردت "بالآثار العلوية" أن يتبين للناس الفرق بين الفلسفة التي أتعهدها وتلك التي يعلمونها في المدارس؛ حيث جرت عادة القوم بأن يتناولوا هذه الموضوعات عينها. وأخيرا, حسبت أني بالهندسة أثبتّ أني اهتديت إلى

_ = هما: الميكانيكا والطب. وأخيرا من الفلسفة كلها اشتقت الأخلاق الحقيقية التي هي المرتبة الأخيرة للحكمة, والتي هي عبارة عن حياة المرء وفقا لنظام العالم, وإخضاع إرادته لنظام الأشياء. وإذا كانت فلسفة ديكارت تبدو نظرية, فقد كانت لديكارت على الدوام مشاغل علمية: كان يريد أن ينشئ طبا قائما على العقل، وكان دائم الاهتمام بالأخلاق. كتب إلى شانو "أن أوكد وسيلة لمعرفة السبيل إلى أن نحيا هي أن نعرف مقدما من نحن؟ وما العالم الذي نعيش فيه؟ ومن خالق هذا الكون الذي نسكنه؟ ". 1 المقصود هنا المنفعة العملية والخدمات التي يمكن الحصول عليها من الميكانيكا والطب والأخلاق, متى استنبطت من علم صحيح. 2 الكتاب الذي نشره ديكارت سنة 1637 كان يتضمن "المقال في المنهج لحسن توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم, ثم البصريات والهندسة, وهي محاولات في ذلك المنهج".

أشياء كثيرة كانت مجهولة من قبل؛ وبذلك وطأت سبيلا للاعتقاد بأن من الممكن اكتشاف أشياء أخرى غيرها. وقصدي من ذلك أن أستحث بهذا جميع الناس على البحث عن الحقيقة1. ومنذ ذلك الحين، وقد تنبأت بما قد يجده كثيرون من صعوبة في تصور أسس الميتافيزيقا، حاولت أن أشرح أهم مباحثها في كتاب تأملات2 ليس في الأصل كبيرا، ولكن زاد حجمه واتضحت مادته كثيرا بما أضيف إليه من اعتراضات أرسلها إلي بصدده أشخاص كثيرون من المتجرين جدا في العالم، ومن ردود قيدتها على تلك الاعتراضات. وأخيرا لما بدا لي أن تلك الرسائل السابقة قد مهدت أذهان القراء لتلقي مبادئ الفلسفة رأيت أيضا أن أنشر هذه المبادئ. وقد قسمت الكتاب أربعة أجزاء, يحتوي الأول منها على مبادئ المعرفة، وهو ما يمكن أن يسمى الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا. ولكي يفهم جيدا يجعل أولا أن يقرأ كتاب "التأملات" الذي كتبته في هذا الموضوع3 والأقسام الثلاثة الأخرى أعم ما في الفيزيقا، أعني: تفسير القوانين الأولى أو مبادئ الطبيعة، وعلى أي نحو خلقت السموات والنجوم والثوابت والكواكب والشهب والكون كله على العموم, وعلى الخصوص طبيعة هذه الأرض وهذا الهواء والماء والنار والمغناطيس، وهي الأجسام التي يمكن أن نراها عموما محيطة بها، والطبيعة جميع الصفات التي نلحظها في الأجسام، كالنور والحرارة والثقل وما شابه ذلك. وبهذا أحسب أني بدأت أفسر الفلسفة كلها بترتيب، دون أن أغفل شيئا مما يجب تقديمه على الأشياء الأخيرة التي كتبت عنها.

_ 1 الهندسة كتاب ذو أهمية كبرى في تاريخ العلوم الرياضية، فيه عرض لأهم الكشوف التي توصل إليها ديكارت في الرياضة. 2 يشير إلى كتاب التأملات في الفلسفة الأولى, الذي ظهر باللاتينية سنة 1641، ونشرت ترجمته الفرنسية بقلم الدوق دولوين سنة 1947 "انظر: ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية سنة 1956". 3 القسم الأول من كتاب "المبادئ" الذي ننشره اليوم: هو خلاصة لمبادئ الميتافيزيقا الديكارتية.

ولكن لكي أنهض بهذا المشروع, وأمضي فيه حتى غايته ينبغي فيما يلي أن أفسر كذلك طبيعة كل واحد من الأجسام الأخرى الأخص والموجودة على الأرض، أعني: طبيعة المعادن والنبات والحيوان وخصوصا الإنسان، ثم يجب أن أبحث بحثا دقيقا في الطب والأخلاق والميكانيكا، هذا ما ينبغي أن أعمل لكي أعطي الناس بناء للفلسفة تاما. ولا يخامرني بعد شعور بأني بلغت من كبر السن، ولا من عدم الاطمئنان إلى قواي، ولا من البعد عن معرفة ما يتبقى، مبلغا يحول دون الإقدام على إتمام المشروع إذا توافرت لدي إمكانية القيام بجميع التجارب التي أحتاج إليها تأييدا لاستدلالاتي وتبريرا لها1، ولكن لما رأيت أن ذلك يقتضي نفقات لا قبل لفرد مثلي على تحللها ما لم يجد لدى الجمهور عونا له، ولما رأيت أنه لا ينبغي لي أن أنتظر هذا العون، فقد بدا لي أن الأولى أن أقنع بالدرس ابتغاء تثقيف نفسي، وأن خلفائي سيلتمسون لي العذر إذا ما تقاعدت عن العمل من أجلهم في المستقبل.

_ 1 إن فيزيقا ديكارت -كما يقول ليار- مطبوعة بطابع الأولية، أي: التقدم بالرتبة والصدارة العقلية؛ فهي تمثل العالم الخارجي على غرار جهاز آلي، كل شيء فيه يتبع قانون الأشكال والحركات. وهذا التصور لا يأتي من التجربة، بل من الذهن الذي لا يرى في العالم الحي من وضوح وتمييز، وبالتالي من حقيقة وواقع، إلا في الامتداد والشكل والحركة. بيد أن التجربة بمعناها الدقيق تؤدي دورا هاما في هذه الفيزيقا الرياضية، فهي التي تضع المشكلة التي يطلب حلها، ومبادئ الفيزيقا, مهما تكن أولية، لا تستغني عن التجربة, فإننا لا نعرف بالعقل وجود العالم وخواص الظواهر بل بالتجربة، ونستطيع أن نتصور بالفكر عددا لامتناهيا من العوالم المختلفة الممكنة، لكن التجربة وحدها تكشف لنا عن العالم الواقعي الذي يتعين تفسيره. إنها تعين أيضا على إظهار مدى الانطباق بين التصورات والوقائع؛ ولذلك رأينا ديكات دائم الحرص على الجمع بين العقل والتجربة, ويقول لنا "بابيه" صاحب سيرة الفيلسوف: "إن الشتاء كله الذي قضاه ديكارت في أمستردام سنة 1629 قد انصرف فيه إلى دراسة علم التشريح, وقد قال للأب "مرسن" بأن شغفه بهذه المعرفة قد دفعه إلى أن يذهب كل يوم إلى قصاب ليشهده وهو يقوم بذبح البهائم، وكان يحمل معه إلى بيته بعض أجزاء من الحيوان ليقوم بتشريحها بنفسه وعلى راحته". "انظر ليار: "ديكارت" فصل عن دور التجربة في الفيزيقا الديكارتية".

بيد أنه لكي يستطيع الجمهور أن يرى مبلغ ما قدمت له من قبل من خدمات، سأقول ههنا: ما هي الثمرات التي أظن أن في الإمكان استخلاصها من مبادئ؟ الأولى هي الرضا الذي يناله المرء حين يجد فيها حقائق كثيرة كانت مجهولة من قبل؛ فلئن تكن الحقيقة في أكثر الأحيان أقل إثارة لخيالنا من الأكاذيب والأوهام, بالنظر إلى أنها تبدو أقبل بهاء وأكثر بساطة، فإن الرضا الذي تعطيه أبقى وأمتن. والثمرة الثانية هي أن المرء بدراسته هذه المبادئ يتدرج على إجازة الحكم على جميع الأشياء التي تعرض له، فيكتسب بذلك عادات الحكماء، ومن هذا الوجه ستكون لمبادئي نتيجة مختلفة كل الاختلاف عن نتيجة الفلسفة الشائعة؛ لأن من الميسور أن نلاحظ فيمن يسميهم الناس متحذلقين بأنها تجعلهم أقل قدرة على التعقل بما لو كانوا يجهلونها. والثمرة الثالثة أن الحقائق التي تتضمنها لما كانت واضحة جدا, ويقينية جدا فإنها تبعد كل مثار للنزاع، فتهيئ النفوس للوداعة والوئام، وبخلاف ذلك مجادلات المدرسيين، فإنها إذ تجعل من حفظوها -دون شعور منهم- أشد لجاجة وعنادا، ربما كانت العلة الأولى فيما يشتجر الآن بين الناس من شقاق خصام. والثمرة الأخيرة الكبرى لهذه المبادئ أن في الإمكان لمن يرعاها أن يتكشف حقائق كثيرة لم أفسرها. فإذا انتقل المرء شيئا فشيئا من بعض هذه الحقائق إلى بعضها الآخر, استطاع أن يحصل مع الأيام معرفة كاملة بالفلسفة كلها، وأن يرقى إلى أعلى درجة من درجات الحكمة. والأمر ههنا كما نرى في جميع الفنون: فإنها وإن تكن في البداية شاقة وناقصة، إلا أنها من حيث اشتمالها على شيء من الحق تؤيد التجربة نتيجته, فهي تكمل شيئا فشيئا بالاستعمال، كذلك حين يملك المرء مبادئ حقيقية في الفلسفة واتبعها لم يمكن أن يخلو من أن يجد في بعض الأحيان حقائق أخرى.

وما من دليل على فساد مبادئ أرسطو أقوى من أن نقول بأن الناس قد اتبعوها منذ قرون عديدة, دون أن يحرزوا أي تقدم عن طريقها1. وأنا أعلم جيدا أن من الناس من يتعجلون تعجيلا شديدا في أحكامهم، ويقصرون عن اتخاذ أسباب الحيطة والتبصر في أعمالهم، فلا يستطيعون -وإن ملكوا أسسا متينة- أن يبنوا بناء قويما. ولما كان هؤلاء في العادة أسرع الناس إلى تأليف الكتب, فإنهم يستطيعون في وقت قصير أن يفسدوا كل ما صنعت، وأن يدخلوا الاضطراب والشك في طريقتي في التفلسف، مع أنني حرصت على أن أبعدها عنهما، إذا تلقى الناس مؤلفاتهم فحسبوها مؤلفاتي أو أنها مليئة بآرائي. ولقد رأيت منذ عهد قريب هذه التجربة في واحد ممن كان أكبر الظن فيه أنه حريص على أن يكون من أنصاري2، بل إنه رجل قلت عنه في بعض ما كتبت: إنني مطمئن إلى فهمه اطمئنانا يجعلني أعتقد أنه لا يمكن أن يدلي برأي إلا ويحلو لي أن أتبناه, فقد نشر في العام الماضي كتابا عنوانه "أسس الفيزيقا" يبدو أنه لم يكتب فيه شيئا عن الفيزيقا والطب إلا وقد اقتبسه من مؤلفاتي! إما من المؤلفات التي نشرتها أو من مؤلفات آخر ناقص عن طبيعة الحيوان وقع بين يديه. بيد أنه حرف مواضع القول وغير ترتيب التفكير، وأنكر بعض حقائق الميتافيزيقا التي يلزم أن تستند إليها الفيزيقا كلها3، ولذلك أراني مضطرا إلى أن أبرأ منه براءة تامة, وأن أرجو القراء ههنا أن لا ينسبوا إلي

_ 1 يلاحظ أن المعيار الذي اتخذه ديكارت هنا هو نفس المعيار الذي سيتخذه "البراجماتيون" في عصرنا, وهو أن مقياس الحقيقة في فكرة من الأفكار هو مبلغ ما فيها من خصوبة, وما يترتب عليها من آثار. 2 هو هنري لورا Henry Leroy. 3 مهما تختلف الآراء في الصلة بين الميتافيزيقا والفيزيقا عند ديكارت, فمن الواضح أن نيته الأخيرة وهي تلك التي تنجلي صراحة في كتاب "المبادئ" هي أن يربط الفيزيقا كلها بالميتافيزيقا.

قط رأيا ما لم يجدوه مصرحا به في كتبي، وأن لا يقبلوا شيئا على أنه حق، لا في مؤلفاتي ولا في غيرها، ما لم يروه -في وضوح- مستنتجا من المبادئ الحقة. وأنا أعلم أيضا أنه قد تمضي قرون عديدة قبل أن يتاح للناس أن يستخلصوا من هذه المبادئ جميع الحقائق التي يستطاع استخلاصها منها1، إما لأن أغلب الحقائق التي لم يهتد إليها بعد تعتمد على بعض التجارب الخاصة التي لا تتحقق قط بطريق المصادفة, بل يلزم أن ينقطع لها رجال شديدو الذكاء يبذلون الجهد والمال في سبيل البحث عنها، وإما لأن من العسير أن يجتمع لأشخاص بعينهم أن يبرعوا في حسن استخدامها, وأن تكون لهم القدرة على إجرائها، وكذلك لأن أغلب أصحاب الأذهان الفائقة قد بلغ من سوء رأيهم في الفلسفة السائدة حتى اليوم من عيوب, أنهم لن يستطيعوا قط أن يقعدوا عزمهم على الاشتغال بالبحث عن فلسفة أفضل منها. ولكن أقول في الختام: إنه إذا كان الاختلاف الذي سيرونه بين هذه المبادئ, وبين مبادئ أي مذهب آخر، والمركب الكبير من الحقائق التي يمكن أن تستخلص منها يجعلهم يعرفون أهمية الاستمرار في بحث هذه الحقائق, ومدى ما يستطيع أن يوصلنا إليه من درجات الحكمة وكمال الحياة وغبطتها، فإني مقتنع بأنه لن يوجد واحد لا يحاول أن يشغل نفسه بهذا البحث المفيد, أو على الأقل لا يؤيد ولا يعاون بكل قواه أولئك الذين يهبون أنفسهم للمضي في هذا السبيل موفقين. إن أمنيتي أن يأتي يوم يشهد فيه خلفاؤنا هذه العقبى السعيدة ... إلخ2.

_ 1 إن ديكارت مقتنع بما لمبادئه من يقين مطلق, وبما لمنهجه من صدق مبرأ من الخطأ. 2 يلاحظ قارئ ديكارت شيئا من الاختلاف في نغمة الكلام, بين ما يقوله الفيلسوف في هذه الرسالة إلى مترجم "المبادئ" "1644" وبين ما قاله في كتابه "مقال في المنهج" "1637" في كتاب "المقال" قدم ديكارت نفسه إلى الجمهور في تواضع واستحياء، وكأنما كان يعتذر عن سلوكه طريق الاستقلال في البحث عن الحقيقة بنفسه، محاذرا أن يظن في حديثه ما يشبه إسداء النصح إلى الناس. أما في هذا الكتاب فتراه يتحدث بنغمة شيخ مدرسة وصاحب مذهب، لا يشك لحظة في صحة مبادئه ولا في سلامة منهجه، وينصح لخلفائه من الباحثين أن يسيروا في الطريق القويم الذي رسمه لهم؛ ليظفروا وتظفر البشرية معهم بالنصر المبين.

في مبادئ المعرفة البشرية

في مبادئ المعرفة البشرية: 1- "في أنه للفحص عن الحقيقة يحتاج الإنسان مرة في حياته إلى أن يضع الأشياء جميعا موضع الشك بقدر ما في الإمكان": من حيث إننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجلا، وإننا قد أصبنا حينا وأخطأنا حينا آخر في الحكم على الأشياء التي عرضت لحواسنا حينما لم نكن قد استكملنا بعد استعمال عقولنا، فإن أحكاما كثيرة قد تعجلنا في إطلاقها تمنعنا من الوصول إلى معرفة الحقيقة، وتتشبث بنفوسنا تشبثا يلوح لنا معه أن من المحال أن نتخلص منها ما لم نشرع مرة في الشك في جميع الأشياء, التي قد نجد فيها أدنى شبهة من قلة اليقين. 2- "في أن من النافع أيضا أن نعد جميع الأشياء التي يمكن الشك فيها غير صحيحة": قد يكون من النافع جدا أن نعد الأشياء التي قد تتخيل فيها أقل شك غير صحيحة، حتى إذا وجدنا أن بعضها رغم هذا الاحتياط، يبدو لنا بجلاء أنه صحيح، واعتبرناه يقينيا جدا, وعددناه أسهل ما يمكن معرفته1. 3- "في أنه لا ينبغي أن نستعمل هذا الشك في تدبير أفعالنا": على أن بودي أن نلاحظ أني لا أقصد أن نستعمل الشك على هذا النحو إلا حين نشرع في العكوف على تأمل الحقيقة؛ لأن من المحقق أننا فيما يختص بسلوك حياتنا مضطرون في معظم الأحيان إلى متابعة آراء ليست إلا احتمالية؛

_ 1 يقول ديكارت في "المقال": "وقد بدا لي أنه كان من اللازم ... أن أطرح في عداد الخطأ كل ما أستطيع أن أتخيل فيه أقل شك؛ كيما أرى هل يتبقى بعد ذلك شيء في معتقدي لا يرقى إليه الشك أبدًا". ""المقال" القسم الرابع".

ذلك لأن فرص العمل في شئون حياتنا تكاد دائما أن تنقضي قبل أن يتيسر لنا أن نتخلص من جميع شكوكنا، فإذا صادفنا منها آراء كثيرة كهذه في موضوع واحد، ولم نكن نستطيع ترجيح بعضها على البعض الآخر، وكان العمل لا يحتمل أي تأخير، فإن العقل يقضي بأن نختار منا رأيا، وبعد اختياره أن نثابر على اتباعه كما لو كنا قد حكمنا عليه بأنه يقيني جدا1. 4- "لِمَ يمكن الشك في حقيقة الأشياء الحسية؟ ": لكن لما كان غرضنا الآن مقصورًا على الانصراف إلى البحث عن الحقيقة، فبوسعنا أن نشك أولا بصدد الأشياء التي وقعت تحت حواسنا, أو التي تخيلناها إطلاقا فنتساءل: هل منها ما هو موجود حقا في العالم؟ وذلك لأن التجربة قد دلتنا على أن حواسنا قد خدعتنا في مواطن كثيرة، وأنه يكون من قلة التبصر أن نطمئن كل الاطمئنان على من خدعونا ولو مرة واحدة، وكذلك لأننا نكاد نحلم دائما ونحن نائمون. ويبدو لنا حينذاك أننا نحس بشدة, ونتخيل بوضوح عددا لا يحصى من الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج، ومتى صمم الإنسان على أن يشك في كل شيء لم يعد يجد علامة للتمييز بين الخواطر التي ترد علينا في حال النوم, وتلك التي ترد علينا في حال اليقظة2. 5- "لِمَ يمكن الشك أيضا في براهين الرياضة؟ ": وبوسعنا أن نشك أيضا في جميع الأشياء التي بدت لنا من قبل يقينية جدا. بل نشك في براهين الرياضة وفي مبادئها وإن تكن في ذاتها جلية جلاء كافيا.

_ 1 لقد أبعد ديكارت الشك عن مجال الحياة العملية، وقصره على مسائل النظر "انظر: "المقال" القسم الثالث، القاعدة الثانية". 2 انظر ما يقوله ديكارت عن الأحلام في التأمل السادس، إذ بين المحك العملي للتمييز بين مدركات اليقظة, ومدركات النوم ""التأملات"، ترجمتنا العربية ص194".

لأن من الناس من أخطئوا وهم يفكرون في مثل هذه الأمور، وعلى الخصوص لأننا علمنا أن الله الذي خلقنا يستطيع أن يفعل ما يشاء, وما ندري بعد فربما كانت مشيئته أن يجعلنا بحيث نكون دائما على ضلال، حتى في الأشياء التي نظن أننا على بينة منها، فإنه ما دام قد سمح بأن نضل في بعض الأحيان, كما علمنا من ملاحظة الواقع, فلم لا يستطيع أن يسمح بأن نضل على الدوام؟ وإذا افترضنا أن إلها واسع القدرة ليس هو بارئ وجودنا، فبقدر ما نفترض هذا الخالق أقل قدرة يكون لدينا أسباب أدعى إلى الاعتقاد بأننا لم نبلغ من الكمال ما يحول دون تعرضنا للضلال باستمرار. 6- في أن لنا حرية اختيار تجعلنا نستطيع أن نمسك عن التصديق بالأشياء المشكوك فيها؛ ومن ثم نصون أنفسنا من الوقوع في الضلال: لكن على فرض أن الذي خلقنا واسع القدرة, وعلى فرض أنه يرضيه إضلالنا، فنحن لا نخلو من أن نجد في أنفسنا حرية نستطيع بها إذا شئنا أن نمتنع عن التصديق بالأشياء التي لا نعرفها حق المعرفة، وبهذا نمنع أنفسنا من الضلال1. 7- في أننا لا نستطيع أن نشك دون أن نكون موجودين, وأن هذا أول معرفة يقينية يستطاع الحصول عليها: ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه, بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض،

_ 1 إن هذه المقدرة على الإمساك عن الحكم هي الدليل الأكبر على ما أودع الله فينا من حرية. "قارن المادة 39 من "المبادئ"".

وأنه ليس لنا أبدان، لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا؛ لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن ما يفكر لا يكون موجودًا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا, فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذن فأنا موجود1 صحيحة، وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره بترتيب2. 8- في أننا نعرف أيضا بعد ذلك التمييز القائم بين النفس والبدن: ويبدو لي أيضا أن هذا المسلك هو خير المسالك التي نستطيع أن نختارها لكي نعرف طبيعة النفس, وأنها جوهر متميز كل التميز عن البدن؛ لأننا حين نفحص عن ماهيتنا نحن الذين نفكر الآن في أنه ليس خارج فكرنا شيء هو موجود حقا، نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده. وإذن ففكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة على فكرتنا عن الجسم، وهذه الفكرة أكثر يقينا. بالنظر إلى أننا لا نزال نشك في وجود أي جسم, في حين أننا نعرف على وجه اليقين أننا نفكر. 9- ما هو الفكر؟: أقصد بلفظ الفكر كل ما يختلج فينا بحيث ندركه بأنفسنا إدراكًا مباشرًا. ومن أجل هذا لا يقتصر مجال الفكر على التعقل والإرادة والتخيل، بل يتناول الإحساس أيضا؛ لأني حين أقول: أنا أرى وأمشي، وإذن فأنا موجود، وحين

_ 1 هذا الدليل المشهور باسم "الكوجيتو" مبسوط بسطا تحليليا لماحا في التأمل الثاني. 2 انظر ما يقوله ديكارت عن الترتيب, والدور الذي يقوم به في بناء العلم "المقال في المنهج، القسم الثاني، القاعدة الثالثة".

أقصد من الكلام على الرؤية أو المشي عمل عيني أو ساقي، لا يكون استنتاجي استنتاجا يقينيا ينتفي معه كل شك. فقد أظن أني أرى أو أمشي دون أن أفتح عيني أو أبرح مكاني، كما يحدث لي أحيانا وأنا نائم، بل ربما يقع لي هذا الظن نفسه لو لم يكن لي جسم على الإطلاق. ولكن حين أريد أن أتحدث فقط عن عمل فكري أو وجداني, أي: عن المعرفة التي أجدها في نفسي, والتي تخيل لي أني أرى أو أمشي، تكون هذه النتيجة صحيحة لا أستطيع أن أشك فيها؛ لأنها ترجع إلى النفس، التي لها وحدها ملكة الوعي أو التفكير على أي نحو آخر1. 10- في أن من المعاني ما تكون واضحة كل الوضوح بذاتها، وتصير غامضة متى أريد تعريفها على طريقة المدرسيين, وأنها لا تكتسب بالدرس بل تولد معنا: لا أفسر هنا ألفاظا أخرى كثيرة قد استعملتها من قبل وسوف أستعملها من بعد؛ لأني لا أظن أن ممن يقرءون كتاباتي من بلغ به الغباء درجة تحول بينه وبين أن يفهم من نفسه معنى هذه الألفاظ. ثم إني لاحظت أن الفلاسفة أرادوا أن يفسروا, وفقا لقواعد منطقهم، أشياء هي في ذاتها جلية واضحة، فلم يستطيعوا إلا أن يجعلوها أشد غموضا. وأنا حين قلت: إن هذه القضية: "أفكر, وإذن فأنا موجود" هي أول وأوثق قضية تعرض لمن يتفلسف على نهج مرتب، لم أنكر أنه يلزمنا أن نعرف أولا: ما هو الفكر؟ وما هو اليقين؟ وما هو الوجود؟ وأنه لكي نفكر يجب أن نكون موجودين وما شبه ذلك، لكن لما كانت هذه معاني

_ 1 يقصد ديكارت بالفكر كل ما يقع في "الوعي" أو "الوجدان" فالتعقل والإرادة والتخيل والشعور كلها وجوه مختلفة للفكر. وهو يقول في التأمل الثاني: "وما الشيء المفكر؟ إنه شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت وينفي ويريد ولا يريد ويتخيل ويحس أيضا" "ترجمتنا للتأملات ص67". والفكر هو نقطة البداية وقد نخطئ فيما هو موضوع فكرنا، ولكن هذا لا ينال حقيقة فكرنا، فسواء كان فكرنا خاطئا أو صحيحا فهو ماثل فينا.

بسيطة كل البساطة, ولا تعطينا في ذاتها معرفة لأي شيء موجود، لم أَرَ ضرورة لإحصائها هنا1. 11- كيف نستطيع أن نعرف نفوسنا معرفة أوضح من معرفتنا لأجسامنا 2؟: ولكن لكي نعرف كيف أن معرفتنا لفكرنا سابقة على معرفتنا لجسمنا, وأنها أشد منها بداهة، بحيث إنه لو انعدم الجسم لكنا محقين في أن نذهب إلى أن ماهية الفكر لا تخلو من أن تكون موجودة بتمامها، ويجمل بنا أن نلاحظ أنه قد ظهر لنا بنور فطري مودع في نفوسنا أن العدم ليست له صفات ولا خواص, وأنه حيث ندرك بعض هذه الصفات هناك فلا بد من جوهر تعتمد عليه. وكذلك يظهرنا هذا النور عينه على أن معرفتنا للشيء أو للجوهر تكون أشمل بمقدار ما نستكشف فيه من صفات أوفر. ولكننا نقطع بأننا نلاحظ من الخواص في فكرنا ما يزيد بكثير على ما نلاحظ في أي شيء آخر مهما يكن، إذ ما من شيء يثيرنا إلى المعرفة من أي نوع إلا ويكون دفعه لنا على معرفة فكرنا أعظم وأوثق. مثال ذلك: أنني لو أقنعت نفسي بأن هنالك أرضا لأنني ألمسها وأراها، فيلزمني من باب أولى أن أكون مقتنعا بأن فكري كائن أو موجود، إذ إنني ربما ظننت أنني ألمس الأرض مع أنه قد لا يكون هنالك أرض على الإطلاق، ولأنه ليس من الممكن أن تكون إني، أي: نفسي، غير موجودة، بينما يكون لديها هذا الظن. نستطيع أن نخلص إلى النتيجة عينها في جميع الأشياء الأخرى التي تعرض

_ 1 سيوجه "ليبنتز" اللوم إلى ديكارت؛ لأنه لم يُعرف المعاني الأساسية في فلسفته، وسيشيد بالقاعدة التي جرى عليها "المدرسيون", وهي أنه لا ينبغي أن نتكلم عن شيء ما لم نضع له تعريفا "من تعليق دوراندان, هامش ص57". 2 "راجع: ديكارت, "التأملات", التأمل الثاني".

لفكرنا، أعني بذلك: أننا -نحن الذين نفكر فيها- موجودون حتى ولو كانت هذه الأشياء باطلة أو لم يكن لها وجود على الإطلاق. 12- لِمَ كان الناس جميعا لا يعرفون النفس على هذا النحو؟: إن من لم يسلكوا سبيل التفلسف المرتب قد أدلوا بآراء أخرى في هذا الموضوع؛ لأنهم يبذلون القدر اللازم من العناية للتمييز بين النفس أو الجوهر المفكر, وبين الجسم أو الجوهر الممتد طولا وعرضا وعمقا. إنهم لم يجدوا غضاضة في الاعتقاد بأنهم هم أنفسهم موجودون، وأن وثوقهم من هذا الوجود أشد من وثوقهم من أي شيء آخر. لكنهم لم يلتفتوا إلى أننا ما دمنا بسبيل اليقين الميتافيزيقي قد كان يتعين عليهم حين استعملوا لفظ "أنفسهم" أن يفهموا منه ههنا فكرهم أو روحهم فقط، ومن حيث إنهم قد آثروا الظن بأن المقصود هو أجسامهم التي يرونها بعيونهم ويلمسونها بأيديهم، وينسبون إليها خطأ ملكة الحس، فقد ترتب على ذلك أنهم لم يعرفوا طبيعة النفس معرفة متميزة. 13- على أي معنى يمكن القول بأن من جهل الله, فلن يستطيع أن يعرف شيئا آخر معرفة يقينية؟: ولكن الفكر، الذي يعرف ذاته على هذا النحو, وإن يكن بعد مقيما على شكله في الأشياء الأخرى، إذا استبصر فيما حوله بغية المضي في توسيع نطاق معارفه, يجد في ذاته أولا أفكارا "أو صورا ذهنية لأشياء عديدة؛ فإذا اقتصر عمله على تأملها دون أن يثبت, أو أن ينفي وجود شيء في الخارج يطابق هذه الأفكار, كان في مأمن من خطر الوقوع في الضلال, والفكر يهدي أيضا إلى بعض المعاني المشتركة، فيؤلف منها براهين يبلغ من قوة إقناعها أنه لا يستطيع الشك في

حقيقتها متى تدبرها وأطال النظر فيها. ذلك أنه يجد في ذاته أفكارا عن الأعداد والأشكال، وهو يملك أيضا من المعاني المشتركة ما نعبر عنه بالمبدأ القائل: "إذا أضفنا كميات متساوية إلى كميات أخرى متساوية, كانت حواصل الجمع متساوية" وكثيرا غيرها لا تقل بداهة عنها، يتيسر بها البرهنة على أن زوايا المثلث متساوية لقائمتين ... إلخ. وما دام الفكر يدرك هذه المعاني, ويدرك المقدمات التي استخلص منها هذه النتيجة أو نتائج أخرى مماثلة لها، فهو واثق كل الثقة من صحتها. ولكن لما لم يكن في وسع الفكر دائما أن يتعقلها بما ينبغي من انتباه، فإنه حين يتذكر نتيجة دون انتباه إلى الترتيب الذي أدى إلى استخلاصها، ويرى مع ذلك أن بارئ وجوده كان في مقدوره أن يخلقه من طبيعة تجعله عرضة للخطأ في كل ما يبدو له في البداهة، يتبين أنه محق في عدم الاطمئنان إلى حقيقة كل ما لا يدركه إدراكا متميزا، وأنه لن يصل إلى علم يقيني ما لم يعرف خالقه. 14- في إمكان إثبات وجود الله من أن ضرورة الكينونة, أو الوجود متضمنة في تصورنا له: وإذا عاد الفكر بعد ذلك واستعرض الأفكار المختلفة القائمة فيه، فاكتشف منها فكرة موجود محيط العلم والقدرة، كامل غاية الكمال، تيسر له أن يحكم بما يراه في هذه الفكرة من أن الله، وهو ذلك الموجود الكامل على الإطلاق، كائن أو موجود؛ لأنه وإن يكن لديه أفكار متميزة عن أشياء أخرى كثيرة، لكنه لا يلحظ فيها شيئا يؤكد له وجود موضوعاتها، في حين أنه يدرك في هذه الفكرة أنها لا تتضمن الوجود الممكن فحسب، كما هو الشأن في أفكاره عن الأشياء الأخرى، بل الوجود الضروري الأبدي على الإطلاق.

ومن حيث إن الفكر يرى أنه من الضروري أن يكون متضمنا في الفكرة التي لديه عن المثلث أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين, فهو راسخ الاقتناع بأن للمثلث الزوايا الثلاث المساوية لقائمتين، كذلك متى تصور الوجود الضروري الأبدي متضمنا في فكرته عن الوجود الكامل إطلاقا، لزم أن يستنتج أن هذا الموجود الكامل بإطلاق موجود حقا. 15- في أن ضرورة الوجود ليست متضمنة في فكرتنا عن الأشياء الأخرى، بل إن كان الوجود فحسب. ويستطيع الفكر أن يزداد وثوقا من صحة هذه النتيجة إذا انتبه, لا يجد في ذاته فكرة شيء آخر يتبين فيها وجودا ضرورته على هذا النحو من الإطلاق, وهو يتحقق من ذلك أن فكرة موجود كامل وهما من نسيج الخيال, بل أودعتها فيه طبيعة ثابتة حقيقة موجودة بالضرورة؛ لأنها لا تتصور إلا مصاحبة لوجود ضروري1.

_ 1 يقول ديكارت, القسم الرابع من "المقال في المنهج" ما نصه: "أردت بعد ذلك أن أبحث عن حقائق أخرى, ولما كنت قد اخترت موضوع أصحاب الهندسة الذي كنت أتصوره جسما متصلا أو فضاء لامحدودا طولا وعرضا, وارتفاعا وعمقا, وقابلا للانقسام إلى أجزاء مختلفة يمكن أن تتخذ أصحاب الهندسة يفترضون ذلك كله في موضوع علمهم, فقد تصفحت من براهينهم ما يرونه أبسطها, ولما تنبهت إلى أن هذا اليقين العظيم الذي ينسبه الناس إليها إنما يستند إلى أننا نتصورها تصورا بديهيا وفقا للقاعدة التي ذكرتها من وقت قريب، فقد تنبهت كذلك إلى أنه لا شيء فيها يجعلني مستوثقا من موضوعها؛ لأني تبينت مثلا أني إذا افترضت مثلثا لزم أن تكون زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، ولكن هذا لم يكن من شأنه أن يجعلني مستوثقا من وجود أي مثلث في العالم. هذا في حين أني عندما عدت إلى النظر في الفكرة التي في نفسي عن موجود كامل، وجدت أن الوجود منطوٍ فيها على نحو ما قد انطوى في فكرة المثلث أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين أو في فكرة الدائرة أن جميع أجزائها على أبعاد متساوية من مركزها. ويلزم عن ذلك أن الموجود "وهو الموجود الكامل" هو على الأقل مساوٍ في اليقين لما تستطيع أن تبتغيه براهين الهندسة. "ينظر أيضا ما قاله ديكارت عن هذا الموضوع في التأمل الخامس".

16- في أن الأوهام تمنع الكثيرين من أن يتبينوا ما يتميز الله به من ضرورة الوجود: والنفس أو الفكر لا يجد عناء في الاقتناع بهذه الحقيقة لو أنه تحرر من أوهامه. لكن لما كنا قد ألفنا أن نفرق في جميع الأشياء الأخرى بين الماهية والوجود1, وكنا قادرين على أن نتخيل ما طاب لنا من صور ذهنية لأشياء ربما لم توجد قط, وربما لا توجد أبدا، فقد يحدث لنا، حين لا نسمو بأذهاننا كما ينبغي إلى تأمل ذلك الموجود الكامل بإطلاق, أن يساورنا الشك في أن تكون فكرتنا عن الله من قبيل تلك الأفكار التي نتخيلها كما يحلو لنا، أو من تلك الأفكار الممكنة، وإن لم يكن الوجود داخلا بالضرورة في طبيعتها. 17- في أنه بقدر ما تتصور من الكمال في شيء، ينبغي أن نعتقد أن علته لا بد أن تكون أوفر منه كمالا 2 أضف إلى ذلك أن التأمل في مختلف الأفكار القائمة فينا يعيننا على أن ندرك أن ليس بينها اختلاف كبير, من حيث إننا إنما نعتبرها توابع لنفوسنا أو لفكرنا، ولكن الاختلاف بينها كبير من حيث إن الواحدة منها تمثل شيئا والأخرى شيئا آخر، وهو يعيننا كذلك على أن ندرك أن علة الأفكار لا بد أن تكون أوفر حظا من الكمال، بقدر ما يكون الكمال فيما تمثل من موضوعها. وحالنا هنا

_ 1 "الماهية" عند ديكارت هي "الشيء على نحو ما يكون في الذهن" و"الوجود" هو "الشيء من حيث هو موجود خارج الذهن" "ديكارت "رسائل"". ويريد ديكارت هنا أن يقرر التفرقة بين الله وبين أي موجود آخر, ففي أي موضوع آخر يلزم التفرقة بين ماهيته، أي: الفكرة التي تكون في أذهاننا عنه، وبين وحوده، أي: كون هذه الفكرة تحققه في الخارج. أما في الله، فالماهية والوجود متطابقان لا يمكن الفصل بينهما, إذ إن نفس تصورنا لله، من حيث إنه تصور لموجود كامل، متضمن للوجود. 2 يشير ديكارت ههنا إلى مبدأ كان شائعا لدى المدرسيين، وهو أنه ينبغي أن يكون في العلة من الوجود قدر ما في المعلول على الأقل.

شبيه بحالنا حين نسمع أن شخصا لديه فكرة آلة فيها من الحذق والصنعة قسط كبير، فيجوز لنا حينئذ أن نتساءل عن وسيلته في الوصول إلى تلك الفكرة, ترى أجاءته الفكرة لأنه شاهد في مكان ما آلة مثلها صنعها شخص آخر، أم لأنه كان قد تعلم الميكانيكا، أم لأنه قد رُزق من نفاذ الذهن حظا مكنه من أن يبتدعها دون أن يكون قد رأى آلة مثلها في أي مكان آخر؟ وذلك لأن كل الصنعة المتمثلة في فكرة ذلك الشخص، كما تتمثل في لوحة أو صورة فنية، يلزم أن تتحقق في علتها الأولى الأساسية، لا على سبيل التمثيل أو المحاكاة فحسب، بل بالفعل, وعلى ذلك النحو عينه أو على نحو يفوق في الشرف1 ما تمثله الفكرة. 18- في إمكاننا مرة أخرى إقامة الدليل على وجود الله، استنادا على ما تقدم: وكذلك ما دمنا نجد في أنفسنا فكرة إله أو موجود كامل على الإطلاق، فيجوز لنا أن نبحث عن العلة التي أوجدت تلك الفكرة فينا، ولكن بعد التفاتنا إلى ما تمثله لنا من عظيم الكمالات نجد أنفسنا مضطرين إلى الإقرار بأنها إنما جاءت إلينا من موجود كامل جدا, أي: من إله هو موجود حقا؛ لأنه ليس من البين فقط بالنور الفطري أن العدم لا يمكن أن يكون موجدا لشيء مهما يكن، وأن الأكمل لا يمكن أن يكون ناتجا عن الأقل كمالا أو تابعا له2, بل لأننا نرى أيضا بهذا النور نفسه أن من المحال أن يكون لدينا فكرة أو صورة لأي شيء ما لم يكن في أنفسنا أو خارج أنفسنا أصل يحوي بالفعل جميع ما نتمثله بتلك الفكرة من

_ 1 انظر ترجمتنا العربية لكتاب "التأملات" الطبعة الثانية، القاهرة 1956 "التأمل الثالث, ص104". 2 ما يسميه ديكارت "الأكمل" هو "فكرة" الموجود الكامل أو فكرة الله. وواضح من هذا أنه يعتبر الفكرة ذاتها ضربا من الوجود، فليست الفكرة عنده ثمرة من ثمرات الذهن فحسب, بل هي حقيقة يستكشفها الذهن، ومن حيث إن الفكرة هي ذاتها وجود فهي تتطلب علة تفسر وجودها.

كمالات، ولكن من حيث إننا نعلم أننا عرضة لكثير من النقص، وأننا لا نملك هذه الكمالات المطلقة التي نتمثله، فيلزمنا أن نستنتج أنها موجودة في طبيعة مختلفة عن طبيعتنا، بالغة غاية الكمال، أي: هي الله، أو على الأقل أنها كانت في الله من قبل، وبما أنها لامتناهية فلا بد أنها لا تزال قائمة فيه. 19- في أننا وإن كنا لا نحيط علما بذات الله وصفاته, فما من شيء نعلمه أوضح مما نعلم كمالاته: إني لا أرى هذا الأمر عسيرا على من راضوا أذهانهم على أن تتفكر في الله، ومن ألقوا بالهم إلى كمالاته اللامتناهية؛ فإننا وإن لم نحط بها خبرا -لأن من طبيعة اللامتناهي أن تعجز الأفكار المتناهية عن الإحاطة به- فإننا نتصورها مع ذلك تصورا أوضح وأشد تميزا من تصورنا للأشياء المادية؛ وذلك لأنها كانت أبسط منها ولا يحدّها حد، فإن ما نتصوره منها يكون أقل اختلاطا. ولذلك لم يكن هنالك تفكر هو أشد عونا لنا على تكميل أذهاننا, وأعظم قدرا من التفكر في الله من حيث إن النظر في موضوع لا حدود لكمالاته يمتلأ نفوسنا رضى واطمئنانا. 20- في أننا لسنا علة أنفسنا، وإنما الله علتنا، ويترتب على ذلك أن الله موجود: لكن الناس جميعا لا يلتفتون إلى هذا الأمر الالتفات الواجب، وبما أننا نعلم بما فيه الكفاية كيف حصلنا عن فكرة آلة فيها كثير من الصنعة دون أن نتذكر متى وردت إلينا من الله الفكرة التي لدينا عن الله -لقيام هذه الفكرة فينا على الدوام1- فيتعين علينا أن نستعرض الأمر مرة أخرى، فنتساءل: من هو إذن

_ 1 فكرة الكمال إحدى أفكارنا "الفطرية" "انظر كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة 1957 ص170, 171".

خالق النفس أو الفكر، ذلك الذي يملك في ذاته فكرة الكمالات اللامتناهية الموجودة في الله. فجلي أن من عرف شيئا أكمل من ذاته لم يهب الوجود لذاته؛ إذ إنه لو كان يستطيع ذلك لكان يهب من ذاته كل كمال وصل إلى علمه. ويترتب على ذلك أنه لا يستطيع البقاء في الوجود إلا معتمدا على الموجود الحائز بالفعل على جميع هذه الكمالات، وهو الله1. 21- في أن آجالنا في حياتنا كافية وحدها لإثبات وجود الله: ما أظن أن أحد يساوره الشك في حقيقة هذا التدليل إذا التفت إلى طبيعة الزمان أو أجل الإنسان في الحياة؛ ذلك لأنه لما كان من طبيعة الزمان أن لا تعتمد أجزاؤه بعضها على بعض ولا يجتمع بعضها مع بعض أبدا، فليس يلزم من وجودنا الآن أن نكون في الزمان الذي يليه، وما لم تكن العلة نفسها التي أوجدتنا مستمرة في إيجادنا, أي: حافظة لبقائنا2. ومن الميسور أن نعلم أننا لا

_ 1 قارن قول ديكارت: "وأضفت إلى ذلك أنه بما أنني قد عرفت بعض الكمالات التي ليس لي شيء منها، فإنني لست الكائن الوحيد الذي في الوجود. بل يجب بالضرورة أن يكون هناك كائن آخر أكثر كمالا، أنا تابع له، ومن لدنه حصلت على كل ما هو لي؛ لأنني لو كنت وحيدا ومستقلا عن كل ما هو غيري بحيث كان لي من نفسي كل هذا القليل الذي شارك الذات الكاملة فيه، لكن أستطيع أن أحصل من نفسي للسبب عينه على كل ما هو فوق ذلك مما أعرفه ينقضي، وبذلك أكون أنا نفسي غير متناهٍ وأزليا أبديا وغير متغير، وعالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء. وقصارى القول: أن تكون لي كل الكمالات التي أستطيع أن ألحظ أنها الله". ""مقال عن المنهج" القسم الرابع، ترجمة الأستاذ محمود الخضيري، القاهرة 1930 ص60, 61". 2 يقول ديكارت في التأمل الثالث: "إن من الأمور الواضحة البينة للغاية عند كل من يمعنون النظر في طبيعة الزمان، أن حفظ جوهر ما في كل لحظات مدته، يحتاج إلى عين القدرة وإلى عين الفعل اللازمتين لأحداثه أو لخلقه من جديد، إذا لم يكن بعد موجزا" ""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية 1956، ص115". وواضح هنا أن ديكارت يتصور الزمان منفصلا ومنقسما في الواقع, وإذا كان الأمر كذلك فالقدرة اللازمة لإبقائنا لا بد أن تكون مكافئة للقوة اللازمة لخلقنا في أي برهة من الزمن, ولا شيء يمكن أن يدوم إلا بخلق متجدد. ومن المعلوم أن "برجسون" سينقد هذا التصور للزمان، ويرى أن "الديمومة" هي الزمان الحي, فهي لا تقبل التجزئة، وما "اللحظات" إلا تجريدات ميتة لا حياة فيها "برجسون: "المعطيات المباشرة للوعي"".

نملك قوة تكفل لنا الاستقرار في الوجود أو حفظه علينا لحظة واحدة، وأن القادر على إبقائنا وحفظ وجودنا خارج ذاته لا بد أنه قادر على حفظ بقائه هو ذاته، وهو خليق أن لا يفتقر إلى من يحفظه ويبقيه، ذلكم هو الله. 22- في أننا حين نعرف وجود الله على نحو ما أوضحنا ههنا، نعرف أيضا جميع صفاته بقدر ما تستطاع معرفتها بنور الفطرة وحده 1: ومن فضل هذه الطريق في إثبات وجود الله أننا نعرف بها ماهيته، بقدر ما سمح ما عليه طبيعتنا البشرية من ضعف؛ لأننا متى تدبرنا الفكرة التي لدينا بالفطرة عنه، رأينا أنه سرمدي، وأنه عالم بكل شيء، وقادر على كل شيء، ومنبع كل خير وحق، وخالق الأشياء جميعا، وأنه آخر الأمر مالك في ذاته كل ما يمكن أن نتبين فيه قسطا من الكمال اللامتناهي، وبعبارة أخرى: لا تشوبه أدنى شائبة من نقص. 23- في أن الله غير جسماني، وأنه لا يعرف الأشياء بالحواس، على نحو ما نعرفها، وأنه ليس مريدا لحصول الخطيئة والإثم: ذلك لأن في العالم أشياء هي محدودة وناقصة إلى حد ما، وإن يكن فيها أيضا قدر من الكمال, ومن الميسور أن ندرك أن من المحال أن يكون في الله شيء من تلك, فإنه لما كان الامتداد مقوما لطبيعة الجسم، وكان الممتد ممكن الانقسام إلى أجزاء عديدة -وفي هذا دلالة على النقص- فقد لزم أن الله ليس مجسما، ولئن يكن من فضل البشر على الخلق أنهم قادرون على إدراك الأشياء بحواسهم،

_ 1 بنور الفطرة، أي: بنور العقل البشري وهدايته, دون اعتماد على الوحي والتنزيل.

إلا أنه لما كانت أحاسيسنا متأثرة بانطباعات تأتي من خارج -وهو أمر ينبئ عن اعتمادنا على غيرنا- فقد لزم أن نستنتج أيضا أن الله منزه عن الحواس، ولكنه إنما يعلم ويريد، لا كما نعلم نحن ونريد بأفعال مختلفة متميزة1، بل على الدوام بفعل واحد بسيط يعلم ويريد ويعمل كل شيء، أعني: كل الأشياء الموجودة في الواقع، فإنه لا يريد إثم الخطيئة على الإطلاق، من حيث إنها ليست إلا سلبا للوجود2. 24- في أنه بعد معرفتنا بوجود الله ينبغي -للانتقال إلى معرفة المخلوقات- أن نتذكر أن أذهاننا متناهية, وأن قدرة الله لامتناهية: وبعد أن عرفنا على هذا النحو أن الله موجود، وأنه خالق كل ما هو كائن وما يمكن أن يكون، سنتبع قطعا أفضل منهج يستطاع اصطناعه للكشف عن الحقيقة إذا ما انتقلنا من المعرفة التي لدينا عن طبيعته إلى تفسير الأشياء التي خلقها، وإذا ما حاولنا أن نستنبط هذا التفسير من المعاني المفطورة في نفوسنا بحيث يتيسر لنا علم كامل، أعني: بحيث نعرف المعلولات عن طريق عليتها، ولكن لكي يتيسر لنا أن ننهض بهذه المهمة, ونحن أوفر اطمئنانا، يجمل بنا أن نتذكر، كلما أردنا أن نفحص عن طبيعة شيء، أن الله الذي هو خالقه لامتناهٍ، وأننا متناهون تناهيا تماما.

_ 1 سنرى فيما بعد أن العلم والإرادة عند ديكارت هما فعلان متميزان من أفعال النفس الإنسانية. 2 يرى ديكارت أن الله غير مسئول عن خطأ العباد وخطيئتهم؛ لأنهما أمران سلبيان، أو ضرب من الحرمان, وليس قوامهما فعلا إيجابيا هو شر في ذاته، بل ينتجان عن استعمال قاصر للحرية الإنسانية "قارن المادتين 31، 37".

25- في أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا: فإذا أنعم الله علينا بما كشفه لنا أو لغيرنا من أشياء تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العادي، كأسرار التجسد والتثليث، لم يستعص علينا الإيمان بها مع أننا قد لا نفهمها فهما واضحا؛ ذلك لأنه لا ينبغي أن يقع لدينا موقع الغرابة أن يكون في طبيعة الله, وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا1. 26- في أننا لا ينبغي أن نحاول أن نفهم "اللامتناهي" بل حسبنا أن نسلم بأن كل ما لا نجد فيه حدودا فهو عندنا "لامحدود": بذلك ننأى بأنفسنا دائما عن الخوض في المجالات التي تدور حول اللامتناهي. إن مما لا يقبله العقل أن نتصدى ونحن متناهون، لتحديد شيء عنه، وكأننا بهذا نفترضه متناهيا, إذ نحاول أن نفهمه؛ ولذلك لا نبالي بالرد على من يسألون عما إذا كان نصف الخط اللامتناهي متناهيا كذلك, وعما إذا كان العدد اللامتناهي زوجيا أو غير زوجي وما شابه ذلك. فإن الذين يتوهمون أن عقولهم لامتناهية هم وحدهم فيما يبدو الخليقون بأن يفصحوا عن مثل هذه الصعوبات. أما نحن, فإذا رأينا أشياء ولم نلحظ فيها حدودا على نحو من الأنحاء، فإننا لا نقطع لذلك بأنها لامتناهية، بل نراها محدودة فحسب2؛ لذلك لما كنا لا

_ 1 ربما بدت هذه التصريحات الديكارتية عن أسرار العقيدة المسيحية مجاوزة بعض الشيء لما ينبغي في كتاب فلسفي وعلمي، يحاول صاحبه أن يبين أن كل ما في العالم يستطاع تفسيره، دون أسرار عن طريق القوانين الطبيعية. ولكن ديكارت كان شديد الفزع من رقابة الكنيسة وغضبها؛ فإنه حين علم بالحكم الذي أصدرته على جاليليو توقف عن نشر كتابه عن "العالم" لما فيه من آراء شبيهة بآراء العالم الطلياني, غير أني أعتقد مع ذلك أن تدين ديكارت وإخلاصه لعقيدته قد بلغا مقاما لا ترقى إليه الشبهات. "انظر الباب الأول في كتابنا عن ديكارت". 2 لم تفرق الفلسفة اليونانية بين "اللامتناهي" و"اللامحدود", وكان اليونانيون على العموم مولعين بكل ما هو متناهٍ، أما ديكارت فقد فرق بين المعنيين، وكانت التفرقة مألوفة في عهده. وسيقول لنا في المادة التالية: إن الله وحده هو الأحرى بأن يسمى "لامتناهيا".

نستطيع أن نتخيل امتدادا بالغ العظم إلا ونتصور في الوقت نفسه إمكان وجود امتداد أعظم منه، فإننا نقول: إن امتداد الأشياء الممكنة لامحدود, ومن حيث إنه ليس من المستطاع تقسيم جسم إلى أجزاء بالغة الصغر إلا ويستطاع تقسيم كل واحد من أجزائه إلى أجزاء أخرى أصغر، فإننا نرى أن الكم يمكن أن ينقسم إلى أجزاء عددها غير محدود. ومن حيث إننا لا نستطيع أن نتخيل كثرة من النجوم إلا ويستطيع الله أن يخلق أكثر منها، فإننا نفترض أن عددها لامحدود وكذلك في سائر الأشياء. 27- ما الفرق بين اللامحدود واللامتناهي؟: ولسنا نقول عن هذه الأشياء: إنها "لامتناهية" بل هي عندنا أجدر باسم "اللامحدودة"، تخصيصا لله وحده باسم اللامتناهي؛ لأننا لا نلحظ حدودا في كمالاته، ولأننا موقنون جدا بأنه من غير الممكن أن يكون لها حدود. أما الأشياء الأخرى, فنحن نعلم أنها ليست في هذه المرتبة من الكمال المطلق؛ لأننا وإن نكن نلحظ فيها أحيانا خصائص قد تبدو لنا غير ذات حدود، فلا يخلو الأمر من أن نعلم أن ذلك راجع إلى نقص عقولنا لا إلى طبيعتها. 28- في أنه لا ينبغي أن نفحص عن الغاية التي من أجلها صنع الله كل شيء، بل حسبنا أن نفحص عن الوسيلة التي أراد أن يكون حدوث الشيء بها: وكذلك لا ينبغي أن نبحث عن الغايات التي أرادها الله من خلقه للعالم، وكل بحث عن العلل الغائية سننبذه نبذا تاما من فلسفتنا؛ لأننا لا ينبغي أن يبلغ بنا الاعتداد بأنفسنا مبلغا يجعلنا نعتقد أن الله أراد أن يطلعنا على قراراته. ولكن لما كنا نعده خالق جميع الأشياء، فإن قصارانا أن نحاول أن نجد، بملكة

الاستدلال التي أودعها فينا، كيف أن الأشياء التي ندركها بحواسنا قد أمكن إيجادها؛ وعن طريق صفاته التي أراد أن يكون لنا بها شيء من المعرفة نستوثق من أن كل ما يتهيأ لنا أن ندركه مرة في وضوح وتميز منتميا إلى طبيعة هذه الأشياء, حائز على كمال كونه حقا1. 29 - في أن الله ليس علة لأفكارنا 2: وأول صفاته التي يبدو من المستحسن النظر فيها ههنا هي أنه حق جدا وأنه منبع كل نور، بحيث إنه من غير الممكن أن يضلنا، أي: إنه يكون علة مباشرة للأخطاء التي نكون عرضة لها والتي نبلوه في أنفسنا. ذلك أنه وإن تكن البراعة في القدرة على التضليل تبدو علامة من علامات الذكاء بين الناس, إلا أن إرادة التضليل لا تصدر أبدا إلا عن خبث أو خوف أو ضعف، ومن ثم لا يمكن نسبتها إلى الله. 30- ويترتب على ذلك كل ما نعرفه في وضوح على أنه حق فهو حق، وهو أمر يخلصنا من الشكوك التي أثرناها فيما تقدم: وينتج عن ذلك أن ملكة المعرفة التي وهبنا الله إياها, والتي نسميها بالنور الفطري لا تدرك قط موضوعا لا يكون حقا من حيث هي مدركة له، أعني: من حيث تعرفه في وضوح وتميز3؛ لأنه كان يحق لنا حينئذ أن نصف الله بالتضليل لو كان وهبنا هذه الملكة منحرفة, وعلى نحو يؤدي بنا إلى أن نأخذ

_ 1 إن تصور ديكارت للعالم الفيزيقي يباعد بينه وبين البحث عن العلل الغائية, أي: النظر في الغايات التي ترمي إليها الظواهر ... والامتداد عنده هو ماهية الأجسام, وكل شيء في عالم الأجسام يتم بطريقة آلية، والفيزيقا هندسة أو ميكانيكا. 2 انظر المادة الخامسة من هذا الكتاب. 3 انظر تعريف الفكرة الواضحة المتميزة في المادتين 45, 46.

الخطأ بدلا من الصواب، حين استعملناها استعمالا حسنا1. ولهذا الاعتبار وحده قلصنا من ذلك الشك المسرف الذي كنا فيه حين كنا لا نعلم بعد إن كان خالقنا لا يرضيه أن يخلقنا بحيث نضل في جميع الأشياء التي تبدو لنا واضحة جدا. وهذا الاعتبار يجب أن ينفعنا كذلك في دفع جميع الأسباب الأخرى التي كانت تدعونا إلى الشك والتي ذكرناها فيما تقدم؛ وحتى الحقائق الرياضية لن تكون موضع شبهة عندنا؛ لأنها بديهية جدا. وإذا أدركنا شيئا بحواسنا في يقظتنا أو في منامنا2, فمن الميسور لنا أن نكشف عن الحق، على شريطة أن نفرق بين ما يكون واضحا ومتميزا في المعرفة التي لدينا عن ذلك الشيء، وبين ما يكون غامضا ومبهما3. ولا حاجة إلى التوسع في هذا الموضوع هنا؛ لأنني قد تناولته بإفاضة في تأملاتي الميتافيزيقية، وما سأورده قريبا سيكون فيه زيادة إيضاح. 31- في أن أخطاءنا بالنسبة إلى الله ليست إلا أسلوبا, ولكنها بالنسبة إلينا حرمان وعيب 4

_ 1 يقول ديكارت في ردوده على الاعتراضات الأولى: "متى وقع في فكرنا أننا تصورنا حقيقة من الحقائق في وضوح، رأينا أنفسنا ميالين ميلا فطريا إلى التصديق بها". 2 نرى هنا أن ديكارت قد استطاع أن يتخلص من هذه الصعوبة المتمثلة في أوهام الأحلام "قارن المادة الرابعة"، وهو الآن مالك لمعيار للحقيقة كشف له الكوجيتو عنه, وهو أن ما يميز بين الفكرة الحقيقية والفكرة الزائفة إنما هو وضوحها وتميزها. 3 هنا كل منهج ديكارت: التفرقة في كل شيء بين ما هو واضح ومتميز، وبين ما هو غامض ومبهم، ثم الاعتقاد بحقيقة ما هو واضح، والشك فيما هو غامض. ومن الميسور أن نرى الفيزيقا الديكارتية قد خرجت كلها من هذا المبدأ، والتمثلات الحسية التي تكون لدينا من الأشياء الخارجية غامضة ومبهمه, ولكنها تنحل كلها إلى معانٍ واضحة متميزة، أي: إلى أشكال وامتداد وحركات. والامتداد والحركة شيئان واضحان؛ ولذلك فهما الشيئان الحقيقيين أو الشيئان الواقعيان في الأشياء الخارجية، والعالم عبارة عن ميكانيكا هندسية، كل شيء فيه يتم ويفسر "بالشكل والحركة". 4 الساب مجرد خلو. أما الحرمان فهو خلو الكائن من صفة تبدو من لوازم طبيعته، ولكن هذه التفرقة لا قيمة لها إلا من وجهة النظر الإنسانية. والحقيقة أن الله وحده هو الحاكم فيما يجب أن يكون للمخلوق من صفات أو لا يكون.

ولكن من حيث إنه يحدث كثيرا أننا نخطئ أحيانا، وإن لم يكن الله مضلا1, فإننا إذا أردنا أن نبحث عن علة أخطائنا وأن نكشف عن مصدرها لكي نصححها، وجب أن ننتبه إلى أنها لا تعتمد على أذهاننا بقدر اعتمادها على إرادتنا، وأنها ليست أشياء أو جواهر تحتاج إلى تدخل الله بفعله لإحداثها, فهي بالقياس إليه ليست إلا أسلوبا2، أي: إنه لم يعطنا كل ما كان يمكن أن يعطينا، وأننا نرى بذلك أنه لم يكن مضطرا إلى أن يعطينا إياه، في حين أن هذه الأخطاء بالقياس إلينا هي عيوب ونقائص. 32- في أنه ليس فينا إلا نوعان من الفكر، وهما: إدراك الذهن, وفعل الإرادة: ذلك أن جميع أنماط التفكير التي نلحظها في أنفسنا يمكن إرجاعها إلى نمطين عامين: أحدهما: الإدراك بالذهن، والآخر: التصرف بالإرادة. وعلى ذلك, فالإحساس والتخيل بل تصور الأشياء العقلية المحضة ليست إلا أنماطا مختلفة للإدراك، ولكن الرغبة والنفور والإثبات والإنكار والشك هي أنماط مختلفة من الإرادة. 33- في أننا لا نخطئ إلا حين نحكم على شيء لم يعرف لنا معرفة كافية:

_ 1 يقول ديكارت في التأمل الرابع: "إن من المحال أن يضلني الله، إذ إن في الخداع أو الغش نقصا. ولئن يكن يبدو أن استطاعة المخادعة من علامات البراعة والقوة، فلا جرم أن تعد المخادعة دليلا على الضعف أو على الخبث، وهما أمران لا يمكن أن يوجدا في الله" ""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص128". 2 يقول ديكارت في الأمل الرابع: " ... إن الخطأ من حيث هو خطأ ليس شيئا واقعيا مرده إلى الله، إنما هو نقص فحسب، فإذا أخطأت لم أكن بحاجة إلى ملكة من عند الله لهذا الغرض خاصة، وإنما مرجع خطئي هذا إلى ما منحني الله من قوة على تمييز الصواب من الخطأ هي عندي قوة متناهية محدودة". "التأملات، ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص129".

حين ندرك شيئا ما، دون أن نحكم عليه بأي صورة من الصور، لا يكون هنالك خطر من وقوعنا في الضلال، بل إننا حتى لو حكمنا عليه فلن نقع في الخطأ كذلك، ما دمنا لا نمنح تصديقنا إلا لما نعرف في وضوح وتميز أنه مفهوم, أو متضمن فيما نحكم عليه؛ ولكن الذي يجعلنا نخطئ عادة هو أننا نحكم غالبا دون أن تتوافر لدينا معرفة دقيقة بما نحكم عليه. 34- في أن الإرادة لازمة للحكم لزوم الذهن: إني أقر بأننا لا نستطيع أن نحكم على شيء ما لم يتدخل ذهننا فيه؛ لأنه لا محل للافتراض أن إرادتنا تتصرف فيما لا يدركه ذهننا على أي نحو من الأنحاء. ولكن من حيث إن الإرادة ضرورية إطلاقا؛ لكي نمنح تصديقنا لما أدركنا في أي درجة من الإدراك، ومن حيث إنه ليس من الضروري لتكوين أي حجم من الأحكام أن يكون لدينا معرفة تامة كاملة. فمن هنا يتأتى لنا أننا في كثير من الأحيان نمنح تصديقنا لأشياء لم تكن معرفتنا بها إلا معرفة مبهمة جدا1. 35- في أن الإرادة أوسع نطاقا من الذهن، وأنها لذلك مصدر لأخطائنا: يضاف إلى ذلك أن إدراك الذهن إنما يتناول القليلة المعروضة له، فمعرفته دائما محدودة جدا؛ بينما الإرادة على نحو ما، تبدو لامتناهية؛ لأننا لا ندرك شيئا يمكن أن يكون موضوعا لإرادة أخرى, حتى ولو كانت هي إرادة الله الضافية، إلا وتستطيع إرادتنا أن تمتد إليه, وهذا هو السبب في أننا نحملها

_ 1 يقول ديكارت في التأمل الرابع: "نظرت حينئذ إلى نفسي نظرة تعمق واستقصاء، وأخذت أتحرى عن خطئي الذي يدل وحده على أن فيّ نقصا، فوجدت أنه يعتمد على اشتراك علتين، هما قدرتي على المعرفة، وقدرتي على الاختيار، أو حرية الحكم، أعني: ما لدي من قوة الفهم والإرادة معا" "التأملات, ترجمتنا العربية، ص133".

عادة إلى نطاق يجاوز الموضوعات التي نعرفها بوضوح وتميز، فإذا تمادينا بها إلى هذا الحد لم يكن عجيبا أن نقع في ضلال1. 36- في أن أخطاءنا لا يصح نسبتها إلى الله: ولكن مع أن الله لم يهبنا ذهنا محيطا بكل شيء، فلا ينبغي لنا من أجل ذلك أن نعده مسئولا عن أخطائنا؛ لأن كل ذهن مخلوق متناهٍ، ومن طبيعة الذهن المتناهي أن لا يكون تام المعرفة. 37- في أن أعلى مراتب الكمال عند الإنسان هو أنه حر الاختيار، وهو الأمر الذي يجعله خليقا بالمدح والذم: أما الإرادة فلما كانت بطبيعتها رحيبة جدا2، فقد فزنا عن طريقها بميزة عظيمة, وهي أن نتصرف بحرية بحيث نكون مستقلين بأفعالنا استقلالا يجعلنا

_ 1 انظرالتأمل الرابع حيث يقول: "اتضح لي من هذا كله أن ما أقع فيه من خطأ ليس ناشئا من قوة الإرادة ذاتها التي أنعم الله بها علي؛ لأنها رحيبة جدا وكاملة جدا في نوعها، ولا من قوة التعقل أو التصور؛ لأني كما قلت لا أتصور شيئا إلا بواسطة هذه القوة التي منحني الله إياها لهذا الغرض, فكل ما أتصوره إنما أتصوره بلا شك كما ينبغي، ولا يمكن أن أكون في هذا ضالا أو مخدوعا، وإذن فما منشأ الخطأ عندي؟ إنه ينشأ من أن الإرادة أوسع من الفهم نطاقا، فلا أبقيها حبيسة في حدوده، بل أبسطها أيضا على الأشياء التي لا يحيط بها فهمي. ولما كانت الإرادة من شأنها أن لا تبالي، فمن أيسر الأمور أن تضل، وتختار الزلل بدلا من الصواب، والشر عوضا عن الخير، مما يوقعني في الخطأ والإثم" "التأملات, ترجمتنا العربية، ص135, 136". 2 يقول ديكارت في التأمل الرابع: "ولا يصح كذلك أن أشكو بأن الله لم يهبني حرية اختيار أو إرادة ذات حظ كافٍ من الرحابة والكمال, فالواقع أن تجارب وجداني تشهد بأن لي إرادة ضافية مترامية لا تحصرها حدود ولا تحبسها قيود. ومما يبدو لي هنا جديرا بالملاحظة أنهما من قوة أخرى من قوى نفسي مهما تبلغ من كمال وعظمة، إلا وأتبين أنه كان من الممكن أن تكون أكمل وأعظم مما هي. فإذا نظرت مثلا إلى ما لدي من قوة التصور وجدت أن نطاقها ضيق محدود جدا، وتمثلت في الوقت نفسه فكرة أخرى أوسع منها كثيرًا بل غير متناهية ولا محدودة. وكوني أرى أنه بمقدوري أن أتمثل هذه الفكرة يجعلني أتبين في غير عناء أنها صفة من الصفات التي اختصت بها الذات الإلهية, طبيعة الله. أما الإرادة أو حرية الاختيار فقد خبرتها في نفسي فوجدتها كبيرة للغاية، بحيث لا أتصور غيرها أوسع وأرحب منها. ولما كانت إرادتي بمثل هذه القوة فهي على وجه الخصوص الأمر الذي يجعلني أحكم أنني على صورة الله ومثاله" "التأملات، ترجمتنا العربية ص133, 134".

جديرين بالثناء إذا أحسنا التصرف، فكما أن المرء حين يرى الماكينات تتحرك على صور كثيرة مختلفة وتدور على أفضل ما يمكن من الدوران، لا يوجه إليها الثناء؛ لأنها إنما تقوم بهذه الحركات عن طريق ما وضع فيها من لوالب، في حين يوجه الثناء إلى الصانع الذي صنع هذه الماكينات لما لديه من قدرة وإرادة استطاع بهما أن يبرع في تركيبها، كذلك شأننا إذا اخترنا ما هو حق بعد تمييزه من الباطل بفعل إرادتنا نكون أكثر استحقاقا للثناء مما لو كنا مجبرين ومرغمين على التصرف، ومتأثرين بمبدأ غريب عنا. 38- في أن أخطاءنا هي عيوب في تصرفنا لا في طبيعتنا، وأن أخطاء الناس يمكن في أكثر الأحيان أن تنسب إلى الفاعلين الآخرين لا إلى الله: إن من أحق الأمور أننا كلما أخطأنا يكون هناك عيب في تصرفنا أو في استعمال حريتنا. ولكن هذا لا يعني أن هناك عيبا في طبيعتنا؛ لأنها هي بعينها دائما سواء كانت أحكامنا صحيحة أو فاسدة1. وإذا كان في مقدور

_ 1 انظر التأمل الرابع حيث يقول صاحبه: "وفي هذا الاستعمال السيئ لحرية الاختيار يقع الحرمان الذي هو قوام صورة الخطأ. أقول: إن الحرمان يقع في الفعل من حيث إنه صادر مني, ولكنه غير موجود في القوة التي أنعم الله بها علي، ولا في الفعل من حيث إنه يتوقف عليه فلا ريب أنه ليس لدي من داعٍ للشكوى من أن الله لم يهبني ذكاء أوفى أو نورا فطريا أكمل مما وهبني ما دام من طبيعة الذهن المتناهي أن لا يكون محيطا بأشياء كثيرة، ومن طبيعة الذهن المخلوق أن يكون متناهيا ولكن الخليق بي من كل وجه أن أشكره تعالى على نعمائه؛ إذ رزقني كل ما اتصفت به من كمالات يسيرة دون أن يكون لي عليه فضل. وينبغي أن أباعد بين نفسي وبين أن أتوهم أنه ظلمني، فانتزع مني أو منع عني الكمالات الأخرى التي لم ينعم بها علي" "التأملات, ترجمتنا العربية ص137-139".

الله أن يهبنا معرفة واسعة تبعد بنا عن الوقوع في الخطأ، إلا أنه لا حق لنا أن نشكو منه لذلك؛ لأنه سبحانه ذو سلطان على الكون مطلق حر، فلا يسأل عما يفعل، بخلاف البشر إذ جعل لبعضهم سلطانا على من دونهم لمنعوهم من فعل الشر، فمن استطاع منهم أن يعرف الشر ولم يمنعه كان ملوما ومشاركا في الإثم؛ ولذلك ينبغي أن نحمد الله على ما أنعم به علينا، وينبغي أن لا نشكو من أنه لم يعطنا ما ينقصنا، وكان في قدرته أن يهبه لنا. 39- في أن حرية إرادتنا لا تعرف بالدليل، وإنما تعرف بتجربتنا لها: وبديهي أن لنا إرادة حرة توافق أو لا توافق كما يحلو لها، وهذا يمكن أن يعد من أكثر المعاني المفطورة شيوعا. وقد رأينا فيما تقدم دليلا على ذلك واضحا جدا؛ لأننا حين كنا نشك في كل شيء بل حين ذهبنا إلى افتراض أن خالقنا استعمل قدرته لإضلالنا من جميع الوجوه، أدركنا في أنفسنا من حرية بلغ في عظمها أن استطعنا أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بما لم نكن نعرفه بعد معرفة كاملة1. غير أن ما أدركناه إدراكا متميزا ولم نكن نستطيع أن نشك فيه إبان تعليقنا للحكم حينذاك، كان يقينه مساويا ليقين أي شيء آخر تيسر لنا أن نعرفه من قبل. 40- في أننا نعلم أيضا بعلم يقيني جدا أن الله قدّر الأشياء جميعا تقديرا سابقا على حصولها: ولكن بما أن ما قد علمناه عن الله من قبل يؤكد لنا أن قدرته قد بلغت من العظمة مبلغا يجعلنا من الآثمين لو خطر لنا أنه كان بمقدورنا أن نعمل شيئا لم

_ 1 يقول ديكارت في بعض رسائله: "إنك محق في قولك: إننا واثقون من حرية اختيارنا وثوقنا من أي معنى فطري شائع. فإن هذا المعنى واحد منها حقا".

يقدره من قبل. فمن الميسور أن نتورط في صعوبات عويصة جدا لو أردنا أن نوفق بين حرية إرادتنا وبين أوامر الله، وحاولنا أن نفهم هاتين الحقيقتين، وكأن عقولنا تستطيع أن تتناول حرية اختيارنا وتقدير العناية الأزلية فتحيط بهما إحاطة1. 41- كيف يمكن التوفيق بين الحرية الإنسانية, وبين سبق التقدير الإلهي:؟ في حين أننا لن نجد عناء في التخلص من تلك الصعوبات إذا التفتنا إلى أن فكرنا متناهٍ، أن قدرة الله الشاملة -تلك القدرة التي علم بها كل ما هو كائن أو ما يمكن أن يكون, بل أراده منذ الأزل- هي قدرة لامتناهية. والحاصل أننا نملك من العقل ما يكفي لأن نعرف بوضوح وتميز أن تلك القدرة في الله؛ وليس لدينا منه ما يكفي لأن نفهم مدى تلك القدرة إلى الحد الذي نعلم معه كيف تأذن بأن تكون أفعالنا بتمامها حرة غير مقيدة, وإننا من جهة أخرى لواثقون من الحرية وعدم التقيد القائمين فينا بحيث لا نعرف شيئا بوضوح أكثر مما نعرفهما؛ ولذلك لا ينبغي أن تكون قدرة الله الكاملة مانعة لنا من هذا الاعتقاد, فإن من الخطأ أن نشك فيما ندركه "جوانب" ونعلم بالتجربة وجوده في أنفسنا؛ لأننا لا نفهم شيئا آخر نعلم أنه ممتنع على الفهم بطبيعته. 42- كيف أننا, وإن لم نكن نريد قط أن نخطئ, إنما نخطئ مع ذلك بإرادتنا:؟! ولكن بما أننا نعلم أن الخطأ متوقف على إرادتنا, وأن أحدا لا يريد أن يخطئ فقد يعجب المرء لوقوع الخطأ في أحكامنا، ولكن يحسن أن نلاحظ أن

_ 1 انظر كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة 1957، ص192 وما بعده، وقارن ما يقول ديكارت بما قاله الإسلاميون "الإيجي: "المواقف"".

هنالك فرقا بين أن يريد المرء أن يخطئ, وبين أن يريد التصديق على آراء هي العلة في أننا نخطئ أحيانا. ذلك أنه وإن لم يكن يوجد أحد يريد أن يخطئ عمدا، فإنه ربما لا يوجد واحد إلا ويريد أن يصدق على أشياء لا يعرفها معرفة متميزة، بل كثيرا ما يحدث أن الرغبة في معرفة الحقيقة هي التي تفوت على من لا يعلمون الترتيب الواجب التزامه للبحث عنها أن يهتدوا إليها، وتجعلهم يخطئون لأنها تدفعهم إلى التعجل في أحكامهم، وإلى أخذ الأشياء التي ليس لديه عنها معرفة كافية ظانين أنها حقائق1. 43- في أننا لن نخطئ إذا ما التزمنا أن لا نحكم إلا على أشياء ندركها إدراكا واضحا متميزا: ولكن الأمر المستيقن أننا لن نأخذ الخطأ بدلا من الصواب قط، ما دمنا لا نحكم إلا على ما ندركه في وضوح وتميز. فمن حيث إن الله ليس مضلا، فملكة المعرفة التي وهبنا الله لا يمكن أن تخطئ، وكذلك ملكة الإرادة، حين لا تتعدى بها مجال الأشياء التي نعرفها. وهذه الحقيقة وإن لم يتيسر إقامة الدليل عليها، فإن نفوسنا ميالة بالفطرة إلى التصديق على الأشياء التي ندركها إدراكا جليا إلى الشعور باستحالة الشك في حقيقتها. 44- في أننا لا نستطيع إلا أن نحكم حكما فاسدا على ما لا ندركه إدراكا واضحا، وإن تصادف أن كان حكمنا صحيحا، وكثيرا ما تكون ذاكرتنا سببا في ضلالنا: ومن الأمور اليقينية جدا أننا كلما صدقنا على رأي لا نعرفه معرفة دقيقة, فإما أننا نخطئ، وإما أننا نهتدي إلى الحقيقة بمحض المصادفة فلا نكون مستوثقين

_ 1 إننا قد نرغب رغبة صادقة في معرفة الحقيقة، ولكننا نقع في الضلال أحيانا، وفي هذا دلالة على أن الإرادة الطيبة وحدها لا تكفي، وأن المنهج السليم أمر في غاية الأهمية.

منها ولا نعلم عن يقين أننا غير مخطئين. وإني أقر أنه يندر أن نحكم على شيء ونحن نلاحظ أننا نعرفه معرفة متميزة بالقدر الكافي؛ لأن العقل يملي علينا أننا لا ينبغي أن نحكم أبدا إلا على ما نعرفه معرفة متميزة قبل حكمنا عليه، ولكننا كثيرا ما نخطئ لأننا نفترض أننا قد عرفنا من قبل أشياء كثيرة, وأننا ما نكاد نتذكرها حتى نمنحها تصديقنا وكأننا اختبرناها اختبارا كافيا مع أنه لم يكن لدينا عنها في الواقع معرفة صحيحة. 45- ما هو الإدراك الواضح المتميز؟: بل إن من الناس من لم يدركوا في حياتهم كلها شيئا كما ينبغي أن يدركوه ليحكموا عليه حكما يقينيا صحيحا؛ لأن المعرفة لا بد أن تكون واضحة ومتميزة معا. والمعرفة الواضحة عندي هي المعرفة الحاضرة الجالية أمام ذهن منتبه؛ وعلى ذلك نقول: إننا نرى الموضوعات بوضوح حين تكون ماثلة أمام أبصارنا، فتؤثر عليها تأثيرا قويا وتجعلها مستعدة لرؤيتها. والمعرفة المتميزة هي المعرفة التي بلغ من دقتها واختلافها عن كل ما عداها أنها لا تحتوي في ذاتها إلا على ما يبدو بجلاء لمن ينظر فيها كما ينبغي1. 46- في أن الإدراك يمكن أن يكون واضحا، دون أن يكون متميزا، ولكن العكس ليس صحيحا: ولنضرب لذلك مثل الشخص الذي يحس ألما شديدا: إن معرفته هذا الألم معرفة واضحة بالقياس إليه، وليست من أجل ذلك متميزة دائما؛ لأنه يخلط بينها عادة وبين الحكم الخاطئ الذي يطلقه على

_ 1 "ينظر فيها كما ينبغي" أي: ينظر فيها بعناية. إن من الميسور أن نلاحظ هنا المنزلة الممتازة التي جعلها ديكارت للنظر المنهجي المنظم الذي تعتمد عليه "الأذهان المنتبهة" في سعيها إلى الحقيقة. وههنا سمة من سمات "الجوانية" الأصيلة في فلسفه ديكارت.

طبيعة ما يظنه موضع الألم الذي يحسبه شبيها بالألم الذي هو في فكره، مع أنه في الواقع لا يدرك بوضوح إلا الشعور أو الفكر المبهم الموجود في نفسه1. فالمعرفة يمكن أن تكون أحيانا واضحة دون أن تكون متميزة, ولكنها لا يمكن إطلاقا أن تكون متميزة دون أن تكون بهذا واضحة. 47- في أننا لكي نطرح الأوهام والأحكام المبتسرة التي كسبناها في طفولتنا يجب أن ننظر في كل فكرة من أفكارنا الأولى؛ لنتبين ما هو واضح منها: في أيام طفولتنا رانت على عقولنا من الجسم غشاوة، فلم تكن تعرف شيئا معرفة متميزة وإن كانت تدرك أشياء كثيرة إدراكا فيه بعض الوضوح، ولكن من حيث إننا حتى في ذلك الحين لم نكن نخلو من أن نفكر في الأمور التي كانت تعرض لنا ونحكم عليها أحكاما يشوبها التهور، فقد ملأنا ذاكرتنا بأوهام وأحكام مبتسرة كثيرة ربما لم نحاول أبدا أن نتخلص منها، وإن يكن من المستيقن جدا أننا لا نستطيع أن نمحصها بغير العقل تمحيصا دقيقا. ولكن لكي يتيسر لنا الآن أن نتخلص منها دون عناء كبير، سأعدد هنا جميع المعاني البسيطة التي تتألف منها خواطرنا، وسأميز كل ما هو واضح واحد منها, وما هو غامض أو ما يمكن أن نخطئ فيه. 48- في أن كل موضوعات معرفتنا ننظر إليها إما على أنها أشياء أو حقائق؛ إحصاء الأشياء: أميز في كل ما تتناوله معرفتنا ضربين: الأول يحتوي على جميع الأشياء التي ليست شيئا خارج فكرنا، أما الضرب الأول فيتناول المعاني العامة التي تنطبق على جميع أنواع الأشياء كالمعاني التي لدينا عن الجوهر، والمدة

_ 1 "المبهم" يقابل "المتميز" ولا يقابل "الواضح", فقد ندرك بوضوح فكرا مبهما.

والترتيب، والعدد، وربما أيضا بعض معانٍ أخرى. ثم لدينا أيضا معانٍ أخص تصلح للتمييز بينها، والتمييز الأكبر الذي ألحظه بين جميع الأشياء المخلوقة هو أن بعضها عقلية، أي: جواهر عاقلة، أو خواص لهذه الجواهر، والأخرى جسمانية أي: هي أجسام أو خواص للجسم. ولذلك فالذهن والإرادة هي من شأن الجوهر المفكر، والعظم أو الامتداد طولا وعرضا وعمقا، والشكل والحركة ووضع الأجزاء وما لها من استعداد للانقسام وغير هذه الخواص متعلقة بالجسم. وفضلا عن ذلك هناك أشياء نبلوها في أنفسنا ولا يمكن أن تنسب إلى النفس وحدها ولا إلى الجسم وحده, بل إلى الاتحاد الوثيق بينهما على نحو ما سأشرحه بعد قليل. ومن قبيل هذه الأشياء شبهة الشرب والأكل ... إلخ، وكذلك انفعالات النفس وخوالجها التي لا تعتمد على الفكر وحده، مثل الانفعال عند الغضب والابتهاج والحزن والحب ... إلخ، وكذلك المشاعر كالألم والدغدغة والضوء والألوان والأصوات والروائح والطعوم والحرارة والصلابة وجميع الصفات التي لا تقع تحت حاسة اللمس. 49- في أن الحقائق لا يمكن تعدادها، وأنه لا حاجة إلى ذلك: لقد أحصيت كل ما نعرفه من قبيل الأشياء، وقد بقي علي أن أتحدث عما نعرفه من قبيل الحقائق. فمثلا حين نرى أنه لا يمكن إيجاد شيء من العدم لا نعتقد أن هذه القضية شيء له وجود في الخارج أو خاصية لشيء، ولكننا نأخذها حقيقة أبدية قائمة في فكرنا، ونسميها معنى شائعا بين الناس أو مبدأ بديهيا. وإذا قلنا: إن من المحال أن يكون الشيء ولا يكون في وقت واحد، وأن ما كان لا يمكن ألا يكون قد كان، وأن من يفكر لا يمكن أن يخلو من الوجود حين يفكر، وقضايا أخرى كثيرة من هذا القبيل، وكانت هذه حقائق فحسب وليست أشياء موجودة خارج فكرنا، وقد بلغت هذه الحقائق حدا جعل من العسير تعدادها,

ولكن هذا التعداد ليس بضروري؛ لأننا نخلو من أن نعرفها حين تعرض الفرصة للتفكير فيها, وحين لا يكون لدينا من الأوهام ما يعمي أبصارنا عنها1. 50- في أن هذه الحقائق جميعا يمكن أن تدرك بوضوح, لكن إدراكها ليس ميسورا لجميع الناس بسبب ما يغشى عقولهم من أوهام شائعة, وأحكام مبتسرة: أما الحقائق التي تسمى معاني شائعة, فمن المستيقن أنها يمكن معرفتها لدى الكثيرين بغاية الوضوح المتميز؛ لأنها إن لم تكن كذلك لما استحقت أن تسمى بهذا الاسم، ولكن من الحق أيضا أن منها ما يستحق هذا الاسم في نظر البعض الآخر؛ لأنها ليست لديهم بديهية بداهة كافية. وليس معنى هذا أني أعتقد أن ملكة المعرفة الموجودة عند بعض الناس هي أبعد مدى مما هي عليه عند جميعهم، ولكني أريد أن أقول بأن هنالك أشخاصا قد طبعوا في معتقداتهم منذ زمن طويل آراء مخالفة لبعض هذه الحقائق، فكانت مانعا لهم من أن يدركوها وإن تكن جلية جدا لدى من لم يشغلوا أنفسهم على ذلك النحو2.

_ 1 تتجلى هنا إحدى سمات "الجوانية" في الفلسفة الديكارتية: لا يريد ديكارت أن يحصي الحقائق؛ لأن كل إنسان يستطيع استكشافها بنفسه ما دام منتبها واعيا منهجيا، ولأن خصوبة الحقائق لا تكون في حفظها وتجميدها، بل في معاناتها والانفعال بها، وكل فكرة جاهزة منقولة فهي هامدة لا حياة فيها. 2 ويقول ديكارت في بداية "المقال عن المنهج": "العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل، وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق, تتساوى بين كل الناس بالفطرة. وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر, وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر فيه الآخر" ""المقال عن المنهج" ترجمة الأستاذ محمود الخضيري ص3, 4".

51- في ماهية الجوهر، وفي أنه اسم لا يمكن نسبته إلى الله وإلى المخلوقات بمعنى واحد: أما الأشياء التي نرى لها شيئا من الوجود فنحتاج إلى بحثها ههنا واحدا بعد الآخر؛ لكي نميز ما هو غامض مما هو بديهي في الفكرة التي لدينا عن كل منها. إننا حين نتصور الجوهر إنما نتصوره موجودا غير مفتقر إلا إلى ذاته في وجوده، وقد يكون في تفسير قولنا: "غير مفتقر إلا إلى ذاته" بعض الغموض؛ لأن الأصح أن يقال: إنه لا أحد سوى الله يكون هذا شأنه، وما من شيء مخلوق يستطيع أن يوجد لحظة واحدة إلا وقدرة الله تسنده وتحفظه1. ولذلك صح للمدرسيين أن يقولوا: إن لفظ "الجوهر" لا يدل على معنى واحد إلى الله وإلى المخلوقات، أي: إن اللفظ ليس له معنى يمكن تصوره تصورا متميزا, ويكون دالا عليه وعليها دلالة واحدة, ولكن من حيث إن بعض الأشياء المخلوقة لا يمكن بطبيعتها أن توجد إلا بواسطة البعض الآخر، فإننا نميزها من الأشياء التي لا تحتاج إلا إلى عون عادي من الله2، فنسمي هذه جواهر، ونسمي تلك "صفات" أو "خواص" لهذه الجواهر. 52- في أن لفظ الجوهر يمكن نسبته إلى النفس وإلى الجسم بمعنى واحد، وكيف يعرف الجوهر نفسه:؟ والفكرة التي تكون لدينا عن الجوهر المخلوق تنطبق على الجواهر اللامادية انطباقها على الجواهر المادية أو الجسمانية؛ لأنه لا يلزمنا لكي نفهم أنها جواهر إلا أن ندرك أنها يمكن أن توجد دون اعتماد على أي شيء مخلوق. ولكن حين

_ 1 "انظر المادة 21 من هذا الكتاب". 2 هو الفعل الذي به يحفظ الله العالم وفقا لقوانينه وسننه, بخلاف الفعل الخارق للعادة كالمعجزات؛ لأن فيه خروجا على سنن الطبيعة.

نكون بسبيل أن نعرف هل أحد هذه الجواهر موجود حقا؟ أعني: هل هو موجود؟ المتقوم بذاته لا تنكشف معرفته لنا، بل إن من الميسور لنا أن نهتدي إلى الجوهر ذاته من أية صفة من صفاته نستطيع أن نلحظها فيه، وما من صفة منها إلا وتكون كافية لتحقيق الإدراك إذ إن من المعاني الشائعة لدى الناس جميعا أن العدم لا يمكن أن تكون له محمولات ولا خواص أو صفات؛ ولذلك نكون محقين إذا أدركنا صفة من الصفات قائمة، فاستنتجنا أنها صفة لجوهر ما وأن هذا الجوهر موجود. 53- في أن كل جوهر له صفة أولى، وأن صفة النفس هي الفكر, كما أن الامتداد صفة الجسم: ولكن مع أن كل صفة تكفي لتعريفنا بالجوهر, إلا أن في كل جوهر صفة تقوم طبيعته وماهيته وتعتمد عليها جميع الصفات الأخرى، وأعني بذلك: أن الامتداد في الطول والعرض والعمق هو المقوم لطبيعة الجوهر الجسماني، وأن الفكر هو المقوم لطبيعة الجوهر الذي يفكر؛ لأن كل ما يستطاع نسبته إلى الجسم يفترض وجود الامتداد من قبل، ولا يعدو أن يكون اعتمادا على ما هو ممتد1 وكذلك جميع الخواص التي نجدها في الشيء الذي يفكر ليست إلا أنحاء مختلفة من الفكر. وعلى ذلك فنحن مثلا لا نستطيع أن نتصور شكلا ما لم يكن في شيء ممتد، ولا حركة إلا في فضاء هو ممتد. وكذلك الخيال والشعور والإرادة تعتمد على الشيء المفكر بحيث لا نستطيع أن نتصورها بدونه، ولكننا بالعكس نستطيع أن نتصور الامتداد دون شكل أو دون حركة، ونتصور الشيء الذي يفكر دون خيال أو شعور.

_ 1 قارن هذا بما قاله ديكارت في التأمل الثاني في المثل المشهور عن قطعة الشمع ""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص77-79".

54- كيف نستطيع الحصول على أفكار متميزة عن الجوهر المفكر، وعن الجوهر الجسماني، وعن الله:؟ في استطاعتنا إذن أن نحصل على معنيين أو فكرتين واضحتين ومتميزتين، إحداهما: فكرة جوهر مخلوق يفكر، والأخرى: فكرة جوهر ممتد، على شرط أن نحرص كل الحرص على أن نفصل بين جميع صفات الفكر وبين صفات الامتداد, فنستطيع أن نحصل أيضا على فكرة واضحة متميزة عن جوهر غير مخلوق يفكر ومستقل عما عداه، أعني: عن الله، على شرط أن لا يظن أن هذه الفكرة تمثل لنا كل ما هو فيه1، وأن لا نخلط شيئا بوهم من أوهام أذهاننا, بل أن ننتبه إلى ما هو مفهوم حقا في المعنى المتميز الذي نعرف أنه يخص طبيعة موجود كامل كمالا مطلقا؛ لأنه ما من واحد يستطيع أن ينكر أن هذه الفكرة عن الله موجودة فينا، إذا لم يرد أن يعتقد بلا مسوغ أن الذهن الإنساني لا يستطيع الحصول على أي معرفة لله. 55- كيف نستطيع أيضا أن نحصل على أفكار متميزة عن المدة والترتيب والعدد:؟ ويمكن أن يكون لدينا تصورات متميزة جدا عن المدة والترتيب والعدد إذا كنا لا نخلط في فكرتنا عنها ما هو خاص بفكرة الجوهر، ونقتصر على أن نرى أن مدة كل شيء إنما هي حال أو نحو من الأنحاء ننظر منه إلى ذلك الشيء من حيث إنه مستمر في الوجود، وكذلك الترتيب والعدد لا يختلفان في الواقع عن الأشياء المرتبة والمعدودة, وإنما هما وجهان مختلفان لاعتبارنا هذه الأشياء. 56- ما هي الكيفيات والصفات والوجوه والأحوال:؟ حين أتحدث هنا عن الوجوه أو الأحوال، لا أعني شيئا سوى ما سميته في موضع آخر بالصفات أو الكيفيات. ولكني حين أجعل في الاعتبار أن الجوهر

_ 1 لدينا عن الله فكرة واضحة ومتميزة، ولكنها ليست فكرة تامة.

متأثر ومتغير بها أستعمل لفظ "الأحوال" أو "الوجوه" وحين يكون هذا التأثير أو التغير داعيا إلى تسمية الجوهر جوهرا، أطلق اسم الكيفيات على الوجوه المختلفة التي تجعله خليقا بهذا الاسم. وأخيرا حين أرى بوجه عام أن هذه الأحوال أو الكيفيات قائمة في الجوهر، دون أن أنظر إليها إلا باعتبارها متعلقات لذلك الجوهر، حينئذ نسميها صفات. ومن حيث إنه لا ينبغي أن أتصور في الله أي اختلاف أو تغير, فإني لا أقول بأن فيه أحوالا أو كيفيات بل فيه صفات وحتى في الأشياء المخلوقة أطلق لفظ الصفات للأحوال أو الكيفيات على ما يكون فيها دائما على نحو بعينه، مثل الوجود والمدة في الشيء الموجود والذي يبقى في الزمان. 57- في أن بعض الصفات موجود في الأشياء التي توصف بها، وفي أن بعضها موجود في الفكر فقط: وهذه الكيفيات أو الصفات منها ما هي موجودة في الأشياء ذاتها, ومنها ما لا وجود له إلا في فكرنا. فمثلا الزمان الذي نميزه عن المدة بالمعنى العام -ذلك الزمان الذي نقول عنه: إنه عدد الحركة- ليس إلا نحوا من الأنحاء التي نتعقل المدة عليها؛ لأننا لا نتصور أن مدة الأشياء المتحركة هي شيء آخر غير مدة الأشياء غير المتحركة، وذلك واضح من أنه إذا تحرك جسمان ساعة من الزمان وتحرك أحدهما حركة سريعة والآخر بطيئة, فإننا لا نحسب في أحدهما زمانا أكثر مما في الآخر وإن كنا نفترض في أحد الجسمين حركة أكثر مما في الآخر, ولكن لكي نفهم مدة جميع الأشياء بمقياس واحد، نستعمل عادة مدة بعض الحركات المطردة التي هي الأيام والأعوام، ونسميها بالزمان، بعد أن نكون قد قارناها بعضها ببعض، وإن يكن ما نسميه زمانا ليس في الواقع شيئا خارج المدة الحقيقية للأشياء، سوى وجه من وجوه الفكر.

58- في أن الأعداد و"الكليات" إنما وجودها في فكرنا: وكذلك العدد الذي ننظر فيه بوجه عام، دون تفكير في أي شيء آخر مخلوق ليس له وجود خارج فكرنا، كما لا وجود في الخارج لجميع تلك الأفكار العامة الأخرى التي يسميها "المدرسيون" باسم الأمور الكلية أو "الكماليات"1. 59- ما هي الكليات:؟ الكليات هي الأفكار التي تقوم في أذهاننا حين نستعمل فكرة واحدة نعقل بها أشياء كثيرة جزئية بينها علاقة معينة. وحين نحيط بجميع الأشياء التي تمثلها لنا هذه الفكرة تحت اسم واحد، يكون هذا الاسم كليا كذلك، فمثلا حين نرى حجرين، ونلاحظ فقط أن هنالك حجرين دون تفكير منا في طبيعتهما، حينئذ نكون في أنفسنا فكرة عدد معين أسميه عدد الاثنين. فإذا رأينا بعد ذلك عصفورين أو شجرتين, ولاحظنا -دون تفكير في طبيعتهما- أن هنالك اثنين, عدنا إلى نفس الفكرة التي ذكرناها من قبل وجعلناها كلية, وكذلك نعطي هذا العدد نفس الاسم الكلي وهو العدد اثنين. وكذلك حين نلاحظ شكلا ذا ثلاثة أضلاع نكون قد تمثلنا فكرة معينة نسميها فكرة المثلث ونستخدمها بعد ذلك على العموم لجميع الأشكال التي ليس لها إلا ثلاثة أضلاع. ولكنا حين نلاحظ بوجه أخص أن الأشكال ذات الأضلاع الثلاثة منها ما هو قائم الزاوية, ومنها ما ليس كذلك، نكون في أنفسنا فكرة كلية عن المثلث القائم الزاوية, فإذا ارتبطت بالفكرة السابقة التي هي أعم وأشمل وأمكن أن تسمى "نوعا" وتكون الزاوية القائمة هي "الفصل" الكلي الذي يميز المثلثات القائمة الزوايا من غيرها من المثلثات

_ 1 الكليات هي الأفكار أو المعاني العامة التي تصدق على الأنواع والأفراد الكثيرة، وقد احتدم النزاع في القرون الوسطى بين العلماء حول هذه الكليات: هل هي موجودة "في الأعيان"؟ أم أن وجودها "في الأذهان" فقط؟

الأخرى, ثم إذا لاحظنا أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين, وأن هذه الخاصية إنما تلائم هذا النوع من المثلثات، استطعنا أن نسميها الخاصة الكلية للمثلثات القائمة الزوايا. وأخيرا إذا فرضنا أن هذه المثلثات القائمة الزاوية منها ما يتحرك, ومنها ما لا يتحرك اعتبرنا ذلك "عرضا" كليا في هذه المثلثات. وهكذا جرت العادة بأن تقسم الكليات خمسة أقسام: الجنس والنوع، والفصل والخاصة، والعرض1. 60- في التمييز الواقعي: أما العود الذي نلاحظه في الأشياء ذاتها, فيأتي من التمييز الواقع بينها. غير أن التمييز على ثلاثة ضروب: الأول: التمييز الواقعي، والثاني: من حيث الحال, والثالث: التمييز العقلي، أي: الذي يكون من عمل الذهن. والتمييز الواقعي يوجد في الحقيقة بين جوهرين أو أكثر؛ لأننا نستطيع أن نستنتج تميز جوهرين, أحدهما عن الآخر؛ لأننا مستوثقون بمقتضى ما نعرفه عن الله من أنه قادر على أن يحقق كل ما لدينا عنه فكرة واضحة ومتميزة؛ لذلك نستطيع أن نستخلص من أن لدينا الآن مثلا فكرة جوهر ممتد أو جسماني، وإن كنا لا نعرف بعد على وجه اليقين إذا كان شيء كهذا موجودا الآن في العالم، غير أنه ما دامت لدينا فكرة عنه، فإننا نستطيع أن نستخلص أن من الممكن وجوده، وأنه متى كان موجودا فإن جزءا معينا منه نستطيع أن نحدده بالفكر يجب أن يكون متميزا بالفعل عن أجزائه. وكذلك لأن كل واحد منا يدرك في ذاته أنه يفكر، وأنه يستطيع وهو يفكر أن يبعد عن ذاته أو عن نفسه كل جوهر مفكر أو ممتد. نستطيع أن نستخلص أيضا أن كل واحد منا إذا نظر إليه من هذه

_ 1 ذكر ديكارت هنا مصطلحات الفلسفة "المدرسية", ولكنه قلما يستعملها في فلسفته.

الجهة كان متميزا تميزا واقعيا من كل جوهر آخر مفكر، ومن كل جوهر جسماني. ومع أننا نفترض أن الله قد جمع بين جسم ونفس جميعا يستحيل معه أن يتحدا اتحادا أوثق, فجعل من ذلك كلا مؤلفا، فالجوهران يظلان متميزين تميزا حقيقيا على الرغم من هذا الاتحاد؛ لأنه مهما جعل بينهما من وشائج لم يكن في وسعه أن يخلي ذاته مما يملك من قوة الفصل بينهما أو حفظ أحدهما بمعزل عن الآخر، والأشياء التي يقدر الله على الفصل بينها أو حفظها منفصلة هي متميزة في الواقع. 61- في التمييز من حيث الحال: التمييز من حيث الحال على ضربين: أحدهما: بين التي سميناها وجها والجوهر الذي تعتمد الحال عليه وتجعله متنوعا، والثاني: بين وجهين لجوهر واحد. والأول يمكن ملاحظته من حيث إننا نستطيع أن ندرك الجوهر إدراكا واضحا بدون الوجه الذي يختلف عنه على ذلك النحو. ولكن بالعكس لا نستطيع أن نحصل على فكرة متميزة عن وجه بعينه دون أن نفكر في جوهر بعينه، فمثلا هناك تمييز في الحال بين التأكيد أو التذكر وبين الشيء الذي يفكر. أما النوع الآخر من التمييز القائم بين وجهين مختلفين لجوهر واحد، فيلاحظ من أننا نستطيع أن نعرف أحد هذين الوجهين بدون الآخر، كالشكل بدون الحركة والحركة بدون الشكل، ولكننا لا نستطيع أن نفكر بتمييز لا في أحدهما ولا في الآخر إلا ونعرف أنهما يعتمدان جميعا على جوهر واحد. فمثلا إذا تحرك حجر وكان مربعا، نستطيع أن نعرف شكله المربع دون أن نعرف أنه تحرك؛ وبالعكس نستطيع أن نعرف أنه متحرك دون أن نعرف إذا ما كان مربعا، ولكنا لا نستطيع أن نحصل على معرفة متميزة عن هذه الحركة وعن هذا الشكل إذا لم

نعرف أنهما جميعا في شيء واحد، أعني: في جوهر ذلك الحجر. أما التمييز الذي يختلف فيه وجه من وجوه الجوهر عن جوهر آخر أو عن وجه من وجوه جوهر آخر، كما تكون حركة جسم مختلفة عن جسم آخر أو عن شيء يفكر، أو كما تكون الحركة مختلفة عن الشك, فيبدو لي أن الأحرى أن نسميه تمييزا واقعيا من أن نسميه تمييزا من حيث الحال. 62- في التمييز المنطقي "التمييز بالفكر": التمييز بالفكر عبارة عن أننا نميز أحيانا الجوهر من صفة من صفاته, بدونها لا يكون من الممكن أن يكون لنا به معرفة متميزة، أو أن نحاول الفصل بين صفتين من صفات جوهر واحد، حين نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر. وهذا الفصل بيّن بسبب أننا لا نستطيع الحصول على فكرة واضحة متميزة عن ذلك الجوهر إذا جردناه من تلك الصفة، أو بسبب أننا لا نستطيع الحصول على فكرة واضحة متميزة عن صفة أو أكثر من تلك الصفات إذا فصلناها عن الصفات الأخرى. فمثلا من حيث إنه لا يوجد جوهر ينقطع عن الدوام دون أن ينقطع عن الوجود، فالدوام لا يتميز عن الجوهر إلا بالفكر، وعلى العموم جميع الصفات التي تجعلنا حاصلين على أفكار مختلفة عن شيء واحد، مثل امتداد الجسم وخاصيته في أن يكون منقسما إلى أجزاء كثيرة، لا تختلف إحداها عن الأخرى إلا بسبب أننا نفكر أحيانا في إحداها دون أن نفكر في الأخرى على صورة مبهمة, وإني لأذكر أني قد خلطت بين التمييز من حيث الحال، في آخر ردودي على الاعتراضات الأولى التي أوردت على "تأملات" ميتافيزيقاي. ولكن ذلك لا يتنافى مع ما أكتبه هنا؛ لأني لم أكن أقصد هنالك أن أخوض في ذلك الموضوع, فاكتفيت بالتفرقة بينها وبين التمييز الواقعي.

63- كيف نحصل على أفكار متميزة عن الامتداد وعن الفكر، من حيث إن أحدهما هو طبيعة الجسم, وإن الثاني هو طبيعة النفس:؟ نستطيع كذلك أن نعتبر أن الفكر والامتداد هما الشيئان الأساسيان اللذان يقوّمان طبيعة الجوهر العاقل والجوهر الجسماني؛ ولذلك لا ينبغي أن نتصورهما إلا باعتبار أنهما الجوهر نفسه الذي يفكر والذي هو ممتد، أي: إنهما هما النفس والجسم؛ لأننا نعرفهما على هذا النحو معرفة متميزة جدا، بل إن معرفة جوهر يفكر أو جوهر ممتد أسهل من معرفة الجوهر فقط بمعزل عن أنه مفكر أو ممتد؛ لأن من الصعب أن نفصل معنى الجوهر لدينا عن معنى الفكر أو معنى الامتداد, إذ إنهما لا يفترقان عن الجوهر إلا من جهة أننا قد نعتبر الفكر أو الامتداد دون أن نفكر في الشيء نفسه الذي يفكر, أو الذي هو ممتد. وليس تصورنا أكثر تميزا لأنه يتضمن أشياء قليلة، بل لأننا نتبين ما يتضمنه، ولأننا نحرص على أن لا نخلط بينه وبين معانٍ أخرى قد تحيله أشد غموضا. 64- كيف نستطيع أيضا أن نتصور الفكر والامتداد تصورا متميزا, على أنهما حالان أو صفتان لذينك الجوهرين:؟ نستطيع أيضا أن نعتبر الفكر والامتداد حالين أو وجهين مختلفين قائمين في الجوهر، أعني: أننا متى اعتبرنا أن الذهن الواحد يمكن أن يكون له أفكار مختلفة وأن الجسم الواحد يمكن دون أن يتغير حجمه أن يمتد على أنحاء عديدة، تارة يكون أكثر طولا وأقل عرضا, وتارة أخرى يكون أكثر عرضا وأقل طولا، وأننا لا نميز الفكر والامتداد عما هو مفكر وما هو ممتد إلا من حيث إنهما عرضان تابعان لجوهرين، فإننا نعرفهما بوضوح وتميز يعادل معرفتنا

بالجوهرين ما دمنا لا نعتبرهما جوهرين متقومين بذاتهما, بل إن كلا منهما حال من أحوال الجوهر أو وجه من وجوهه. ذلك أننا متى اعتبرناهما خاصتين للجوهرين اللذين عليهما اعتمادهما تيسر لنا أن نميزهما من الجوهرين، وأن نأخذهما على ما هما عليه في الحقيقة, في حين أننا إذا أردنا أن نعتبرهما بدون الجوهر فربما كان ذلك سببا في أن نأخذهما على أنهما شيئان متقومان بذاتهما، وترتب على ذلك أن نخلط بين الفكرة التي ينبغي أن تكون لدينا عن الجوهر وبين الفكرة التي ينبغي أن تكون لدينا عن خواصه وأحواله. 65- كيف نتصور أيضا خواص الفكر والامتداد, أو صفاتهما المختلفة:؟ على هذا النحو نستطيع أن ندرك بغاية الوضوح أنحاء كثيرة مختلفة للفكر، كالفهم والإرادة والتخيل وما إلى ذلك, وندرك أنحاء كثيرة مختلفة للامتداد أو ما يتعلق بالامتداد كالأشكال جميعا بوجه عام، ووضع الأجزاء وحركاتها، على شرط أن ننظر إليها فقط على أنها أحوال قائمة في الجوهر هي تابعة له، وكالحركة من حيث هي، بشرط أن نقتصر على النظر في الحركة من مكان إلى مكان دون أن نبحث عن القوة التي تحدثها, وهي القوة التي سأحاول مع ذلك أن أبينها في موضعها. 66- كيف أن أحاسيسنا وانفعالاتنا وشهواتنا يمكن معرفتها بوضوح, مع أننا كثيرا ما نخطئ في أحكامنا عليها:؟ لم يبق إلا أحاسيسنا وانفعالاتنا وشهواتنا، ونستطيع أن نعرفها أيضا معرفة واضحة متميزة, إذا ما حرصنا على أن لا ندخل في الأحكام التي نطلقها عليها إلا ما يتيح لنا وضوح إدراكنا أن نعرف معرفة محددة وما تعدنا أذهاننا

لأن نكون على ثقة منه. ولكن في مراعاة ذلك مشقة كبيرة, وعلى الأخص فيما يتعلق بالأحاسيس، ومرجع ذلك إلى أننا منذ بداية حياتنا قد أدخلنا في اعتقادنا أن جميع الأشياء التي كنا نحسها موجودة خارج فكرنا وأنها مشابهة تمام المشابهة لما كان لدينا عنها من أحاسيس وأفكار. فإذا رأينا مثلا لونا معينا خلنا أننا رأينا شيئا له وجود خارج أذهاننا وظنناه شبيها بالفكرة التي كانت في أذهاننا عنه. وعلى هذا النحو كانت تجري أحكامنا على الأشياء في مواطن كثيرة, وكان يبدو لنا أننا نرى ذلك بغاية الوضوح والتميز بسبب أننا قد تعودنا إطلاق الأحكام على هذا النحو تعودا طويلا؛ فلا عجب بعد ذلك أن نجد من الناس من يظل متشبثا بهذه الأوهام تشبثا لا يخطر بباله معه أن يشك فيها. 67- في أن كثيرا ما نخطئ, إذ نحكم بأننا نحس ألما في بعض أجزاء جسمنا: ويقع هذا الوهم نفسه في سائر أحاسيسنا، حتى في إحساس الدغدغة والألم, إذ إننا وإن لم نعتقد أن في الأعيان خارج أذهاننا أشياء مشابهة لما جعلنا نحسه من دغدغة أو ألم، إلا أننا لم نعتبر هذه الأحاسيس أفكارا قد انحصر وجودها في أذهاننا، بل اعتقدنا كذلك أنها في أيدينا وفي أقدامنا وفي سائر أجزاء بدننا دون أن يكون هنالك سبب يحملنا على أن نعتقد أن الألم الذي نحسه في القدم مثلا هو شيء موجود خارج فكرنا ومكانه في قدمنا, ولأن الضوء الذي نظن أننا نراه في الشمس هو موجود في الشمس كما هو موجود فينا. وإذا كان من الناس من لا يزالون مقتنعين بهذا الرأي الخاطئ فما ذلك إلا لشدة تشبثهم بما أطلقوا من أحكام على الأشياء في مقتبل حياتهم، فلم يستطيعوا أن يتخلوا عنها إلى أحكام أمتن منها، كما سيتضح لنا مما يلي.

68- في ضرورة وجوب التمييز في هذه الأشياء بين ما يمكن أن نخطئ فيه, وبين ما نعرفه في وضوح: ولكن لكي يتيسر لنا أن نميز في أحاسيسنا بين ما هو واضح, وما هو غامض نستطيع أن نلاحظ أولا أن في إمكاننا أن نعرف الألم واللون والأحاسيس الأخرى معرفة واضحة متميزة إذا ما التزمنا اعتبارها أفكارا فحسب، ولكن إذا أردنا أن نحكم بأن اللون أو الألم شيء قائم خارج فكرنا لم نستطع أن نتصور أي شيء يكون هذا اللون أو هذا الألم. فلو أن قائلا قال: إنه يرى لونا في جسم أو إنه يحس ألما في عضو من أعضاء بدنه، فكأنه قال: إنه رأى أو أحس شيئا ولكنه يجهل طبيعته جهلا تاما، أو إنه لم يعرف ما رأى أو ما أحس. فمع أن الشخص الذي لم ينظر في أفكاره نظر الفاحص قد يوهم نفسه بأنه على إلمام بها، ما دام يفترض أن اللون الذي يظن أنه يراه في شيء من الأشياء يشابه الإحساس الذي يحسه في نفسه، إلا أنه إذا ما تدبر ما يمثله له اللون أو الألم من حيث إنهما موجودان في جسم ملون أو في موضع مجروح، وجد أنه ليس له معرفة به على الإطلاق. 69- في أن معرفتنا للعظام والأشكال وما إليها مختلفة عن معرفتنا للألوان والآلام وغيرها: إذا ما اعتبرنا العظم في الجسم الذي نشاهده أو الشكل أو الحركة "الحركة المكانية على الأقل؛ لأن الفلاسفة حين تخيلوا أنواعا أخرى من الحركة دلوا على أنهم لا يعرفون طبيعتها الحقيقية"1 أو وضع الأجزاء أو الدوام أو العدد

_ 1 جعل أرسطو الحركة على أنوع: أ- حركة هي انتقال من العدم إلى الوجود "الكون". ب- حركة هي انتقال من الوجود إلى العدم "الفساد". جـ- حركة هي انتقال من الوجود إلى الوجود "التغير". د- حركة هي الانتقال من مكان إلى مكان "النقلة". أما ديكارت, فلا يسلم إلا بالحركة المكانية أو حركة النقلة؛ لأنها في نظره هي الحركة بمعناها الدقيق.

والخواص الأخرى التي ندركها بوضوح في جميع الأجسام كما بينّا من قبل، اتضح أننا نعرفها على نحو يختلف كل الاختلاف عن النحو الذي نعرف عليه ما هو اللون في الجسم نفسه أو الألم أو الرائحة أو الطعم أو أيا من الخواص التي قلت بوجوب نسبتها إلى الحواس. فمع أن تأكدنا من وجود الجسم حين نرى شكله ليس أقل من تأكدنا من وجوده حين نرى لونه، إلا أن معرفتنا لخاصية الشكل فيه معرفة أكثر وضوحا من معرفتنا للخاصية التي بها يبدو لنا ملونا1. 70- في أننا نستطيع أن نحكم بوجهين على الأشياء المحسوسة، بأحدهما نقع في خطأ وبالآخر نتجنبه: واضح إذن أننا إذا قلنا لشخص: إننا ندرك ألوانا في الأجسام, فكأننا قلنا له: إننا ندرك في هذه الأجسام شيئا نجهل طبيعته، ولكنه يحدث فينا إحساسا واضحا جليا يسمى بإحساس الألوان. ولكن هنالك اختلافا كبيرا في أحكامنا؛ لأننا ما دمنا نكتفي بالحكم بأن هنالك شيئا لا ندري ما هو في الأجسام "أي: في الأشياء كما هي" يحدث فينا هذه الأفكار المبهمة التي تسمى أحاسيس, فإننا نباعد بين أنفسنا وبين مواطن الخطأ ونجعلها بمأمن من المزالق التي قد توقعنا في الضلال، من حيث إننا لا نتعجل في الحكم على شيء لا نأنس في أنفسنا أننا نعرفه معرفة تامة، ولكن حين نظن أننا نرى لونا معينا في جسم ما، وإن كنا غير عارفين حق المعرفة بما نسميه بهذا الاسم، وكنا عاجزين عن تصور أي مشابهة بين اللون الذي نفترض وجوده في الأشياء وبين اللون الذي هو في فكرنا، إلا أننا لما كنا لا نلتفت إلى هذا الأمر وكنا نلاحظ في تلك الأجسام عينها

_ 1 فكرتنا عن الشكل فكرة واضحة ومتميزة، في حين أن فكرتنا عن اللون فكرة غامضة ومبهمة. فاللون ليس في الأجسام على ما يبدو لنا, وإنما هو مجموعة من الحركات الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة, فهي حركات نتصورها ولا نتمثلها. وديكارت يفرق بين الصفات الأولى "الامتداد والشكل والحركة" وهي صفات موجودة في الأشياء ذاتها, وبين الصفات الثانية وهي معتمدة على الأشياء وعلى الذات المدركة في آن واحد.

خواص عديدة، كالجسم والشكل والعدد وما إليه، وهي موجودة فيها على نحو ما تتيح لنا حواسنا أو بالأحرى أذهاننا أن ندركها، فمن الميسور أن نتوهم أن ما يسمى باللون في جسم ما، هو شيء موجود في ذلك الجسم ومشابه تمام المشابهة للون الذي هو في فكرنا، ونظن بعد ذلك أن لدينا إدراكا واضحا لأمر لم ندرك طبيعته على الإطلاق. 71- في أن العلة الأولى الكبرى لأخطائنا هي الأحكام المبتسرة التي اتخذناها في مقتبل عمرنا: نستطيع أن نلاحظ هنا علة أخطائنا؛ ففي مقتبل عمرنا كانت النفس مرتبطة بالجسم ارتباطا يجعلها لا تهتم بشيء إلا ما يثير فيها انطباعات حسية؛ لأنها لم تكن تفكر بعد فيما إذا كانت تلك الانطباعات حادثة من أشياء موجودة في شيء نافع للجسم, أو عندما يتأثر الجسم تأثرا رقيقا بحيث لا يصيبه منفعة أو مضرة، وتشعر النفس بالأحاسيس التي نسميها طعوما وروائح وأصواتا وحرارة وبرودة وضوءا وألوانا وما شابهها، وهي في الحقيق لا تمثل شيئا موجودا خارج النفس، ولكنها تتنوع بحسب تنوع المواضع والأحوال التي يتأثر الجسم فيها، فيصل تأثره إلى موضع المخ الذي اتصلت به اتصالا وثيقا، وكذلك كانت النفس تدرك العظام والأشكال والحركات التي لم تكن تعرض لها على أنها أحاسيس بل على أنها أشياء أو خواص أشياء تبدو لنا موجودة أو على الأقل ممكنة الوجود خارج الذات، وإن لم تكن قد التفتت بعد إلى هذا الفرق ولكن حين يتقدم بنا العمر قليلا، وتدور آلة البدن في كل اتجاه بما في قوى أعضائه من استعداد طبيعي للدوران يصادف أشياء نافعة ويتجنب أخرى مؤذية، فإن النفس التي كانت شديدة الارتباط به تلحظ أولا حين تتأمل هذه الأشياء التي تصادفها أو التي تتجنبها أنها موجودة في الخارج, ولا تقتصر على أن تنسب إليها العظام والأشكال والحركات وسائر الخواص التي تخص الجسم وحده والتي تتصورها

إما على أنها أشياء أو لواحق لأشياء، بل تنسب إليها كذلك الألوان والروائح وسائر أشباهها من أفكار أدركتها في حينها. ولما كانت تغشاها غاشية الجسم ولا تنظر إلى الأشياء الأخرى إلا من حيث منفعتها له, فقد تفاوت تقديرها لوجود الحقائق في الموضوعات تبعا للتفاوت في قوة ما تحدثه فيها من انطباعات؛ ومن ثم اعتقدت بأن للحجر أو المعادن نصيبا من الجوهرية أو الجسمانية أوفر من نصيب الهواء أو الماء؛ لأنها أحست في الحجر والمعادن زيادة في الصلابة والثقل, ولم تكن ترى في الهواء ما يزيد على العدم إذا لم يتحرك بالريح أو لم يبد لها حارا أو باردا. ولما كانت النجوم لا تجعلها تحس من الضوء أكثر مما يكون من الشمعة المضيئة، فإنها لم تتصور أن كل نجمة أكبر من الشعلة التي تبدو في طرف الشمعة المحترقة. ولما كانت النفس لم تدرك بعد أن الأرض يمكن أن تدور حول محورها وأن سطحها منحنٍ كسطح الكرة فقد حكمت أول الأمر بأنها ثابتة وأن سطحها منبسط. وقد وصلنا من هذا الطريق إلى آلاف أخرى من الأحكام المبتسرة, وجعلناها معتقدات لنا حتى حين أصبحنا قادرين على استعمال عقولنا. وبدلا من أن نسلم بأن هذه الأحكام قد انعقدت في أذهاننا حين كنا عاجزين عن الإصابة في الحكم، وأنها تبعا لذلك يمكن أن تكون أدنى إلى الزيف منها إلى الحق، تلقيناها على أنها يقينية وكأننا عرفناها معرفة متميزة عن طريق حواسنا، كما أننا بعدنا عن الشك فيها بعدنا عن الشك في المعاني الشائعة. 72- في أن العلة الثانية لأخطائنا هي أننا لا نستطيع نسيان هذه الأحكام المبتسرة: فإذا بلغنا أخيرا مرحلة نستعمل فيها عقولنا استعمالا تاما وحاولت نفوسنا، بعد أن زال عنها خضوعها للبدن، أن تحكم على الأشياء حكما سديدا, وأن تعرف حقائقها معتبرة في ذاتها، فإننا على الرغم من ملاحظتنا أن الأحكام

التي أطلقناها في طفولتنا مملوءة بالخطأ، فإننا مع ذلك نجد بعض المشقة في التخلص منها تخلصا تاما، ولكن مما لا ريب فيه أننا إذا لم نتخلص منها ولم نعدها باطلة ومزعزعة, فإننا نكون على الدوام في خطر الوقوع في أحكام فاسدة. وهذا صحيح إلى حد كبير: نجد مثلا أننا لا نستطيع التخلص من تخيلنا النجوم صغيرة جدا، بسبب ما ألفناه من تخيل لها إبان طفولتنا، مع أننا نعرف بأدلة علم الفلك أنها كبيرة جدا، فما أعظم ما للفكرة الأولى من سلطان علينا! 73- في أن العلة الثالثة هي أن ذهننا يعتريه التعب من إطالة الانتباه إلى جميع الأشياء التي نحكم عليها: وأيضا لما كانت نفوسنا لا تستطيع أن تطيل النظر إلى شيء واحد بانتباه دون أن يعتريها التعب والألم، فإنه ما من شيء يشق عليها أكثر مما تشق عليها الأشياء العقلية المحضة التي لا تكون حاضرة أمام الحواس ولا أمام الخيال، إما لأنها قد خلقت على هذا النحو بطبيعتها بسبب اتحادها بالبدن, وإما لأننا في السنوات الأولى من حياتنا قد رسخت فينا عادة الإحساس والتخيل رسوخا يسر لنا أن نفكر على ذلك النحو؛ ومن ثم وجدنا كثيرين من الناس لا يستطيعون الاعتقاد بوجود جواهر ما لم تكن متخيلة أو جسمانية بل محسوسة. ذلك أن الإنسان لا يلتفت عادة إلى أن الأشياء التي هي عبارة عن امتداد وحركة وشكل هي وحدها التي يمكن تخيلها, وأن هنالك أشياء أخرى كثيرة متعقلة، ومن هنا أيضا كان أغلب الناس مقتنعين بأنه لا تقوم لشيء بدون جسم وأنه لا يوجد جسم لا يكون محسوسا. ومن حيث إن حواسنا ليست هي التي تكشف لنا طبيعة أي شيء, بل عقلنا وحده عند إعماله في الأشياء المحسوسة, فلا غرابة في أن معظم الناس لا يدركون الأشياء إلا مشوشة تشويشا شديدا؛ نظرا لأن قليلين منهم يعرفون السبيل إلى قيادة العقل قيادة صحيحة.

74- في أن العلة الرابعة لأخطائنا هي أننا نربط أفكارنا بألفاظ لا تعبر عنها تعبيرا دقيقا: وأخيرا لأننا نربط جميع تصوراتنا لكي نعبر عنها باللسان، ولأننا نتذكر الكلام أكثر مما نتذكر الأشياء التي يدل عليها بالألفاظ, فمن العسير علينا أن نتصور أي شيء تصورا متميزا من شأنه أن يفصل فصلا تاما بين ما نتصوره عن الكلمات التي اختيرت للتعبير عنه. ومن هنا كان أكثر الناس يوجهون نظرهم إلى الألفاظ أكثر من الأشياء، وهذا يؤدي بهم غالبا إلى الموافقة على ألفاظ لا يفهمونها ولا يشغلون أنفسهم بفهمها، إما لاعتقادهم بأنهم قد فهموها، أو لأنه قد بدا لهم أن من لقنوهم إياها يعرفون معناها، وأنهم قد تعلموها بالطريقة نفسها. ومع أننا لسنا هنا بصدد البحث في هذه المسألة؛ لأنني لم أثبت بعد وجود أي جسم في العالم، فيبدو لي مع ذلك أن ما ذكرته عن هذا الأمر يمكن أن يفيدنا في التمييز بين تصوراتنا الواضحة المتميزة, وبين تصوراتنا الملتبسة علينا وغير المعروفة لنا. 75- موجز لكل ما ينبغي مراعاته في التفلسف الصحيح: لذلك إذا أردنا أن نفرغ لدراسة الفلسفة دراسة جدية, وللبحث عن جميع الحقائق التي في مقدورنا معرفتها وجب علينا أن نتخلص أولا من أحكامنا السابقة, وأن نحرص على اطّراح جميع الآراء التي سلمنا بها من قبل، وذلك ريثما تنكشف لنا صحتها بعد إعادة النظر فيها. وينبغي أيضا أن نراجع ما بأذهاننا من تصورات، وأن لا نصدق منها إلا التصورات التي ندركها في وضوح وتميز, وبهذه الطريقة نعرف أولا أننا موجودون باعتبار أن طبيعتنا هي التفكير, ونعرف في الوقت نفسه وجود إله نعتمد عليه. وبعد أن ننظر في صفاته

نستطيع أن نبحث عن حقيقة الأشياء الأخرى جميعا نظرا إلى أنه هو عليها. وبالإضافة إلى المعاني التي لدينا عن الله وعن فكرنا، نجد أيضا في أنفسنا معرفة بقضايا كثيرة هي صحيحة على الدوام، مثل القضية التي تذهب إلى أن العدم لا يمكن أن يكون علة لأي شيء ... إلخ. وسنكتشف أيضا فكرة طبيعية جسمانية أو ممتدة يمكن أن تتحرك وأن تنقسم ... إلخ, ونجد أحاسيس تؤثر فينا مثل الألم والألوان ... إلخ. فإذا قارنا بين ما تعلمناه حين فحصنا عن هذه الأشياء بترتيب وبين أفكارنا عنها قبل أن نقوم بذلك الفحص اكتسبنا عادة تحصيل تصورات واضحة ومتميزة عن كل ما نحن قادرون على معرفته. ويبدو لي أن هذه القواعد القليلة تشتمل على أعم مبادئ المعرفة الإنسانية وأهمها. 76- في أننا ينبغي أن نفضل الأحكام الإلهية على استدلالاتنا, ولكن فيما عدا الأشياء المنزلة ينبغي أن لا نعتقد شيئا لم ندركه إدراكا واضحا جدا: ينبغي قبل كل شيء أن نستمسك بقاعدة تعصمنا من الزلل، وهي أن ما أنزله الله هو اليقين الذي لا يعدله يقين أي شيء آخر. فإذا بدا أن ومضة من ومضات العقل تشير إلينا بشيء يخالف ذلك, وجب أن نخضع حكمنا لما يجيء من عند الله. أما الحقائق التي لم يرد عنها شيء في التنزيل فليس مما يتفق مع طبع الفيلسوف أن يسلم بصحة شيء لم يتحقق منه، ولا أن يركن إلى الثقة بالحواس، أي: أن يكون اطمئنانه إلى ما تلقاه في طفولته من أحكام هو جاء أكثر من اطمئنانه لما يقتضي به العقل الناضج.

فهرس الكتاب

فهرس الكتاب: الصفحة الموضوع 7 إهداء المترجم. 9 تقديم بقلم مترجم الكتاب إلى العربية. 9 1- دواعي نشر كتاب المبادئ. 12 2- ماهية الفلسفة ومقصدها عند ديكارت. 18 3- الجزء الأول من "مبادئ الفلسفة". 25 إهداء المؤلف. 31 رسالة من المؤلف إلى مترجم الكتاب إلى الفرنسية. 51 القسم الأول: في مبادئ المعرفة البشرية. 53 1- "في أنه للفحص عن الحقيقة يحتاج الإنسان مرة في حياته إلى أن يضع الأشياء جميعا موضع الشك بقدر ما في الإمكان". 53 2- "في أن من النافع أيضا أن نعد جميع الأشياء التي يمكن الشك فيها غير صحيحة". 53 3- "في أنه لا ينبغي أن نستعمل هذا الشك في تدبير أفعالنا". 54 4- "لم يمكن الشك في حقيقة الأشياء الحسية؟ ". 54 5- "لم يمكن الشك أيضا في براهين الرياضة؟ ". 55 6- "في أن لنا حرية اختيار تجعلنا نستطيع أن نمسك عن التصديق بالأشياء المشكوك فيها، ومن ثم نصون أنفسنا من الوقوع في الضلال". 55 7- "في أننا لا نستطيع أن نشك دون أن نكون موجودين, وأن هذا أول معرفة يقينية يستطاع الحصول عليها".

56 8- "في أننا نعرف أيضا بعد ذلك التمييز القائم بين النفس والبدن". 56 9- "ما هو الفكر؟ ". 57 10- "في أن من المعاني ما تكون واضحة كل الوضوح بذاتها، وتصير غامضة متى أريد تعريفها على طريقة المدرسيين, وأنها لا تكتسب بالدرس بل تولد معنا". 58 11- "كيف نستطيع أن نعرف نفوسنا معرفة أوضح من معرفة أجسامنا؟ ". 59 12- "لم كان الناس جميعا لا يعرفون النفس على هذا النحو؟ ". 59 13- "على أي معنى يمكن القول بأن من جهل الله, فلن يستطيع أن يعرف شيئا آخر معرفة يقينية؟ ". 60 14- "في إمكان إثبات وجود الله من أن ضرورة الكينونة, أو الوجود متضمنة في تصورنا له". 61 15- "في أن ضرورة الوجود ليست متضمنة في فكرتنا عن الأشياء الأخرى، بل إمكان الوجود فحسب". 62 16- "في أن الأوهام تمنع الكثيرين من أن يتبينوا ما يتميز الله به من ضرورة الوجود". 62 17- "في أنه بقدر ما نتصور من الكمال في شيء ينبغي أن نعتقد أن علته لا بد أن تكون أوفر منه كمالا". 63 18- "في إمكاننا مرة أخرى إقامة الدليل على وجود الله, استنادا على ما تقدم". 64 19- "في أننا وإن كنا لا نحيط علما بذات الله وصفاته, فما من شيء نعلمه بأوضح مما نعلم كمالاته".

64 20- "في أننا لسنا علة أنفسنا، وإنما الله علتنا، ويترتب على ذلك أننا موجودون". 65 21- "في أن آجالنا في حياتنا كافية وحدها لإثبات وجود الله". 66 22- "في أننا حين نعرف وجود الله على نحو ما أوضحناه هنا, نعرف أيضا جميع صفاته بقدر ما يستطاع معرفتها بنور الفطرة وحده". 66 23- "في أن الله غير جسماني، وأنه لا يعرف الأشياء بالحواس على نحو ما نعرفها، وأنه ليس مريدا لحصول الخطيئة والإثم". 67 24- "في أنه بعد معرفتنا لوجود الله ينبغي، للانتقال إلى معرفة المخلوقات، أن نتذكر أن أذهاننا متناهية, وأن قدرة الله لامتناهية". 68 25- "في أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا". 68 26- "في أننا لا ينبغي أن نحاول أن نفهم "اللامتناهي", بل حسبنا أن نسلم بأن كل ما لا نجد فيه حدودا فهو عندنا "لامحدود"". 69 27- "ما الفرق بين اللامحدود واللامتناهي؟ ". 69 28- "في أنه لا ينبغي أن نفحص عن الغاية التي من أجلها صنع الله كل شيء، بل حسبنا أن نفحص عن الوسيلة التي أراد أن يكون حدوث الشيء بها". 70 29- "في أن الله ليس علة لأفكارنا". 70 30- "ويترتب على ذلك أن كل ما نعرفه في وضوح على أنه حق فهو حق، وهو أمر يخلصنا من الشكوك التي أثرناها فيما تقدم".

71 31- "في أن أخطاءنا بالنسبة إلى الله ليست إلا أسلوبا، ولكنها بالنسبة إلينا حرمان وعيب". 72 32- "في أنه ليس فينا إلا نوعان من الفكر، وهما: إدراك الذهن, وفعل الإرادة". 72 33- "في أننا لا نخطئ إلا حين نحكم على شيء لم يعرف لنا معرفة كافية". 73 34- "في أن الإرادة لازمة للحكم لزوم الذهن". 73 35- "في أن الإرادة أوسع نطاقا من الذهن، وأنها لذلك مصدر لأخطائنا". 74 36- "في أن أخطاءنا لا يصح نسبتها إلى الله". 74 37- "في أن أعلى مراتب الكمال عند الإنسان هو أنه حر بالاختيار, وهو الأمر الذي يجعله خليقا بالمدح والذم". 75 38- "في أن أخطاءنا هي عيوب في تصرفنا لا في طبيعتنا، وأن أخطاء الناس يمكن في أكثر الأحيان أن تنسب إلى الفاعلين الآخرين, لا إلى الله". 76 39- "في أن حرية إرادتنا لا تعرف بالدليل، وإنما بتجربتنا لها". 76 40- "في أننا نعلم أيضا بعلم يقيني جدا أن الله قدر الأشياء جميعا تقديرا سابقا على حصولها". 77 41- كيف يمكن التوفيق بين الحرية الإنسانية, وبين سبق التقدير الإلهي؟ ". 77 42- "كيف أننا, وإن لم نكن نريد قط أن نخطئ, إنما نخطئ مع ذلك بإرادتنا؟! ".

78 43- " في أننا لن نخطئ إذا ما التزمنا أن لا نحكم إلا على أشياء ندركها إدراكا واضحا متميزا". 78 44- "في أننا لا نستطيع إلا أن نحكم حكما فاسدا على ما لا ندركه إدراكا واضحا، وإن تصادف أن كان حكمنا صحيحا، وكثيرا ما تكون ذاكرتنا سببا في ضلالنا". 79 45- "ما هو الإدراك الواضح المتميز؟ ". 79 46- "في أن الإدراك يمكن أن يكون واضحا دون أن يكون متميزا, ولكن العكس ليس صحيحا". 80 47- "في أننا لكي نطرح الأوهام, والأحكام المبتسرة التي كسبناها في طفولتنا يجب أن ننظر في كل فكرة من أفكارنا الأولى؛ لنتبين ما هو واضح منها". 80 48- "في أن كل موضوعات معرفتنا ننظر إليها إما على أنها أشياء أو حقائق, إحصاء الأشياء". 81 49- "في أن الحقائق لا يمكن تعدادها, وأنه لا حاجة إلى ذلك". 82 50- "في أن هذه الحقائق جميعا يمكن أن تدرك بوضوح, ولكن إدراكها ليس ميسورا لجميع الناس، بسبب ما يغشى عقولهم من أوهام شائعة وأحكام مبتسرة". 83 51- "في ماهية الجوهر، وفي أنه اسم لا يمكن نسبته إلى الله وإلى المخلوقات بمعنى واحد". 83 52- "في أن لفظ الجوهر يمكن نسبته إلى النفس وإلى الجسم بمعنى واحد، وكيف يعرف الجوهر نفسه؟ ". 53- "في أن لكل جوهر صفة أولى، وأن صفة النفس هي الفكر كما

84 أن الامتداد صفة الجسم". 85 54- "كيف نستطيع الحصول على أفكار متميزة عن الجوهر المفكر, وعن الجوهر الإنساني، وعن الله؟ ". 85 55- "كيف نستطيع أيضا أن نحصل على أفكار متميزة عن المدة والترتيب والعدد؟ ". 85 56- "ما هي الكيفيات والصفات والوجوه والأحوال؟ ". 86 57- "في أن بعض الصفات موجودة في الأشياء التي توصف بها، وفي أن بعضها موجود في الفكر فقط". 87 58- "في أن الأعداد والكليات إنما وجودها في فكرنا". 87 59- "ما هي الكليات؟ ". 88 60- "في التمييز الواقعي". 89 61- "في التمييز من حيث الحال". 90 62- "في التمييز المنطقي "التمييز بالفكر"". 91 63- "كيف نحصل على أفكار متميزة عن الامتداد, وعن الفكر من حيث إن أحدهما هو طبيعة الجسم، وإن الثاني هو طبيعة النفس؟ ". 91 64-" كيف نستطيع أيضا أن نتصور الفكر والامتداد تصورا متميزا على أنهما حالان, أو صفتان لذينك الجوهرين؟ ". 92 65- "كيف نتصور أيضا خواصهما أو صفاتهما المختلفة؟ ". 92 66- "كيف أن أحاسيسنا وانفعالاتنا وشهواتنا يمكن أن تعرف بوضوح، مع أننا كثيرا ما نخطئ في أحكامنا؟ ". 93 67- "في أننا كثيرا ما نخطئ, إذ نحكم بأننا نحس ألما في بعض أجزاء جسمنا".

94 68- "في وجوب التمييز في هذه الأشياء بين ما يمكن أن نخطئ فيه, وبين ما نعرفه بوضوح". 94 69- "في أن معرفتنا للعظام والأشكال وما إليها مختلفة عن معرفتنا للألوان والآلام وغيرها". 95 70- "في أننا نستطيع أن نحكم بوجهين على الأشياء المحسوسة, بأحدهما نقع في الخطأ وبالآخر نتجنبه". 96 71- "في أن العلة الأولى الكبرى لأخطائنا هي الأحكام المبتسرة التي اتخذناها في مقتبل عمرنا". 97 72- "في أن العلة الثانية لأخطائنا هي أننا لا نستطيع نسيان هذه الأحكام المبتسرة". 98 73- "في أن العلة الثالثة هي أن ذهننا يعتريه التعب من إطالة الانتباه إلى جميع الأشياء التي نحكم عليها". 99 74- "في أن العلة الرابعة لأخطائنا أننا نربط أفكارنا بألفاظ لا تعبر عنها تعبيرا دقيقا". 99 75- "موجز لكل ما ينبغي مراعاته في التفلسف الصحيح". 100 76- "في أننا ينبغي أن نفضل الأحكام الإلهية على استدلالاتنا, ولكن فيما عدا الأشياء المنزلة ينبغي أن لا نعتقد شيئا لم ندركه إدراكا واضحا".

§1/1